الحقائق ج2 - كتاب الإقرار
كتاب الإقرار
وما يتعلق به من الأحكام
وهو مشتمل على مطالب، وكل مطلب مشتمل على مسائل:
المطلب الأول في بيان صيغه وشرائطه وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الإقرار لغة الاثبات من قولك: قر يقر وأقررته وقررته إذا أثبته في القرار، ولم يسمه الشارع إقرارا من حيث إنه افتتاح إثبات، بل لانه إخبار عن ثبوت ووجوب حق سابق، والاصل فيه من الكتاب قوله تعالى (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) (1) وقد فسرت بشهادة المرء على نفسه الاقرار. وعن جراح المدائني (2) كما في الكافي والتهذيب عن أبي عبد الله عليه السلام (أنه قال: لا أقبل شهادة الفاسق إلا على نفسه).
(1) سورة النساء – آية 135. (2) الكافي ج 7 ص 395 ح 5، التهذيب ج 6 ص 242 ح 5، الوسائل ج 16 ص 135 ب 6 ح 1.
[ 4 ]
وفي النبوي (1) مرسلا (قال (ص): قولوا الحق ولو على أنفسكم). والاقرار شرعا عبارة عن الصيغة الصريحة، وهي اللفظ المتضمن للاخبار عن حق واجب، فقوله (اللفظ) بمنزلة الجنس يتناول للمفيد وغيره، كما أن المفيد يتناول الاخبار والانشاء. وقوله (متضمن) بمنزلة الفصل يخرج به سائر العقود والايقاعات المتضمنة للانشاء كما يخرج باقي الالفاظ التي لا تتضمن إخبارا. ودخل في قوله (حق) المال عينا ومنفعة وتوابعها من الشفقة والخيار وأولوية التحجير والنفس والحدود والتعزيرات لله تعالى وللادمي. وأراد بالواجب معناه اللغوي وهو الثابت فيخرج به الاخبار عن حق في المستقبل وأنه ليس بإقرار وإنما هو وعدوما في معناه. وبهذا يستغنى عما عبر به البعض بقوله (من حق سابق) وتناوله للحق المؤجل أظهر من تناوله السابق له لانه كان امر ثابت الان وإن كان استحقاق المطالبة به مستقبلا، ويمكن انجراره في السابق أيضا من حيث إن أمل الحق ثابت وإنما المستقبل المطالبة به، وتأخر استحقاق المطالبة أمر خارج عن الاقرار لانه عبارة عن التأجيل، وذكره في الاقرار بالحق ليس إقرارا وإنما هو دفع لما لزم من أصل الاخبار بالحق، وذكره في الاقرار بالحق ليس إقرارا وإنما هو دفع لما لزم من إصل الاخبار بالحق، ومن ثم يقبل الاقرار بالحق لا بالاجل، لكن ينتقض في طرده بالشهادة، فإنها إخبار عن حق واجب على غير المخبر. وإطلاق الحق الواجب يشمل ما هو واجب عليه وعلى غيره، ومن ثم زاد البعض في التعريف لازم للمخبر. وأما نحو (نعم) في جواب من قال: في عليك كذا، فإنه وإن كان مفردا ظاهرا إلا أنه متضمن للاخبار معنى قائم مقامه، فهو داخل في التعريف ولا حاجة إلى زيادة أو ما هو في معنى الاخبار.
الثانية: في بيان الالفاظ الدالة على الاقرار صريحا وهي: لك علي أو عندي
(1) تفسير الطبري ج 5 ص 206 مع اختلاف فيه.
[ 5 ]
أو في ذمتي، فمنها ما يفيد الاقرار بالعين صريحا وهو قوله: في يدي كذا ومنها ما يفيد ظاهرا وهو قوله: عندي ومنها ما هو صالح لهما كقوله: لدي وقبلي. وتظهر الفائدة فيما لو ادعى خلاف مدلول اللفظ، فإنه لا يقبل، فإن ادعى ما يوافقه قبل. فلو عبر بما يفيد الدين ثم قال: هو وديعة لم يقبل. وإذا ادعى التلف لم ينفعه بل يلزمه الضمان، بخلاف ما لو أتى باللفظ المفيد لها مثل قوله: عندي ألف أو الصالح لهما كقوله: قبلي ثم فسره بالوديعة وادعى التلف في وقت إمكانه فإنه يقبل، وسيأتي تتمة البحث في ذلك. فهذه قاعدة الالفاظ وبيان فائدتها فقس عليها ما إشبهها.
الثالثة: لا ينحصر الاقرار في العربية بل يصح بغيرها من اللغات اضطرارا واختيارا، لان الغرض من الاقرار الاخبار عما في الذمة أو في العهدة، ولا يختص بلفظ معين بل دل على المراد، ولم ينحصر في لغة بل يصح إقرار أهل كل لغة بلغتهم إذا عرفوها لحصول المراد منها وهو الدلالة باللفظ على المعنى الذهبي الذي يراد إثباته، ولم يرد من قبل الشارع ما يفيد الاختصاص بلغة خاصة بل قال (1) (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز). ثم إن علم أن المقر عارف بمعنى ما ألزمه لم يقبل دعواه خلافه. وإن احتمل الامرين وقال: لم أفهم معنى ما قلت صدق بيمينه لقيام الاحتمال وأصالة عدم العلم بغير لغته. وكذا القول في جميع العقود والايقاعات. ولو علقه على شرط فقال: لك علي كذا إن شئت أو شئت لم يكن إقرارا. وكذا لو قال: إن قدم زيد أو إن رضي فلان أو شهد لان الاقرار إخبار اقتضى إمرا خارجا عن اللفظ واقعا سوى طائفة في النفي والاثبات أم لا (2). يلزم من ذلك أن يكون منجزا غير معلق على شئ من شرط أو صفة،
(1) الوسائل ج 16 ص 133 ب 3 ح 2. (2) كذا في النسخة.
[ 6 ]
لان وقوع المعلق مشروط بوجود المعلق عليه، وذلك ينافي مقتضى الخبر. ولا فرق في ذلك بين ما يقع باختيار المخبر كقوله: إن شئت – بالضم – إو لغير اختياره كقوله: إن شئت – بالفتح – وإن قدم زيد أو رضي أو شهد ونحو ذلك. ولو قال: إن شهد لك فلان فهو صادق فموضع خلاف، وهذا الحكم قد ذكره الشيخ في المبسوط وتبعه عليه جماعة منهم المحقق – رحمه الله – وجعلو من صيغ الاقرار وإن كان معلقا ظاهرا على شرط. ووجهوه بأن صدقه يوجب ثبوت الحق في الحال وإن لم يشهد. وتقريره أنه قد حكم بصدقه الشهادة، والشهادة لا دخل لها في تحقق الصدق وعدمه، وإنما الصدق يقتضي مطابقة خبره للواقع وقت الاقرار، ولا يكون كذلك إلا على تقدير ثبوت الحق في ذمته وقت الاقرار، فيكون إقرارا منجزا وإن لم يشهد، بل وإن أنكر الشهادة. ومثله ما لو قال: إن شهد صدقته أو فهو عدل لم يكن مقرا، لان كاذب قد يصدق والشهادة مبنية على الظاهر، فلا ينافي عدم مطابقتها لما في نفس الامر العدالة. ووجهوه ثانيا أيضا بانه يصدق كلما كان صادقا على تقدير الشهادة، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلما كان صادقا على تقدير الشهادة كان المال في ذمته، لكن المقدم حق لاقراره فإنه حكم بصدقه على تقدير الشهادة فالتالي مثله. ووجهوه ثالثا أيضا بأن يقال: إما أن يكون المال ثابتا أو لا والثاني باطل لان ما يستلزم كذب الشاهد على تقدير الشهادة لانه خبر غير مطابق لكنه قد حكم بصدقه على تقديرها الاول، وعورض بأمرين:
(أحدهما) التعليق، فإنه حكم بصدقه المقتضي لشغل الذمة إن شهد، والتعليق مناف لا قراره فكان كقولك: كذا إن قدم زيد، ويمكن الفرق بأن هذا تعليق محض
[ 7 ]
بخلاف ما نحن فيه لاحتمال أنه بيان لحكم الشهادة على تقدير وقوعها.
(وثانيهما) أنه ربما كان اعتقاد المخبر امتناع الشهادة من الشخص المذكور لامتناع الكذب بالنسبة إليه عادة، فيريد بذلك أن ذلك لا يصدر منه. ومثله في محاورات العوام كثير كقول أحدهم: إن شهد فلان إني لابي فهو صادق، ولا يريد سوى ما قلناه للقطع بعدم تصديقه على كونه ليس لابيه، مع أن الاصل براءة الذمة. وفصل لاعامة في التذكرة فقال: لا قرب أنه إن ادعى عدم علمه بما قال وأن المقر له لا يستحق عنده شيئا وإن توهم أن فلانا لا يشهد عليه وكان ممن يخفى عليه ذلك قبل قوله وحمل على التعليق، وإلا ثبت. والاصح عدم اللزوم، وهو اختيار أكثر المتأخرين. ولو قال: له علي ألف إذا جاء رأس الشهر لزمه إن لم يقصد الشرط بل الاجل. وكذا لو قال: إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف، وإنما كان كذلك لان كلا من الصيغتين محتملة لارادة التعليق وإرادة التأجيل لصلاحية اللفظ لهما تعين الاستفسار والرجوع إلى قصد القائل، وهو مختار العلامة في القواعد وفي التذكرة. وأطلق المحقق في الشرايع اللزوم، وليس بجيد. وحكى قولا بالفرق بينهما، وهو اللزوم إن قدم المال لان التعليق إبطال للاقرار. ورد بأن الكلام لا يتم أوله إلا بآخره، ومن ثم يحكم بثبوت لاجل لو فسر بالتأجيل. ولو قال: كان له علي ألف لزمه ولا يقبل دعواه في السقوط، وذلك لان لفظ (كان) لا يدل على الزوال. قال الله سبحانه (وكان الله عليما حكيما) لكنها لا تشرع بذلك بحسب الاستعمال، فلو صح بالسقوط لم يقبل دعواه لان الاصل البقاء.
الرابعة: لو قال: لي عليك ألف فقال: نعم أو أجل أو بلى أو صدقت أو بررت أو
[ 8 ]
قلت حقا أو صدقا أو أنا مقر به أو بدعواك أو بما ادعيت أو لست منكرا له أو قضيتك أو برأتني منها فهو إقرار. أما جوابه بنعم وأجل فظاهر لانه إن كان خبرا فنعم بعده حرف تصديق، وإن كان استفهاما فهي الاثبات والاعلام لان الاستفهام في معنى إثباته بنعم ونفيه بلا وأجل مثلها. وأما (بلى) فإنها وإن كانت في اصطلاح النحاة والعرف الخاص ولابطال النفي إلا أن الاستعمال العرفي بين العوام جوز وقوعها في جواز الخبر المثبت، لان المحاورات العرفية جارية على هذا، وأهل العرف لا يفرقون بينها وبين نعم في ذلك والاقادير إنما تجري مجاري العرف على ما ينقل أهل العرف لا على دقائق اللغة واصطلاحات النحويين. هذا كله إن لم يكن قوله: لي عليك ألف استفهاما والهمزة محذوقة. فقد صرح ابن هشام في المغني (1) وغيره في غيره أنه قد وقع في كتاب الحديث في الصحاحات المعتبرة ما يقتضي صحة أن يجاب بها الاستفهام المجرد مثل قوله صلى الله وعليه واله: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنه ؟ قالوا: بلى. ومثل قوله صلى الله وعليه واله: انت الذي لقيتني بمكة ؟ فقال له المجيب: بلى. والاول قد رواه البخاري والثاني مسلم. وأما صدقت وبررت – بفتح الاولى وسكون الثانية – وقلت حقا وصدقا فإنه إقرار إذا كان لي عليك ألف خبرا مثبتا. وأما قوله (أنا مقر به) فقد قوى أول الشهيدين في الدروس أنه ليس بإقرار حتى يوصله بقوله (لك). ويضعف بأن المتبادر عود الضمير في قوله (به) إلى ما ذكره المقر له وكونه اسم فاعل ويحتمل الاستقبال ويكون وعدا واردا على تقدير قوله (لك). ومدفوع بأنه لا يفهم من ذلك عرفا إلا الاقرار، وقد استشكله
(1) المغني ج 1 ص 114 حرف الباء.
[ 9 ]
فخر المحققين في شرح القواعد. ومثله قوله (أنا مقر بدعواك أو بما ادعيت أو لست بمنكر له). واحتمل في الدروس أيضا عدم كون الاخير إقرارا لان عدم الانكار أعم من الاقرار وهو وارد، إلا أن المفهوم عرفا من عدم لا انكار الاقرار. وأما البواقي من الصيغ المذكورة فإن الرد والقضاء والبراءة فرع الثبوت والاستحاق ولازمها، فادعاؤها يقتضي لثبوت الملزوم واصل بقاؤه. فلو قال: أليس لي عليك كذا ؟ فقال: بلى كان إقرارا. واختلف ما لو قال: نعم، والمشهور أنه ليس بإقرار، كما هو قول أكثر النحاة، وذلك لان (نعم) حرف تصديق، فإذا وقعت في جواب الاستفهام كان تصديقا لما ادخل عليه الاستفهام فيكون تصديقا للنفي، وذلك مناف للاقرار. بخلاف (بلى) فإنه تكذيب له من حيث إن أصل بلي (بل) زيدت عليها الالف وهي للرد والاستدراك، فأذا كان كذلك فقوله (بلى) رد لقوله: أليس لي عليك ألف، فإنه الذي دخل عليه حرف الاستفهام ونفي له، ونفي النفي إثبات. قال العلامة في التذكرة: هذا تلخيص ما نقل عن الكسائي وجماعة من الفضلاء. وفي المغني لابن هشام: أن (بلى) تختص بالنفي ويفيد إبطاله سواء كان مجردا نحو قوله تعالى (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي) (1) أم مقرونا بالاستفهام، حقيقا كان نحو (أليس زيد بقائم) أو توبيخيا نحو (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى) (2). أو تقريريا نحو (ألم ياتكم نذير * قالوا بلى) (3) (ألست بربكم قالوا بلى) (4) فاجري النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد
(1) سورة التغابن – آية 7. (2) سورة الزخرف – آية 80. (3) سورة الملك – آية 8 و 9. (4) سورة الاعراف – آية 172.
[ 10 ]
في رده ب (بلى) ولذلك قال ابن عباس وغيره: لو قالوا نعم كفروا، ووجهه أن (نعم) تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب. وعند جماعة من النحويين أنه يكون مقرا. قال العلامة في التذكرة: لان كل واحدة من نعم وبلى بقام مقام الاخرى في العرف. ونازع السهيلي وجماعة في المحكي عن ابن عباس وغيره في الاية متمسكين بأن الاستفهام التقريري خبر موجب ولهذا منع من جعل (أم) متصلة في قوله (أفلا تبصرون * أم أنا خير) (1) لانها لا تقع بعد الايجاب. واستشكله بأن (بلى) لايجاب بها الايجاب اتفاقا، وفي بحث (نعم) حكي عن سيبويه وقوع نعم في جواب ألست. ثم قال في المغني: إن جماعة من المتقدمين والمتأخرين قالوا: إذا كان قبل النفي استفهام تقريري فالا كثر أن يجاب بما يجاب به النفي رعيا للفظ، وتجوز عند أمن اللبس أن يجاب به الايجاب بما رعيا لمعناه، وعلى ذلك قول الانصار (2) للنبي صلى الله وعليه واله وقد قال: ألستم ترون لهم ذلك ؟ قالوا: نعم. وقول الشاعر: أليس الليل يجمع ام عمرو * وإيانا فذاك بنا تداني نعم وأرى الهلال كما تراه * ويعلوها النهار كما علاني ثم قال: وعلى ذلك جرى كلام سيبويه والمخطي مخطئ، فحيث ظهر أن (بلى) و (نعم) يتواردان في جواب أليس مع أمن اللبس، واقتضى العرف أقامة كل منهما إقامة الاخرى، فقد تطابق العرف والغة على أن (نعم) في هذا اللفظ إقرار ك (بلى) لانتقاء اللبس. وهو الاصح، واختاره أول الشهيدين في الدروس والمحقق الثاني في شرح القواعد. وبما قررناه علم أن جعل (نعم) هنا إقرارا أو في من جعل (بلى) إقرارا
(1) سورة الزخرف – آية 51 و 52. (2) المغني ج 2 ص 347 حرف النون.
[ 11 ]
في قوله: لي عليك ألف للاتفاق على أن يجاب بها الايجاب.
الخامسة: أن الاقرار بالاقرار اقرار لانه إخبار جازم بحق سابق، والاقرار حق أو في معنى الحق لثبوت الحق به فيستدرج في عموم قوله صلى الله وعليه واله (1) (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز). ولو قال: لي عليك ألف فقال: أنا مقر ولم يقل: به، أو قال: زنه أو خذه أو أنفذه أو زن أو خذ لم يكن إقرارا، وانما لم يكن قوله: أنا مقر مجردا إقرارا لا حتماله المدعى وغيره، فانه لو وصل به قوله: بالشهادتين أو ببطلان دعواك لم يحتمل اللفظ فجاز تقديره بما يطابق المدعى وغيره، ومع انتفاء الدلالة على المدعى يجب التمسك ببراءة الذمة حتى يقوم الدليل على اشتغالها. ويحتمل عده إقرارا لان وقوعه عقيب الدعوى يقتضي صرفه إليها كما قال الله تعالى (أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا) (2). وقوله تعالى (فاشهدوا) لما أمر الملائكة بالشهادة على الاقرار أو لبعضهم بالشهادة على البعض، فهذا دليل على البعض، فهذا دليل أن ذلك كاف في الاقرار مع عدم قوله به، ولانه لولاه لكان هذا كاف من قال (3) في جواب الدعوى عليه بمال: أنا مقر بالشهادة عد سفيها حذرا، ودفع الحذر به عن كلام العقلاء دليل على أنه مقصود الشارع. وجوابه أن صدوره عقيب الدعوى إن اريد بصرفه إليها دلالته على الاقرار بمقتضاها فهو ممنوع لامكان أن يراد الاقرار بشئ آخر ويكون فيه إشعار يرد دعوى المدعي لما يظهر من جوابه من الاستهزاء، وان اريد بصرفه إليها كونه جوابا فلا دلالة فيه.
(1) الوسائل ج 16 ص 133 ب 3 ح 2. (2) سورة آل عمران – آية 81. (3) كذا في النسخة، ولعل الصحيح (ولانه لولا هذا كافيا لكان من قال).
[ 12 ]
وأما الاية فلا دلالة فيها على محل النزاع لانتفاء احتمال الاستهزاء فيها ودعوى الهدرية والسفه مردودة بالاستهزاء من الامور المقصودة لغة وعرفا، والاصح الاول. وأما زنه أو خذه أو نحوهما فلا يعد شئ منها إقرارا لا نتقاء الدلالة عرفا وإن كان خروج ذلك مخرج الاستهزاء. ولو قال: أنا أقر به احتمل للوعد فلا يكون إقرارا، وذلك لان الفعل المستقبل وهو المضارع مشترك بين الزمانين كما هو الاصح، والاقرار بالنسبة الى المستقبل وعد كما تقرر. وأما أنه لا يكون إقرارا فظاهر لان الاقرار كما عرفت إخبار جازم بحق سابق. ويمكن أن يكون مراد العلامة في القواعد حيث عبر بهذه العبارة احتمال كونه وعدا واحتمال كونه إقرارا فتكون المسالة ذات وجهين، وهو الذي فهمه الشارح الفاضل فخر المحققين في الايضاح وأول الشهيدين في بعض حواشيه حيث نقل أن فيها قولين. والعلامة في التذكرة نقل عن الشافعية وجهين، ووجه الثاني أن قرينة الخصومة وتوجة الطلب يشعر بالتنجيز فيكون إقرارا، والاقوى الاول. ولو قال: اشتر مني هذا العبد أو استوهبه فقال: نعم فهو إقرار، لان (نعم) في جواب الفعل المستقبل حرف وعد وعدته إياه بالشراء منه، فيقتضى كونه مالكا لا متناع صدور البيع الصحيح من غير المالك، ومثله الاتهاب. وقد فرق العلامة في التذكرة هنا بين أن يقول: اشتر مني هذا العبد فيقول: نعم فإنه إقرار بأن المخاطب مالك للبيع وليس إقرارا بأنه مالك للمبيع خاصة، ويشكل الفرق بأن اليد تدل على الملك والاصل في ثبوت سلطنة التصرف أن لا تكون بالنيابة عن الغير، ولعل الاول أقرب. وكذا لو قال: بعني أو هبني أو ملكني، لان هذه الالفاظ إقرار وذلك بالطريق الاولى. ولو قال: ملكت هذه الدار من فلان أو غصبتها منه أو قبضتها فهو إقرار،
[ 13 ]
بخلاف تملكتها على يده، لان حصول الملك منه يقتضي كونه ذا يد وصدور سبب الملك منه، وكذا غصبتها منه وقبصنتها. وأما تملكتها على يده فلا يقتضي إلا جريان سبب الملك على يده، وهو أعم من صدوره منه فإنه ربما كان واسطة في ذلك. ولو قال: بعتك أباك فحلف عتق ولا ثمن، فإن قول المدعي: بعتك أباك إقرار بالبيع ودخوله في ملك ابنه فصار حرا، وحلفه على نفي الشراء ينفي عنه دعوى الثمن، فيكون المدعي قد أقر بموجب العتق في عبده المملوك له. ولو قال: لك علي ألف في علمي أو فيما أعلم الله تعالى لزمه، لان ما في علمي ما يحتمل إلا الثبوت ومطابقة الواقع، فإن المتبادر من العلم في علمه سبحانه. ولو قال: لك علي ألف إن شاء الله تعالى فليس بإقرار على الاصح لانه قد علقه على شرط والتعليق مناف للاقرار لان مشيته سبحانه وتعالى أمر لا يطلع عليه، ولا سبيل إلى العلم به إلا بأن يعلم ثبوت ذلك في ذمته، واحتمل البعض كونه إقرارا لازما إما بجعل المشية للتبرك لا للتعليق كما في قوله (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله (1) فإن ذلك أكثري، أو لانه إنكار بعد الاقرار لانه قد وصل إقراره بما يرفعه بأجمعه، ولا يصرفه إلى غير الاقرار فلزمه ما قد أقر به لظاهر صلته به. ويضعف بأن التبرك محتمل والاصل براءة الذمة فلا تصير مشغولة بالمحتمل، نعم لو علم قصد التبرك فلا إشكال في اللزوم. وأما دعوى كونه إنكارا بعد الاقرار فمدفوعة بما مر من أن شرط الاقرار التنجيز وهو منتف هنا.
(1) سورة الفتح – آية 27
[ 14 ]
أما لو قال: له علي ألف إلا أن يشاء الله فإنه إقرار صحيح لانه علق رفع الاقرار على أمر لا يعلم فلا يرتفع. هكذا قرره العلامة في التذكرة. ولو قال: أنا قاتل زيد فهو إقرار لامع النصب، ووجه الفرق أن اسم الفاعل لا يعمل إلا إذا كان بمعنى الحال والاستقبال، فمع النصب يكون قد أعمله، فتعين أن لا يكون بمعنى الماضي وانتفى كونه بمعنى الحال فتعين أن يكون للاستقبال وحينئذ فلا يكون إقرارا لما علم غير مرة من أن الاقرار إخبار جازم بحق سابق، ومع الجر يكون ترك إعماله دليلا على أنه بمعنى الماضي فيكون أقرارا، ويؤيده استعمال أهل العرف إياه في الاقرار. ووجه التسوية بينهما كما احتمله في القواعد العلامة الحلي في عدم الاقرار أن الاضافة لا تقتضي كون اسم الفاعل بمعنى الماضي لجواز أن تكون الاضافة لفظية، وهي إضافة الصفة إلى معمولها، فتكون الاضافة بمعني الحال أو الاستقبال، ويكون أثر العمل ثابتا تقديرا، ومتى احتمل اللفظ الامرين انتفى كونه إقرارا، فإن الاصل البراءة والحكم في الدماء مبني على الاحتياط التام كالحدود، وهو أقرب.
المطلب الثاني في المقر وهو قسمان: مطلق ومحجور، فالمطلق ينفذ إقراره بكل ما يقدر على إنشائه ولا تشترط عدالته، والمحجور سيأتي، وفي هذا المطلب مسائل:
الاولى: قد تقدم أنه يقبل إقرار الفاسق على نفسه كما في خبر أبي بصير، وكذلك الكافر لعموم (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) ولا تنتقض الكلية بإقرار الوكيل بمالايقدر على إنشائه على إنشائة بما هو وكيل فيه، من حيث إنه غير نافذ على موكله، ولان ذلك ليس إقرارا وإنما هو شهادة ولان الاقرار هو الاخبار بحق لازم للمخبر.
[ 15 ]
ومن المطلق إقرار الاخرس، ويكفي في عبارته الاشارة المفهمة لانها في حقه بمنزلة اللفظ في حق غيره، ولذلك يعتبر بيعه وسائر عقوده بها لكن بشرط فهمها كما تدل عليه الاخبار المتقدمة في عباداته ونكاحه وطلاقه وتلبيته، فإن فهما الحاكم جاز له الحكم، وإلا افتقر إلى مترجمين عدلين يخبر ان بأن مقصوده منها الاقرار بكذا أو كذا. ومثله الاعجمي إذ لم يعرف الحاكم لسانه. وأما المحجور عليه لانتفاء شرائط الاقرار في حقه فسبعة:
الاول: الصبي لان شرطه البلوغ، فلا يقبل إقراره وإن أذن له الولي سواء كان مراهقا أم لا. وقد نقل العلامة في التذكرة على ذلك الاجماع منا، ولكن قال في القواعد: ولو جوزنا وصيته في المعروف جو زنا إقراره بها لان كل من ملك شيئا ملك الاقرار به. ويدل على اشتراط البلوغ صحيحة عبد الله بن سنان (1) (قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان على عليه السلام يقول: الناس كلهم أحرار إلا من أقر على نفسه بالعبودية وهو مدرك). وفي خبر الفضل بن عبد الملك (2) (قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل حر أقر أنه عبد، قال: يؤخذبما أقر به). ويجب أن يحمل عليه إطلاق موثقة إسماعيل بن الفضل (3) (قال: هو عبد إذا أقر على نفسه).
الثانية: لو ادعى أنه بلغ بالاحتلام في وقت إمكانه صدق قوله من غير يمين وإلا لدار، وهو باطل. ووجه لزوم الدور أن صحة اليمين مشروطة بكون الحالف
(1) التهذيب ج 8 ص 235 ح 78، الوسائل ج 16 ص 39 ب 29 ح 1 وفيهما (وهو مدرك من عبد أو أمة، ومن شهد عليه بالرق صغيرا كان أو كبيرا). (1) التهذيب ج 8 ص 235 ح 79، الوسائل ج 16 ص 39 ب 29 ح 2. (3) التهذيب ج 7 ص 237 ح 57، الوسائل ج 16 ص 40 ب 29 ح 5.
[ 16 ]
بالغا لرفع القلم عن الصبي فتتوقف على الحكم بالبلوغ، فلو توقف الحكم بالبلوغ عليها لزم توقف كل منهما على الاخر وهو الدور. وربما دفع هذا الدور كما قاله شهيد الدروس بأن يمينه موقوفة على إمكان بلوغة، والموقوف على يمينه هو وقوع بلوغه، فتغايره الجهة. وضعفه ظاهر بأن إمكان البلوغ غير كاف في صحة إقرار الصبي. والجارية كالصبي إذا ادعت البلوغ بالاحتلام، ولو ادعته بالحيض فعند العلامة في التذكرة يقبل إن كان ذلك في وقت الامكان. واستشكله الشهيد في الدورس لان مرجعه إلى السن. ولو ادعى أحدهما البلوغ بالانبات وجب اعتباره، ولو ادعاه بالسنين طولب بالبينة لامكانها، وقال العلامة في التذكرة: ولو كان قريبا با دعاء الاحتلام. وفيه نظر، لان ما يعتبر فيه البينة لا يقصر حكمه بعجز المدعى عنها، وهذا هو المناسب لا صلاق قولهم (ولو ادعاه بالسنين طولب بالبينة). ولو أقر المراهق واختلف هو والمقر له في البلوغ فالقول قوله من غير يمين إلا أن تقوم بينة ببلوغه، وذلك لان الاصل عدم البلوغ، وشرط صحة اليمين كونه بالغا ولم يثبت، ولانه لو حلف لكان الثابت باليمين انتفاء صحتها، وهذا إذا كان الاختلاف قبل العلم ببلوغه. أما بعده ففي تقديم قوله تمسكا بأصالة عدم البلوغ أو قول الاخر تمسكا بأصاله الصحة في إقراره وجهان، ومثله بيعه وسائر عقوده. وقد تكلم فقهاؤنا في هذه المسألة في البيع والضمان كما ذكره العلامة في القواعد.
