ج7 - مكان المصلي

المقدمة السادسة

في المكان

ولهم فيه تعريفات عديدة لا تخلو من مناقشات ، والأجود في تعريفه ـ كما ذكره السيد السند (قدس‌سره) بالنسبة إلى الإباحة ـ انه الفراغ الذي يشغله بدن المصلي أو يستقر عليه ولو بوسائط ، وباعتبار الطهارة انه ما يلاقي بدن المصلي أو ثيابه.

والبحث هنا يقع في مسائل (الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) اشتراط الإباحة في المكان ونعني بها هنا ما قابل الغصب ، فيدخل فيها المملوك عينا ومنفعة ، والمأذون فيه بجملة أقسامه من الاذن الصريح خصوصا كأن يأذن بالصلاة فيه أو عموما كأن يأذن بالكون فيه أو بالفحوى كإدخال الضيف للضيافة ونحوه أو بشاهد الحال كالخانات والرباطات والصحاري وسائر الأماكن المأذون في غشيانها والاستقرار فيها كالحمامات ، ولا تجوز في المغصوب عينا أو منفعة كادعاء الوصية بها أو دعوى الاستيجار كذبا وكإخراج روشن أو ساباط في موضع يمنع فيه. والفرق بين غصب العين وغصب المنفعة مع استلزامه التصرف في العين انه في صورة غصب المنفعة لا يتعرض للعين بغير الانتفاع فلو أراد المالك بيعها أو هبتها لم يمنعه منها بخلاف غصب العين فإنه يمنعه من جميع التصرفات.

هذا ، وقد تقدم نقل كلام الفضل بن شاذان في المقدمة الخامسة وصراحته في جواز الصلاة في المكان المغصوب وان اثم من حيث التصرف بغير اذن المالك بشي‌ء من هذه الأنحاء المذكورة.

قال شيخنا الشهيد في الذكرى : اما المغصوب فتحريم الصلاة فيه مجمع عليه ، واما بطلانها فقول الأصحاب وعليه بعض العامة (1) لتحقق النهي المفسد للعبادة (قالوا) النهي عن أمر خارج عن الصلاة كرؤية غريق يحتاج إلى إنقاذه وليس هناك غير هذا المصلى (قلنا) الحركات والسكنات اجزاء حقيقية من الصلاة وهي منهي عنها وإنقاذ الغريق أمر خارج.

وقال في المدارك : اجمع العلماء كافة على تحريم الصلاة في المكان المغصوب مع الاختيار ، وأطبق علماؤنا على بطلانها أيضا لأن الحركات والسكنات الواقعة في المكان المغصوب منهي عنها كما هو المفروض فلا تكون مأمورا بها ضرورة استحالة كون الشي‌ء الواحد مأمورا به ومنهيا عنه. وخالف في ذلك أكثر العامة (2) وحكموا بصحتها بناء على جواز كون الشي‌ء الواحد مأمورا به منهيا عنه ، واستدلوا عليه بان السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ثم خاطه في ذلك المكان فإنه يكون مطيعا عاصيا لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون. وجوابه ان المأمور به في هذا المثال غير المنهي عنه إذ المأمور به الخياطة والمنهي عنه الكون وأحدهما غير الآخر بخلاف الصلاة الواقعة في المكان المغصوب فان متعلق الأمر والنهي فيهما واحد وهي الحركات والسكنات المخصوصة (فإن قلت) الكون في الخياطة واجب من باب المقدمة فإذا تعلق به النهي اجتمع الواجب والمحرم في الشي‌ء الواحد وهو الذي أنكرتموه (قلت) هذا الاجتماع انما يقتضي فساد ذلك الكون خاصة لا الخياطة ، ووجوبه على تقدير تسليمه انما هو من باب المقدمة والغرض من المقدمة التوصل الى الواجب وان كانت منهيا عنها

__________________

(1 و 2) نسب القرافي المالكي في الفروق ج 2 ص 58 البطلان إلى الحنابلة والصحة إلى المالكية والشافعية والحنفية.


لسقوط الطلب عندها كما هو في سلوك الطريق المغصوب الى الميقات عند وجوب الحج فتأمل. انتهى.

أقول ـ وبالله التوفيق إلى هداية سواء الطريق ـ : الظاهر ان ما ذكره في الذكرى ـ من التعليل بكون الحركات والسكنات منهيا عنها والنهي في العبادة موجب للفساد ـ فهو عليل لا يهدي الى سبيل لما قدمنا تحقيقه في مسألة اللباس من ان القدر المعلوم المتفق عليه هو ان النهي إذا توجه للعبادة من حيث هي عبادة فهو مبطل لها ، واما إذا توجه إليها باعتبار أمر خارج فلا وعلى مدعى البطلان البيان واقامة الدليل والبرهان لما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في هذا المكان زيادة على ما تقدم ، وهذه الحركات والسكنات انما توجه النهي إليها من حيث انها تصرف في مال الغير بغير اذنه ، على انا قد قدمنا ايضا منع توجه النهي بالكلية فإن النهي انما توجه الى لبس هذا الثوب من أول الأمر غاية الأمر أنه قارنه الحركات والسكنات في هذا الثوب وأحدهما غير الآخر.

