ج21 - كتاب الإجارة
والبحث فيه في مطالب أربعة الأول : في الإجارة والعقد ،
وما يترتب عليه والكلام في ذلك يقع في مواضع الأول الإجارة ثابتة بالنص كتابا وسنة
، وإجماع علماء الخاصة والعامة ، قال الله عزوجل (1) «فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» وقال (2) «لَوْ
شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» وقال تعالى (3) «قالَتْ
إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ
الْأَمِينُ» ـ «قالَ
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ» الآية.
وأما السنة فمستفيضة كما ستأتيك بذلك الأخبار.
ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (4) عن محمد بن
سنان عن أبى الحسن عليهالسلام قال : «سألته
عن الإجارة فقال : صالح لا بأس به إذا نصح قدر طاقته ، وقد آجر موسى بن عمران عليهالسلام نفسه واشترط
فقال : إن شئت ثمانيا وإن شئت عشرا فأنزل الله فيه «أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ﴾ (5)». وروي
__________________
(1) سورة الطلاق ـ الاية 6.
(2) سورة الكهف ـ الاية 77.
(3) سورة القصص ـ الاية 26.
(4) الكافي ج 5 ص 90 ح 2 ، الفقيه ج 3 ص 106 ، ح 90 التهذيب ج
6 ص 353 ح 124 ، الوسائل ج 12 ص 176 ح 2.
(5) سورة القصص ـ الاية 28.
الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول (1) عن الصادق عليهالسلام «أنه سأل عن
معايش العباد وساق الخبر إلى أن قال : وتفصيل الإجارات فإجارة الإنسان نفسه إلى
أجرة الى آخره ، وقد تقدم الخبر بتمامه في المقدمة الثالثة فيما يكتسب به من
المقدمات المذكورة في صدر كتاب التجارة (2) والمفهوم من جملة من الأخبار كراهة
إجارة الإنسان نفسه لأنه يحظر على نفسه الرزق ، فروى في الكافي عن المفضل بن عمر (3) قال : سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : من آجر
نفسه فقد حظر على نفسه الرزق». قال في الكافي (4) وفي رواية أخرى وكيف لا يحظره وما
أصاب فيه فهو لربه الذي آجره».
وروى في الفقيه عن عبد الله بن محمد الجعفي (5) «عن أبى جعفر عليهالسلام قال : من آجر
نفسه فقد حظر عليها الرزق وكيف لا يحظره». الحديث كما تقدم.
وروى المشايخ الثلاثة عن عمار الساباطي (6) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : في الرجل
يتجر فإن هو آجر نفسه أعطى ما يصيب في تجارته ، فقال : لا يؤاجر نفسه ، ولكن يسترزق
الله عزوجل ويتجر ، فإنه
إذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق» وفي الفقيه «أعطى أكثر مما يصيب من تجارته».
والشيخ جمع بين هذه الأخبار ، وخبر إجارة موسى عليهالسلام نفسه بحمل
المنع على الكراهة ، واستبعده في الوافي بالنسبة إلى النبيين المذكورين (صلوات
الله على نبينا وآله وعليهما) قال : والأولى أن يحمل المنع على ما إذا استغرقت
أوقات الموجر كلها بحيث لم يبق لنفسه منها شيء كما دلت عليه الرواية الأخيرة من
الحديث الأول.
__________________
(1) تحف العقول ص 248 ط نجف ، الوسائل ج 12 ص 56 في أواسط ح 1
وج 13 ص 242 ح 1.
(2) ج 18 ص 70.
(3 و 4) الكافي ج 5 ص 90 ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 243 ح 1 و 2.
(5) الفقيه ج 3 ص 107 ح 92 ، الوسائل ج 12 ص 176 ح 4.
(6) الفقيه ج 3 ص 107 ح 91 ، الكافي ج 5 ص 90 ح 3 ، التهذيب ج
6 ص 353 ح 123 ، الوسائل ج 12 ص 176 ح 3.
وأما إذا كانت بتعيين العمل دون الوقت كله فلا كراهة
فيها كيف؟ وكان مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام يواجر نفسه
للعمل ليهودي وغيره في معرض طلب الرزق ، كما ورد في عدة أخبار ، انتهى وهو جيد.
الثاني : قد عرف بعض
الأصحاب الإجارة بأنها عقد ثمرته تمليك المنفعة بعوض معلوم ، وعرفها آخر بأنها عبارة
عن تمليك المنفعة الخاصة بعوض معلوم ، ومرجعه إلى أنها عبارة عن نفس العقد الذي
ثمرته ذلك أو عبارة من التمليك الذي هو الثمرة ، والبحث في ذلك لا ثمرة له بعد
ظهور المراد ، بقي الكلام في أن المشهور بين الأصحاب هو أنه لما كانت من العقود
اللازمة وجب انحصار ألفاظها في الألفاظ المنقولة شرعا المعهودة لغة ، مثل آجرتك في
الإيجاب ، وأكريتك وفي معناه استكريت وتكاريت ، ومنه أخذ المكاري ، لأنه يكري
دابته ، أو نفسه ، وكذا يشترط فيه ما يشترط في غيره من العقود اللازمة من العربية
حتى في الأعراب والبناء ووقوع القبول على الفور ، ونحو ذلك مما تقدم في كتاب
البيع.
وقد تقدم ثمة ما في ذلك من البحث ، وأنه لا دليل شرعا
على أزيد من الألفاظ الدالة على الرضا من الجانبين بتلك المعاملة كيف اتفق في هذا
الموضع وغيره ، وبذلك صرح جملة من محققي متأخري المتأخرين.
وأما لزوم العقد فلا اشكال فيه للأدلة العامة في الوفاء
بالعقود والشروط وخصوص ما رواه في الكافي عن علي بن يقطين (1) في الصحيح قال
: «سألته يعني أبا الحسن عليهالسلام عن الرجل
يكتري السفينة سنة أو أقل أو أكثر قال : الكري لازم الى الوقت الذي اكتراه اليه
والخيار في أخذ الكرى الى ربها ان شاء أخذ وان شاء ترك». وما رواه في الكافي
والتهذيب (2) عن محمد بن
سهل قال : «سألت
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 292 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 209 ح 2 ، الوسائل ج
13 ص 249 ح 1.
(2) الكافي ج 5 ص 292 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 210 ح 3 ، الوسائل
المصدر.
أبا الحسن موسى عليهالسلام عن الرجل
يتكارى من الرجل البيت والسفينة سنة أو أقل أو أكثر قال : كراه لازم الى الوقت
الذي تكاراه اليه» الحديث. كما تقدم.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن يقطين (1) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن الرجل
يتكاري عن الرجل البيت والسفينة». مثل الحديثين المتقدمين ، ثم انهم بناء علي ما
قدمنا نقله عنهم من اشتراط ألفاظ مخصوصة جوزوا ذلك أيضا بلفظ ملكتك إذا أضيف إلى
المنفعة ، وذلك لأن التمليك يفيد نقل ما تعلق به ، فلو قال : ملكتك هذه الدار أفاد
نقل عينها ،
مع أن المقصود من الإجارة هو تمليك المنفعة مع بقاء
العين علي ملك صاحبها ، وحينئذ فإذا أريد بهذا اللفظ الإجارة تعين إضافته إلى
المنفعة ، قالوا : وكذا تصح الإجارة بلفظ أعرتك حيث ان الإجارة مخصوصة بالمنفعة ،
فتصح لو قال : أعرتك هذه الدار سنة بكذا وكذا.
وبالجملة فإنه لما كانت الإعارة لا تقتضي ملك العين ، وانما
تفيد التسلط على المنفعة كان إطلاقها بمنزلة تمليك المنفعة ، فتصح إقامتها مقام
لفظ الإجارة بغير إضافته إلى المنافع ، ويشكل بأن الإعارة وان تعلقت بالمنافع لا
بالعين الا أنها انما تفيد الإباحة ، والمطلوب في الإجارة تمليك المنفعة ، والعوض
لا مدخل له في ماهيتها بخلاف التمليك ، فإنه يجامع العوض ، وارتكاب التجوز في مثل
ذلك خروج عما قرروه من قواعدهم في العقود اللازمة ، كذا أورده في المسالك.
واختلفوا فيما لو قال : بعتك هذه الدار وقصد الإجارة ،
أو قال : بعتك سكناها سنة بكذا ، فالمشهور بل ظاهر التذكرة دعوى الإجماع عليه حيث
نسبه الى علمائنا هو البطلان ، وعلل ذلك باختصاص البيع بنقل الأعيان والمنافع
تابعة لها فلا يثمر الملك لو تجوز به في نقل المنافع مفردة وان نوى الإجارة.
وفي التحرير جعل المنع أقرب وهو يؤذن بالخلاف ، وتردد في
الشرائع
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 209 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 249 ح 1.
ومنشأ التردد مما تقدم ، ومن أنه
بالتصريح بإرادة نقل المنفعة مع أن البيع يفيد نقلها أيضا مع الأعيان وان كان
بالتبع ناسب أن يقوم مقام الإجارة إذا قصدها.
وظاهر المحقق الأردبيلي هنا بناء على القول بالاكتفاء
بكل ما دل على المراد من الألفاظ والتراضي به ، كما قدمنا ذكره ، حيث أنه ممن
اختار ذلك القول بالجواز في العارية ، وفي البيع على الوجه المذكور ، حيث قال في
العارية ـ بعد الإشارة الى ما قدمنا نقله عن المسالك من الاشكال ـ ما لفظه : ولا
يبعد إخراجها عن ظاهرها بما يخرجها عنه صريحا مثل أن يقول : أعرتك هذه الدار سنة
بكذا ، غايته أن يكون مجازا بقرينة ظاهرة بل صريحة ، بحيث لا يحتمل غير المجاز ولا
مانع منه لغة ولا عرفا ولا شرعا كما في لفظة ملكتك.
نعم لو ثبت كون صيغة الإجارة متلقاة من الشرع وليس هذه
منها لصح عدم الانعقاد بها ، ولا يكفي مجرد كونه عقدا لازما ، ودعوى أن التجوز
بمثل هذا يخرجه عن كونه لازما كما قاله في شرح الشرائع ، وقال : بالنسبة إلى البيع
، وقد مر ما يفهم البحث منه في عدم انعقادها بنحو البيع ، مثل بعتك هذه الدار أو
منفعتها سنة بكذا ، وأنه فهم الإجماع من التذكرة ، فإن كان إجماعا فلا كلام والا
فالظاهر أن لا مانع من الانعقاد إذا علم القصد ، فان الظاهر أنه يكفى مع صلاحية
اللفظ في الجملة ، وان كان موضوعا متعارفا في الأصل لنقل الأعيان ، وهو وجه التردد
في الشرائع ، انتهى.
أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار الواردة في هذا
المقام زيادة على ما قدمناه في كتاب البيع مما يدل على سعة الدائرة في العقود
وأنها ليست على ما ذكروه من الشروط والقيود ما رواه في الكافي عن زرارة (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام الرجل يأتي
الرجل فيقول : اكتب لي بدراهم فيقول له : آخذ منك وأكتب لك بين يديك قال : فقال :
لا بأس» الحديث.
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 288 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 213 ح 16 ، الوسائل
ج 13 ص 251 ح 1.
وما رواه في الفقيه عن محمد بن الحسن الصفار (1) في الصحيح «أنه
كتب الى أبى محمد الحسن بن على عليهالسلام يقول : رجل
يبدرق القوافل من غير أمر السلطان في موضع مخيف ويشارطونه على شيء مسمى ، إله أن
يأخذ منهم أم لا؟ فوقع عليهالسلام إذا واجر نفسه
بشيء معروف أخذ حقه إنشاء الله».
وما رواه عن محمد بن عيسى اليقطيني (2) «أنه كتب الى
أبى محمد الحسن بن علي بن محمد العسكري عليهالسلام في رجل دفع
ابنه الى رجل وسلمه منه سنة بأجرة معلومة ليخيط له ، ثم جاء رجل آخر فقال له. سلم
ابنك مني سنة بزيادة ، هل له الخيار في ذلك؟ وهل يجوز له أن ينفسخ ما وافق عليه
الأول أم لا؟ فكتب عليهالسلام يجب عليه
الوفاء للأول ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف.
وفي هذا الخبر دلالة على لزوم الإجارة كما تقدم ذكره ،
وظاهر هذه الأخبار كما ترى وقوع الإجارة فيما تضمنته من غير عقد ، ولا إيجاب ولا
قبول غير مجرد التراضي الواقع بينهما بهذه الألفاظ.
وما رواه في الفقيه عن أبان عن إسماعيل (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل استأجر
من رجل أرضا فقال آجرنيها بكذا وكذا إن زرعتها أو لم أزرعها أعطيك ذلك فلم يزرع
الرجل قال : له أن يأخذه بماله ، إن شاء ترك وان شاء لم يترك».
وما رواه في الكافي عن أبان عن إسماعيل بن الفضل (4) مثله ، وما
رواه في الكافي عن أبي حمزة (5) عن أبى جعفر عليهالسلام قال : سألته
عن الرجل يكتري الدابة فيقول أكثريتها منك الى مكان كذا وكذا ، فان جاوزته فلك كذا
وكذا زيادة ويسمى ذلك؟ قال : لا بأس به كله».
__________________
(1 و 2) الفقيه ج 3 ص 106 ح 88 ، الوسائل ج 13 ص 254 باب 14 وباب
15.
(3 و 4) الفقيه ج 3 ص 155 ح 5 ، الكافي ج 5 ص 265 ح 7 ،
الوسائل ج 13 ص 258 ح 1.
(5) الكافي ج 5 ص 289 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 249 ح 1.
وهذان الخبران وان اشتملا على العقد الا أنه في عكس
القاعدة المقررة عندهم حيث ان الإيجاب فيهما انما وقع ممن وظيفته القبول ، والقبول
ممن وظيفته الإيجاب مع عدم ذكر لفظة تدل على القبول ، وانما ظاهرهما كون القبول
وقع بمجرد الرضا من غير لفظة ، وهو أبلغ في الرد لما قالوه ، ومن ذلك يعلم ما
ذكرناه من اتساع الدائرة في العقود ، والله سبحانه العالم.
الثالث : قد عرفت مما قدمناه من الأخبار أن الإجارة من
العقود اللازمة وعليه اتفاق كلمة الأصحاب ، وحينئذ فلا تبطل الا بالتقايل أو أحد
الأسباب الموجبة للفسخ ، مثل أن يتعذر الانتفاع بالعين المستأجرة لغصبها ، أو
انهدامها ، أو مرض الأجير كما تقدم في مكاتبة اليقطيني ونحو ذلك مما سيأتي إنشاء
الله تعالى.
ولا تبطل بالبيع إذ لا منافاة بينهما لأن الإجارة انما
تتعلق بالمنافع والبيع إنما يتعلق بالأعيان والمنافع وان كانت تابعة للأعيان ، الا
أن المشتري متى كان عالما بالإجارة فإنه يتعين عليه الصبر الى انقضاء مدة الإجارة
، لأنه قدم على شراء مال مسلوب المنفعة هذه المدة وان كان جاهلا تخير بين فسخ
البيع وإمضائه مسلوب المنفعة إلى تمام المدة المعينة.
والأقرب أنه لا فرق في صحة العقد بين كون المشتري هو
المستأجر أو غيره فيجتمع عليه لو كان هو المشتري الثمن من جهة البيع ، والأجرة من
جهة الإجارة وربما قيل ببطلان الإجارة وانفساخها في الصورة المذكورة ، لأن تملك
العين يستلزم ملك المنافع ، لأنها نماء الملك ، وفيه ان ذلك مسلم فيما لو لم يسبق
سبب آخر لتملكها وهيهنا قد تقدم عقد الإجارة الموجب لملك المنفعة ، والبيع إنما
ورد على ملك مسلوب المنفعة في تلك المدة بعين ما ذكرناه في صورة ما ، إذا كان
المشتري شخصا آخر غير المستأجر.
وكيف كان فإن العقدين صحيحان لا منافاة بينهما ، ولو
ثبتت المنافاة بين البيع والإجارة لكان الباطل هو البيع ، دون الإجارة.
والذي وقفت عليه من الأخبار الدالة علي صحة البيع هنا ما
رواه في الفقيه
عن أبي همام (1) «أنه كتب الى
أبي الحسن عليهالسلام في رجل استأجر
ضيعة من رجل فباع المؤاجر تلك الضيعة بحضرة المستأجر ولم ينكر المستأجر البيع وكان
حاضرا له شاهدا عليه فمات المشتري وله ورثة هل يرجع ذلك الشيء في ميراث الميت؟ أو
يثبت في يد المستأجر الى أن تنقضي إجارته؟ فكتب عليهالسلام يثبت في يد
المستأجر الى أن تنقضي إجارته».
ورواه في الكافي عن أحمد بن إسحاق الرازي قال : كتب رجل
إلى أبي الحسن الثالث عليهالسلام : «رجل استأجر»
الحديث. بأدنى تفاوت لا يخل بالمقصود.
وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحسين بن نعيم
الصحاف (2) عن أبي الحسن
موسى عليهالسلام قال : «سألته
عن رجل جعل دارا سكنى لرجل أيام حياته أو جعلها له ولعقبه من بعده؟ قال : هي له
ولعقبه من بعده كما شرط؟ قلت : فإن احتاج الى بيعها يبيعها؟ قال : نعم ، قلت :
فينقض بيعه الدار السكنى؟ قال : لا ينقض البيع السكنى ، كذلك سمعت أبي يقول : قال
أبو جعفر عليهالسلام : لا ينقض البيع
الإجارة ولا السكنى ، ولكن يبيعه علي أن الذي يشتريه لا يملك ما اشتري حتى ينقضي
السكنى ـ علي ما شرط ـ والإجارة ، قلت : فإن رد علي المستأجر ماله وجميع ما لزمه
من المنفعة والعمارة فيما استأجره ، قال : علي طيبة النفس ورضا المستأجر بذلك لا
بأس».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن يونس (3) قال : «كتبت
الى الرضا عليهالسلام أسأله عن رجل
تقبل من رجل أرضا أو غير ذلك سنين مسماة ثم ان المقبل أراد
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 160 ح 12 ، الكافي ج 5 ص 271 ح 3 ، الوسائل ج
13 ص 266 ح 1.
(2) التهذيب ج 9 ص 141 ح 40 ، الاستبصار ج 4 ص 104 ، الفقيه ج
4 ص 185 ح 1 ، الكافي ج 7 ص 38 ح 38 ، الوسائل ج 13 ص 267 ح 3.
(3) الكافي ج 5 ص 270 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 208 ح 60 ، الوسائل
ج 13 ص 267 ح 4.
بيع أرضه التي قبلها قبل انقضاء
السنين المسماة هل للمتقبل أن يمنعه من البيع قبل انقضاء أجله الذي تقبلها منه
اليه وما يلزم المتقبل له؟ قال : فكتب : له أن يبيع إذا اشترط علي المشتري أن
للمتقبل من السنين ماله».
أقول قد اشتركت هذه الأخبار في الدلالة على صحة الإجارة
، وأن البيع لا يبطلها ، وأما ما اشتمل عليه الخبر الثالث من أنه يبيع بشرط أن
يشترط على المشتري منافع الأرض للمستأجر ، فهو محتمل للحمل علي وجوب الاخبار أو
استحبابه ، بناء علي الخلاف في وجوب الاخبار بالعيب في المبيع وقت البيع ، وعدمه ،
فإن قلنا بالوجوب كان الشرط هنا محمولا علي الوجوب ، والا فهو محمول علي الاستحباب
، وكيف كان فالبيع صحيح.
والخبر الثاني قد دل على أن حكم السكنى كالإجارة في صحة
الجميع ، وعدم المنافاة بين الأمرين ، والأصحاب قد اتفقوا علي ذلك في الإجارة ،
واختلفوا في السكنى ، والمشهور أنه لا تبطل السكنى والعمري والرقبى بالبيع ، ويجب
الوفاء بذلك إلى انقضاء الأجل أو العمر ، ثم يرجع للمشتري واضطرب كلام العلامة في
ذلك ففي الإرشاد قطع بجواز البيع ، وفي التحرير استقرب العدم ، لجهالة وقت انتفاع
المشتري ، وفي القواعد والمختلف والتذكرة استشكل الحكم.
وأنت خبير بما فيه بعد ورود الخبر الصحيح المذكور ،
وتأيده باتفاقهم علي ذلك في الإجارة ، والجميع من باب واحد ، قالوا : ولو فسخ
المستأجر بعد البيع بحدوث عيب ونحوه رجعت المنفعة إلى البائع لا إلى المشتري ،
ووجهه ظاهر ، لأن المشتري إنما اشتري مالا مسلوب المنفعة في تلك المدة ولا يتسلط
عليها الا بعد انقضاء تلك المدة ، وإنما هي للمستأجر مع بقاء الإجارة أو ترجع
للمالك بعد فسخها.
قالوا : ولا تبطل الإجارة بالعذر مهما كان الانتفاع الذي
تضمنه عقد الإجارة
من إطلاق أو تعيين ممكنا ، ومرجعه إلى
إمكان حصول الانتفاع الذي تضمنه العقد في الجملة ، كان تخرب الدار مع بقاء
الانتفاع بها في الجملة ، لكن متي كان الأمر كذلك فإنه وان لم تبطل الإجارة الا
أنه يتخير المستأجر دفعا للضرر عليه بين الفسخ والإمساك بتمام الأجرة.
قال في المسالك : ولا عبرة بإمكان الانتفاع بغير العين
كما لو استأجر الأرض للزراعة ففرقت وأمكن الانتفاع بها بغيرها ، فإن ذلك كتلف
العين ، وعدم منع العذر ـ الانتفاع أعم من بقاء جميع المنفعة المشروطة وبعضها وعدم
البطلان ـ حاصل علي التقديرين ، لكن مع حصول الانتفاع ناقصا يتخير المستأجر بين
الفسخ والإمساك بتمام الأجرة ، انتهى.
واختلفوا في بطلانها بالموت علي أقوال ثلاثة فقيل :
بأنها تبطل بموت كل من الموجر والمستأجر ونسبه في الشرائع إلى المشهور وقيل :
بأنها لا تبطل بموت أحد منهما ، وهو المشهور بين المتأخرين بل قال في المسالك أن
عليه المتأخرين أجمع.
وقيل : أنها تبطل بموت المستأجر ولا تبطل بموت الموجر ،
وهذا القول مع القول الأول للشيخ ، ونقل في المختلف عن ابن البراج أنه قال : ان
عمل أكثر أصحابنا علي أن موت المستأجر هو الذي يفسخها ، لا موت الموجر ، وفيه
إشارة إلى شهرة هذا القول أيضا في ذلك الوقت.
قال في الخلاف : الموت تبطل الإجارة سواء كان موت المؤجر
أو المستأجر ، وفي أصحابنا من قال موت المستأجر يبطلها ، وموت الموجر لا يبطلها ،
وقال في المبسوط : الموت يفسخ الإجارة سواء كان الميت المؤجر أو المستأجر عند
أصحابنا والأظهر أن موت المستأجر يبطلها ، وموت الموجر لا يبطلها ، ونقل القول
الأول عن المفيد والمرتضى وابن البراج وابن حمزة وغيرهم.
احتج القائلون بالأول علي ما نقله في المختلف بأن
استيفاء المنفعة يتعذر
بالموت ، لأنه استحق بالعقد استيفائها
علي ملك المؤجر ، فإذا مات زال ملكه عن العين ، وانتقلت إلى الورثة فالمنافع تحدث
على ملك الوارث ، فلا يستحق المستأجر استيفائها ، لأنه ما عقد علي ملك الوارث ،
وإذا مات المستأجر لم يكن إيجاب الأجرة في تركته.
ثم أجاب عن ذلك بأن المستأجر قد ملك المنافع ، وملكت
عليه الأجرة كاملة وقت العقد ، قال : وينتقض ما ذكره بما لو زوج أمته ثم مات.
أقول : الأظهر في النقض عليهم هو ما صرحوا به في البيع
بعد الإجارة من أن المنتقل إلى المشتري بالبيع كذلك ، إنما هو العين مسلوبة
المنافع في تلك المدة وأن المنفعة بالإجارة قد خرجت عن ملك صاحب العين ، وبه يظهر
أنه لا معني لقولهم أن المنافع بعد موت الموجر تحدث علي ملك الوارث ، فإنها وإن
حدثت في ملك الوارث إلا أنها قد صارت مملوكة قبل الانتقال إلى الوارث ، فالوارث
هنا كالمشتري إنما انتقلت اليه العين خالية عن المنافع تلك المدة ، وهكذا القول في
موت المستأجر فإن الأجرة قد صارت دينا في ذمته بعقد الإجارة مستحقة عليها للموجر ،
فلا تبرأ إلا بأدائها حيا كان أو ميتا.
واستدل القائلون بالقول الثاني بأن الإجارة من العقود
اللازمة ، ومن شأنها أن لا تبطل بالموت ، ولعموم (1) «الأمر بالوفاء
بالعقود» ، وللاستصحاب واحتج في المختلف للقول المذكور حيث انه المختار عنده قال :
لنا انه حق مالي ومنفعة مقصودة يصح المعاوضة عليها وانتقالها بالميراث وشبهه ، فلا
يبطل بموت صاحبها كغيرها من الحقوق ، ولأن العقد وقع صحيحا ويستصحب حكمه ، ولأن
العقد ناقل فيملك المستأجر المنافع به ، والموجر مال الإجارة ، فينتقل حق كل واحد
منهما إلي ورثته انتهى ، وهو جيد.
ومرجع هذا الاستصحاب الذي ذكروه هنا الى استصحاب عموم
الدليل
__________________
(1) سورة المائدة ـ الاية 1.
أو إطلاقه وهو مما لا شك في صحة
الاستدلال به ، لا الاستصحاب المتنازع فيه بأن عموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء
بالعقود والشروط ـ يقتضي البقاء على حكمها حتى يحصل المخرج عن ذلك والرافع له ،
وليس فليس ـ بل خصوص ما قدمناه من الأخبار الدالة على لزوم الإجارة إلى الوقت
المحدود.
مثل قوله عليهالسلام في صحيحة على
بن يقطين المتقدمة في الموضع الأول «الكري لازم الى الوقت الذي اكتراه اليه»
ونحوها رواية محمد بن سهل المتقدمة أيضا ، فإن للقائل بالصحة أن يستصحب اللزوم حتى
يقوم دليل على البطلان وليس ألا ما ذكروه من تلك التعليلات العليلة مما قدمنا
بيانه.
ويزيد ذلك تأييدا وان كان أخص من المدعى ما رواه في
التهذيب عن إبراهيم الهمداني (1) قال : «كتبت
الى أبى الحسن عليهالسلام وسألته عن
امرأة آجرت ضيعتها عشر سنين على أن تعطى الإجارة في كل سنة عند انقضائها لا يقدم
لها شيء من الإجارة ما لم ينقض الوقت فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها هل يجب على
ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت أم تكون الإجارة منتقضة لموت المرأة فكتب عليهالسلام ان كان لها
وقت مسمى لم تبلغه فماتت فلورثتها تلك الإجارة وان لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه
أو نصفه أو شيئا منه فيعطى ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إنشاء الله تعالى.
وبهذا المضمون أيضا رواية أحمد بن إسحاق الأبهري (2) عن أبي الحسن عليهالسلام وحاصل الجواب
بقرينة ما اشتمل عليه السؤال من الشرط المذكور فيه أن حكم الورثة في الإجارة
المذكورة حكم المرأة من أن لورثتها تلك الإجارة إلى الوقت المسمى فيها ، الا أنهم
انما يعطون الأجرة بقدر ما مضى من تلك المدة عملا بالشرط المذكور على المرأة.
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 207 ح 58 ، الكافي ج 5 ص 270 ح 2 ، الوسائل
ج 13 ص 268 ح 1.
(2) التهذيب ج 7 ص 208 ح 59 ، الوسائل ج 13 ص 269 ح 5.
وبالجملة فالظاهر عندي هو القول المذكور كما عرفت مضافا
الى ما عرفت في أدلة خلافه من القصور ، وقد استثنى الأصحاب من هذا الحكم بناء على
القول المذكور مواضع منها ان يشترط الموجر على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه ،
فإنها تبطل بموته ، وهو الظاهر عملا بالشرط المذكور.
ومنها أن يكون الموجر موقوفا عليه فيؤجر الوقف ثم يموت
قبل انقضاء المدة ، فإنها تبطل بموته عندهم ، فهو بمنزلة انقضاء المدة ، لأنه إنما
يملك المنفعة إلى حين موته ، الا أن يكون ناظرا على الوقف ، فيوجره لمصلحة العين
أو لمصلحة البطون ، فإنها لا تبطل حينئذ بموت الناظر ، والصحة هنا ليست من حيث
كونه موقوفا عليه ، بل من حيث كونه ناظرا.
ومنها الموصى إليه بالمنفعة مدة حياته لو آجرها مدة ،
ومات في أثناء المدة ، فإنها تبطل بموته للعلة المذكورة في سابقه ، وهو انتهاء
استحقاقه ، حيث أن ملكه مقصور على مدة حياته ، والله سبحانه العالم.
الرابع : من الكليات
المتفق عليها بينهم أن كلما صح إعارته صح إجارته ، وقيدها بعضهم بما صح إعارته
بحسب الأصل لا مطلقا ، فإن المنحة وهي الشاة المعارة للانتفاع بلبنها مما يصح
إعارتها مع أنه لا يصح إجارتها ، الا أن هذا الحكم انما ثبت فيها على خلاف الأصل
والقاعدة في العارية ، كما تقدم ذكره ، فان مقتضى قاعدة العارية أن المستفاد ما صح
الانتفاع به مع بقاء عينه ، والمنحة ليست كذلك ، فحكمها مخالف لقاعدة العارية فلا
بد من القيد في الكلية المذكورة.
وبعضهم حمل الكلية المذكورة على ما هو الغالب ، فلا
يحتاج الى القيد المذكور ، وقال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ـ بعد قول المصنف
ويصح اجارة كل ما يصح إعارته ـ ما صورته : أي كل ما يصح إعارته من الأعيان
للانتفاع بالمنفعة التي لا تكون عينا يصح إجارته أيضا ، لأن الإجارة تمليك المنفعة
بعوض ، والعارية بدون العوض ، ولا فرق بينهما فكل ما يصح فيه أحدهما يصح
فيه الآخر ، ووجه قيد التي لا تكون
عينا ظاهر ، فإنه قد نقل الإجماع في التذكرة وغيرها على عدم صحة الإعارة عندنا إذا
كانت المنفعة المنتقلة مثل لبن شاة ، وثمر بستان ونحوهما ، ولهذا ترك القيد فلا
يرد عليه أنه يجوز إعارة الشاة ونحوها ، ولا يجوز إجارتها ، ولا يحتاج الى الجواب
بأن المراد غالبا كما قاله المحقق الثاني فتأمل ، انتهى.
أقول : لا أعرف لما ذكره في هذا المقام من الكلام وجها
واضحا لما تقدم في العارية من الاتفاق على إعارة الشاة للبن وهي المنحة ، وان كان
الدليل عليها لا يخلو من القصور ، وما نقله عن التذكرة وغيرها من الإجماع على عدم
صحة الإعارة عندنا إذا كانت المنفعة المنتقلة عينا مثل لبن شاة أو ثمرة بستان ـ لم
أقف عليه في التذكرة وانما الذي فيها ما قدمنا نقله في كتاب العارية حيث قال يجوز
اعارة الغنم للانتفاع بلبنها وصوفها ، وهي المنحة لاقتضاء الحكمة إباحته ، لأن
الحاجة تدعو الى ذلك والضرورة تبيح مثل هذه الأعيان إلى آخر ما قدمنا نقله عنه ثمة
، وحينئذ فإذا ثبت صحة عارية الغنم خاصة كما هو أحد القولين أو مع غيرها مما ألحق
بها كما هو القول الأخر للبن خاصة أو غيره من المنافع أيضا على الخلاف ، فكيف لا
يجب التقييد في الكلية المتقدمة بأحد القيدين المتقدمين.
وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه لصحة كلامه هنا ، ولعله
أراد وجها لم يهتد إليه فهمي القاصر ، والا فإنه على ظاهره في غاية الغرابة من
مثله والله سبحانه العالم.
الخامس : الظاهر أنه
لا خلاف في أن العين المستأجرة كالدابة ونحوها أمانة في يد المستأجر في ضمن المدة
المستأجرة لا يضمنها الا بالتفريط أو التعدي ، والوجه فيه أنها مقبوضة بإذن المالك
، فلا يتعقبها ضمان الا على أحد الوجهين المذكورين.
وانما الخلاف فيما بعد المدة إذا لم يطالب المالك بردها
أو طالب ولكن وقع التلف في أثناء الرد بحيث لم يؤخر الدفع بعد الطلب ، والمشهور
بين المتأخرين العدم ، لأنه لا يجب على المستأجر رد العين على الموجر ، ولا مؤنة
ذلك ،
وانما يجب عليه التخلية بين المالك
وبينها كالوديعة ، لأصالة براءة ذمته من وجوب الرد ، لأنها أمانة قبل انقضاء المدة
، فيستصحب ولا يجب ردها الا بعد المطالبة ، والواجب بعدها تمكينه منها ، كغيرها من
الأمانات.
وخالف في ذلك جماعة منهم الشيخ وابن الجنيد ، قال في
المبسوط : إذا استأجر دابة واستوفي حقه أو لم يستوف وأمسك البهيمة بعد مضي المدة
فهل يصير ضامنا لها؟ وهل يجب عليه مؤنتها ومؤنة الرد بعد الاستيفاء أم لا؟ فإنه
يجب عليه الرد بعد مضي المدة ، ومؤنة الرد إذا أمسكها وقد أمكنه الرد على حسب
العادة صار ضامنا ، وانما قلنا ذلك لأن ما بعد المدة غير مأذون له في إمساكها ومن
أمسك شيئا بغير اذن صاحبه وأمكنه الرد فلم يرد ضمن ، وفي الناس من قال : لا يصير
ضامنا ، ولا يجب عليه الرد ولا مؤنة الرد وأكثر ما يلزمه أن يرفع يده عن البهيمة ،
إذا أراد صاحبها أن يسترجعها ، لأنها أمانة في يده ، فلم يجب ردها مثل الوديعة.
وقال ابن إدريس : الذي يقوى في نفسي أنه لا يصير ضامنا
ولا يجب عليه الرد الا بعد مطالبة صاحبها بالرد ، لأن هذه أمانة فلا يجب ردها الا
بعد المطالبة ، مثل الوديعة ، لأن الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشيء يحتاج الى
دليل ، وما ذكره شيخنا في نصرة مذهبه فبعيد ، ويعارض بالرهن إذا قضى الراهن الدين
، ولم يطالب برد الرهن ، وهلك فلا خلاف أن المرتهن لا يكون ضامنا له ، وإن كان قال
: للمرتهن أمسك هذا الرهن الى أن أسلم إليك حقك ، فقد أذن له في إمساكه هذه المدة
، ولم يأذن فيما بعدها مطلقا ، بل بقي على أمانته ، وعلى ما كان أولا ، وكذلك في
مسئلتنا ، انتهى.