الثالثة: من المحجور عليه: المجنون، وهو مسلوب القول مطلقا، وفي حكمه النائم والمغمى عليه والمبرسم والسكران وشارب المرقد وإن تعمد لغير حاجة. ولا يقبل إقرار المجنون لانه مسلوب العبارة في الانشاء والاقرار لغير استثناء، ولا فرق بين كون جنونه مطبقا أو يأخذه أدوارا، إلا أن الذي يأخذه أدوارا إذا
[ 17 ]
صدر إقراره في حال صحته نفذ لثبوت عقله حينئذ. وفي حكم تلك الافراد المذكورة كالنائم والغافل والساهي لرفع القلم عن النائم حتى ينتبه كما في المستفيضة النبوية وغيرها، وكذا عن الغافل والساهي ولانه لا قصد لاحدهم. وكذا المغمى عليه والمبرسم وهو من أصابه البرسام وهو المرض الذي يهذي صاحبه ويتكلم بغير شعور. وأما السكران الذي لا يحصل معه صحو أولا يكون كامل العقل حالة سكره فلا يقبل إقراره، وقد نقل العلامة في التذكرة إجماعنا، وكانه لم يلتفت إلى خلاف الاسكافي حيث قال: إن سكره إن كان من شرب محرم اختار شربه الزم بالاقرار كما يلزم بقضاء الصلاة. وربما فرق بين السكران قاصدا وغير قاصد. وشارب المرقد كالسكران في ما قلناه ولو تعمد لغير حاجة تعود إلى كل منهما، لإنه لما لم يكن لاحدهما عقل كامل ولا قصد صحيح لم يعتد لما يقع منه وكونه يؤاخذ بقضاء الصلاة بعد لا يقتضى الاعتداد بأقواله وأفعاله شرعا، ولو ادعى زوال العقل حالة إقراره لم يقبل دعواه إلا بالبينة ولو كان له حالة جنون فالاقرب سماع قوله. أما الحكم الاول فلانه قد ادعى فساد إقراره المحكوم بصحته ظاهرا، والاصل عدم حدوث مانع من صحته كما أن الظاهر كذلك أيضا، ومع عدم البينة فالقول قول المقر له مع يمينه. وقول العلامة في التذكرة (ولو يعلم له حالة جنون) لم يلتفت إليه، وظاهر هذا عدم توجه اليمين على الاخر وهو بعيد لانه مدعى عليه، غاية ما في الباب كون الدعوى بعيدة وذلك لانه لا ينفي بوجه اليمين. وأما الحكم في الثاني فوجه القرب أنه لما توارد عليه كل من الحالتين لم تكن له حالة معهودة ليحكم بوقوع الاقرار فيها. والاقرار وإن كان الاصل فيه الصحة إلا أنه مشروط بصدوره في حال العقل الاقرار لعموم قوله عليه السلام (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) واحتمال كل من حالتي العقل والجنون قد علم أنه
[ 18 ]
مكلف لاحتمال الاخرى. والجهل بالشرط موجب للجهل بصحة المشروط، هذا مع أن الاصل براءة الذمة فيقدم قوله بيمينه. فإن قيل: لو كان العلم بوقوع الاقرار في حال العقل شرطا في الصحة كما حكم بصحة شئ من تصرفات من يعتريه الجنون إلا إذا قطع بكونه عاقلا في وقت إيقاعها ولما أوجب على وارثه ما أقر به مع حال جهل الاقرار، قلنا: هو كذلك، وأنما أوجبنا اليمين هاهنا لدعوى المقر له لصدور الاقرار حال العقل، وأما الوارث فإن ادعى صدور الاقرار حالة الجنون فهي كدعوى المورث، وإن صرح بعدم العلم ففيه نظر. ويحتمل عدم سماع قوله إلا بالبينة لسبق الحكم بالصحة. وينبغي أن يكون موضع المسألة إذا لم يعلم حاله بعد الاقرار، فإن علم وكان عاقلا فعلى مدعي تجدد الجنون البينة، وينعكس الحكم لو انعكس الفرض. ولو شهد الشهود بإقراره لم يفتقر إلى أن يقولوا في حال صحة من عقله بأن إطلاق الاقرار إنما يحمل على الاقرار الشرعي، ولا يكون شرعيا إلا إذا صدر طوعا في حال صحة العقل.
الرابعة: ومن المحجور عليه: ولا ينفذ إقراره فيما اكره على الاقرار به إجماعا منا كما نقل في التذكرة، والاصل فيه الاخبار المستفيضة. منها النبوية المروية بطرف معتبرة عنه صلى الله واله وسلم (1) (قال: رفع عن امتى الخطا والنسيان وما استكرهوا عليه). ولو أقر بغير ما اكره عليه صح، مثل أن يكره للاقرار على رجل فيقر لغيره، أو يكره أن يقر على نوع من الحال فيقر بغيره، أو يكره على الاقرار بطلاق امرأته فيقر بغيرها، و هكذا في العتق وغيره لان المقر به غير مكره فتناوله الاخبار بعمومها.
(1) الوسائل ج 11 ص 295 ب 56 ح 3 وفيه (وضع).
[ 19 ]
أما لو على الاقرار بمائة فأقر بمائتين فموضع خلاف، والاقوى نفوذه لان عدوله إلى أكثر مما وقع الاكراه عليه دليل صدوره باختياره، وهو اختيار العلامة في التذكرة، بخلاف مالو أقر بأقل – خمسين – فإن الاكراه على الاقرار بعدد يقتضي شمول الاكراه لما دونه، ولان الظاهر إنما أراد به دفع عادية المكره، ومعلوم أنه متى أمكنه دفعه بالاقل لم يقر بما فوقه. ولو اكره على أداء مال فباع شيئا من ماله ليؤديه صح البيع مع عدم حصر الاداء في مال بعينه، وهذا صحيح لانه حينئذ مكره على بيع ذلك المال ولا يصح ويمكن أن يكون المراد به صحته حيث لا يكون سبب الاداء بحسب الواقع منحصرا في مال بعينه بأن لا يكون عنده ما يؤدي المال من ثمنه إلا شئ واحد، فإنه حينئذ يكون مكرها على البيع. وهذا الذي حكاه شيخنا الشهيد في حواشيه عن العلامة قطب الدين شارح المطالع ناقلا له عن العلامة. وفيه نظر، لان البيع المذكور مقصود إليه واقع بالاختيار ليدفع به أداء المكره كما لو دعته ضرورة اخرى إلى بيع ما لا يريد بيعه، وإنما حمل عليه محض الضرورة، ولان انحصار سبب الاداء في بيع المال الواحد من الامور النادرة، ولانه لو عد ذلك إكراها شرعيا لادى إلى أن (لا) يرغب أحد في الشراء من المالك على أداء مال فينسد عليه باب الخلاص وذلك ضرره عليه عظيم. والذي يقتضيه النظر أن الاكراه على أمر الكلي لا يعد إكراها على شئ من الجزئيات سواء تعددت بحسب الواقع أولم يوجد منها إلا فرد واحد، إذ لا يدل الاكراه على الكلي على الاكراه على الجزئي بشئ من الدلالات وإن حصول المكره عليه بحسب الواقع على حصول شئ منها. ولو ادعى الاكراه حالة الاقرار لم يقبل منه إلا بالبينة العادلة لان الاصل في الاقرار الصحة والحكم بلزومه من وقت صدوره، فالبطلان غير متحقق حتى
[ 20 ]
ينهض به الدليل، فمع عدم البينة يحلف المدعى عليه ولو كان الاقرار عند السلطان لان مجرد الوقوع عنده لا يقضي الاكراه. نعم لو وجدت قرينة دالة عليه كالقيد أو التوكيل للمقر بمن يحفظه ويمنعه من الانصراف قوى جانبه لمساعدة الظاهر فيصدق مع اليمين، وإنما يكون القيد ونحوه دليلا على الاكراه إذا لم يعلم كونه لامر آخر، فلو علم أنه لا تعلق بالاكراه انتفى هذا الحكم.
الخامسة: من المحجور عليه: المفلس والمبذر، وقد مضى حكمهما في كتاب الحجر. وكذلك المريض ويقبل إقراره وإن برئ مطلقا ويكون كاقرار الصحيح، وسيجئ تفصيل أحكامه إذا لم يبرأ وبيان تعلقه لو مات في مرضه، ثم إنه قد اشتمل على فروع كثيرة يطول المقام بذكرها هنا وسنفرد لها بحثا فيما سيأتي ونفصل فيها تفصيل المسألة تفصيلا وافيا. ومن المحجور عليه: العبد، ولا يقبل إقراره بمال ولا حد ولا جناية توجب أرشا ولا فصاصا إلا أن يصدقه السيد لانه محجور عليه في نفسه وماله. قال الله تعالى (عبدا مملوكا لا يقدر على شئ) (1). وربما قيل بأنه يقبل منه ويتبع به بعد العتق كما لو صدقه السيد، والاخبار تأباه، وقد نقل غير واحد الاجماع على عدم قبول إقراره في جميع هذه الامور لعموم الاية ولا طلاق الشيئية على هذه الاقرارات كلها كما تضمنته الصحاح في تفسيرها، ولهذا لا يقطع في الاقرار بالسرقة ولا في الغرم إلا أن يصدقه مولاه، فإن كانت العين قائمة انتزعت ورجعت إلى صاحبها، وإن لم تكن قائمة يتبع بها بعد العتق. وكذلك الكلام في الجناية أيضا. مقتضي عبارة غير واحد من المتأخرين عند تصديق المولى له يتبع بالجميع، وهو قوي إلا في الحدود حيث بنيت على التخفيف، ولو كان مؤذنا له في التجارة فأقر بما يتعلق بها قيل: يؤخذ ما أقر به مما في يده لان الاذن في التجارة
(1) سورة النحل – آية 75.
[ 21 ]
يقتضي الاذن في لوازمها ومنها جواز الاستدانة. ولا يصح إقرار المولى عليه بحد ولا غيره من أنواع العقوبات كالتعزير والضرب البدني وهذا حيث لا يصدقه العبد وإلا تعلق به. ولو أقر المولى على العبد بالجناية فالاقرب قبول قول المولى في متعلق حقه، فيجب المال عن الجناية سواء كان عمدا أو خطا، وتتعلق برقبة العبد لا في حق العبد كما لو اتفق موت مورثه ولا وارث سواه وهو ممن يفك بالدية لا غير. وبالجملة أن الاقرار بالجناية خطأ وعمدا يتعلق بحق السيد والعبد معا، أما الجناية خطا فلانها توجب المال خاصة ويتعلق برقبة العبد الذي هو ملك السيد فيتعلق الاقرار بها بحق السيد من هذه الجهة وهو القول بأن الجاني إنما يفتدي بأرش الجناية، وإن كان أكثر من القيمة فيتعلق الاقرار بها في حق العبد فيما لو اتفق موت العبد في الصورة المذكورة، فإن حقه أن يفك بالقيمة والباقي من التركة له. ولو نفذ الاقرار بالجناية على العبد لوجب على القول الثاني فكه بأرش الجناية، وإن زاد على القيمة ولا يقبل إقراره بالرق لغير من هو في يده لان اليد تقتضي الملك وإقراره بالرق يقتضي نفي ذلك فيكون إقرارا على الغير فلا يقبل والمراد بكونه تحت يده أن يكون تحت سلطنتة على وجه الملك كما هو معلوم في العادة. وكذلك لا يقبل منه إقراره بالحرية وإن كانت هي الاصل في الناس تقديما للظاهر على الاصل كما تدل عليه المعتبرة ومن تحرر نصفه لكونه مبعضا نفذ نصف إقراره إذا كان الاقرار بمال أو بجناية توجب مالا أما لو أقر بالجناية توجب قصاصا فاستيفاء نصفه متعذر، فيمكن أن يجب نصف الدية ويتبع في المال بباقي ما أقر به في الصورة المذكورة بعد العتق لو قلنا بنفوذ إقراره في حق نفسه، وينتفي على القول المشهور كما هو ظاهر الاخبار.
[ 22 ]
المطلب الثالث في بيان المقر له وشروطه، وله شرطان وقد اشتمل هذا المطلب على مسائل:
الاولى: في بيان انتفاء الاقرار في حق من ليس له أهلية التملك، فلو أقر لدابة أو حائط لم يصح وإن قال بسبب الدابة قيل يكون إقرارا لمالكها على تقدير الاستئجار. وفيه نظر، إذا قد يجب بسببها ما لا يستحق المالك منه شيئا كأرش الجناية على سائقها أو راكبها، وهذا القول الذي حكيناه هو قول الشيخ في المبسوط. وتنقيحه: أن قول المقر بسبب الدابة جار مجرى نمائها وسائر منافعها فيكون للمالك، وقد عرفت وجه النظر لان الاقرار أعم. فإن قيل: كونه للمالك عند الاطلاق أرجح لان الغالب في التملك بسببها يكون للمالك، ولان كونه للمالك مستغن عن تقدير أمر زائد وهو وقوع جنايتها في يده على غير المالك والراجح مما يتعين المصير إليه، قلنا: إن حجيتة باعتبار كثرة وقوعه لا يقتضي أرجحية استحقاق المالك إياه على غيره في نظر الشارع، والاقرار محتمل لجميع ذلك، والذي يقتضيه صحيح النظر الاستفسار لذلك الاقرار وقبول ما يفسره به ومع تعذره هو إقرار بالمجهول فيؤخذ بتفسيره ويلزم به. أما لو قال: علي بسببها لمالكها أو قال: علي بسببها لزيد فلا إشكال في نفوذ الاقرار، فإذا أتى بالاقرار المبهم طولب بالبيان، فإن تعذر لموت ونحوه اقرع. أما لو قال: بسبب حملها لغى ذلك الاقرار لامتناعه في العادة. ولقائل أن يقول: إن الضميمة تقتضي بطلان الاقرار، كما لو قال: كذا من ثمن خمر.
[ 23 ]
ولو لميت صح وانتقل إلى ورثته لان الميت في حكم المالك فكفى ذلك في صحة الاقرار له. ولو قال: لا وارث له سوى هذا لزم التسليم إليه لانه أقر بوجوب تسليم هذا القدر من ماله إليه فوجب أن يكون نافذا. وربما يقال: إن قوله (لا وارث إلا هذا) إقرار في حق الغير لوجود وارث له فكيف يكون نافذا بحيث يلزم التسليم إليه، وقد أقر من أول الامر بأنه للميت فيكون لورثته. ولو أقر العبد صح وكان ذلك للمولى لان يده يد السيد، وربما قيل: إن الاقرار يقتضي الملك لمن أقر به وهو ممتنع في العبد. والجواب: أن هذا القدر كاف لصحته ولا ينافيه كونه مجازا فإنه شائع شهير. ولو أقر لحمل فلان بن فلانة وعزاه إلى الوصية أو إلى الميراث وذلك للاطباق على أنه تصح الوصية له كما صح ميراثه فإذا ولدت ذكرا وانثى فهو بينهما على حسب استحقاقهما، وهذا إنما يكون في الارث، أما في الوصية فإنهما سواء. ولو عزاه إلى سبب ممتنع كالجناية عليه والمعاملة له فالاقرب اللزوم وإلغاء المبطل وهي الضميمة، اما صحة الاقرار فلعموم تلك الاخبار وقد سمعتها. واما ابطال الضميمة فلان كلام العقلاء المكلفين الاصل فيه الصون عن اللغو بحسب الامكان فيقتصر في الالغاء على الضميمة، لان الاقرار يجب صونه عن الفساد بحسب الامكان، أو لان ذلك جار مجرى له ألف من خمر مع أن الضميمة غير مؤثرة في صحة الاقرار هنا قطعا، وكذا الاستثناء المستغرق. لا يقال: أي فرق بينه وبين قوله (له علي ألف إن دخلت الدار) لانا نقول: الفرق بينهما ظاهر لانه لا إقرار هنا أصلا لعدم التنجيز، بخلاف ما نحن فيه، لانه قد أخبر بكون المقر به عنده ثم وصفه بما يمتنع معه الثبوت فيكون رفعا للاقرار بعد ثبوته، فلو إطلق فلوجه الصحة تنزيلا للمحتمل على ما هو الوجه
[ 24 ]
الصحيح وهذا إذا قال: علي لحمل فلانة كذا من غير أن يضفه إلى سبب. والقول بالصحة للشيخ في المبسوط وعليه الاكثر. وله قول آخر فيه بالفساد، لان الاصل في الحمل أن لا يكون مالكا إلا في المواضع المخصوصة، لان الاصل في المال والغالب فيه إنما يثبت بمعاملة أو جناية، وذلك منتف في حقه ولانتفاء الحكم بالملك قبل سقوطه حيا فلا يكون مالكا حقيقة والميراث والوصية سببان للمالك عند سقوطه حيا ومانعان لملك غيره قبله، فمحمل الاطلاق فيهما يحتاج إلى دليل، وضعفه ظاهر، فإن هذا القدر كاف في صحة سببية الملك إليه. وهذه القاعدة المطردة في الاقرار ولا يملك الحمل ما أقر له به إلا بعد وجوده حيا لدون ستة أشهر من حين الاقرار ليقطع بوجوده حين حصول صدوره، بخلاف ما لو كان لستة فصاعدا فإنه لا يملك المقر به إليه لاحتمال تجدده بعد الاقرار لان أقل مدة الحمل ستة أشهر. ولو سقط ميتا فإن عزاه إلى إرث أو وصية عاد إلى موروث الطفل والوصي فيرثه وارث غيره من أمواله، وإن أطلق كلف السبب وعمل بقوله، وإن تعذر التفسير بموت أو غيره بطل الاقرار كمن أقر لرجل لا يعرفه فهو كما لوأتر لواحد من خلق الله، ولا مجال للقرعة هنا لانه ليس هنا من يقرع بينهم. ولو ولدت اثنين أحدهما ميت كان المال للحي منهما لان الميت بمنزلة من لم يكن. ولو أقر لمسجد أو مشهد أو مقبرة أو مصنع أو طريق وعزاه إلى سبب باطل فالو جهان السابقان. وقد حققنا لك أن الوجه ترتيل الاقرار على الامر الصحيح المحتمل، وأن الاقرب لزوم الاقرار وإلغاء الضميمة فيها إذا عزى إلى سبب ممتنع.
[ 25 ]
الثانية: إن من شرائط صحة الاقرار ولزومه عدم صدور التكذيب من المقر له، فلو قال: هذه الدار لزيد فكذ به لم يسلم إليه على طريق اللزوم. وإن كان يصح التسليم إليه لو صدقه بعد الانكار فيجوز تسليمها إليه في حال الانكار أيضا لانها ماله بزعم المقر، فله التسليم على مقتضى إقراره. ويمكن أن يكون المراد عدم جواز التسليم إليه لانتفاء المقر عنه بتكذيبه فكيف يجوز تسليم ما ليس له إليه ؟ ويمكن أن يبنى ذلك على أن المقر هل هو مؤاخذ بإقراره هذا أم لا ؟ فعلى الاول: لا يجوز له التسليم إذ هو بالنسبة إليه ليس هو مال المقر له. وعلى الثاني: يجوز، نعم ليس له الالزام بذلك. ثم إنه يتخير بين أن يترك في يد المقر أو القاضي، وذلك لان هذا مال الغائب لانتفائه عن المقر والمقر له، والقاضي ولي كل غائب وهو المتولي لحفظ المال الضائع والمجهول المالك، وهذا في حكم الضائع والمجهول. نعم لو رأى في إبقائه في يد المقر صلاحا أبقاه في يده. ووقع في بعض شروح الارشاد أنها تبقس في يد المقر إن قبلنا رجوعه لاصالة بقاء يده ولا مكان أن يدعيها فثثبت له. وفيه نظر، إذ الاصل يرجع إليه في استصاب يده وإمكان دعواه ملكيتها بعد ذلك، وقبولها منه لا يقتضي استحقاق الادامة الان إذ لا تلازم بينهما. قال: وإن لم نقل به ففي انتزاعها منه وجهان، فإن رجع المقر له عن الانكار سلم إليه المقر به لا ستحقاقه إياه، وذلك لزوال حكم الانكار بالتصديق فيبقى الاقرار سليما عن المعارض، ولانه مال لا يدعيه غيره، وصاحب اليدمقر له به، فكان له كما لو وجد كيس بين يد جماعة لا يعرف مالكه فادعاه البعض فإنه يحكم له به كما دل عليه الخبر المعتبر، لان هذا المال لا منازعة فيه. ولو رجع المقر عن إقراره في حال إمكانها إنكار المقر له فأقر بها وادعى
[ 26 ]
ملكيتها فالاقرب عدم القبول، لان إقراره الاول قد مضى عليه وحكم به فانقطعت سلطنته عن المقر به، فإن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، والمشروط بعدم التكذيب إنما هو نفوذ الاقرار في حق المقر له بحيث يجب عليه تسليم المقر به لا أن ذلك شرط صحة الاقرار في نفسة إذ لا دليل عليه. ويحتمل القبول لانه مال لا يدعيه أحد، واليد عليه له فيجب أن يقبل إقراره فيه ودعواه ملكيتة، ولانه لما خص ملكيتة لزيد وقد انتفى عنه بنفسه جرى مجرى المباح. وليس بشئ لما قلناه من الحكم بصحة الاقرار له الثابت في حقه وهذا إنما هو إذا قلنا بعدم انتزاعه من يده، فإن جوزناه لم يقبل رجوعه قطعا. ويمكن أن يوجه الفرق بين رجوع المقر له ورجوع المقر لان المقر أثبت الحق لغيره بإقراره فقطع سلطنته و أثبتها للغير فلم يقبل منه ما ينافي ذلك، لان الانكار بعد الاقرار غير مسموع لانه أخرج الملك عن نفسه بإقراره فلا يعود إليه بمجرد الدعوى، وبصيرورة الحق لغيره يكون رجوعه عنه إلى آخر أقرارا في حق الغير. بخلاف المقر له فإنه اقتصر على الانكار، وهو لا يدل على كون الملك لغيره بشئ من الدلالات الثلاث، ولانه ربما أنه بنى على ظاهر الحال عنده لامكان أن لا يعلم سبب حدوث الملك له ونحو ذلك فإنكاره قابل للتأويل، ولان رجوعه متضمن للاعتراف بدعوى وجوب التسليم، والاقرار بالدعوى بعد الانكار مسموع. ولو أنكر المقر له بعبد قيل: يعتق ذلك العبد لانه لامالك له بعد هذا الاقرار والانكار. وليس بجيد، بل يبقى على الرقيه المجهولة المالك، ويحتمل الحرية إذا ادعاها العبد. القائل بعتق العبد بهذا الانكار من المقر له الشيخ وابن البراج، ووجهه أن صاحب اليدقد نفي ملكيته عنه بإقراره به لغيره ويلزم انتفاء ملكيته عن كل ما عدا المقر له وقد أنكر تملكه فيكون حرا. وفيه نظر، إذ لا يلزم من نفي المالك ظاهرا انتفاؤه بحسب الواقع، والفرض
[ 27 ]
أن رقية العبد محقق كما قررناه فلايتم ذلك، و أيضا فإنه لا علاقه للمقر بالعبد لا قراره به المعين لاقتضاء حصر الملك فيه نفيه عن غيره، ولاصالة عدم ملك آخر لاللمعين بإنكاره ملكيته، والجمع بين انتفاء العلاقة وثبوت الرقية محال. فإن قيل: انتفاء العلاقة ظاهرا ليقتضي انتفاء الرقية ظاهرا ولا نعني بالحرية إلا ذلك إذ لا يريد إلا الحرية ظاهرا، قلنا: تحقيق المقام أن المنتفي ظاهرا هو علاقة شخص معين، اما مطلق العلاقة فلا، لانها غير منتفية إذ الفرض أن الرقية كانت متحققة الثبوت حين الاقرار والعلاقة تابعة لها، فإذا نفاها المقر عن نفسه وعن هذا المقر له ونفاها المقر له عن نفسه لم يلزم من ذلك انتفاؤها بالكلية بعد تحقق ثبوتها. كما أن انتفاء ملك المقر عن غير العبد بإقراره والمقر له بتكذيبه لا يقتضي نفي أصل الملك وإلحاقه بالمباحات، وأيضا فإن الحرية أصل في الادمي كما اقتضته الاخبار الصحاح الصراح المنادية: الناس كلهم أحرار إلا من أقر على نفسه بالعبودية الظاهرة الصادرة من ذي اليد. وقد رد العلامة كلام الشيخ في جملة من كتبه وحكم ببقاء العبد على الرقية، إلا أنه مجهولة المالك فهو كغيره من الاموال الذي لا يعرف لها مالك، وهو الاصح، لان الرقية قد ثبتت شرعا فلا نزول إلا بإحد الاسباب المقتضية للتحرير، وليس الجهل بمالك للعبد منها. واحتمل العلامة في القواعد ثبوت الحرية في العبد إن ادعاها العبد لنفسه لانه مدع غير منازع في دعواه ولا سلطنة لاحد عليه. وليس بشئ لانه يجب على الحاكم أن ينازع عليه ويدافعه ويثبت اليد عليه ويصينه عن الضياع وسائر الاموال المجهولة المالك لما قدمناه من ثبوت رقيته تحقيقها ظاهرا. ولو أقر لعبد الغير بنكاح أو تعزير قذف فكذبه السيد فالاقرب اللزوم،
[ 28 ]
بخلاف مالو كذب العبد إذ لاحق للسيد هنا. ووجه القرب الحديث النبوى حيث قال صلى الله عليه واله: اقرار العقلاء على أنفسهم جائز. ولا حق للسيد في المقربه. أما النكاح فهو وإن توقف صحته على رضا السيد إلا إنه إذا ثبت كان محض حق للعبد لا حق للسيد فيه، ونحن لا نريد بثبوته في حق السيد بحيث يحكم به بالنسبة إلى العبد بل نريد نفوذه في حق المقر، فلا يجوز للمرأة المقرة به أن تتزوج بغيره. وأما التعزير للقدف فظاهر إذ لا تعلق للسيد بذلك. ويحتمل عفدم النوذ مع تكذيب السيد لا طلاق قولهم: الاقرار للعبد إقرار للسيد. نعم استيفاء التعزير موقوف على تصديق العبد ومطالبته. وهذه الفروع كلها غير منصوصة بالخصوص وإنما مستندها العمومات وهي كافية في الاستلالال.
المطلب الرابع في أحكام المقر به وهو إما مال أو نسب أو حق أو حد، ويشمل الحق أيضا القصاص والخيار والشفعة والاولوية وما يجري هذا المجرى، ويشمل المال العين والدين، وفيه مسائل:
الاولى: لا يشترط في المال المعلومية فيصح الاقرار بالمجهول عن حق سابق، والخبر قد يقع عن الشئ على جهة الاجمال كما يقع على جهة التفصيل وربما كان في ذمة الانسان ما لا يعلم قدره، فلا بد له من الاخبار عنه ليتفق هو وصاحبه على الصلح فيه بشئ، وفمست الحاجة إلى سماع الاقرار بالمجهول، بخلاف بعض الانشاآت فإن أغلبها لاتتحمل الجهالة احتياطا لابتداء الثبوت وتحرزا عن الغرر المنهي عنه، فإذا أقر بالمجهول طولب بالبيان والنفسير، فإن امتنع ففي إكراهه عليه وإلزامه به خلاف، والاقرب ذلك، فيحبسه حتى يبين
[ 29 ]
لان البيان واجب عليه، فإن امتنع منه حبس كما يحبس على أداء الحق، ومقتضاه أنه لو ادعى الجهالة بنسيان ونحوه لا يسمع. وقال في التحرير: ولو قال: نسيت احتمل الرجوع إلى قول المدعي مع اليمين والاقرب في صحة الاقرار بالمجهول الفرق بين أن يقع في جواب الدعوى وبين أن يقع ابتداء وإن كان المشهور عدم الفرق.
الثانية: يشترط في المال المقر به أن يكون ملكا للمقر حالة الاقرار حتى تقع المطابقة بين إقراره وما في نفس الامر، فلو نسيه لنفسه ابتداء ثم أخبر بأنه ملك لعمرو كأن يقول: داري لفلان أو ملكي أو عبدي أو ثوبي لزيد مثلا بطل للتناقض. ويمكن دفعه بأن قوله (داري لفلان) لا تناقص ليه لان المراد به الدار التي هي بحسب الظاهر لي ملك لفلان في نفس الامر وليس في ذلك تناقض ولا تنافي، إلا أن يقال: إن المتبادر من قوله (داري) الدار التي هي لي في الواقع، وهذا أظهر من قوله (ملكي لفلان) والشيخ – رحمه الله – قال: إذا قال: له في ميراثي من أبي ألف درهم كان هبة (لا) يكون مناقضة. وكيف تكون داره لفلان في حال ما هي له، نعم لو قال: لي ذلك بأمر حق كان إقرارا صحيحا لانه يجوز أن يكون له حق وجعل داره في مقابلة ذلك الحق. وذهب المحقق إلى التسوية بينهما وصحة الاقرار فيهما لان الاضافة إلى الشئ يكفي فيها أدني ملابسة كما قال الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) (1)
(1) سورة الطلاق – آية 1.
[ 30 ]
وكوكب الخرقاء وقول أحد حامل الخشبة: خذ طرفك، ولان الاضافة كما تكون للملك تكون للتخصيص أيضا، ولما انتفى الاول حمل على الثاني ولو مجازا لوجود القرينة الصارفة للفظ عن أحد محامله إلى غيره، ولا يحكم ببطلان الثاني المصرح به بمجرد الاحتمال في الاول. وهذا محصل كلام المختلف، ولا يرد عليه أنه مجاز لانه من المجازات الشائعة، والتناقض الذي فر منه الشيخ وابن إدريس لا يندفع بقوله (بأمر حق) فمختار المختلف قوي جدا. ولو قال: هذه الدار لفلان وكانت ملكي إلى وقت الاقرار لم يسمع الضميمة وصح الاقرار، وذلك لان الضميمة تقتضي بطلان الاقرار فتلغوا كما لو قال: له علي ألف من ثمن خمر. وبالجملة: فيشترط كون المقر به تحت يده وتصرفه وهو الملك المعبر عنه بتلك العبادة، فيكون المراد بكونه تحت يده وبالتصرف ما يقتضي الملك ظاهرا لما تقرر من لزوم كون الاقرار إنما يكون فيما كان متعلقه بملكه، لان اليد إذا كانت يد عارية أو إجارة ونحو ذلك يكون في يد الغير، فإذا علم ذلك لم يعتد بإقراره لانه إقرار في حق الغير، أما إذا جهل كان ذلك إقرارا، فقوله (الدار في يدي لفلان) لازم ونافذ لان كونه في يده شرط صحة الاقرار كما عرفت، فالتصريح به يكون مؤكد للصحة. ولو قال: له في ميراث أبي أو من ميراث أبي مائة صح وكان إقرارا بدين في التركة. ولقائل أن يقول: التناقض المدعى في قوله (داري لفلان) لازم هاهنا، لان ما كان ميراثا للاب المقر فهو ملك له أو على حكم مال الميت مع الدين، وعلى كل تقرير فليس ملكا للمدين، وقد اقتضى الاقرار كونه ملكا له. فإن قيل: المراد بقوله (في ميراث أبي) استحقاق ذلك، قلنا: هو خلاف الظاهر، فإنه خلاف
[ 31 ]
الموضع اللغوي والشهير في الاستعمال العرفي، وإذا جاز ارتكاب مثل هنا ففيما سبق أولى. ولو اقر له بحرية عبد في يد غيره لم يقبل، فإن اشتراه صح تعويلا على قول صاحب اليد. والاقرب أنه لو أقر من لا يد له على عبد وإنما هو في يد غيره بحريته لم يقبل، والمراد أنه لا يقبل الان بالنسبة إلى من بيده العبد. أما بالنسبة إلى المقر فإنه مقبول حتى لو انتقل إليه ظاهرا بسبب مملك كالبيع والارث فإنه يؤخذ بإقراره وينفذ في حقه، ويصح له استخدام العبد بمجرد إذن من هو في يده بنحو عارية أو إجارة ما لم يكن ذلك برضا العبد، ولا يبرأ بدفع منافعه وكسبه إلى صاحب اليد. ولو عقد على أمة للمقر برضاه ولم يأذن صاحب اليد لم يكن له نكاحا، وليس له أن يعقد على امراة عقد هذا العبد عليها بغير إذن صاحب اليد. إلى غير ذلك من الاحكام الكثيرة، والسبب فيه عموم أخذ المقر بإقراره بالنسبة إلى نفسه، فإذا اشترى المقر هذا العبد صح الشراء تعويلا على صاحب اليد أنه ملكه، والظاهر يساعده حيث إن الملك له شرعا والاقرار السابق لم ينفذ: وقيل: إنه افتداء لا شراء صحيح لان صحة العقد لا تكون إلا بالايجاب والقبول الصحيحين. ومعلوم أن القبول هنا غير صحيح لاعتراف المشتري بالحرية، والاقرب ما قاله العلامة في القواعد من أنه فداء من طرف المشتري وبيع من طرف البائع عملا بظاهر الحال من كونه مالكا وعدم نفوذ الاقرار بالنسبة إليه. وتتفرع على الحالتين فروع مناسبة لهما فمن ذلك عدم ثبوت خيار المجلس للمشتري، وكذا خيار الشرط من طرفه، بل لا يعقل اشتراط خيار له أصلا، وكذا خيار الحيوان والرد بالعيب والغبن إلى غير ذلك من اللوازم، ولا استبعاد في ذلك نظرا إلى الاعتبار المذكور، ومثله في الشريعة غير عزيز. وكذا لاولاء لاحد على هذا العتيق ظاهرا، أما المشتري فلانه غير مباشر
[ 32 ]
للمعتق، وأما البائع فإنه ينفي العتق من رأس. نعم أن كان المشتري أخبر أن البائع أعتقه ينفذ ذلك بالنسبة إليه، فعلى هذا يكون عاقلته الامام، وينبغي أن يكون إرثه له. وأما ما ذهب إليه العلامة في القواعد وابنه فخر المحققين في شرحه عليها من أنه يكون موقوفا فليس بشئ لمنافاته لذلك، ولعلهما أرادا أن البائع لو رجع إلى التصديق استحقه، وهو محتمل. ولاريب أن الثمن المدفوع إلى البائع لا يملكه في نفس الامر إن كان المشتري صادقا، فإن قدر على أخذه بسرقة ونحوها كان له ذلك، ومع تلف العين فبذلها لانه لم يسلطه على أتلافه، وإنما بذله توصيلا إلى دفع منكر فلا يعد تبرعا، فلو لم يظفر بالثمن إلى أن مات العبد نظر، فإن كان العتق الذي أقر به المشتري يقتضي ولاء للبائع أخذ المشتري قدر الثمن من تركة العبد، لانه إن كان صادقا فهو مستحق لقدر الثمن على البائع وان كان كاذبا فالجميع له، فقدر الثمن مستحق له على كل تقدير. وإن لم يكن العتق المقر به مقتضيا ولاء للبائع فحال التركة ما سبق ويتوقع المشتري الفرصة في أخذ عوضه. وبما قررناه يعلم أن إطلاق عبارة القواعد من أخذ المشتري الثمن من التركة غير جيد. ولو مات العبد قبل القبض لم يكن للبائع المطالبة بالثمن قطعا إن لم يكن قبضه، وللمشتري المطالبة به مع القبض قطعا.