واما ما ذكره في المدارك من التعليل فالظاهر ايضا انه عليل لا يبرد الغليل ، فان للقائل أن يقول ان ما ذكره ـ من ان اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد محال وهو الذي بنى عليه الاستدلال ـ ان أريد به مع اتحاد جهتي الأمر والنهي فهو مسلم ولكن الأمر هنا ليس كذلك لما عرفت في مسألة اللباس ، وان أريد ولو مع اختلافهما فهو ممنوع وعلى المدعى إثباته بالدليل القاطع والبرهان الساطع وانى به؟ ومستند المنع ما قدمنا ثمة من انه مأمور بإزالة النجاسة عن الثوب والبدن لأجل الصلاة ومنهي عن الإزالة بالمغصوب مع انه لو أزالها بالماء المغصوب صح ذلك وجاز الدخول به في الصلاة ، وكذلك ما ذكره من سلوك الطريق المغصوب الى الحج فإنه مأمور به من حيث كونه مقدمة للواجب ومنهي عنه من حيث كونه تصرفا في مال الغير بغير اذنه فقد اجتمع الأمر والنهي في شي‌ء واحد. وبعين ذلك نقول في الصلاة فإن الحركات والسكنات التي هي عبارة عن القيام والقعود والركوع والسجود مأمور بها من حيث كونها اجزاء من الصلاة


وواجبات فيها ومنهي عنها من حيث كونها تصرفا في مال الغير فتصح الصلاة وان كانت كذلك ، ويؤيد ذلك إطلاق الأمر بالصلاة ، ومدعى منع الاجتماع في ذلك ومحاليته في ذلك عليه الدليل.

وبذلك يظهر ان ادعاء كون اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد محالا ليس على إطلاقه بل انما هو مع اتحاد جهتي الأمر والنهي كما ذكرناه ، والعامة إنما حكموا في هذه المسألة بالصحة لما ذكرناه من اختلاف الجهتين وإلا فإنهم وغيرهم من كافة العقلاء لا يجوزون اجتماع الأمر والنهي مع اتحاد الجهة فيهما ، ويظهر لك ذلك من مثال الخياطة الذي أوردوه لاختلاف الجهتين فيه كما هو ظاهر في ذلك ولذلك جعلوه مطيعا عاصيا باعتبارين.

واما ما أجاب به عن كلام المخالفين بقوله : «وجوابه ان المأمور به في هذا المثال غير المنهي عنه.» فهو مردود بما استشعره أخيرا من ان حاصل استدلالهم على اجتماع الأمر والنهى في مثال الخياطة ان الكون في الخياطة واجب من باب المقدمة لأن الأمر بذي المقدمة أمر بها فيكون مأمورا به لأجل الخياطة وهو منهي عنه من حيث كونه تصرفا في المغصوب بغير اذن المالك فاجتمع الأمر والنهى في شي‌ء واحد.

واما جوابه عن ذلك بقوله : «قلت هذا الاجتماع انما يقتضي فساد ذلك الكون خاصة. إلخ» فهو خروج عن موضع البحث ، إذ الكلام في انه قد منع سابقا اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد وادعى انه محال ونقل عن العامة انهم حكموا بصحته واستدلوا على ذلك بمثال الخياطة ، والحال انه بمقتضى اعترافه بان الكون في الخياطة واجب من باب المقدمة فيكون مأمورا به والحال انه منهي عنه من جهة التصرف في مال الغير فقد سلم اجتماع الأمر والنهى الذي منعه سابقا وادعى محاليته ، وجوابه هذا خارج عن محل البحث لأن صحة الفعل بعد ارتكاب المنهي عنه وعدم صحته لا مدخل لها في المقام ، انما الكلام في أنهم بنوا استدلالهم في هذه المسألة على بطلان الصلاة في المكان المغصوب


على انه يلزم من القول بالصحة اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد وهو محال عقلا وكل ما استلزم المحال فهو باطل ، والحال انه قد اعترف بصحة الاجتماع في مثال الخياطة بالتقريب المذكور ، وبه يتحقق بطلان دليلهم على بطلان الصلاة في المكان المغصوب. وجوابه بان هذا الاجتماع انما يقتضي. إلخ لا تعلق له بأصل المسألة بل يكفي الخصم اعترافه بصحة الاجتماع إذ منى دليلهم على عدم جواز الاجتماع كما عرفت. على ان التحقيق ان ما ذكره من صحة الحج وسقوط الواجب مع قطع الطريق المغصوب انما نشأ من حيث اختلاف جهتي الأمر والنهي كما ذكرنا لا من حيث ما ذكره ، الا ترى انه لو نهى الشارع عن سلوك الطريق المغصوب الى الحج وحج مع سلوكه للزم اجتماع الأمر والنهى في شي‌ء واحد من جهة واحدة ولزم منه فساد الحج البتة لرجوع النهي إليه بطريق الآخرة المستلزم لفساده ، والقول بصحة الحج هنا ممنوع ولا أظنه يقول به. ومثله يأتي في مثال الخياطة لو نهى السيد عن الخياطة في مكان مخصوص فإنه يلزم اجتماع الأمر والنهي من جهة واحدة في أمر واحد ، وحينئذ فحصول الامتثال ممنوع ، وحصول الامتثال في الفرض الأول انما نشأ من حيث اختلاف جهتي الأمر والنهي وان كانا في شي‌ء واحد لا من حيث ما ذكره. وجوابه بان الاجتماع انما يقتضي فساد الكون خاصة انما يتجه على الثاني واما على الأول فإنه يقتضي فساد الخياطة وعدم الامتثال لما أمر به السيد البتة. نعم يمكن الجواب عن مثال الخياطة بأن يقال انه على تقدير وجوب المقدمة مطلقا لنا ان نقول ان الكون هنا ليس مقدمة حتى يلزم ان يكون مأمورا به بل هو من لوازم وجود الجسم ، إذ المقدمة هي الطريق التي يتوصل بها الى الشي‌ء وظاهر ان الكون ليس كذلك فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد. ولو انه (قدس‌سره) أجاب بذلك لاندفع عنه ما ذكرناه من الإيراد وتم له المراد.

وبالجملة فالمسألة ـ كما قدمنا في حكم اللباس ـ لا تخلو من شوب الاشكال والاحتياط فيها بالعمل على القول المشهور ، ويؤيده ما رواه ابن ابي جمهور في كتاب عوالي اللئالي


مرسلا عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «روى عن الصادق (عليه‌السلام) انه سأله بعض أصحابه فقال يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما حال شيعتكم في ما خصكم الله إذا غاب غائبكم واستتر قائمكم؟ فقال (عليه‌السلام) ما أنصفناهم إن آخذناهم ولا أحببناهم إن عاقبناهم بل نبيح لهم المساكن لتصح عباداتهم ونبيح لهم المناكح لتطيب ولادتهم ونبيح لهم المتاجر لتزكو أموالهم». ولو لا إرسال الخبر في هذا الكتاب الذي قد اشتمل على نوع من التساهل في نقل الاخبار لما كان عنه معدل في الحكم بما ذكره الأصحاب إلا ان تأييده ظاهر بلا ارتياب. وقد تقدم في اللباس خبران آخران لا يخلوان من التأييد أيضا في هذا المقام.