وعلى هذا القول جرى أكثر من تأخر عنه منهم الفاضلان في
غير المختلف وأما فيه فإنه بعد نقل كلام الشيخ وكلام ابن إدريس قال : وفي ذلك عندي
تردد. أقول : والأظهر هو القول المشهور تمسكا بأصالة براءة الذمة حتى يقوم على
خلافها دليل ، مؤيدا ذلك بالنظائر
المذكورة في كلامهم.
بقي الكلام فيما لو اشترط عليه الضمان من غير تعد ولا
تفريط ، وظاهرهم هنا هو القول ببطلان الشرط المذكور ، وتردد المحقق ثم استظهر
المنع ، ومنشأ التردد من عموم ما دل على وجوب الوفاء بالشروط ، ومن مخالفة هذا
الشرط لمقتضى العقد ، وذلك فإنه قد ثبت شرعا أن المستأجر أمين لا يضمن إلا بالتعدي
أو التفريط فلا يصح هذا الشرط.
وعندي فيه نظر ، قد تقدم ذكره في غير موضع ، فإن أكثر
الشروط الواردة على العقود إنما هي بمنزلة الاستثناء مما دل عليه أصل العقد ،
بمعنى أنه لو لا ذكرها لكان مقتضى العقد دخولها كما أن مقتضى البيع اللزوم ، مع
أنه يدخله شرط الفسخ بلا خلاف ولا إشكال.
وإلى ما ذكرناه من صحة الشرط المذكور مال في الكفاية ،
وعلله بما يقرب مما ذكرناه ، قال : ويمكن أن يقال : أدلة صحة العقود والشروط يقتضي
صحة هذا العقد والشرط ، وكونه مخالفا لما ثبت شرعا ممنوع ، لأن الثابت عدم الضمان
عند عدم الشرط ، لا مطلقا.
وقد روى موسى بن بكر (1) عن أبي الحسن عليهالسلام قال : سألته
عن رجل استأجر سفينة من ملاح فحملها طعاما واشترط عليه ان نقص الطعام فعليه ، قال
: جائز ، قلت : له أنه ربما زاد الطعام؟ قال : فقال : يدعي الملاح أنه زاد فيه
شيئا؟ قلت : لا ، قال : هو لصاحب الطعام الزيادة ، وعليه النقصان إذا كان قد شرط
عليه ذلك» ، انتهى وهو جيد.
ثم انه علي تقدير بطلان الشرط ، هل يبطل العقد ببطلانه ،
أم الشرط ، خاصة؟ قولان : قد تقدم ذكرهما في غير موضع ، والمشهور الأول ، وقد تقدم
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 244 ح 4 ، التهذيب ج 7 ص 217 ح 31 ، الوسائل
ج 13 ص 270 باب 27.
تحقيق القول في ذلك مقدمات كتاب
الطهارة (1) ثم إنه علي
تقدير القول الثاني فالثابت عدم الضمان ، وهو الظاهر ، وعلي تقدير الأول فالظاهر
أنه كذلك أيضا لأصالة العدم ، ولما تقرر في كلامهم «من أن كل ما لا يضمن بصحيحه ،
لا يضمن بفاسده» ، ويأتي علي ما قدمناه من صحة العقد والشرط المذكورين الضمان ،
وهو ظاهر.
قالوا : ويجوز إجارة المشترك بينه وبين غيره ، لعموم
الأدلة ولعدم ثبوت مانعية الشركة ، لإمكان تسليمه واستيفاء المنفعة بموافقة الشريك
، ولو امتنع رفع الأمر إلى الحاكم ، ويكون كما لو تنازع الشريكان ، والحكم اتفاقي
عندهم ، كما نقله في المسالك ، ولم ينقل الخلاف فيه إلا عن بعض العامة ، حيث منع
الإجارة لغير الشريك والله سبحانه العالم.
السادس : المشهور بين
الأصحاب بل لا يظهر فيه مخالف صحة خيار الشرط في الإجارة ، لعموم أدلة الإجارة ،
وعموم أدلة صحة الشروط الا ما استثنى ، وليس هذا منه ، وعدم ظهور مانع ، ولا فرق
بين شرطه لهما معا ، أو لأحدهما ، أو لأجنبي كما تقدم في البيع ، ولا فرق بين أن
تكون الإجارة لعين معينة كهذه العين ، أو يكون موردها الذمة كان يستأجره لعمل مطلق
غير مقيد بشخص كبناء حائط.
وقد اتفقوا أيضا على أنه لا يدخلها خيار المجلس ، لأنه
مختص عندنا بالبيع ، فلا يثبت فيها مع الإطلاق ، أما لو شرط فالمشهور عدم صحته ،
لأنه شرط مجهول ، لأن المجلس يختلف بالزيادة والنقصان ، وعدم قدحه في البيع من حيث
أنه ثابت فيه بالنص.
وعن المبسوط صحة الشرط المذكور (2) لعموم «المؤمنون
عند شروطهم». ورد بما عرفت من أنه شرط مجهول ، فيجهل ، به العقد ، وثبوته في البيع
مستثنى بما ذكرناه ، والله سبحانه العالم.
__________________
(1) ج 1 ص 164.
(2) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.
المطلب الثاني في الشروط
وهي ستة الأول : كمال المتعاقدين فلا ينعقد بالصبي
والمجنون ، وفي الصبي المميز بإذن الولي وجهان ، بل قولان : وقد تقدم تحقيق ،
الكلام في المقام في البيع (1) بما لا مزيد
عليه.
الثاني : معلومية
الأجرة لا خلاف ولا إشكال في اشتراط كون الأجرة معلومة في الجملة ، لكن هل يكفي في
المكيل والموزون الاكتفاء بمعلوميتها بالمشاهدة ، لانتفاء معظم الغرر بذلك ،
وأصالة الصحة أم لا بد من الكيل والوزن في كل منهما؟ قولان : المشهور الثاني ،
ونقل الأول عن جماعة منهم الشيخ والمرتضى ، واستحسنه في الشرائع ، واستشكل في
الإرشاد في ذلك.
قال في المبسوط : مال الإجارة يصح أن يكون معلوما
بالمشاهدة ، وان لم يعلم قدره ، لأصالة الصحة ، ولأن الغرر منفي لحصول العلم
بالمشاهدة.
ومنع ابن إدريس من ذلك ، وأجيب عنه بأن الإجارة معاملة
لازمة مبنية على المغالبة والمماكسة ، فلا بد فيها من نفي الغرر عن العوضين ، وقد
ثبت من الشارع اعتبار الكيل والوزن في المكيل والموزون في البيع ، وعدم الاكتفاء
بالمشاهدة ، فكذا في الإجارة ، لاتحاد طريق المسئلتين ، ولنهي النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) (2) عن الغرر
مطلقا ، وهو شامل لموضع النزاع ومثله المعدود ، وكذا أجاب به في المسالك ، ونحوه
كلام العلامة في المختلف.
وظاهر المحقق الأردبيلي هنا الميل إلى القول الأول ، حيث
قال بعد نقل الخلاف في المسئلة : والأصل وعموم أدلة الإجارة وعدم دليل صالح
للاشتراط دليل الأول ، إذ ليس الا الغرر المنفي في البيع على ما نقل عنه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فلو صح كان دليلا
في البيع فقط ، الا أن يعلم أن السبب هو الغرر فقط من حيث
__________________
(1) ج 18 ص 367.
(2) الدعائم ج 2 ص 19 ، الوسائل ج 12 ص 330 ح 3.
هو ، وأنه الموجب للفساد ، وأنه موجود
فيما نحن فيه فكان دليلا للثاني أيضا ولكن أنى بإثبات ذلك كله ، فإن المراد بالغرر
المنفي غير واضح ، وكذا عليته فقط ، ووجوده فيما نحن فيه ، إذ نعلم انتفاعه في
مشاهدة غير المكيل والموزون بالاتفاق ، والظاهر أنه يكفي العلم بالمشاهدة في
المكيل والموزون ، وفي المعدود والمزروع بالطريق الأولى ، ويؤيده بطلان القياس ،
وكون الإجارة غير بيع عندنا.
وقال في الشرح قلت : الحديث ورد في البيع ، والإجارة
محمولة عليه عند بعض العامة ، لأنها بيع ، وأما عندنا فلا يأتي الا من طريق اتحاد
المسئلتين إلى آخره ، وقد عرفت عدم إمكان إثبات الاتحاد بحيث لا يكون قياسا باطلا
، انتهى كلامه وهو جيد.
أقول : وقد تقدم في كتاب البيع الكلام في هذه المسئلة (1) والنقل عن
جملة من الأصحاب جواز البيع مع المشاهدة في الصورة المذكورة ، وأنه هو الظاهر من
أكثر من الأخبار ، وإذا ثبت ذلك في البيع بطل ما اعتمدوه من حمل الإجارة عليه ،
وما استندوا اليه من الخبر عنه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) في النهي عن
بيع الغرر لم يثبت من طرقنا ، وإن كثر تناقله في كلامهم وعلى تقدير ثبوته فحمل
الإجارة على البيع في ذلك لا يخرج عن القياس ، كما ذكره المحقق المذكور.
وما ذكره في المسالك من نهى النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) من الغرر
مطلقا ، (2) وهو شامل
لموضع النزاع مردود ، بعدم ثبوت ما ادعاه ، والمنقول من كلام غيره إنما هو دعوى
ورود الخبر في البيع لا مطلقا ، مع عدم ثبوته من طرقنا كما عرفت ، وبذلك يظهر لك
قوة القول الأول وإن كان الأحوط هو المشهور والله سبحانه العالم.
الثالث : أن تكون
المنفعة مملوكة ، اما تبعا لملك العين بأن يكون مالكا
__________________
(1) ج 18 ص 481.
(2) الوسائل ج 12 ص 330 ح 3.
للأصل ، فتبعه المنفعة وهو ظاهر ، أو
منفردة بأن يكون قد استأجره وملك منفعته بالاستيجار من غير أن يشترط عليه استيفاء
المنفعة بنفسه ، أو عدم الإجارة لغيره ، فلو شرط عليه أحد الأمرين لم يجز عملا
بالشرط ، والظاهر أن المراد بالملكية هنا هو صحة التصرف والسلطنة على المنفعة بوجه
شرعي ، لتدخل فيه ما إذا كان وقفا بناء على القول بعدم ملك الموقوف عليه.
أقول : وقد تقدم الكلام في أن للمستأجر أن يوجر غيره في
المسئلة الرابعة من مسائل المطلب الثالث (1) وكذا في كتاب المزارعة ، فإنه هو
الموضع الذي بسطنا فيه الأخبار ، ونقحنا المسئلة فيه كما هو حقها ، واختلفوا فيما
لو آجر غير المالك شيئا مما يصح للمالك إيجاره فضولا ، هل يقع باطلا أو يقف على
الإجازة؟ قولان.
قال في المسالك : ولا خصوصية لهما بالإجارة ، بل الخلاف
وارد في جميع عقود الفضولي ، ولكن قد يختص الإجارة عن البيع بقوة جانب البطلان ،
من حيث أنه قضية عروة البارقي (2) مع النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) في شراء
الشاة دلت على جواز بيع الفضولي وشرائه ، وقد يقال : باختصاص الجواز بمورد النص ،
والأقوى توقفه على الإجازة مطلقا ، انتهى.
أقول : قد تقدم تحقيق الكلام في هذه المسئلة في البيع
بما لا مزيد عليه (3) ومن العجب
العجاب أنهم يردون الأخبار المروية في أصولهم المشهورة المعول عليها بين متقدميهم
بلا خلاف ، من جهة ضعف السند بهذا الاصطلاح الجديد ، ويتلقون هذا الخبر العامي
بالقبول ، ويفرعون عليه ما لا يخفى من الفروع ، وأعجب من ذلك أن مورد خبرهم إنما
هو البيع ، وهم يعدون ذلك إلى جميع المعاوضات كما سمعت من كلامه هنا ، ونحوه غيره
، فأسأل الله عزوجل المسامحة
__________________
(1) ص 563.
(2) المستدرك ج 2 ص 462. ب 18 ح 1.
(3) ج 18 ص 376.
لناولهم فيما زالت فيه الأقدام.
الرابع : أن يكون
المنفعة معلومة بين المتعاقدين ، ليزول الغرر ، اما بتقدير العمل كخياطة هذا الثوب
، وركوب الدابة إلى الموضع الفلاني ، أو بتقدير المدة كخياطة شهر ، وركوب شهر ،
وسكنى الدار سنة ونحو ذلك.
ولو قدره بالمدة والعمل معا ، قيل : يبطل وقيل : يصح ،
وتفصيل هذه الجملة يقع في مقامين : الأول : ينبغي أن يعلم أن التخيير هنا بين
التقدير بكل من هذين الأمرين ليس كليا ، وإنما المراد أن كل منفعة يمكن تقديرها
بهما معا فإنه يتخير بين تقديرها بأحدهما ، وذلك كاستئجار الآدمي والدابة ، فإنه
يمكن ضبطه بالعمل والمدة كالمثالين المتقدمين من خياطة هذا الثوب ، وركوب الدابة
إلى الموضع الفلاني ، ويمكن ضبطه بالزمان كخياطة شهر وركوب شهر ، فبأيهما ضبطها
كان صحيحا ، وما لا يمكن ضبطه وتقديره الا بالزمان كالعقارات مثل سكنى الدار
والإرضاع ، فإنه لا بد من تقديره بالزمان وضبطه به ، والضابط هو العلم بالمنفعة
على أحد الوجهين المذكورين.
وعن التحرير أنه جعل الضابط بالنسبة إلى ما يجوز بهما
معا ما كان له عمل بالعمل كالحيوان ، وما يختص بالزمان ما ليس له عمل كالدار
والأرض ، وأورد عليه بأنه ينتقض الأول باستئجار الآدمي للإرضاع ، فإنه عمل ولا
ينضبط الا بالزمان.
الثاني : فيما لو قدر بهما معا بأن جمع بين تعيين العمل
وضبط المدة بحيث يتطابق بتمام العمل والمدة ، ولا يزيد أحدهما على الآخر مثل أن
يخيط هذا الثوب في هذا اليوم ، فإنه قيل : بالبطلان ، لأنه غرور ، ولأن استيفاء
العمل في تلك المدة قد لا يتفق ، وان اتفق فهو نادر ، فكأنه استأجره على ما لا
يقدر عليه عادة ، فإنه يمكن انتهاء العمل قبل انتهاء الزمان ، وبالعكس فإن أمر
بالعمل على تقدير الأول إلى أن ينتهي المدة لزم الزيادة على ما وقع عليه العقد بالنسبة
إلى شرط
العمل لانتهائه ، كما هو المفروض ،
وإن لم يأمر بالعمل لزم ترك العمل في المدة المشروطة بالنظر إلى التحديد بالزمان ،
وعلى تقدير الثاني وهو العكس ان أمر بالإكمال مع انتهاء الزمان كما هو المفروض لزم
العمل في غير المدة المشروطة ، وان لم يأمر كان تاركا للعمل الذي وقع عليه العقد.
وقيل : بالصحة ونقله في المسالك عن المختلف ، ولم أقف
عليه في كتاب الإجارة بعد التتبع له وكونه في غير الكتاب المذكور بعيد ، قال :
واختار في المختلف الصحة محتجا بأن الغرض إنما يتعلق في ذلك غالبا بفراغ العمل ،
ولا ثمرة مهمة في تطبيقه على الزمان ، والفراغ أمر ممكن لا غرر فيه ، فعلى هذا ان
فرغ قبل آخر الزمان ملك الأجرة ، لحصول الغرض ، فإن خرجت المدة قبله فلمستأجر فسخه
، فإن فسخ قبل عمل شيء فلا شيء ، أو بعد شيء فأجرة مثل ما عمل ، وان اختار
الإمضاء لزم الإكمال خارج المدة ، وليس له الفسخ.
ثم قال في المسالك : والحق أن ما ذكره إنما يتم لو لم
يقصد المطابقة ، وهو خلاف موضع النزاع ، فلو قصداها بطل ، كما قالوه ، ومع ذلك
يشكل لزوم أجرة المثل مع زيادتها على المسمى ، فإن الأجير ربما يجعل التواني في
العمل وسيلة إلى الزائد ، فينبغي أن يكون له أقل الأمرين من المسمى ان كان أتم
العمل وما يخصه منه على تقدير التقسيط ان لم يتم ، ومن أجرة مثل ذلك العمل ،
والأقوى البطلان الا مع إرادة الظرفية المطلقة ، وإمكان الوقوع فيها انتهى.
وفي الشرائع قد تردد في المسئلة ، وهو في محله ، لخلو
المسئلة عن النصوص ، وتصادم ما ذكر هنا من التعليلين بالخصوص ، وان كان كلام
العلامة لا يخلو من قرب ، حملا للمطابقة على المبالغة ، فإن الظاهر أن الغرض الكلى
من الإجارة إنما هو تحصيل المنفعة ، فيكون دائرا مدار الفراغ من العمل ، والزمان
لا دخل له في ذلك الا من حيث الظرفية ، فبوقوعه فيه قبل تمامه تثبت استحقاق الأجرة
، وقبل تمامه يتسلط المستأجر على الفسخ كما ذكره ، هذه
ثمرة اشتراطه في المقام ، وارادة
المطابقة حقيقة ـ لو فرض قصدهما كذلك ، مع كونه لا يترتب عليه أثر ولا ثمرة مهمة ـ
نادر ، والأحكام إنما تبنى على الأفراد الغالبة المتكررة ، وكيف كان فالمسئلة في
محل من الأشكال والله سبحانه العالم.
الخامس : أن تكون
المنفعة مباحة ، والكلام هنا في موضعين الأول : الظاهر أنه لا خلاف في تحريم اجارة
البيت ليحرز فيه الخمر ، والدكان ليبيع فيه الآلة المحرمة ، والأجير ليعمل له
مسكرا ، بمعنى أن الإجارة وقعت لهذه الغايات أعم من أن يكون قد وقع شرطها في متن
العقد أو حصل الاتفاق عليها.
ويدل عليه رواية جابر (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل
يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر ، قال : حرام أجرته».
إنما الخلاف هنا في موظعين أحدهما أنه هل تكون الإجارة
باطلة ، وكذلك البيع ، أو أنه يصح ذلك وان أثم ، فالمشهور الأول وقيل : بالثاني ،
ولعل وجهه أن النهى إنما يفيد البطلان في العبادات ، لا في المعاملات ، وفيه أن
مقتضى ما قدمنا تحقيقه في هذه المسئلة من التفصيل بأنه ان كان النهى راجعا إلى شيء
من العوضين بمعنى عدم صلاحيته للعوضية ، فإن النهي يدل على البطلان ، وان كان
راجعا إلى أمر خارج كالبيع وقت النداء يوم الجمعة ، فإن غاية النهى الإثم خاصة من
غير أن يبطل العقد ، وما نحن فيه إنما هو من قبيل الأول بمعنى عدم صلاحية المبيع
للانتفاع والانتقال ، كما في بيع الغرر ونحوه ، وبه يظهر قوة قول المشهور.
وثانيهما أنه لم يقع الإجارة لهذه الغايات ولكن يعلم أن
المستأجر والمشترى يعمل ذلك ، وذهب جمع منهم الشهيد في المسالك وتبعه المحقق
الأردبيلي إلى أن حكمه كالأول في التحريم والبطلان ، لأنه معاونة على الإثم ،
للنهي عنه في الآية الشريفة (2) ، والخبر
المتقدم وذهب جمع إلى الجواز ، ويدل عليه جملة من الأخبار
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 227 ح 8 ، التهذيب ج 7 ص 134 ح 64 وفيه عن
صابر الوسائل ج 12 ص 125 ح 1.
(2) سورة المائدة ـ الاية 2.
التي قدمت في المقدمة الثالثة من
مقدمات كتاب التجارة (1) وقد استوفينا
تحقيق الكلام فيه ثمة فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه.
الثاني : اختلف الأصحاب في جواز إجارة الحائط المزوق
للتنزه فجوزه ابن إدريس ، ومنعه الشيخ ، وتردد في الشرائع ، قال في الخلاف
والمبسوط : لا يجوز إجارة حائط مزوق أو محكم للنظر اليه والتفرج فيه والتعلم منه ،
لأنه عبث ، والنفع منه قبيح ، وإذا لم يجز النفع فإجارته قبيحة.
وقال ابن إدريس : يجوز ذلك إذا كان فيه غرض وهو التعلم
من البناء المحكم ، كما يجوز اجارة كتاب فيه خط جيد للتعلم منه ، لأن فيه غرضا
صحيحا ولأنه لا مانع منه.
قال في المختلف ـ بعد نقل القولين وقول الشيخ ـ : جيد
لأنها منفعة ليس للمالك منع المنتفع بها ، فلا يصح إجارتها كالاستظلال بالحائط ،
وفرق بين المزوق ، والكتاب ، لأن في الكتاب يتصرف المستأجر بالتسليم والتقليب
بخلاف صورة النزاع ، ولو فرض عدمها لم تقع الإجارة ، كالحائط.
أقول : لا يخفى أن الظاهر من كلام الشيخ أن العلة في
المنع إنما هي من حيث عدم اباحة هذه المنفعة ، كما هو عنوان أصل هذه المسئلة فكأنه
جعل التنزه هنا من قبيل اللهو ، كما يشير اليه قوله «ولأنه عبث ، والنفع منه قبيح
، وإذا لم يجز النفع فإجارته قبيحة» ، لا أن العلة في عدم جواز الإجارة ما ادعاه
العلامة ، وعلل به قول الشيخ من أنه يمكن استيفاء هذه المنفعة بدون إذن المالك ،
كالاستظلال بحائط الغير ، وليس للمالك المنع من ذلك ، فلا تصح إجارته ، لأنه غير
مملوك للمالك.
وأنت خبير بأنه أين هذا من عبارة الشيخ المتقدمة ،
والعجب من المسالك حيث تبع العلامة في ذلك فقال بعد نقل قول ابن إدريس بالجواز :
ومنعه الشيخ وجماعة ، لأن ذلك يمكن استيفائه بدون اذن المالك ، كما يجوز الاستظلال
بحائطه بدونه انتهى.
__________________
(1) ج 18 ص 67.
وبالجملة فإن الظاهر من كلامي الشيخ وابن إدريس يرجع إلى
الاختلاف في كون المنفعة هنا مباحة أو غير مباحة ، وابن إدريس يدعي الأول ، والشيخ
الثاني ، نعم هذا الاختلاف إنما يتفرع على ما إذا كان التزويق داخل البيت ، كما هو
الغالب لا في جدرانه الخارجة في الطرق التي تراها جميع الناس ، فينبغي تقييد محل
النزاع بذلك ، بناء على الغالب المتعارف ، وتقييد إطلاق كلامهم بذلك ، وكيف كان
فالظاهر بناء على ما قلناه ترجيح كلام ابن إدريس فإن ما ذكره غرض صحيح لأرباب تلك
الصناعة ، والله سبحانه العالم.
السادس : أن يكون
مقدورا على تسليمها ، والكلام هنا يقع في مواضع : الأول : لا ريب أن من شرط صحة
الإجارة عندهم قدرة الموجر على تسليم العين المستأجرة إلى المستأجر ، ولا ريب أيضا
في اشتراط كون العين المستأجرة مقدورة الانتفاع في الجملة ، ليمكن الانتفاع
المطلوب إذ استيجار الغير المقدورة التي لا يمكن الانتفاع بالمطلوب منها سفه محض
وغرر ، ويدل عليه العقل والنقل ، فلو استأجر الأخرس للتعليم أو الأعمى لحفظ متاع
بالبصر بطل ، لما ذكرنا.
والظاهر كما تقدم ذكره في كتاب البيع عدم اشتراط كون
تسليم المنفعة مقدورا للموجر ، بل يكفي إمكان التسلم ، فلو كان المستأجر قادرا على
استيفاء المنفعة بأخذ العين من الغاصب بنفسه. أو معاون أو قادرا على تحصيل الآبق ،
فالظاهر جواز الاستيجار ، ونحوه أيضا استيجار الغاصب للمغصوب الذي في يده ، لحصول
التسلم ، والظاهر أنه يخرج عن الضمان والغاصبية بمجرد العقد ، وأن الأظهر في
الجميع صحة الإجارة ، لعموم الأدلة والأصل عدم ثبوت مانع ، ثم انه فيما عدا صورة
الغصب ان بذل الجهد في تسليمه ولم يمكن التسليم بطل الإجارة ، لأن لزوم الأجرة
موقوف على إمكان التسليم والتسلم ، الا أن يقصر المستأجر مع القدرة ، فيلزم العقد.
بقي الكلام في إجارة الآبق مع الضميمة ، وقد تردد في ذلك
جملة من
الأصحاب ، منهم الشرائع والتحرير والتذكرة
، وأطلق المنع في الإرشاد وقيده في القواعد بعدم الضميمة ، ومفهومه جوازها مع
الضميمة ، وهو اختيار الشهيد قيل : وجه التردد في ذلك من حيث عدم القدرة على تسليم
المنفعة ، ومن جواز بيعه من الضميمة للنص الدال على ذلك ، فكذا إجارته بطريق أولى
، لاحتمالها من الغرر ما لا يتحمله البيع ، ومن ذلك يعلم وجه المنع ، كما اختاره
في المسالك والروضة ووجه الجواز كما اختاره الشهيد ، قال في اللمعة : فلا يصح
اجارة الآبق وان ضم إليه أمكن الجواز ، قال الشارح : كما يجوز البيع لا بالقياس بل
لدخولها في الحكم بطريق اولى ، لاحتمالها من الغرر ما لا يتحمله ، وبهذا الإمكان
أفتى المصنف في بعض فوائده ، ووجه المنع فقد النص المجوز هنا ، فيقتصر هنا على
مورده ، وهو البيع ومنع الأولوية ، انتهى.
أقول : والظاهر هو ما اختاره شيخنا المذكور من المنع لما
ذكره ، فإنه وجيه ، ومع تسليم الأولوية فإنه لا يخرج عن القياس المنهي عنه في
الأخبار ، كما قدمنا تحقيقه في مقدمات الكتاب في كتاب الطهارة (1).
ثم إنه على تقدير الجواز مع الضميمة فإنهم قد صرحوا بأنه
يشترط كونها متمولة يمكن إفرادها بالمعاوضة ، قالوا : وفي اعتبار أفرادها بجنس ما
يضم إليه ففي البيع تفرد بالبيع ، وفي الإجارة تفرد بالإجارة ، أو يكفي كل واحد
منهما في كل واحد منهما ، وجهان : من حصول المعنى ، ومن أن الظاهر ضميمة كل شيء
إلى جنسه ، وقوى الشهيد الثاني.
الثاني : لو منعه
المؤجر ولم يسلمه العين المستأجرة سقطت الأجرة ، وليس للمؤجر المطالبة بها ،
والحال ذلك ، والظاهر على هذا بطلان العقد وانفساخه بنفسه ، ويكون كتلف العين ،
والمبيع قبل التسليم ، وهو مختار التذكرة الا أنه قيده بمنع الموجر المستأجر من
العين قبل أن يستوفي المنافع ، وقرب ثبوت الخيار
__________________
(1) ج 1 ص 60.
لو استوفاها وقيل : انه لا ينفسخ الا
بالفسخ ، فيتخير بين الفسخ لتعذر حصول العين المستأجرة ، فإذا فسخ سقط المسمى ان
لم يكن دفعه ، والا استرجعه وبين الالتزام بالعقد ، ومطالبة المؤجر بعوض المنفعة ،
وهو أجرة مثلها ، لأن المنفعة مملوكة له ، وقد منعه الموجر منها وهي مضمونة
بالأعيان ، وحينئذ فيرجع بالتفاوت ، وهو زيادة أجرة المثل عن المسمى ان كان ، لأن
المؤجر يستحق المسمى في العقد ، والمستأجر أجرة المثل ، ويرجع عليه بالزيادة عما
يستحقه ان كان هناك زيادة ، وهذا القول اختيار الشرائع ، والمسالك ، والقواعد.
الثالث : لو منع المستأجر ظالم غير الموجر عن الانتفاع
بالعين المستأجرة ، فلا يخلو اما ان يكون قبل قبضها من المؤجر أو بعده ، فهيهنا
مقامان الأول أن يمنعه قبل القبض ، والظاهر من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أن
المستأجر يتخير بين الفسخ فيرجع كل ملك الى مالكه ، ويرجع المستأجر بالأجرة على
الموجر ان كان قد دفعها له ، والا فلا ، ويرجع المالك على الغاصب بأجرة المثل كلا
أو بعضا من حيث الغصب ، ومنع تحصيل المنفعة من العين ، وبين التزام العقد والرضاء
به فيرجع على الغاصب بالعين المنتفع بها ، وبأجرة المثل في مدة المنع ، لأنه
المباشر للإتلاف ظلما وعدوانا.
قيل : ولا يسقط هذا التخيير بعود العين إلى المستأجر في
أثناء المدة ، بل له الفسخ في الجميع ، وأخذ المسمى لفوات المجموع من حيث هو مجموع
، ولأصالة بقاء الخيار السابق ، وله الإمضاء واستيفاء باقي المنفعة ، ومطالبة
الغاصب بأجرة مثل ما فات في يده من المنافع ، وليس له الفسخ في الماضي خاصة ،
والرجوع بقسطه من المسمى على الموجر ، واستيفاء الباقي من المنفعة ، لاقتضائه
تبعيض الصفقة على الموجر ، وهو خلاف مقتضى العقد ، بل اما أن يفسخ في الجميع ، أو
يمضيه ، مع احتماله ، لأن فوات المنفعة في هذه الحال يقتضي الرجوع الى المسمى وقد
حصل في البعض خاصة ، فاستحق الفسخ فيه ، انتهى.
أقول : هذا الاحتمال لا يخلو عن قرب ،
لأن مبني المنع في الكلام الأول على لزوم تبعيض الصفقة على الموجر ، وهو غير جائز
عندهم في جميع العقود ، وفيه ما تقدمت إليه الإشارة في غير موضع مما تقدم أنه وان
اشتهر ذلك بينهم ـ حتى صار قاعدة كلية بنوا عليها في جملة من الأحكام ـ الا أنا لم
نقف على دليل من الأخبار ، لا في باب البيع ولا غيره ولعل ذلك من جملة ما اتفقوا
فيه العامة ، وان اتفقوا عليه وكم من مثله في قواعدهم الأصولية ، كما لا يخفى على
المتتبع.
الثاني أن يمنعه بعد القبض ، والظاهر أنه لا خلاف في صحة
العقد ، وعدم فسخه ، لأن وجه التخيير في الأول ، وجواز الفسخ انما كان من حيث أن
العين قبل القبض مضمونة على المؤجر ، فللمستأجر الفسخ عند تعذرها ، والعلة هنا
منتفية ، لأنه قد قبضها ولزمت الإجارة باجتماع شروطها ، وانما عرض بعد ذلك حيلولة
الغاصب له بمنعه عن التصرف ، وعلى هذا فيرجع المستأجر على الغاصب بأجرة مثل
المنفعة الفائتة في يده لا غير ، ويرجع الموجر على المستأجر بالمسمى لو لم يقبضه
سابقا والعين مضمونة في يد الغاصب لصاحبها ، قالوا : ولو كان الغاصب هو الموجر فلا
فرق.
الرابع : قالوا : إذا انهدم المسكن كان للمستأجر فسخ الإجارة
الا أن يعيده صاحبه ، ويمكنه منه ، وتردد في الشرائع في ذلك.
أقول : ظاهر هذا الكلام أن العقد لا ينفسخ بنفسه ، ولو
أدى الانهدام الي عدم الانتفاع بالمسكن بالكلية ، وبه صرح المحقق الأردبيلي أيضا
فقال بعد ذكر عبارة المصنف المشتملة على مثل هذا الإجمال أيضا ما لفظه : أي لو
انهدم المسكن المستأجر بحيث لا يمكن الانتفاع به أو انقض ونقص نقصانا لو كان قبل
العقد لم يرغب في الإجارة عرفا بالأجرة المقررة لم ينفسخ ، بل للمستأجر فسخ العقد
، والرجوع الى المالك بعد الفسخ بمقدار حصة الباقي من أجرة المدة ، الا أن يعيد
المالك المسكن إلى أصله الى آخره ، وصريح كلام شيخنا في المسالك تقييد هذا الإطلاق
بما لو لم يؤد الانهدام الى فوات الانتفاع بالكلية ، أو أنه يمكن زوال المانع
والا انفسخ العقد بنفسه ، قال بعد ذكر
المصنف الحكم كما نقلناه عنهم : ومقتضى جواز الفسخ أن العقد لا ينفسخ بنفسه ، فلا
بد من تقييده بإمكان إزالة المانع ، أو بقاء أصل الانتفاع فلو انتفيا معا انفسخت
الإجارة ، لتعذر المستأجر عليه انتهى.
الا أن يحمل إطلاق كلام المحقق المتقدم ذكره على إمكان
إزالة المانع فلا تنافي حينئذ ، وله البقاء على العقد وعدم الفسخ لو لم ينفسخ
العقد بنفسه ، وتلزمه الأجرة ووجه الفسخ ـ على تقدير خروج السكنى عن الانتفاع
المراد منه عرفا ظاهر ، الا أن يكون سبب ذلك من المستأجر ، وحصول الضرر من جهته ،
لأن الأجرة انما بذلت واستحقت في مقابلة الانتفاع ، فإذا فات في الزمان المقرر فلا
أجرة الا أن يكون ذلك من المستأجر كما عرفت ، والمراد بإعادته المستثناة من الخيار
يعني الإعادة بسرعة على وجه لا يفوت به شيء من المنافع ، ووجه التردد هنا على
تقدير إعادته سريعا من زوال المانع بإعادته سريعا مع عدم ذهاب شيء من المنافع ،
ومن ثبوت الخيار بالانهدام ، فيستصحب حيث لم يدل دليل على سقوطه بالإعادة ، وهو
ظاهر اختياره في المسالك ، أقول : لم أقف في هذا المقام على نص والله سبحانه
العالم.
المطلب الثالث في الأحكام
وفيه مسائل الاولى : قد صرحوا
بأن الأجير الخاص وهو الذي يستأجر مدة معينة للعمل بنفسه أو يستأجر عملا معينا مع
تعيين أول زمانه ، بحيث لا يتوانى في فعله ، حتى يفرغ منه لا يجوز له العمل لغير
من استأجره إلا باذنه ، والأجير المشترك وهو الذي يستأجر لعمل مجرد عن المباشرة ـ مع
تعيين المدة ـ ، أو عن المدة مع تعيين المباشرة ، ـ أو مجردا عنهما يجوز له ذلك.