المطلب الخامس في الاقارير المجهولة وفيه مسائل:
الاولى: أنه قد تقدم فيما سبق أن متعلق الاقرار لا يشترط فيه المعلومية فيصح وإن كان مجهولا، فإذا قال: له علي شئ الزم البيان والتفسير وقبل منه
[ 33 ]
ذلك التفسير وإن قل فسره بما يتمول في العادة قليلا كان أو كثيرا، حتى جاء في الحدود أنه لو أقر بحد ولم يفسره ضرب حتى ينهى عن نفسه، وما ذلك إلا لقبول الاقرار بالمجهول حتى فيما بني على التخفيف من الحدود التي تدرء بالشبهات. ووجه القبول أصالة براءة الذمة مما زاد، ولو فسره بما لم تجر العادة بملكه كقشرة الجوزة أو حبة الحنطة أو بما لا يملك في شريعة الاسلام كالخمر والخنزير وجلد الميته أو بالكلب العقور والسرجين النجس وإن انتفع بهما لم يقبل، وهذا إن كان الاقرار لمسلم، أما لو كان المقر كافرا صح التفسير بما يملكه الكافر كالخمر والخنزير. وإنما قيد الكلب بالعقور لانه لو فسره بالكلب المعلم والسر جين الطاهر قبل، ووجهه أن كلا منهما مال يصح بيعه ومقابلته بالمال. ولو فسره برد السلام أو العيادة أو جواب الكتاب أو تسميت العطسة ونحو ذلك من حقوق الايمان الشرعية لم يقبل لبعده عن الفهم في معرض الاقرار ولان أمثال ذلك يسقط بالفوات ولا يستقر في الذمة والاقرار مما يقتضيه الثبوت والاستقرار بالمقر به في الذمة. واحتمل العلامة في التذكرة القبول إذا أراد أن ذلك حق على رد سلامه إذا سلم وتسميتة إذا عطس، لما روي في عدة من الاخبار المعتبرة أن للمسلم على المسلم ثلاثين حقا يرد سلاما ويسمت عطسته ويجيب دعوته. وفيه نظر، ان إطلاق قوله (على شئ) إخبار عن الماضي وأنه يقتضي الملك عرفا ولا يعد شيئا من ذلك ملكا في العادة ليصح التفسير به. وصرح فيها بأنه لو قال: له علي شئ قبل التفسير بالعبادة ونحوها. ويشكل بأن الحق أخص فكيف يفسر بما لا يفسر به الاعم. ولو قال: غصبته شيئا وفسره بالخمر والخنزير قبل مع كون المقر له
[ 34 ]
مما يقع ملكه عليها، أما مع الاسلام فموضع إشكال وسنذكر وجه الاشكال. أما الاول فان ذلك بعد مالا بالنسبة إليه، وأما مع الاسلام فمنشأ الاشكال الاختلاف في تفسير الغصب، فقيل: هو الاستيلاء على مال الغير عدوانا. فعلى هذا لا يصح التفسير بما ذكره لان المفسر به لا يعده مالا فلا يغصب. وقيل: إنه استيلاء على محرم بخلاف المحللة على ما في يده محترمة يستحق الابقاء عليه ظاهرا فعلى هذا يصح. هكذا قرره فخر المحققين في شرحه على القواعد، والمعروف في المذهب هو الاول، فلا يقبل ولا يتجه الاشكال. وعلى هذا فلا يخفى أن الاشكال إنما هو في التفسير بالخمر المحرمة بخلاف المحللة. أما الخنزير فلا إشكال في عدم قبول التفسير به. وفي التذكره قال: لو قال: غصبته شيئا ثم فسر بالخمر والخنزير مما لا يعد مالا قبل لان الغصب لا يقتضي إلا الاخذ قهرا، وليس في لفظه ما يشعر بالتزام أو تفويت لحق، بخلاف قوله (له). وبه قال الشافعي، قال: ويحتمل قبوله إن كان المقر له ذميا، وإن كان مسلما فإشكال. وهذا مخالف لما قرره ولده في شرح القواعد، وكيف كان فالظاهر عدم القبول بالنسبة إلى المسلم. ولو قال أردت نفسه لم يقبل لجعله للفعل مفعولين الثاني منهما (شيئا) فيجب مغايرة الاول. ولا يرد ما قيل: إنه يجوز أن يكون (شيئا) بدلا من الضمير في غصبته لان شرط إبدال النكرة من المعرفة في الاصح أن تكون منعوتة وهو منتف هنا، ولان الاصل في السابق أن يكون مقصودا بالنسة. وعلله أول الشهيدين في الدروس بأن الغصب حقيقة في أخذ المال حتى لو كان عبدا لم يقبل لا قتضاء مفعولي الفعل هنا المغايرة. أما لو قال: غصبته ثم قال: أردت نفسه قبل وكذا لو قال: عنيته لان الانسان قد يغصب ويعين في غير المال. هكذا قال العلامة في القواعد.
[ 35 ]
وقيل عليه: إن هذا التعليل عليل لمنافاته لما سبق من الاشكال الناشئ من الاختلاف في تفسير الغصب. واجيب عن ذلك بأن الذي حكيناه عن كلام التذكرة في توجيه الاشكال يقتضي عدم المنافاة لان منشأ الاشكال حينئذ كما عرفت ليس هو إلا الاختلاف في تفسير الغصب ولم يعتبره في التذكرة. فإن قيل: هذا وإن لم يناف الاشكال المذكور على ما ذكرت فإنه مناف لتفسير الغصب حيث لا يقع إلا على المال، قلنا: إنما يجب حمل الغصب على المال إذا اقتضاه الكلام ولم يحتج إلى تقدير شئ، وليس هنا لان غصبيته إنما تحمل على المال إذا كان فيه محذوف، فوجب حمل الغصب على مجازه فإنه أولى من الحذف والاضمار، فإنهما وإن كانا متساويين إلا أن الاصل براءة الذمة، وليس الغبن من لوازم المال، فروي في عدة من الاخبار إطلاق الغبن على المقصر في أعمال الطاعات ففيها: من استوى يوماه فهو مغبون (1).
الثانية: لو امتنع من التفسير حبس حتى يتبين، وقال الشيخ وابن إدريس: يجعل ناكلا فيحلف المدعي. هذا إذا وقع بالمجهول ولم يفسر كان ذلك إنكارا منه، فتعرض اليمين عليه فإن أصر جعل ناكلا وحلف المدعي إذا لم نقض بالنكول. فإن أقر ابتداء قلنا للمقر له: ادع عليه حقك فإن أصر جعلناه ناكلا. ووجه أنه إذا أمكن تحصيل الغرض من غير حبس لا يحبس، ويشكل بأن الرد إنما يكون مع عدم الاقرار، والاصح أنه يحبس كما تقدم في وجوب البيان عليه، فإذا امتنع من ذلك الحق الواجب عليه حبس كما يحبس على الامتناع من أداء الحق. ولو فسره بكلب يجوز اقتناؤه قبل لانه مال يقابل بمال كما سبق. وكذا لو فسره بحد قذف أو شفعة قبل تفسيرة لان كلا منهما حق مملوك، ولذلك صرح العلامة في التذكرة والتحرير.
(1) عوالي اللئالى ج 1 ص 284 ح 129.
[ 36 ]
ويشكل بأن (اللام) تقتضي الملك وذلك لا يعد ملكا في العادة وإن كان حق الشفعة أقرب لانه لكونه وسيلة قريبة إلى الملك في حكم الملك، ومثله حق الخيار. ولو فسره بحق السكنى في بيت في المدرسة أو بمكان الصلاة في الصف ونحو ذلك ففى القبول نظر، والاقوى عدم القبول لانه خلاف المتبادر من إطلاق لفظ الحق ولو قوعه بعد لام الملك.
الثالثة: لو فسره بدرهم فقال المدعي: بل أردت بقولك عشرة لم يقبل دعوى الزيادة بل عليه أن يدعي نفس العشرة، فالقول قول المقر في عدم الارادة بعشر بكونها مسموعة، ويترتب عليها اليمين. وبذلك صرح في التذكرة حيث قال فيها: وإن قال: – يعني المقر له – أراد به المائتين حلف المقر على أنه ما أراد مائتين، وانه ليس عليه إلا ما فسره به، ويجمع بينهما في يمين واحدة، فإن نكل المقر حلف المقر له على استحقاق المائتين، ولا يحلف على إرادة المقر لعدم إمكان الاطلاع عليها، بخلاف ما إذا مات المقر وفسره الوارث فالمدعي المقر له الزيادة، فإن الوارث يحلف على إرادة المورث لانه قد يكون مطلعا على حال مورثه بخلاف المقر له. هذا كلامه. واورد عليه ما قيل: إنه إذا لم يكن اطلاعه على الارادة فكيف يجوز الدعوى بها على وجه الجزم ويحلف عليها ؟ نعم إن اريد أن له أن يستحلفه على أنه ما أراد ذلك وإن لم يأت بالدعوى على صورة الجزم إما لعدم اشتراط الجزم فيها مطلقا أو فيما يخفى غالبا أمكن، ثم جواز حلف الوارث على إرادة المورث حيث بغير الوارث، وكذلك إمكان الاطلاع على إرادته بعارض لا يختص بالوارث وإن كان الوارث أقرب.
الرابعة: لو مات التفسير طولب الورثة بها إن خلف تركة، إذلا يجب القضاء بدونها، فإن أنكروا العلم بالارادة حلفوا على عدمه، وربما اوجب عليه الحلف على عدم العلم بالاستحقاق لكونه أخف، فإن من علم إرادة المدعى
[ 37 ]
به بلفظ الاقرار فقد علم الاستحقاق. وفرق العلامة في التذكره بين أن يدعي الموصى له مجمل إرادة الوصي أكثر بما فسره به الوارث فالوجب اليمين على الوارث على نفي العلم باستحقاق الزيادة ولم يتعرض للارادة في الاول، وأوجب حلفه على إرادة المورث للثاني محتجا للفرق بأن الاقرار إخبار عن حق سابق يمكن فيه الاطلاع، بخلاف الوصية لانه إنشاء أمر عن جهالة، وبيانه إذا مات الموصي الى الوارث. وضعف هذا الفرق بأن هذا مع انتفاء الارادة لا معها. ولو ادعى المقر له جنسا غير ما فسر ولم يدع شيئا ففي بطلان الاقرار بذلك وعدمه خلاف، جزم العلامة في القواعد بالابطال. واستشكله المحقق الثاني في شرحه عليها حيث قال: والحكم ببطلان الاقرار مشكل، فإنه لو رجع المقر له إلى التصديق نفذ فكيف يحكم ببطلانه ؟ وبدون الرجوع قد بينا فيما سبق أنه يجب على الحاكم الشرعي انتزاع المقر به إن لم ير المصلحة في استئمان المقر عليه، فلا يستقيم ذلك الاطلاق في الحكم عليه بالبطلان.
الخامسة: لو قال: له علي مال قبل تفسيره بالقليل أو الكثير منه مما يسمى مالا متمولا، ولا يقبل تفسيره بغيره من الحقوق كحد القذف والشفعة إذ لا يعد شئ من ذلك مالا، ويعتبر في التفسير بالقليل أن لا يبلغ في القلة إلى حد لا يعد مال في العادة كحبة حنطة. وصرح العلامة في التذكرة بعدم اعتبار هذا الشرط لان كل متمول مال ولا ينعكس، وهو مشكل. واعتبر أبو حنيفة تفسيره بالمال الزكوي. ويقبل تفسيره بالامة المستولدة لان ام الولد قبل موت مولاها مال مملوك حتى لو كانت لم ولد للمقر فتنزل على سبق الملك للمقر له أو على انتقالها إليه في موضع يجوز فيه الانتقال كثمن
[ 38 ]
رقبتها مع إعسار المولى. ووجه القبول عموم الاخبار مثل قوله عليه السلام: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز. وربما استشكل بأن الاستيلاد حق مشترك بينهما وبين الله تعالى، وقبول التفسير بها يقتضي إبطاله. واحتمل أول الشهيدين في دروسه اعتبار تصديقها أو الاستفسار، ولا باس به لان فيه السلامة من الاشكال وخروجا من العهدة وجمعا بين الحقين، ولهذا جعله المحقق الثاني في شرح القواعد قويا جدا. ولو قال: مال جزيل أو عظيم أو نفيس أو خطير جدا قبل تفسيره أيضا بالقليل وذلك بحمله على أنه عظيم خطره أو عظيم وزر غاصبه والخائن فيه، لكن يرد عليه أن ذلك لا يطابق الاستعمال العرفي. واجيب بأنه ليس للعرف في ذلك معنى محقق يرجع إليه، وعظيم الشئ ونفاسته تتفاوت بتفاوت أحوال الناس واختلاف طبائعهم تفاوتا لا ينضبط، فربما عد القليل نفسيا في حال وباعتبار شخص وحقيرا في حال آخر واعتبار آخر فلا يرجع في ذلك إلا قبول تفسيره تمسكا بيقين البراءة. ولو قال: مال كثير فعند الشيخ وجماعة أنه ثمانون كما ثبت في النذز بالدليل عن أهل البيت عليهم السلام، ووجه ثبوت ذلك عرف شرعي فكأنه من الحقائق الشرعية، وقد استدل عليه المعصوم بقوله تعالى (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) (2) لانها كانت ثمانون وهو متحقق، وربما أجاب المتأخرون عن ذلك بأنه من باب القياس لانه تقدير لا تساعد عليه اللغة ولا العرف فيقتصر فيه على موضع الوفاق، فحينئذ يرجع في التفسير إليه كما سبق، وهذا هو الاصح، واختاره ابن إدريس والمتأخرون.
السادسة: لو قال: له علي إكثر من مال فلان وفسره بأنه أكثر منه عددا إن كان مما يعد كالدراهم أو قدرا إن كان لا يعد كدار أو بستان (ويمكن
(1) سورة التوبة – آية 259.
[ 39 ]
أن يكون المعنى أنه قد فسره بكونه أكثر عددا أو أكثر قدرا ومعنى الاستواء في العدد) (1) الزم المثل بمثل ذلك ورجع في الزيادة إليه لانها مجهولة. ومقتضى ما سبق أنه لابد من تفسيرها بما يتمول في العادة، واكتفى في التذكرة في قول تفسير الزيادة بما لا يتمول كحبة حنطة أو أقل من ذلك، وأن الحكم في المسألتين غير مختلف. أما لو شهد ابتداء بالقدر ثم أقر بالا كثرية لم يسمع لو فسره بالقليل بدعواه ظن القلة لان ذلك ينافي الشهادة، وهذا ينتغي تقييده بمالا يطول معه الزمان بحيث يمكن تجدد الاشتباه عليه. ولو فسر الاكثرية بالمنفعة أو البقاء أو البركة ففي السماع نظر منشأه من أن الاكثر عددا أو قدرا، واللفظ أنما يحمل عند الاطلاق على الحقيقة، ومن أن المجاز إنما يصار إليه مع وجود الصارف عن الحقيقة وهو أخبر بقصده ونيته، واختاره في التذكرة. ويشكل بأن الحمل على مجاز خلاف الظاهر، فإذا تراخى تفسيره عن الاقرار فسماعه محل تأمل. نعم أن اتصل به أمكن السماع لان المجموع كلام واحد.
السابعة: لو قال لي عليك عليك ألف دينار فقال: علي أكثر من ذلك لزمه ألفا وزيادة. ولو فسر الاكثر بالاكثر فلوسا أو حب حنطة فالاقرب عدم القبول. وخالف العلامة في التذكرة في المسألة الاولى فقال: لا يلزمه أكثر من الالف بل ولاالف لان لفظ (أكثر) مبهم لاحتمالها الا كثرية في القدر أو العدد
(1) لم يتضح المراد من العبارة التى جعلناها بين القوسين، واحتمال الزيادة أو التصحيف فيها غير بعيد.
[ 40 ]
فيحتمل أنه أراد أكثر منه فلوسا أو حب حنطة أو حب شعير أو غير ذلك فيرجع فيه إلى تفسيره، ووجه الاول لفظ (أكثر) إنما استعمل حقيقة في العدد أو في القدر فينصرف إلى جنس ما اضيف إليه لانه لا يفهم عند إطلاقه غير ذلك، قال الله تعالى (أنا أكثر منك مالا وولدا) (1) (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا) (2) وقد اعتبرنا حمل اللفظ على الظاهر في اقل الجمع وهو ثلاثة عند الاكثر مع احتمال غيره، واعتبرنا الوزن الغالب والنقد الغالب والسلامة من العيب والحلول مع أن الاحتمال قائم وإمكان إرادة المرجوح، فيجب الحمل على الظاهر هنا أيضا، ولا يعتد بتطرق الاحتمال وفصل في التذكرة وهو أنه إن قرن (أكثر) ب (من) التفضيلية لم يجب مشاركته في الجنس وإلا وجب لان (افعل) بعض مما يضاف إليه. وتنظر في ذلك المحقق الثاني في شرح القواعد صحة قولنا (يوسف أحسن إخوته) وهو أحد صور الاضافة وليس (أفعل) فيه بعضا مما اضيف إليه، فلا يصح ذلك التعميم بحيث يجعل قانونا كليا. ثم قال: والذي يقتضيه النظر أنه لم يذكر المميز حينئذ في التفضيل، فالابهام قائم والمرجع في التفسير إليه، ولا دليل على وجوب اتحاد الجنس، وما ذكر من الشواهد على ذلك والادلة من الايات المذكورة فأكثرها مع المميز والذي لم يذكر فيه فيه خلاف اعتمادا على دلالة المقام عليه. ولا يمكن الحكم يشغل الذمة بمجرد الاستناد إلى مجرد الاقوال من غير أن يكون في اللفظ دلالة صريحة، فالمحافظة على قاعدة الاقرار المتفق عليها المحصلة لبراءة الذمة أحسن من مراعاة القواعد اللغوية والعرفية الخاصة، سيما إذا كانت صادرة ممن لا يراعي هذه القواعد ولم يسمع بها ولم يأت من الشارع
(1) سورة الكهف – آية 34. (2) سورة سبأ – آية 35.
[ 41 ]
فيه حكم كلي وإن لم يلاحظه المقر.
الثامنة: قد صرح غير واحد بأن لفظ (كذا) من الالفاظ المبهمة وهو كناية عن العدد وهو كلفظ الشئ فيرجع في تفسيره إلى المقر أيضا سواء اتحد أو تكرر لان تكراره للتأكيد لا للتجديد والتأسيس. فلو فسر المفرد (1) بدرهم وكان منصوبا لزمه درهم واحد ونصب على التمييز لصلوحه للاقراره وغيره، هذا هو المشهور. وقال الشيخ: يلزمه عشرون درهما لانه أقل عددا ينتصب عنه التميز ولفظ (كذا) كناية عنه. ويشكل بأن شغل الذمة بعشرين مع إمكان أن يراد بكذا واحد يقتضي التمسك بمجرد الاحتمال، ولا أثر لموازنة المبهمات المبينات باعتبار القرائن النحوية اما لعموم العلم (2) بكون ذلك مستفاد من اللفظ لوضعه له، وأما ثانيا فلان العرف الخاص لا ينظر إليه وإنما يعتمد على ما يتفاهمه أهل العرف العام ويجري في محاوراتهم، إلا إذا لم ينضبط لاختلافه فالاصح إذا هو الاول، ولو رفعه فعند الاكثر كذلك ويكون تقديره شيئا هو درهم فجعل الدرهم بدلا من كذا منطبق على أوضح الاحتمالات. أما لو خير لزمه في المشهور جزء درهم وصار مبهما أبهاما آخر فيرجع إليه في تفسيره وقيل: – والقائل الشيخ أيضا وجماعة – إنه يلزمه مائة لانه أقل عدد يضاف إلى تمييزه المفرد. ويرد عليه ما يرد على كلامه الاول مع عدم المستند الشرعي على ذلك. وما وجهه به من أن (كذا) كناية عن العدد ودرهم بالجر بمنزلة التمييز بعده وأقل عدد مفرد يكون تميزه مجرورا عن لفظ المائة فضعفه غير خفي. ولم يفرق الشيخ بين أن يقول: علي كذا درهم صحيح أو لا يقول كونه
(1) كذا في النسخة، ويحتمل أن يكون (فلو فسره المقر). (2) كذا في النسخة، ولعل الصحيح (أما أولا للعلم).
[ 42 ]
صحيحا. وفيه رد على بعضهم حيث فرق بين الامرين لانه إذا قال: له علي كذا درهم صحيح بالجر لم يجز حمله على بعض درهم فتعين المائة. والحق ما ذكرناه أولا لان وصف الدرهم بالصحة لا ينفي تقدير الجزء لان الجزء كما ينسب لمطلق الدرهم ينسب للصحيح أيضا، ووصفه بالصحة لا يقتضي ثبوت الدرهم الصحيح في النفقة كما زعمه في البعض، فإن بعض الدرهم الصحيح قد يكون مستحقا لغير من يستحق باقيه، وكذا كل صحيح من بيت أو سيف وحيوان وغيرها. ولو وقف بالسكون قبل تفسيره بجزء درهم لا حتمال الجزء وبالدرهم لاحتمال الرفع فيلزمه أقل الامرين، وأوجب بعضهم درهما. وكذا لو قرر بغير عطف كأن قال: له كذا كذا درهما بالنصب أو بالرفع أو بالجر فلا يلزمه إلا ما سبق من غير تكرار. ووجهه أن (كذا كذا) يمكن أن يكون تكراره للتأكيد وكأنه قال: شئ شئ درهما ويكون درهما مميز للموكد ودرهم بالرفع مفسر له، وفي الجر كانه قال: جزء جزء درهم، ويحتمل في الجر أنه إضافة جزء إلى جزء المضاف إلى درهم فيلزمه بعض بعض درهم وتفسيره إليه. ولو وقف لزمه أقل الاحتمالات لو فسر به. ولو قال: كذا كذا ثلاثا ثم أتى بالدرهم بعده منصوبا أو مرفوعا كما سبق أيضا في أنه يلزمه درهم لامكان التأكيد كما لو كرر الشئ ثلاثا، ولو جر فجزء درهم وعلى الاحتمال فجزء جزء جزء درهم ولو وقف فكما سبق أيضا. وخالف الشيخ هنا كما خالف فيما سبق حيث قال: إذا قال: كذا كذا درهما بالنصب يلزمه أحد عشر، درهما لانه اقل عدد مركب مع غيره ينتصب بعده المميز الى تسعة عشر، فيجب الحمل على الاقل، ويضعفه ما تقدم. ولو عطف ورفع لزمه درهم لانه ذكر شيئين ثم أبدل منهما درهما فكأنه قال: هما درهم، ولو نصب احتمل لزوم درهم لان (كذا) يحتمل أقل من درهم، فإذا
[ 43 ]
عطف مثله عليه وفسرها بدرهم جاز، ويحتمل لزوم درهمين لانه ذكر جملتين، وفسر بدرهم فيعود إلى الجميع كمائة وعشرين درهما فيعود التفسير إلى الجميع وأكثر من درهم بناء على أن الدرهم تفسير للاخير، ويبقي الاول على إبهامه. وقيل: يلزمه أحد وعشرون. فالاحتمالات إذا ثلاثة:
فالاول: لزوم درهم لان (كذا) يحتمل أقل من درهم، فإذا عطف مثله وفسرهما بدرهم على طريق التمييز كان صحيحا جاريا على القوانين والاصل براءة الذمة عمازاد، وهذا أقوى.
الثاني: لزوم درهمين لانه ذكر جملتين وفسر بدرهم، فكيف يكون تفسير الجميع على معنى أنه مفسر للاخير، ودليل على أنه تفسير الاول كمائة وعشرين درهما فإنه قد صرح أن المائة تكون أيضا دراهم، وحينئذ يلزمة أكثر من درهم لان الدراهم تفسير للاخير فيبقى الاول على إبهامه. وقال الشيخ: إنه يلزمه أحد وعشرون لانه أقل عددين عطف أحدهما على آخر وانتصب الدرهم بعدهما. وقال ابن إدريس في مقابل كلامه: الاولى الرجوع إلى التفسير لان (كذا) لفظ مبهم محتمل ولا يعلق على الدرهم بأمر محتمل والاصل براءة الذمة. وقال العلامة بعد حكايته كلام ابن إدريس: إن التحقيق أن نقول: إن كان القائل من أهل اللسان الزم بما قاله الشيخ وإلا رجع إلى تفسيره كما عليه ابن ادريس. ويشكل بأن هذه المعاني ليست مستفادة من هذه الالفاط بالوضع ليحكم على من كان أهل اللسان بها، وعلى تقدير الوضع فأهل اللسان إنما يتحاورون في الاقارير والمعاملات لا يتفاهمه أهل العرف، والاصح ما قاله ابن إدريس.
التاسعة: لو قال: له علي ألف ودرهم أو درهمان فالالف مبهم الجنس فيقبل تفسيره بما قل وكثر، وذلك لان عطف جنس معين على مبهم الجنس
[ 44 ]
لا تقتضي إذ لا منافاة بين عطف بعض الاجناس عليما يغايرهما بل هو الواجب فبأي شئ فسره قبل حتى لو فسرت بحبات الحنطة قبل. وقد صرح بذلك العلامة في التذكرة، ويؤيده أن المفسر للشئ لا يعطف عليه إلا نادرا كما تقرر في العربية. ولو قال: ألف وثلاثة دراهم أو وخمسون درهما أو وخمسة عشر درهما أو ألفا ومائة درهم فالجميع دراهم على الاظهر، وذلك لان الاستعمال لغة وعرفا جار على الاكتفاء بمفسر الاخير في كونه تفسيرا لما قبله. قال الله تعالى (أن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة) (1). وفي الحديث (2) أن رسول الله صلى الله وعليه واله توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. وغير ذلك من الاستعمالات في الاخبار وكلام العرب التي لاحصرلها. وأما الاستعمالات العرفية فهو في الظهور مغنية عن التعرض لها ولبيانها، وكأنهم لما كرهوا الاتيان بالمميزات المؤلفة في الكلام والواحد اكتفوا بأحدهما ورجح المبهم الاخير على غيره لان المفسر انما يفسر ما قبله، ولان المقطوع به هو تفسير ما اتصل به فيبقى ما سواه على الابهام، والاصل براءة الذمة، ولأن المستثنى المتعقب جملا يختص بالاخيرة في الاصح. ويضعف بأن الاستعمال لما كان جاريا على ذلك بحيث لا يفهم عند الاطلاق سواه ولا يتوقف أحد في فهم المراد في مثل ذلك على مراتبه (3) لدفع الابهام فإن المحذوف لدليل بمنزلة المذكور، وحينئذ فلا يتوقف الاصل ها هنا على وجود الناقل، والاستثناء بعد جمل إنما يعود إلى الاخيرة على القول به مع انتفاء ما يدل على عوده إلى الجميع، والاول أقوى، فلا إبهام في الاول ولا في الثاني بعد تفسيره بذلك المميز.
(1) سورة ص – آية 23. (2) الكافي ج 1 ص 439. (3) كذا في النسخة.
[ 45 ]
وعلى القول الثاني وهو اختصاصه بالاخير وبقاء الاول على الابهام، فلو باع بمائة وعشرين درهما مثلا لم يصح البيع حتى يذكر المائة. ولو قال: علي ثلاثة دراهم وألف أوعشرون درهما وألف، فالالف في المثالين مجهولة لان السابق في مثل ذلك لا يفسر بما بعده والاصل براءة الذمة. أما لو قال: درهم ونصف فالاقوى حمل النصف على السابق لان المتفاهم في العرف والمحاورات العرفية، حتى لو قال: له علي درهم ونصف درهم عد مطولا تطويلا زائدا على قدر الحاجة، واحتمل النقص عدمه للاصل ولانه معطوف على الدرهم فلا يقيد به، والاول أقوى. وقال في التذكرة: لو قال: ونصف فالنصف مبهم، وهو خلاف الظاهر.