ثم انه قال في المدارك على اثر الكلام المتقدم : ومن هنا يظهر رجحان القول بصحة الطهارة الواقعة في المكان المغصوب كما قطع به في المعتبر لان الكون ليس جزء منها ولا شرطا فيها فلا يؤثر تعلق النهي في فسادها.

أقول : فيه ان الكون وان كان كما ذكره ليس جزء من الطهارة ولا شرطا فيها إلا ان حركاته في حال الوضوء كالحركات التي في الصلاة فيأتي فيها ما ذكره في الحركات في الصلاة بعينه ، فان الوضوء شرعا عبارة عن هذه الأفعال المخصوصة من أخذ الماء باليد مثلا وصبه على الوجه وغسله به وهكذا في باقي الأعضاء. وبالجملة فإن الفرق بين حركات الوضوء وحركات الصلاة غير ظاهر فبعين ما يقال هناك يقال هنا.

قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار : واختلفوا في بطلان الطهارة في المكان المغصوب فذهب المحقق الى العدم بناء على ان الكون ليس جزء منها ولا شرطا فيها واليه ذهب العلامة في المنتهى ، والفرق بين الطهارة والصلاة في ذلك مشكل إذ الكون كما انه مأخوذ في مفهوم السكون مأخوذ في مفهوم الحركة وليس الوضوء والغسل إلا حركات مخصوصة ، وليس المكان منحصرا في ما يعتمد عليه الجسم فقط

__________________

(1) المستدرك الوسائل الباب 4 من الأنفال.


فإن الملك والأحكام الشرعية لا تتعلق به خاصة بل يعم الفراغ الموهوم أو الموجود فكل منهما عبارة حقيقة عن الكون أو يشتمل عليه. انتهى.

أقول : قال في المعتبر : مسألة ـ لا تصح الصلاة في مكان مغصوب مع العلم بالغصب اختيارا وهو مذهب الثلاثة واتباعهم ووافق الجبائيان واحمد في إحدى الروايتين وخالف الباقون (1) لنا ـ أنها صلاة منهي عنها والنهي يدل على فساد المنهي عنه (لا يقال) هذا باطل بالوضوء في المكان المغصوب ، وبإزالة عين النجاسة بالماء المغصوب وبان النهي يدل على الفساد حيث يكون متناولا لنفس العبادة ، وليس في صورة النزاع كذلك بل النهي متناول لعارض خارج عن ماهية الصلاة فلا يكون مبطلا (لأنا نقول) الفرق بين الوضوء في المكان المغصوب والصلاة فيه ان الكون بالمكان ليس جزء من الوضوء ولا شرطا فيه وليس كذلك الصلاة فإن القيام جزء من الصلاة وهو منهي عنه لانه استقلال في المكان المنهي عن الاستقلال فيه وكذا السجود وإذا بطل القيام والسجود وهما ركنان بطلت الصلاة ، وازالة النجاسة ليست بعبادة إلا مع نية التقرب وإذا جاز ان تقع غير عبادة أمكن إزالة النجاسة وان كان المزيل عاصيا بالإزالة كما يصح ازالة عين النجاسة من الكافر والطفل ، اما الصلاة فإنها لا تقع إلا عبادة فلا تقع صحيحة مع النهى عنها. وقوله «النهى لم يتناول العبادة» قلنا النهى يتناول العبادة بطريق اللزوم لانه يتناول القيام والسجود ويلزم من بطلانهما بطلان الصلاة. انتهى.

أقول : فيه (أولا) ما أشرنا إليه في مسألة اللباس من انه بمجرد لبس الثوب المغصوب يتحقق الغصب ويترتب الإثم ابتداء واستدامة وهو أمر خارج عن الحركات المخصوصة من حيث هي حركات اعنى القيام والقعود والركوع والسجود ، غاية ما في الباب انها قارنت ذلك التصرف المحرم المنهي عنه والنهي عن المقارن لا يوجب النهي عن المقارن الآخر ، فتوجه النهي إلى القيام والسجود كما ذكره ممنوع.

__________________

(1) ارجع الى التعليقة ص 163.


و (ثانيا) ـ انه مع تسليم تعلق النهي بذلك فانا لا نسلم الفساد إلا إذا كان النهي عن هذه الأشياء من حيث الصلاة ، لأن النهي عن العبادة إنما يبطلها إذا توجه لها من حيث كونها عبادة ، واما لو توجه إليها باعتبار أمر خارج كما في ما نحن فيه فإنه في معنى النهي عن أمر خارج. ومدعى الإبطال في الصورة المذكورة عليه البيان فان المحال الذي رتبوه على الصحة في العبادة متى كانت منهيا عنها من حيث لزوم اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد انما هو في ما إذا اتحدت جهتا الأمر والنهي كما تقدم ذكره لا مع التعدد كما عرفت.

و (ثانيا) ـ ان ما ذكره في الفرق بين الصلاة والوضوء غير موجه ولا ظاهر ، وذلك لان المكان كما يطلق على ما يستقل عليه الإنسان ويعتمد عليه كذلك يطلق على الفراغ الذي يشغله بدن الإنسان كما عرفت في تعريفه الذي ذكروه في هذا المقام من انه الذي يشغله بدن المصلي أو يعتمد عليه ، وحينئذ فللقائل ان يقول كما ان القيام في الصلاة منهي عنه لانه استقلال في المكان المنهي عن الاستقلال فيه كذلك حركات اليد في الوضوء في هذا الفراغ منهي عنها لأنها حركات في المكان المنهي عن الحركة فيه وإذا بطلت هذه الحركات المنهي عنها بطل الوضوء. وبذلك يظهر انه لا فرق ـ لو ثبت ما ذكره ـ بين الصلاة والطهارة في المكان المغصوب.