أقول : والأولى في التعبير عن الأول بالمقيد ، عوض الخاص
، وعن الثاني بالمطلق عوض المشترك ، كما لا يخفى.
وكيف كان فتفصيل هذا الإجمال يقع في مقامين الأول : في
الأجير الخاص وقد عرفت تفسيره ، والوجه في عدم جواز عمله ـ لغير من استأجره إلا
بالإذن ـ أنه متى وقعت الإجارة على أحد الوجهين المذكورين ، فان منفعته المطلوبة
قد صارت ملكا للمستأجر ، فلا يجوز له صرف عمله الذي استأجر عليه ، ولا صرف زمانه
المستأجر فيه في عمل ينافي ما استوجر عليه ، وأما لو لم يناف ما استوجر عليه
كالتعليم والتعلم والعقد ونحو ذلك حال الاشتغال بالخياطة المستأجر عليها مثلا : فالأقرب
الجواز ، كما اختاره بعض محققي متأخري المتأخرين.
قال في المسالك : وهل يجوز عمله في الوقت المعين عملا لا
ينافي حق المستأجر كإيقاع عقد ونحوه في حال اشتغاله ، أو تردده في الطريق بحيث لا
ينافيه وجهان : من شهادة الحال بالإذن في مثل ذلك ، والنهي عن التصرف في ملك الغير
بغير اذنه.
أقول : لا يخفى أنه وان كان لا خلاف ولا إشكال في النهي
عن التصرف في ملك الغير إلا بإذنه ، إلا أن اجراء ذلك فيما نحن فيه ممنوع ، لأن
مقتضى الإجارة اشتغال الذمة بأداء العمل المستأجر عليه ، والحال أنه لا خلاف ولا
إشكال في براءة الذمة بأدائه على هذا الوجه ، حيث أن المفروض عدم المنافاة ، وإذا
ثبت براءة الذمة من العمل المذكور ، فلا يضر هذا التصرف بوجه من الوجوه ، واللازم
مما ذكروه ـ لو تم ـ المنع من كلامه مع الغير مطلقا ، وكذا نظره لغيره ، وبطلانه أوضح
من أن يخفى والظاهر أن له في الصورة المذكورة العمل فيما لم تجر العادة بوجوب
العمل فيه للمستأجر كالليل ، لكن يشترط أن لا يؤدي الى ضعف العمل نهارا ، وكما أنه
لا يجوز له العمل بما ينافي العمل للمستأجر عليه ، كذلك لا يجوز للغير استعماله في
المنافي. والذي حضرني من الأخبار في المقام ما رواه
في الكافي في الموثق عن إسحاق بن عمار (1) قال : «سألت
أبا إبراهيم عليهالسلام عن الرجل
يستأجر الرجل بأجرة معلومة
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 287 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 213 ح 17 ، الوسائل
ج 13 ص 250 ح 1.
فيبعثه في ضيعة فيعطيه رجل آخر دراهم
ويقول : اشتر بها كذا وكذا وما ربحت بيني وبينك ، فقال إذا أذن له الذي استأجره
فليس به بأس».
وهي دالة بالمفهوم على ثبوت البأس مع عدم الاذن ،
والظاهر أن المراد به التحريم ، ويحمل الخبر على الأجير الخاص كما هو ظاهر الكلام
، وبه استدل في المفاتيح على الحكم المذكور.
الثاني : في الأجير المشترك وقد عرفت تعريفه ورجوعه إلى
ثلاثة أقسام : الأول : الاستيجار على عمل مجرد عن المباشرة مع تعيين المدة ، كأن
يستأجره على تحصيل الخياطة بنفسه أو غيره يوما.
الثاني : أن يستأجره على عمل مجرد عن المدة مع تعيين المباشرة
، كأن يستأجره ليخيط له ثوبا بنفسه ، من غير أن يقيده بمدة.
والثالث : أن يكون مجردا عنهما كان يستأجره على تحصيل
خياطة ثوب بنفسه أو غيره من غير تقييد بزمان ، وهذا يجوز له العمل لغير من استأجره
، لأن مقتضى الاستيجار هنا بجميع أقسامه الثلاثة أنه يجب عليه أن يعمل ذلك العمل
بنفسه أو غيره أي زمان أراد ، ولم يملك المستأجر عمله ومنفعته على وجه لا يجوز له
العمل لغيره ، كما في الأول ، بل له عليه ذلك العمل مطلقا ، الا أن يكون ثمة قرينة
تدل على كونه في زمان خاص كالحج ، فإنه يصير من قبيل الأجير الخاص ، أو قلنا بوجوب
العمل بعد الفراغ من العقد ، كما نقل عن شيخنا الشهيد ، فإنه نقل عنه في بعض
تحقيقاته أن الإطلاق في كل الإجارات يقتضي التعجيل والمبادرة إلى الفعل ، وعلى هذا
يقع التنافي بينه وبين عمل آخر في صورة اعتبار المباشرة ، وفرع عليه منع صحة إجارة
الثانية في الصورة المذكورة.
والظاهر ضعف القول المذكور ، ولعدم وضوح الدليل عليه لا
من الأخبار ولا من الاعتبار قال في المسالك : ونعم ما قال : واعلم أن الشهيد حكم
في بعض تحقيقاته بأن الإطلاق في كل الإجارات يقتضي التعجيل ، وأنه يجب المبادرة
الى
ذلك الفعل ، فإن كان مجردا عن المدة
خاصة فبنفسه ، والا تخير بينه وبين غيره ، فيقع التنافي بينه وبين عمل آخر في صورة
المباشرة ، وفرع عليه منع صحة الإجارة الثانية في صورة التجرد عن المدة مع
المباشرة ، كما منع في الأجير الخاص ، وما تقدم في الإجارة للحج مؤيد لذلك ، فإنهم
حكموا بعدم صحة الإجارة الثانية مع اتحاد زمان الإيقاع نصا أو حكما كما لو أطلق
فيهما أو عين في أحدهما بالنسبة الأولى ، وأطلق في الأخرى ، ولا ريب أن ما ذكره
أحوط ، وان كان وجهه غير ظاهر ، لعدم دليل يدل على الفورية ، وعموم الأمر بالإيفاء
بالعقود ونحوه لا يدل بمطلقه على الفور عندهم ، وعند غيرهم من المحققين ، سلمنا
لكن الأمر بالشيء إنما يقتضي النهي عن ضده العام ، وهو الأمر الكلي لا الأفراد
الخاصة ، سلمنا لكن النهي في غير العبادات لا يدل على الفساد عندهم ، والإسناد الى
ما ذكر من الحج ليس بحجة بمجرده ، ويتفرع على ذلك وجوب مبادرة أجير الصلاة الى
القضاء بحسب الإمكان وعدم جواز اجارة نفسه ثانيا قبل الإتمام ، وأما تخصيص الوجوب
بصلوات مخصوصة وأيام معينة فهو من الهذيانات الباردة والتحكمات الفاسدة ، انتهى
وهو جيد وجيه كما لا يخفى والله سبحانه العالم.
الثانية : لا خلاف ولا
إشكال في أنه تملك الأجرة بنفس العقد ، لاقتضاء صحة المعاوضة نقل الملك في كل من
العوضين من أحدهما إلى الأخر ، كما في البيع وسائر عقود المعاوضات اللازمة ،
والإجارة منها ، لكن لا يجب تسليم الأجرة إلا بتسليم العين المستأجرة ان كانت
الإجارة على عين ، أو تمام العمل ان كانت الإجارة على عمل ، ولا يجوز تأخيرها مع
الطلب ، والحال كذلك ، ومما يدل عليه بالنسبة إلى تمام العمل ما رواه في الكافي في
الصحيح أو الحسن عن هشام بن الحكم (1) عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الجمال
والأجير قال : لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته».
وعن شعيب (2) قال تكارينا لأبي عبد الله عليهالسلام قوما يعملون
في بستان له ،
__________________
(1 و 2) الكافي ج 5 ص 289 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 211 ح 11
الوسائل ج 13 ص 246 ح 1 و 2.
وكان أجلهم إلى العصر فلما فرغوا قال
لمعتب : أعطهم أجورهم قبل أن يجف عرقهم».
والظاهر أن ذكر جفاف العرق كناية عن السرعة في الإعطاء
وبالجملة فإن الأجرة تتعلق بذمة المستأجر بمجرد العقد ، ولكن لا يجب التسليم الا
يعد أحد الأمرين المذكورين ، وأما قولهم يجب تسليم الإجارة مع الإطلاق ، فالظاهر
أن المراد به أول وقت وجوب الدفع ، الذي هو عبارة عن تسليم العين ، أو الفراغ من
العمل.
قال في المسالك ـ بعد قول المصنف ويجب تعجيلها مع
الإطلاق ومع شرط التعجيل ما صورته ـ : المراد بتعجيلها مع الإطلاق في أول أوقات
وجوب دفعها ، وهو تمام العمل ، وتسليم العين المؤجرة ، لأن بتسليم أحد العوضين
تسلط على المطالبة بالأجرة بمقتضى المعاوضة الموجبة للملك ، ثم انه على تقدير ما
ذكرنا من أنه لا يجب التسليم الا بعد أحد الأمرين المذكورين ، قالوا : لو كان
المستأجر وصيا لم يجز له التسليم قبل ذلك الا مع الأذن صريحا أو بشاهد الحال ، ولو
فرض توقف العمل على الأجرة كالحج مثلا وامتنع المستأجر من التسليم والظاهر كما
استظهره في المسالك أيضا جواز الفسخ ، ولو شرط التعجيل في الأجرة لم يزد على ما
اقتضاه الإطلاق كما عرفت من أنه يجب التعجيل مع الإطلاق.
نعم يفيد ذلك تأكيدا ويتفرع عليه تسلط الموجر على الفسخ
لو شرط ذلك في مدة مضبوطة ، فأخل به ، ونحوه لو شرط القبض قبل العمل ، أو تسليم
العين المؤجرة ، فإنه يصح عملا لعموم أدلة لزوم الشروط في العقود اللازمة ، ويتسلط
على الفسخ مع الإطلاق به كما في غيره ، وقد تقدم الكلام في ذلك في كتاب البيع ،
وتقدم القول بعدم تسلطه على الفسخ ، بل الواجب رفع الأمر إلى الحاكم ، وجبره على
القيام بالشرط ، فليرجع في تحقيق ذلك من أحب الوقوف على الخلاف في المسئلة الى ما
قدمناه ثمة (1).
__________________
(1) ج 19 ص 34.
ولو شرط التأجيل في الأجرة صح أيضا بشرط ضبط المدة وكذا
لو شرطها نجوما بأن يدفع العين أو يعمل العمل ولا يطالب بالأجرة إلى الأجل المعين ،
أو يقسطها فيجعل لكل أجل قسطا معلوما منها ، فإنه لا مانع من ذلك عملا بعموم
الأدلة ، وعدم ظهور المانع ، وكذا لا فرق بين الإجارة الواردة على عين معينة ، أو
الإجارة المطلقة الواردة على ما في الذمة ، ولا خلاف عندنا في شيء من هذه الأحكام
، والله سبحانه العالم.
الثالثة : قالوا : لو
وجد بالأجرة عيبا سابقا على وقت القبض ، فإن كان الأجرة مطلقة وهي المضمونة تخير
بين الفسخ وأخذ العوض وان كانت معينة تخير بين الفسخ والأرش ، وعلل الأول بأن
المطلق يتعين بتعيين المالك ، وقبض المستحق كالزكاة فحينئذ له الفسخ ، لكون
المعينة معيبة ، وله الأبدال بالصحيح الذي هو مقتضى العقد ، وهو المشار اليه
بالعوض.
والتحقيق ما ذكره جملة من محققي المتأخرين أن مقتضى
الإطلاق الحمل على الصحيح ، وهو أمر كلي لا ينحصر في المدفوع ، ودعوى تعينه بما
ذكر ممنوع ، وقضية ذلك حينئذ أنه لا فسخ هنا ، وإنما له العوض ، نعم لو تعذر العوض
توجه الفسخ ، وتخير بينه وبين الرضا بالمعيب مع الأرش عوض ما فات بالعيب لتعين
المدفوع اليه ، من حيث تعذر عوضه ، كما هو الحكم في الثاني وهو ما إذا كانت معينة
، فإنه يتخير كما قدمنا نقله عنهم بين الفسخ والرضا به مع الأرش ، من حيث أن تعينه
مانع من البدل ، كما تقدم في كتاب البيع ، ودليله ظاهر مما تقدم في بيع المعيب (1) الا أن لقائل
أن يقول : باختصاص هذا الحكم بالبيع ، كما هو مورد الدليل.
وظاهرهم أنه لا دليل هنا على ما ذكروه الا الحمل على
البيع ، وفيه ما لا يخفى ، فمن الجائز هنا انحصار الحكم في الفسخ خاصة ، والى هذا
يميل كلام
__________________
(1) ج 19 ص 79.
المحقق الأردبيلي حيث قال ـ بعد قول
المصنف وإذا كانت معينة له الفسخ أو الأرش ـ : كان دليله ظاهر مما تقدم في بيع
المعيب ، أو يمكن اختصاص البيع بالحكم لدليله ، ويكون هنا الفسخ فقط ، بل ويمكن
الانفساخ أيضا ، لعدم وقوع الرضاء به ، انتهى وهو جيد والله سبحانه العالم.
الرابعة : الظاهر أنه
لا خلاف في أنه لو استأجر دارا أو دابة أو غيرهما من الأعيان فإن له أن يؤجرها على
غيره إذا لم يشترط عليه المالك استيفاء المنفعة بنفسه ، ونقل الإجماع في التذكرة
عليه ، وقيده جملة من الأصحاب منهم العلامة والمحقق الشيخ علي وغيرهم ، بأنه لا
يسلم العين إلى المستأجر الثاني الا بإذن المالك ، والا لكان ضامنا لها ، واعترضه
المحقق الأردبيلي فقال : ما عرفت دليله ، والظاهر عدم الاشتراط ، وعدم الضمان
بدونه ، للأصل وللاذن بالاستيجار.
وقد سبقه الى ذلك شيخنا الشهيد على ما نقل عنه في
المسالك ، فإنه قوى الجواز من غير ضمان ، قال : لأن القبض من ضروريات الإجارة
للعين ، وقد حكم بجوازها والأذن في الشيء إذن في لوازمه ، ورد بمنع كون القبض من
لوازمها لإمكان استيفاء المنفعة بدونه ، أقول : الأظهر في الاستدلال على ذلك هو
الاستناد الى الأخبار الدالة على جواز الإجارة ممن استأجر وقد تقدمت في كتاب
المزارعة ، فإن إطلاقها ظاهر في عدم هذا الاشتراط ، وتقييدها بما ذكروه يحتاج الى
دليل واضح ، وليس فليس.
ويدل على ذلك خصوص ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن
علي بن جعفر (1) عن أخيه قال :
«سألته عن رجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت ما عليه؟ قال : ان كان اشترط أن لا
يركبها غيره فهو ضامن لها ، وان لم يسم فليس عليه شيء». والى هذا القول مال أيضا
في المسالك استنادا إلى الصحيحة المذكورة ، وحينئذ فله أن يؤجرها بأقل مما استأجر
أو ما ساواه بلا خلاف.
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 291 ح 7 ، التهذيب ج 7 ص 215 ح 24 ، الوسائل
ج 13 ص 258 ح 6.
وانما الخلاف في جواز الإجارة بالأكثر فالمشهور ذلك ،
قال بعض محققي متأخري المتأخرين والأصل والقاعدة وأدلة جوازها تقتضي جوازها بأكثر
من الأجرة ولو كان بجنسها أيضا وان لم يحدث حدثا من عمارة وشبهها ، انتهى.
ونقل جملة من المتأخرين الخلاف هنا عن الشيخ في المسكن
والأجير والخان قال في التذكرة : قال الشيخ : لا يجوز أن يوجر المسكن ولا الخان
ولا الأجير بأكثر مما استأجره إلا أن يوجر بغير جنس الأجرة أو يحدث ما يقابل
التفاوت ، وكذا لو سكن بعض الملك لم يجز أن يؤجر الباقي وعلى هذا النهج كلام
المحقق وغيره ، والمفهوم من كلام المختلف أن موضع الخلاف أعم من هذه المذكورات ،
قال في الكتاب المذكور : قال الشيخان : إذا استأجر شيئا لم يجز أن يؤجره بأكثر مما
استأجره به الا أن يحدث فيه حدثا من مصلحة ونفع إذا اتفق الجنس ، وبه قال المرتضى
ظاهرا ، انتهى.
وقد تقدم تحقيق الكلام في المقام بما لا يحوم حوله نقض
ولا إبرام في كتاب المزارعة ، (1) وان كان محله انما هو هذا الكتاب ،
الا أنه جرى القلم به ثمة استطرادا فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه.
الخامسة : المشهور بين
الأصحاب أنه لو استأجره ليحمل عليه متاعا الى موضع معين بأجرة في وقت معين فان قصر
عنه نقص من أجرته شيئا جاز ، ولو شرط سقوط الأجرة ان لم يوصله فيه لم يجز وكان له
أجرة المثل ، قال الشيخ في النهاية : من اكترى من غيره دابة على أن يحمل له متاعا
الى موضع بعينه في مدة من الزمان ، فان لم يفعل ذلك نقص من أجرته كان ذلك جائزا ما
لم يحط بجميع الأجرة ، وان أحاط الشرط بجميع الأجرة كان الشرط باطلا ، ولزمه أجرة
المثل ونحوه كلام ابن الجنيد ، وكلام ابن البراج وغيرهما الا أن ظاهر كلام ابن
الجنيد أنه متى أحاط الشرط بالأجرة كملا وجب القضاء بالصلح فلا تسقط الأجرة كلها
ولا بأخذها جميعا ، وظاهر العلامة في المختلف ـ ونقل عن ابنه فخر المحققين أيضا ـ
__________________
(1) ج 21 ص.
بطلان العقد ، لبطلان الشرط ، فتجب
أجرة المثل سواء أو صلة في المعين أم غيره ، وسواء أحاط بالأجرة أم لا ، ولا يخفى
ما فيه ، فإنه اجتهاد في مقابلة النص ، كما سيظهر لك إنشاء الله تعالى.
وقال ابن إدريس : والأولى عندي أن العقد صحيح ، والشرط
باطل ، لأن الله تعالى قال (1) «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» وهذا عقد فيحتاج في فسخه الى دليل ،
والشرط إذا انضم إلي عقد شرعي صح العقد ، وبطل الشرط ، إذا كان غير شرعي وأيضا لا
دليل على ذلك من كتاب ولا سنة متواترة ولا إجماع منعقد ، ولم يورد أحد من أصحابنا
هذه المسئلة إلا شيخنا في النهاية ، لا أنها تضمنت التواتر وغيره.
أقول : ما ذكره ابن إدريس جيد على أصله الغير الأصيل ،
والذي يدل على ما ذكره الشيخ ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمد بن مسلم (2) قال : سمعت
أبا جعفر عليهالسلام يقول : انى
كنت عند قاض من قضاة المدينة فأتاه رجلان فقال أحدهما : اني اكتريت من هذا دابة
ليبلغني عليها من كذا وكذا الى كذا وكذا فلم يبلغني الموضع فقال القاضي لصاحب
الدابة : بلغته الى الموضع؟ قال : لا قد أعيت دابتي فلم تبلغ فقال له القاضي :
فليس لك كراء إذا لم تبلغه الى الموضع الذي اكترى دابتك اليه ، قال عليهالسلام فدعوتهما الي
فقلت للذي اكترى ليس لك يا عبد الله أن تذهب بكراء دابة الرجل كله ، وقلت للآخر :
يا عبد الله ليس لك أن تأخذ كراء دابتك كله ولكن انظر قدر ما بقي من الموضع وقدر
ما ركبته فاصطلحا عليه ففعلا».
هذا صورة الخبر في الفقيه ، وفيه برواية الكتابين
الأخيرين حذف ونقصان وإخلال بالمعنى المذكور في هذا المنقول.
__________________
(1) سورة المائدة ـ الآية 1.
(2) الفقيه ج 3 ص 20 ح 72 و 32 ، الكافي ج 5 ص 290 ح 4 ،
التهذيب ج 7 ص 214 ح 23 ، الوسائل ج 13 ص 253 ح 1.
وما رواه المشايخ المذكورون أيضا في الموثق عن محمد
الحلبي (1) «قال كنت قاعدا
عند قاض من القضاة ، وعنده أبو جعفر عليهالسلام جالس ، فأتاه
رجلان فقال أحدهما : اني تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعا الى بعض المعادن
فاشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا ، لأنها سوق أتخوف أن يفوتني ، فإن
احتسبت عن ذلك حططت من الكرى عن كل يوم احتبسه كذا وكذا ، وانه حبسني عن ذلك الوقت
كذا وكذا يوما فقال القاضي : هذا شرط فاسد وفه كراه ، فلما قام الرجل أقبل الي أبو
جعفر عليهالسلام فقال : شرطه
هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه».
وأنت خبير بأن الرواية الأولى من هاتين الروايتين وان
استدل بها الأصحاب للشيخ كما ذكرناه ، الا أن الظاهر أنه لا دلالة فيها عند التأمل
، إذ غاية ما تدل عليه أنه إذا شرط عليه أن يوافي به الى موضع معين في يوم معين صح
ذلك ، فلو لم يفعل وجب الصلح بإسقاط بعض الأجرة بنسبة ما تركه من الموضع ولم يبلغه
فيه ، ولا دلالة فيها على أجرة المثل أيضا نعم الرواية الثانية ظاهرة الدلالة على
المطلوب.
وأما ما يظهر من المسالك ـ وقبله الشيخ المحقق الشيخ علي
من الحكم ببطلان الإجارة هنا ، قال في المسالك بعد ذكر المصنف الحكم المذكور كما
قدمنا ذكره عن الأصحاب : هذا قول الأكثر ، ومستنده روايتان صحيحة وموثقة عن محمد
بن مسلم والحلبي عن الباقر عليهالسلام ويشكل بعدم
تعيين الأجرة لاختلافهما على التقديرين كما لو باعه بثمنين على تقديرين ، ومن ثم
ذهب جماعة إلى البطلان ويمكن حمل الأخبار على الجعالة إلى آخر كلامه ـ ففيه أن
عموم أدلة وجوب الوفاء بالعقود ووجوب الوفاء بالشروط كتابا وسنة مما تقضي بالصحة
في هذا العقد ، وما ادعاه من البطلان بهذه الجهالة لا دليل عليه ، بل الدليل واضح
في خلافه كالخبر المذكور ، ومثله صحيحة أبي حمزة (2) عن أبي جعفر عليهالسلام قال : سألته
عن الرجل يكتري
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 290 ح 5 ، التهذيب ج 7 ص 214 ح 22 ، الفقيه ج
3 ص 22 ح 3273 ، الوسائل ج 13 ص 253 ح 2.
(2) الكافي ج 5 ص 289 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 214 ح 20 ، الوسائل
ج 13 ص 249 ح 1.
الدابة فيقول : اكتريتها منك الى مكان
كذا وكذا فان جاوزته فلك كذا وكذا زيادة وسمى ذلك قال : لا بأس به كله». وهي مع
صحتها صريحة في عدم اشتراط ما ادعاه من العلم ، وعدم الضرر بمثل هذه الجهالة ،
وتمسكه في البطلان بما لو باعه بثمنين على تقديرين مردود ، بأنه وإن قيل :
بالبطلان في ذلك إلا أن مقتضى الأخبار الصحة كما تقدم تحقيقه في كتاب البيع ، وهو
مؤيد لما ذكرناه هنا وبه يظهر أن ما ذكراه من التنزيل على الجعالة لا موجب له ،
ولا ضرورة تدعو اليه ، على أنه لا معنى لقوله عليهالسلام في الرواية «ما
لم يحط بجميع كراه» إذ الظاهر كما ذكره بعض المحققين هو صحة هذا الشرط في الجعالة
، ولو كانت جعالة لم يتجه هذا الاستثناء ، ويؤيد ما ذكرناه أيضا ما صرح به جملة منهم
من الصحة في قولهم إن خطته روميا فلك كذا ، وإن خطته فارسيا فلك كذا وقولهم إن
عملت هذا العمل اليوم فلك درهمان ، وإن عملته في غد فلك درهم ، كما سيأتي تحقيق
ذلك إنشاء الله تعالى.
وبالجملة فان كلا من الفعلين المردد بينهما في هذه
المواضع المعدودة ، معلوم ، وأجرته معلومة ، والواقع لا يخلو منهما ، فلا مانع من
الصحة ، والمعلومية على هذا الوجه كافية ، بمقتضى ما ذكرناه من الاخبار في البيع ،
والإجارة ، ودعوى الزيادة على ذلك بحيث يحكم بالبطلان مع عدمها يتوقف على الدليل ،
وليس فليس والله سبحانه العالم.
السادسة : اختلف
الأصحاب فيما لو قال : آجرتك كل شهر بكذا فقيل : بالبطلان مطلقا لجهالة العوضين
المقتضية للغرر إذ لا يلزم من مقابلة جزء معلوم من المدة بجزء معلوم من العوض كون
مجموع العوضين معلومين ، فان العوض هنا المجموع ، وهو مجهول وانما عليه اجرة المثل
فيما سكن ، لعدم صحة الإجارة والى هذا القول ذهب ابن إدريس والمختلف والمسالك
وغيرهم ، وقيل : ان الإجارة تصح في شهر وتبطل في الباقي وله أجرة المثل ان سكن وهو
المنقول عن الشيخين في المقنعة والنهاية ، وبه صرح في اللمعة والشرائع وغيرهم ،
والوجه فيه أن الشهر
معلوم وكذا أجرته فلا مانع من الصحة
فيه ، نعم يبطل الزائد لعدم انحصاره في وجه معين ، وأن الأجرة تابعة له ، ورجح
المحقق الأردبيلي الصحة مطلقا في المسئلة ، حيث قال بعد ذكر القولين المذكورين ،
وهيهنا احتمال ثالث ، وهو الصحة في كل ما جلس ، واشتراط العلم بحيث يمنع من هذا
غير معلوم ، ولا ضرر ولا غرر ، إذ كلما جلس شهرا يعطى ذلك ، ونصفه في نصفه ، وعلى
هذا انتهى وهو جيد ، ووجهه معلوم مما قدمناه في سابق هذه المسئلة من الأخبار
المذكورة ، والعلل المأثورة.
أقول : ويظهر من كلام ابن الجنيد هنا القول بذلك ، حيث
قال على ما نقله في المختلف : وقال ابن الجنيد : ولا بأس أن يستأجر الدار كل شهر
بكذا وكل يوم بكذا ، ولا يذكر نهاية الأجل ، ولو ذكرها عشرين سنة أو أقل أو أكثر
جاز ذلك ، انتهى ، وهو ظاهر كما ترى في القول بالصحة ، ولم أقف على من نقله عنه في
كتب الاستدلال كالمسالك وغيره ولا أشار اليه ، وإنما المشهور في كتبهم نقل القولين
المذكورين.
وكيف كان فإنك قد عرفت في مواضع مما قدمناه في المباحث
السابقة أن الحق الحقيق بالاتباع وان كان قليل الاتباع هو الوقوف في موارد الأحكام
على النصوص ، وعدم الالتفات إلى ما اشتهر بينهم من القواعد التي زعموها أصولا حتى
ردوا لأجلها الأخبار ، وارتكبوا فيها التأويلات البعيدة والى القول بالصحة هنا
أيضا يميل صاحب الكفاية ، وقد عرفت قوته.
وقد اختلفوا أيضا في ما لو قال : ان عملته اليوم فلك
درهمان ، وان عملته في غد فلك درهم ، فقيل : بالصحة وهو اختيار الشرائع واللمعة
تبعا للخلاف ، حيث قال في الكتاب المذكور : إذا استأجره لخياطة ثوب ، وقال : ان
خطت اليوم فلك درهم ، وان خطت في الغد فلك نصف درهم ، صح العقد فيهما ، لأن
الأصل جواز ذلك ، والمنع يحتاج الى
دليل ، وقوله عليهالسلام (1) «المؤمنون عند
شروطهم». وفي أخبارهم ما يجرى مثل هذه المسئلة بعينها منصوصة (2) وهي أن يستأجر
منه دابة على أن يوافي به يوما بعينه على أجرة معينة ، فان لم يواف به ذلك اليوم
كان أجرتها أقل من ذلك ، وان هذا جائز» ، وهذا مثلها بعينها سواء ، وقال في
المبسوط : صح العقد فيهما ، فان خاطه في اليوم الأول كان له الدرهم ، وان خاطه في
الغد كان له أجرة المثل ، وهو ما بين الدرهم والنصف ، ولا ينقص من النصف الذي سمى
، ولا يبلغ الدرهم ، قال في المختلف : وهذا القول الذي اختاره في المبسوط قول أبي
حنيفة.
وقال ابن إدريس : يبطل العقد وتبعه عليه أكثر المتأخرين
كالمحقق الثاني والشهيد الثاني في المسالك ، والعلامة في المختلف ، وغيرهم اعترض
في المختلف على كلام الشيخ في الخلاف ، فقال : وقول الشيخ بالأصل ممنوع ، إذ يترك
لقيام معارض ، وفرق بين صورة النزاع وصورة النقل ، لأن صورة النقل أوجب عليه أن
يوافي به في يوم بعينه ، وشرط ان لم يفعل أن ينقص من أجرته شيئا ، وصورة النزاع لم
توجب شيئا معينا فتطرقت الجهالة إليه ، بخلاف الأول انتهى.
وفيه أن الأصل الذي تمسك به الشيخ أصل رزين ، وهو
العمومات الدالة على صحة العقود والشروط كتابا وسنة ، وما عارضه به ليس الا مجرد
دعواهم الجهالة في الصورة المذكورة ، ونحوها مما تقدم ، والدليل على الأبطال بنحو
هذه الجهالة غير ثابت ، بل المعلوم من الأدلة كما عرفت إنما هو خلافه ، وما ادعاه
من الفرق أيضا بين صورة النزاع والنقل ضعيف أيضا ، لأن المنازع في تلك المسئلة
إنما تمسك بما تمسك به هنا من الجهالة ، ورد الرواية بذلك كما عرفت ، ومرجع
الرواية إلى أنه إن أدخله في ذلك الوقت المعين فله كذا ، وان تخلف عنه فله
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 371 ح 1503.
(2) الكافي ج 5 ص 290 ح 5 ، الوسائل ج 15 ص 30 ح 4 وج 13 ص 253
ح 1.
أنقص ، وهذا عين ما نحن فيه.
نعم ما ذكره في المبسوط ضعيف بما أورده عليه في المختلف
، حيث قال : وتفصيل الشيخ في المبسوط ضعيف ، لأن العقد ان صح فله المسمى ، وان بطل
فله أجرة المثل ، ويكون وجوده كعدمه ، كسائر العقود الباطلة ، انتهى.
ولو قال : ان خطته فارسيا فلك درهم ، وان خطته روميا فلك
درهمان ، وفسر الرومي بدرزين ، والفارسي بدرز واحد ، فالخلاف المتقدم ، الا ان ابن
إدريس قال هنا بعد الحكم بالبطلان : وان قلنا هذه جعالة كان قويا ، فإذا فعل الفعل
المجعول عليه استحق الجعل ، واعترضه في المختلف بأنه ليس بجيد ، لتطرق الجهالة إلى
الجعل ، فيجب أجرة المثل وأجاب في المسالك بأن مبنى الجعالة على الجهالة في العمل
والفعل كمن رد عبدي فله نصفه ، ومن رد عبدي فله كذا ، ومحله غير معلوم ، وكذا من
رد عبدي من موضع كذا ، فله كذا أو من موضع كذا فله كذا مع الجهالة فيهما انتهى ،
والكل نفخ في غير ضرام ، لما عرفت من التحقيق في المقام والله سبحانه العالم.
السابعة : قد تقدم أنه
لا خلاف ولا إشكال في أن الأجير يملك الأجرة بنفس العقد ، ولكن لا يجب التسليم الا
بتسليم العين المستأجرة ان كانت الإجارة على عين ، أو تمام العمل ان كانت على عمل
، وإنما الكلام هنا في أنه هل يتوقف استحقاق المطالبة بالأجرة بعد العمل على تسليم
العين المعمول فيها كثوب يخيطه ، وشيء يصلحه ، ونحو ذلك؟ وفيه أقوال ثلاثة ، فقيل
: بعدم التوقف وهو اختيار الشرائع والإرشاد وغيرهما ، وقيل : بالتوقف على التسليم
، وهو مختار المسالك وقبله المحقق الثاني في شرح القواعد ، وقيل : بالفرق بين ما
إذا كان العمل في ملك الأجير ، فيتوقف على التسليم أو ملك المستأجر ، فلا يتوقف
لأنه بيده تبعا للملك ، وهذا القول نقله في الشرائع وعلل القول الأول بأن العمل
إنما هو في ملك المستأجر أو ما يجرى مجراه ، بمعنى أنه وإن وقع في ملك الأجير الا
أنه لما
كانت يد الأجير كيد المستأجر لأنه
مأذون عنه ، ووكيل عنه أو وديعة عنده فكأنه عمل وهو في يد المستأجر ، فيكون ذلك
كافيا عن التسليم ، ولهذا لو عمل وهو في يد وكيله أو ودعيه فالظاهر أنه لا يحتاج
الى التسليم.
والأظهر عندي الاستناد الى عموم أدلة وجوب الوفاء
بالعقود ، والشروط وخصوص ما تقدم من الأخبار الدالة على أنه لا يجف عرقه حتى تعطيه
أجرته.
وبالجملة فإن العمل هو الذي استحق به الأجير الأجرة عقلا
ونقلا ، والمعاوضة إنما وقعت عليه خاصة ، والعين في يد الأجير أمانة لا يضمنها إلا
مع التعدي والتفريط ، فلا اعتبار بتسليمها وعدمه ، سواء كان العمل في ملك أحدهما
أولا ، ولا يسقط بعدم تسليمها مع عدم ضمانها شيء من الأجرة المستحقة بالعمل ،
والروايات شاهدة بذلك.
وعلل الثاني كما ذكره في المسالك حيث اختاره بأن
المعاوضة ، لا يجب على أحد المعاوضين فيها التسليم الا مع تسليم الآخر ، قال :
فالأجود توقف المطالبة بها على تسليم العين ، وان كان العمل في ملك المستأجر ،
وعلى هذا النهج كلام المحقق المتقدم ذكره.