العاشرة: إطلاق الاقرار بالموزون والمكيل ينصرف إلى موزون البلد وكيله لانه المتظاهر عرفا، ولهذا يحمل الاطلاق في البيع عليهما. وكذا الذهب والفضة ينصرف إلى نقد البلد الغالب. والمراد بالذهب والفضة الدراهم والدنانير، فلو أقر بذهب أو فضة في غير أن يسمي الدراهم والدنانير كأن قال: خمسة مثاقيل من ذهب أو من فضة فالظاهر أن ذلك لا ينصرف إلى الفضة العالية الخالصة في البلد، ولما كان الاطلاق محملولا على المتعارف لم يتفاوت الحال في حمل الدراهم والدنانير على المغشوشه إذا كان نقد البلد مغشوشا، كما يحمل النقد على الخالص إذا كان غالبا في البلد من غير تفاوت، فإن تعدد الوزن أو النقد فتساويا من غير غلبة لاحدهما على الاخر رجع إليه في التعيين مثل أن يكون الرطل واقعا على كبير وصغير والنقد على صحيح وغير صحيح وتساوى الجميع في المعاملة بحيث لم يكن لبعض على بعض رجحان حصل الابهام ورجع إليه في التعيين، والاصل براءة الذمة ولو كان بعض الوزن أو النقد المتعدد غالبا في المعاملة، ويجب حمل الاطلاق عليه. ولو فسر بالناقص النادر مع وجود الغالبية في البلد قبل مع اتصاله،
[ 46 ]
وكذلك الوزن لان ذلك بمنزلة الاستثناء، ولانه لو لا ذلك لادى إلى تعذر الاقرار ممن عليه دراهم ناقصة، ولان الكلام لا يعتبر معنى إلا بعد كماله وتمامه، بخلافه حالة الانفصال فإنه يقتضي رفع بعض ما حكم بثبوته فلا يسمع. وكذا لو فسر بالمغشوشة مع الاتصال حيث يكون الغالب غيرها وإلا لم يحتج إلى اشتراط الاتصال. ولو قال: له علي درهمان أو دراهم صغار ففسره بالناقص لا يقبل إلا مع لمستفاد من الصفة وصريح اللفظ لا ينفي حملها على الغالب لان الدراهم الغالبة تكون صغيرة في شكلها. نعم لو كان في الدراهم صغير وكان ناقصا وفسر به قبل منه. وفي التذكرة: أنه لو قال: له علي درهم أو درهمان أو درهما صغيرا أو دراهم صغار فالوجه قبول تفسيره بما أراد مما ينطبق عليه هذا الاسم. وهذا لا يخالف ما ذكرناه، مع أنه قال بعد هذا في المسألة التي تلي هذه: لو قال له: دريهم بالتصغير فكما لو قال درهم لان التصغير قد يكون في ذاته أو لقلة قدره عنده وقد يكون لمحبة. ولو قال: له علي درهم كبير ففي التذكرة ذهب إلى أنه درهم من دراهم الاسلام لانه كبير في العادة، قال: ولو كان هناك ما هو أكبر منه وزنا فالاقرب المساواة.
الحادية عشرة: صيغ الجمع من الالفاظ المبهمة حيث إنما مشتركة بين جموع القلة والكثرة وهي في إصطلاح النحويين مختلفة في القله والكثرة لكنه في عرف العام غير متفاوت، فيحمل على أقله وهو ثلاثة سواء كان جمع قلة أو كثرة وسواء كان معرفا بلام الجنس أو منكرا، وسواء وصفه بالقلة أو الكثرة أو لا، لان الفرق بينهما استعمال خاص فلا يعارض أصالة البراءة، والمعروف باللام
[ 47 ]
وإن اقتضى العموم إلا أنه هنا ممتنع وليس هناك حد (ينتهى) إليه فيلغى التعريف وكذا وصفه بالقلة والكثرة. واحتمل العلامة في قبول تفسيره باثنين محتجا بالاستعمال الشائع في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى (فان كان له اخوة) (1) (فقد صغت قلوبكما) (2) وقوله عليه السلام (3): الاثنان فما فوقهما جماعة. وبأن حقيقة الجمع موجودة في الاثنين، قال: ولو مسلم أنه مجاز فلا يستحيل إرادته، فإذا فسر به قبل لانه أعرف بقصده، ويرده أن المجاز خلاف للاصل، فالتفسير به يكون منفصلا عن الاقرار ورجوعا عنه ويلزمه قبول التفسير بالواحد لعين ما ذكره فإنه يستعمل إليه مجازا. وفي الدروس لاول الشهيدين: أنه لو فسر بالاثنين متأولاله بمعنى الاجتماع أو أخبر بأنه من القائلين أقل الجمع اثنان فالاقرب القبول، ويشكل بأن اللفظ يجب حمله عند الاطلاق على الشائع في الاستعمال، فإذا فسر بخلاف ذلك تفسيرا متراخيا عن الاقرار كان رجوعا عن بعض ما أقر به. ولو قال: ثلاثة آلاف واقتصر عليها لزم بتفسير الجنس بما يصح تملكه مما يصدق عليه ذلك.
الثانية عشرة: لو قال: علي ما بين درهم وعشرة إلى ثمانية لان ذلك ما بينهما، وظاهر إطلاقهم أن الثمانية دراهم واللفظ غير صريح في ذلك. ولو قال: من درهم إلى عشرة احتمل فيه وجوة: (أحدها) دخول الطرفين (والثاني) خروجهما (والثالث) دخول الابتداء وخروج الغاية. وبهذا الاحتمال تعددت الاقوال. فوجه الاول أن ذلك جار في الاستعمال، تقول: قرأت القرآن من أوله إلى آخره وأكلت الطعام من أوله إلى آخره، واورد عليه أن ذلك مستفاد من
(1) سورة النساء – آية 11. (2) سورة التحريم – آية 4. (3) جامع الصغير ص 9.
[ 48 ]
قرأت القرآن وهو وقوع القراءة على جميعه. وكذا في قوله: واكلت الطعام ودخول الطرفين بالقرينة المقالية، فكيف يستدل على ذلك عند الاطلاق ؟ ووجه الثاني ان الاول والعاشر حدان لا يدخلان في المحدود كما لو قال: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار فإن الجدارين غير داخلين في المبيع. وقد نقل فخر المحققين في شرحه على القواعد عليه الاجماع ولقوله تعالى (اتموا الصيام إلى الليل) (1) ولان الاصل البراءة فلا يجب سوى المتقين وهو الاصح، واختاره ابن ادريس في سرائره. ووجه الثالث أن الاول ابتداء الغاية والعاشر هو الحد فيدخل الابتداء قطعا دون الحد، ولان الملتزم زائد على الواحد والواحد مبدأ العدد، واختار هذا الشيخ في المبسوط والعلامة في الارشاد. وضعف بأن شغل الذمة لا يكون بمجرد الاستبعاد. ولو قال: في مثله أردت المجموع لزمه خمسة وخمسون، لانك في هذه الحال تزيد أول العدد وهو الواحد على آخره وهو العشرة ثم تضرب المجموع في نصف العشرة، وطريق معرفة مجموع الاعداد المذكورة ما ذكرناه فما خرج فهو الجواب. والعلامة في القواعد أطلق الحكم هنا ووفي غيرها، وكذا غيره من فقهائنا ربما كان يظهر منه عدم الاعتداد بالاطلاق، وإنما يستقيم ذلك على القول بدخول الطرفين. أما على القول بخروجها أو خروج الغاية دون الابتداء فلا يبلغ المقر به خمسة وخمسين كما لا يخفى إلا أن يريد يقوله الاقرار بجميع الاعداد التي اشتمل عليها هذا اللفظ، فلا بحث في اللزوم ولا إشكال. ولو قال: له درهم في عشرة ولم يرد الحساب والضرب لزمه واحد، وذلك لان المقر به الدرهم والعشرة ظرف له.
(1) سورة البقرة – آية 187.
[ 49 ]
ولو قال: درهمان في عشرة وأراد الضرب والحساب لزمه عشرون، ولو أراد درهمين مع عشرة يجعل في المعية والمصاحبة قبل ولزمه اثنا عشر. أما إذا إراد الحساب فلا بحث لان هذه العبارة ظاهرة فيه. وأما إذا أراد درهمين مع عشرة فإن هذا المعنى شائع بين أهل اللغة والعرف، فإنهم يقولون: إذا أرادوا الجمع بعد التفريق في العدد قالوا في خمسة في سبعة إلى غير ذلك، فلا يمتنع الحمل عليه عند الاطلاق ومجي (في) للمصاحبة شائع كما في قوله تعالى (ادخلوا في امم) (1) ويقبل منه هذا التفسير وإن كان هو من أهل الحساب على الاصح. وربما احتمل بعضهم عدم القبول لان الظاهر من حال الحساب استعمال الالفاظ في معانيها المصطلح عليها فيما بينهم. ورد بأن المحاورات العرفية غالبا لا تكون جارية على مصطلحات أهل العرف الخاص كما هو مشاهد مع أن الاصل براءة الذمة، والاصح القبول. ولو قال: أردت در همين في عشرة لي قبل ويلزمه درهمان فإن (في) للظرفية فالاصل البراءة. ولو قال: درهمان في دينار لم يحتمل الضرب وسئل، فإن فسره بالعطف لزمه درهما ودينار وذلك بناء على أن (في) للمصاحبه، وإلا فليس هنا عطف إصطلاحي. ولو قال: أسلمتها في دينار فصدقه المقر له بطل إقرارة لان السلم لا يصح في الصرف لانه مشروط بقبض الثمن والمثمن في المجلس لمكان الصرف، وإن كذبه صدق المقر له مع اليمين فيلزم المقر بالدرهمين ولا يقبل منه ما ينافي الاقرار وإن كان له إحلاف المقر له على نفي ما ادعاه.
(1) سورة الاعراف – آية 38.
[ 50 ]
الثالثة عشرة: لو أقر له صريحا بالظرف دون المظروف أو بالعكس لم يدخل أحدهما عند الابهام في الاخر لاحتمال أن يريد بالظرف الذي له. فإذا قال: له عندي زيت في جرة أو سيف في غمد أو كيس في صندوق أو فص في خاتم أو غصبت منه ثوبا في الظرف أو منديل لم يدخل الظرف لاحتمال أن يريد في جرة لي أو في غمد لي، وهكذا في الباقي. وليس في اللفظ قرينة تدل على كون هذه الاشياء للمقر له، وإلا لكان أذا صم إليه لفظ مفهم للمنافاة لظاهر الاقرار و يحتاج إلى العدول عن الظاهر مع أن الاصل براءة الذمة، وكذلك في الامثلة الاخيرة لم يكن مقرا إلا بغصب الزيت والثوب، خلافا لابي حنيفة. ولو قال: له عندي غمد فيه سيف أو جرة فيها زيت لم يدخل المظروف، وكذا له خاتم فيه فص أو عمامة فيه رأس عبد للعلة التي مر ذكرها. ولو قال: له عندي خاتم وإطلق أو ثوب مطرز لزمه الخاتم بفضته والطراز أيضا، لان المتبادر من العبارة عند الاطلاق دخول الاطراز في الاقرار بالثوب بلا إشكال لان الطراز جزء والجزء في العادة المستمرة داخل. وأما الفص ففي دخوله في الاقرار إشكال ينشاء من أن اسم الخاتم يتناوله عرفا ومن مغايرته إياه وانفصاله عنه، ولهذا يخلو الخاتم عنه كثيرا، والاقوى الاول لان الكلام في شمول اسم الخاتم في الفص إنما هو مع وجوده فيه فمر كما مر للطراز، وليس كلما هو جزء للشئ يمتنع خلوه عنه. واختار العلامة في التذكرة الثاني. لو قال: له عندي جارية وجاء بها وهي حامل احتمل صحة استثناء الحمل لان الحمل ليس جزء من الجارية لغة ولا عرفا، ولا عرفا، ولهذا لا يندرج في بيعها على الاصح. وخلاف الشيخ في ذلك نادر فلا يتناوله الاقرار بها وإن كان كل منهما تحت يده، وبهذا يظهر وجه الفرق بينهما وبين الخاتم والفص فانه جزء عرفا. ويحتمل عدم صحة الاستثناء لانه تابع للام ونمائها، ونمنع تبعيته لها في الاقرار لان النماء إنما يتبع الاصل إذا تجدد في الملك ولم يكن هناك ما ينافي ملكيته،
[ 51 ]
والاقرار لا يقتضي تقدم ملك الام على تجدد الحمل، وسيأتي في أحكام القضاء أنه لا يسمع دعوى: هذه ابنة أمتي لجواز تجددها في غير ملكه، فصحة الاستثناء لا يخلو من قوة. ولو قال: له عندي دار مفروشة أو دابة مسروجة أو عبد عليه عمامة كان محتمل للامرين وهو صحة الاستثناء وعدمها، ومن ثم وقع الخلاف في المسالة، فالقول بصحة الاستثناء واضح لخروج الفرش عن الدار والسرج عن الدابة والعمامة عن العبد ومن جهة وصفها بكونها مفروشة فإذا سلمها غير مفروشة لم يكن المقر بها. ورد بأن الوصف بذلك حين الاقرار لا يقتضي استحقاقها على هذا الوصف، مع كون اللفظ محتملا ويده على الامرين معا، فلا يزول حكمهما بمجرد الاحتمال. وذهب الاسكافي إلى دخول السرج في الدابة، وضعفه الشيخ في المبسوط وهو الاصح لان الدخول غير متحقق. نعم قد يقال في الاقرار بالعبد تدخل العمامة وما جرى مجراها من الثياب، والفرق أن له يدا على ملبوسه، وما في يد العبد فهو في يد السيد، فتدخل العمامة لامن جهة الاقرار بل من جهة اليد، واختاره العلامة في التذكرة. ويضعف بأنه لايد للسيد على العبد هنا بل يد المقر عليه وعلى سائر ما عليه من عمامة وغيرها، لانه وإن كان ذايد إلا أنه من حيث إنه مال عليه ولا تزول يد المقر عنه، كما لا يسري إلى البيت الذي هو ساكنه والطعام الذي بين يديه. ولو أقر له بألف في هذا الكيس والحال أنه لم يكن في الكيس شئ لزمه الالف لان قوله (علي) يقتضي اللزوم، والاأثر لقوله في هذا الكيس إذا لم يكن فيه شئ لان اعتباره يقتضي رفع الاقرار فلا ينظر إليه.
[ 52 ]
الرابعة عشرة لو قال: له في هذا العبد ألف كان كلاما مجملا من الاقارير المبهمة لان العبد لا يكون ظرفا للالف إلا بتأويل متجوز فيه، فيرجع ويكون مقبولا منه فيقبل منه ولو فسره بأرش الجناية وبكونه مرهونا وبانه وزن في شراء عشرة ألفا واشتريت أنا جميع الباقي بألف ولم يلزمه إلا عشر العبد. ولو قال: نقد عني في ثمنه ألفا كان قرضا. ولو قال: نقد ألفا في ثمنه وأنا ألفا بإيجاب واحد فقد أقر بالنصف. ولو قال: وزنت أنا ألفين فقد أقر بالثلث. ولو قال: أوصى له بالف من ثمنه بيع وصرف إليه. ولو أراد إعطاء الالف من ماله من غير الثمن لم يجب القبول. وتحقيق هذه الفروع والمسائل مفصلة أن المقر لزيد في هذا الامر العبد بألف حيث إنه إقرار مجمل يجب إرجاعه إليه في التفسير لتعدد احتمالاته، فإذا فسره بأرش جناية صدرت من العبد على المقر له أو على عبده قبل منه وإن كان تفسيرا صحيحا وتعلق الالف برقبته، وان فسره بكون العبد مرهونا بألف في ذمته قبل ايضا. واستوجه العلامة في التذكرة بان الدين وان كان موضوعه الذمة فله تعلق ظاهر بالمرهون فصار كالتفسير بأرش الجناية. وفي وجه الذهب إليه البعض انه لا يقبل لان الاقرار يقتضي كون العبد محل الالف ومحل الدين بالذمة لا المرهون، وإنما المرهون وثيقة له. قال العلامة في التذكرة: وعلى هذا لو نازعه المقر له أخذناه بالالف الذي ذكرناه في التفسير وطالبناه للاقرار المجمل بتفسير صالح. ثم اختار الاول، وفيه قوة لان محل الدين وإن كان في الحقيقة الذمة لان العبد محل أيضا إذا كان رهنا باعتبار استحقاق أخذه من قيمته وليس العبد بالنسبة إلى إرش الجناية محلا للارش حقيقة لبقائه بكماله على ملك المالك مع تعلق الارش به. وإن فسر بأن المقر له وزن في عشر العبد ألفا وقال المقر: اشتريت أنا الباقي وتسعة أعشاره بألف قبل لانه محتمل. وقيده في التذكرة بيمينه والاختصاص
[ 53 ]
في ذلك بهذه الصورة بل باقي الصور المحتملة لو لم يصدقه المقر له على التفسير ويتوجه فيها عليه اليمين لانكاره لما سوى ذلك، ولا فرق في القبول بين أن يكون ما عينه للمقر له يساوي الالف أو يزيد أو ينقص ولا بين ما عينه لنفسه زائدا أو لا، لان الاقرار محتمل لذلك التفسير، ولا يرجع في التفسير إلا إليه مع ما ينضم إلى ذلك من أصالة براءة الذمة. ولو فسره بأن المقر له نقد عنه في ثمن العبد ألفا كان الالف قرضا في ذمته لان قوله غير مقتض كون الشراء له. وإن فسره بأنه نقد ألفا في ثمنه على أنه لنفسه سئل هل نقد شيئا في ثمنه أولا ؟ فإن قال: نقده سئل هل كان الشراء بايجاب واحد ام بأيجابين ؟ فإن قال: بإيجابين احتاج إلى تفسير ما نقد فيه ألفا وهي المسألة السابقة في قوله (وزن في عشره ألفا واشتريت أنا الباقي بألف) وإن قال: بإيجاب واحد سئل عن قدر ما نقد هو، فإن قال: ألفا فهما شريكان في العبد بالنصف لان لكل نسبة ما نقد إلى مجموعها الثمن، وإن قال: ألفين كان للمقر له الثلث، وهكذا. وإن فسره بأنه أوصى له بألف من ثمنه أو نذر له قبل أيضا وصرف إليه من ثمنه ألف أو يبتاع منه ما بقي بألف. ولو أراد المقر حينئذ دفع ألف من ماله لم يجب القبول عليه لتعين جهة الاستحقاق في ثمن العبد وإنما قبل كل من هذه التفسيرات لان الاقرار محتمل كل منهما كما يحتمل الباقي باعتبار أهل الوضع، ولو لم يصدق فهو منكر لماعداه فيحلف بنفيه ولا يستحق المقر به ما أقر به لتكذيبه. ولو قال: له في هذا المال أو ميراث أبي ألف لزمه، بخلاف مالو قال: في مالي أو في ميراثي من أبي. وقد مر تحقيق الفرق بين العبارتين من لزومه التناقض بالاضافة وعدمه عند عدمها، وقد عرفت الصحة في كل من العبارتين ولا تناقض فيرجع إليه، فلا حاجة إلى أعادة الكلام عليه ثانيا.
[ 54 ]
الخامسة عشرة: لو قال: له علي درهم درهم لزمه واحد لاغير لاحتمال إرادة التأكيد لتكريره ولان الاصل براءة الذمة، وكذا لو كرره مائة مرة فما زاد، وهذا مبني على العرف العام. أما لو رجعا إلى القواعد النحوية و جعلنا مراتب التأكيد للفظ لا تزيد على الثلاث لم يكن كليا، لكن قد سبق أن الاقارير مبنية على العرف العام لان مراعاة تلك القواعد الخاصة لا تلاحظ حتى ممن كان أهلا لها كما عرفته مما سبق، بخلاف مالو قال: درهم ودرهم أو ثم درهم فإنه يلزمه اثنان، لان العرف العام والخاص يحكم حالة العطف بالمغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يمكن الاتحاد بينهما إلا بالقرينة وهو العطف على جهة التفسير عند مثبته، وإلا فالاصل أن يعطف الشئ على نفسه. ولو عطف بالفاء بأن قال: درهم فدرهم لزمه درهم واحد لان الفاء لاتتمحض للعطف بل هي محتملة لغيره وإن يلزمه درهمان على تقدير العطف. فإذا فسره بما ينفيه بأن قال: أردت فدرهم لازم أو فدرهم أجود منه قبل لان الاصل براءة الذمة. واستشكله جماعة منهم المحقق الثاني في شرح القواعد، لان الفاء هنا ظاهر ها العطف وغيره. يحتاج إلى تفسير، ولو لم يكن كذلك لجرى كما في الواو باحتمال الاستباق وواو الحال على حذف الخبر، والذي لا يصار إليه إلا بدليل كيف يجعل من الاحتمالات التي يقبل التفسير بها فيسري ذلك في جميع حروف العطف ؟ وهو كلام وجيه لو قال: درهم ودرهمان لزمه ثلاثة لامتناع التأكيد اللفظي هنا لوجهين: أحدهما العطف: والثاني اختلافهما إفرادا وتثنية، بخلاف قوله: وكذا درهم ودرهم ودرهم فإنه وإن كان ظاهره العطف إلا أنه يحتمل أن يكون الثالث تأكيدا للثاني لوجود الواو في كل منهما فصح التأكيد اللفظي لتطابق اللفظين،
[ 55 ]
أما الثاني فيمتنع كونه تأكيدا للاول لانتفاء الواو في الاول ووجود العاطف في الثاني، فيمنع التأكيد بتكرير اللفظ لانتفاء المطابقة بين لفظيهما، فمتى قال المقر بعد هذا الاقرار: أردت بالثالث تأكيد الثاني قبل منه ولزمه درهمان. ولو قال: أردت بالثاني تأكيد الاول لم يقبل لانتفاء الواو في الاول ونتخلل الفاصل بينهما وكذا يجب الثالثة لو قال: وكذا درهم ودرهم ثم درهم، وكذلك العكس، وذلك واضح لاختلاف حرفي العطف، وذلك يقتضي امتناع التأكيد اللفظي. ولو قال: له علي درهم قبله أو بعده درهم أو قبل درهم أو بعد درهم لزمه درهمان. ولو قال: قبله وبعده لزمه ثلاثة إذ القبلية والبعدية لا تحتمل إلا الثبوت. ولو قال: له درهم مع درهم أو فوق درهم أو تحت أو معه أو فوقه أو تحته لزمه واحد لاحتمال فوق درهم الي أو في الجودة، ومع قيام الاحتمال وأصالة البراءة لا يجب إلا واحد. ولا فرق بين هذا والذي قبله فإن الفوقية والتحتية يرجعان إلى المكان فيتصف بهما نفس الدرهم بخلاف القبلية والبعدية فان مرجعهما الى الزمان ولا يتصف بهما نفس الدرهم، فلابد أن يرجعان إلى التقدم والتاخر فيرجعان إلى المقر، وليس لذلك معنى إلا الوجوب عليه. وربما قيل: إنه لا يلزمه في القبلية والبعدية إلا درهم أيضا لانهما كما يكونان بالزمان يكونان بالرتبة كما حقق في محله ثم إنه قد وافق على الزمانية، وأن نفس الدرهم لا يتصف بها لكن يجوز رجوعهما إلى غير الوجوب بأن يريد درهم مضروب قبل درهم وما أشبهه، وثم إنه ذهب إلى أنهما يرجعان إلى الوجوب لكن يجوز أن يريد وجوب درهم قبل وجوب درهم آخر، وهذه الفروق وما أورد عليها الشافعية (1). وقد أورد العلامة في التذكرة ثم تنظر فيها بأنه لو سمعت مثل هذه الاحتمالات لسمعت في مثل: له عندي درهم ودرهم مع اتفاقهم على لزوم در همين، هذا حاصل كلامه.
(1) كذا في النسخة.
[ 56 ]
وأورد المحقق الثاني في شرحه على القواعد في نظره المذكور نظر لانهم إنما لم يسمعوا الاحتمال في مثله (له عندي درهم ودرهم) لان ذلك خلاف المعنى الحقيقي، بخلاف ما ادعي في القبلية والبعدية فإنه لا يدل على المدعى بطريق الحقيقة، بل قوله (إن القبلية والبعدية لا يتصف بهما نفس الدرهم بخلاف الفوقية والتحتية) غير واضح، وذلك لان الظروف إذا وقعت بعد النكرات كانت صفات من غير فرق بين ظرف الزمان والمكان كما تقرر في محل، وإنما الفرق في الاخبار إذا أخبر عن الاعيان وذلك بعد المعارف أو ما جرى مجراها، وكون المتعلق في ظرف الزمان هنا كونا خاصا لا يقتضي كون المتعلق وجوب درهم على المقر للمقر له حتى يتعين، وإن كان يقع ذلك في الاستعمال كثيرا إلا أنه لا يكفي في الحكم لتشغل الذمة بمثل ذلك. وتردد العلامة في التحرير في وجوب درهم أو درهمين، واختار أول الشهيدين في الدروس وجوب درهم لا غير، وهو قوي. ولو أقر بدرهم في مجلسين أو بلغتين فالواجب واحد إذ لا دليل على تعدد المقر به لتعدد المجلس أو بتعدد اللغة من أن الاصل براءة الذمة. والفارق بذلك بعض الحنفية فحكم بالتعدد مع تعدد المجلس. ولو أطلقه في أحدهما وقيده بالاخر كما لو قال: له درهم قرضا حمل المطلق على المقيد، وكذا بقيدين يمكن اجتماعهما كما قال: له درهم من ثمن مبيع ثم قال: له درهم من ثمن عبد حمل عليه أيضا، فإن المبيع قد يكون عبدا والاصل البراءة فلا يجب إلا واحدا. أما لو قيده في أحد المجلسين بقيد مضاد لما قيد به الاخر فهما اثنان لامتناع الحمل عليه كما لو قال: له درهم بغلي ثم قال: له درهم طبري فإن المخبر عنه متعدد فيلزمه كل منهما. ولو شهد واحد بإقرار بتاريخ وآخر بتاريخ جمع بينهما للاتحاد
[ 57 ]
المخبر عنه، كأن شهد واحد أن شخصا أقر يوم السبت بألف وشهد آخر بأنه أقر يوم الجمعة بألف جمع بينهما وحكم بكمال نصاب الشهادة، وذلك لان المشهود به محكوم بكونه واحدا لما قد بيناه فيما سبق أن تعدد الاقرار زمانا أو مكانا إذا لم يختلف المقر به لا يقتضي تعددا فيه فيحكم باتحاده استنادا إلى حالة البراءة، ومتى حكم باتحاده فقد تحقق كمالية نصاب الشهادة ويثبت المشهود به. ومنع بعض الشافعية من الحكم بشهادة الشاهدين هنا كما لو شهد بشيئين مختلفين لا يجمع في الافعال، كما لو شهد أحدهما بالبيع بألف يوم الجمعة وشهد آخر بالبيع بألف يوم السبت لانه لم يكمل النصاب بهذه الشهادة بالنسبة إلى واحد منها لتعدد الفعل باختلاف الزمان لان أحد الفعلين غير الاخر. وكذا لو اختلفا بسبب آخر كما لو شهد أحدهما بغصب يوم الجمعة والاخر بغصب يوم السبت، لكن للمدعي أن يعتمد في الدعوى على أحد الشاهدين ويعينه متعلقا بالمشهود به ويستأنف الدعوى به ويحلف مع الذي شهد به وله أن يدعيهما معا ويحلف مع كل الشاهدين.
السادسة عشرة: لو كانت الجهالة والابهام متعلقة بالمقر له كما لو قال: هذه الدار لاحد هذين الرجلين وهي في يده الزم البيان. فإن عين كل واحد منهما بعد ذلك الالزام قبل لانه صاحب اليد فينفذ إقراره، وللاخر إحلافه على عدم العلم بكونها له إن ادعى عليه العلم أنها له وعلى البت إن ادعى عليه غصبها منه وإحلاف الاخر أعني الذي عينه المقر لانه يدعي عليه مالا بيده وهو ملكه ظاهرا فيحلف على البت أيضا. وقال العلامة في التذكرة عند كلامه علي نظير هذه المسألة، إنه بعد تعيين المالك منهما لو قال الاخر: أحلفه أنه ليس لي، فإن قلنا: إنه لو عاد فأقر للاخر لم يغرم له ولم يحلف لانه إذا نكل لم يلزمه شئ، وإن قلنا: يغرم عرضنا عليه اليمين، فإن حلف سقطت الدعوى من أصلها، وإن نكل ولم نقض بالنكول حلف
[ 58 ]
المدعي وغرم، فإن للاخر بعد أن أقر للاول جعلت العين للاول وغرم للثاني إلا أن يصدق الاول لانه حال بين الثاني والمقر له بإقراره للاول فكان عليه الغرم. وهل له إحلاف الاول ؟ إشكال قد نشأ من أنه مكذب لنفسه في دعواه أنها بإقراره بها للاول فلا يسمع دعواه، ولانه لو نكل امتنع الرد إذ لا يحلف لاثبات مال غيره وكذلك القضاء بنكوله، ومن عموم قوله عليه السلام (واليمين على من نكل) ولانه يدفع لها الغرم عن نفسه فليست بحق الغير بل لدفع الغرم، ولانه لو أقر ولنفع إقراره وكل من أقر لينفع إقراره يحلف مع الانكار، والثاني قوي، وإكذاب نفسه مدفوع كما ذكرنا تأويلا وادعى أمرا ممكنا في العادة كالغلط والنسيان. وعلى هذا فيحلفه علي نفى العلم بالغلط لا على البت لانه ربما لم يعلم أنه يستحقها إلا من إقرار ذي اليد لدفع احتمال الثاني لانه مالك بحسب ظاهر الحال، وقد ادعى عليه فيما هو ملكه فيحلف على البت. فلو أقر لزيد فشهد اثنان لسبق إقراره لعمرو فكذبه زيد فلاغرم، وذلك لان إقرار ذي اليد بشئ لزيد مثلا هو السابق، وشهادة الاثنين بسبق إقراره لعمرو أقوى. والمعتبر كونها لعمرو لا محالة لثبوت سبق الاقرار بالبينة. وهل يغرم المقر لزيد قيمة المقر به ؟ قال العلامة وجماعة: لاغرم هنا لاعتراف زيد بما ينفي الغرم وهو الاقرار لعمرو، وفي بعض الحواشي المنسوبة لشيخنا الشهيد الاول أن ذلك مشكل لاستناد البينة إلى الاقرار السابق الذي هو سبب الحيلولة، وهو مدفوع باعتراف المستحق بانتفاء السبب فكيف يثبت له ما يترتب عليه ! نعم قد يمكن أن يقال: إن سبق إقرار لعمرو وقد ثبت شرعا بالبينة وهو يقتضي استحقاق زيد تغريم المقر فهو في حكم الاقرار لزيد باستحقاق التغريم وقد أنكره زيد فكان ذلك جاريا مجرى تكذيب المقر له الاقرار، فمتى رجع
[ 59 ]
إلى التصديق استحق. فإن صح هذا فلابد من حمل إطلاق العبارات على أن المراد لاغرم مع الاستمرار على التكذيب، إلا أنه يشكل بأن الاقرار لزيد بالاستحقاق لا يعتبر رجوعه بعد التكذيب، وإنما لزم عنه استحقاق الغرم، فلما نفاه انتفى ولم يتجدد الاستحقاق بمجرد الرجوع. والفرق أن المقر به خارج من ملك المقر فيقبل رجوعه ببقاء المقر له على تكذيبه لانه مال لا يدعيه بخلاف الغرم من مال المقر فإنه ليس كذلك.