و (رابعا) ـ ما ذكره في الذكرى من ان الأفعال المخصوصة من ضرورتها المكان فالأمر بها أمر بالكون مع انه منهي عنه. أقول كأنه يشير بذلك الى لزوم اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد إلا انك قد عرفت ما فيه من انه مع تعدد جهتي الأمر والنهي فلا مانع من ذلك ولا محذور فيه.

واما ما أطال به في الذخيرة في الرد عليه فمما لا طائل تحته متى أحطت خبرا بما ذكرناه من التحقيق في المقام.

وبالجملة فالمسألة لخلوها من النصوص لا تخلو من شوب الاشكال ، والاعتماد على


التعليلات العقلية في الأحكام الشرعية مجازفة بل جرأة علي ذي الجلال ، ولا سيما مع ما عرفت من قبول الأمور العقلية للاختلاف باختلاف الأفكار والافهام وتطرق الاختلال.

هذا ، وممن صرح بطلان الطهارة في المكان المغصوب العلامة في النهاية والتذكرة قال : وكذا لو أدى الزكاة وقرأ القرآن المنذور في المكان المغصوب لا يجزئان. اما الصوم في المكان المغصوب فجزم بصحته لانه لا مدخل للكون فيه. وأورد عليه بعدم الفرق بين الصوم وقراءة القرآن مثلا.

إذا عرفت ذلك فتنقيح البحث في المسألة يتوقف على بيان أمور :

(الأول) ـ الظاهر انه لا خلاف في معذورية جاهل أصل الغصب ، واما جاهل الحكم فالمشهور فيه عدم المعذورية ، ومال في المدارك تبعا لبعض مشايخه المحققين ـ والظاهر انه المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) ـ إلى المعذورية.

واما ناسي الغصب فظاهر الأصحاب ان الكلام فيه هنا كالكلام في اللباس ونحن قد قدمنا في ذلك البحث قوة التفصيل بين الوقت وخارجه والإعادة في الأول دون الثاني ، وصاحب المدارك قد اختار هنا ما اختاره المصنف من عدم الإعادة مطلقا ، حيث قال بعد ان ذكر ان صحة صلاة الجاهل بالغصب موضع وفاق بين العلماء : لان البطلان تابع للنهي وهو انما يتوجه الى العالم والأصح ان الناسي كذلك لارتفاع النهي بالنسبة اليه ولهذا اتفق الكل على عدم تأثيمه. انتهى. أقول لا يخفى ان هذا الكلام على إطلاقه لا يخلو من الإشكال لأنه لو تم لاقتضى اطراده في غير مقام من عبادات الناسي مع انه لا خلاف في بطلان صلاة من نسي ركنا من الصلاة ، وأيضا فإنه استفاضت الاخبار بوجوب إعادة الصلاة على من صلى في النجاسة ناسيا ، وقد علل (عليه‌السلام) في بعض تلك الأخبار وجوب الإعادة بإهماله التذكر حيث قال (عليه‌السلام) (1) «يعيد صلاته كي يهتم بالشي‌ء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه». وهو ـ كما ترى ـ صريح

__________________

(1) الوسائل الباب 42 من النجاسات.


في عدم معذورية الناسي لان العقوبة على النسيان وعدم التذكر لا تجتمع مع المعذورية ، وغاية ما يفيده حديث رفع القلم (1) هو عدم العقوبة لا صحة الصلاة وأحدهما غير الآخر وبذلك يظهر ما في استناده الى الاتفاق على عدم التأثيم.

وبالجملة فالمسألة بالنسبة إلى المكان واللباس غير منصوصة والتعليل المذكور لا يصلح لتأسيس حكم شرعي لما عرفت ، وأحكام الناسي في الاخبار في جملة من الأحكام مختلفة ففي بعضها كما تقدم انه غير معذور وفي بعض كنسيان الصوم والأكل فيه حكموا (عليهم‌السلام) بصحة الصوم وعدم وجوب الإعادة مطلقا. ومن ذلك يعلم انه ليس له حكم كلي ولا قاعدة مطردة فالواجب الوقوف على موارد النصوص في كل جزئي ورد الحكم فيه بالعموم أو الخصوص وإلا فالوقوف على ساحل الاحتياط. والله العالم.

(الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب انه لا فرق في عدم جواز الصلاة في الملك المغصوب بين الغاصب وغيره ممن علم بالغصب. وجوز المرتضى والشيخ أبو الفتح الكراجكي الصلاة في الصحاري المغصوبة استصحابا لما كانت عليه قبل الغصب ، ونفى عنه البعد شيخنا المجلسي في البحار. ولو صلى المالك في المكان المغصوب صحت صلاته إجماعا إلا من الزيدية على ما ذكره في الذكرى. ولو اذن المالك للغاصب أو لغيره في الصلاة صحت لارتفاع المانع.

وقال الشيخ في المبسوط : لو صلى في مكان مغصوب مع الاختيار لم تجزئ الصلاة فيه ولا فرق بين ان يكون هو الغاصب أو غيره ممن اذن له في الصلاة فيه لأنه إذا كان الأصل مغصوبا لم تجز الصلاة فيه.

قال شيخنا الشهيد في الذكرى بعد نقل هذه العبارة : واختلف في معناه ففي المعتبر ان الآذن المالك لانه قال الوجه الجواز لمن اذن له المالك ، وقال الفاضل الآذن

__________________

(1) المراد به حديث الرفع المروي في الوسائل في الباب 56 من جهاد النفس وهو قوله «ص» «رفع عن أمتي تسعة أشياء : السهو والخطأ والنسيان. الحديث» ..