وفيه أولا أن ما ذكره من هذه القاعدة في المعاوضة وان
اشتهر في كلامهم ، الا أنه لا دليل عليه ، بل الظاهر إنما هو خلافه ، كما تقدم
تحقيقه في المطلب الثالث في التسليم من الفصل الرابع في أحكام العقود من كتاب
التجارة.
وثانيا ما عرفت من دليل القول الأول.
وأما القول الثالث فوجهه ظاهر مما ذكر ، ولكنه مردود بما
ذكرناه في دليل القول الأول ، قال في المسالك : وما نقله من الفرق قول ثالث بأنه
ان كان في ملك المستأجر لم يتوقف على تسليمه ، لأنه بيده تبعا للملك ، ولأنه غير
مسلم للأجير حقيقة ، وإنما استعان به في شغله كما يستعين بالوكيل ، وان كان في ملك
الأجير توقف ، وهو وسط أوجه ، من إطلاق المصنف والأوسط الذي اخترناه أوجه ، انتهى.
وفيه ما عرفت وإلى ما رجحناه من القول الأول يميل كلام المحقق
الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال بعد قول المصنف ويستحق الأجير الأجرة بالعمل
وان كان في ملكه ما لفظه : دليل مختاره ومختار الشرائع وغيره هو استحقاق الأجير
طلب أجرته بعد إتمام العمل ، وان لم يكن سلم العين إلى المستأجر وكان العمل في ملك
المستأجر بل في بيت الأجير ، ولا يتوقف على تسليم العين ، نعم يجب عليه تسليم
العين عند الطلب مع عدم المانع الشرعي فلو منع كان غاصبا ضامنا والظاهر أنه لا
يستحق المستأجر المنع منه حتى يتسلم فلو منع كان غاصبا ظالما ، وهو خلاف ما مضى من
أنه يملك الأجرة بمجرد العقد ، إذ قد قام الدليل العقلي والنقلي على عدم جواز منع
المالك عن ملكه ، واستحقاقه الطلب ، وقد خرج قبل العمل بالإجماع ونحوه ، وبقي
الباقي ويؤيده وجوب أجرة العقارات قبل الاستيفاء ، وعموم وخصوص أدلة لزوم الوفاء
بالعقود والشروط.
والأخبار مثل حسنة هشام بن الحكم (1) عن أبي عبد الله
عليهالسلام «في الجمال
والأجير قال : لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته». وقد مرت واختار البعض مثل المحقق
الثاني والشهيد الثاني عدم استحقاقه الا بعد تسليم العين وان كانت في ملك المستأجر
، الا أن يكون في يد المستأجر لأنه لا يلزم العوض ولم يستحق طلبه في المعاوضات إلا
بالتسليم ، وتسليم المنفعة إنما هو بتسليم العين كما هو في البيع.
وفيه تأمل يعلم مما تقدم ، ولا نسلم الكلية ، ولا نعرف
له دليلا خصوصا إذا كان العوض منفعة بعد ثبوت الملك ، وفي البيع أيضا ان كان دليل
فهو متبع لذلك ، والا نمنع هناك أيضا ، كما فيما نحن فيه ، على أنه قد يقال : أنه
لما كانت بيد الأجير فهي بمنزلة كونه بيد المستأجر لأنه وكيل ومأذون في وضع اليد
أو وديعة ، فكأنه فعل العمل والعين في يد المستأجر انتهى ، كلامه وهو كلام شاف
وإنما نقلناه بطوله لتقف على جودة محصوله ، والله سبحانه العالم.
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 289 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 211 ح 11 ، الوسائل
ج 13 ص 246 ح 1.
الثامنة : قد صرحوا بأن
كل موضع يبطل فيه عقد الإجارة يجب فيه أجرة المثل ، مع استيفاء المنفعة أو بعضها ،
سواء زادت عن المسمى أو نقصت ، وعلل ذلك بأن مقتضى البطلان رجوع كل عوض الى مالكه
، كما إذا بطل البيع يرجع البائع إلى مبيعه ، والمشتري الى ثمنه ، ولا يملك أحد
منهما مال الآخر ولا منافعه إلا أنه في الإجارة لما كان أحد العوضين المنفعة ومع
استيفائها من العين المستأجرة يمتنع ردها وجب الرجوع إلى عوضها ، وهو أجرة المثل ،
كما إذا تلفت احدى العينين في المعاوضة الباطلة ، وإلا للزم الظلم على المؤجر بأخذ
منفعة ماله بغير عوض ، لأنه لم يعطها مجانا وإنما أعطاها بأجرة ، لكنها من حيث
بطلان العقد لم تسلم له ، فلا بد من العوض ، والمرجع فيه الى العرف المعبر عنه
بأجرة المثل ، سواء زادت عن المسمى أم نقصت ، أم ساوت.
وهذا ظاهر مع الجهل ببطلان العقد ، أما مع العلم
بالبطلان وأن الأجير لا يستحق بذلك أجرة ، ولا يجب على المستأجر دفعها ، فان عمل
الأجير والحال هذه يرجع الى التبرع بعمله ، فلا يستحق شيئا بالكلية ، كمن خاط ثوبا
لشخص بغير إذنه بالأجرة ، فإنه لا حق له شرعا ، ولو دفع المالك له شيئا ، والحال
هذه فإنه يكون من قبيل سائر العطايا التي يستحق صاحبها الرجوع فيها مع بقاء العين
، وعدم الرجوع مع الإتلاف ، لأنه سلطه عليه باختياره كما صرحوا به في أمثاله.
والظاهر أن الأجير العالم كالغاصب في تصرفه ، فيترتب
عليه الضمان ، بل قيل : ان المفهوم من كلامهم الضمان مع الجهل أيضا ، وهو مشكل من
حيث الجهل ، واعتقاد صحة العقد ، وأنه إنما قبض بعقد صحيح ، ظاهرا ـ في اعتقاده
وظهور فساده لا يكون موجبا لذلك ، فإنه غير مكلف بما في الواقع ونفس الأمر ، من
صحة أو بطلان أو تحليل أو تحريم أو طهارة أو نجاسة أو نحو ذلك.
ونقل في المسالك عن الشهيد : أنه استثنى عن أصل الحكم
المذكور ما لو
كان الفساد باشتراط عدم الأجرة في
العقد أو متضمنا له كما لو لم يذكره أجرة فإنه حينئذ يقوى عدم وجوب الأجرة لدخول
العامل على ذلك قال : وهو حسن ، أقول : لقائل أن يقول بالنسبة إلى الصورة الأولى
وهو اشتراط عدم الأجرة كأن يقول آجرتك نفسي لأعمل لك كذا وكذا بغير أجرة ، ان مرجع
هذا الكلام الى التبرع بالعمل ، فلا أثر لقبول المستأجر ولا إذنه الذي هو شرط في
صحة العقد ، وأيضا فإن هذا الشرط مناف لمقتضى معنى آجرتك كما تقدم في تعريف
الإجارة من أنها عقد ثمرته تمليك المنفعة الخاصة بعوض ، أو عبارة عن نفس الثمرة ،
فالأظهر أنه ليس بعقد فاسد ، بل اذن في العمل بغير أجرة ، والا فلا معنى لهذا
اللفظ بل لا يمكن أن يتلفظ به عالم ، عاقل الا أن يقصد التجوز بلفظ آجرتك ،
وإخراجه عن معناه ، وهذا بحمد الله تعالى ظاهر.
وأما بالنسبة إلى الصورة الثانية وهي ترك ذكر الأجرة ،
فإنه يمكن أن يقال : ان ترك ذكرها لا يدل على الرضا بعدمها ، بل هو أعم إذ قد يكون
لنسيان أو جهل أو اعتقاد أنه معلوم مقرر أو أنه ينصرف إلى العادة والعرف ، ويؤيده
أن الأصل عدم التبرع ، ولهذا حكموا مع عدم صحة العقد بأجرة المثل ، بناء على ذلك
حتى يعلم المخرج عنه بدليل.
وبالجملة فإن الترك أعم والعام لا دلالة على الخاص ، وفي
المسالك بعد أن نقل عن الشهيد ما قدمنا ذكره قال : وربما استشكل الحكم فيما لو
كانت الإجارة متعلقة بمنفعة عين كدار مثلا ، فاستوفاها المستأجر بنفسه ، فان
اشتراط عدم العوض إنما كان في العقد الفاسد الذي لا أثر لما تضمنه من التراضي فحقه
وجوب أجرة المثل ، كما لو باعه على أن لا ثمن عليه.
ثم أجاب بأنه مع اشتراط عدم الأجرة في الصورة المذكورة
يكون ذلك من قبيل العارية دون عقد الإجارة ، قال : فإن الإعارة لا يختص بلفظ مخصوص
، بل ولا يتوقف على لفظ مطلقا ، ولا شك أن اشتراط عدم الأجرة صريح في الأذن
في الانتفاع بغير عوض ، فلا يترتب
عليه ثبوت عوض أجرة.
أقول : وهذا إيراد آخر على القول المذكور من غير الجهة
التي قدمنا ذكرها ، ثم انه قال : أما لو كان مورد الإجارة منفعة الأجير فعمل بنفسه
مع فسادها ، توجه عدم استحقاقه بشيء ظاهر ، لأنه متبرع بالعمل ، وهو المباشر
لإتلاف المنفعة ، ثم أنه أورد على ذلك ما لو كان عمله بأمر المستأجر فإنه يستحق
أجرة المثل من حيث الأمر ، كما في كل أمر يعمل ، نعم لو كان عمله بغير سؤال
المستأجر وأمره فإنه لا يستحق شيئا بالكلية ، لتحقق التبرع حينئذ.
أقول : الظاهر أن هذا الإيراد وما اشتمل عليه من التفصيل
بين أمر المستأجر وعدمه انما يتم في الصورة الثانية ، وهو عدم ذكر الأجرة في العقد
نفيا ولا إثباتا ، والا ففي صورة اشتراط عدم الأجرة فإنه وان أمره المستأجر وأذن
له الا أنه لا أثر له مع اشتراطه على نفسه عدم الأجرة الراجع الى كونه متبرعا
بالعمل كما عرفت.
ثم انه قال في المسالك بعد ذلك : فان قلت : أي فائدة في
تسميته عقدا فاسدا مع ثبوت هذه الأحكام وإقامته مقام العارية ، قلت : فساده بالنسبة
إلى الإجارة بمعنى عدم ترتب أحكامها اللازمة لصحيح عقدها ، كوجوب العمل على الأجير
ونحوه ، لا مطلق الأثر ، انتهى.
التاسعة : قد صرح
الأصحاب بأنه يكره استعمال الأجير قبل أن يقاطعه ، والظاهر أنه لا خلاف فيه ، ويدل
عليه من الأخبار ما رواه في الكافي والتهذيب عن مسعدة بن صدقة في الموثق (1) عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «من كان
يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فلا يستعملن أجيرا حتى يعلمه ما أجره» الحديث.
وعن سليمان بن جعفر الجعفري في الصحيح (2) قال : «كنت مع
الرضا عليهالسلام في بعض الحاجة
وأردت أن أنصرف الى منزلي ، فقال لي : انطلق معي فبت عندي
__________________
(1 و 2) الكافي ج 5 ص 289 ح 4 ، التهذيب ج 7 ص 211 ح 11 وص 212
ح 12 ، الوسائل ج 13 ص 245 ح 1 و 2.
الليلة ، فانطلقت معه فدخل الى داره
مع المعتب فنظر الى غلمانه يعملون بالطين أواري الدواب وغير ذلك ، إذا معهم أسود
ليس منهم ، فقال : ما هذا الرجل معكم؟ قالوا : يعاوننا ونعطيه شيئا قال : قاطعتموه
على أجرته؟ فقالوا : لا ، هو يرضى منا بما نعطيه ، فأقبل عليهم يضربهم بالسوط ،
وغضب لذلك غضبا شديدا فقلت : جعلت فداك لم تدخل على نفسك ، فقال : انى نهيتهم عن
مثل هذا غير مرة أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه على أجرته : واعلم أنه ما من أحد
يعمل لك شيئا من غير مقاطعة ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعاف على أجرته إلا ظن أنك
نقصت أجرته فإذا قاطعته ثم أعطيته حمدك على الوفاء ، فان زدته حبة عرف ذلك لك ورأى
أنك قد زدته».
وأنت خبير بأن ظاهر هذين الخبرين إنما هو التحريم ، إلا
أنهم عليهمالسلام كثيرا ما
يؤكدون في النهي عن المكروهات بما يوهم إلحاقها بالمحرمات ، وفي المستحبات بما
يكاد يدخلها في حيز الواجبات ، وعلى هذا فربما يستفاد من الخبر الثاني جواز الضرب
على فعل المكروه ، ويحتمل أن يقال : ان ذلك وإن كان مكروها إلا أنه من حيث مخالفة
أمر المولى حيث أنه عليهالسلام نهاهم عن ذلك
مرارا كان ما فعلوه محرما ، فيجوز التأديب عليه بلا إشكال.
بقي الكلام في أنه في الشرائع عد من جملة ما يكره هنا
تضمينه ، إلا مع التهمة ، حيث قال : ويكره أن يستعمل الأجير قبل أن يقاطعه على
الأجرة ، وأن يضمن إلا مع التهمة ، والأول من هذين الفردين قد عرفت الكلام فيه.
وأما الثاني فهو لا يخلو من الإجمال الموجب لتعدد
الاحتمال ، ولهذا قال في المسالك : فيه تفسيرات : الأول : أن يشهد شاهدان على
تفريطه ، فإنه يكره تضمينه للعين إذا لم يكن متهما.
الثاني : لو لم يقسم عليه بينة ، وتوجه عليه اليمين يكره
تحليفه ليضمنه كذلك.
الثالث : لو نكل عن اليمين المذكورة وقضيناه بالنكول
حينئذ كره تضمينه كذلك.
الرابع : على تقدير ضمانه وان لم يفرط كما إذا كان صائغا
على ما سيأتي يكره تضمينه حينئذ مع عدم تهمته بالتقصير.
الخامس : أنه يكره له أن يشترط عليه الضمان بدون التفريط
على القول بجواز الشرط.
السادس : لو أقام المستأجر شاهدا عليه بالتفريط كره أن
يحلف معه ليضمنه مع عدم التهمة.
السابع : لو لم يقض بالنكول يكره له أن يحلف ليضمنه
كذلك.
والأربعة الأول سديدة ، والخامس مبني على صحة الشرط ،
وقد بينا فساده وفساد العقد به ، والأخيران فيهما أن المستأجر لا يمكنه الحلف إلا
مع العلم بالسبب الذي يوجب الضمان ، ومع فرضه لا يكره تضمينه ، لاختصاص الكراهة
بعدم تهمته فكيف مع تبين ضمانه ، انتهى.
أقول : لا يخفى ان الكراهة حكم شرعي يتوقف على الدليل
كالوجوب والتحريم والاستحباب ، ومتى ثبت للإنسان حق شرعي بالبينة أو اليمين أو
النكول أو نحو ذلك لا وجه لكونه يكره له أخذه من غير دليل ، يدل على ذلك وبه يظهر
ما في أكثر هذه المواضع المعدودة.
والأظهر عندي هو حمل ذلك على الصائغ والقصار ونحوهما ممن
يعطى الأجرة ليصلح فيفسد أو يتلف ، فان الروايات قد اختلف في تضمينهم مع دعوى
التلف ، وعدم التفريط في الإفساد فأكثر الأخبار على تضمينهم مع التفريط.
وجملة من الأخبار قد فصلت بين كونه مأمونا فلا ضمان عليه
، ومتهما فضمنه ، وبعض الأخبار يدل على عدم التضمين مطلقا ، وطريق الجمع بين
الجميع كراهة التضمين إلا مع التهمة ، وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك إنشاء الله
تعالى ،
وبسط الأخبار والأقوال في المطلب
الثالث في الأحكام.
وأما قوله : ان الخامس مبني على صحة الشرط ، وقد بينا
فساده ، ففيه إنا قد بينا صحته بما هو ظاهر للناظر ، كما تقدم في الموضع الخامس من
المطلب الأول ، إلا أن فيه ما عرفت من أن مجرد صحته وجوازه لا يستلزم الكراهة ، بل
الأصل صحته وجوازه من غير كراهة كغيره من الأمور الجائزة المباحة حتى يقوم دليل
على الكراهة ، والله سبحانه العالم.
العاشرة : قد صرحوا بأن
المنفعة تملك بنفس العقد ، كما تملك الأجرة ، ووجهه ظاهر مما تقدم في المسئلة
الثانية من مسائل هذا المطلب ، من اقتضاء صحة المعاوضة ولزومها نقل الملك في كل من
العوضين من أحدهما إلى الآخر كالبيع ، وسائر عقود المعاوضات اللازمة والإجارة من
جملتها ، فالمنفعة هنا منتقل إلى المستأجر بنفس العقد ، وان كان انما يستوفيها
تدريجا وشيئا فشيئا وهو غير مناف للملك ، إذ لا يشترط في التمليك وجود المملوك ،
وملك المستأجر لها هنا على حسب ملك الموجر لها ، فإنه لا إشكال في أنه مالك لمنفعة
نفسه ، وليس ذلك إلا باعتبار صحة تصرفه فيها كتصرفه في العين بالنقل الى غيره ،
فكذا المستأجر باعتبار صحة استيفائها ونقلها الى غيره ، ونحو ذلك من لوازم الحقوق
المالية.
وبالجملة فإن ملك المستأجر لها على حسب ملك الموجر لها ،
ولم يخالف في ذلك الا بعض العامة ، حيث زعم أن المستأجر لا يملك المنفعة بالعقد ،
لأنها معدومة ، بل يملكها على التدريج شيئا فشيئا بعد وجودها ، وحدوثها على ملك
الموجر ، وجعل ملك الأجرة تابعا لملك المنفعة ، فلا يملكها المؤجر إلا تدريجا كذلك
، وضعفه أظهر من أن يخفى ، وكما يملك الموجر الأجرة بمجرد العقد كذلك يملك
المستأجر المنفعة بمجرده ، ولا فرق بينهما إلا بأن تسليم الأجرة موقوف على دفع
العين المستأجرة إن وقع الاستيجار على منفعة تلك العين ، أو إتمام العمل إن وقع
على العمل كما تقدم ، والمنفعة يجب تسليمها مع الطلب
بتسليم العين التي يراد الانتفاع بها
إن كان كذلك ، أو عمل الأجير إن كان الاستيجار على عمله.
قيل : ويمكن جواز منع كل واحد منها عما في يد صاحبه الذي
انتقل اليه حتى يتسلم حقه ، كما قيل في البيع والشراء ، وهذا في غير العمل ،
كالعين المستأجرة للانتفاع من دار ودابة ونحوهما ، أما العمل كالخياطة فإنه يجب
عليه العمل ، ولا يجب تسليم الأجرة اليه إلا بعد كماله ، والفرق بينهما أن العمل
مقدور للعامل ، فيعمل ثم يأخذ حقه ، بخلاف المنفعة فإنها إنما تستوفي باستعمال
المستأجر مع مضي الزمان ، وليس على المؤجر إلا تسليم العين وقد فعل ، فيترتب عليه
وجوب دفع الأجرة ، وحينئذ فيمكن ما ذكره ، إلا أنك قد عرفت ما فيه في كتاب البيع ،
وقد تقدمت الإشارة إليه أيضا في المسئلة السابقة من مسائل هذا المطلب.
الحادية عشر : قيل : يشترط
اتصال مدة الإجارة بالعقد ، فلو أطلق أو عين شهرا متأخرا عن العقد بطل العقد ، وهو
منقول عن المبسوط والخلاف ، وعن أبى الصلاح متابعة الشيخ في الفرد الثاني ، ونقل
عن الشيخ الاحتجاج على ما ذكره في كل من الفردين بأن عقد الإجارة حكم شرعي ، ولا
يثبت إلا بدلالة شرعية ، وليس على ثبوت الإجارة في الموضعين المذكورين دليل ، فوجب
أن لا يكون صحيحا.
واحتج أبو الصلاح ـ على الموضع الذي تبع فيه الشيخ ـ بأن
صحة الإجارة تتوقف على التسليم.
وأجيب عن حجة الشيخ بأن الدليل موجود ، وهو الأدلة
العامة كتابا وسنة على وجوب الوفاء بالعقود ، والأصل ، وعن حجة أبي الصلاح بالمنع
من توقف الصحة في مطلق الإجارة على التسليم ، بل هو عين المتنازع ، ومحل البحث
سيما مع ما عرفت من أصالة الصحة ، وعموم الأدلة الدالة على الصحة حتى يقوم دليل
على خلاف ذلك.
وأورد على هذا القول في المسالك أيضا بأن شرط الاتصال
يقتضي عدمه ، لأن كل واحد من الأزمنة التي تشتمل عليها مدة الإجارة معقود عليه ،
وليس متصلا منها بالعقد ، سوى الجزء الأول ومتى كان اتصال باقي الأجزاء غير شرط ،
فكذا اتصال الجميع ، انتهى ،
وظني ضعفه ، فان الزمان المشترط في العقود المحدد عندهم
بتعيين زمان الابتداء والانتهاء أمر واحد لا تعدد فيه ، واتصاله وانقطاعه إنما هو
بالنظر الى طرفيه لا إلى أجزائه المركب منها ، والا لم يتم وصفه بالاتصال أو
الانقطاع كما لا يخفى ، وبالجملة فإني لا يظهر لي وجه صحة ما أورده ، والمشهور هو
الجواز مع عدم الاتصال ، وهو الأظهر لما عرفت.
أما مع الإطلاق فيبتني على ما سيأتي في القول الثاني
وقيل : ان الإطلاق يقتضي الاتصال ، فلو لم يعين مبدأ اقتضى العقد كون ابتدائها
متصلا بالعقد ، فيكون أولها من آخر العقد ، لأنه مقتضى العرف ، حتى ادعى بعضهم
بأنه صار وضعا عرفيا ، فكأنه قال آجرتك شهرا يكون أوله حين الفراغ من العقد ، وهو
جيد ان ثبت ما ادعوه من دلالة العرف على ما ذكروه ، وإلا بطل للجهالة ، وظاهر جملة
من الأصحاب كالمختلف والمسالك ذلك ، وهو يؤذن بالشك في دلالة العرف على ما ادعوه ،
قال في المسالك : والأقوى الجواز مع الإطلاق ، إن دل العرف على اقتضائه الاتصال ،
ونحوه في المختلف.
وأما القول بأن الإطلاق يقتضي الاتصال مطلقا كما يظهر من
عبارتي الشرائع والإرشاد ، ففيه أنه أعم من ذلك ، والعام لا يدل على الخاص ، الا
أن يكون هناك قرينة على إرادته فلا نزاع.
وبالجملة فالقول بذلك على إطلاقه ضعيف ، وأضعف منه دعوى
الجواز مع الإطلاق مطلقا ، كما يظهر من ابن إدريس ، وابن البراج ، قال في المختلف
:
قال الشيخ : إذا استأجر الدار شهرا
ولم يقل من هذا الوقت وأطلق بطلت ، وقال ابن البراج وابن إدريس : بجوازه ،
والتحقيق أن نقول ان كان العرف في الإطلاق يقتضي الاتصال ، فالحق ما قاله ابن
البراج ، وان كان لا يقتضيه فالحق ما قاله الشيخ ، لحصول الجهالة على التقدير
الثاني دون الأول ، انتهى وهو جيد.
واحتمل المحقق الأردبيلي في صورة الإطلاق مع عدم اقتضاء
العرف الاتصال الصحة أيضا وقال : يحتمل الصحة والاختيار الى العامل ما لم يؤد الى
التأخير المخل عرفا مثل أن يستأجر العمل من دون تعيين ، والأصل وعموم الأدلة دليله
، ثم قال : وكذا لا يبعد البطلان مع الإطلاق ، ومع اقتضائه الاتصال أو القيد إذا
كان المنفعة بعد العقد مستحقة للغير ، لأنه كإجارة المستأجرة ، ويحتمل في الإطلاق
كون الابتداء بعد خروج تلك المدة خصوصا مع جهل الموجر ، فينصرف كون أولها إلى
المدة التي تجوز إجارته ، عملا بمقتضى عموم أدلة صحة الإجارة ، وأصل عدم اشتراط
كون أولها من حين العقد ، وخرج ما لم تكن تلك المدة مستحقة ، باقتضاء العرف مع
الإمكان ، وبقي الباقي فتأمل انتهى.
أقول : هذا ملخص كلامهم في هذه المسئلة وأنت خبير بأني
لم أقف على نص في هذا المقام ، لا في أصل المسئلة ، ولا في شيء من فروعها ، الا
أن الظاهر من جملة من الروايات الواردة في نكاح المتعة ، هو أن الإطلاق يقتضي
الاتصال.
ففي رواية أبان بن تغلب (1) عن أبي عبد
الله عليهالسلام كيف أقول إذا
خلوت بها ، قال تقول : أتزوجك متعة على كتاب الله تعالى وسنة نبيه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) لا وارثة ،
ولا موروثة كذا وكذا يوما ، وإن شئت كذا وكذا سنة بكذا وكذا درهما ، وتسمى من
الأجر ما تراضيتما عليه ، قليلا كان أو كثيرا فإذا قالت : نعم فهي امرأتك ، وأنت
أولى الناس بها». الحديث.
وفي رواية هشام بن سالم (2) قال : قلت :
كيف نتزوج المتعة قال : تقول :
__________________
(1 و 2) الكافي ج 5 ص 455 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 265 ح 70
الوسائل ج 14 ص 466 ح 1 و 3.
يا أمة الله أتزوجك كذا وكذا يوما
بكذا وكذا درهما فإذا مضت تلك الأيام كان طلاقها في شرطها».
وفي معناها رواية أخرى له أيضا ونحوها روايات آخر أيضا
والتقريب فيها أنها على تعددها قد اشتركت في إطلاق العقد ، وعدم ذكر الاتصال مع
حكمهم عليهمالسلام بصحة العقد ،
وترتب الأحكام عليه ، فلو لا أن الإطلاق يقتضي الاتصال لما حكموا عليهمالسلام بالصحة في ذلك
، سيما رواية أبان وقوله فيها فإذا قالت : نعم فهي امرأتك فإنها صريحة في أنه بعد
تمام العقد تترتب المنفعة ، وحل النكاح ، ومن المعلوم أن دائرة النكاح أضيق من
الإجارة ، لما تكاثر في الأخبار من الحث على الاحتياط في الفروج لما يترتب عليه من
النسل الى يوم القيمة ، وهم قد اعترفوا بأن دائرة الإجارة أوسع من البيع ، فكيف
النكاح ، والمتعة في التحقيق من قبيل المستأجرة كما يشير إليه جملة من أحكامها ،
وبه يظهر قوة ما قدمنا نقله عن الفاضلين ، ويمكن حمل كلام ابن البراج وابن إدريس
عليه بأنهما إنما جوزا العقد مع الإطلاق لذلك ، وان لم يصرحا كما صرح المحقق ، وما
ادعوه من الجهالة على تقدير الإطلاق ليس في محله ، وكذا ما قيل : من أنه عام والعام
لا يدل على الخاص ، فان الجميع لا تعويل عليه ، بعد ما عرفت من دلالة النصوص على
ما ذكرنا ، ومما يؤيد القول المشهور من الصحة لو عين شهرا متأخرا عن العقد ما ورد
مثله في المتعة أيضا في رواية بكار بن كردم (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يلقى
المرأة فيقول لها : زوجيني نفسك شهرا ولا يسمى الشهر بعينه ، ثم يمضي فيلقاها بعد
سنين ، قال ، فقال له شهره ان كان سماه ، وان لم يكن سماه فلا سبيل له عليها ، وهي
صريحة في المراد ، والله سبحانه العالم.
الثانية عشر : إذا أسلم
المؤجر العين المستأجرة للانتفاع بها ومضت مدة يمكن الانتفاع فيها ، واستيفاء
المنفعة ولم ينتفع المستأجر بها لزمت الأجرة ،
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 466 ح 4 ، التهذيب ج 7 ص 267 ح 75.
للزوم العقد ، وتسليم الموجر ، وإنما
التقصير في ترك الانتفاع من المستأجر ، ويؤيد ذلك ما رواه في الفقيه والكافي عن
إسماعيل بن الفضل (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل استأجر
من رجل أرضا فقال آجرتها كذا وكذا على أن أزرعها فان لم أزرعها أعطيك ذلك ، فلم
يزرع الرجل فقال : له أن يأخذه بماله ، ان شاء ترك ، وإن شاء لم يترك».
قالوا : ولا فرق في ثبوت الأجرة عليه بالتسليم ، ومضى
المدة المذكورة بين كون الإجارة صحيحة أو فاسدة ، بناء على القاعدة المشهورة عندهم
من أن كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، ولكن مع الفساد يلزم أجرة المثل عما فات
من المنافع في يده.
قالوا : وفي حكم التسليم ما لو بذل العين فلم يأخذها
المستأجر حتى مضت المدة التي يمكن الاستيفاء فيها ، فإنها تستقر الأجرة ، الا أنه
لا بد من تقييده بالصحيحة ، والوجه فيه من حيث عدم القبض وظهور بطلان الإجارة ،
واستقرار الأجرة في الصحيح أو المثل إنما يثبت من حيث صحة العقد الموجب لذلك ، وهو
هنا غير حاصل قالوا وإذا استأجره لقلع ضرسه فمضت المدة التي يمكن إيقاع ذلك فيها ،
فلم يقلعه المستأجر استقرت الأجرة ، أما لو زال الألم عقيب العقد سقطت الأجرة ،
والوجه في الأول ظاهر ، لأن الأجير سلم نفسه للعمل ، وامتنع المستأجر من غير عذر ،
فإن الأجرة تستقر بالعقد والتمكين ، والوجه في الثاني بطلان الإجارة بالبرء وزوال
الألم ، لأن متعلق الإجارة الموجب للصحة هو تحصيل المنفعة واللازم هنا إنما هو
الضرر بإدخال الألم المنهي عنه شرعا وعرفا ، فلا يصح الاستيجار هنا كما لا يصح
الاستيجار على قطع يده من غير سبب موجب لذلك ، نعم لو كان ثمة سبب كما إذا كانت
مستأكل يخاف من سريان الضرر الى الصحيح منها ، فإنه يجوز والله سبحانه العالم.
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 265 ح 7 ، الفقيه ج 3 ص 155 ح 5 مع اختلاف
يسير الوسائل ج 14 ص 490 ح 1 وج 13 ص 258 ح 1.
الثالثة عشر : لو استأجر
شيئا فعرض له التلف فاما أن يكون للجميع أو البعض قبل القبض أو بعده أو لم يعرض له
التلف ، ولكن عرض له نقصان في المنفعة أو عرض له ما يوجب زوال المنفعة كلها.
فههنا صور : الأولى : أن تتلف العين المستأجرة لاستيفاء
المنافع منها قبل القبض ، ولا إشكال في بطلان الإجارة ، لأن استيفاء المنفعة أحد
العوضين ، فإذا فات قبل قبضه بطل كما في البيع ، فاستيفاء المنفعة هنا كالقبض في
البيع ، كما أن استيفاء البعض كقبض بعض المبيع.
الثانية : ان تتلف العين بعد القبض وقبل استيفاء شيء عن
المنافع ، والحكم كما تقدم من بطلان الإجارة ، لفوات أحد العوضين.
الثالثة : أن يكون التلف بعد القبض واستيفاء بعض المنفعة
والحكم فيها أنه يصح فيما قبضه ، ويبطل فيما بقي ومثله ما لو تجدد فسخ الإجارة
والحال كذلك ، ويرجع من الأجرة ما قابل المتخلف ، ويقسط المسمى على جميع المدة.
قال في المسالك : وحيث يبطل البعض يقسط المسمى على جميع
المدة ، ويثبت للماضي ما قابله منها ، ثم أن كانت متساوية الأجزاء فظاهر ، والا
فطريق التقسيط أن يقوم أجرة مثل جميع المدة ثم تقوم الأجزاء السابقة على التلف
وينسب الى المجموع فيؤخذ من المسمى بتلك النسبة.
الرابعة : أن يتلف بعض العين خاصة فالحكم في التالف كما
تقدم ويتخير عندهم في الباقي بين الفسخ لتبعيض الصفقة وبين إمساك الحصة بقسطها من
الأجرة.
الخامسة : لو لم يتلف شيء منها ولكن نقصت المنفعة بحدوث
عيب كان ينقص ماء الأرض وماء الرحى أو عرجت الدابة أو مرض الأجير أو نحو ذلك ،
والحكم أنه يثبت الفسخ للمستأجر كما هو المشهور.
قال ابن البراج : إذا استأجر رحى وآلتها وقل الماء الى
ان أضر ذلك بالطحن ، وهو يطحن على ذلك نظرت في الضرر ، فان كان ضررا فاحشا كان له
ترك الإجارة ، وان كان غير فاحش ،
كانت الإجارة لازمة له ، قال في المختلف : بعد نقل ذلك عنه ، والأجود ان له الفسخ
، سواء كان الضرر فاحشا أو غير فاحش ، لأنه يتضرر ، وقد قال عليهالسلام (1) «لا ضرر ولا
ضرار».
ثم أنه قال : فإن استأجر رحى بآلتها فانكسر أحد الحجرين
أو الدوارة كان له فسخ الإجارة ، فإن عمل صاحب الرحى ما انكسر من ذلك وفسد قبل
الفسخ لم يكن له بعد ذلك الفسخ ، ولكن يرفع عنه من الأجير بحساب ذلك ، فان اختلفا
في مبلغ العطلة كان القول قول المستأجر الا أن ينكر الموجر ذلك ، والأجود أن له
الفسخ بتبعض الصفقة ، انتهى.
السادسة : ما لو عرض له ما يوجب زوال المنفعة كما لو
استأجر أرضا للزراعة الا أنه قد استولى عليها الماء بحيث لا ينحسر عنها مدة يمكن
فيها الزراعة ، والظاهر أنه لا إشكال في بطلان الإجارة ، لأن من شروط الإجارة ان
يكون للعين نفع يترتب عليها ، فكأنه استأجر ما لا نفع فيه ، فهو تضييع للمال ولو
كانت مما ينقطع عنها الماء أحيانا ، فإن علم مقدار ما ينقطع عنها الماء ، وتصلح للزراعة
، فالظاهر أنه لا إشكال في الصحة ، وإلا فلا للجهالة الموجبة للغرر ، والله سبحانه
العالم.
الرابعة عشر : قالوا :
يشترط تعيين المحمول بالمشاهدة أو الكيل أو الوزن والمراكب والمحمل وقدر الزاد ،
وليس له البدل مع الفناء الا بالشرط ، ومشاهدة الدابة المركوبة أو وصفها وتعين وقت
المسير ليلا أو نهارا.