السابعة عشرة: لو قال: هذا المال لزيد أو الحائط فترك ما بين الحائط ممن لم يكن له أهلية الملك وبين زيد مرددا بينهما، ففي صحة هذا الاقرار نظر، ينشاء من أنه لو صح الاقرار لكان من مال زيد خاصة أو لحائط خاصة أو لواحد منهما غير معين، والتالي بأقسامة باطل، بيان الملازمة أنه مردد بينها باق (1) فامتنع التشريك فلم تبق إلا الاقسام الثلاثة. ولاشك في بطلان الاول والثاني منهما لان زيدا والحائط بالنسبة إلى الاقرار على حد سواء، واختصاص واحد ترجيح بلا مرجح. والثالث أيضا إن كان للحائط فليس لزيد فجرى مجرى مالو قال: إما لزيد أو ليس له بل للحائط، ولا يعد ذلك إقرارا. والذي يملكه هو زيد دون الحائط، فيلغو نسبة الاقرار إليه ويصرف إلى زيد. ويضعف بأن الاقرار هو الاخبار الجازم ولا جزم هنا، وبأن الاصل براءة الذمة فلا يحكم بشغلها بمثل ذلك، فعدم الصحة لا يخلو من قوة. ولو قال: لزيد وللحائط كذا فالاقوى صحة الاقرار بالنصف خاصة، ويبطل في النصف الاخر لنسبة له لمن لا يملك وهو الحائط، ووجه القوة اقتضاء الواو العاطفة للتسوية لاقتضاء العطف التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون لزيد النصف.
(1) كذا في النسخة.
[ 60 ]
ويحتمل خلاف الاقوى أن يكون الجميع لزيد لامتناع كون الحائط مالكا فيلغو ذكره، وإذ قد حصر الملك فيهما فلا يعدوهما. ويضعف بأن إلغاء ذكر الحائط لا يقتضي استحقاق زيد ما لم يقر له به، فبطل حصره ببطلان الحائط، لكن ينبغي أن يعلم أنه على احتمال صحة الاقرار لزيد في صورة الترديد غير أن يصح له هنا بطريق أولى فيكون بالنصف مقتضيا لترجيح البطلان في القسم الاول. ولو قال: أحد هذين العبدين لزيد طولب بالبيان والتعيين، فإن عين قبل وإن أنكر زيد حلف المقر، ثم يقر الحاكم ما أقر به في يده أو ينتزعه إلى أن يدعيه زيد، وإنما يحلف المقر لانه منكر لدعوى زيد، وأما الاقرار فإنه قد كذبه، فإما أن يترك المقر به في يد المقر أو ينتزعه الحاكم على اختلاف القولين إلى أن يرجع زيد عن التكذيب أو يتبين مالكه. ولو قال: لزيد عندي درهم أو دينار فهو إقرار بأحدهما فيطالب بالتفسير لان (أو) تقتضي أحدهما لا على التعيين فيكون مجهولا، ولو عكس أمكن إلزامه بالدينار لانه لا يقبل رجوعه إلى الاقل بخلاف الاول لانه رجوع إلى الاكثر. كذا قاله أول الشهيدين في حواشيه على القواعد وقواه، وفيه بحث لان الكلام لايتم إلا بآخره، وليس ذلك رجوعا عن الاقرار. ولو قال: إنما درهم أو درهمان ثبت الدرهم وطولب بالجواب عن الثاني، وإنما ثبت الدرهم لانه ثابت على كل منهما على تقدير الترديد وما زاد فليس بمقر به، فإن ادعى عليه به طولب بالجواب. ولو قال: لزيد في هذا المال شركة قبل تفسيره بأقل من النصف لان الشركة أعم من النصف فلا يستلزمه.
الثامنة عشرة: قد بقيت هنا مسائل من الاقرار بالمجهول لا تتوقف على على بيان المقر به بل يرجع إلى القواعد الحسابية التي بها تستخرج
[ 61 ]
المجهولات، ولهم فيها طرق أعظمها وأشملها طريق الجبر والمقابل، ومن أمعن النظر في الحساب تفتحت له تلك الابواب ولم يحجبه عن استخراجها حجاب فقد ذكرتها العلماء من الفريقين في الاقارير في كل مؤلف وكتاب فالاشتغال بها في كتابنا هذا قليل الفائدة لاكثر العلماء والطلاب بعدم العثور على نص عن أئمتنا الانجاب متضمن للامر بذلك أو حاك لاستخراجهم عليهم السلام للمجهول بشئ من قواعد الحساب، والاعتماد عندنا في أحكامه تعالى لا يجوز إلا على السنة والكتاب، فالاشتغال بما هو أهم من المسائل المنصوصة ولو بالعموم أولى وأجدر نفعا لاولي الالباب.
المطلب السادس في مالو تعقب الاقرار بما ينافيه وفيه مسائل:
الاولى: في فروع الاستثناء المتعقب للاقرار، حيث إن المستثنى والمستثنى منه تناقضا ظاهرا لان الاستثناء من النفي إثبات على الاصح، ومن الاثبات نفي كما هو مجمع عليه بين علماء الاسلام، ولم يخالف في الاول إلا أبو حنيفة حيث أثبت بين الحكم بالاثبات والنفي واسطة وهو عدم الحكم بالكلية، فيكون مقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات، وهو مردد بما تقرر في علم الاصول وكتب النحو من أنه لو كان كذلك لم يحصل الاقرار بالتوحيد في قولنا: لاإله إلا الله، وهو معلوم الفساد والبطلان، ولا نتقاضه بالاستثناء من الاثبات فإنه لو صح ما ذكره في عكسه لم يفد الاستثناء من الاثبات النفي وهو باطل اتفاقا وهذه القاعدة الاولى في الاستثناء.
والثانية: إن الاستثناء المتكرر بحرف العطف يعود إلى المستثنى منه. وكذا لو زاد اللاحق على السابق أو ساواه. وبدونه يرجع اللاحق الى السابق، وذلك
[ 62 ]
ناش من وجود حرف العطف كما هو مفرد مفروض المسألة لاشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، فحيث يتعدد الاستثناء معه وجب عود الجميع إلى المستثنى منه، وإن لم يكن معه حرف العطف بل تعدد بدونه فإما أن يكون الاستثناء الثاني ناقصا عن الاستثناء الاول أو لا، بأن كان بقدره أو زائدا. فإن لم يكن ناقصا وجب عود الجميع إلى المستثنى منه أيضا لان المستثنى المستغرق غير صحيح. وإن كان ناقصا وجب عوده إلى الاستثناء الذي هو قبله دون المستثنى قبله لانه أقرب، والقرب دليل الرجحان، ولا يمكن عوده إليهما معا لاختلافهما في الكيف لان الاستثناء من النفي إثبات ومن الاثبات نفي فيلزم التناقض. ولو زاد الاستثناء على اثنين وتعذر عود الثالث إلى الثاني إلى الاستغراق عاد الى الاول دون المتسثنى منه لمثل ما قلناه.
والقاعدة الثالثة: الاستثناء الواقع بعد جمل هل يرجع الى الجميع ام مختص بالا خير ؟ موضع خلاف، وأقول أقواها مرتضى المرتضى مع عدم القرينة وهو الاشتراك بين الجميع، والمقطوع به – حيث لا يشوبه خلاف – اختصاصه بالاخيرة وهو المناسب للاقرار والقاعدة لانه المتيقن والاصل براءة الذمة والباقي محتمل، ولان الظاهر أن المتكلم لم ينتقل عن الجملة إلى غيرها إلا بعد استيفاء غرضه منها، ولا لتزام العود إلى الجميع إضمار الاضمار الاستثناء في كل جملة أو كون العامل فيها بعد الاستثناء متعددا وكلاهما محذور.
والقاعدة الرابعة: إن الاستثناء من الجنس جائز وواقع إجماعا، ومن غيره موضع خلاف، والاقوى على وقوعه وصحته وإن كان مجازا على الاصح، وقيل: حقيقة. فعلى عدم الجواز قيل: لا يجوز استعماله أصلا، وليس بجيد لانه يكون مجازا والمجاز لا يقتضي منع استعماله مع القرينة مع أنه واقع في القرآن وغيره
[ 63 ]
ولا دافع له، والتحقيق أن الاستثناء المنقطع جائز وواقع لكنه مجاز. والذي يقتضيه النظر أنه لا يصار إليه إلا عند تعذر الاستثناء المتصل لان كل استثناء يلزمه الاخراج كما نصوا عليه، فمتى أمكن استعمال أداته في معناها وجب ولو بتقدير شئ يصح معه الكلام، وإن تعذر لم يؤثر الاقرار شيئا. فلو قال: له عندي عشرة إلا ثوبا على أن المراد قيمة الثوب كان الاستثناء بذلك متصلا وإن كان من باب المجاز محافظة على قاعدة الاستثناء لاستلزام الاخراج مهما أمكن. وحكي عن أبي حنيفة منع الاستثناء من غير الجنس إلا في المكيل والموزون والمعدود بعضها من بعض. وعن الشيباني وزفر وأحمد بن حنبل عدم جوازه مطلقا. وظاهر عبارة القواعد للعلامة أن المسألة خلافية عندنا حيث قال: الاستثناء من الجنس جائز إجماعا، ومن غيره على الاقوى لانه من المستبعد مقابلة الاقوى في كلامه قول أبي حنيفة وأحمد، ولعله – قدس سره – قد وقف على خلاف لاصحابنا في المسألة لموافقته لمذاهب العامة، لكن المصرح به في التذكرة أن الخلاف للعامة لا لنا.
والقاعدة الخامسة: بالاستثناء، إن الاستثناء المستوعب باطل كما هو مجمع عليه إلا فيما ندر، وهو غير ملتفت إليه. أما الاستيعاب إلى أن يبقى فرد واحد ففيه خلاف، والخلاف الواقع في ما زاد عليه النصف فصاعدا ففيه أقوال:
(أحدها) منع الاستثناء ما زاد على النصف.
(والثاني) منع الاستثناء النصف.
(والثالث) منع الاستثناء إن تبق كثرة تقرب من مدلول اللفظ.
(والرابع) جوازه مطلقا وإن لم يبق إلا واحد. والكل ضعيف إلا الاخير، والاحتجاج على المنع، لان الاستثناء على خلاف
[ 64 ]
الاصل فيقتصر فيه على القليل لانه معرض النسيان ضعيف، لان المستثنى والمستثنى منه كاللفظ الواحد فلا يتفاوت الحال في الجواز عند الكثرة والقلة على أن استثناء الاكثر واقع في كلام الاكثر من البلغاء كما حقق في الاصول.
الثانية: إذا قال: له علي عشرة إلا تسعة لزمه واحد. ولو قال: عشرة إلا تسعه إلا ثمانية فهو إقرار بسبعة، لان الاستثناء الاول ينفي تسعة من العشرة والثانية يثبت ثمانية، وهكذا لو تكرر الاستثناء في مراتب الاعداد إلى الواحد، فبالثالث يكون المقر به اثنين، وبالرابع يكون ثمانية، وبالخامس ثلاثة، وبالسادس سبعة، وبالسابع أربعة، وبالثامن ستة، وبالتاسع خمسة. ولو عكس فقال: له علي عشرة الا واحدا إلا اثنين إلا ثلاثة التسعة يبقى واحد. واورد عليه بأن الاستثناء الواقع بعد استثناء إذا كان مستغرقا عاد إلى المستثنى منه .
الاول: فيكون الاول والثاني والثالث أجزاء أخماس العشرة، فالرابع أن يكون من العشرة أيضا كان مستغرقا فيبطل، وكذا إن كان مما قبله فكيف يبقي الواحد ؟ واجيب عنه بأنه استثناء من مجموع ما قبله من المنفيات، وقد ذكروا لذلك طرقا بها تستخرج تلك المستثنيات وإن تكن تطابقه للقواعد النحوية. قال: إن كل الاستثناء لا يستوعب ما قبله فهو منه، ومتى استوعب فهو منه، ومما قبله بمرتبة واحدة فصاعدا، فالاثنان استثناء من الواحد وما قبله وكذا البواقي. والضابط المقرر على هذا التقرير إسقاط جملة المنفي من جملة المثبت بعد جمعهما، فالمقر به الباقي، وكذا الضابط المذكور متناول لهذه الامثلة ونحوها. وجملة المثبت في الصورة التي ذكرنا ثلاثون وجملة المنفي خمسة وعشرون.
[ 65 ]
وفي الصورة الثانية جملة المثبت ثمانية وعشرون وجملة المنفي سبعة وعشرون. أما لو قال: له علي عشرة إلا اثنين وإلا واحدا بالعطف فهو إقرار بسبعة، لما عرفت مما تقدم أن الاستثناء مع حرف العطف يعود إلى المستثنى منه. ولو قال: له علي عشرة إلا اثنين إلا إثنين لزمه ستة وإن لم يكن هناك عطف، لان الاستغراق في المستثنى الثاني يوجب عوده إلى ما قبله كحالة العطف. ولو قال: ألف إلا درهمان، فإن سو غنا المنقطع طولب بتفسير الالف لان استثناء المنقطع من الالف لا يستلزم كون الالف من الدراهم فيطالب بتفسير الالف، فإن فسرها بشئ بقي بعد إخراج الدراهم منه بقية قبل تفسيره، ولو لم يبق ففيه احتمالات وأقوال: أحدها: بطلان التفسير بسبق الحكم بصحة الاستثناء، ولان الخلل إنما هو في التفسير خاصة فلا يبطل الاستثناء ببطلانه.
والثاني: بطلان الاستثناء ويلزمه الالف، لانه بين ما أراد باللفظ فجرى مجرى ما لو تلفظ به من اول الامر، وهذاأقوى لانحصار مراده بالاستثناء في ما بينه، وهو مختار ابن الجنيد. وإن لم يسوغ الاستثناء المنفصل فجميع الالف دراهم لان المجاز على خلاف الاصل، والحقيقة هنا ممكنة فلا وجه للعدول إلى المجاز. وقد وقع لهم هنا في التعبير إشكال، وإن كان قد جرينا على طريقتهم ومنوالهم، فإن قولهم (إن سو غنا المنقطع طولب بتفسير الالف) إلى آخر ما قالوه فيه إشكال، وذلك لان تسويغ المنقطع إما أن يراد به جواز استعماله في الجملة أو كونه حقيقة وعلى كل واحد من التقديرن لا يستقيم ما ذكروه. أما على الاول فلان تسويغ المنقطع في الجملة لا يستلزم كون الالف مجهولة ليطالب بتفسيرها لانه إنما يعدل إلى المجاز عند تعذر الحقيقة والمتصل ممكن ها هنا، وعلى فرض استلزامه في ذلك في الانقطاع لا يستقيم قولهم (إن بقي بعد
[ 66 ]
الاستثناء شي قبل تفسيره) لان المستثنى المنقطع لا إخراج فيه أصلا لان ما بعد (إلا) غير داخل في ما قبلها، فمتى جو زناه قبل كائنا ما كان. وأما على التقدير الثاني ليصير الاستثناء منقطعا، وحينئذ فلا معنى لقولهم أيضا (إذا بقي بعد الاستثناء شئ) بل هو ساقط.
الثالثة: لو قال: علي ألف درهم إلا ثوبا فإن معنى الاستثناء المنقطع إلغاء، والاستثناء وجب الالف، وإن سوغنا طولب بذكر قيمة الثوب، فإن استوعب بطل التفسير خاصة على أحد الاحتمالين المتقدمين، وبطل الاستثناء على الاحتمال الاخر منهما، وقد سبق أنه أقوى. لكن على ما بنينا على من تحقق كون الاستثناء من غير الجنس سائغا أو لا لا يستقيم هذا البناء لان منع المنقطع لا يقتضي إلغاء الاستثناء هاهنا لا مكان أن يضمر في الاستثناء لفظ (قيمة) فيصير متصلا، وهي المحكي عن علماء الامصار تسويغه. وإن كان على جهة المجاز فالاضمار هنا أولى من جعله منقطعا لانه لا مخالفة للاصل هنا إلا في تقدير كلمة (قيمة). وأما إذا فرض منقطعا فإن (إلا) وما في حيزها منقطع عما قبله وأجنبي منه مع أن (إلا) مستعملة في غير موضعها، فلا معنى حينئذ للبناء على كون التفسير مستوعبا وعدمه إذ لا إخراج هاهنا. وكذا لوجو زنا حقيقة لا يستقيم ما ذكروه بحال، وقال العلامة في التذكرة: الاستثناء حقيقة في الجنس مجاز في غيره لتبادر الاول إلى الفهم دون الثاني، ولان الاستثناء إخراج وهو لا يتحقق إلا في الجنس وفي غيره يحتاج إلى تقدير، ومع هذا استثناء من غير الجنس سمع منه وقبل، وكان عليه ما قبل الاستثناء، فإذا قال: له علي ألف درهم إلا ثوبا وإلا عبدا صح عند علمائنا.
[ 67 ]
وقال أيضا: إذا ثبت صحة الاستثناء من غير الجنس وجب في المثال المذكور أنه يبين قيمة الثوب وقيمة العبد. ولا يخفى أن هذا مخالف لما قدمناه من كلام الاصوليين، وما قدمناه صحة الاستتار إضماره يقتضي إلحاقه بالمتصل كما هو المختار، ويرجع إليه في تفسيره قيمة الثوب، فإن استوعب بطل وإلا فلا. ولو قال: له علي إلا شيئا كلف تفسيرهما لانهما مجهولان ولا يبطل الاستثناء لانتفاء المقتضي، فإن فسره بالمستوعب ففي بطلان التفسير وحده والاستثناء من أصله الوجهان السابقان. ولو قال: ثلاثة إلا ثلاثة وأراد الدرهم في الموضعين بطل. أما إذا أطلق الثلاثة منهما ففيه وجهان، أقواهما أنه لا يبطل ابتداء لان الاستغراق وعدمه إنما يتحقق بعد تعيين الثلاثة في المستثنى والمستثنى منه، فإن فسرها بالمستوعب اطرد الوجهان، والاصح الاقرار بما أقر به من الالف واستثنى منها ما بعد (إلا). وكذا لو قال: له درهم إلا دراهم يبطل الاستثناء بلا كلام ويلزم الاقرار بدرهم لا غير، وهو ظاهر للاستغراق الواقع فيه. ولو قال: درهم ودرهم إلا درهما قال الشيخ وابن إدريس: إن حكم بعوده إلى الاخير بطل، وإلا صح. ووجهه أنه على القول بعود الاستثناء إلى الجمل الاخيرة يكون مستوعبا بخلاف ما إذا قلناه بعوده إلى الجميع فإنه في قوة قوله (له درهمان إلا درهم) وجعله الاكثر غير معتمد لما وقع في عبارة القواعد وغيرها. ومنها من الاجمال ما لا يخفى لان قولهم هذا محتمل الامرين:
(أحدهما) بطلان الاستثناء على كل من التقديرين.
(والثاني) صحته على كلا التقديرين أيضا. والذي صرح به العلامة في المختلف هو الاول محتجا عليه بأن صحة الاستثناء هنا يستلزم النقض والرجوع عن الاعتراف، ولهذا قالوا: لو قال قائل:
[ 68 ]
جاءني زيد وعمرو وخالد إلا زيدا لم يصح لاشتماله على النقض، ويصح لو قال: له عندي درهمان إلا درهم لانه يكون قد تجوز في الدرهمين فلا يكون نقضا. ومرجع استدلاله وحاصله هو أن الدرهم يدل على معناه نصا كما يدل زيد على معناه نصا. فإذا قال: له درهم ودرهم بمنزلة قوله زيد وزيد، فتمتنع استثناء درهم وزيد لانه يكون مستغرقا. وفيه نظر، حققه المحقق الثاني في شرح القواعد، وجهه أن دلالة لفظ الدرهم على مسماه من باب إطلاق اسم الكل على الجزئي لا مانع منه ومن احتماله، فيكون دلالته على مسماه ظاهرا لانصا، فلا يلزم النقض وإنما يلزم منه استعمال كل من الدرهمين في غير مسماه. ثم بناء الشيخ – قدس سره – الصحة على عود الاستثناء إلى جميع الجمل والبطلان على عدمه غير ظاهر الوجه، لان الاستثناء إنما يختص بالاخيرة إذا لم يستغرق، أما معه فيجب عوده إلى الجميع كما تقرر فيما سبق، ويجب عوده إلى المستثنى منه لو كان مستغرقا للاستثناء الثاني، وقرينة أن المقام يقتضي عوده إلى الجميع، والاختصاص بالاخيرة إنما هو مع عدم القرينة وليس عود الاستثناء إلى الاخيرة خاصة على القول به لكونه حقيقة في ذلك ويمكن حمله على المجاز بدون قرينة سوى امتناع الحمل على الحقيقة، فإن ذلك لا يكفي في التجويز بل لان مخالفته للاصل أقل من مخالفة عوده إلى الجميع. واعلم أن متقضى كلامهم (أن له درهم ودرهم) جملتان وكأنه بالنظر إلى أن واو العطف تنوب عن العامل. ولو قال: له ثلاثة ودرهمان إلا درهمين فإنه يصح على إشكال في ذلك لان امتناع عود الاستثناء إلى الاخير يوجب عوده إلى الاولى أو إلى الجميع، ويلزم الشيخ وابن ادريس بناء الصحة هنا وعدمها على القولين بعود الاستثناء إلى الجميع أو الاخيرة كما في الاولى.
[ 69 ]
وقيل: إن الاقرب صحة: له درهم ودرهمان إلا درهمين لان الاستثناء إنما يرجع إلى الاخير إذا لم توجد قرينة الرجوع الى الجميع. فإن قيل: لا قرينة هنا فإن تعذر المحمل الاخير لا يعد قرينة، لان تعذر الحقيقة لا يكفي في الحمل على المجاز، ولا يكون ذلك قرينة إرادته بل لابد من أمر آخر بدل على إرادة المجاز يجوز ارتكابه لجواز الغفلة على تعذر الحقيقة وعدم إرادة المجاز. قلنا: قد بينا غير مرة أن الحمل على عود الاستثناء إلى الجملة الاخيرة ليس من باب الحقيقة بل لان مخالفة الاصل معه أقل، فإذا عارض ذلك لا يكون مخالفته أكثر وهو إلغاء الاستثناء وجعله هدرا متعين ارتكاب العود إلى الجميع، وليس ببعيد إطلاق القرينة على هذا توسعا، ويحتمل ضعيفا للعدم لانه لما امتنع عوده إلى الاخيرة وجب إلغاؤه لان ارتباطه إنما هو بالاخيرة دون ما عداها، وضعفه معلوم مما سبق، وما ذكرناه أولا في صدر العبارة هو المختار. ولو قال: له ثلاثة إلا درهما ودرهما احتمل قويا بطلان الاخير خاصة وضعيفا بطلان الجميع. ووجهه في الاول ان استثناء الاول والثاني لا مانع من صحتهما لانهما غير مستغرقين، وانما يلزم الاستغراق في الثالث فوجب ان يختص بالابطال، وهو الاصح. ووجهه الثاني أن كل واحد غير مستغرق، وإنما المستغرق الجميع، وضعفه ظاهر لان الاول والثاني قد نفذ إن كان الثالث مستغرقا فاختص بالبطلان. ولو قال: له ثلاثة إلا ثلاثة إلا درهمين ففيه احتمالات ثلاثه:
(الاول) بطلان كل من الاستثناءين، أما الاول فلا ستغراقه. وأما الثاني فلتفرعه عليه فإنه استثناء منه فيلزمه الثلاثة.
(الثاني) بطلان الاول خاصة فيعود الثاني الى المستثنى منه كان الاول هو
[ 70 ]
المستغرق فيختص بالبطلان، والثاني إنما يتفرع عليه لو كان صحيحا، أما مع البطلان فلا يتصور الاستثناء منه فيلزمه درهم.
(والثالث) صحتهما مع فيلزمه درهمان، ووجهه أن المستثنى بالاول وهو ما بقي بعد الاستثناء الثاني وهو درهم لان ثلاثة إلا درهمين في قوة درهم فكأنه قال: له ثلاثة إلا ما بقي من ثلاثة مستثناة بعد استثناء درهمين منهما، ولا استغراق هاهنا. وتنقيحه: أن المستثنى والمستثنى منه كلام واحد لايتم أوله إلا بآخرة، فلا يعتبر الاستثناء الاول بدون اعتبار الثاني كما تقول في قوله: له علي عشرة إلا درهم أن المحكوم بثبوته هو العشرة المخرج منها درهما، لانه حكم ثبوت مجموع العشرة ثم حكم بإخراج درهم منها، لان ذلك يقتضي كون الدرهم محكوما بثبوته وبعدمه، وهو تناقض، وثالثها أقواها. الرابعة: الاستثناء كما يصح من الاقرار المطلقة كذلك يصح من العين باعتبار استثناء جزء منها، فإذا قال: هذه الدار لزيد إلا هذا البيت، وهذا الخاتم إلا فضته، وهذه العبيد إلا واحد فهو بمنزلة الاستثناء من الاعداد المطلقة من غير تفاوت، كما هو مذهب الامامية وأكثر الشافعية، ومنع بعض الشافعية صحة الاستثناء هنا لانه غير معهود ولامعتاد، ولانه إذا أقر بالعين كان ناصا على ثبوت الملك فيها فيكون الاستثناء رجوعا. ويضعف بأن الاقرار إنما هو لما بعد الاستثناء، فلا يلزم الرجوع. ولو قال: هذه العبيد إلا واحد فله التعيين لان المقر به مبهم لا يعلم إلا بتفسيره، ونسبة الاقرار إلى كل منها على السواء فإذا فسره قبل لاصالة براءة الذمة مما سوى ما فسره به، فإن لم يصدقه المقر له لم يكن له سوى إحلافه لو ماتوا كلهم إلا واحد فقال هو المستثنى قبل. ولو قال: له عشرة إلا درهم بالرفع لزمه العشرة وذلك لان (إلا) هاهنا
[ 71 ]
صفة بمعنى غير. وقد حقق ابن هشام في المغني وغيره في غيره أن (إلا) إذا كانت صفة لا يشترط وقوعها بعد جمع كما عليه كثير من النحاة وحكي عن سيبويه: لو كان معنى رجل إلا زيد لغلبنا. وعن النحاة أنه إذا قال: له عشرة إلا درهم بالنصب فقد أقر له بتسعة، وإن قال: إلا درهم بالرفع فقد أقر له بعشرة وأن المقر به عشر موصوفة بأنها غير درهم. ولو قال: ما له عندي عشرة إلا درهم فهو إقرار بدرهم، وذلك أن رفع المستثنى مع كون المستثنى منه مذكورا إنما يكون في الاستثناء غير الموجب، فرفع المستثنى دليل على كون العشرة منفية فيكون مثبتا لان الاستثناء من النفي إثبات. ولو قال: إلا درهما بالنصب لم يكن إقرار بشئ وذلك لان نصبه دليل على كون المستثنى منه موجبا وإنما يكون إذا كان حرف المنفي وهو (ما) داخلا على الجملة – أعني مجموع المستثنى والمستثنى منه – فكأنه قال: المقدار الذي هو عشرة إلا درهما ليس له علي، لان العشرة لا درهما في قوة تسعة فقد نفى ثبوت التسعه.
الخامسة أنه لا فرق بين أدوات الاستثناء في هذه الاحكام لا فادة كل منهما ما يفيده (إلا) فقد عرفت أن الاستثناء لا ينافي الاقرار، فلا يختلف الحال باختلاف أدواته، فلو قال: له علي عشرة سوى درهم أو خلا أو عدا أو ما خلا أو ما عدا أو لا يكون وكذا وغير درهم بالنصب، ولو رفع فهو وصف، وذلك لان أعراب (غير) إذا كان للاستثناء كإعراب (ما) بعد إلا، فإذا قال: عشرة غير درهم – بالنصب – كانت للاستثناء إذ لو استثنى (إلا) لقال إلا درهما لوجب النصب، فلو رفع في مثل ذلك امتنع أن يكون للاستثناء بل يكون وصفا فتجب العشرة. هذا كله إذا كان عارفا بالقانون النحوي، ولزمه تسعة لان مثل ذلك يراد به الاستثناء عرفا ولا ينظر إلى حال الاعراب. وعلى هذا فينبغي أن يقال: في مثل: علي عشره إلا درهم هذا التفصيل فكلما جرى هذا المجرى.
السادسة: يشترط عند الاكثر في الاستثناء كله الاتصال العرفي العادي فلا بضر التنفيس والسعال ونحو ذلك، ويبطل بطول الكلام والسكوت الطويل، وخالف
[ 72 ]
ابن عباس كما نقله الفريقان عنه: يجوز التأخير إلى شهر، وكأنه احتج على ذلك بما جاء في استثناء المشية بعد اليمين وغيرها من الاخبار لتصريحهما بجواز ذلك بعد أربعين يوما، وهي أخبار قابلة للتأويل بحملها على المشية التى يتبرك بها في الكلام كما قال الله تعالى (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله (1) كما هي ظواهر تلك الاخبار وإن كان فيها الصحيح، وسيجئ الكلام عليها في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى.