الغاصب. وكلاهما مشكل (اما الأول) فلما قاله في المعتبر. و (اما الثاني) فلانه لا يذهب الوهم الى احتمال جواز اذن الغاصب فكيف ينفيه الشيخ معللا بما لا يطابق هذا الحكم؟ ويمكن توجيه الأول بأن المالك لما لم يكن متمكنا من التصرف فيه لم يفد إذنه الإباحة كما لو باعه فإنه باطل ولا يجوز للمشتري التصرف فيه. ويجوز ان يقرأ «إذن» بصيغة المجهول ويراد به الاذن المطلق المستند الى شاهد الحال فان طريان الغصب يمنع من استصحابه كما صرح به ابن إدريس ويكون فيه التنبيه على مخالفة المرتضى (رضي‌الله‌عنه) وتعليل الشيخ مشعر بهذا. انتهى.

وقال شيخنا المجلسي في البحار بعد نقل عبارة الشيخ المذكورة : والظاهر ان مراده بالإذن إذن الغاصب وان كان الوهم لا يذهب إلى تأثير إذنه في الصحة ، إذ يمكن ان يكون الاشتراط مبنيا على العرف وان الغالب انه لا يتمكن الغير من الصلاة فيه الا بإذن الغاصب الغالب. وحمله على ارادة المالك كما هو ظاهر المعتبر بعيد جدا إذ لا جهة للبطلان حينئذ ووجهه في الذكرى بان المالك لما لم يكن متمكنا من التصرف فيه لم يفد إذنه الإباحة كما لو باعه فإنه باطل ولا يجوز للمشتري التصرف فيه. وفيه نظر لمنع الأصل وبطلان القياس فلا يتم الحكم في الفرع. ثم نقل ما احتمله في الذكرى من القراءة بصيغة المجهول وما فرعه عليه ، ثم قال : وليت شعري ما المانع من الحمل على ما ذكرناه مع انه أظهر في عبارته لفظا ومعنى وما الداعي إلى الحمل على ما يوجب تلك التكلفات؟ وسمعنا ان بعض أفاضل المتأخرين ممن ولى عصرنا زاد في الطنبور نغمة وحكم بأنه لا يجوز للمالك ايضا ان يصلي فيه لانه يصدق عليه انه مغصوب ، وهذا فرع ورود تلك العبارة في شي‌ء من النصوص ولا نص فيه على الخصوص بل انما يستدلون بعموم ما دل على عدم جواز التصرف في ملك الغير ثم يحتجون للبطلان بأن النهي في العبادة موجب للفساد ولا يجري ذلك في المالك ومن اذن له ، فكم بين من يحكم بجواز الصلاة وصحتها للغاصب وغيره وان منع المالك صريحا وبين من يقول بهذا القول؟ انتهى كلام شيخنا المشار اليه. وهو جيد. ولعمري ان


من عرف الشيخ وطريقته يقطع ويجزم بأنه لا يذهب الى هذه التدقيقات التي وجه بها في الذكرى كلام المحقق في المعتبر واحتمال القراءة بصيغة المجهول.

(الثالث) ـ الظاهر انه لا خلاف في انه لو امره الآذن بالكون في المكان صريحا أو فحوى بالخروج قبل الاشتغال بالصلاة والوقت متسع فإنه يجب عليه الخروج على الفور لمنع التصرف في مال الغير بغير اذنه فكيف مع النهى صريحا؟ فلو اشتغل بالصلاة والحال هذه بطلت عندهم كما تقدم ذكره لتوجه النهي إلى العبادة الموجب لفسادها وفيه ما عرفت مما تقدم تحقيقه.

انما الخلاف في ما إذا اشتغل بالصلاة قبل الأمر بالخروج ، وفيه وجوه بل أقوال : (الأول) ـ وهو مختار العلامة في الإرشاد وجماعة ـ انه يجب عليه الخروج ويتمها وهو خارج ولا يقطعها ، وعللوه بان فيه جمعا بين حق الله تعالى وامره بإتمام العمل وعدم إبطال العمل وبين حق الآدمي. وأورد عليه بأنه يشكل باستلزامه فوات كثير من أركان الصلاة وبعض شرائطها مع إمكان الإتيان بها كاملة متى كان الوقت متسعا كما هو المفروض ووجوب أتمم العمل مطلقا بحيث يشمل محل النزاع ممنوع.

والثاني ـ وهو الظاهر من كلام الشيخ والمحقق واختاره في المدارك ـ قطع الصلاة مع سعة الوقت وإتمامها مشتغلا بالخروج مع ضيقه (اما الأول) فلعدم جواز الإتمام مستقرا لانه تصرف في ملك الغير بغير رضاه ، وعدم جواز الإتمام خارجا لاستلزامه فوات كثير من الأركان والشرائط والحال انه يمكن الإتيان بها على وجهها بعد الخروج و (اما الثاني) فلأنهما حقان مضيقان فيجب الجمع بينهما بحسب الإمكان وليس إلا ما ذكر

والثالث ـ الإتمام مستقرا مطلقا وهو اختيار الشهيد في الذكرى والبيان تمسكا بمقتضى الاستصحاب وان الصلاة على ما افتتحت عليه (1) وأورد عليه ان منعه ظاهر لتعلق النهي المنافي للصحة. ويزيده تأييدا بناء حق العبادة على التضييق.

__________________

(1) الوسائل الباب 2 من نية الصلاة.


و (الرابع) ـ الفرق بين الاذن بالصلاة والاذن بالكون المطلق فيتم في الأول مستقرا وهو مختار العلامة في أكثر كتبه ، واما في الثاني فاحتمل الأوجه الثلاثة في القواعد والتذكرة وفي النهاية احتمل الأوجه الثلاثة في صورة سعة الوقت واستقرب بطلان الصلاة في صورة الضيق.