أقول : تفصيل البحث في هذه الجملة هو أن يقال ، لا ريب
في معرفة هذه المذكورات وتعيينها لترتفع بذلك الجهالة الموجبة للغرر الموجب
للبطلان في العقود ، فأما بالنسبة إلى المحمول على الدابة ، فلا بد في اعتباره
بأحد الثلاثة المذكورة في كل ما يناسبه ، الا أن بعض محققي المتأخرين صرح بأنه لا
يكفي
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 292 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 164 ح 4 ، الفقيه ج
3 ص 45 ح 2 ، الوسائل ج 17 ص 341 ح 3.
ذلك على الإطلاق كما هو ظاهر كلامهم ،
فأوجب في المشاهد امتحانه باليد تخمينا لوزنه ان كان في ظرف ، لما في الأعيان من
الاختلاف في الثقل والخفة مع التفاوت في الحجم ، وأوجب في المعتبر بأحد الأمرين
الآخرين أنه لا بد من ذكر جنسه ، للاختلاف الفاحش باختلاف الأجناس ، وان اشتركت في
كونها مكيلة أو موزونة قال : فان القطن معتبر من جهة انتفاخه ودخول الريح فيه
فيزداد ثقله في الهواء والحديد يجتمع على موضع من الحيوان ، فربما عقره ، وتحميل
بعض الأجناس أصعب من بعض ، والحفظ في بعضها كالزجاج أصعب ، وملخص الكلام في ذلك هو
أنه لما كان الضابط التوصل في معرفة المجهول إلى ما يرفع الجهالة ، فلا بد من ذكر
الجنس مع التقدير بأحد الأمرين المذكورين ، ليرتفع الجهالة بحذافيرها وهو حسن.
وأما بالنسبة إلى المراكب والمحمل فللاختلاف بالثقل
والخفة فلا بد في الراكب من الاعتبار بالمشاهدة أو الوزن مع عدمها ، قالوا : وفي
الاكتفاء فيه بالوصف من فخامة وضحامة وطول وقصر ونحو ذلك وجهان أجودهما ذلك مع
افادته للوصف التام الرافع للجهالة ، ولا بد في المحمل بكسر الميم الثانية كمجلس ،
واحد المحامل ، وهو شقان يوضعان على البعير ، يجلس فيهما المتعادلان ، من الاعتبار
بالمشاهدة ، أو الوزن مع ذكر الطول والعرض ، لاختلافها في السهولة والصعوبة ، الا
أن يكون متعارفا معلوما لا جهالة فيه فيصرف إليه الإطلاق ، وكذا الحكم أيضا في
الآلات التي يصحبها المسافر ، كالقربة والسفرة ، والإداوة ونحو ذلك ، فإنه لا يكفي
مجرد ذكرها ، بل لا بد من معرفة قدرها وجنسها الا مع جريان العادة بالحمل من غير
مضايقة في ذلك.
وأما بالنسبة إلى الزاد فلما عرفت أيضا فلا بد من تعيين
قدره ، لترتفع الجهالة وأما أنه ليس له بدله بعد الفناء الا مع الشرط ، فان
المتبادر من الزاد هو ما يستغنى به المسافر في طريقه ويكفيه وهو قد اشترطه ،
والمراد بفنائه يعنى بالأكل
المعتاد ، وحينئذ لو فنى والحال هذه
فإنه ليس له إبداله ، لأن مرجع تقصيره الى فعله بنفسه ، أما لو كان فناه بنحو آخر
كضيافة غير معتادة أو أكل غير معتاد أو سرقة أو سقط منه في الطريق فإنهم صرحوا بان
له إبداله تنزيلا للإطلاق على المعتاد المتعارف ، ويكون حكم البدل حكم المبدل في
ذلك ، هذا كله مع عدم شرط الأبدال ، وإلا فلا إشكال في الأبدال عملا بالشرط
المذكور.
وأما بالنسبة الى مشاهدة الدابة أو وصفها مع عدم
المشاهدة فلما في عدم ذلك من الجهالة لما علم من اختلاف الدواب في القوة والضعف
والحزونة والسهولة وزاد بعضهم أيضا اشتراط الذكورة والأنوثة إذا كانت للركوب ، فان
الأنثى أسهل والذكر أقوى ، قال : ويحتمل العدم ، لان التفاوت بينهما يسير فلم يكن
معتبرا في نظر الشارع ، هذا فيما لو كانت الإجارة معينة.
أما لو كانت في الذمة بمعنى أنه استأجر للحمل على دابة
إلى الموضع الفلاني فإنه لا يحتاج إلى وصف ، ولا مشاهدة ، بل الواجب عليه حمله ،
وإيصاله إلى الموضع المذكور كيف اتفق على وجه لا يتضرر به ، فيضمن مع الضرر.
وأما بالنسبة إلى تعيين وقت السير ، فلاختلاف الناس في
ذلك الوقت الموجب للجهالة ، فإن كانت هناك عادة يبنى عليها في سلوك تلك الطريق وجب
الرجوع إليها واكتفى بها لانصراف الإطلاق إليها ، وإلا وجب تعيين الوقت لما
ذكرناه.
نعم يشكل التعيين إذا اختلف السير ولم يمكن التعيين
إليهما كطريق الحج فان مقتضى تحقيق بيان السير عدم صحة الاستيجار فيها ، الا أن
يستقر العادة بسير مخصوص في تلك السنة ، بحسب ما يناسبها عادة ، من السير ، ولهذا
أنه منع في التذكرة من الاستيجار في الطريق التي ليس لها منازل مضبوطة ، إذا كانت
مخوفة لا يمكن ضبطها باختيارها ، والله سبحانه العالم.
الخامسة عشر : قد صرح جملة من
الأصحاب بأن كلما يتوقف عليه توفية المنفعة فهو على الموجر كالقتب والزمام والحزام
والسرج أو البردعة في الدابة ،
ورفع المحمل ، وشد الأحمال وحطها ،
والقائد والسائق إن شرطه مصاحبته ، والمداد في الكتابة والخيوط في الخياطة ونحو
ذلك ، وعلل بتوقف المنفعة الواجبة عليه بالعقد على ذلك فيجب من باب المقدمة ، وقيل
: ان الواجب على المؤجر انما هو العمل ، لأن ذلك هو المقصود من اجارة العين ، أما
الأعيان فلا تدخل في مفهوم الإجارة على وجه يجب أداءها لأجلها إلا في مواضع نادرة
، ثبتت على خلاف الأصل ، كالرضاع ، والاستحمام ، والخيوط للخياطة ، والصبغ للصباغة
، والكش للتلقيح ، وحينئذ فالأقوى الرجوع الى العرف ، فان انتفى أو اضطرب فعلى
المستأجر لما عرفت.
أقول : الظاهر هو التفصيل في المقام بأن يقال : ان بعض
هذه الأشياء على الموجر بلا اشكال ولا خلاف فيما أعلم ، مثل عمارة الحيطان والسقوف
والأبواب ونحو ذلك ، في إجارة المساكن ، ومجرى المياه ونحو ذلك في إجارة الأرضين ،
والرحل والقتب ونحو ذلك مما تقدم في إجارة الدابة ، وضابطه كلما جرت العادة
للتوطئة به للركوب وبعضها على المستأجر بغير خلاف يعرف ، ولا اشكال يوصف كالحبل
لاستقاء الماء ، والدلو والبكرة ، وبعض قد وقع الخلاف فيه كالخيوط للخياطة ،
والمداد للكتابة ، والصبغ للصباغة ، والكش للتلقيح ، وقد جزم في الشرائع بأنها على
الموجر ، ومثله في اللمعة بالتقريب المتقدم ، حيث قالا كلما يتوقف عليه توفية
المنفعة فعلى الموجر ، ومثل له في النهاية من ما قدمنا ذكره في صدر المسئلة ، ومثل
له في الشرائع بالخيوط في الخياطة والمداد في الكتابة ، وظاهر المسالك والروضة
الرجوع في ذلك الى العرف ، فان انتفى أو اضطرب فعلى المستأجر بالتقريب المتقدم ،
وجزم في الشرائع بدخول المفتاح في إجارة الدار معللا له بأن الانتفاع يتم به ،
وهذا منه ، بناء على ما قدمنا نقله عنه من الكلية.
وفيه أن التعليل بتمامية الانتفاع لا يتم كليا لأنه قد
صرح سابقا على هذا الكلام في الشرط الرابع بأنه يلزم مؤجر الدابة كلما يحتاج إليه
في إمكان الركوب من الرحل والقتب وآلته والحزام والزمام ، قال : وفي رفع المحمل
وشده تردد ،
أظهره اللزوم ، وحينئذ فكيف يتم ما
ذكره هنا كليا.
ويؤيده ما صرحوا به من أن المنقول لا يدخل في إجارة
الثابت الا مع العادة أو التبعية ، ولهذا قال في المسالك بناء على ما قدمنا نقله
عنه : عن عدم العمل بالكلية المذكورة ، والأولى التعليل بأنه تابع للغلق المثبت ،
بل هو كالجزء منه ، وهذا بخلاف مفتاح القفل ، فلا يجب تسليمه ولا القفل لانتفاء
التبعية ، انتهى.
ثم انه قد صرح في المسالك بأنه يعتبر القائد والسائق مع
العادة لهما ، أو لأحدهما ، وكذا يجب إعانته على الركوب والنزول ، اما برفعه ان
كان يمكنه ذلك وهو من أهله ، أو ببرك الجمل ان كان عاجزا أو قادرا ، ولكن لا تقتضي
له العادة بذلك ، كالمرأة والشيخ الكبير والمريض ، ولو كان المستأجر قويا يتمكن من
فعل ذلك بنفسه لم يجب إعانته ، كل ذلك مع اشتراط المستأجر على الأجير المصاحبة أو
قضاء العادة بها ، أو كانت الإجارة للركوب في الذمة.
أما لو كانت مخصوصة بدابة معينة ليذهب بها حيث شاء ولم
يقض العادة بذلك ، فجميع الأفعال على الراكب ، انتهى ولا بأس به والله سبحانه
العالم.
السادسة عشر : لو أجر
الدابة لدوران الدولاب افتقر الى مشاهدته ، أو وصفه بما يرفع الجهالة ، وكذا يشترط
معرفة البئر بالمشاهدة أو الوصف ان أمكن ، وكذا لا بد من تقدير العمل بالزمان كيوم
ونحوه ، الا أن يستأجر على أن يملأ بركة معينة معلومة بالمشاهدة أو المساحة.
قالوا : ولا يكفي المشاهدة في سقي البستان عن تعيين
الزمان ، لحصول الاختلاف بقرب عهده بالماء ، وعدمه ، وبرودة الهواء وحرراته ، ولو
آجر الدابة لحرث جريب معلوم ، فان كانت الإجارة لحرث مدة كفى تعيين المدة وتقديرها
، ولا يعتبر معرفة الأرض ، ولكن لا بد من تعيين الدابة المستعملة في الحرث إما
بالمشاهدة أو الوصف الرافع للجهالة ، والا فلا بد من مشاهدة الأرض أو وصفها.
وعن التذكرة : الاعتبار بالمشاهدة ،
ولم يكتف بالوصف محتجا بأنها تختلف فبعضها صلب ، فيصعب حرثه على البقر ومستعملها
وبعضها رخو يسهل ، وبعضها فيه حجارة يتعلق بها السكة ، ومثل هذا الاختلاف انما
يعرف بالمشاهدة ، دون الوصف ، وأنت خبير بما فيه ، فان ما ذكره من هذه الأشياء
إنما تعرف بالوصف لا المشاهدة ، لأن المشاهدة انما تقع على ظاهر الأرض ، وهذه
الأشياء انما هي في باطنها والوصف آية عليها ، لأن المالك قد يطلع من باطنها على
ما لا يظهر بالمشاهدة لظاهرها ، فيصفها بذلك.
وبالجملة فإن ما ذكره من الاطلاع على هذه الأشياء لا
يظهر بالمشاهدة ، وإنما يظهر بالعمل والحرث في الأرض ، وهو فرع صحة الإجارة ،
ويمكن التوصل الى ذلك باختيارها بالحفر في مواضع من الأرض على وجه يرفع الغرر.
السابعة عشر : إذا استأجر
دابة للسير عليها فهنا أحكام ، منها : أنه لو أسرع في السير عليها زيادة على عادة
أمثالها بحسب نوعها ووصفها في تلك الطريق ، أو ضربها زيادة على العادة ، أو كبحها
باللجام من غير ضرورة ، ضمن ، لأن ذلك تعد باعتبار حمل الإطلاق على المعتاد ،
وظاهر التذكرة على ما نقل عنها المنع من الضرب مطلقا ، حيث حكم بالضمان بالضرب
مطلقا محتجا بأن الإذن مشروط بالسلامة ، وفيه أن مقتضى الإجارة الوقوف على العادة
، وعدم حصول التعدي إلا بتعديها ، والضرب المعتاد لا يستلزم ضمانا.
والمراد بكبح الدابة باللجام جذبها به ، لتقف عن السير ،
قال في الصحاح : كبحت الدابة إذا جذبتها إليك باللجام ، لكي تقف ، ولا تجري.
ومنها أنه لو مات الدابة انفسخ العقد ، ان وقع على دابة
معينة ، بخلاف ما لو كان المستأجر عليه في الذمة ، بمعنى كون الإجارة مطلقة
كالاستيجار على الركوب ، فإنه يجب عليه ركابه على دابة غيرها الى تمام المقصد ،
ولا تتعين المطلقة بالتعيين والتسليم بحيث يكون الركوب منحصرا فيها ، ولهذا يجوز
للمالك تبديلها.
والظاهر ان تعذر استيفاء المنفعة المشروطة على الوجه
المتعارف لمرض أو ضعف أو نحو ذلك في معنى الموت أيضا ، فينفسخ الإجارة في صورة
التعيين ، ويحتمل الأبدال خصوصا مع التراضي ، والظاهر أيضا أنه لا خصوصية للدابة
في الصورة المذكورة ، بل يجرى الحكم في الراكب والحمل المعين ، فينفسخ العقد
بتلفهما ، ومنه تلف الصبي المرتضع في صورة الاستيجار لارضاعه.
ومنها أن ظاهر كلام جملة من الأصحاب أنه لا بد من تعيين
الراكب إذا كان الاستيجار للركوب بمشاهدته أو وصفه ، وعلل باختلاف الأغراض في
الراكب.
قال في التذكرة بعد ان اشترط المعرفة بالمشاهدة ونقل عن
بعض الشافعية الاكتفاء بالأوصاف الرافعة للجهالة ما صورته : والأصل في ذلك أن نقول
: إذا أمكن الوصف التام القائم مقام المشاهدة كفى ذكره عنها ، والا فلا ، ثم أنه
يجوز للمستأجر أن يركب غيره إذا كان الاستيجار للركوب من غير تخصيص أحد بكونه هو
الراكب ، الا أنهم صرحوا بأنه يشترط في الغير الذي له أن يركبه أن يكون مساويا أو
أخف ، ولو كان أثقل لم يجز إلا بالاذن ، والا كان ضامنا فيأثم ويضمن ، وكذا في
صورة التخصيص بأحد ، لو خالف أثم وضمن.
أقول : الحكم بما ذكروه في صورة التخصيص ظاهر للمخالفة ،
وأما في صورة الإطلاق فاشتراط ما ذكروه مشكل ، لصحيحة علي بن جعفر (1) عن أخيه أبي
الحسن عليهالسلام قال : «سألته
عن رجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت ما عليه؟ قال : ان كان اشترط أن لا يركبها
غيره ، فهو ضامن لها ، وان لم يسم فليس عليه شيء». فإنه كما ترى ظاهرة في أنه مع
الإطلاق يجوز له إركاب غيره مساويا أو أخف أو أثقل ، فإن ترك الاستفصال دليل
العموم في المقام ، كما
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 291 ح 7 ، التهذيب ج 7 ص 215 ح 24 ، الوسائل
ج 13 ص 255 ح 1.
هو متفق عليه بينهم ، وهي أيضا ظاهرة
في عدم ما ذكروه من اشتراط المشاهدة أو الوصف في الراكب كما قدمنا نقله عنهم
بالتقريب المذكور ، والظاهر جريان هذه الأحكام المذكورة في استيجار البيت للسكنى
من إطلاق وتقييد ، وما يتفرع عليهما بتقريب ما تقدم.
ومنها أن الظاهر من كلام جملة من الأصحاب أنه يجب على
المستأجر سقي الدابة وعلفها فلو أهمل ضمن ، بمعنى أن ذلك لازم له من ماله بدون
الشرط من غير ان يرجع به على المالك.
وظاهر جملة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والمحقق
الثاني في شرح القواعد وجوب ذلك على المالك الا مع الشرط ، لأن الأصل عدم الوجوب
على غيره ، ثم ان كان حاضرا معه والا استأذنه في الإنفاق ورجع عليه أو الحاكم مع
تعذره ، حسب ما تقدم في الرهن والوديعة.
وظاهرهم الاتفاق مع عدم حضور المالك على وجوب قيام
المستأجر بذلك ، لوجوب حفظ الدابة من حيث كونها نفسا محترمة ، ووجوب حفظ مال الغير
إذا كان تحت يده ، وإنما الخلاف في الرجوع على المالك بالتفصيل المتقدم وعدمه ،
والمسئلة لا يخلو من اشكال ، لعدم دليل واضح من النصوص في هذه المجال ، وان كان
القول الثاني لا يخلو من رجحان لتأيده بالأصل ، ويمكن أن يستفاد ذلك من صحيحة أبي
ولاد الآتية في المقام إنشاء الله تعالى لقوله (1) عليهالسلام لما قال
السائل إني قد علفته بدراهم فلي عليه علفه ، فقال : عليهالسلام لا انك غاصب».
ومفهومه أنه لو لم يكن غاصبا فان له طلبه من المالك في الصورة المفروضة ، لأنه
إنما نفي استحقاقه للمطالبة من حيث الغصب ، الا أنه لا يخلو من خدش أيضا أقول :
والظاهر أن الكلام في نفقة الأجير كذلك ، وسيأتي الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى.
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 290 ح 6 ، الوسائل ج 13 ص 255 ح 1.
ومنها ما إذا استأجر دابة واستوفي حقه منها وأمسكها بعد
مضي المدة فهل الواجب عليه ردها وأنه مع إمساكها وعدم ردها يكون ضامنا لها
ولنفقتها ، أو أنه لا يجب عليه الرد وانما يجب عليه رفع اليد عنها إذا أراد صاحبها
استرجاعها؟ قولان : وقد مضى تحقيق الكلام في ذلك في الموضع الخامس من المطلب الأول
من هذا الكتاب.
ومنها أنه إذا استأجر دابة إلى موضع معين فتجاوز الى ما
زاد عليه فعليه أجرة المثل في الزيادة ، وضمان العين ان تلفت ، والأرش ان نقصت ،
لأنه غاصب وليس له الرجوع بما أنفق عليها مدة الغصب ، ولو اختلفا في القيمة فالقول
قول المالك مع يمينه ، أو بينته ، والأصل في هذه الأحكام ما رواه في الكافي في
الصحيح عن أبى ولاد (1) قال : «اكتريت
بغلا الى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي فلما صرت
قرب قنطرة الكوفة خبرت أن صاحبي توجه الى النيل فتوجهت نحو النيل ، فلما أتيت
النيل خبرت أنه قد توجه الى بغداد ، فأتبعته فلما ظفرت به وفرغت مما بيني وبينه
رجعت الى الكوفة ، وكان ذهابي ومجيء خمسة عشر يوما فأخبرت صاحب البغل بعذري وأردت
أن أتحلل منه ما صنعت ، وأرضيه فبذلت له خمسة عشر درهما فأبى أن يقبل فتراضينا
بأبي حنيفة ، فأخبرته بالقصة وأخبره الرجل ، فقال لي : وما صنعت بالبغل؟ قلت : قد
دفعته اليه سليما ، قال : نعم بعد خمسة عشرة يوما ، قال : فما تريد من الرجل قال :
أريد كرى بغلي فقد حبسها خمسة عشر يوما ، فقال : لا أرى لك حقا لأنه اكتراه إلى
قصر ابن هبيرة فخالف وركبه الى النيل ، والى بغداد ، فضمن قيمة البغل ، وسقط الكرى
، فلما رد الرجل البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكرى ، قال : فخرجنا من عنده وجعل
صاحب البغل يسترجع ، فرحمته بما أفتى به أبو حنيفة وأعطيته شيئا وتحللت منه ،
وحججت في تلك
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 290 ح 6 ، التهذيب ج 7 ص 215 ح 25 ، الوسائل
ج 13 ص 255 ح 1.
السنة فأخبرت أبا عبد الله عليهالسلام بما أفتى به
أبو حنيفة فقال : لي في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء مائها ، وتمنع الأرض بركتها
، قال : فقلت لأبي عبد الله عليهالسلام : فما ترى أنت
قال : أرى أن له عليك مثل كرى البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كرى البغل
راكبا من النيل الى بغداد ، ومثل كرى البغل من بغداد إلى الكوفة ، توفيه إياه ،
قال : فقلت جعلت فداك : قد علفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟ قال : لا ، لأنك غاصب ،
فقلت : أرأيت لو عتب البغل أو نفق أليس كان يلزمني ، قال : نعم قيمة البغل يوم
خالفته ، قلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز فقال : عليك قيمة ما بين الصحيح والمعيب
يوم ترده عليه ، قلت : فمن يعرف ذلك قال : أنت وهو ، إما أن يحلف هو على القيمة
فتلزمك ، وان رد اليمين عليك فحلفت على القيمة فيلزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل
بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين كرى كذا وكذا فيلزمك ، قلت : اني كنت أعطيته دراهم
ورضي بها وحللني فقال : إنما رضي بها وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم
، ولكن ارجع اليه وأخبره بما أفتيك به ، فان جعلك في حل بعد معرفته ، فلا شيء
عليك بعد ذلك ، قال : أبو ولاد فلما انصرفت من وجهي ذلك لقيت المكاري وأخبرته بما
أفتاني به أبو عبد الله عليهالسلام وقلت له : قل
ما شئت أعطيكه فقال : قد حببت الي جعفر بن محمد عليهالسلام ووقع في قلبي
له التفضيل. وأنت في حل وان أحببت أن أرد عليك الذي أخذته منك فعلت».
أقول : ما دل عليه الخبر من أن القول في القيمة مع التلف
قول المالك بيمينه ، خارج عن مقتضى القواعد الشرعية ، لأنه مدع ، ووظيفته البينة ،
ومع عدمها فالقول قول المستأجر بيمينه ، لأنه منكر ، ومن ثم اختلف الأصحاب هنا في
ذلك ، فذهب في النهاية إلى العمل بالخبر ، وجعل مقصورا على مورده ، وهو الدابة ،
وذهب ابن إدريس الى أن القول قول المستأجر لأنه منكر ، ولم يفرق بين الدابة وغيرها
، وتبعه المتأخرون كالفاضلين ونحوهما غيرهما ،
وأطرحوا الخبر من البين ، والمسئلة لا
تخلو من الاشكال ، وان كان ما ذهب اليه الشيخ لا يخلو عن قوة لصحة الخبر ، وصراحته
، فيخصص به عموم القاعدة المذكورة ، كما خصصوها في مواضع عديدة.
وما تضمنه الخبر من أنه مع التلف يضمن قيمة البغل يوم
خالفه يؤيد القول المشهور في المسئلة ، وهي ما إذا تعدى في العين المستأجرة فإنه
يضمن قيمتها وقت العدوان ، تنزيلا له منزلة الغاصب ، فإنه يضمن ، قيمة المغصوب يوم
الغصب.
وقيل ، انه يضمن أعلى القيم من حين العدوان إلى حين
التلف.
وقيل : قيمتها يوم التلف ، وما أفتى به أبو حنيفة في هذه
المسئلة مبني على مذهبه من أنه يملكها بالضمان ، فيذهب الضمان بالأجر ، وخالفه
الشافعي ووافق الإمامية ، وانما حكم عليهالسلام في الخبر
بأجرة المثل من الكوفة ، لأنه لم يقطع من الطريق المستأجر عليها شيئا ، لأنه عدل
عنها من قنطرة الكوفة إلى النيل ، فلا يستحق من المسمى شيئا ، ولو كان قد قطع منها
شيئا أخذ من الأجرة بالنسبة.
وفي الخبر أيضا دلالة على بطلان الصلح مع عدم تمكنه من
أخذ حقه ، لأن حقه هنا ثابت شرعا ولكن فتوى أبي حنيفة قد حال بينه وبين أخذه ، وهو
مما لا خلاف فيه ولا اشكال كما تقدم في كتاب الصلح ، والله سبحانه العالم.
الثامنة عشر : الظاهر أنه
لا خلاف بين الأصحاب بل وغيرهم في جواز إجارة الآدمي وان كان على كراهة بالنسبة
إلى إجارته نفسه ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في صدر هذا الكتاب ، ولا فرق
بين الحر والمملوك ، ولا بين الذكر والأنثى ، وأنه متى كانت أنثى فالظاهر أنه يحرم
على المستأجر منها جميع ما يحرم عليه قبل الإجارة ، الا أن العلامة في القواعد
والمحقق الثاني في شرحه قد صرحا باستثناء النظر إلى المملوكة بإذن المولى ،
واستشكل فيه بعض محققي متأخري المتأخرين ، لعموم الدليل ، فإنه ليس بعقد ولا تملك
، الا أن يجعل الاذن تحليلا وهو جيد.
وبالجملة فإن عقد الإجارة انما حلل الخدمة والعمل
وأباحهما ، وأما غيرهما مما هو محرم قبل الإجارة فإنه يبقى على تحريمه واختلفوا في
نفقة الأجير المستأجر للسعي في حوائج المستأجر فقيل : بأنها على الأجير وهو اختيار
العلامة في التذكرة والقواعد وشيخنا في المسالك ، وهو ظاهر المحقق الأردبيلي أيضا
، وهو مذهب ابن إدريس ، وعلل بأن العقد انما وقع على العمل بأجرة معينة ولم يقتضي
العقد سواها ، فإدخال غيرها في مقتضى العقد المذكور يحتاج الى دليل ، ولا دليل.
نعم لو كان ثمة عادة مستمرة أو قرينة صريحة أو شرط ذلك
على المستأجر فلا إشكال في ذلك ، وقيل : بأنها على المستأجر الا أن يشترطها على
الأجير ، وبه صرح في الشرائع والإرشاد وجماعة من الأصحاب أو لهم النهاية وعلل
باستحقاق المستأجر جميع منافعه المانع من النفقة ، لأنه متى كان زمانه مستوعبا
بالعمل للمستأجر لم يبق له زمان يحصل فيه ما يحتاج اليه من النفقة ، ورد بأن
استحقاق منافعه لا يمنع من وجوب النفقة في ماله الذي من جملته الأجرة.
واستدل ايضا على ذلك بما رواه الكليني والشيخ عن سليمان
بن سالم (1) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن رجل استأجر
رجلا بنفقة ودراهم مسماة على أن يبعثه إلى أرض ، فلما أن قدم أقبل رجل من أصحابه
يدعوه إلى منزله الشهر والشهرين فيصيب عنده ما يغنيه عن نفقة المستأجر ، فنظر
الأجير الى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافأه الذي يدعوه ، فمن مال
من تلك المكافاة؟ أمن مال الأجير أم من مال المستأجر؟ فقال : ان كان في مصلحة
المستأجر فهو من ماله ، والا فهو على الأجير ، وعن رجل استأجر رجلا بنفقة مسماة ،
ولم يفسر شيئا على أن يبعثه إلى أرض أخرى فما كان من مؤنة الأجير من غسل الثياب أو
الحمام فعلى من؟ قال على المستأجر».
ورده بعض محققي متأخري المتأخرين بضعف السند ، بالراوي
المذكور ، فإنه
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 287 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 212 ح 15 ، الوسائل
ج 13 ص 250 ح 1.
مهمل في كتاب الرجال ، وعدم الصراحة
في المدعى ، قال : بل ربما حملت على الشرط ، قال في المسالك بعد ذكر القول بالوجوب
على المستأجر والأقوى أنه كغيره لا يجب نفقته إلا مع الشرط ويمكن حمل الرواية مع
سلامتها عليه.
أقول : ولعل وجهه أن الاستيجار بالنفقة في قوة شرطها على
المستأجر وكيف كان فالرواية المذكورة لما فيه من الإجمال والتدافع فما اشتملت عليه
من المقال لا يخلو الاعتماد عليها من الاشكال.
وبيان ذلك أن مقتضى قوله في السؤال الأول ، وكذا في
الثاني استأجره بنفقته أن ما ينفقه في تلك المدة انما هو من ذلك المبلغ الذي وقع
الاستيجار به وجعله المستأجر نفقة له ، فلا يستحق الرجوع به لأنه في معنى المشروط
على المستأجر ، فيكون من مال المستأجر ، ومقتضى قوله في السؤال الأول ان كان في
مصلحة المستأجر فهو من ماله ، هو أن النفقة على المستأجر بمعنى أنه يرجع بها
الأجير على المستأجر ، لأن حاصل معنى الكلام المذكور أن الأجير بعد أن اضافه ذلك
الرجل الذي من أصحابه أراد أن يكافيه ، فنظر الى ما ينفقه على نفسه في تلك المدة لو
لم يضفه ، فدفعه إلى ذلك الرجل مكافأة له ، والامام عليهالسلام حكم بأنه ان
كان جلوسه في الضيافة لمصلحة المستأجر فما دفعه مكافأة على المستأجر يرجع به عليه
، والا فهو على الأجير ، بمعنى أنه لا يرجع به ، وهو وان كان ظاهرا فيما ادعاه
المستدل بالرواية ، إلا انه ينافيه ما تقدم في صدر الخبر من أنه استأجره بنفقة
ودراهم ، فان الظاهر أن المعنى فيه أنه استأجره بشيء ينفقه على نفسه ، ودراهم في
مقابلة السعي في عمله ، وتحصيل غرضه ، ومقتضاه أنه لا يرجع بما أنفقه سواء أكله أو
أعطاه مكافأة أو غيرها ، على أن تلك المكافاة انما كانت تبرعا من الأجير فهو من
ماله ، وهذه منافاة أخرى ، وظاهر الخبر أيضا اشتمل على ما لا يقوله الأصحاب من
الإجمال في النفقة المستأجر بها ، فإنهم يوجبون التعيين لرفع الجهالة ، ودفع
الغرر.
قال في التذكرة والقواعد لا يجوز الاستيجار بنفقته
وطعامه ما لم يعين.
وقال في التذكرة : ولا يجوز أرطال من الخبز لعدم جواز
السلم عندنا فيه ، فلا تجوز بالإجارة ، وقال في موضع آخر : إذا استأجر في موضع
أجيرا بطعامه وكسوته فان قدرا ذلك وعلماه صح العقد وان لم يقدراه بطل العقد الى أن
قال ولا فرق بين أن يستأجره بالنفقة والكسوة وبين أن يجعلهما جزء من الأجرة وإذا
استأجره بهما صح إجماعا ووصفهما كما يوصف في السلم وان لم يشترط طعاما ولا كسوة
فنفقته وكسوته على نفسه ، انتهى.
وبالجملة فالموافق لقواعدهم هو وجوب التعيين لدفع
الجهالة والغرر اللذين يوجبون الاحتراز عنهما في العقود.
بقي الكلام في السؤال الثاني «فإن حملت النفقة» وان كان
خلاف ظاهر الخبر على ما يدخل فيه أجرة غسل الثياب والحمام ونحو ذلك مما يحتاج إليه
الإنسان غالبا ، فينبغي حمل قوله على المستأجر على معنى أنها من النفقة التي
استوجر بها ، والا فلا معنى لكونها على المستأجر يرجع بها الأجير عليه ، مع كونه
استأجره بها ، وان حملت على أن المراد بها ما عدا ذلك من المأكل والملبس ونحوهما ،
وهو الظاهر من سياق الخبر ، فظاهر كون تلك الأشياء على المستأجر هو أن الأجير يرجع
بها على المستأجر ، لعدم دخولها فيما استوجر به وهو النفقة.
وفيه دلالة على أنه لو لم يستأجره بالنفقة بل بأجرة في
الجملة ولم يشترط النفقة عليه ، فإنه يرجع بالنفقة كما ادعاه المستدل بالخبر ،
لأنه إذا كان له الرجوع بمثل أجرة غسل الثياب والحمام فله الرجوع بما يحتاج إليه
في الأكل واللبس بطريق أولى لأنها أضر البتة ، وهنا إنما امتنع الرجوع بها من حيث
أنه استوجر بها فمع عدم الاستيجار بها وعدم شرطها على المؤجر يرجع بها على
المستأجر ، وحينئذ يمكن أن يجعل ذلك لموضع الاستدلال بالخبر المذكور ، والله
سبحانه العالم.
التاسعة عشر : صرح بعض
الأصحاب بأنه لو استأجره لعمل من الأعمال كالكتابة والخياطة ونحوهما من الأعمال
التي يختلف فيهما العمال بالجودة والحسن وعدمهما والسرعة والبطؤ ونحوهما ، فإنه لا
يصح جعل الإجارة مطلقة بأن يكون في الذمة ، بمعنى تحصيل العمل بمن شاء لما يعلم من
الاختلاف الكثير بين العمال فيما ذكرناه ، فيتجهل العمل ويحصل الغرر ، بل يجب تعيين
العامل سواء كان هو المؤجر أو غيره ، إذا أمكن حصول النفقة منه ، للانضباط بذلك
وارتفاع الغرر ، وكذا يجب تعيين الضائع إذا استأجره مدة ، بمعنى أن يعمل له هذا
العمل في مدة محدودة بلا زيادة ولا نقيصة ، لأنه مع الإطلاق وتفاوت العمال في
السرعة والبطؤ واختلافهم في ذلك كثيرا يحصل الغرر أيضا ، وبتعيين العامل ومعرفة ما
هو عليه من السرع والبطؤ في عمله يزول ذلك.
ولو استأجره على عمل معين كنسخ هذا الكتاب المعين وخياطة
هذا الثوب المخصوص ، فإنه من حيث كون المانع ما ذكرنا أولا هو اختلاف الصناع في
السرعة والبطؤ الموجب للزيادة في العمل والنقيصة ، فإن الظاهر أنه تصح الإجارة في
هذه الصورة المفروضة ، لأن هذا الاختلاف غير قادح هنا ، فان الغرض حصول هذا العمل
المعين ، أما من حيث كون المانع هو تفاوتهم في الصنعة وبالجودة ، والرداءة ، فإنه
لا يصح هنا بل لا بد من تعيين الصانع ليرتفع هذا الغرر.
قال في المسالك بعد ذكر المصنف أصل المسئلة : وهذه
المسئلة قل من تعرض لها غير المصنف ، نعم ذكرها الشافعي في كتبهم.