المطلب السابع في تعقيب الاقرار بما سوى الاستثناء ك (بل) ونحوها وهي سبعة:
الاول: إذا عطف ب (بل) بعده فإن كانا معنيين متفقين أو مختلفين لم يقبل إصرابه ولزمه الامران. ووجهه: أن الاضراب إنكار الاقرار، فإن (بل) إذا تقدمها إيجاب تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه فلا يحكم بشئ، وإثبات الحكم لما بعدها إنكار بعد الاقرار لا يسمع. مثال المعنيين المتماثلين: له علي هذا الدرهم بل هذا، فيلزمه كلاهما لان الانكار بعد الاقرار لا يقبل: وأحد الدرهمين غير الاخر قطعا غير داخل فيه. ومثال المختلفين: له عندي قفيز حنطة بل قفيز شعير، ووجهه لزومهما معا مثل ما سبق. وأوجب ابن الجنيد ما بعد (بل) في المختلفين دون المتماثلين، وليس بشئ. ولو كانا مطلقين أو أحدهما لزمه واحد أو أكثر، وإنما يلزمه واحد إن استوى ما قبل (بل) وما بعدها. وإن اختلفا لزمه الاكثر ولنا في هذا المطلب وفروعه مسائل سنذكرها على التفصيل:
الاولى: لو قال: له درهم بل درهمان لزمه درهمان لما تقرر لو كانا
(1) سورة الكهف – آية 23.
[ 73 ]
مطلقين أو أحدهما لزمه واحد أو الاكثر، وذلك لانه مع الاستواء كقوله: له علي هذا الدرهم بل هذا الدرهم لزمه المعين. ويحتمل لزوم الدرهمين. ولو قال: له درهم بل درهم بالاطلاق فيهما لزمه واحد، ويحتمل اثنين لاستدعاء الاضراب المغايرة. ووجه لزوم واحد عند استواء ما قبلها وما بعدها أنهما مطلقان فلا يمتنع أن يكون ما قبلها هو ما بعدها أو داخلا فيه والاصل براءة الذمة ولا دليل على ان احدهما منفصل عن الاخر. واما وجه احتمال لزوم اثنين في هذه الصورة فلان الاضراب يقتضي المغايرة لامتناع كون الشئ الواحد محكوما عليه مسكونا عنه. ورد بأنه يجوز أن يقصد الاستدراك فيذكر أنه لا حاجة إليه ولا زيادة عليه لم يستدرك بل أعاد الاول. وفيه نظر، لان ذلك يقتضي كون (بل) ليست في موضعها، ولقائل أن يقول: إن شرط استعمال (بل) مغايرة ما قبلها لما بعدها، فكما لا يصح أن يقال: جاء رجل بل رجل بتأويل أن أحد الرجلين غير الاخر إذا الغرض منهما إسماع الحاكم الحكم على الثاني وعدمه على الاول مع الاطلاق فلا يحصل الغرض فكذا لا يصح: له درهم بل درهم، فيكون الاضراب لاغيا لانتفاء شرطه وارتكاب التأويل مع أنه غير مصحح للاضراب فيه لشغل ذمة زيد بارتكاب التأويل، هذا مع الاستواء. وأما إذا كان أحدهما أكثر أو معينا دون الاخر فإن المغايرة بالا كثرية والتعيين كافية في صحة الاضراب، ولا يجوز يلزم وجوب الاقل والاكثر معا. ولا المعين وغيره وذلك أن الاقل يحتمل دخوله في الاكثر لصحة أن يقول: له عشرة بل بعضها، وقوله: خمسة بل زائد عليها ومع احتمال كل من الامرين وعدم استدعاء لفظة (بل) واحدا منهما، والتمسك بأصالة براءة الذمة تنفي وجوب الزائد.
[ 74 ]
مثله المطلق والمعين، لان المطلق من محتملاته المعين فكيف يتجه وجوبها ؟ ويكفي لصحة العطف ب (بل) تغايرهما الاطلاق والتعيين، إذ يصح أن يقال: له درهم يمكن أن يكون هذا وغيره بل هذا الدرهم المعين، فعلى هذا الاحتمال في المسألتين ضعيف. ولو قال: له هذا الدرهم بل هذان لزمه الثلاثة، ووجهه معلوم بما سبق من القاعدة والتقرير. وكذا لو قال: قفيز شعير بل قفيزان حنطة يلزمه ثلاثة أقفزة من الجنسين الاختلاف في الجنس. ولو قال: عشرة لا بل تسعة لزمه عشرة بخلاف الاستثناء لان الفرق بين الاستثناء والاضراب واضح سواء كان مع حرف السلب أو بدونه لان الاستثناء من متممات الكلام كما تقرر، وذلك لان المحكوم من ثبوت هو المستثنى منه. وأما الاضراب ب (بل) بعد الايجاب فإنه يحتمل ما قبلها أنه كالمسكوت عنه فهو رجوع عن الحكم السابق، فإن كان الاقرار المتقدم مع حرف السلب فهو نقيض ما تقدم. ولا ريب أن إنكار الاقرار والرجوع عنه غير مسموع.
الثانية: لو عطف ب (لكن) لزمه ما بعدها، إذ لا يعطف بها إلا بعد النفي، فلو قال: ماله عشره لكن خمسة لزمه خمسة. ولاريب أن (لكن) مما يعطف بها بعد النفي وبعد النهي. وقد نقل عن بعض النحاة جواز العطف بها بعد الايجاب لكن لا يجري في الاقرار إذ لا يعطف بها في الاقرار إلا بعد النفي، وذلك حيث يكون ما بعدها إقرار، وذلك حق لوجوب مغايرة ما قبلها لما بعدها هاهنا نفيا وإثباتا لان أصلها الاستدراك، فإذا كانت في مقام العطف فليس معطوفها لما بعدها هاهنا نفيا وإثباتا لان أصلها الاستدراك، فإذا كانت في مقام العطف فليس معطوفها لما بعدها هاهنا نفيا وإثباتا لان أصلها الاستدراك فإذا كانت في مقام العطف فليس معطوفها كمعطوف (بل) وهو الذى يفهم منها عرفا، حتى إذا وقعت في كلام من لم يراع القواعد
[ 75 ]
النحوية لان مبنى الاقرارات على العرف العام وإن كان التفصيل السابق الذي فصلناه من أنه إن كان المقر ممن له أهلية مراعاة القواعد أمكن رجوع حكمه إليها عند اختلاف القواعد النحوية، والعرف العام وإن لم يكن كذلك فالحكم العرف العام.
الثالثة: إذا كان في شئ على ظاهر الملك فقال: هذا الشئ لزيد بل لعمرو وقضى به للاول وغرم قيمته للثاني. أما الاول فلعموم (1) (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز). وأما الثاني فلانه قد حال بين عمرو المقر له وبين الشئ المقر به بإقراره لزيد فيجب أن يغرم القيمة له للحيلولة الموجبة للغرم. ونقل عن ابن الجنيد فيما إذا قال: هذه الدار لزيد لا بل لعمرو وإن كان المقر حيا سئل عن مراده، وإلا كان زيد وعمرو بمنزلة المتداعيين بشئ هو في يدهما فيأخذه ذو البينة، ومع عدمها فالحالف، فإن حلف معا اقتسما وإلا صح الاول. ولو قال: غصبته من يد زيد بل من عمرو مثله في الحكم لكنه لا يخلو عن إشكال، ناش من عدم التنافي بين الاقرارين وصدق الغصب من ذي اليد، وإن لم يكن ملكا فربما كان أحدهما صاحب يد بإجارة ونحوها فلا يكون مالكا، فيحكم به للاول لسبق الاقرار باليديه، ولا يغرم للثاني لانتفاء ما يدل على كونه مالكا، فإن الغصب منه لا يستدعي ذلك، ومن أن الغصب موجب للرد والضمان، ومقتضي الاقرار استحقاق كل منهما ذلك، ولان الاقرار بالغصب إقرار باليد للمغصوب منه وهو يقتضي الملك، فيكون مقرا لكل منهما بما يقتضي الملك، ولان الاقرار بالغصب إما يكون مقتضيا للاقرار بالملك أو لا، فإن لم يقتضه لم يجب الدفع في صورة النزاع إلى زيد لعدم دليل يدل على كونه مالكا، وإن
(1) الوسائل ج 16 ص 133 ب 3 ح 1.
[ 76 ]
اقتضاه وجب الغرم لعمرو لاستواء الاقرار بالنسبة إليها وربما قيل في الجواب عن هذا الترديد في السؤال بأنا نختار الشق الثاني من الترديد ووجوب الدفع إلى زيد لثبوت استحقاقه اليد بغير معارض، أما الاقرار لعمرو بذلك فإنه غير نافذ بالنسبة إلى الغير لاستحقاق زيد إياها لسبق الاقرار له. ولا بالنسبة إلى القيمة لانتفاء دلالة الغصب منه على كونه مالكا، والاصل براءة الذمة. ورد: بأن الاقرار بالغصب اقرار باليد وهي ظاهرة الملك، ولهذا يجوز أن يشهد الشاهدان في لشهادة بالملك كما سيأتي – إن شاء الله تعالى – في الشهادات، فجرى مجرى ما لو إقر بالملك لاحدهما ثم للاخر، وفيه قوة. ولو قال: غصبته من زيد لابل من عمرو أو غصبته من زيد وغصب زيد من عمرو فكالسابقة على اشكال كما ذكره علامة القواعد، ووجه الغرم في المسألتين يعلم مما سبق في المسألة السابقة. ووجه الترجيح هاهنا إنه لما نفى الغصب من زيد بعد الاقرار له بقوله كان رجوعا عن الاقرار إلى الانكار فلم يكن مسموعا، فصح الاقرار بالاول ووجب أن ينفذ الثاني، ويجب الغرم حينئذ لانه حصل الغصب واليد في عمرو المقتضي للملكية، فوجب الغرم للحيلولة باقراره لزيد الذي رجع. ويحتمل عدم الغرم لان كون عمرو مغصوبا منه لا يقتضي كونه مالكا، ولان الاقرار الثايي في حق الغير وهو المقر له الاول، وضعف هذا ظاهر. ولو قال: استودعته من زيد بل من عمرو فكالاول في وجوب الغرم لعمرو تسليط زيد على العين لو لم يذكر سببا لعدم التفريط، بل هذه أولى بعدم الغرم من السابقة لان الاقرار بالغصب من كل منهما إقرار بالجناية في مال كل منهما وهو موجب للضمان، بخلاف الوديعة. ووجه الغرم اعترافه باليد للاول ثم الثاني، وهو ظاهر في الملك. ولو قال: لزيد وعمرو نصفين بل لخالد غرم لخالد الجميع لان الاضراب
[ 77 ]
يقتضي أن يكون لخالد الجميع فيجب غرم جميع القيمة. ولو سكت في الاقرار عن كونه نصفين لم يتفاوت الحكم. ولو قال: غصبته من زيد وملكه لعمرو وهو لعمرو لزمه الدفع إلى زيد، ولا يغرم لعمرو لانه يجوز أن يكون في يد زيد بإجارة أو وصية أو عارية فلاينا في ملكية عمرو ولم يوجد منه تفريط يوجب الضمان، بخلاف: هذا لزيد بل لعمرو ولانه أقر للثاني بعد ما أقر به للاول، فكان الثاني رجوعا عن الاول بخلاف ما قلناه، ولا يحكم بالملك لعمرو إذ هو بمنزلة من أقر لغيره بما في يد آخر. ويحتمل الضمان، وذلك لانه لما قال: غصبت الشئ من زيد وملكه لعمرو كانت اللام مقتضيا لاختصاص الملك به ولزمه الدفع لزيد لاعترافه بالغصب منه الموجب للرد عليه والضمان له، وفي غرمه لعمرو احتمالات:
(أحدها) لا يغرم، وهو اختيار العلامة في القواعد والتحرير لعدم التنافي بين الاقرارين، فإنه يجوز في يد زيد بحق إجارة أو وصية بمنفعة أو عارية، فلا ينافي ملكية عمرو إياه، ولم يوجد من المقر تفريط يوجب الضمان بخلاف: هذا لزيد بل لعمرو فإنه مفرط، حيث أقر للاول بها هو حق للثاني بإقراره فكان مضيعا له، فوجب غرمه له بخلاف ما قلنا في المسألة التي هي محل النزاع.
(والثاني) أنه يضمن ويغرم للحيلولة بين من أقر له بالملك وبين ماله بالاقرار للاول ودعوى عدم التنافي بين الاقرارين غير ظاهرة. فإن اليد ظاهرة في الملك، ولهذا لم تنفذ إقراره لملكية الثاني بعد الاقرار باليد للاول. ومنه يظهر تفريطه بالنسبة إلى الثاني بالاقرار الاول المقتضي للحيولة، وهذا هو الاصح. ولو قال: هذا لزيد وغصبته من عمرو فإنه يلزم دفعه إلى زيد ويغرم لعمرو على إشكال. ومنشأة: أنه لم يقر لعمرو بالملك، وغصبه منه لا يستلزم كونه ملكا له،
[ 78 ]
ومن أن الغصب يقتضي وجوب الرد والضمان، ويتضمن الاقرار باليد وهو ظاهر في الملك، وقد أحال بين الثاني والشئ المقر به الاول فيغرم له القيمة وهذا هو الاصح.
الثاني: البدل، فإنه كالاستثناء إن لم يرفع مقتضى الاقرار، فلو قال: هذه الدار لزيد هبة مني صدقة قبل على الاظهر. ووجهة: أن البدل يعتبر في اللسان عرفا ولغة مستعمل في القرآن وغيره فهو من جملة أجزاء الكلام جار مجرى التفسير، فوجب أن يكون في الكلام عند الاقرار معتبرا إذا لم يكن رافعا لمقتضى الاقرار، فإن كان رافعا لم يصح لان الانكار بعد الاقرار غير مسموع، واحتمل بعضهم عدم صحة البدل لانه يتضمن الرجوع عن ظاهر الاقرار. وضعفه بين، ثم إن غير المسموع هو رفع أصل الاقرار فقط دون مخالفة ظاهرة، فعلى الاصح لو قال: هذه الدار هبة صح وكان له الرجوع فيها حيث يصح الرجوع فيها. أما لو قال: هذه الدار عارية أو سكنى فليس كالاول في الجواز إلا على احتمال غير الظاهر، إنما قلنا ذلك لانه رفع لمقتضى الاقرار لان (لام) يقتضي الملك والعارية، واستحقاق السكنى لا ملك معهما. وضعف بأنه قد سبق أن البدل يصح إن لم يرفع مقتضى الاقرار فلا أثر لصحة بدل الاشتمال في اللغة، ووقوعه في الاستعمال لا يقتضي صحته في الاقرار كما لا أثر لصحته للاضراب في اللغة، فالاقوى عدم صحته. ولو قال: له هذه الدار ثلثها أو ربعها صح لانه غير مناف لمقتضى الاقرار ولا إشكال فيه، خلافا لما يظهر من العلامة في القواعد، لان المفروض أن الدار اسم المجموع فإطلاقها على سوى البيت مجاز، كما أن العشرة حقيقة في العدد المخصوص فاستعمالها فيما بعد الاستثناء مجاز، ونحو ذلك مما يقع بغير إشكال ولو قال.
[ 79 ]
الثالث: التعقيب بما يدل على عدم إلزامه من الكلام الصريج أو الظاهر كما لو قال: له علي إلف وقبضته إياها أو قبضت منها خمسمائة لم يقبل قوله في القضاء إلا ببينة، وإنما لم يقبل قوله لانه مدع للقسط بعد الثبوت بالاقرار فلم يكن بد من البينة. ولو قال: أخذت منه ألف درهم من ديني أو من وديعة عنده فأنكر المقر له السبب وادعى التمليك حكم للمقر له بعد الحلف، وذلك في ما لو وصل المقر بإقراره هذه الجملة مما يقتضي سقوطه بأن قال ذلك المثال فأنكر المقر له السبب وهو ثبوت دين أو وديعة عنده للمقر وادعي كون المأخوذ على ملكه حكم له به ولم يسمع دعوى المقر مجردة من دين أو وديعة لكن بعد احلاف المقر له على نفي دعوى المقر، لان الاقرار لا يسقط بمجرد دعوى المسقط. ولو قال: له علي ألف من ثمن خمر أو خنزير أو ثمن مبيع هلك قبل قبضه ولم أقبضه أو من ثمن مبيع فاسد لم أقبضه أو ضمنت به لزمه في هذه الصور كلها الالف ولم يقبل قوله في المسقط، وهذه الصور كلها قد اشتملت على وصل الاقرار بما يقتضي السقوط، فإن الخمر والخنزير في شرع الاسلام لم يملك ولم يكن لهما ثمن، وامتنع أن يقابل بمال، فإذا وصل المسلم إقراره بألف بكونها من ثمن أحدهما اقتضى ذلك سقوط الاقرار فلم يلتفت إلى المسقط، لان الانكار بعد الاقرار لم يلتفت إليه. ومثله قوله (من ثمن مبيع هلك قبل قبضه) لان هلا كه قبل القبض يقتضي بطلان البيع وسقوط الثمن كما تقرر في البيوع. وللاصحاب في قبول ذلك في مالو قال: أنالم أقبضه فإنه يقتضي عدم استحقاق المطالبة بالثمن من ثبوته في الذمة قولان: أحدهما: القبول: واختاره الشيخ، لان قوله (لم أقبضه) لا ينافي إقراره الاول، لانه قد يكون عليه ألف درهم من ثمن مبيع ولا يجب عليه التسليم قبل قبض المبيع، ولان الاصل عدم القبض والاصل براءة الذمة. وقال العلامة في المختلف: إن هذا ليس بعيدا من الصواب لان للانسان
[ 80 ]
أن يخبر بما في ذمته على ما هو ثابت في الذمة، وقد يشتري الانسان ولا يقبض المبيع فكان له أن يخبر بذلك، ولو ألزم بغير ما أقر به كان ذلك ذريعة إلى سد باب الاقرار، وهو مناف لحكمة الشارع. والقول الثاني: ما اختاره ابن إدريس من عدم القبول فتلزم الالف لانه أتى بالمسقط بعد الاعتراف، ولقائل أن يقول:: إنا لا نسلم أنه قد أتى بالمسقط بعد الاعتراف فإن ذلك لا ينافي وجوب الالف وثبوتها في الذمة، وينافي استحقاق المطالبة بها الان فهو بمنزلة من لو أقر بألف مؤجلة. والتحقيق: أن ذلك وإن لم يكن مسقط لكنه في حكم المسقط، فإن استحقاق الالف والوصول إليها إنما يكون ببذل ما زعمه مسقط من أموال المقر له، ففي الحقيقة كأنه لم يقر له بشئ، فقول ابن إدريس لا يخلو من قوة. ولبعض الفضلاء هنا تحقيق أنيق قد ذكره خاتمة لهذه المباحث وهو: أن المؤاخذ بهذا الاقرار ونظائره من المواضع المختلف فيها هل هو كل مقر سواء كان ممن له أهلية الاجتهاد أم لا ؟ معتقد قول مثل ذلك أم لا ؟ يقال: إن من اعتقد قول مثل ذلك وعلم ذلك من مذهبه يعامل بمعتقده الذي يقتضيه النظر أنه يلزم بمعتقد الحاكم كائنا ما كان. ومثله ما لو قال: من ثمن مبيع فاسد لم أقبضه، لان فساد البيع يقتضي عدم ثبوت الثمن، ولا دخل للقبض وعدمه. ولو عقبه بقوله: له علي ألف لا يلزم لزمه لان الاقرار يقتضي اللزوم، فقوله (لا يلزم) لا يسمع لمنافاته الاقرار، ويحتمل القبول لأن يكون له عليه ثمن مبيع غير لازم أو من هبة له الرجوع فيها. ويضعف بأن ذلك في حكم المسقط. ولو قال: له علي ألف من ثمن مبيع ثم سكت ثم قال: لم أقبضه احتمل القبول إن سمع الاتصال أو التصديق واللزوم، وهذه صورة ثالثة من صور تفسير المقر به لكونه من مبيع، واحتمال القبول هنا إنما يتم إذا قلنا بالقبول في
[ 81 ]
المسألة الاولى وهو قوله (من ثمن مبيع لم أقبضه) متصلا. ووجهه: أن الاصل في المبيع عدم القبض، فإذا صدقنا في كونها من غير مبيع كان على البائع إثبات القبض، فاختار الشيخ في الخلاف والمبسوط القبول، ويحتمل اللزوم وإن قلنا بالقبول في السابقة لانفصال قوله (لم أقبضه) عن الاقرار أو زن بالالف، ومقتضى الاقرار اللزوم. ولو قال: له ألف من ثمن عبد إن سلم سلمته له احتمل لزوم ألف معجل، وبعد تسليم العبد لا فرق بين هذه وبين ما سبق إلا أن المبيع هنا معين عبدا ومطلق في السابق، والحكم واحد. والاحتمال الثاني هو اللزوم بعد تسليم العبد كما هو قول الشيخ – رحمه الله – بشرط الاتصال، والمختار ما تقدم في المسألة السابقة. ولو قال: له إلف مؤجلة أو زيوف أو ناقصة لم يقبل مع الاتصال، ومع الانفصال إشكال، وإنما لم يقبل مع الانفصال لانه رجوع عما بين واستقر عليه إقراره. أما مع الاتصال فمنشأ الاشكال إلزام المقر بما أقر به دون غيره، والحق مؤجلة دون الحال، فإذا أقر بالمؤجل لم يلزمه غيره. وكذا حكم الاقرار بنقد معين أو وزن ناقص أو معيب لان الكلام إنما يتم بآخره وإنما يحكم به بعد كماله فلا يتحقق الاقرار إلا بآخره، وإنما يلغى المسقط إذا اقتضي إبطال الاقرار من رأس، وهو منتف هنا، ولانه لولا اعتبار مثل ذلك لادى إلى سد باب الاقرار في الحق المؤجل ونحوه، وهو باطل، ومن حيث إن الاصل الحلول والسلامة، فإن وصل الاقرار بذلك وصل له بالمسقط للمطالبة لبعض الحق. وضعف بأنه لو سلم أن الاصل ما ذكر إلا أن خلاف الاصل يجب المصير
[ 82 ]
إليه إذا صرح به في الاقرار، ولما يتم الاقرار إلا بآخره لم يتحقق ثبوت شئ حتى يصير عليه السقوط. والقول الثاني ما اختاره ابن الجنيد وابن إدريس وهو أحد قولي الشيخ أيضا، والاول للشيخ واختاره العلامة في المختلف والتذكرة وعليه الفتوى. ولو قال: ألف مؤجل من جهة تحتمل العقل وهي الدية قبل قطعا. ولو قال: من حيث القرض لم يقبل قطعا. وإنما كان كذلك لانه قد أسنده إلى جهة يلزمها التأجيل كالدية على العاقلة، فإن ذكر ذلك في صدر إقراره بأن قال: قتل فلانا خطأ ولزمني من دية القتل كذا مؤجلا إلى سنة فهو مقبول لا محالة. ولو قال: له علي ألف مؤجل من تحمل العقل فهو موضع الخلاف في القبول وعدمه، وفيه وجهان:
(أحدهما) القبول، قطع به العلامة لملازمة المقر به التأجيل.
(والثاني) العدم، لان أول كلامه ملتزم فلا يسمع منه المسقط. وينبغي أن يكون القطع بالقبول ها هنا إنما هو إذا صدقه المقر له على السبب. أما بدونه فلا، فإنه غير ظاهر، بخلاف ما لو أسنده إلى جهة لا يقبل التأجيل كما لو قال: له علي ألف اقترضتها مؤجلة لغي ذكر الاجل قطعا. وقد نقل العلامة في التذكرة الاجماع عليه، ولولاه لامكن أن يحل الاشكال لان القرض قد يقع مؤجلا بالشرط في عقد لازم أو بالنذر ونحوه. في الدروس للشهيد الاول لا يقبل إلا أن يدعي تأجليه بعقد لازم. ولو قال: ابتعت بخيار أو كفلت بخيار لم يقبل تفسيره، وذلك لان البيع يقع على وجوه متعددة كما مضى وكونه بخيار من جملتها، فوجب أن يطرد فيه الوجهان، وكما لو قال: ألف موجل.
[ 83 ]
وقد يفرق بينهما بأن التأجيل لا يفضي إلى سقوط المقر به بخلاف الخيار فإنه يقتضي التسلط على الفسخ فينتفي حكم البيع، فهو بمنزلة: ثمن مبيع لم أقبضه لكن قد سبق عن الاصحاب في الاصح قبول في قوله: له هذه الدارهبة، وذلك يقتضي ثبوت الرجوع فيها فهو بمنزلة الاقرار بشراء بخيار. وقال في الدروس: ولو قال: اشتريت بخيار أو بعت أو كفلت بخيار ففيه الوجهان، قطع المأخرون بعدم سماع الخيار. واعلم أن ذكر في الاقرار بالكفالة انما يكون كالخيار في البيع على القول بان اشتراط الخيار فيها لا يفسدها، وإلا فهو بمنزلة ثمن مبيع فاسد كما لا يخفى.
الرابعة: (1) لو ادعى الاعجمي المقر بالعربية بأني قد لقنت ذلك ولم أفهمه، فإن كان ظاهره عدم الفهم سمع الدعوى، وإلا فلا. والمراد ما بعد فهمه إمكان ذلك في حقه لان أحواله ثلاثة بأن يعلم من حالة الفهم أو عدمه ولا بحث فيهما، وأن يجوز كل منهما عليه فيقبل قوله إنه لم يكن عالما بما اقر به بيمينه، لان الظاهر من حال الاعجمي ان لا يفهم العربيه وكذا العربي لا يفهم العجمية، وهاهنا مسائل:
الاولى: لو قال: له عندي دراهم وديعة قبل تفسيره سواء اتصل كلامه أو انفصل. اما قبول تفسيره مع الاتصال فظاهر لان تفسيره لا يرفع مقتضى الاقرار، واما مع الا نفصال فلان قوله (عندي) كما يحتمل غير الوديعة يحتمل الوديعة أيضا، ولو ادعى المالك أنهادين بعد هذا الاقرار فالقول قوله مع يمينه. وتدل عليه الاخبار الواردة التي قد مر ذكرها في الدين في حكم من يدعي بعد تحقق القبض منه بأنها وديعة وقال الدافع: إنها دين فالقول: قول مدعي الدين مع اليمين، ولا معارض لتلك الاخبار.
(1) أي المسألة الرابعة من المطلب السابع.
[ 84 ]
ويمكن توجيهه بعد النص بأن الوديعة تقتضي القبض والاخذ من المالك فبمقتضى قوله عليه السلام (1) (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) يجب أن يقدم قول المالك في أنها دين لان الدين لا تتحقق البراءة منه إلا بالاداء. ولو قدمنا قول المقر لوجب أن يقبل قوله في المسقط لتعلقه به، وهو خلاف مقتضي الخبر. ويمكن أن يقال بأن كونها وديعة تتضمن تقديم قول المقر في الرد على المالك وفي التلف، وذلك زائد على أصل كونها عنده وهو دعوى على الغير فمقتضى قوله عليه السلام (2) (البينة على من ادعى) يجب أن ينفذ الاقرار في ذلك لا تفرده إنما هو لكونه حق المقر دون غيره. وقال العلامة في التحرير: إذا قال: له عندي دراهم ثم فسر إقراره بأنها ودينعة قبل تفسيره سواء فسره بمتصل أو منفصل، فتثبت فيها أحكام الوديعة من قبول ادعاء التلف والرد. وبهذا صرح أيضا في التذكرة ومثله في الدروس وهو المختار. أما لو فسره بالامانة لم يلزم شئ لان الامانة لا يستلزم القبض لامكان إطارة الريح الثوب إلى ملك المقر أو وضع المالك إياها أو غيره في منزله فلا يثبت دخوله في العهدة بالاداء. هذا الفرق لا يخلو من ضعف بل الظاهر أن الحكم واحد. أما لو قال: له عندي وديعة وقد ملكت أو رددتها إليه لم يقبل منه ولم يسمع دعواه أصلا وذلك لمناقضة الاقرار لان المردود أو التالف ليس عنده ولا هو وديعة.
الثانية: لو قال: له علي ألف وديعة لم يقبل تفسيره ويلزمه لو ادعى التلف وذلك لان الالف مضمونة عليه وليس بأمانة لان قوله (علي) يتضمن اللزوم والثبوت في الذمة فلا يصدق في دعوى الرد، كما لا ينعقد دعوى التلف بان ذلك إنما يكون فيما يثبت كونه أمانة. ولفظة (علي) ينافي ذلك. ويشكل بأن كلمة (علي) لا تقتضي ثبوت ألف في الذمة لانه كما يجوز أن يريد بها ذلك يجوز أن يريد بها صيرورتها عليه للتعدي أو يريد لزوم حفظها
(1) سنن ابن ماجة ج 2 باب العارية ح 2400 (2) الكافي ج 415 7 ح 1، الوسائل ج 18 ص 170 ب 3 ح 1.
[ 85 ]
للذمة والتخلية بينه وبينها. وأيضا فإن (علي) يقتضي كون المقر به حقا على المقر وذلك مما يحتمل امورا ووجوها متعددة ولا صراحة فيه بكونه في الذمة، والاصل البراءة. ونقل الشيخ في الخلاف إجماعنا على أنه إذا قال: لفلان علي ألف درهم وديعة يقبل منه ذلك، فعلى هذا فالقول به أقرب.