و (الخامس) ـ الفرق بين الاذن في الصلاة أو في الكون المطلق أو بشاهد الحال أو الفحوى فيتمها في الأول مطلقا ويخرج في الباقي مصليا مع الضيق ويقطعها مع السعة ، ذهب اليه شيخنا الشهيد الثاني في الروض قال وهذا هو الأجود ، ثم قال ووجهه في الأول ان اذن المالك في الأمر اللازم شرعا يفضي الى اللزوم فلا يجوز له الرجوع بعد التحريم كما لو اذن في دفن الميت في أرضه أو اذن في رهن ماله على دين الغير فإنه لا يجوز له الرجوع بعدهما. وفي البواقي ان الاذن في الاستقرار لا يدل على إكمال الصلاة بإحدى الدلالات فإنه أعم من الصلاة والعام لا يدل على الخاص وشاهد الحال أضعف من الإطلاق. واما القطع مع السعة فلاستلزام التشاغل بها فوات كثير من أركانها مع القدرة على الإتيان بها على الوجه الأكمل بخلاف ما لو ضاق الوقت فإنه يخرج مصليا مومئا للركوع والسجود بحيث لا يتثاقل في الخروج عن المعتاد مستقبلا ما أمكن قاصدا أقرب الطرق تخلصا من حق الآدمي المضيق بحسب الإمكان. انتهى كلامه زيد مقامه.

قالوا وكذا يخرج متشاغلا بالصلاة لو امره بالخروج مع ضيق الوقت قبل الشروع في الصلاة جمعا بين الحقين كما تقدم.

أقول : لا يخفى ان المسألة لما كانت عارية من النصوص كثرت فيها الاحتمالات وتصادمت فيها التخريجات والحكم فيها مشكل لما عرفت ، والاحتياط مطلوب بل واجب لأن المسألة من الشبهات التي يجب فيها الاحتياط عندنا إلا ان الأقرب الى قواعدهم والأنسب بضوابطهم هو قطع الصلاة مع الاشتغال بها في سعة الوقت والإتيان بها كاملة الأفعال بعد الخروج ، واما مع ضيق الوقت فان مقتضى قواعدهم في مثل هذه الصورة


هو وجوب الإتمام مستقرا آتيا بأفعالها في المكان المغصوب ، وذلك فان اباحة المكان عندهم انما هو من شروط الصحة كستر العورة وطهارة الساتر ونحوهما ، وقد قرروا في الأصول ان شروط الصحة انما تجب مع الإمكان وإلا سقط اعتبارها ، وقد ساعدتهم الاخبار على ذلك لما ورد في من فقد الساتر انه يصلي عاريا ، ومن فقد الطهارة صلى بالنجاسة على أشهر القولين وأظهرهما ، ومن فقد القبلة صل الى اي جهة شاء أو الى أربع جهات (فان قيل) انا لا نمنع من الصلاة والإتيان بها بالكلية ليلزم ما ذكرتم فانا نوجب عليه الصلاة لكن بهذه الكيفية المتقدمة مشتغلا بالخروج (قلنا) من الظاهر ان الصلاة المأمور بها شرعا المنصرف إليها الإطلاق هي الصلاة المعهودة المشتملة على الإتيان بالأركان والواجبات على وجهها واستقبال القبلة ونحوها وهي المعلومة عن صاحب الشرع ، خرج ما خرج منها بدليل كصلاة المريض وصلاة الحرب وصلاة الخوف والصلاة في السفينة ونحو ذلك مما دلت عليه الأدلة الشرعية وبقي ما بقي. ويعضده انه لم يقم دليل على هذا الشرط من أصله أعني اشتراط الإباحة في المكان ، وبالجملة فالوقوف على جادة الاحتياط طريق السلامة من الوقوع في هذا الاحتباط. والله العالم.

(الرابع) ـ هل تبطل الصلاة تحت السقف والخيمة المغصوبين مع اباحة المكان أم لا؟ اشكال لا من حيث المكان إذ لا يدخل ذلك في تعريف المكان المتقدم وانما هو من حيث ان هذا تصرف في المغصوب إذ التصرف في كل شي‌ء بحسب ما يليق به وما أعد له ولا ريب ان الغرض من الخيمة والسقف هو الجلوس تحتهما ، قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض بعد تعريف المكان بتعريفين ذكرهما والبحث فيهما ما لفظه : وعلى التعريفين لا تبطل صلاة المصلي تحت سقف مغصوب أو تحت خيمة مغصوبة مع اباحة مكانهما لانتفاء اسم المكان فيهما ، هذا من حيث المكان اما من حيث استلزام ذلك التصرف في مال الغير فيبني على ان منافاة الصلاة لحق الآدمي هل يعد مبطلا لها أم لا؟ بل يمكن بناؤها على حكم الصلاة في المستصحب المغصوب غير الساتر ، وقد تقدم الكلام فيه وان


الدليل العقلي لا يساعد على البطلان فإن النهي ضمنا انما يتوجه الى الضد العام للتخلص من المغصوب وهو تركه لا للاضداد الخاصة. وبالجملة فلا نص يعول عليه في أمثال ذلك ولا يتحقق بدونه الحكم ببطلان الصلاة بالنهي عما ليس شرطا للصلاة ولا جزء. والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى. أقول : وملخصه هو صحة الصلاة وان اثم من حيث التصرف في المغصوب بناء على ما قدمناه من ان التصرف في كل شي‌ء بحسب ما يليق به وما يترتب عليه من المنفعة. وهو جيد.

(الخامس) ـ هل يكفي في شاهد الحال في هذا المقام الدلالة الظنية أو لا بد من العلم؟ قولان ظاهر المشهور الأول وصرح جمع : منهم ـ السيد السند في المدارك بالثاني ، وأكثر الأصحاب فسره بما إذا كان هناك امارة تشهد بان المالك لا يكره وهو أعم من العلم.

ويمكن ان يؤيد القول المشهور بعمومات الأخبار الدالة على جعل الأرض مسجدا له (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (1) فان المراد به محل الصلاة كما فسره به الأصحاب (رضوان الله عليهم) وأطلق السجود على الصلاة تسمية للكل باسم الجزء ، وفي بعض تلك الأخبار «جعلت لك ولأمتك الأرض كلها مسجدا. الحديث» (2). وفي بعض آخر «ان الله تعالى جعل لي الأرض مسجدا وطهورا أينما كنت أتيمم من تربتها وأصلي عليها» (3).