أقول : قد عرفت آنفا أن أكثر هذه التعريفات في الكتب
المتقدمة والآتية وان وقعت من الشيخ والمرتضى والعلامة وغيرهم ، الا أنها كلها
مأخوذة من كتب العامة أخذوا منها ما استحسنوه ، وكتب متقدمي أصحابنا إنما اشتملت
على مجرد نقل الاخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار ، والله سبحانه
العالم.
العشرون : قالوا إذا
استأجره على حفر بئر فلا بد من تعيين الأرض وقدر نزول البئر وسعتها وهل المراد
بالتعيين المشاهدة أو ما هو أعم ، فيشمل الوصف الرافع للجهالة ، احتمالان : وقد
ذكروا في استيجار الأرض للحرث نحو ذلك ، وبعضهم ذكر هنا المشاهدة بخصوصها مع ذكره
التعيين بقول مطلق في الأرض ، وبعضهم عكس.
وكيف كان فإنه لا يخفى أن المشاهدة إنما تأتي على ظاهر
الأرض دون الباطن وارتفاع الجهالة باعتبار معرفة صلابة ظاهر الأرض ورخاوتها لا
يغني عما يتجدد بعد الحفر من الزيادة على ذلك ، والنقيصة مما لا يمكن معرفته ، الا
بالعمل.
وبه يظهر أن الوصف أضبط من المشاهدة إذا أمكن اطلاع
المستأجر على الباطن بكثرة الممارسة ، قالوا : ولو انهارت أو بعضها لم يلزم الأجير
إزالة ذلك ، بل ذلك على المالك ، لأن الأجير قد أتى بما استوجر عليه ، وامتثل ما
تضمنه العقد ، ولا يكلف بما زاد عليه ولو حفر بعض البئر ثم تعذر حفر الباقي لصلابة
الأرض أو مرض الأجير أو نحو ذلك ، فالمشهور أن له من الأجرة المسماة في العقد
بنسبة ما عمل الى المجموع ، فيستحق من الأجرة المسماة بتلك النسبة ، وطريق معرفة
ذلك أن يقوم جميع العمل المستأجر عليه ، ويقوم ما عمله منفردا ، وينسب الى المجموع
فينسب أجرة مثل ما عمل إلى أجرة مثل المجموع ، ويستحق الأجير من المسمى بتلك
النسبة.
الا أنه روى في الكافي والتهذيب عن أبى شعيب المحاملي عن
الرفاعي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل قبل
رجلا يحفر له بئرا عشر قامات بعشرة دراهم ، فحفر له قامة ثم عجز ، قال : يقسم عشرة
على خمسة وخمسين جزء فما أصاب واحدا فهو للقامة الأولى ، والاثنين للثانية ، والثلاثة
للثالثة ، وعلى هذا
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 433 ح 22 ، التهذيب ج 6 ص 287 ح 1 ، الوسائل
ج 13 ص 284 ح 2.
الحساب إلى العشرة ، ورواه في الكافي بطريق آخر عن أبي شعيب عن الرفاعي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل قبل
رجلا يحفر بئرا عشر قامات بعشرة دراهم فحفر قامة ، ثم عجز فقال : جزء من خمسة
وخمسين جزء من العشرة دراهم».
والظاهر أن مبنى هذه الرواية على تزايد الصعوبة في الأرض
، فكل قامة نزلت أصعب عما فوقها فلهذا جعل عليهالسلام لكل واحدة
زيادة على ما فوقها بجزء ، فأمر بقسمة العشرة دراهم على خمسة وخمسين جزء ، فللقامة
الأولى جزء ، وللثانية جزان ، وللثالثة ثلاثة ، وللرابعة أربعة ، وللخامسة خمسة ،
وللسادسة ستة ، وللسابعة سبعة ، وللثامنة ثمانية ، وللتاسعة تسعة ، وللعاشرة عشرة
، وإذا ضممت هذه الأجزاء الموزع عليها بعضها إلى بعض وجدتها خمسة وخمسين ، بلا
زيادة ولا نقصان.
والظاهر أن الأصحاب إنما أعرضوا عن هذه الرواية من حيث
ابتنائها على هذا الأمر الخاص مع أنها حكم في واقعة معينة ، فلا يتعدى ، ولهذا أن
الشيخ في النهاية اقتصر على نقل الرواية ولم يذكرها بطريق الفتوى ، كما هي قاعدته
في الكتاب المذكور ، فلا يتعين كون ذلك قولا في المسئلة كما يفهم من عبارة الشرائع
، حيث قال : وفي المسئلة قول آخر مستند إلى رواية مهجورة.
وفي المبسوط قد وافق الأصحاب فيما أفتوا به هنا ، فقال :
فان لم يمكن حفره ، انفسخ العقد فيما بقي ولا ينفسخ فيما حفر على الصحيح من
الأقوال ، ويقسط المسمى على أجرة المثل ، لأن الحفر يختلف ، فحفر ما أقرب من الأرض
أسهل ، لأنه يخرج التراب من قرب ، وحفر ما هو أبعد أصعب ، فإن كان أجرة المثل على
ما بقي عشرة وفيما حفر خمسة أخذ ثلث المسمى ، وقد روى أصحابنا في مثل هذا مقدار ما
ذكرناه في النهاية.
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 422 ح 3 ، الوسائل ج 13 ص 284 ح 1.
وقال ابن إدريس : الأولى ما ذكره الشيخ في المبسوط وهو
المعتمد ، وتحمل الرواية على ما إذا كانت الإجارة في ذلك الوقت فتقسط كذلك ، والله
سبحانه العالم.
الحادية والعشرون : في
الاستيجار للإرضاع والكلام فيها
يقع في مواضع : الأول : الظاهر أنه لا خلاف في جواز استيجار المرأة للرضاع مدة
معينة بإذن الزوج ، وإنما الخلاف فيما لو كان بغير اذنه ، فقيل : بالجواز ،
والظاهر أنه هو المشهور وذهب في المبسوط والخلاف الى العدم ، قال : لأنه لا دليل
على صحتها ولأن المرأة معقود على منافعها لزوجها بعقد النكاح ، فلا يجوز لها ان
تعقد لغيره فيخل ذلك بحقوق زوجها ، وتبعه ابن إدريس وجماعة.
والظاهر أن القول الأول أقوى ، لأنها عاقلة مالكة
لمنافعها من رضاع وغيره ، وعموم أدلة الوفاء بالعقود كتابا وسنة شامل لها ، نعم
متى نافى ذلك شيئا من حقوق الزوج المواجبة عليها امتنع ذلك بلا إشكال ، للمنافاة
وسبق حقه ، وبه يظهر ما في تعليله الثاني من قوله لأن المرأة معقود على منافعها ،
فإنه على إطلاقه ممنوع ، إذ الزوج لا يملك سوى منافع الاستمتاع ، كذا ما في تعليله
الأول من عدم الدليل ، فان الدليل كما سمعت ظاهر في المدعى ، وتخصيصه يحتاج الى
دليل ، وغاية ما ثبت من الدليل الدال على التخصيص ما إذا أوجب ذلك الإخلال بحقوق
الزوج الواجبة عليها.
ثم انه لو وقعت الإجارة على الوجه المذكور ، ومنع ذلك
شيئا من حقوقه ، فهل يحكم ببطلان العقد أن الزوج يتسلط على الفسخ؟ قولان : وبالأول
صرح العلامة في القواعد ، والثاني اختياره في المسالك ، وهو الأوفق بقواعد الأصحاب
، ولو سبق الاستيجار للرضاع على النكاح ، فلا اعتراض للزوج ، لاستحقاق منفعة
الرضاع ، وملكها قبل عقده بها ، وله الاستمتاع بما فضل عن ذلك ، فلو تضرر الصبي
بترك الرضاع باستمتاع الزوج كان للولي منع الزوج لما عرفت من تقدم حقه ، أما مع
عدم التضرر فلا.
وهكذا الكلام فيما لو استأجر السيد أمته للإرضاع ، ثم
زوجها قالوا :
وكل موضع يمنع فيه الزوج من الاستمتاع لأجل الرضاع ،
فإنه تسقط النفقة عنه في تلك المدة ، لعدم التمكين التام.
الثاني : هل يشترط
ذكر الموضع الذي يقع فيه الإرضاع؟ قيل : نعم ، وتردد فيه في الشرائع ، وعللوا
الاشتراط بأن مواضع الإرضاع تختلف بالسهولة والصعوبة ، والنفع ، فان بيت المرضعة
أسهل عليها ، وبيت الولي أوثق له ، وأنت خبير بما في هذه التعليلات من عدم
صلاحيتها لتأسيس الأحكام الشرعية كما عرفت فيما تقدم ، ووجه التردد من حيث ما
ذكروا من أن الأصل عدم الاشتراط ، قال في المسالك : والأقوى الاشتراط ، ولا يخفى
ما فيه ، والتمسك بالأصل أقوى مستمسك حتى يقوم دليل على الخروج عنه ، والخروج عنه
بهذه التعليلات مجازفة ظاهرة ، سيما مع ما عهد من ارتضاع النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وإطلاق
الأخبار الواردة باستئجار الظئير.
الثالث : قد صرح
الأصحاب بأنه لا بد في صحة عقد الإجارة على الإرضاع من مشاهدة الصبي المرتضع ، قيل
: ويكفى الوصف أيضا وزاد اخرون اشتراط مشاهدة المرضعة.
والظاهر أن الجميع تقييد للنصوص من غير دليل ، وكأنهم
بنوا في ذلك بالنسبة إلى الصبي على اختلاف كثرة ما يشرب وقلته بالنسبة إلى صغره
وكبره ، وبالنسبة إلى المرضعة إلى اختلاف النساء في الصفات المأمور بها ، والمنهي
عنها في الأخبار من الوضائة ، والحسن ، والرعونة ، والحماقة ، والقبح ، ونحو ذلك ،
مما قيل بتأثيره في الولد ، وهو وان كان كذلك ، الا أن إطلاق أخبار الاسترضاع
يدفعه.
الرابع : منع في
المبسوط من جواز أن يستأجر الرجل زوجته لإرضاع ولده وجوز ذلك بعد البينونة لأنها
أخذت عوضا منه في مقابلة الاستمتاع ، وعوضا آخر في مقابلة التمكين من الاستمتاع ،
وسوغه المرتضى وابن إدريس
قال في المختلف : وهو المعتمد ، لنا
الأصل الجواز ، وقوله تعالى (1) «وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» الاية وهو عام
والعوض المأخوذ ليس في مقابلة التمكين ، بل في مقابلة الإرضاع ، وسواء منع شيئا من
حقوقه أم لا ، لأنه رضي بذلك ، وقد تقدم جوازه مع الرضا ، انتهى.
أقول : ويؤيده أن الرضاع غير واجب على الأم ، كما صرحوا
به ودل عليه النصوص أيضا ، والزوج لا يملك منها ، سوى منافع الاستمتاع ، فتكون
فيما سوى ذلك كالأجنبية فارضاعها له مع عدم التبرع به موجب للأجرة ، كالأجنبية ،
ويدل عليه قوله عزوجل (2) «﴿
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ وما رواه في
الكافي والفقيه (3) قال : «سئل
أبو عبد الله عليهالسلام «عن الرضاع؟
قال : لا تجبر الحرة على رضاع الولد وتجبر أم الولد». وتحقيق الكلام في ذلك يأتي في
محله اللائق به إنشاء الله تعالى.
الخامس : قال في
المبسوط : لو استأجر ظئرا للإرضاع لم يلزمها غيره ، وان شرط في العقد الحضانة مع
الرضاع لزمها الأمران ، فترضع المولود وتراعى أحواله في تربيته وخدمته ، وغسل
ثيابه وخرقه وغيرها من أحواله.
وقال ابن الجنيد ، وإذا شورطت على الرضاع فقط لم يكن
عليها غير ذلك إلا أن يكون قد اشترط دفع الصبي إليها أي إلى منزلها ، فيكون عليها
تخريجه وغسل ثيابه وما لا بد للصبي منه ، إلا أن تشترط هي لذلك أجرة على وليه.
قال في المختلف بعد نقل ذلك : وتفصيل ابن الجنيد جيد ،
إذ الظاهر والعرف يقضى أن الصبي إذا كان في منزلها اضطر إلى الحضانة ، وكانت لازمة
لها انتهى.
__________________
(1) سورة البقرة ـ الاية 233.
(2) سورة الطلاق ـ الاية 6.
(3) الفقيه ج 3 ص 308 ح 24 ، التهذيب ج 6 ص 40 ح 4 ، الوسائل ج
15 ص 175 ح 1.
السادس : لا إشكال في
بطلان الإجارة بموت الصبي المرتضع لفوات ما تعلق العقد باستيفاء المنفعة له ، وأما
موت المرضعة فيبني على الاستيجار لها من التعيين والإطلاق فإن كان الاستيجار
بعينها وخصوصها فلا إشكال في البطلان ، وعليه يحمل إطلاق من أطلق البطلان بموتها ،
والحكم في موتها والحال كذلك كالدابة المستأجرة للركوب ، وان كان الاستيجار في
الذمة بمعنى أن عليها تحصيل هذا العمل بنفسها أو غيرها ، فالظاهر بقاء الإجارة كما
في نظائر هذا القسم من الإجارات المتعلقة بالذمة ، وحينئذ فيؤخذ ما يقوم به من
تركتها لأنها صارت مشغولة الذمة بذلك ، كسائر الديون المتعلقة بالذمة ، فإنها بعد
فوات الذمة ينتقل الى المال ، ويتعلق به كما صرحوا به فيؤخذ أجرة المثل لما بقي من
المدة من أصل مالها ، ويدفع الى ولي الطفل.
واحتمل بعض الأصحاب وجوب استيجار وليها على الإرضاع من
مالها ، قال : لأن الواجب في ذمتها هو الإرضاع ولم يتعذر ، وإلا لانفسخت الإجارة ،
وأما موت الأب فيبني على الخلاف المتقدم في بطلان الإجارة بموت المستأجر وعدمه ،
وقد تقدم أن الأظهر العدم.
والعجب من ابن إدريس حيث أنه ممن اختار القول بعدم بطلان
الإجارة بموت المستأجر ، وحكم هنا ببطلان الإجارة بموت أب المرتضع محتجا بالإجماع
على أن موت المستأجر يبطلها ، والمسئلة في الموضعين واحدة ، وانما هذه من جزئيات
تلك المسئلة فما ذكره تحكم محض ، وتناقض صرف ، نعم ذكر بعض محققي الأصحاب أنه لو
كان الولد معسرا واستأجر الأب عليه بمال في ذمته أو في ذمة الأب ولم يخلف الأب
تركة ، توجه جواز فسخها ، لا أنها تبطل بذلك وهو جيد.
السابع : قال الشيخ :
إذا استأجر الظئر للإرضاع بالنفقة والكسوة صح مع علم المقدار بالنفقة والكسوة ،
وكذا قال ابن إدريس ، وقال في المختلف بعد
نقل ذلك : وهو جيد ، لأن الجهالة في
أحد العوضين مبطلة ، وكذا لو استأجر أجيرا بطعامه ، ثم نقل عن ابن الجنيد أنه قال
لا بأس باستئجار الإنسان بطعامه وكسوته ، كالظئر والغلام وان لم يسم قدر اللبن من
الظئر ، ولا قدر الطعام للأجير ، ثم قال العلامة : أما قدر اللبن فجيد ، لأن ذلك
مجهول لا يمكن ضبطه وأما طعام الأجير فممنوع ، انتهى.
أقول : ويمكن الاستدلال لابن الجنيد برواية سليمان بن
سالم (1) المتقدمة في
المسئلة الثامنة عشرة لدلالتها على جواز الاستيجار بالنفقة من غير تعيين كما تضمنه
السؤال الأول والثاني منها ، ويكون حكم النفقة مستثنى من قاعدتهم المذكورة ان ثبتت
، سيما مع ما عرفت مما قدمناه في غير موضع من انخرام هذه القواعد المشهورة بينهم
بالأخبار ، وان كانوا تارة يردون الأخبار في مقابلتها ، وتارة يرتكبون تخصيصها بها
، والله سبحانه العالم.
الثامن : قد
عرفت من تعريف الإجارة كما قدمنا ذكره في صدر الكتاب ـ أنها عقد ثمرته تمليك
المنفعة بعوض معلوم ، أو تمليك المنفعة بعوض ، ـ أن الإجارة واستحقاق الأجرة إنما
تقع على المنافع ، لا الأعيان ، وحينئذ فيكون إجارة المرأة للإرضاع خارجة عن قاعدة
الإجارة ومستثناة بالنص ، آية ورواية ، لقوله عزوجل (2) «فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» والنصوص
الواردة بذلك ، وهي كثيرة تأتي إنشاء الله تعالى في محلها اللائق بها من كتاب
النكاح ، فان متعلق الإجارة والذي استحقت المرأة به الأجرة هنا هو اللبن ، وهو عين
تالفة بالإرضاع ، فيكون المعاوضة عليه خارجة عن قانون الإجارة ، قالوا : ومثل ذلك
الاستيجار للصبغ ، واستيجار البئر للاستسقاء منها ، فان المستوفي في الجميع إنما
هو من الأعيان ، وبعضهم تكلف للتفصي عن ذلك بالنسبة إلى الإرضاع أن المنفعة
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 287 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 250 ح 1.
(2) سورة الطلاق ـ الاية 6.
التي تعلقت بها الإجارة هي حملها
للولد ووضعه في حجرها ووضع الثدي في فمه ونحو ذلك ، لا نفس اللبن.
ولا يخفى ما فيه من البعد والتكلف السخيف ، فإنه لا يخفى
أن الغرض الذاتي والمطلب الأصلي من الاستيجار إنما هو اللبن ، وهذه الأشياء إنما
هي تابعة ، أو مقدمات لذلك ، فالأظهر أن يقال : ان هذه المواضع المذكورة مستثناة
بالنصوص من قانون الإجارة ، وكم مثل ذلك في الأحكام ، هذا ان ثبت كون ما ادعوه
قانونا كليا وقاعدة مطردة ، مع أنا لم نقف له على دليل أزيد من ورود النصوص في
أفراد الإجارات بذلك ، وهو لا يستلزم الحصر فيما ورد ، الا مع عدم وجود نص بخلافه
، فإنه يمكن ادعاء ذلك قاعدة كلية ، على نحو القواعد النحوية المبنية على تتبع
كلام العرب ، وهذه القاعدة ان ثبتت هنا ، فهي من هذا القبيل ، وإلا فإني لم أقف
على خبر يدل على أن القاعدة في الإجارة ما ادعوه ، والله سبحانه العالم.
الثانية والعشرون :اختلف
الأصحاب في جواز اجارة الدراهم والدنانير ، فقال في المختلف والقواعد والمبسوط :
بالجواز ، قال للانتفاع بها مع بقاء عينها ، مثل أن ينثرها ويسترجعها أو يضعها بين
يديه فيتجمل بها وغير ذلك ، وقال ابن إدريس : يصح لأنه لا مانع منه ، ثم قال :
والذي يقوى في نفسي بعد هذا جميعه أنه لا يجوز ، إجارتها ، لأنه في العرف المعهود
لا منفعة لها إلا بإذهاب أعيانها ، ولأنه لا يصح وقفها ، فلو صح إجارتها صح وقفها
، نعم تصح اجارة المصاغ منهما ، وقال في موضع آخر : لا خلاف في أنه لا يجوز وقفها
، لأن الوقف لا يصح الا في الأعيان التي يصح الانتفاع بها مع بقاء عينها ، فإذا
جاز إجارتها جاز وقفها ، وهو لا يجوز ، ولأن من غصب مائة دينار وبقيت في يده سنة
لم يلزمه الحاكم بأجرة ، واعترضه في المختلف بالمنع عن الملازمة بين الوقف
والإجارة ، فإن الوقف يصح إجارته ، ولا يصح وقفه ، نعم كلما يصح إعارته يصح إجارته
، والمنع من عدم إلزام الغاصب بالأجرة ، ثم قال والتحقيق أن نقول ان كان لها منفعة
مقصودة
حكمية صحت إجارتها ، وإلا فلا ،
انتهى.
وفيه أن ظاهر منعه من عدم إلزام الغاصب بالأجرة هو أن
لها منفعة فيجب عليه الأجرة في مقابلة المنفعة التي فوتها على المالك ، مع أن ظاهر
كلامه التوقف ، حيث رتب الجواز على وجود المنفعة وعدمه ، ولم يحكم بشيء من
الأمرين وقد صرح بالاستشكال في بعض كتبه ، وجزم بالجواز في بعض ، وظاهر الشرائع
أيضا التردد في ذلك ، حيث عبر بما عبر به في المختلف ، وشيخنا في المسالك حيث
اختار جواز إجارتها ، وعدلها منافع تترتب على ذلك ، كما ستقف عليه إنشاء الله
تعالى وحمل تردده على الشك في الاعتداد بتلك المنافع وعدمه ، قال (رحمة الله عليه)
: لما كان شرط العين المؤجرة إمكان الانتفاع بها مع بقاء عينها ، وكان الغرض
الذاتي من هذين النقدين لا يتم إلا بذهابهما وربما فرض لهما منافع مع بقاء عينهما
، بان يتزين بهما ، ويتجمل ويدفع عن نفسه ظاهر الفقر والفاقة ، فإن دفع ذلك غرض
مطلوب شرعا ، حتى كان الأئمة عليهمالسلام يقترضون
أموالا ويظهرونها للناس ، أو يدفعونها إلى عمال الصدقة مظهرين أنها زكاة أموالهم ،
ليظهر بذلك غناهم ، ومن جملة الأغراض المقصودة بها أيضا نثرها في الأعراس ثم تجمع
، والضرب على سكتها ونحو ذلك فكان القول بجواز إجارتها قويا ، وربما أشعر كلام
المصنف بالتردد في ان هذه المنافع ، هل يعتد بها وتقوم بالمال على وجه تجوز
الإجارة أم لا ، لتعليقه الجواز على شرط تحقق المنفعة مع أنها مشهورة ، وما ذاك
إلا للشك في الاكتفاء فيه بها ، انتهى.
أقول : ويدل على ما ذكره من إظهار التجمل بذلك ، والقرض
لذلك وفعلهم عليهمالسلام ذلك جملة من
الإجبار ، ومنها ما رواه في الكافي عن عبد الا على مولا آل سام (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : ان الناس
يروون أن لك مالا كثيرا ، فقال : ما يسؤنى ، ذلك ، ان أمير المؤمنين عليهالسلام مر ذات يوم
على ناس شتى من
__________________
(1) الكافي ج 6 ص 439 ح 8 ، الوسائل ج 3 ص 343 ح 3.
قريش ، وعليه قميص مخرق ، فقالوا :
أصبح علي عليهالسلام لا مال له
فسمعها أمير المؤمنين عليهالسلام فأمر الذي يلي
صدقته أن يجمع تمره ، ولا يبعث الى انسان شيئا وأن يؤفره ثم قال له : بعه الأول
فالأول واجعلها دراهم ، ثم اجعلها حيث تجعل التمر فاكبسه معه حيث لا يرى ، وقال
للذي يقوم عليه : إذا دعوت بالتمر فاصعد وانظر المال فاضربه برجلك كأنك لا تعمد
الدراهم حتى تنثرها ثم بعث الى رجل منهم يدعوهم ثم دعى بالتمر فلما صعد ينزل
بالتمر ضرب برجله فانتثرت الدراهم ، فقالوا : ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال : هذا مال
من لا مال له ، ثم أمر بذلك المال فقال : انظروا أهل كل بيت كنت أبعث إليهم
فانظروا ماله ، وابعثوا اليه ،». فروى في حديث آخر (1) مثله وفيه أن
القائل كان طلحة والزبير ، وروى في الكتاب المذكور أيضا عن أبي بصير (2) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : ان
أناسا بالمدينة قالوا : ليس للحسن عليهالسلام مال ، فبعث
الحسن عليهالسلام الى رجل
بالمدينة فاستقرض منه ألف درهم فأرسل بها الى المصدق ، فقال : هذه صدقة مالنا :
فقالوا : ما بعث الحسن بهذه من تلقاء نفسه إلا وله مال.
وروى فيه عن عبد الأعلى (3) مولى آل سام
قال : «ان علي بن الحسين عليهالسلام اشتدت حاله
حتى تحدث بذلك أهل المدينة ، فبلغه ذلك فتعين ألف درهم ثم بعث بها الى صاحب
المدينة ، وقال ، هذه صدقة مالي».
وبذلك يظهر قوة ما قواه ، لانه متى كان إظهار الغنى بين
الناس مستحبا كما دلت عليه هذه الأخبار حتى أنهم عليهمالسلام كانوا يقترضون
لذلك فاستيجار الدراهم والدنانير لذلك مستحب ، والمنفعة ظاهرة ، بل مندوب إليها ،
والظاهر أن تردد من تردد ممن قدمنا ذكره ، إنما هو لعدم حضور ما ذكر ببالهم ، لا
لعلمهم بذلك ، وإنما حصل لهم الشك في أنه هل يعتد بهذه المنافع أم لا؟
__________________
(1 و 2) الكافي ج 6 ص 440 ح 11 ، الوسائل ج 3 ص 343 ح 2 وص 342
ح 1.
(3) الكافي ج 6 ص 440 ح 13 ، الوسائل ج 3 ص 343 ح 4.
ثم انه على تقدير القول بجواز إجارتها
، فهل يشترط تعيين جهة الانتفاع بها أم لا؟ قولان : وبالأول قال في الخلاف
والمبسوط ، وبالثاني قال : ابن إدريس ، وهو ظاهر جملة ممن تأخر عنه.
قال في الخلاف والمبسوط : إذا استأجر دراهم أو دنانير
وعين وجه الانتفاع بها كان على ما شرط ، وصحت الإجارة ، وان لم يعين بطلت الإجارة
، وكانت قرضا لأن العادة في دنانير الغير ودراهمه أن لا ينتفع بها إلا على وجه
القرض ، وإذا أطلق الانتفاع رجع الإطلاق على ما يقتضيه العرف.
وقال ابن إدريس : لو قلنا أنه تصح الإجارة سواء عين جهة
الانتفاع أو لم يعين كان قويا ، ولا يكون قرضا لأنه استأجرها منه ، ومن المعلوم أن
العين المستأجرة لا يجوز التصرف بإذهاب عينها ، بل في منافعها فيحمل الإطلاق على
المعهود الشرعي ، ثم قال ، والذي يقوى في نفسي بعد هذا كله بطلان إجارتها.
وأجاب في المختلف عن كلام ابن إدريس انتصارا للشيخ بأن
الشيخ عول على العرف وقد ثبت في العرف الشرعي انصراف الإجارة إلى الأعيان فيما
الغالب فيه تناولها دون المنافع ، كاستيجار المرضعة ، والشاة للحلب ، وأجرة الحمام
، وكذا هنا ، لما كانت المنفعة المقصودة الانتفاع بأعيانها كانت الإجارة قاضية ،
بجواز إتلافها وحينئذ تصير قرضا بالإتلاف ، وبعد هذا فالوجه على تقدير صحة الإجارة
، عدم جواز الإتلاف كغيرها من الأعيان.
أقول : لا يخفى ما في جواب العلامة من تطرق النظر اليه ،
وأن الحق انما هو ما ذكره ابن إدريس ، وذلك لأن الإجارة نصا وفتوى انما تنصرف الى
المنافع ، والدراهم والدنانير لها منافع كما عرفت ، فلا يحتاج الى تعيينها كغيرها
من سائر الأعيان المستأجرة ، وإطلاق الإجارة انما ينصرف الى المنافع التي هي
المعهود الشرعي ، كما ذكره ابن إدريس ، وأما صحة الإجارة في استيجار المرضعة
ونحوها فإنما جرى على خلاف قاعدة الإجارة ، بنص خاص ، فصار مستثنى من حيث
النص ، لا أن ذلك عرف شرعي ، وما نحن
فيه لا نص فيه ، فلا وجه لجعله في عدادها ، وجعله من جملة أفرادها ، ودعواه كون
ذلك عرفا شرعيا ليس في محله ، إذ المتبادر وهو اطراده في جميع الأفراد ، وشيوعه في
جميع المواد ، وما نحن فيه مما حكمت بصحة الإجارة مع استيفاء الأعيان منها ، ليس
كذلك بلى هو مقصور على ما ورد النص به من فردين أو ثلاثة ، ولهذا قدمنا في المنحة
حيث لا نص عليها من طريقنا وانما هو من طريق العامة أن عدها فيما ذكروه ليس في
محله.
وبالجملة فإنه لما كان مقتضى الإجارة نصا وفتوى انما هو
التسلط على المنفعة خاصة ، فجواز التسلط على العين يحتاج الى دليل آخر ، نعم قام
الدليل عليه في تلك المواضع المذكورة ، فصارت مستثناة بذلك ، وما لم يقم عليه دليل
فلا يجوز الخروج به عن قاعدة الإجارة ، وهذا هو الذي اختاره في آخر كلامه ، وبذلك
يظهر أن جوابه عن كلام ابن إدريس انما هو مجرد تعصب عليه ، كما هي عادته غالبا في
الكتاب المذكور ، والله سبحانه العالم.
الثالثة والعشرون : لو وجد المستأجر بالعين المستأجر
عيبا يوجب الرد ، وكان جاهلا به وقت العقد تخير بين الفسخ والرضا بالأجرة المسماة
من غير أرش على المشهور ، ووجه التخيير أن العيب المذكور في العين موجب للنقص في
المنفعة ، فيجوز له الفسخ دفعا للضرر عن نفسه ، وللتدليس عليه ، ولأن مقتضى العقد
صحة العوضين ، فلا يلزم بدونها ، فمن ثم جاز له الفسخ ، وحينئذ وله الالتزام
بالعيب لأنه تصرف في ماله باختياره.
وفي المسالك أن له الفسخ وان استوفى بعض المنفعة ، قال
ولا يرد أنه مع استيفاء البعض يكون قد تصرف ، وهو يسقط خيار العيب ، لأن المراد
بالتصرف حقيقة في العوض الذي صار للمتصرف وهو هنا المنفعة ، وما لم يستوفه منها لم
يتصرف فيه وانما حصل التصرف في المستوفي ، ولأن الصبر على العيب ضرر منفي ، انتهى.
والظاهر أنه غير خال من شوب الإشكال ، فإن الظاهر من
كلامهم في كتاب
البيع أن التصرف انما هو عبارة عن وضع
اليد على المبيع ، أو الثمن باستيفاء بعض منافعه ، أو استعلامها كركوب الدابة ،
ولمس الجارية وتقبيلها وحلب الشاة ولبس الثوب ونحو ذلك ، فاستيفاء بعض من منفعة
المستأجر تصرف في أصل المنفعة قياسا على ما ذكرناه ، لا أنه يختص التصرف بما
استوفاه كما ذكره ، وان كان هو الفرد الحقيقي ، إلا أن مقتضى ما ذكرناه مما عدوه
تصرفا أعم منه كما لا يخفى.
وأما ما ذكره من أن الصبر على العيب ضرر منفي ، ففيه أن
ما ذكروه من الحكم المذكور غير منصوص ، ويمكن أن يقال : بان له الأرش حينئذ كما في
خيار العيب متى تصرف في المبيع ، على أن هذا الإيراد يختص بالقول المشهور وأما على
القول الآخر الآتي من الأرش مع الرضا فلا ورود له كما لا يخفى.
ثم ان ظاهر كلام الأكثر هو ما ذكرناه آنفا من التخيير
بعد ظهور العيب بين الفسخ والرضا بالأجرة ، وذهب جماعة منهم المحقق الثاني والشهيد
الثاني الى أن له مع الرضا الأرش فهو مخير عندهم بين الفسخ والرضا بالأرش.
قال في الروضة بعد قول المصنف وفي الأرش نظر ما لفظه :
من وقوع العقد على هذا المجموع وهو باق ، فاما أن يفسخ أو يرضى بالجميع ، ومن كون
الجزء الفائت أو الوصف مقصودا للمستأجر ولم يحصل وهو يستلزم نقص المنفعة التي هي
أحد العوضين ، فيجبر بالأرش وهو حسن.
أقول : فيه ما عرفت من أن أصل المسئلة غير منصوص ،
والظاهر انهم ذكروا هذا الحكم هنا قياسا على البيع من انه متى ظهر عيب بالمبيع
تخير المشترى بين الفسخ وبين الالتزام مع الأرش ، مع أن الأخبار ثمة لا تدل على ما
ذكروه كما حققناه في البيع ، وانما هو موردها مع ظهور العيب الخيار خاصة ، وأما
الأرش فإنما هو مع التصرف ، وأما تعليله هنا فعليل ، فان ما ذكره من ضرره هنا بنقص
المنفعة يجبر بالفسخ الذي هو أحد فردي التخيير ، ولا ينحصر في الأرش.
نعم لو لم يكن له الفسخ فان ما ذكره متجه ، لكن الأمر
ليس كذلك ،
وكيف كان فان ثبوت الأحكام الشرعية
بمثل هذه التقريبات العقلية لا يخلو من المجازفة في أحكامه عزوجل التي قد استفاضت
النصوص بالنهي عن القول فيها بغير علم منه عزوجل أو من نوابه (صلوات
الله وسلامه عليهم).
ثم انه قال في المسالك تفريعا على ما اختاره من وجوب
الأرش : وطريق معرفته أن ينظر إلى أجرة مثلها سليمة ومعيبة ، وينظر الى التفاوت
بينهما ، ويرجع من المسمى بتلك النسبة ، ولا يخفى أنه متى اختار الفسخ فان لم يمض
من المدة ماله أجرة فلا اشكال ، وان مضت مدة كذلك ، فعليه من المسمى بنسبة ذلك من
المدة.
هذا كله فيما إذا كانت الإجارة واردة على عين ، أما لو
كانت في الذمة ودفع له عينا معيبة فالواجب إبدالها ولا فسخ هنا ، الا أن يتعذر
البدل لعدم وجوده أو لتغلب الموجر وعدم إمكان جبره فيفسخ المستأجر ، ويرجع الى
ماله ، والله سبحانه العالم.
الرابعة والعشرون : الظاهر أنه
لا خلاف في تضمين الصناع من المكارين والملاحين والقصارين وسائر الصناع لما جنته
أيديهم ، سواء كان نقصا في العين أو تلفا ، وان كان حاذقا واحتاط واجتهد ، وانما
الخلاف فيما لو تلفت بغير فعله. وغير تفريطه وظاهر جماعة منهم الشيخ المفيد
والمرتضى القول بالضمان ، والمشهور وهو قول الشيخ وأتباعه وابن إدريس ومن تأخر عنه
العدم.