الثالثة: لو قال: لك علي ألف وأحضرها وقال: هذه التي أقررت بها وهي وديعة عندي ففيه احتمالان: تقديم قول المقر لامكان الضمان بالتعدي ولا يقبل قوله في سقوط الضمان لو ادعى التلف، ولا فرق بين الاتصال والانفصال عندنا أكثر العامة. أما تقديم قول المقر فهو قول الشيخ – رحمه الله – محتجا بأصالة البراءة وشغل الذمة يحتاج إلى دليل. والاحتمال الثاني وهو تقديم قول المقر له، وهو قول ابن إدريس، واحتج بما اعترف به الشيخ – رحمه الله – وهو: أن لفظة (علي) تقتضي الايجاب في الذمة بدليل أنه لو قال: الالف التي على فلان علي كان ذلك ضامنا فإذا اقر كذلك فقد الزم ذمته مالا وجاء بمال آخر ولم يسقط ما لزم في الذمة كما لو أقر له بثوب ثم جاء له بعبد فإن العبد له ويطالب بالثوب. والجواب ما أجابه الشيخ وهو: أن لفظة (علي) وإن اقتضت الايجاب فقد يكون الحق في الذمة فيجب عليه تسليمة بإقراره وقد يكون في يده فيجب عليه رده وتسليمه إلى المقر له بإقراره، فبأيهما فسره كان مقبولا كما لو قال: أن له علي ثوبا كان له بعثه من أي الانواع التي يحتملها اللفظ، ألا ترى إنا أجمعنا عى أنه إذا قال: لفلان علي ألف درهم وديعة قبل منه ذلك، ولو كان قوله: لفلان علي درهم يقتضي الذمة وجب أن لا يقبل تفسيره بالوديعة لانه أقر بألف ثم عقبه بما يسقطه، فلما أجمعنا
[ 86 ]
على قبول تفسيره ذلك دل على ما ذكرنا من أن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض كما في قوله تعالى (ولهم علي ذنب) (1) أي عندي، وقوله تعالى (لاصلبنكم في جذوع النخل) (2) أي على، فيجوز أن يكون قوله (علي) قائما مقام (عندي)، وإنما جعلنا قوله، الالف التي على فلان علي ضمانا في الذمة لانه قصد به الالزام للمال الذي عليه وذلك لا يثبت إلا بالذمة، فوجد ما يدل على الثبوت في الذمة هنا بخلاف مسألتنا هذه. هذا محصل كلامه، ومختار الشيخ أقوى. ولو قال: لك في ذمتي ألف وجاء بها وقال: هي وديعة وهذا بدلها ففيه الاحتمالان السابقان، ومنشأهما أنه فسر الالف بكونها وديعة، وهو بحسب الظاهر مناف لكونها في الذمة، والقبول أرجح لان غايته قصد المجاز وهي كون التي في الذمة وديعة باعتبار أن سببها كذلك، والمجاز أيضا يصار إليه بالقرينة. أما لو قال: لك في ذمتي ألف وهذه التي أقررت بها كانت وديعة لم يقبل، وذلك لان اسم الاشارة الواقع في كلام وهو قوله (وهذه) وإن كان عائدا إلى الالف الذي قال إنه في الذمة سوى ما أقر به إذا لم يقر بشئ آخر (3). ولو سلمنا أن ما في الذمة ينافي التفسير في الوديعة على كل حال فغاية ما يلزم أن يكون قد وصف المقر به بوصف المقر يمتنع ثبوته له وإن كان المشار إليه بهذه شيئا آخر غير مذكور بل هو مقدر بأنه أحضر وقال: هذه التي أقررت بها، فهنا يتجه في وجوب الالف ألف اخرى. وعدم قبول قبوله قوله في أن المقر به هو ما أحضره وجهان كالمسألة السابقة، لكن عدم القبول هنا أولى لان ما في الذمة لا يكون وديعة، فإن الوديعة هي العين المستناب في حفظها وما في الذمة ليس عينا، وليس ببعيد للقبول لان قوله (كانت وديعة) لا ينافي ثبوتها في الذمة بتلف قارنه الضمان، وغاية ما يلزم ارتكاب المجاز
() سورة الشعراء – آية 14. (2) سوره طه – آية 71. (3) كذا في النسخة، واحتمال سقوط بعض الكلمات هنا قوى.
[ 87 ]
في حكمه بأن المأتي به كان وديعة فإن الوديعة حقيقة هو التالف والمأتي به هو عوضه، ولا محذور في المجاز إذا دل عليه دليل خصوصا إذا كان شائعا في الاستعمال. ولو قال: له علي ألف ودفعتها ثم قال: كانت وديعة وكنت أظنها باقية فبانت تالفه لم يقبل لانه مكذب لاقر ره، لان تفسيره يقتضي أن يكون إقراره لاغيا حيث إنه لو تم تفسيره وقيل: لم يكن عليه شئ حال الاقرار لكن لابد أن يكون تلفها منزلا على وجه لا ضمان معه إذ مع الضمان لا تكذيب. أما لو ادعى تلفها بعد الاقرار قبل البينة لعدم المنافاة للاقرار فتكون دعواه مستأنفة. ولو قال: له عندي وديعة دينا أو مضاربة صح لرمه الضمان، لانه قد يتعدى فيها فيكون دينا. ولو قال: أردت أنه قد شرط علي ضمانها لم يقبل. ولو قال: أودعني مائة فلم أقبضها وأقرضني مائة فلم آخذها قبل مع الاتصال، لكن على إشكال قد نشأ من استعمال (أودعني) و (أقرصني) في إيجاب الوديعة والقرض، ولهذا يقال عقيبه: فلم أستودع وأقرضني فلم أقترض، ولو لا ذلك لناقضه، وأقل أحواله أن يكون مجازا. والتفسير به مع القرينه صحيح، ومن أن الايداع والاقراض شرعا عند إطلاقه إنما ينصرف إلى المقبوض والمأخوذ، فيلزم أن يكون الكلام دافعا لاوله. ومثله: باع مني فلم أقبل، وموضع الاشكال إنما الاتصال، أما مع الانفصال فلا يلزم جزما. وحكم العلامة في التذكرة جازما به بأنه يقبل مع الاتصال ومع الانفصال موضع إشكال، وذلك لان تلك العبارة إن دلت على الايجاب محضا لم يفرق بين الاتصال والانفصال في القبول. وإلا لم يقبل مع الانفصال قطعا، ومع الاتصال
[ 88 ]
فالواجب عدم القبول لانه يقتضي رفع الاقرار من أصله والرجوع عنه، ولذلك توقف المحقق الثاني في شرحه على القواعد وفيه ما فيه. ولو أقر بالبيع وقبض الثمن ثم أنكر وادعى الاشهاد والمواطاة تبعا للعادة بذلك، فلو لم يسمع دعواه لزم الضرر. ويحتمل عدم السماع لانه مكذب للاقرار. ويضعف بأن ذلك واقع يعم به البلوى، فعدم السماع يقتضي الضرر، وحيئنذ فيحلف المشتري على الاقباض أو على عدم المواطاة. وكذا لو أقر بالاقتراض ثم ادعى المواطاة والاشهاد قبل القبض حلف المقترض لان الحكم السابق آت مثله هنا ودليله دليله. أما لو شهد الشاهد بمشاهدة القبض لم يسمع دعواه المواطاة ولا يمين على المدعي لان ذلك طعن في البينة وإكذاب لها فلا يلتفت إليه.
المطلب الثامن في ما إذا كان متعلق الاقرار النسب وفيه مسائل:
الاولى: في بيان أقسامه لان المقر به إما ولد أو غيره. فان كان ولدا ففي صحة الاقرار به شرائط:
الاول: عدم تكذيب الجنس والشرع والمقر به.
والثاني: عدم المنازع، فلو أقر ببنوة من هوأكبر سنا منه أو مساو أو أصغر يمالم تجر العادة بتولده عنه أو بين أو مسافة فلا يمكن الوصول بمثل عمر الولد إليها، أو ببنوة مشهور النسب لغيره أو بمن كذبه الولد البالغ لم يثبت، ولو نازعه غيره لم يلحق بأحدهما إلا بالبينة أو القرعة وتحقيق هذه الامور
[ 89 ]
والشرائط تحتاج إلى زيادة بحث وبسط في الكلام وبيان المراد منها. فعدم تكذيب الجنس عبارة عن أن يكون ما يدعيه ممكنا، فلو أقر ببنوة من هو أكبر سنا أو مساو أو أصغر بحيث تقتضي العادة بعدم تولده عنه لاستحالته عقلا وشرعا وعادة لم يقبل قطعا.
ومعنى الثاني: أن لا يكذبه الشرع، فلو أقر ببنوة مشهور النسب لغيره لم يعقد بإقراره لان النسب الثابت شرعا لا ينتقل ولا يحول لو صدقه الولد أو من انتسابه إليه معلوم لم يلتفت إليه. ولو نفى نسب ولد باللعان واستلحقه آخر ففي صحة الاستلحاق إشكال ينشأ بأنه أقر بنسب لا منازع له فيه فيلحق به، ومن أن فيه شبهة الملاعنة، لانه إنما نفاه أللعان عن الالحاق به، فلا يصح الالحاق بغيره بمجرد الاستلحاق، والثاني هو الاقوى. ولهذا لو رجع عن الملاعنة لحقه حكم النسب وورث الاب وإن لم يرثه الاب. ومعنى
الثالث: هو أن لا يكذبه المقر به وفي تذكرة العلامة ما هو أوضح من هذه العبارة حيث جعل الشرط أن يصدقة المقر به، إن كان من أهل التصديق بأن يكون بالغا عاقلا، وهذا أولى من قول المشهور لان عدم التكذيب غير كاف في البالغ. وإذا عرفت هذا فأعلم أنه إذا إقر ببنوة عاقل بالغ لم يثبت ما لم يصدق سواء كذبه أو سكت إلا أن يقيم عليه بينة، ومع عدمها يحلف المنكر فيسقط الدعوى فإن نكل وحلف المدعي ثبت النسب وكذا لو قال شخص لاخر: أنت أبي فإن القول قول المنكر بيمينه.
ومعنى الرابع: أن لا ينازعه في الدعوى من يمكن إلحاقه به، فإن الولد حينئذ لا يلحق بالمقر ولا بالاخر إلا بالبينة أو القرعة، ولو كان الولد بالغا رشيدا اعتبر تصديقه فيثبت نسب من صدقه، ولا اعتبار بتصديق الام ولا بتكذيبها. ويستفاد من هذه الفتوى في الشرائط المذكورة أن الاقرار بالولد الصغير مع اجتماعها يلزمه ذلك الاقرار، فلو أنكره بعد ذلك لم يلتفت إلى إنكاره ولا
[ 90 ]
لانكار الولد بعد بلوغه لثبوت النسب بإقرار الوالد. ففي صحيح الحلبي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (في حديث قال: أيما رجل أقر بولده ثم انتفى منه فليس له ذلك ولا كرامة فيلحق به ولده). ومثله حسنته (2). وخبر علي بن أبي حمزة (3) عن أبي عبد الله عليه السلام مثله. وصحيح الحلبي (4) أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: إذا أقر رجل بولده ثم نفاه لزمه). ومرسل أبي بصير (5) (قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل ادعى ولد امرأة لا يعرف له أب ثم انتفى من ذلك، قال: ليس له ذلك). وخبر السكوني (6) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام (قال: إذا أقر الرجل بالولد ساعة لم ينتف عنه أبدا). وعلى هذا يحمل خبر المدائني (7) عن علي بن الحسين عليهما السلام (قال: أيما ولد زنا ولد في الجاهلية فهو لمن ادعاه من أهل الاسلام). وخبر حنان (8) عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: سألته عن رجل فجر بنصرانية
(1) التهذيب ج 9 ص 346 ح 26، الوسائل ج 17 ص 564 ب 6 ح 1 وفيهما (يلحق به ولده) (2) الفقية ج 4 ص 231 ح 1. (3) التهذيب ج 9 ص 346 ح 27. (4) التهذيب ج 9 ص 346 ح 28 وفيه (بولد ثم نفاه)، الوسائل ج 17 ص 564 ب 6 ح 2. (5) التهذيب ج 8 ص 167 ح 6، الوسائل ج 17 ص 564 ب 6 ح 3. (6) التهذيب ج 8 ص 183 ح 63، الوسائل ج 17 ص 565 ب 6 ح 4. (7) التهذيب ج 9 ص 344 ح 21، الوسائل ج 17 ص 568 ب 8 ح 5. (8) التهذيب ج 9 ص 345 ح 24، الوسائل ج 17 ص 568 ب 8 ح 7 وفيهما (فولدت منه – ولدا غيره).
[ 91 ]
فأولدت منه غلاما فأقر به ثم مات فلم يترك ولدا، أيرثه ؟ قال: نعم). وموثقته (1) (قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل مسلم فجر بامرأة يهودية فأولد ثم مات ولو يدع وارثا، قال: فقال يسلم لولده الميراث من اليهودية، قلت: رجل نصراني فجر بأمرأة مسلمة فأولدها غلاما ثم مات النصراني وترك مالا لمن يكون ميراثه ؟ قال: يكون ميراث لابنه من المسلمة). ومثله موثقته الاخرى (2) كما في الكافي. قال الشيخ في التهذيبين: الوجه فيها أنه إذا كان الرجل يقر بالولد ويلحقه به فإنه يلزمه ويرثه، فأما إذا لم يعترف به وعلم أنه ولد زنا فلا ميراث له. وأما ما يدل على أنه إذا كان معروف النسب وأقر به غير أبيه لم يورث من المقر خبر إسحاق السيفي (3) عن علي بن الحسين عليهما السلام (قال: المستلاط لا يرث ولا يورث ويدعي إلى أبيه). قال صاحب القاموس (4) وغيره من أئمة اللغة: إلقاطه ادعاه ولدا وليس به كاستلاطه. ويؤيده من الاخبار أيضا صحيح الحلبي (5) وغيره أبي عبد الله عليه السلام (قال: لا يورث ولد الزنا إلا رجل يدعى ابن وليدته). ومثله خبر علي بن أبي حمزة (6). وخبر علي بن سالم (7) عن ابي عبد الله عليه السلام (في رجل وقع على وليدة حراما ثم
(1) التهذيب ج 9 ص 345 ح 25، الوسائل ج 17 ص 568 ب 8 ح 8 وفيهما (فأولدها). (2) الكافي ج 7 ص 164 ح 2 وفيه اختلاف يسير. (3) التهذيب ج 9 ص 348 ح 35، الوسائل ج 17 ص 571 ب 11 ح 1 وفيهما السبيعى) (4) القاموس المحيط ج 2 ص 384. (5) و (6) التهذيب ج 9 ص 346 ح 26 و 27، الوسائل ج 17 ص 566 ب 8 ح 1. (7) التهذيب ج 9 ص 343 ح 16، الوسائل ج 17 ص 567 ب 8 ح 4 وفيهما اختلاف يسير.
[ 92 ]
اشتراها فادعى ابنها، قال: فقال: لا يرث منه، فإن رسول الله صلى الله عليه واله قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يورث ولد الزنا إلا رجل يدعى ابن وليدته). ويجب تقييد هذه الاخبار أيضا بما لو أقر به ولو طرفة عين حملا للمطلق على المقيد، أما لو كان الاقرار بالكبير فهو موضع خلاف سيجئ بيانه.
الثانية: هل حكم المرأة بإقرارها بالولد حكم الرجل في الشرائط أم لا ؟ قولان ناشئان من أنه إقرار بالولد فيدخل تحت عموم الدليل على نفوذ الاقرار به ومن أن ثبوت نسب غير معلوم الثبوت على خلاف الاصل فيقتصر فيه على إقرار الولد الصغير للاجماع وللنصوص التي قدمر ذكرها، فيبقى ما عداه على الاصل فيتوقف على البينة أو التصديق ولاعبرة بتصديق الصغير، وإن كان مع البلوغ يحتاج إلى التصديق من الولد لها فيكون كلاهما مقرين، أما مع الصغر فالاقوى أنها كالاب. ففي حسنة الحلبي (1) بل في صحيحته عن أبي عبد الله عليه السلام (عن الحميل قلت: وأي شي الحميل ؟ فقال: المرأة تسبى من ارضها ومعها الولد الصغير فتقول: هو ابني، والرجل يسبى فيلقاه اخر فيقول: هو اخي ويتعارفان فليس لهما على ذلك بينة إلا قولهما، قال: فقال فما يقول من قبلكم ؟ قلت: لا يورثونه لانه لم يكن على ذلك بينة إنما كانت ولادة في الشرك، فقال: سبحان الله إذا جاءت بابنها أو ابنتها ولم تزل مقرة به وإذا عرف أخاه وكان ذلك في صحة من عقولهما لا يزالان مقرين بذلك ورث بعضهم بعضا). وصحيح عبد الرحمن بن الحجاج (2) كما رواه المحمدون الثلاثة عن أبي عبد الله عليه السلام ثم ذكر مثله، وهما صحيحان صريحان فيما اخترناه وموردهما الصغير.
(1) الكافي ج 7 ص 166 ح 3، الوسائل ج 17 ص 569 ب 9 ح 1 وفيهما (عن عبد الرحمان بن الحجاج) مع اختلاف يسير. (2) الكافي ج 7 ص 165 و 166 ح 1 و 3، الفقيه ج 4 ص 230 ح 2، التهذيب ج 9 ص 347 ح 31، الوسائل ج 17 ص 569 ب 9 ح 1 وما في المصادر اختلاف يسير.
[ 93 ]
وأما اعتبار الاقرار من الطرفين فيه فهو عائد إلى الاخرين كما هو صريحه، والامر كذلك في الفتوى. ولو أنكر بعد بلوغه لم يلتفت إلى إنكاره بسبق ثبوت نسبه كما لو قال ثبت بالبينة لان النسب مبني على التغليب فلا يتاثر بالانكار بعد الحكم بثبوته، وهو مذهب العلامة في التذكرة. وللشافعية قول إنه يندفع النسب بالانكار، فإذا تحقق لم يثبت، وليس بشئ. ولو أراد المقر به بعد بلوغه تحليف المقر له يمكن من ذلك، ومثله مالو استحلف مجنونا فلما أفاق أنكر.
الثالثة: لو مات الصغير ورثه الاب لثبوت النسب المقتضي للارث، وكذا العكس، ويدل عليه الصحيحان المتقدمان وإطلاق بقية تلك الاخبار لاطلاقها وظهورها ولو اعترف ببنوة ميت مجهول ثبت نسبه وورثه وإن كان كبيرا ذامال مع عدم وارث غيره لم يرثه، وربما قيل بثبوت الارث من الكبير. وتقرير هذا الحكم على التفصيل وإن خلاعن خصوص الدليل أن الميت الذى ادعيت ثبوته إن كان صغيرا وكان مجهول النسب الحق بالمدعي وثبت نسبه، لان تصديقه غير معتبر وتكذيبه غيرموثر سواء كان ذا مال أم لا، ولا ينظر إلى التهمة بطلب المال لان أمر النسب مبني على التغليب، ولهذا يثبت بمجرد الامكان بالنسبة إلى الولد حتى أنه لو قتله ثم ادعى ببنوته قبل استلحاقه حكم بسقوط القصاص. ومنع من ذلك أبو حنيفة للتهمة بوجود المال، وهو غلط كما هو شأنه التملك السخيفة (1)، ولهذا لايمنع نفوذ الاقرار يسار الصبي وفقر المقر في حال الحياة. وإن كان كبيرا ففي ثبوت النسب إشكال من أن شرط لحوق البالغ تصديقه وهو منتف هنا، ولان تأخير الاستلحاق إلى الموت يوشك أن يكون لخوف إنكاره
(1) كذا في النسخة.
[ 94 ]
ومن أن التصديق ممتنع من الميت فجرى مجرى الصبي، والمجنون في كون ألحاق نسبه غير مشروط بالتصديق وقد يمنع اشتراط التصديق في لحوق البالغ مطلقا، هكذا قيل. وفيه نظر، لعدم نهوض الدليل بذلك، ويجري الوجهان فيما إذا استلحق مجنونا تجدد جنونه بعد بلوغه كاملا سواء استلحقه حيا أو ميتا. والذي يقتضيه الدليل الذي عليه التعويل عدم الثبوت في الموضعين، لان ثبوت نسب الغير بمجرد قول غيره على خلاف الاصل ولانص ولا إجماع على ذلك فيستمسك بالاصل إلى أن يثبت الناقل. وقد تردد العلامة في التذكرة وأفتى به في القواعد ومثله في التحرير وكذا أول الشهيدين في الدروس وقبلهما المحقق والشيخ في المبسوط مدعيا أن الخلاف فيه. فعلى هذا المعتمد الذي عليه الاصحاب وكذا المجنون لا يعتبر تصديقه كما لا يعتبر تصديق الصغير إذ لا اعتبار بعبارته. ولا خلاف في ذلك، وإنكاره بعد الافاقة كإنكار الصبي بعد البلوغ.
الرابعة: هل يشترط التصديق من الولد الكبير عند إقرار الاب إذا كان أهلا لذلك ؟ قولان قد أشرنا إليهما فيما سبق، والمشهور اشتراطه، والنصوص خالية منه بالخصوص، وهو الاقرب لان الاقرار بالنسب يتضمن الاقرار في حق الغير، فحقه أن لا يسمع ولانه أمر إضافي، فيتوقف على تصديقه أو البينة، وسقوط ذلك في الصبي والمجنون بالنصوص والاجماع لتعذر التصديق منهما، فلا يوجب السقوط هنا اقتصارا في مخالف الاصل على موضع الوفاق، وهو مختار الشيخ في المبسوط وابن إدريس وابن الجنيد. وقال الشيخ في النهاية: إنه لا يعتبر التصديق من المقر به لان ذلك إقرار في حق نفسه وإلا لم ينفذ مع الصغير، وضعفه ظاهر لحصول التوارث من الطرفين فالاصح إذا الاول.
[ 95 ]
الخامسة، ليس الاقرار بالولد إقرارا بزوجية امه وإن كانت مشهورة بالحرية، وذلك لان الزوجية والنسب أمران متغايران غير متلازمين، فلا يدل أحدهما على الاخر بشئ من الدلالات الثلاث وقال أبو حنيفة: إن كانت الام مشهورة بالحرية كان الاقرارا بالولد إقرارا بزوجيتها، وإن لم تكن مشهورة فلا. أما لو أقر ببنوة ولد منه لحق به وإن كان حرا إن لم يكن لها زوج، ولا يخفى إلحاقه مشروط بإمكان كونه منه، وحينئذ فيكون حرا، والاخبار السابقة صريحة فيه وهي كثيرة جدا، والفتوى منطبقة عليه. وإنما اختلفوا في أنه هل تكون الجارية ام ولد بمجرد ذلك الاقرار أم لا ؟ قال العلامة في التذكرة: فيه إشكال، ينشاء من أن استيلادها قد يكون قبل الملك بشبهة أو تحليل، ومن أن استناد الاستيلاد إلى وقوعه في الملك هو الظاهر لانه موجود، والاصل عدم غيره، وفي الاول قوة. نعم لو اتبع هذا الاقرار بإقرار آخر بأنها ام ولد تحتم ذلك، وموضع الاشكال ما إذا جهل تأخر العلوق به عن الملك وتقدمه. وأما إذا لم تكن الامة فراشا للسيد فإن علم أحد الامرين اجرى عليه حكمه وإن كانت فراشا فالولد لا حق به لحكمة الفراش لا بالاقرار، فيثبت الاستيلاد حينئذ، وهذا كله إذا لم تكن الامة مزوجة، فإن الولد مع التزويج للزوج لانه تابع الفراش. ولو أقر ببنوة ولد إحدى أمته وعينه لحق به وكان الاخر رقا، وكذلك لو كان من ام واحدة، وذلك لان المرجع في التعيين إليه، ولا يخفى أن ذلك مع تزويجها أو تزويج إحداها فإن ادعت الاخرى أن ولدها هو المقر به قدم قوله مع اليمين لان الاصل معه وهو ينفي ما تدعيه. وكذا لو بلغ الولد وادعى فإن نكل السيد حلف المدعي وقضى بيمينه. وكذا قاله العلامة في التذكرة ومقتضاه أن الجارية تحلف، وهو مشكل
[ 96 ]
لان حلفها مثبت لحق غيرها وهو حربة الولد نعم لو تضمنت الدعوى الاستيلاد اتجه ذلك، فينبغي تإمله. لو يعينه ومات فالاقرب القرعة، ووجه القرب أنها لكل أمر مشكل للنصوص المستفيضة عن الائمة عليهم السلام. وقال الشيخ: يقوم الوارث مقامسه في التعيين فإن امتنع منه وقال لا أعلم توجهت القرعة، فإذا أخرجت القرعة واحدا وكان السيد قد ذكر ما يقتضي امية الولد صارت ام ولد بذلك من غير احتياج إلى قرعة اخرى. وهل يقبل تعيين الوارث ؟ إشكال ينشأ من أنه إقرار في حق الغير ولا دليل على قبوله، ولان التعيين إنما يعتد به إذا كان لجميع الورثة والمقر به منهم، فلو اعتبر تعبينه لزم الدور (1) قائم مقام الوارث. ويشكل بأنه إن اخبر عن تعيين المورث كان شاهدا، فاعتبر فيه أحكام الشهادة. وكذا لو أخبر بذلك عن علم سابق له بالحال، وإن كان منشأ التعيين من غير علم سابق له بتحققه بحقيقة الحال كان إقداما على القول بمجرد التشهي. والظاهر أن مرادهم بكونه عالما بالحال حتى يعين فيكتفى بتعيينه كالمورث أنه قائم مقامه. ويضعف بأن ذلك قول في حق الغير فيتوقف قبوله شرعا على دليل شرعي ولم يثبت قيامه مقام المورث هنا، والاقوى عدم القبول. ولو عين و اشتبهت ومات استخرج بالقرعة وكان الاخر رقا لان القرعة في كل أمر مشكل. ولو كان لهما زوجان بطل إقراره لان الولد لاحق بالزوج لانه للفراش. وقال في التذكرة: وإن كانتا فراشا للسيد بأن كان قد أقر بوطئها لحقه الولدان بحكم الفراش و وكان مراده بذلك ما إذا لم يكن لهما زوج كما لا يخفي. ولو كان لاحدهما زوج انصرف الاقرار إلى ولد الاخرى لان ولد الزوجة لاحق بالزوج لان الولد للفراش.
(1) كذا في النسخة، والظاهر سقوط كلمات هنا.
[ 97 ]
وقال العلامة في التذكرة: إنه مع تزويج إحداهما لا يتعين إقراره في ولد الاخرى بل يطالب بالتعيين، فإن عين في ولد المزوجة لم يقبل، وإن تعين في صريحا. ويشكل بأن عدم تعيينه في ولد الاخرى يقتضي قبول رجوعه عن الاقرار فإنه إذا عين في ولد المزوجة فإن بطل الاقرار لزم ما ذكرناه، وإن عين في وولد الاخرى فيحلقه بالاقرار وولد الاخرى بالفراش. وأما إذا كان المقر به غير الولد من الانساب ففيه مسائل أيضا:
الاولى: يشترط فيه زيادة على ما سبق من الشروط تصديق المقر به أو البينة على الدعوى وإن كان ولد ولد لان إلحاقه بالولد قياس مع وجود الفرق فإنه إلحاق النسبة بالغير وهو الولد. وأن يكون الملحق به ميتا، فما دام حيا لم يكن لغيره الالحاق به وإن كان مجنونا. وأن لا يكون الملحق به وقد نفى المقر به، فإن نفاه ثم استحلقه وارثه بعد موته فموضع إشكال، ناش من أنه بعد ما استلحقه باللعان وغيره لحق به وإن لم يرثه، وقد سبق تقريره الحكم ببطان هذا النسب، ففي إلحاقه به بعد الموت ألحاق ضار بنسبة. وأن يكون صدور الاقرار من الورثة الوارثين بالفعل، فلو أقر لاجنبي لم يثبت به النسب، ولو مات مسلم عن ابن كافر أوقاتل أورقيق لم يقبل لم يقبل إقراره عليه بالنسب كما لا يقبل إقراره عليه بالمال.
الثانية: أنه إذا أقر بوالد وأخ أو غيرهما ولا وارث له وصدقه المقر به توارثا فيما بينهما، ولا يتعدى التوارث إلى غيرهما، وذلك لان كل موضع لا يثبت النسب فيه بالاقرار إلا مع التصديق من المقر به لا يتعدى التوارث من المتصادقين إلى وارثهما إلا مع التصديق إيضا. لان حكم النسب إنما يثبت بالاقرار والتصديق
[ 98 ]
فيقتصر فيه المتصادقين سواء في ذلك الاقرار بالولد أو بالاخ أو بغير هما، ومقتضي ذلك أن يكون الاقرار ببنوة البالغ لا يتعدى حكمها المقر به والمقر له بناء على اعتبار التصديق كما سبق، فعلى هذا يكون الاقرار بالولد متفاوتا بالنسبة إلى الكبير والصغير بناء على اشتراط التصديق في الكبير. وقال الشيخ في المبسوط: إنه يتعدى الوازث إلى أولاد المتصادقين لا غيرهم من ذوي النسب بالصغير كما قد سمعت في تلك الصحاح وغيرها. نعم أن الام كالاب كما تقدم. ولو كان له ورثة مشهورون لم ينعقد إقراره في النسب وإن تصادقا، لان وذلك باطل لانه إقرار في حق الغير.
الثالثة: أو أقر أحد الولدين خاصة ولا وارث غير هما بنسب لم يثبت نسبه في حق المنمكر والا المقر، إنما لم يثبت في حق المنكر لان تصديقه معتبر وقول المنكر مع عدم البينة مقدم. نعم تثبت به المشاركة في حصة المقر وهو سدس الاصل لانهم إذا كانوا ثلاثة كان لكل واحد ثلث، وبيد المقر نصف لان الورثة اثنان، فيكون فضل ما بيده سدسا، اما على تقدير الاشاعة فيدفع إليه نصف ما في يده، ولو أقر أحد الولدين فكما لو أقر بأخ. ولو كان أحد الولدين صغيرا فأقر البالغ انتظر بلوغ الصبي، فإذا بلغ ووافق ثبت النسب وإن مات قبل البلوغ، فإن لم يكن الميت خلف شيئا سوى الاخ ثبت النسب ولم يحتج إلى تقرير آخر، وإن خلف ورثة سواه اعتبر موافقتهم، ولو كانت التركة كلها بيد المقر لم يدفع إلا ما زاد على نصيبه لان الزائد محكوم به لاخر فكأنه في يده. ولو كان أحدهما مجنونا فهو كما لو كان صغيرا. ولو كان الاقرار ببنت لزمه دفع خمس ما في لانه لو ثبت نسبها لكان لها
[ 99 ]
مع الاثنين خمس الاصل.
الرابعة: إذا أقر اثنان من الورثة بنسب للميت وكانا عدلين يثبت النسب والميراث وإلا اخذ من حصتهما بالنسبة كما لو أقر واحد خاصة. وإنما كان كذلك لانها إذا كانا عدلين ثبت النسب لشهادتهما ولا أثر لاعتبار الارث. وأما مع عدم العدالة فلان النسب لا يتبعض فينفذ إقرار المقرين في مستحقها من الارث فينظر كم قدر استحقاق المقر به من مجموع التركة لو ثبت بينة وكم نسبته إلى المجموع فيؤخذ من حصتها بتلك النسبة فيدفعان إليه ما فضل عن نصيبهما. ولو شهد الاخوان بابن للميت وكانا عدلين ثبت نسبه وجاز الميراث، ولا يلزم ورث لحجب الاخوين وخرجا عن الارث، فيلزم من صحة الارث بطلانه ومن بطلانه صحته. ثم قال: ولو قلنا يثبت الميراث كان قويا لانه يكون قد ثبت بشهادتهما فيتبعه الميراث لا بالاقرار. وحاصل كلامه أن الدور يلزم من اعتبار إقرارهما لا من اعتبار كونهما شاهدين، ولا يخفي أنهما لو كانا وارثين لا عتبرت شهادتهما مع العدالة فلا ينظر الى كونهما وارثين وعدمه، على انا لو اعتبرنا الارث لكفى كونهما وارثين في الظاهر حالة الاقرار. ولو كانا فاسقين اخذ الميراث ولم يثبت النسب، وانما كان ذلك الان اقرارهما نافذ بالنسبة الى الميراث ولا يتوقف على ثبوت النسب، واما النسب فانه لا يثبت بقول الفاسق، وإنما يثبت النسب بشهادة رجلين عدلين لا شهادة رجل وامرأتين ولا رجل ويمين ولا بشهادة فاسقين وإن كانا وارثين. واعتبر الشيخ في المبسوط في ثبوت النسب بإقرار رجلين عدلين ورجل وامرأتين من الورثة مع أنه قال في آخر كلامه في الباب: إنه لا يسمع شاهد
[ 100 ]
وامرأتان ولا شاهد ويمين، والمختار هو المشهور. وفي هذا الاطلاق إشكال وسؤال، وحيث قد ذكروا في الشهادات أن ما يثبت بالشياع النسب، وذكر أنه لابد هنا من شاهدين ذكرين عدلين، فلابد من تنقيح البحث والجواب. وربما قيل فيه: إن الحصر إضافي فيكون في مقابلة الشاهد والمرأتين أو الشاهد واليمين. وقبل: إن اشتراط العدلين إنما هو مع التنازع والاكتفاء بالشياع مع عدمه.