وأنت خبير بأن الأنسب بسعة هذا الامتنان منه سبحانه على رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعلى أمته هو الاكتفاء بمجرد ظن الرضا ، على ان اعتبار العلم ينفي فائدة هذا الحكم إذ قلما يتحقق ذلك في مادة.

والظاهر ـ كما استظهره جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) : منهم ـ الفاضل الخراساني في الذخيرة وشيخنا المجلسي في البحار ـ هو جواز الصلاة في كل موضع لا يتضرر المالك بالكون فيه وكان المتعارف بين الناس عدم المضايقة في أمثاله وان فرضنا عدم

__________________

(1) الوسائل الباب 7 من التيمم.

(2 و 3) مستدرك الوسائل الباب 5 من التيمم.


العلم برضا المالك هناك على الخصوص ، نعم لو ظهرت كراهة المالك لامارة لم تجز الصلاة فيه مطلقا. وكيف كان فالظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في جواز الصلاة في الصحاري والبساتين إذا لم يتضرر المالك بها ولم تكن امارة تشهد بعدم الرضا وان لم يأذن المالك صريحا أو فحوى. وفي حكم الصحاري الأماكن المأذون في غشيانها على وجه مخصوص إذا اتصف به المصلي كالحمامات والخانات والأرحية ونحوها. ولا يقدح في الجواز كون الصحراء لمولى عليه بشهادة الحال ولو من الولي ، قال في الذكرى : ولو علم انها لمولى عليه فالظاهر الجواز لإطلاق الأصحاب وعدم تخيل ضرر لا حق به فهو كالاستظلال بحائطه ولو فرض ضرر امتنع منه ومن غيره. ووجه المنع ان الاستناد الى ان المالك اذن بشاهد الحال والمالك هنا ليس أهلا للإذن. إلا ان يقال ان الولي أذن هنا والطفل لا بد له من ولي. انتهى. وبالجملة فالعمدة عموم الأخبار المشار إليها آنفا إذا لم تخرج تلك الافراد منها بدليل. والله العالم.

(المسألة الثانية) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في جواز تساوي الرجل والمرأة في موقف الصلاة وكذا تقدم المرأة مع عدم البعد والحائل ، فقال الشيخان وأبو الصلاح وابن حمزة بالمنع والظاهر انه المشهور بين المتقدمين وهو المختار ، وقال المرتضى في المصباح انه مكروه غير مبطل لصلاة أحدهما وبه قال ابن إدريس وهو المشهور بين المتأخرين.

والأصل في ذلك اختلاف الاخبار وبه اختلفت الانظار والأفكار ، وها انا اذكر لك ما وقفت عليه من الاخبار مذيلا لكل منها بما يكشف عن معناه نقاب الإبهام ومنبها على ما هو المستفاد منها في المقام على وجه تذعن اليه ثواقب الافهام :

فمن أخبار المسألة ما رواه الصدوق في الصحيح عن جميل عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «لا بأس ان تصلي المرأة بحذاء الرجل وهو يصلي فإن النبي (صلى

__________________

(1) الوسائل الباب 4 من مكان المصلى.


الله عليه وآله) كان يصلي وعائشة مضطجعة بين يديه وهي حائض وكان إذا أراد ان يسجد غمز رجليها فرفعت رجليها حتى يسجد».

أقول : هذا الخبر بحسب ظاهره مما يدل على الجواز وبه استدل في المدارك على ذلك إلا انه لم يذكر منه إلا الى قوله «وهو يصلي» وأسقط قوله «فإن النبي كان يصلي. إلخ» وأنت خبير بأنه وان دل على الجواز كما ذكروه إلا ان التعليل الذي اشتمل عليه الخبر لا يلائمه ولا ينطبق عليه ولهذا استظهر المحدث الكاشاني في الوافي حصول التصحيف في الخبر وان الصواب في العبارة «انه لا بأس ان تضطجع المرأة بحذاء الرجل وهو يصلي» وتأوله بعض بتأويلات تخرجه عن الاستدلال لينطبق التعليل فيه على الكلام المتقدم ، وحينئذ فالخبر من حيث هذه العلة لا يصلح للاستدلال. والعجب من السيد (قدس‌سره) في تركه تتمة الخبر والحال كما ترى ومثل هذا معيب عند المحدثين كما نبه عليه غير واحد ، فإن التتمة المذكورة مما لها مدخل في الخبر من حيث التعليل ، ولهذا ان الناظر في الخبر بتمامه لا يخفى عليه ما فيه من العلة الموجبة لتوقفه عن الاستدلال به والناظر في ما ذكره من الخبر يجزم بصحة الاستدلال به على الجواز ، وبذلك يظهر العيب في ترك نقله بتمامه.

ومنها ـ ما رواه الشيخ في التهذيب بسند فيه ابن فضال عن من أخبره عن جميل بن دراج عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) «في الرجل يصلي والمرأة تصلي بحذائه؟ قال لا بأس». وهذه الرواية بحسب ظاهرها دالة على الجواز إلا انه سيأتي في معارضتها ما هو أرجح سندا وأكثر عددا وأصرح دلالة فيجب حملها على وجود الحائل أو بعد عشرة أذرع كما ذكره الشيخ (قدس‌سره) وهو وان كان بعيدا في حد ذاته إلا انه في مقام الجمع بينها وبين أخبار المسألة الآتية غير بعيد كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى من انطباق أخبار المسألة كملا على المنع ، فإنه إذا اتفقت الأخبار كلها على ذلك ولم تخرج

__________________

(1) الوسائل الباب 5 من مكان المصلي.


إلا هذه الرواية فالواجب ردها إليها وإلا فطرحها البتة.