قال الشيخ المفيد : القصار والخياط والصباغ وأشباههم من
الصناع ضامنون لما جنته أيديهم على السلع ، ويضمنون ما تسلموه من المتاع الا أن
يظهر هلاكه ويشتهر بما لا يمكن دفاعه أو تقوم لهم بينة بذلك ، والملاح والمكاري
والجمال ضامنون للأمتعة الا أن تقوم لهم بينة بأن الذي هلك منه بغير تفريط منهم
ولا تعد فيه ، وقال المرتضى : مما انفردت به الإمامية القول بأن الصناع كله
كالقصارين والخياط ومن أشبههما ضامنون للمتاع الذي يسلم إليهم ، الا أن يظهر هلاكه
ويشتهر
بما لا يمكن دفعه. أو تقوم به بينة
بذلك ، وهم أيضا ضامنون لما جنته أيديهم على المتاع بتعد وغير تعد ، وسواء كان
الصانع مشتركا أو غير مشترك ، ثم فسر معناهما.
وقال في المختلف والمبسوط والنهاية : لا ضمان عليهم الا
فيما يهلك مما أفسدوه أو يكون بشيء من جهتهم أو بتفريط منهم وما أشبه ذلك ، فان
هلك من غير ذلك لم يكن عليهم شيء من ذلك ، وبه قال أبو الصلاح وسلار.
وقال ابن إدريس : اختلف أصحابنا في تضمين الصناع
والمكارين والملاحين فقال بعضهم : هم ضامنون لجميع الأمتعة وعليهم البينة ، الا أن
يظهر هلاكه ويشتهر بما لا يمكن دفاعه ، مثل الحريق العام والغرق والنهب كذلك ،
فأما ما جنته أيديهم على السلع فلا خلاف بين أصحابنا أنهم ضامنون له ، وقال الفريق
الآخر من أصحابنا وهم الأكثرون المحصلون : أن الصناع لا يضمنون إلا ما جنته أيديهم
على الأمتعة أو فرطوا في حفاظه ، وكذلك الملاحون والمكارون والرعاة وهو الأظهر
والعمل عليه ، لأنهم أمناء سواء كان الصانع منفردا أو مشتركا.
قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال : والوجه اختيار
الشيخ ، لنا الأصل براءة الذمة وعدم الضمان ، فإن أيديهم ليست عادية ، وهم أمناء
فلا يتعلق بهم ضمان ، إلا مع تعد أو تفريط ، كالمستودع وغيره.
أقول : وعلى هذا القول جرى المتأخرون ، والواجب أولا نقل
الأخبار المتعلقة بهذا المقام ثم الكلام فيها بما رزق الله فهمه ببركتهم عليهمالسلام فمنها ما رواه
في الكافي والتهذيب عن الحلبي (1) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال سألته عن
القصار يفسد قال : كل أجير يعطى الأجر على أن يصلح فيفسد فهو ضامن». وما رواه في
التهذيب عن أبى الصباح الكناني (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 241 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 219 ح 37.
(2) التهذيب ج 7 ص 220 ح 45 ، وهما في الوسائل ج 13 ص 271 ح 1
وص 274 ح 13.
عن القصار هل عليه ضمان؟ قال : نعم كل
من يعطى الأجر ليصلح فيفسد فهو ضامن».
وما رواه في الفقيه عن حماد عن الحلبي (1) في الصحيح عن
أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يعطى
الثوب ليصبغه فيفسده ، فقال : كل عامل أعطيته أجرا على أن يصلح فأفسد فهو ضامن».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبى الصباح (2) عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : سألته
عن الثوب أدفعه الى القصار فيخرقه؟ قال : أغرمه فإنك إنما دفعته اليه ليصلحه ، ولم
تدفعه ليفسده».
وعن إسماعيل بن الصباح (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن القصار
يسلم اليه المتاع فخرقه أو غرقه أيغرمه؟ قال : نعم غرمه ما جنت يداه فإنك إنما
أعطيته ليصلح ، لم تعط ليفسده».
هكذا اسناد الخبر في نسخ التهذيب وربما وجد في بعضها عن
إسماعيل عن أبي الصباح وهو الظاهر ، كما هو في سند سابق هذا الخبر ، ويحتمل في
إسماعيل أنه ابن عبد الخالق ، أو ابن الفضل الهاشمي.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن السكوني (4) «عن أبي عبد
الله عليهالسلام أن أمير
المؤمنين عليهالسلام رفع اليه رجل
استأجر رجلا ليصلح له بابه فضرب المسمار فانصدع الباب فضمنه أمير المؤمنين عليهالسلام».
أقول : وهذه الأخبار كلها موافقة لما اتفق عليه الأصحاب
من ضمان ما جنته يد الصانع ، وان كان لا عن تعمد ، وان ذلك قاعدة كلية في كل من
أعطى الأجر ليصلح فأفسد فإنه ضامن.
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 161 ح 1 من باب 75.
(2) الكافي ج 5 ص 242 ح 7 ، التهذيب ج 7 ص 220 ح 42.
(3) التهذيب ج 7 ص 221 ح 50.
(4) الكافي ج 5 ص 243 ح 9 ، التهذيب ج 7 ص 219 ح 41 ، وهذه
الروايات في الوسائل ج 13 ص 275 ح 19 وص 273 ح 8 وص 274 ح 10.
ومنها ما رواه في الكافي عن الحلبي (1) في الصحيح أو
الحسن «عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : قال في
الغسال والصباغ : ما سرق منهما من شيء فلم يخرج (منه) على أمر بين أنه قد سرق ،
وكل قليل له أو كثير «فهو ضامن» ، فان فعل فليس عليه شيء «وان لم يفعل» ولم يقم
البينة وزعم أنه قد ذهب الذي ادعى عليه فقد ضمنه ان لم يكن له على قوله بينة». ورواه
في الفقيه مثله ، وكذا الشيخ في التهذيب ، وزاد فيه وعن رجل استأجر أجيرا فأقعده
على متاعه فسرق قال : هو مؤتمن».
وما رواه في الكافي في الصحيح عن الحلبي (2) عن أبي عبد
الله عليهالسلام «قال في الغسال
والصباغ : ما سرق منهم من شيء فهو ضامن». أقول : يعنى إذا ادعى السرقة كما هو
ظاهر الخبر الأول.
وما رواه المشايخ الثلاثة عن أبى بصير (3) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : سألته
عن قصار دفعت اليه ثوبا فزعم أنه سرق من بين متاعه ، فقال : عليه أن يقيم البينة
أنه سرق من بين متاعه ، وليس عليه شيء ، وان سرق متاعه كله فليس عليه شيء.
وعن السكوني (4) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «كان
أمير المؤمنين عليهالسلام يضمن القصار
والصائغ والصباغ احتياطا على أمتعة الناس ، وكان لا يضمن من الغرق والحرق والشيء
الغالب».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل بن مرار عن يونس
(5) قال : «سألت
الرضا عليه عليهالسلام عن القصار
والصائغ أيضمنون؟ قال : لا يصلح الناس الا أن
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 242 ح 2 ليس في الكافي كلمة «فهو ضامن» وكذا
كلمة «وان لم يفعل» التهذيب ج 7 ص 218 ح 34 ، الفقيه ج 3 ص 161 الباب 76 ح 2.
(2) الكافي ج 5 ص 242 ح 2.
(3 و 4) الكافي ج 5 ص 242 ح 4 ، التهذيب ج 7 ص 218 ح 35.
(5) الكافي ج 5 ص 243 ح 10 ، التهذيب ج 7 ص 219 ح 40 ، وهذه
الروايات في الوسائل ج 13 ص 271 ح 2 وص 274 ح 5 و 6 وص 273 ح 9.
يضمنوا ، قال : وكان يونس يعمل به
ويأخذ».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن مسمع (1) عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : قال
أمير المؤمنين عليهالسلام : الأجير
المشارك هو ضامن الا من سبع أو غرق أو حرق أو لص مكابر».
وما رواه في التهذيب عن زيد بن علي (2) عن آبائه عليهالسلام أنه أتى بحمال
كان عليه قارورة عظيمة فيها دهن فكسرها فضمنها إياه ، وكان يقول كل عامل مشترك إذا
أفسد فهو ضامن ، فسألته ما المشترك؟ فقال الذي يعمل لي ولك».
وكذا ما رواه في الكافي والفقيه عن الحلبي (3) في الصحيح عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : سأل رجل
جمال استكري منه إبل وبعث معه بزيت إلى أرض فزعم أن بعض زقاق الزيت انخرق فإهراق
ما فيه ، فقال انه ان شاء أخذ الزيت ، وقال : انه انخرق ولكنه لا يصدق إلا ببينة
عادلة».
وما رواه في التهذيب عن الشحام (4) قال سألت أبا
عبد الله عليهالسلام عن رجل جمال
اكترى منه إبل و «بعثت» معه بزيت الى نصيبين فزعم أن بعض «زقاق» الزيت انخرق
فإهراق فقال له : ان شاء أخذ الزيت وان زعم أنه انخرق فلا يقبل إلا ببينة عادلة».
وما رواه في الفقيه عن حماد (5) عن الحلبي في
الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام في جمال يحمل
معه الزيت فيقول قد ذهب أو أهرق أو قطع عليه الطريق ، فان جاء ببينة عادلة أنه قطع
عليه أو ذهب فليس عليه شيء ، والا ضمن».
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 244 ح 7 ، التهذيب ج 7 ص 216 ح 27.
(2) التهذيب ج 7 ص 222 ح 58.
(3) الكافي ج 5 ص 243 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 217 ح 32.
(4) التهذيب ج 7 ص 129 ح 35 ، الفقيه ج 3 ص 162 ح 4 مع اختلاف
يسير.
(5) الفقيه ج 3 ص 161 ح 1 ب 76 ، وهذه الروايات في الوسائل ج
13 ص 277 ح 4 وص 279 ح 13 وص 276 ح 1 وص 280 ح 16.
وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي (1) عن أبي عبد
الله عليهالسلام في رجل حمل مع
رجل في سفينة طعاما فنقص قال هو ضامن ، قلت : انه ربما زاد قال : تعلم أنه زاد فله
شيئا؟ قلت : لا قال : هو لك.
أقول : وهذه الأخبار كما ترى واضحة الدلالة ، ساطعة
المقالة ، فيما ذهب اليه المفيد والمرتضى.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن
الحلبي (2) «قال قال أبو
عبد الله عليهالسلام كان أمير
المؤمنين عليهالسلام يضمن القصار
والصائغ احتياطا على أموال الناس ، وكان أبى عليهالسلام يتطول عليه
إذا كان مأمونا». وروى في الفقيه مرسلا قال : وقال عليهالسلام : كان أبي
يضمن القصار والصواغ ما أفسد ، وكان علي بن الحسين عليهالسلام يتفضل عليهم».
(3).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي بصير (4) في الصحيح عن
أبي عبد الله عليهالسلام في الجمال
يكسر الذي يحمل أو يهريقه؟ قال إن كان مأمونا فليس عليه شيء وإن كان غير مأمون
فهو ضامن».
وما رواه في التهذيب والفقيه عن أبي بصير (5) في الصحيح عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا
يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلا أن يكونوا متهمين ، (فيجيئون) بالبينة ،
ويستحلف لعله يستخرج منه شيئا وفي رجل استأجر حمالا فكسر الذي يحمل أو يهريقه فقال
على نحو من العامل : إن كان مأمونا فليس عليه شيء
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 243 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 217 ح 30 ، الفقيه ج
3 ص 161 ح 1.
(2) الكافي ج 5 ص 242 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 220 ح 44 ، الفقيه ج
3 ص 162 ح 8.
(3) الفقيه ج 3 ص 161 ح 3.
(4) الكافي ج 5 ص 244 ح 6 ، التهذيب ج 7 ص 216 ح 26 ، الفقيه ج
3 ص 163 ح 12.
(5) التهذيب ج 7 ص 218 ح 33 وفيه «فيخوف» بدل «فيجيئون» ،
الفقيه ج 3 ص 163 ح 9.
وهذه
الروايات في الوسائل ج 13 ص 277 ح 2 وص 272 ح 4 وص 278 ح 7 وص 274 ح 11.
وإن كان غير مأمون فهو ضامن.».
وما رواه في التهذيب (1) عن بكر بن حبيب عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا
يضمن القصار إلا ما جنت يداه ، وان اتهمته أحلفته».
أقول : يعني بالنسبة إلى دعوى التلف كما هو سياق الأخبار
الآتية ، ومنها بالإسناد المتقدم (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : أعطيت جبة
الى القصار فذهبت بزعمه ، قال : ان اتهمته فاستحلفه وان لم تتهمه فليس عليه شيء».
وما رواه في التهذيب في الصحيح عن الصفار (3) «قال كتبت الى
الفقيه عليهالسلام في رجل دفع
ثوبا الى القصار ليقصره ، فدفعه الى قصار غيره ليقصره ، فضاع الثوب هل يجب على
القصار أن يرده إذا دفعه الى غيره ، وان كان القصار مأمونا؟ فوقع عليهالسلام : هو ضامن له
، إلا أن يكون ثقة مأمونا».
وما رواه في التهذيب عن حذيفة بن منصور (4) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل يحمل
المتاع بالأجر فيضيع فتطلب نفسه أن يغرمه لأهله ، أيأخذونه؟ قال : فقال لي : أمين
هو؟ قلت : نعم ، قال : فلا يأخذون منه شيئا» ، وعن حذيفة بن منصور (5) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : أن معاذ بن
كثير وقيسا أمرانى أن أسألك عن جمال حمل لهم متاعا بأجر ، وأنه ضاع منه حمل قيمته
ست مائة درهم وهو طيب النفس لغرمه لأنه ضياعته ، قال : يتهمونه؟ قلت : لا قال : لا
يغرمونه».
وما رواه في التهذيب عن معاوية بن عمار (6) في الصحيح عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته
عن الصباغ والقصار؟ قال : ليس يضمنان».
__________________
(1 و 2) التهذيب ج 7 ص 221 ح 49.
(3 و 4) التهذيب ج 7 ص 222 ح 56 و 57.
(5 و 6) التهذيب ج 7 ص 219 ح 36 ص220 ح 46 ، وهذه الروايات في
الوسائل ج 13 ص 275 ح 16 و 17 و 18 وص 279 ح 12 وص 274 ح 14.
وما رواه في التهذيب والفقيه عن جعفر بن عثمان (1) قال : «حمل
أبي متاعا الى الشام مع جمال فذكر أن حملا منه ضاع. فذكرت ذالك لأبي عبد الله عليهالسلام فقال : أتتهمه؟
قلت : لا قال : لا تضمنه».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن خالد بن الحجاج (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الملاح
أحمل معه الطعام ثم أقبضه منه فينقص ، قال إن كان مأمونا فلا تضمنه».
أقول : هذا ما حضرني من أخبار المسئلة ، وليس فيها ما
يدل على القول المشهور إلا ظاهر الرواية الأخيرة ، والشيخ قد حملها على ما إذا
كانا مأمونين ، وهو جيد.
وأما ما يدل على قول المفيد والسيد فجملة من الأخبار
التي عرفت ، وأنت إذا رددت هذه الأخبار التي تلوناها عليك بعضها إلى بعض وحملت
مطلقها الى مقيدها ، ظهر لك أن الحكم بالنسبة إلى دعوى التلف أنه ان كان أمينا غير
متهم فلا ضمان عليه ، والا فهو ضامن ، الا أن يقيم البينة ، أو يكون لأمر ظاهرا في
دعواه.
وبه يظهر أن إطلاق كل من القولين المتقدمين ليس في محله
، والعلامة في المختلف حيث اختار قول المشهور كما قدمنا نقله عنه حمل ما نقله من
الاخبار الدالة على قول المفيد والمرتضى على التفريط والتعدي ، جمعا بين الأدلة ،
أو على تأخير المتاع عن الوقت المشترط ، وان كان نوع تفريط ، لما رواه الكاهلي (3) في الحسن عن
الصادق عليهالسلام قال : سألته
عن القصار يدفع اليه الثوب واشترط عليه أن يعطيه في وقت ، قال : إذا خالف وضاع
الثوب بعد الوقت فهو ضامن».
وأنت خبير بما فيه من التعسف المستغنى عنه ، فإنه لا
إشعار في شيء
__________________
(1 و 2) التهذيب ج 7 ص 217 ح 28 و 29.
(3) التهذيب ج 7 ص 219 ح 39.
وهذه
الروايات في الوسائل ج 13 ص 278 ح 6 وص 277 ح 3 وص 273 ح 7.
من تلك الأخبار بما ادعاه من التعدي
والتفريط ، بل هي ظاهرة الدلالة في المدعى وما ادعاه من الحمل على تأخير المتاع
أبعد ، إذ لا إشعار في شيء منها بذلك ، بل هي ظاهرة في أن الضمان إنما هو من حيث
التلف ، وان كان لا عن تعد ولا تفريط والوجه في الجمع إنما هو ما قلناه ، لتكاثر
الأخبار به كما عرفت.
واستند في المسالك حيث اختار القول المشهور إلى أصالة
البراءة ولأنهم أمناء فلا يضمنون بدون التفريط ، قال : وفي كثير من الأخبار دلالة
عليه ، وفيه أن الأصل يجب الخروج عنه بالدليل ، وقد عرفته مما ذكرناه من الأخبار
الساطعة في ذلك على وجه لا تقبل الإنكار الا من حيث قصور التتبع لها ، كما لا يخفى
على من جاس خلال الديار ، وأما ما ذكره من أنهم أمناء فلا يضمنون الا مع التفريط ،
فهو وان كان كذلك في جملة من المواضع ، الا أنه من الجائز خروج هذا الحكم من تلك
المواضع ، لأن الإجارة على هذا الوجه نوع معاوضة ، فيجب إيصال كل عوض الى مستحقه
أو بدله ، الا أن يعلم بأحد الوجهين المتقدمين تلفه بغير تفريط ولا تعد ، ولهذا ان
أخبار هذه المسئلة على كثرتها وتعددها كما عرفت خالية عن ذلك ، فإنها على تعددها
واستفاضتها وصحتها وضم بعضها الى بعض صريحة في الضمان إلا مع كون الأجير ثقة
مأمونا غير متهم كما عرفت ، ولا إشعار في شيء منها ، فضلا عن الظهور بكون الضمان
مستندا الى التفريط أو التعدي ، وإنما رتب فيها على مجرد التلف ، ولكنهم لعدم
التتبع التام للأخبار يقعون فيما يقعون فيه ، والحكم كما ذكرنا واضح بحمد الله
سبحانه.
ثم ان الظاهر أن ما دل عليه صحيح الحلبي ومرسل الفقيه من
التفضل والتطوع بعدم الضمان ، ينبغي حمله على ذينك الإمامين عليهماالسلام بمعنى أنه إذا
وقع ذلك في مالهما لا يضمنون العامل جمعا بين الأخبار ، لما عرفت من قول أمير
المؤمنين والرضا عليهماالسلام «لا يصلح الناس
الا أن يضمنوا احتياطا على أموال الناس» بمعنى أن الحكم الشرعي تضمينهم ، فإنهم
متى عرفوا ذلك احتاطوا في
حفظ أموال الناس خوف الغرم ، ولو حمل
الخبران الأولان على أن المراد بهما أنهما عليهماالسلام يحكمان
بالتفضل والتطوع بالنسبة إلى الناس ، لحصلت المنافاة والمعارضة بين الأخبار ، على
أن صحيح الحلبي صريح في أن تطوله عليهالسلام بعدم الضمان
إنما هو في صورة ما إذا كان مأمونا ، وحينئذ فيرجع الى الأخبار الأخيرة الدالة على
قيد المأمونية ، ويحمل إطلاق تفضل على بن الحسين عليهالسلام على ذلك ، وبه
يزول الاشكال وان حمل على غيرهما من الناس ، والله سبحانه العالم.
الخامسة والعشرون : في إجارة
المملوك ، والكلام فيها يقع في مواضع : الأول : فيما إذا آجر المولى عبده أو آجر
العبد نفسه باذن مولاه فأفسد ، فلا خلاف ولا إشكال في لزوم ذلك للمولى ، لمكان
إذنه ، لأن الإذن في الإجارة يقتضي الالتزام بلوازمها التي من جملتها الضمان هنا ،
لكن الخلاف إنما هو في أنه هل يختص الضمان بكسب العبد ، لأن الصانع لما كان ضامنا
لما يفسده في ماله ، والعبد لا مال له ، تعلق الضمان بكسبه ، وعلى هذا لو زادت
الجناية على الكسب لم يلزم المولى شيء أو يكون الضمان علي المولى؟ مطلقا قولان :
وبالثاني قال في النهاية وأبو الصلاح.
قال في النهاية : من استأجر مملوك غيره من مولاه ، فأفسد
المملوك شيئا أو أبق قبل أن يفرغ من عمله كان مولاه ضامنا لذلك ، وقال ابن إدريس :
يكون ضامنا لبقية الأجرة دون أرش ما أفسده.
أقول : وكلام ابن إدريس لا يخلو من إجمال ، فإنه يحتمل
أن يراد به أن أرش الجناية لا يضمنه السيد من ماله ، ولا من كسب العبد ، وحينئذ
فيكون هذا قولا ثالثا في المسألة ، ولم أقف على من نقله عنه ، ويحتمل أن يراد به
أنه لا يضمنه المولى من ماله ، وان ضمنه من كسب العبد ، كما هو القول الأخر في
المسئلة ، الا أنه لا يخلو من بعد ، وكلام أبى الصلاح على نحو كلام الشيخ.
والذي يدل على ما ذهب اليه الشيخ ما رواه في الكافي
والتهذيب عن زرارة
وأبي بصير (1) في الصحيح أو
الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قضى
أمير المؤمنين عليهالسلام في رجل كان له
غلام استأجره منه صائغ أو غيره قال : ان كان ضيع شيئا أو أبق فمواليه ضامنون». وظاهر
المختلف حمل الرواية على أن الضمان المراد ضمان الموالي من كسب العبد لا من
أموالهم ، ولا يخفى بعده ، وفصل في المسالك وقال : والأصح أن الإفساد ان كان في
المال الذي يعمل فيه من غير تفريط تعلق بكسبه ، كما ذكروه ، وان كان بتفريط تعلق
بذمته يتبع به إذا أعتق ، لأن الاذن في العمل لا يقتضي الاذن في الإفساد.
نعم لو كان باذن المولى تعلق به ، وعليه تحمل الرواية ،
وان كان بجناية على نفس أو طرف تعلق برقبة العبد ، وللمولى فدائه بأقل الأمرين من
القيمة أو الأرش ، سواء كان باذن المولى أم لا ، انتهى.
وفيه أولا أن ظاهر قوله «نعم لو كان باذن المولى تعلق
بالمولى ، يعطي أن حكمه بتعلقه بكسب العبد في صورة عدم التفريط والتعدي ، والتعلق
بذمته في صورة التفريط مبنى على أن الاستيجار بدون اذن المولى ، وهو خلاف فرض أصل
المسئلة وذلك فإن البحث هنا في المسئلة إنما بنى على ما قدمنا ذكره من اجارة
المولى عبده أو إجارة العبد نفسه باذن المولى ، وثانيا أنه مع عدم الإذن فإنه لا
ريب في بطلان الإجارة ، فلا يترتب عليها شيء مما ذكر من الضمان ، لأن تصرف
المستأجر في العبد بدون اذن مولاه غصب محض ، لا يستحق ضمانا ، ويحتمل أن المراد
أنه لو أذن المولى للعبد في الإفساد فيكون الضمير في كان راجعا إلى الإفساد ، وهو
وان كان معنى صحيحا في حد ذاته ، الا أن حمل الرواية على ذلك في غاية البعد.
وبالجملة فإن فهمي القاصر ـ عن ادراك معنى صحيح لهذا
الكلام ـ خاسر ، وكيف كان فإنه لا يخفى ما في الحكم بتعلق حكم الضمان بذمته ، وأنه
يتبع به إذا
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 302 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 213 ح 18 ، الوسائل
ج 19 ص 183 ح 1.
أعتق من الاشكال ، لما فيه من الضرر
على المالك ، فإنه قد يتعمد العبد الجناية على مال المالك ، ويفرط فيه فيسرق لعلمه
بأنه لا يؤاخذ به الا بعد العتق ، مع أنه قد لا يعتق بعد موت المالك ، أو يكون
فقيرا بعد العتق ، وكيف يصح ارتكاب هذا الضرر ، مع عدم وجود دليل عليه ، والرواية
ظاهرة الدلالة بإطلاقها على ضمان المولى مطلقا ، ويؤيدها أن المولى بوصفه عبده
وإجارته لمثل هذه الأمور التي لا يحسنها في قوة المدلس ، فيجب عليه الضمان.
وبالجملة فالظاهر هو الوقوف على ظاهر النص المذكور ، كما
ذكره الشيخ ومن تبعه ، والخروج عنه بغير دليل شرعي سوى هذه التخريجات مشكل ، والله
سبحانه العالم.
الثاني : لو آجر السيد عبده ثم أعتقه فلا خلاف في صحة
الإجارة والعتق ، أما الإجارة فظاهر ، لأن منافع العبد لمولاه حال ملكه ، فيجوز له
نقلها بالإجارة كمنفعة نفسه ، فإنه يوجر نفسه غيره ، وأما العتق فكذلك أيضا ، فإنه
مالك لرقبته ، والعتق مورده رقبة المملوك ، والمنافع وان كانت تابعة للرقبة الا
أنه قد سبق ملكها ، أو ملك بعضها بعقد الإجارة ، غاية الأمر أن العتق إنما صادف
الرقبة دون منافع مدة الإجارة ، فتزول السلطنة عن الرقبة ، والمنافع التي لم تدخل
تحت الإجارة ، وهو مما لا خلاف ولا اشكال فيه.
وإنما الخلاف في أنه هل يرجع المملوك على مولاه بأجرة
المثل عن تلك المدة التي آجره فيها أم لا؟ قال ابن إدريس ومثله الشيخ في المبسوط :
إذا آجر عبده مدة ثم أعتقه في أثنائها صح ، وهل يرجع على السيد يأجره المثل لما
يلزمه من الخدمة بعد الحرية؟ قيل : فيه قولان : أحدهما يرجع بأجرة المثل في تلك
المدة ، والآخر لا يلزمه ، وهو الصحيح لأنه لا دليل عليه ، والأصل براءة الذمة ،
وربما علل الرجوع بأن إزالة الرق يقتضي ملك العبد لمنفعته ، فإذا سبق نقل المولى
لها فاتت العين ، فيرجع العبد على المولى بعوضها ، وهو أجرة المثل ، وضعفه ظاهر
مما تقدم ، فان تصرف المولى بالإجارة
في تلك المنافع لا ريب في صحته ، وعدم ترتب ضمان عليه في ذلك واستحقاق المستأجر
لتلك المنافع مما لا ريب فيه أيضا ، والعتق إنما صادف ازالة الرق عن الرقبة مسلوبة
المنافع تلك المدة ، فقول القائل المذكور أن الرق يقتضي ملك العبد لمنفعته إنما
يتم ، فيما إذا صادف العتق ازالة الرق من الرقبة ومنافعها ، لا فيما نحن فيه ،
ولهذا لو أعتقه وشرط عليه خدمته مدة معينة صح ذلك ، كما أن المنفعة هنا لا يقتضي
العتق ملك العبد لها لمكان الشرط ، كذلك فيما نحن فيه للسبق ، فان المالك قد آجرها
سابقا وهذه الصورة أولى بعدم مطالبة العبد من صورة الشرط.
وبالجملة فإن ضعف القول المذكور أظهر من أن يخفى ، ومن
المحتمل قريبا أن هذا القول إنما هو للعامة كما هو مؤمى عبارة المبسوط ، فإنه لم
ينسب الى أحد من أصحابنا صريحا ، والظاهر أن الأصحاب إنما نقلوا الخلاف من هذه
العبارة ، بقي الكلام هنا في شيء آخر أيضا وهو نفقة العبد في مدة الإجارة.
قال في المسالك بعد البحث في الحكم المتقدم : إذا تقرر
ذلك فنفقة تلك المدة إذا لم تكن مشروطة على المستأجر ، هل يجب على مولاه ، أو في
كسبه ، أو في بيت المال ان كان؟ أوجه : من انتفائها من العبد ، لاستغراق وقته في
الخدمة ، وعن المستأجر لانتفاء الشرط ، فلم يبق لها محل الا السيد ، ولأنه ملك عوض
المنفعة تلك المدة ، ومن انتفاء المقتضي ، للإنفاق ، وهو الملك ، وقد زال ومن أن
النفقة مقدمة على حق كل أحد كما في المديون والمعسر ، فيخرج من الكسب مقدمة على حق
المستأجر ، والأقوى الأخير لزوال ملك السيد وعجزه عن نفسه ، ولبطلان الحصر وعدم
استلزام تملك عوض منفعة تلك المدة النفقة ، وإنما تقدم النفقة على حق الغير من مال
المكتسب ، وبيت المال معد للمصالح ، وهو من جملتها ، ومع تعذره فهو من الواجبات
الكفائية على سائر المكلفين ، انتهى.
أقول : قد تقدم نقل الخلاف في نفقة الدابة إذا آجرها
المالك هل هي على
المستأجر أو المالك؟ والإنسان إذا آجر
نفسه هل نفقته على نفسه ، أو المستأجر ، ومحل الاشكال هنا إنما يتوجه على القول
بكون النفقة على المالك في الأول ، وعلى الموجر نفسه في الثاني ، وأما على تقدير
كونها على المستأجر أصالة كما هو أحد القولين أو بالشرط على القول الثاني فلا
اشكال ، ولهذا انه لما كان مذهب شيخنا الشهيد الثاني هو أن النفقة على المالك ،
والموجر نفسه ، جعل محل الاشكال فيما لو لم يكن مشروطة على المستأجر ، وقد استشكل
في ذلك أيضا جمع من الأصحاب منهم العلامة في الإرشاد ، ووجه الاشكال كما ذكره هنا
من أنه ملك عوض المنفعة تلك المدة واستوفاه ، فيلزمه النفقة ، ومن أنه بالعتق خرج
عن ملكه ، المقتضى لوجوب الإنفاق ، فيزول وجوب الإنفاق.
وبالجملة فالمسئلة محل اشكال ، لخلوها من النص ، وان كان
ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني لا يخلو عن قرب ، بناء على الأخذ بهذه التقريبات
المتداولة في كلامهم ، لأنه نفاها عن المستأجر من حيث عدم الشرط ، بناء على مذهبه
في المسئلة كما أشرنا اليه ، وعن السيد لتبعية وجوب النفقة للملك ، وعدم ثبوت
الاستلزام المدعى ، وعن العبد ، لاستغراق وقته في الخدمة ، وتقديمها من الكسب ـ على
حق المستأجر ، قياسا على المديون ، والمعسر ـ إنما يتم لو كان له مال مكتسب ، وقد
عرفت أنه لانتقال منافعه إلى المستأجر واستغراق وقته في الخدمة لا مال له ، فلا
وجه لإيجابها في كسبه ، إذ لا كسب له ، فلم يبق الا الرجوع الى بيت المال ان كان ،
أو المؤمنين وجوبا كفائيا ، والله سبحانه العالم.
الثالث : قال في
المختلف : إذا استأجر العبد سنة ، ثم مات بعد مضي نصفها ، قال الشيخ وتبعه ابن
إدريس : يصح فيما مضى ، ويبطل فيما بقي ، وله المطالبة بأجرة المثل ، فان تساويا
أخذه ، وان كان أجرة الباقي أكثر استحق الزيادة ، مثل أن يكون أجرة الماضي مائة ،
والباقي مأتين ، فإنه يستحق عليه مأتين ، وبالعكس ، وهذا القول فيه نظر ، بل الحق
أن ينسب المسمى إلى أجرة المثل ،
ويقسط ما قابل المتخلف ، وكأن مراد
الشيخ ذلك ، انتهى.
السادسة والعشرون : قد صرح
الأصحاب بأنه لا يضمن صاحب الحمام الا ما أودع وتعدى أو فرط فيه ، وهو كذلك ، اما
أنه لا يضمن بغير الإيداع فظاهر ، لأن الأصل براءة الذمة من وجوب حفظ مال الغير مع
عدم الالتزام به حتى لو نزع المغتسل ثيابه ، وقال احفظها ولم يقبل لم يجب عليه
الحفظ ، وأما أنه مع الإيداع لا يضمن الا بالتفريط أو التعدي ، فلأنه أمين محض ،
وقد تقدم تحقيق القول فيه في كتاب الوديعة ، ويدل على ذلك أيضا ما رواه
المشايخ الثلاثة مرسلا (1) في بعض عن
الباقر عن أمير المؤمنين عليهماالسلام ، ومسندا في
بعض عن غياث بن إبراهيم (2) «عن أبي عبد
الله عن أبيه عليهماالسلام ان أمير
المؤمنين عليهالسلام أتى بصاحب
حمام وضعت عنده الثياب فضاعت فلم يضمنه ، وقال : إنما هو أمين».
قال بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين لعل المعنى
أنه يحفظها بمحض الأمانة ، وليس ممن يعمل فيها أو يأخذ أجرة على حفظها ، فهو محسن
لا سبيل عليه ، ويمكن أن يقال : خصوص هذا الشخص كان أمينا غير متهم ، فلذا لم
يضمنه ، والأول أظهر انتهى.
أقول : بل الظاهر أن الثاني أظهر إذ مجرد وضع الثياب
عنده من غير أن يظهر منه ما يدل على قبول أيتمانها لا يدل على كونه أمينا يترتب
عليه ما يترتب على سائر الأمناء من عدم الضمان الا مع التفريط ، وقد تقدم ذلك في
كتاب الوديعة.
وما رواه في التهذيب عن السكوني (3) عن جعفر عن
أبيه عليهماالسلام أن عليا عليهالسلام كان يقول لا
ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب ، لأنه إنما أخذ الجعل على الحمام ، ولم
يأخذ على الثياب».
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 163 ح 10.
(2) الكافي ج 5 ص 242 ح 8 ، التهذيب ج 7 ص 218 ح 36 ، الوسائل
ج 13 ص 270 ح 1.
(3) الوسائل ج 13 ص 271 ح 3 الباب 28 من أبواب أحكام الإجارة
التهذيب ج 6 ص 314 ح 869 ، الرواية بهذا المتن بعينها هي رواية إسحاق بن عمار ولم
نقف على هذا المتن عن طريق السكوني.
وما رواه في قرب الاسناد عن أبي البختري (1) عن جعفر عن
آبائه عليهمالسلام «عن علي عليهالسلام أنه كان لا
يضمن صاحب الحمام ، وقال : إنما يأخذ أجرا على الدخول الى الحمام».
وما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار (2) عن جعفر عن
أبيه عليهماالسلام أن عليا عليهالسلام كان يقول لا
ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب».