الخامسه: لو أقر الوارث بمن هو أولى منه بالارث نفذ إقراره بالنسبة إلى المال لانه إقرار في حق نفسه، فلو أقر العم بأخ سلم إليه التركة، وإن أقر الاخ بولد نفذ إقراره كذلك ولو كان المقر بالولد العم بعد أن أقر بالاخ فإن صدقه الاخ فلا بحث، وإن كذبه فالتركة للاخ لانه استحقها بالاقرار الاول، فلا يلتفت إلى الثاني لانه رجوع عن الاول. وهل يغرم العم للولد بتفويته التركة عليه التي هي حقه بإقرار العم أو لا ؟ ينظر، فإن كان حين أقر بالاخ نفى كل وارث غيره غرم لا محالة، لان ذلك يقتضي انحصار التركة في الارث فيكون هو المفوت لها، وإلا ففيه إشكال، ينشاء من أنه بإقراره بالاخ أولا من دون ثبوت نسب الولد هو المفوت للتركة ومن عدم المنافاة بين الاقرارين لامكان اجتماعهما على الصدق، فلم يكن منافيا للاقرار بالولد. وتنظر في ذلك المحقق الثاني بأنه لا يلزم من عدم المنافاة عدم الغرم، والمقتضي للغرم هو إقراره بالاخ أولا لاستحقاقه به جميع التركة، وذلك لان إقراره به على هذا الوجه بمنزلة ما لو نفى وارثا غيره لانهما بمنزلة واحدة في الحكم بدفع التركة إلى الاخ بمقتضى ذلك الاقرار، فيلزمه الغرم، وهو مختار الشيخ في النهاية. والتحقيق في كل من المسألتين – أعني من إذا تعرض لنفي وارث غير الاخ
[ 101 ]
وعدمه – أن بينى ذلك على أنه هل يؤمر المقر بدفع التركة إلى المقر به بمجرد الاقرار ؟ أم يجب البحث والتفتيش على الحاكم الشرعي ليعلم انحصار الارث في المقر به إذا رفع إليه ؟ وجهان، وقد تقدم الكلام على ذلك في أحكام المقر له، وبينا أن الاصح وجوب البحث والتفتيش عنه، فعلى هذا إن كان العم قد دفع بغير إذن الحاكم ضمن لانه المباشر للاتلاف، وإن كان قد دفع بإذنه أو كان الدافع هو الحاكم فإن كان بعد البحث والاجتهاد فلا ضمان على أحدهما وإلا فهو من خطأ الحاكم، ولا فرق في ذلك كله بين أن ينفي وارثا غيره إذ لا عبرة بوجوب الدفع وعدمه على ذلك، وعلى الوجه الاخر إن استقل العم بدفع التركة إلى الاخ وجب القطع بضمانه لانه المباشر للاتلاف وإن كان بأمر الحاكم استنادا إلى إقراره، فإن نفى وارثا غيره ضمن أيضا، وإلا فالوجهان. وقد صرح أول الشهيدين في بعض حواشيه على قواعد العلامة بهذا، فتبين لك مما ذكر أن إطلاق العلامة في القواعد – الحكم بالغرم مع نفي غيره والاشكال بدونه مع أنه قد اختار وجوب البحث مع إقرار المقر بعدم وارث غير المقر به – غير مستقيم. ويدل على هذه الاحكام المتقدمة من الاخبار خبر وهب بن وهب (1) كما في التهذيب والفقيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام (قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل مات وترك ورثة فأقر أحد الورثة بدين على أبيه أنه يلزم ذلك في حصته بقدر ما ورث، ولايكون ذلك عليه من ماله، فإن أقر اثنان من الورثة وكانا عدلين اجيز ذلك على ورثة، فإن لم يكونا الزم في حصتهما بقدر ما ورثا، وكذلك إن أقر بعض الورثة بأخ إنما يلزمه في حصته. و قال على عليه السلام: من أقر لاخيه فهو شريك في المال ولا يثبت نسبه، فإن أقر اثنان كذلك، إلا أن يكونا عدلين
(1) التهذيب ج 9 ص 163 ح 16، الفقيه ج 4 ص 171 ح 3 وقد أورد قسم من الحديث، الوسائل ج 13 ص 402 ب 26 ح 5 و 6 وما في المصادر اختلاف يسير.
[ 102 ]
فيلحق نسبه ويضرب في الميراث معهم). وفي صحيحة سعيد الاعرج (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: سألته عن رجلين حميلين جئ بهما من أرض الشرك، فقال أحدهما لصاحبه: أنت أخي فعرفا بذلك ثم اعتقاو مكثا مقرين بالاخاء، ثم إن أحدهما مات، قال: الميراث للاخ يصدقان). وتقدم في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (2) وصحيح الحلبي (في الاقرار بالولد، قال: إذا عرف أخاه وكان ذلك في صحة من عقولهما لا يزالان مقرين بذلك ورث بعضهم بعضا).
السادسة: لو أقر الاخ بولد للميت فالمال للولد. فإن اقر بآخر فإن صدقه الاول فالتركة بينهما، وإن كذبه فالتر للاول ويغرم النصف للثاني. وهذا بناء على غير ما حقيقناه في المسألة السابقة. وأما على ما حققناه فينظر هل الدافع للتركة هو الاخ استقلالا بأمر الحاكم ؟ إلى آخر ما مر. فإن أقر بثالث فإن صدقه الاول فله النصف، وإن كذبه غرم المقر للثالث. أما حالة تصديقة فلان الوارث اثنان فيستحق باعترافهما من التركة نصفها فيدفعه إليه، وغرم النصف للثاني من المقر بحالة إن كذب الاقرار بالثالث، وإن صدق فالثلث خاصة، وإن كذبه الاول غرم الثلث لانه فوت عليه بإقراره ثلث التركة، ولا عبرة بتصديق الثالث بالاولين وعدمه. ولا يخفى أن إطلاقهم الغرم في هذه المسألة يرجع في تنقيحه إلى ما سبق. ولو أقر بولد ثم بآخر فصدقه الاول وأنكر الثاني الاول فالتركة للثاني ولا غرم عليه للاول. (أما) أن التركة للثاني فإن نسبة يثبت بقولهما مع العدالة
(1) الكافي ج 7 ص 166 ح 2، الوسائل ج 17 ص 570 ب 9 ح 2. (2) الكافي ج 7 ص 165 ح 1، الوسائل ج 17 ص 569 ب 9 ح 1.
[ 103 ]
دون الاول، وإلا يكونا عدلين فليس له إلا النصف خاصة إذا لم يعتبر ما قاله إلا به، والنسب لم يثبت كما نبه عليه أول الشهيدين في حواشيه على القواعد. (وأما) أنه لاغرم فلانه لم يقع من الاخ تفويت حق أقر به لاحدهما.
السابعة: لو أقرت الزوجة من الاخوة بولد، فإن صدقها الاخوة فميراث الاخوة للولد، وكذا حكم كل وارث ظاهرا أقر بأولى منه، ولو أقر بمساو دفع بنسبة نصيبه ولو كذبها الاخوة فلهم ثلاثة الارباع وللولد الثمن وللزوجة الثمن. ولو أقر الاخ بولدين دفعة فصدقه كل واحد عن نفسه لم يثبت النسب وإن كانا عدلين ويثبت الميراث ويخرج لواحد النصف، فلو تناكرا لم يلتفت الى تناكرهما لان مقتضى إقران استحقاقهما الارث معا وهو المعتبر لصدوره حين كان وارثا ظاهرا. ولو اقر احدهما بصاحبه دون العكس لم يختلف الحكم كما صرح به العلامة في التحرير، لكن ينبغي تقييده بما إذا لم يكن المقر والاخ عدلين، والا كانت للاخر ولا غرم. ولو أقر أحد الاخوين بولد وكذبه الاخر للولد نصيب المقر خاصة، فإن أقر المنكر بآخر دفع إليه ما في يده ولا غرم للاخر على الاول ولو أقر بالولد الثايي لوصول نصيب كل من الولدين إليه.
الثامنة: لو أقر الوارث لاخوين بزوج لذات الولد أعطاه ربع ما في يده، ولو لم يكن ولد أعطاه النصف، هكذا أطلق الاكثر في هذه المسألة، وهذا إنما يتصور ممن يشارك الولد في الارث سوى الزوجين، وذلك هوالابوان أو أحدهما أو الولد لا غير. وحينئذ فلا يستقيم إطلاق الحكم بأعطائه الزوج ما في يده مع الوالد أو
[ 104 ]
نصفه مع عدمه، لانه مع عدم الولد ينحصر صدور الاقرار في الابوين، ومعه يتصور وقوعه منهما أو من الولد، ومعلوم أن أحد الابوين له مع الولد السدس ولهما معا السدسان، والزوج لا يزاحمهما في ذلك. نعم في صورة يقع الترديد بدفع ما في يده ما فضل عن نصيبه مع الزوج، وليس ذلك نصفا ولا ربعا. ولو كان المقر الاب ولا ولد دفع النصف سواء كان معه ام أم لا. ولو كانت الام مع الحاجب لها إلى السدس فلا شئ، وبدونه تدفع ما فضل عن نصيبها مع الزوج. ولو كان الولد دفع مما في يده ما فضل عن نصيبه مع الزوج، فلو أقر الذكر مع أحد الابوين دفع مما في يده ربع التركة. وكذا لو أقرت الانثى معهما. ولو كانت مع أحدهما لم تدفع الربع كملا، ومنه يعلم حكم الاقرار بالزوجة فإن أقر بزوج آخر لا يقبل في حق الزوج المقر به أولا، ويغرم للثاني إن أكذب إقراره الاول لاعترافه بتضييع نصيبه بالاقرار. وهل يغرم بمجرد الاقرار من دون تكذيب ؟ فيه وجهان:
(أحدهما) مانع، لان الاصل في الاقرار الصحة وكون الثاني هو الزوج أمر ممكن، وربما ظن أن الاول هو الزوج فأقر ثم تبين خلافه. وإلغاء الاقرار في حق المقر مع إمكان صحته ينافي قوله عليه السلام (إقرار العقلاء على إنفسهم جائز) ولا يجوز الحكم بفساد الاقرار بمجرد تطرق الاحتمال وإلا لبطل أكثر الاقارير.
(والثاني) لا، وأسنده العلامة إلى ظاهر الاصحاب لانه لما أقر بزوجية الاول نفذ الاقرار بكونه وارثا وحكم بمقتضاه، فلما أقر بزوجية آخر كان إقرارا بآخر ممتنع في شرع الاسلام، فجرى مجرى إقراره بسائر الممتنعات، وارتكاب التأويل بالحمل على إرادته إكذاب نفسه في الاقرار الاول خلاف الظاهر، وما أشبه هذه المسألة بمسألة الاقرار بالمحل، وقد سبق صحته مع الاقرار، وتنزيله على ما
[ 105 ]
يصح معه الاقرار فيكون الوجه الاول أقوى.
التاسعة: لو أقر بزوجة لذي الولد أعطاها ثمن في يده، ولو خلا عن الولد أعطاها الربع. وإن أقر باخرى فصدقته الاولى اقتسمتا، وإلا غرم لها نصف ما أخذته الاولى من حصته، وهذا صحيح لا غبار عليه لان كل موضع يدفع المقر إلى الزوجة المقربها أو شيئا مما في يده يغرم نصفه للمقر بها ثانيا، وقد تقدم شطر من هذا التحقيق فيما سبق، وهذا إذا أكذبته الاولى. وقد علم إيضا أنه ليس كل مقر من الورثة يدفع ذلك، وليس كل مقر يغرم، لما حققناه فيما سبق من التفاصيل المتفاوتة والفروع المتخالفة. ولو أقر بثالثة أعطاها الثلث، فإن أقر برابعة أعطاها الربع. والمراد بذلك عند إكذاب الباقيات إياه في الاقرار والاخذ من المصدقة بالنسبة. فإن أقر بخامسة لم يلتفت إليه، على إشكال، ووجه الاشكال هنا مثل الوجهين السابقين في الاقارير بزوج ثان، وأولى بالصحة هنا لامكان الخامسة غرم لها ربع الثمن مع الولد أو الربع مع عدمه. ولو أقر بالاربع دفعة ثبت نصيب الزوجية لهن ولا غرم لاحد سواء تصادقن أو لا، لان إقراره بالنسبة إلى الجميع واحد ومقتضاه كذلك.
العاشرة: لو كان الوارث الاخ من الاب فأقر بأخ من الام أعطاه السدس، فإن أقر الاخ من الام بأخوين منها فصدقه الاول سلم الاخ من الام إليها ثلث السدس بينهما بالسوية ويبقي معه الثلثان، ويسلم إليها الاخ من الاب ثلثا آخر. ويحتمل على مرجوحية أن يسلم الاخ من الام الثلثين ويرجع كل منهم على الاخ من الاب ثلث السدس، وإنما وجب أن يدفع الاخ من الام إليها
[ 106 ]
ثلث السدس لان ذلك هو الفاضل عن نصيبه لان نصيبه ثلث الثلث، لان للاخوة من الام ثلث الاصل بينهم بالسوية، فيكون لكل واحد من هولاء ثلاثة. وقد نص الاصحاب على المقر يدفع مما بيده ما فضل من نصيبه. ووجه الاحتمال أن مقتضي الشركة إن حصل فهو للشركاء، وما ذهب فمنه، والذي بيد الاخ للاب خارج عنهما. وهذا هو مقتضى ما سبق في البيع من الاشاعة، وهو الذي يقتيضه الدليل، إلا أن الاول هو ما ذكره الاصحاب. ولو كذبه فعلى الاول للاول ثلثا السدس ولهما الثلث وعلى الثاني السدس بينهم أثلاثا، وقد علم حال الاخ من الاب مما سبق على كل واحد من الاحتمالين ولا يختلف ذلك بتصديق الاخ من الاب ولا تكذيبه. أما الاخ من الاب فإنه مع تكذيبه يجوز الفاضل عن السدس كله والفريضة على الاول من ستة وثلاثين، وعلى الثاني من ثمانية عشر.
الحادية عشرة: لو اعترف الولد بالزوجة أعطاها الثمن، فإن أقر بالاخرى أعطاها نصف الثمن إذا كذبته الاولى. فإن أقر بثالثة فاعترفت الاولان بها واعترفت الثانية بالاولى استعاد من الاولى نصف الثمن، ومن الثانية سدسه، فيصير معه ثلثا الثمن يسلم إلى الثانية منه ثلثا ويبقى له ثلث آخر. ووجه إعطاء الثانية نصف الثمن أنه يعترف لها بأزيد من ذلك فلا أثر لتصديقها بالاولى وتكذيبها، فلما أقر بثالثة واعترفت الاولان بها وباعترفت الثانية بالاولى كان لها ثلث الثمن بإقراره واعتراف الثانية ونصفه باعتراف الاولى، فيستعيد من الاولى النصف ومن الثانية السدس لانه الفاضل من نصيبها، فيصير معه ثلث الثمن يدفع معه ثلثا إلى الثانية ويبقى الثلث الاخير عوضا عم اغترمه ويفوت منه سدس الثمن، والفريضة من ثمانية وأربعين لانا نطلب مالا له ثمن ولثمنه سدس.
الثانية عشرة: أقر الولد بزوجة ولو تحت الميت الاخرى فصدقته
[ 107 ]
الاخرى (1) فالثمن بينهما، وإلا فللاخرى، ولا غرم. وإنما كان الثمن للاخرى على تقدير عدم تصديقها لان زوجيتها ثابتة بخلاف المقر بها. وإنما لم يكن على الولد غرم لان إرثها على تقدير زوجيتها إنما هو من الثمن الذي قد حازته الاخرى، وليس بيد الولد منه شئ. ولبعض العامة احتمال مبني على ما ذهب إليه في ما لو أقر بعض الورثة بدين على الميت هو أن جميعه يؤدى من نصيب المقر السعة (2) أن تأخذ الزوجة من نصيب الولد بالنسبة فتأخذ نصف ثمنه. ولو أقر الاخ من الام بأخ إما من الاب أو من الام أو منهما فكذبه الاخ من الاب فللمقر حصته كملا وهي السدس، فليس في يده فضل عن مستحقه. وكذا لو أقر بأخوين من الاب ومنهما لانه يأخذ منهما السدس كملا، فلا يقتضي إقراره نقصا عليه. ولو كانا من الام فإنه يدفع إليها ثلث السدس، لاعترافه بأنهما شريكان في الثلث لكل منهما تسع وفي يده ونصف تسع، فيفضل في نصف تسع. وتنقيحه: أن للاخوة من الام ثلث التركة بالسوية لكل منهم ثلاثة وهو تسع وبيده – أعني المقر – سدس وهو تسع ونصف، فيكون معه زيادة على استحقاقه لمقتضى إقراره نصف تسع هو ثلث السدس، فيدفعه إليها فيشتركان فيه بالسوية، والفريضة من ستة وثلاثين لانا نطلب ماله تسع ولتسعه ربع وهو مضروب أربعة في تسعة. ولو أقر الاخوان من الام بأخ منهما دفعا إليه ثلث ما في يدهما سواء صدقهما الاخ من الاب أو كذبهما.
(1) كذا في النسخة، ولعل الصحيح (لو أقر الولد بزوجة وكان تحت الميت زوجة اخرى فصدقته الاخرى). (2) كذا في النسخة.
[ 108 ]
ولو أقر به أحدهما خاصة دفع ثلث ما في يده، ولا اعتبار بتصديق الاخ من الاب أو تكذيبه، لكن لو صدقه وكان عدلا كان شاهدا، فإن كان المقر عدلا ثبت النسب، والا فلا، وذلك لان المتعددين الاخوة لهم الثلث بينهم بالسوية سواء زادوا على اثنين فلا أثر لتصديق الاخ من الاب أيا كان كما في الاقرار بالاخ الثالث من الام وتكذيبه. ولو أقر به أحدهما خاصة رجع إليه ثلث ما بيده على المختار لانه الفضل على مستحقه، ولا اعتبار بتصديق الاخ من الاب في ذلك وتكذيبه. نعم لو صدق وكان عدلا مع عدالة المقر ثبت النسب فيأخذ ثلث ما في الاخر.
الثالثة عشرة: لو ترك الميت ولدين واحد منهما كافر أو عبد فأقر الوارث وهو الحر المسلم بابن أخ آخر فاعتق العبد أو أسلم الكافر مع تصديقه بالمقر له، فان كان قبل القسمة للتركة من المقر به شارك، وإن كان بعدهما فلا اثر لما سيأتي – ان شاء الله تعالى – في احكام الميراث من ان زوال المانع من الارث قبل القسمة يقتضي ثبوت الارث لا بعدها. ولو أنه هنا كذب بالمقر به سواء كان قبل زوال المانع أو بعده لم يستحق شيئا لانتفاء القسمة بزعمه لان الوارث واحد بقوله ولو رجع إلى التصديق لاعتراف المقر والمقر به باستحقاقه، ومتى رجع المقر له عن التكذيب قبل. ولو كان أحدهما غير مكلف فأقر المكلف بآخر عزل لغير المكلف النصف، فإن اعترف بعد زوال المانع دفع الفاضل عن نصيبه وإن كذب ملك المعزول. وإنما عزل لغير المكلف النصف لان الاقرار غير ماض عليه، ولا يعتد بتصديقه ولا تكذيبه إلا بعد الكمال، فيترتب على كل مقتضاه. ولو مات قبل البلوغ والكمال وقد تخلف من السدس خاصة وهو سدس الاصل الذي هو سدس النصف، فإن كان قد أقره الحاكم للانفاق فهو للمقر له، وإلا فثلثاه، وإنما كان كذلك لان الوارث لغير المكلف هو أخوه المقر وهو
[ 109 ]
معترف له به، وإن لم يكن قد أقره الحاكم بل كان النصف بأجمعه موقوفا إلى أن ذهب ثلثاه وبقي ثلثه كان المقر له ثلثا السدس، ثلث بسبب كونه شريكا في النصف لان الذاهب من الشريكين، وثلث بالارث عن أخيهما، والثلث الاخر للمقر. وينبغي أن يقال: إن هذا إنما هو إذا كان ذهاب الثلثين بآفة سماوية، وأما إذا كان بإنفاق الحاكم ومن يجري مجراه على الطفل فينبغي أن يقال: إن حصة المقر له من ثلث في النفقة – وقدرها ثلثا السدس تقدم له من التركة باعتراف الوارث لذلك – ليس حقا للطفل بل المقر به، وعزل شئ من شئ وتميزه فالاقرار (1). ولو أقر أحد الولدين بابن وأنكر الثاني ثم مات المنكر عن ابن مصدق بالاقرار فالاقرب عندهم ثبوت نسب العم مع العدالة. ويحتمل العدم، لكن يأخذ من تركة الميت ما فضل عن نصيبه. ووجه القرب أنه قد شهد بالنسب شاهدان عدلان، لان الكلام إنما هو على تقدير العدالة فوجب الحكم بالثبوت لان شهادة العدلين حجة على النسب. وأما احتمال العدم فلان شهادة ابن الابن تتضمن الشهادة على إبيه لانها تقتضي تكذيبه إذ الفرض أن أباه أنكره أولا وشهادة الابن على الاب غير مسموعة لكن يأخذ من التر كة ما زاد عن نصيب ابن الابن. وضعف بأن ذلك ليس شهادة على الاب بوجه من الوجوه، واقتضاؤها تكذيب الاب لا يستلزم كونها شهادة عليه ولا عدم سماعها، ولهذا لو شهد شاهد لزيد على عمرو بحق ثبت مع استيفائه الشروط، ولا اعتبار بكون أب الشاهد مكذبا أولا، فالاصح الثبوت.
(1) كذا في النسخة، ولعل الصحيح (بالاقرار).
[ 110 ]
المطلب التاسع في ما لو كان متعلق الاقرار دينا أو عتقا وكان له شريك في الارث بحيث يكون ذلك الدين وذلك العتق من المورث وفيه مسائل:
الاولى: فيما لو اقر احد الورثة بدين على الميت لاحد الاشخاص وكان له مشارك في التر كة ولم يقر كإقراره إو لم يكن أهلا للاقرار لعدم كماله وبلوغه لزمه الاقرار في حصته بالنسبة، ولا يغرم جميع الدين منها كما عليه العامة. ويدل عليه خبر وهب بن وهب (1) المتقدم عن جعفر بن محمد عن ابيه عليهما السلام على أبيه أنه يلزمه ذلك في حصته بقدر ما ورث ولا يكون ذلك عليه من ماله كله). وعلى هذا يحمل إطلاق معتبرة محمد بن أبي حمزة ومعتبر إسحاق بن عمار (2) كما في الكافي والتهذيب والفقيه عن ابي عبد الله عليه السلام (في رجل مات فأقر بعض ورثته لرجل بدين، قال: يلزمه ذلك في حصته). قال في التهذيبين بعد ذكره لهذه الرواية (يلزمه ذلك في حصته) بعني بقدر ما يصيبه لان جميع الدين جميعا بينه وبين ما يخالفه. نعم لو كان الوارث اثنين وكانا عدلين ثبت الدين بإقرار هما لانهما شاهدان، ويدل خبر وهب بن وهب المتقدم أيضا حيث قال فيه (فإن أقر اثنان من الورثة وكانا عدلين اجيز ذلك على الورثة، وإن لم يكونا عدلين الزما في حصتهما بقدر ما ورثا).
(1) التهذيب ج 9 ص 163، الوسائل ج 13 ص 402 ب 26 ح 5. (2) الكافي ج 7 ص 43 ح 3، الفقيه ج 4 ص 171 ح 2، التهذيب ج 6 ص 190 خ 31، الاستبصار ج 3 ص 7 ب 5 ح 1 وج 4 ص 115 ب 69 ح 3، الوسائل ج 13 ص 401 ب 26 ح 3 وفيه (يلزم ذلك).
[ 111 ]
ومن مرسل الفقيه حيث قد قال بعد ذكره معتبرتي محمد بن أبي حمزة وإسحاق ابن عمار: وفي حديث آخر (1) أنه (إن شهد اثنان من الورثة وكانا عدلين اجيز ذلك على الورثة، وإن لم يكونا عدلين الزم ذلك في حصتهما). وهو صريح كالاول في هذا التفضيل، فيجب حمل كل مطلق على ذلك كما هي القاعدة المقررة.
الثانية: إذا أقر بعض الورثة بأن قد أعتق بعض عبيده لزمه ذلك في حصته وكان العبد مبعضا، ولا يغرم بهذا الاقرار شيئا للشريك ويستسعي العبد في ما لو كان لغيره من الورثة. وتدل عليه معتبرة منصور بن حازم (2) كما في الكافي والتهذيب والفقيه عن أبي عبد الله عليه السلام (في رجل مات وترك عبدا فشهد بعض الورثة من ولده أن أباه أعتقه، قال: يجوز عليه شهادته ولا يغرم ويستسعي الغلام في ما كان لغيره من الورثة). وصحيح محمد بن مسلم وخبره (5) عن أحدهما عليهما السلام (قال: سألته عن رجل
(1) الفقيه ج 4 ص 171 ح 3، الوسائل ج 13 ص 402 ب 26 ح 7. (2) الكافي ج 7 ص 42 ح 1، الفقيه ج 4 ص 170 ب 125 ح 7 1 التهذيب ج 9 ص 163 ح 14 الوسائل ج 13 ص 401 ب 26 ح 1. (3) التهذيب ج 8 ص 246 ح 7 121 الوسائل ج 13 ص 401 ب 26 ح 2. (4) الكافي ج 7 ص 43 ح 2، التهذيب ج 8 ص 246 ح 122، الوسائل ج 13 ص 402 ب 26 ح 4. (5) الفقيه ج 3 ص 70 ح 24، التهذيب ج 8 ص 234 ح 77، الوسائل ج 16 ص 66 ب 52 ح 1 وما في المصادر (أن الميت أعتقه).
[ 112 ]
ترك مملوكا بين نفر فشهد أحدهم أن أعتقه، قال: إن كان الشاهد مرضيا لم يضمن وجازت شهادته في نصيبه واستسعى العبد في ما كان للورثة). أما لو كان اثنين وكانا عدلين أمضى عتقه على كل حال، وليس عليه استسعاء لمرجع إقرارهما إلى الشهادة، وإنما روعي في الواحد كونه مرضيا لئلا تكون تهمة في إقراره وشهادته فيعطله على الشركاء فيغرم حصص الباقين إذا كان مليا كما لو أعتق حصة إقراره ابتداء.
الثالثة: لو أقر شخص بدين أو عين لاحد رجلين ولم يعينه حتى مات تداعيا تلك العين وأحلف فتكون تلك العين مشتركة بينهما أنصافا، وإن خلف أحدهما ونكن الاخر قضي به للحالف. وكذا لو لم يدعها الاخر أو اعترف بأن ليس له حق، واحتمل بعضهم أنه يحكم لهم بها في هذه الحالة بغير يمين، وهو قريب لولا عموم النص الوارد في المسألة. وخبر السكوني (1) عن أبى عبد الله عن أبيه عن علي عليهم السلام (في رجل أقر عند موته لفلان وفلان: لاحدهما عندي ألف درهم ثم مات على تلك الحال، فقال علي عليه السلام: أيهما أقام البينة فله المال، وإن لم يقم واحد منهما البينة فالمال بينهما نصفان). ولابد من حمل عجز الحديث على ما قلناه من حلف كل منهما أو نكولهما، وإلا فمع قيام البينة لاحدهما فلا كلام، وكذا لو قامت لهما البينة حكم به لهما. وبالجملة فالخبر لا يخلو من إشكال، وسيجئ في أحكام المواريث والقصاص والحدود كثير من مسائل الاقرار متعلقة بالمماليك والاحرار في مسائل جزئية مندرجة تحت تلك الكلية النبوية، وأنهما لا تسمع مع التهديد والتخويف ولا تلزم إلا مع الاختيار كما هي القاعدة المقررة في الاقرار.
(1) الكافي ج 7 ص 58 ح 5، الوسائل ج 16 ص 132 ب 2 ح 1.
[ 113 ]
ومن تلك الاخبار ما في كتاب قرب الاسناد عن أبي البختري (1) عن أبي جعفر عن أبيه عليهما السلام (أن عليا عليه السلام قال: من أقر عند تجريد أو حبس أو تخويف أو تهديد فلا حد عليه، ومن أقر بحد ثم أنكر لزمه الحد إلا أن يكون رجما أو قتلا فيدرء عنه ويضرب المقر بالرجم الحد). وففي صحيح الحلبي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام (في رجل أقر على نفسه بحد ثم جحد بعد، فقال: إذا أقر على نفسه عند الامام أنه سرق ثم جحد قطعت يده وإن رغم أنفه، وإن أقر على نفسه أنه شرب خمرا أو يقر به فأجلدوه ثمانين، قلت: فإن أقر على نفسه بحد يجب عليه فيه الرجم أكنت راجمه ؟ فقال: لا، ولكن كنت ضاربه الحدود). ومثله صحاح ابن مسلم (3) وغيرها، وسيجئ الكلام مستوفى عليها – إن شاء الله تعالى – في محالها.
(1) قرب الاسناد ص 26، الوسائل ج 16 ص 133 ب 4 ح 1. (2) الكافي ج 7 ص 220 ح 4، الوسائل ج 18 ص 318 ب 12 ح 1 وفيهما (أو بفرية – ثمانين جلدة – ضاربه الحد). (3) الكافي ج 7 ص 220 ح 5، الوسائل ج 18 ص 319 ب 12 ح 3.