السابعة والعشرون : قال في
الخلاف : إذا آجر الأب أو الوصي الصبي أو شيئا من ماله صحت الإجارة إجماعا ، فإن
بلغ الصبي قبل انقضاء المدة كان له ما بقي ولم يكن للصبي فسخه ، لان العقد على غير
البالغ وعلى ماله وقع صحيحا بلا خلاف فمن ادعى أن له الفسخ بعد البلوغ فعليه
الدلالة ، وتبعه ابن إدريس في ذلك.
وقال في المبسوط : ان له فسخها فيما بقي وقيل : انه ليس
له ذلك ، وهو الأقوى ، قال في المختلف : والحق أن له الفسخ ، لنا أن الولاية تابعة
للصغر ، وقد زال فتزول الولاية ، والعقد تابع لها ، فيزول بزوالها ، ولأنه لو عقد
عليه مدة يعلم بلوغه في بعضها بطلت في الزائد ، فكذا في المجهول مع وقوعه ، لأن
العلم والجهل لا مدخل لهما في ثبوت الولاية وعدمها ، انتهى.
أقول : وينبغي أن يعلم أن هنا صورتين : إحديهما أن يأجره
مدة يعلم بلوغه ورشده قبل انقضائها ، كأن يأجره وهو ابن عشر سنين ، مدة سبع سنين ،
ولا خلاف هنا فيما أعلم أن الإجارة لازمة فيما قبل البلوغ والرشد ، وأما بعدهما
فإنه يكون موقوفا على إجازة الصبي ، لأن زمان الولاية عليه وعلى ماله ما قبل
الأمرين المذكورين ، فلا إشكال في لزوم الإجارة في تلك المدة ، وأما بعد حصول
الأمرين المذكورين فلا اشكال ولا خلاف في زوال الولاية عنه وحينئذ فلا إشكال في
توقف
__________________
(1) قرب الاسناد ص 71 ، الوسائل ج 13 ص 271 ح 2 الباب 28 من
أبواب أحكام الإجارة.
(2) التهذيب ج 6 ص 314 ح 869.
صحة الإجارة والحال هذه على إجازته ،
لأن العقد في هذه المدة الزائدة يصير بمنزلة الفضولي.
الثانية : ان يأجره في مدة لا يعلم ذلك ، الا أنه اتفق
حصوله في أثناء المدة وهذه الصورة هي محل الخلاف ، فظاهر كلام الشيخ المذكور هو
صحة الإجارة في جميع المدة صحة لازمة لوقوع الإجارة من أهلها في محلها في وقت لا
يعلم لها مناف ، فتستصحب. وظاهر العلامة هو الصحة كذلك إلى حين اجتماع الشرطين
المذكورين ، لانتفاء المانع ، وأما بعد حصولهما فإنه يكون الحكم كما في سابق هذه
الصورة ، لأن زمان الولاية ما قبل الكمال ، فيكون نفوذ التصرف مقصورا عليه ، وفي
الشرائع تردد في هذه الصورة لما عرفت من تدافع التعليلين المذكورين ، وفي المسالك
قوى قول العلامة أقول : والمسئلة بالنسبة الى هذه الصورة كغيرها من المسائل الغير
المنصوصة محل اشكال ، وأما بالنسبة إلى الصورة الأولى فإنه لا ريب في صحة الإجارة
ولزومها قبل حصول الشرطين المذكورين ، وأما بعدهما فان قلنا بصحة العقد الفضولي
كما هو المشهور ، وأجاز الصبي فكذلك ، وان قلنا بالبطلان كما هو المختار فالحكم
ظاهر ، وهكذا الكلام بالنسبة إلى مذهب العلامة ومن تبعه في الصورة الثانية.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن أكثر الأصحاب الذين تعرضوا لهذه
المسئلة ومنهم الشيخ والفاضلان انما ذكروا بالنسبة إلى زوال الولاية بالبلوغ خاصة
، مع أنه لا خلاف في ضم الرشد اليه ، فلو بلغ ولم يكن رشيدا فالولاية باقية ، ففي
الصورة الأولى لو آجره مدة يعلم بلوغه فيها ولا يعلم رشده ، بل كان مجهولا فان
الحكم فيها كما في الثانية ، أما إذا كان معلوما كأن يكون متميزا قبل البلوغ ،
فإنه يكون الحكم كما ذكروه ، ومنه يعلم أن الصورة الثانية أعم من أن لا يعلم بلوغه
ولا رشده أو يعلم بلوغه ولا يعلم رشده ، ثم اتفق حصولهما ، ولو تلف الصبي بعد
تسليم المستأجر له وكذا غيره ممن تستأجره للعمل عنده لم يضمنه ، ولا فرق هنا بين
الصغير والكبير ، والحر والعبد ، فان كل من يسلم أجيرا ليعمل له فتلف لم يضمنه ،
لأنه قبضه لاستيفاء منفعة مستحقة لا
يمكن تحصيلها إلا بإثبات اليد عليه فكان أمانة في يده ، قالوا : ولا فرق بين تلفه
مدة الإجارة وبعدها.
أقول : أما تلفه مدة الإجارة فلا ريب فيه ، وأما بعدها
لو كان صبيا أو مملوكا فهو مبني على ما هو المشهور ، كما تقدم في الموضع الخامس من
المطلب الأول من هذا الكتاب (1) من أن العين
المستأجرة من دابة أو صبي أو مملوك بعد تمام المدة هل يجب على المستأجر ردها الى
المالك ، فلو أخرها ضمن ، ووجب عليه نفقتها أولا يجب عليه ذلك الا بعد طلب المالك
، والا فقبل ذلك انما يجب عليه رفع اليد عنها ، والتخلية بين المالك وبينها ،
قولان : أشهرهما الثاني ، والكلام هنا مبني على هذا القول والله سبحانه العالم.
الثامنة والعشرون : المشهور في
كلام المتقدمين أن من تقبل عملا لم يجز أن يقبله غيره بنقيصة ، الا أن يحدث فيه
حدثا يستبيح به الفضل ، وقيل ، بالكراهة واختاره في المسالك ، والظاهر أنه قول
أكثر المتأخرين.
ومن الأخبار الدالة على المشهور ما رواه في الكافي في
الصحيح عن محمد بن مسلم (2) «عن أحدهما عليهماالسلام أنه سئل عن
الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه ويدفعه الى آخر فيربح فيه؟ قال : لا إلا أن يكون
قد عمل فيه شيئا».
وما رواه التهذيب في الصحيح عن أبي حمزة (3) عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «سألته
عن الرجل يتقبل العمل فلا يعمل فيه ويدفعه الى آخر يربح فيه؟ قال لا» : وما رواه
المشايخ الثلاثة عن الحكم الخياط (4) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام أني أتقبل
الثوب بدرهم وأسلمه بأقل من ذلك لا أزيد على أن أشقه قال : لا بأس بذلك ، ثم قال :
لا بأس فيما تقبلت من عمل ثم استفضلت فيه».
__________________
(1) ص 542.
(2) الكافي ج 5 ص 273 ح 1.
(3) التهذيب ج 7 ص 210 ح 5 ، هما في الوسائل ج 13 ص 265 ح 1 و
4.
(4) الكافي ج 5 ص 274 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 210 ح 7 ، الوسائل ج
13 ص 265 ح 2.
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن مجمع (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام أتقبل الثياب
أخيطها ثم أعطيها الغلمان بالثلثين فقال : أليس تعمل فيها قلت : أقطعها واشتري لها
الخيوط قال : لا بأس».
وعن علي الصائغ (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : أتقبل العمل
ثم أقبله من غلمان يعملون معي بالثلثين فقال : لا يصلح ذلك الا أن تعالج معهم فيه
قلت : فإني أذيبه لهم ، قال : فقال ذاك عمل فلا بأس».
وما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم (3) عن أحدهما عليهماالسلام قال : سألته
عن الرجل الخياط يتقبل بالعمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل قال : لا بأس قد عمل
فيه».
هذا ما حضرني من أخبار المسئلة ، وكلها كما ترى ظاهرة
الدلالة في القول الأول ، وهو الذي عليه المعول ، ثم انه ينبغي أن يعلم أن جواز
دفعه الى غيره مشروط بما إذا كان العمل في الذمة بأن يحصل له هذا العمل بنفسه أو
غيره ، أما لو كان الاستيجار على فعله بنفسه فإنه لا يجوز له الدفع الى غيره ، ثم
انه على تقدير الأول هل يكون ضامنا بدفعه الى الغير بدون اذن المالك صرح ابن إدريس
بذلك ، والمشهور خلافه ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في المسئلة الرابعة من
مسائل هذا المطلب (4).
التاسعة والعشرون : اختلف
الأصحاب في جواز الإجارة بأكثر مما استأجر إذا لم يحدث فيه حدثا فقيل بالتحريم ،
وهو المشهور بين المتقدمين ، وقيل بالجواز على كراهة وهو المشهور بين المتأخرين ،
وتقدم تحقيق القول في ذلك في صدر كتاب المزارعة (5).
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 159 ح 10 ، التهذيب ج 7 ص 211 ح 8 ـ الوسائل
ج 13 ص 266 ح 6.
(2 و 3) التهذيب ج 7 ص 211 ح 9 وص 210 ح 6 ، وهذه الروايات في
الوسائل ج 13 ص 266 ح 6 و 7 و 5.
(4) ص 563.
(5) ص 292.
الثلاثون : اختلف الأصحاب
في جواز إجارة الأرض بالحنطة والشعير مما يخرج منها ، فقيل : بالتحريم ، وقيل :
بالكراهة ، وقد تقدم أيضا تحقيق الكلام في ذلك في الموضع المشار إليه.
الحادية والثلاثون : إذا دفع الى
غيره سلعة ليعمل له فيها عملا كالقصار والغسال ونحوهما فقد صرح المحقق بأن له أجرة
المثل بشرط أحد الأمرين ، إما كون العامل من عادته أن يأخذ الأجرة على مثل ذلك
العمل ، أو كون ذلك العمل مما له أجرة في العرف والعادة المستمرة ، وعن العلامة
أنه اعتبر كون العمل له أجرة عادة خاصة.
ويتخرج على ذلك صور أربع : الأولى : ما إذا حصل الشرطان
المذكوران في كلام المحقق ، والأجرة ثابتة على كلا القولين.
الثانية : انتفاؤهما معا ولا أجرة على القولين ، ولا فرق
حينئذ بين كون العمل متقوما بأجرة وعدمه ، إذا لم يكن له في العادة أجرة ، ولا أعد
العامل نفسه لها.
الثالثة : أن يكون العمل مما له أجرة بحسب العادة ، ولكن
ليس من عادة العامل الاستيجار له ، والأجرة ثابتة على القولين أيضا لأن هذا أحد
شرطي المحقق وهو الذي اقتصر عليه العلامة.
الرابعة : عكس هذه الصورة بأن يكون من عادته الاستيجار
له الا أن العمل ليس مما له أجرة بحسب العادة ، والأجرة ثابتة على مذهب المحقق ، دون
العلامة ، ورجح مذهب المحقق في هذه المسئلة بأن الأمر بالعمل يقتضي استيفاء منفعة
مملوكة ، للمأمور ، متقومة بالمال ، فوجب ثبوتها على الآمر كالاستيجار معاطاة ،
واللازم استيفاء عمل محترم بالأمر ، فلا يحل بدون العوض إلا بإباحة مالكه ، ولم
يتحقق وهو جيد.
المطلب الرابع في جملة من أحكام التنازع
منها التنازع في أصل الإجارة ، والقول في ذلك قول المنكر
منهما بيمينه ، سواء كان المالك أو الأجير ، لأن الأصل العدم ، والحكم اتفاقي نصا
وفتوى ، بقي الكلام في أنه لا يخلو اما أن يكون هذا التنازع قبل التصرف واستيفاء
المنافع كلا أو بعضا ، أو بعده ، وعلى الأول لا إشكال في رجوع كل مال الى صاحبه ،
وعلى الثاني فلا يخلو اما أن يكون مدعى الإجارة المالك أو المتصرف ، فان كان
المدعى المالك ، والحال أن المتصرف حلف على إنكار الإجارة ، انتفت الإجارة ، وعلى
المتصرف أجرة المثل ، عوض ما تصرف فيه ، فان كان أجرة المثل زائدة على ما يدعيه
المالك من المسمى في العقد بزعمه ، فإنه لا يجوز له أخذ الزيادة ، لاعترافه بأن
المسمى في العقد أقل من ذلك ، فلا يستحق أزيد منه ، وان وجب على المتصرف دفعها لو
لم يدفعها سابقا ، وحرمت المطالبة بها ان دفعها سابقا ، وان كان المسمى بزعم
المالك زائدا على أجرة المثل ، فان هذه الزيادة تنتفي بانتفاء الإجارة بعد اليمين
، فليس للمالك طلبها ، ولا يجب على المنكر دفعها ، وان دفعها سابقا استرجعها ، وان
كان مدعى الإجارة هو المتصرف ، والمالك ينكرها ، وينكر الاذن في التصرف مطلقا ، فقد
عرفت أن القول قوله بيمينه ، وحينئذ إذا حلف انتفت الإجارة ، واستحق أجرة المثل
لما تصرف فيه المستأجر بزعمه ، فله المطالبة بها ان لم يكن قبض قدرها سابقا ، وان
زادت عن المسمى بزعم المستأجر ، لأن المسمى قد بطل بانتفاء الإجارة ، وصار الحكم
هو أجرة المثل ، وأما لو زاد المسمى فإنه لا يجوز له أخذه لإنكاره الإجارة
وبطلانها باليمين ، وان كان يجب على المستأجر دفعه لاعترافه به ، ولو قبض المسمى
سابقا لم يكن للمستأجر المطالبة بالزائد لاعترافه به ، وان كان المالك يعترف أيضا
بأنه لا يستحقه ، ويضمن المستأجر العين في هذه الصورة ، لثبوت كون التصرف غصبا ،
بخلاف الأولى التي يدعي المالك فيها
الإجارة ، فإن العين باعترافه أمانة
في يد المستأجر ، نعم لو أنكر الإجارة واعترف بالإذن في التصرف ، فلا ضمان أيضا
للخروج عن الغصب بالاذن ، والله سبحانه العالم.
ومنها التنازع في قدر العين المستأجرة بان ادعى المستأجر
انك آجرتني الدار بأجمعها بمأة درهم ، فقال المالك بل أجرتك بيتا خاصا منها بمأة
درهم ، والمشهور أن القول قول المنكر لأصالة عدم وقوع الإجارة على الزائد عما
يعترف به المالك ، وقيل بالتحالف هنا ، لأن كلا منها مدع ومنكر فالمستأجر يدعى استيجار
الدار كملا ، والمالك ينكر ذلك ، والمالك يدعي إجارة البيت خاصة ، والمستأجر ينكر
ذلك.
وظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد الميل الى هذا
القول ، قال رحمة الله عليه : وأما المستأجر فالظاهر فيه التحالف ، لأنه بإنكار
أحدهما وحلفه لم ينقطع الدعوى والنزاع ، إذ قد ينقلب الحالف ويدعى الاستيجار في
العين الأخرى ، فلا بد من سماع دعواه ، ورده على وجه شرعي وليس الا بأن يكون القول
قول منكره مع اليمين ، وكذا هو الظاهر في دعوى قطعه قباء وقميصا ، ولعل المصنف لم
يذكر التحالف بناء على عدم دعوى الآخر ، وأما مع دعواه فالظاهر التحالف فتأمل ،
انتهى.
وحاصله ان ما ذكروه هنا من أن القول قول منكر الزيادة
بيمينه لا يحسم مادة النزاع ، لأنه متى حلف المالك الذي هو منكر لاجارة الدار كملا
انتفت الإجارة المدعاة ، لكن لو رجع على المستأجر وادعى عليه اجارة البيت بتلك
الأجرة التي اتفقا عليها ، والمستأجر ينكر ذلك ، لأنه إنما يدعي الدار كملا لا
بيتا منها خاصة ، فلا بد من المخرج من هذه الدعوى ، وليس الا بحلف المستأجر
لإنكاره تلك الدعوى ، فيكون القول قوله بيمينه ، وهو كلام وجيه.
وفي المسالك بعد أن نقل هذا القول إجمالا قال ، والأقوى
ما اختاره المصنف لاتفاقهما على وقوع الإجارة على البيت ، وعلى استحقاق الأجرة
المعينة ، وان كان
توزيعها يختلف بحسب الدعوى ، إنما
الاختلاف في الزائد فيقدم قول منكره ، وضابط التحالف أن لا يتفقا على شيء كما لو
قال : آجرتك الشيء الفلاني ، فقال : بل الفلاني ، أو آجرتك البيت فقال : بل
الحمام ، ومثله ما تقدم في البيع إذا اختلفا في قدر المبيع ، وفي تعينه ، فالقول
بالتحالف هنا دون البيع غير جيد ، انتهى.
وفيه ما عرفت آنفا من أن هذا إنما يتم لو لم يرجع المالك
، ويدعي على المستأجر ما ذكره من اجارة ذلك البيت المخصوص وإلا فإنه بعد دعواه هذه
لا مخرج منها إلا أن يحلف المستأجر ، فمادة الاشكال ودفع القيل والقال لا يتم الا
بالتحالف ، على أن ما ذكره من اتفاقهما على وقوع الإجارة على البيت ، وعلى استحقاق
الأجرة المعينة مما لا يسمن ولا يغني من جوع ، وان كان الأمر كما ذكره بالنسبة إلى
ظاهر الدعويين ، الا أنه متى حلف المالك على نفي اجارة الدار وانتفت الإجارة ،
والمستأجر لا يدعى البيت ، بل ينكره فأي ثمرة لهذا الاتفاق ، بل لا وجود له ،
وهكذا الكلام في الأجرة ، وما ذكره من الاستناد الى ما تقدم في البيع وأنه كيف
يقال بالتحالف هنا دون البيع ، ففيه أن القول بالتحالف ثمة أيضا موجود ، وان كان
خلاف ما يختاره كما هنا (قدسسره) وقد قدمنا
نقله في جملة من صور الاختلاف بين المتبايعين في المطلب الرابع في اختلاف
المتبايعين من الفصل الرابع في أحكام العقود (1).
وأما ما ذكره من القاعدة في التحالف فانى لم أقف عليها إلا
في كلامه في هذا الموضع ، وفي كتاب البيع ، ولا يحضرني الآن شيء من الأخبار
الواردة بالتحالف ، ولعل هؤلاء القائلين بالتحالف لا يثبتون هذه القاعدة ، على أنه
بناء على ما ذكرناه من وجه التحالف في الصورة المذكورة ، فإنها ترجع الى هذه
القاعدة أيضا لأنهما لم يتفقا على شيء ، وان أوهم تصوير المسئلة ذلك في بادى
الرأي ، لأنه متى كان المالك يدعي إجارة البيت خاصة ، والمستأجر ينكره ، والمستأجر
يدعي إجارة
__________________
(1) ج 19 ص 190.
الدار كملا ، والمالك ينكره ، فهو من
قبيل الأمثلة التي ذكرها ، ولا مخرج من هاتين الدعويين الا بالتحالف ، كما لا يخفى
، والله سبحانه العالم.
ومنها ما لو اختلفا في رد العين المستأجرة فإنه لا إشكال
في أن القول هنا قول المالك بيمينه ، لأنه منكر ، والأصل عدم الرد ، والمستأجر قبض
لمصلحة نفسه ، فلا يقبل قوله في الرد مع مخالفة الأصل ، وبهذا فرقوا بينه وبين
الودعي حيث أن المشهور في الودعي أن القول قوله في الرد ، وعللوه بأنه قبضه لمصلحة
المالك فهو محسن محض ، «و﴿ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ﴾» والتحقيق في
الفرق بين الودعي والأجير إنما هو ما قدمناه في كتاب العارية من أن قبول قول
الودعي إنما هو من حيث كونه أمينا ، وقد دلت الأخبار التي قدمناها في كتاب الوديعة
على أن الأمين ودعيا كان أو غيره من الأمناء يقبل قوله فيما يدعيه بغير اليمين ،
وان كان المشهور بينهم ضم اليمين.
وأما الأجير فإنهم وان ادعوا أنه أمين فهو غير مسلم ،
كما تقدمت الإشارة إليه في المسئلة الرابعة والعشرين ، لأنه عامل بأجرة ، فهو من
قبيل المعاوضات ، وبالجملة فإنه غير داخل في إطلاق تلك الأخبار ، وحينئذ فيرجع في
حكمه الى القاعدة المتفق عليها ، وهي أن البينة على المدعي ، واليمين على المنكر ،
بخلاف الودعي وغيره ممن يكون أمينا ، فإنه يعمل فيه بمقتضى تلك الأخبار ، وبها
تخصص أخبار تلك القاعدة المتفق عليها ، الا أنهم لعدم وقوفهم على الأخبار التي
قدمناها في الوديعة ، إنما عللوا قبول قول الودعي بما ذكروه هنا ، من أنه محسن ، «وليس
على المحسنين من سبيل» بخلاف من قبض لنفع نفسه ، وهو تعليل عقلي اصطلحوا عليه ،
ولا دليل عليه في الأخبار.
ومنها ما لو اختلفا في قدر الأجرة فقال الشيخ في
المزارعة من الخلاف : الذي يليق مذهبنا أن تستعمل فيه القرعة فمن أخرج اسمه حلف ،
وحكم له به ، لإجماع الفرقة على «أن كل مشتبه يرد إلى القرعة» وقال في المبسوط :
إذا
اختلفا في قدر المنفعة بأن يقول :
أكريتها شهرا ، أو يقول : إلى الكوفة ، فيقول : بل الى شهرين أو الى بغداد ، وفي
الأجرة قال قوم : يتحالفان ، وقال قوم : ان كان قبل مضي المدة تحالفا ، وان كان
بعدها في يد المكترى لم يتحالفا وكان القول قول المكترى ، كما في البيع القول قول
المشتري إذا كانت السلعة تالفة ، وهذا هو الذي يقتضيه مذهبنا ، وان قلنا يرجعان
إلى القرعة ، فمن خرج اسمه حلف وحكم له به كان قويا ، وقال ابن الجنيد : إذا اتفقا
في المدة والمكان واختلفا في الأجرة فكل منهما يدعي ما يجوز بمثله في الإجارة في
العرف ، كان الأجير مدعيا فضل أجرة في مال المستأجر ، وعليه البينة ، وكذلك ان
اختلفا في الجنس ، فيقول الأجير قفيز حنطة ، ويقول المستأجر خمسة دراهم ، هذا إذا
انقضت المدة أو ركبت الدابة ، وان كان قبل العمل أو الركوب ، ولم تقم بينة ولم
يسأل أحدهما يمين الآخر تحالفا وانفسخت الإجارة.
وقال ابن البراج : ان لم تكن بينة تحالفا ، فان نكل
أحدهما عن اليمين كان القول قول الآخر مع يمينه ، فان حلفا جميعا أو نكلا معا عن
اليمين انفسخ العقد في المستقبل ، وكان القول قول مالك الدار مع يمينه في الماضي ،
فان لم يحلف كان له أجرة مثلها عما سكنه المستأجر.
وقال ابن إدريس : القول قول المستأجر وعلى المالك البينة
، وقال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال ، ثم قول ابن إدريس أخيرا : وهو الوجه ،
لنا أنه منكر ، ولو أقام كل منهما بينة قدمت بينة المدعي ، لأن القول قول المنكر
وللتحالف وجه ، لأن كل واحد منهما مدع باعتبار ، وكذا القرعة ، وقد تقدما في
البيع.
أقول : والمشهور بين المتأخرين هو ما ذكره ابن إدريس ،
وهو الأنسب بمقتضى قواعدهم ، لأنهما قد اتفقا على العقد ، وعلى انتقال العين
المستأجرة والمدة ، وثبوت الأجرة التي يدعيها المستأجر ، وانما الخلاف فيما زاد
عنها ، فأحدهما
يدعيه ، والآخر ينكره ، والأصل عدمه ،
فالقول قول المنكر بيمينه ، إلا أن المسئلة لما كانت خالية من النص فللاشكال فيها
مجال.
وبالجملة فإن المسئلة هنا جارية عندهم على ما تقدم في
البيع من الاختلاف في قدر الثمن ، وقد تقدم نقل الأقوال فيها كما هنا ، إلا أن ثمة
نص ، لكنه مخالف لمقتضى قواعدهم ، فأخذ به بعض ، وأطرحه آخر ، وقد تقدم تحقيق
الكلام فيه ثمة.
وأنت خبير بأن قول جملة هؤلاء الفضلاء بالتحالف في
المسئلة فتوى أو احتمالا مما يوهن الضابطة التي ادعاه الشهيد الثاني في التحالف ،
وأنها ليست ضابطة كلية ، للاتفاق على وقوع العقد والمدة والعين المستأجرة مع أن
هؤلاء قالوا : بالتحالف فيها ، والضابطة المذكورة تضمنت أن لا يتفقا على شيء ،
فلو كان الأمر كذلك لما خرج عنها جملة هؤلاء الفضلاء من العلامة ومن قبله ، فان
العلامة هنا وان رجح ما ذهب اليه ابن إدريس إلا أن ظاهره احتمال التحالف ، والقرعة
كما هو أحد الأقوال المذكورة.
ومنها ما لو اختلفا في التلف فظاهر جملة من المتأخرين
وهو قول الخلاف وجملة من أتباعه : أنه لا ضمان على المستأجر ، بل القول قوله
بيمينه ، لأنه أمين وقيل : بالضمان ، وأن القول قول المالك ، إلا أن يقيم المستأجر
على ما ادعاه البينة ، أو يكون المدعى مشهورا ظاهرا : وقد تقدم الكلام في هذه
المسئلة ، ونقل الأقوال والأخبار المتعلقة بها كملا ، والكلام فيها بما رزق الله
سبحانه فهمه منها في المسئلة الرابعة والعشرين.
وقال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد نقل عبارة المصنف
المتضمنة لاختيار القول الثاني ما صورته : وقيل : القول قولهم مع اليمين ، لأنهم
أمناء وهو أشهر الروايتين ، وكذا لو ادعى المالك التفريط فأنكروا القول بضمانهم
مع عدم البينة هو المشهور ، بل ادعى
عليه الإجماع ، والروايات مختلفة ، والأقوى أن القول قولهم مطلقا ، لأنهم أمناء ،
وللأخبار الدالة عليه ، ويمكن الجمع بينها وبين ما دل على الضمان بحمل تلك على ما
لو فرطوا أو أخروا المتاع عن الوقت المشترط ، كما دل عليه بعضها ، انتهى.
أقول : لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه بعد الإحاطة بما
قدمنا تحقيقه في المسئلة المذكورة ، وذلك فان روايات المسئلة بعد حمل مجملها على
مفصلها ومطلقها على مقيدها ، لا تخرج عن ثلاثة أقسام ، فقسم منها تضمن أن كل ما
جنته يد الصانع والعامل سواء كان عن تفريط أم لا فهو ضامن ، وأن ذلك قاعدة كلية في
كل من أعطى الأجر ليصلح ، فأفسد.
وقسم منها تضمن أن مع دعوى التلف فإنه يضمن ، إلا أن
يقيم البينة أو يكون التلف ظاهرا مشهورا كالغرق والحرق والغارة ، ونحو ذلك.
وقسم منها تضمن أنه مع دعوى التلف فان كان ثقة مأمونا
غير متهم ، فلا ضمان عليه ، وإلا فهو ضامن ، وكل من الأقسام الثلاثة اشتمل على
روايات عديدة ، وليس فيها ما يدل على ما ادعاه وغيره ممن قال بهذا القول ، سوى
رواية واحدة وهي صحيحة معاوية بن عمار (1) ، وقضية الجمع بين الأخبار تقييدها
بما دلت عليه اخبار المسئلة ، كما ذكره الشيخ ، وبذلك يظهر لك ما في قوله أن القول
قولهم بيمينهم وهو أشهر الروايتين ، فإنه ليس في أخبار المسئلة على كثرتها وتعددها
سوى رواية معاوية بن عمار المذكورة ، فمن اين هذه الشهرة ، فإن أراد الروايات
الواردة في غير هذه المسئلة كالواردة في الوديعة ونحوها مما يدل على ان الأمين لا
يضمن ، وأن القول قوله ، فهو مسلم ولكن روايات هذه المسئلة خاصة ، وكلها على كثرتها
متفقة على الضمان الا مع البينة ، أو ظهور الأمر ، أو كونه ثقة مأمونا ، وتلك
الروايات مطلقة ، ومقتضى القاعدة تقديم العمل بهذه الروايات وتخصيص تلك
__________________
(1) الوسائل ج 13 ص 274 ح 14.
وكذا يظهر لك ما في قوله أن الروايات
مختلفة فيما لو ادعى المالك التفريط فأنكروا ، فإن فيه أن روايات المسئلة منحصرة
في الأقسام الثلاثة التي ذكرناها ، وليس في شيء منها ما يتضمن هذا الفرد الذي
ذكره ، وحينئذ فإن أراد بما ذكره روايات القسم الأول ، وهو ما دل على وجوب الضمان
على كل من أعطى الأجر ليصلح فأفسد ، فقد تقدم أنها متفقة على هذا الحكم ، وأنهم عليهمالسلام جعلوه قاعدة
كلية ، ولا مخالف لها في شيء من الأخبار ، وان أراد أخبار القسم الثاني فهو قد
أشار إليه في صدر كلامه ، وذكر أن كون القول قولهم هو أشهر الروايتين.
وبالجملة فإن روايات القسم الثاني الدالة على أنه يضمن
مع دعوى التلف دالة على الضمان ، أعم من أن يكون بتفريط أولا بتفريط ، وأنه يجب
الضمان الا مع قيام أحد الأمور الثلاثة المتقدمة ، ثم أنه على تقدير القول بما
اختاره من أن القول قول المستأجر بيمينه ، لأنه أمين ، فالكلام في اليمين هنا كما
تقدم في الوديعة والعارية ، من عدم وجود دليل على اليمين ، بل ظاهر الأخبار وبه
قال جملة من الأصحاب كما تقدم في الوديعة ، أنه لا يمين ، وإنما يقبل قوله من غير
يمين ، بل القول بذلك هنا أضعف لعدم وجود دليل دال على قبول قول المستأجر بالكلية
، فضلا عن أن يضم اليه اليمين ، بل الأخبار كلها بعد ضم بعضها الى بعض متفقة على
وجوب الضمان عليه ، الا مع قيام أحد الأمور الثلاثة المتقدمة ، وما ادعاه هو وغيره
من أنه أمين فيترتب عليه قبول قوله في التلف ممنوع ، إذ لا دليل عليه بل الدليل
كما عرفت واضح في خلافه ، لاتفاق الأخبار على تضمينه في التلف الا مع قيام البينة
، أو شهرة الأمر به ، أو كونه مأمونا من دعوى الكذب ، على أنه لو كان أمينا لقبلوا
قوله في الرد ، مع أنهم منعوا من قبوله كما عرفت ، والله سبحانه العالم.
ومنها ما لو دفع إلى الخياط ثوبا فقطعه قباء مدعيا اذن
المالك ، فقال المالك إنما أمرتك بقطعه قميصا ، وقد اختلف كلام الشيخ في ذلك ،
فقال في كتاب الوكالة من الخلاف : القول قول الخياط ، وفي كتاب الإجارة منه :
القول
قول صاحب الثوب ، وبه قال ابن إدريس ،
وقال في المبسوط : القول قول الخياط ، وقال قوم : القول قول رب الثوب ، وهو الصحيح
، واحتج بأن الثوب له ، والخياط مدع للإذن في قطع القباء فعليه البينة ، وإذا
فقدها فعلى المالك اليمين ، ولأنهما لو اختلفا في أصل القطع كان القول قول رب
الثوب ، فكذا في صفة القطع.
وقال في الخلاف : وكنا قلنا في ما تقدم في هذه المسئلة
أن القول قول الخياط ، لأنه غارم ، وأن رب الثوب يدعى عليه قطعا لم يأمره به ،
فيلزمه بذلك ضمان الثوب ، فكان عليه بذلك البينة ، فإذا فقدها وجب على الخياط
اليمين.
وقال في المختلف بعد ذكر هذا الكلام من أوله الى آخره :
وهذا أيضا قوي ، وهذا يدل على تردده ، والحق ما ذكره في الخلاف أولا وقواه في
المبسوط ، انتهى.
أقول : وكلامه مؤذن بنوع تردد في ذلك ، فإنه قوى ما ذكره
من تعليل الشيخ للقول بأن القول قول الخياط بيمينه ، ثم قال : والحق ما ذكره في
الخلاف الى آخره ، وهو يعطى اختياره القول بتقديم قول صاحب الثوب ، الا أن عبارته
لا يخلو من ردائه ، فإن اختياره لما ذكره في الخلاف أولا ان أراد بهذه الأولية
باعتبار ما قدم نقله عنه والذي قدمه إنما هو أن القول قول الخياط ، وان أراد
الأولية باعتبار ذكره المسئلة في الخلاف فهو يتوقف على مراجعته ، وأن المقدم فيه
هو كتاب الإجارة على كتاب الوكالة.
وكيف كان فإنك قد عرفت العلة في كل من القولين ، وأن
العلة في تقديم قول المالك أن الخياط يدعي عليه الاذن في هذا القطع المخصوص ،
والأصل عدمه ، وانه كما يقدم قول المالك لو تنازعا في أصل الاذن وعدمه فكذا في
صفته ، لأن مرجعه إلى إذن مخصوص.
والعلة في تقديم قول الخياط أن المالك يدعي عليه الأرش ،
فيكون غارما ، والأصل عدمه فيقدم قوله في نفي ذلك من نفسه ، وان لم يثبت له
الأجرة.
والمسئلة كما ترى عارية عن النصوص ، والتعليلان متدافعان ، ولو قيل : بالتحالف جمعا بين هذين التعليلين لأمكن ، فان الخياط من حيث دعوى المالك الأرش عليه ، والأصل عدمه ، يقدم قوله في ذلك بيمينه ، ومن حيث دعواه الاذن على المالك وأنه يستحق الأجرة بناء على ذلك ، والمالك منكر ، فيقدم قول المالك في هذه الدعوى ، لأصالة عدمها كما تقدم ، فيتحالفان لقطع هاتين الدعويين ، والإيراد بأن ذلك مخالف لمقتضى قاعدة التحالف المتقدمة مردود ، بما تقدم ، من عدم ثبوت القاعدة المذكورة ، وتصريح جمع من الأصحاب بالخروج عنه في كتاب البيع وفي هذا الكتاب.
والى هنا تم الجزء الحادي والعشرون حسب تجزئتنا بحمد الله ومنه ، وقد بذلنا الجهد غايته في تصحيحه ومقابلته للنسخة بقلم المصنف (طاب ثراه) ويتلوه الجزء الثاني والعشرون في كتاب الوكالة ان شاء الله تعالى.. ونرجو من الله التوفيق على طبع بقية الأجزاء، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.