ومنها ـ صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «إذا كان بينها وبينه قدر ما يتخطى أو قدر عظم الذراع فساعدا فلا بأس». أقول : وهذه الرواية مما استدل بها في المدارك على الجواز ايضا. وفيه انه لا يظهر وجه لاشتراط هذا المقدار المذكور في الرواية مع جواز المساواة ، فالظاهر حملها ـ كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى من غيرها ـ على تقدم الرجل بهذا المقدار على المرأة فإنه كاف للجواز لحصول التقدم بذلك وانما الممنوع منه هو المساواة ، وكيف كان فظهور هذا الاحتمال مما يمنع من الاستناد إليها في الاستدلال.

ومنها ـ صحيحة معاوية بن وهب عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) «انه سأل عن الرجل والمرأة يصليان في بيت واحد فقال إذا كان بينهما قدر شبر صلت بحذائه وحدها وهو وحده لا بأس». وهذه الرواية مما استدل بها في المدارك ايضا على الجواز والظاهر هو حملها على ما حمل عليه سابقها من تقدم الرجل بالشبر ، والمراد بالمحاذاة في الخبر مجرد القرب لا المساواة في الموقف كما سيأتي نحوه في موثقة عبد الله بن بكير فلا منافاة. وبذلك صرح شيخنا البهائي زاده الله بهاء وشرفا في كتاب الحبل المتين فقال بعد حمل الخبر المذكور على ما ذكرناه : واما ما يترائى من منافاته لقوله (عليه‌السلام) «صلت بحذائه» فيمكن توجيهه بحصول المحاذاة بين بعض أعضائه وأعضائها في حالتي الركوع والسجود وهو كاف في إطلاق كون صلاتها بحذائه. انتهى.

ومنها ـ صحيحة عبد الله بن ابي يعفور (3) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أصلي والمرأة إلى جنبي وهي تصلي؟ فقال لا إلا ان تتقدم هي أو أنت ، ولا بأس ان تصلي وهي بحذائك جالسة أو قائمة». وهذه الرواية مما استدل بها في المدارك على ما اختاره من الجواز ، والظاهر ان بناء الاستدلال بها من حيث توهم حملها على جواز تقدم المرأة على

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 5 من مكان المصلي.


الرجل حال صلاتهما معا ، وهو غلط بل سياق الرواية ينادي بأن المراد بالتقدم انما هو في ان يصلي الرجل أولا وحده أو المرأة وحدها ثم يصلي الآخر بعده وإلا فكيف يمنع (عليه‌السلام) المحاذاة ويجوز تقدم المرأة وهي أشد في المنع؟ ويعضده ايضا قوله في الخبر : «ولا بأس ان تصلي وهي بحذائك جالسة» وهو إشارة إلى ثبوت البأس في ما منع منه من المحاذاة حال الصلاة الذي تعلق به السؤال.

ومنها ـ صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن المرأة تصلى عند الرجل؟ فقال لا تصلى المرأة بحيال الرجل إلا ان يكون قدامها ولو بصدره». وهذه الرواية مما استدل بها في المدارك على ما ذهب اليه من الجواز ايضا وهي ظاهرة كغيرها مما عرفت من أكثر الأخبار المتقدمة في العدم ، نعم هي ظاهرة في الاكتفاء في تقدم الرجل المجوز لصلاته مع المرأة في مكان واحد بالتقدم ولو بمقدار صدره ، وهذا مما يقرب من اشتراط التقدم بشبر ونحوه.

ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (2) «في المرأة تصلي عند الرجل؟ فقال إذا كان بينهما حاجز فلا بأس». وهذه ايضا مما استدل بها في المدارك على الجواز وهي في الدلالة على خلافه أظهر إذ ظاهرها انما هو الجواز مع الحائل ومفهومها ثبوت البأس مع عدم الحائل فهي عليه لا له.

ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (3) قال : «سألته عن الرجل يصلي في زاوية الحجرة وامرأته أو ابنته تصلي بحذائه في الزاوية الأخرى؟ فقال لا ينبغي له ذلك فان كان بينهما ستر أجزأه». هكذا في رواية الكافي للخبر المذكور ورواه الشيخ في التهذيب بلفظ «شبر» وزاد «يعني إذا كان الرجل متقدما على المرأة بشبر» وهذه الزيادة يحتمل ان تكون من كلام الشيخ ويحتمل ان تكون من الراوي.

__________________

(1) الوسائل الباب 6 من مكان المصلي.

(2) الوسائل الباب 8 من مكان المصلي.

(3) الوسائل الباب 5 من مكان المصلى.


قال في المدارك : ولفظ «لا ينبغي» ظاهر في الكراهة ، والظاهر ان الستر بالسين المهملة والتاء المثناة من فوق ، وقال الشيخ في التهذيب ان المعنى ان الرجل إذا كان متقدما على المرأة بشبر أجزأه وهو بعيد. انتهى. أقول : ظاهره ان مبنى استدلاله بالخبر المذكور على ما ذكره من ان لفظ «لا ينبغي» ظاهر في الكراهة. وفيه منع فإنه ان أراد ظهوره في عرف الناس فهو مسلم ولكن لا يجدي نفعا وان أراد في عرفهم (عليهم‌السلام) فهو ممنوع لما أوضحناه في غير مقام مما تقدم في مباحث الكتاب من ان الحق ان هذا اللفظ من الألفاظ المشتركة في عرفهم (عليهم‌السلام) فلا يحمل على أحد معنييه إلا مع القرينة والقرينة هنا ظاهرة في التحريم لان قوله (عليه‌السلام) «فان كان بينهما ستر أجزأه» يدل بمفهوم الشرط الذي هو حجة عنده وعند المحققين على عدم الاجزاء مع عدمه وحينئذ فتكون الرواية من أدلة الشيخين ومن تبعهما في القول بالتحريم. ومثل هذه الرواية ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من نوادر البزنطي عن محمد الحلبي (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصلي في زاوية الحجرة وامرأته أو ابنته تصلي بحذائه في الزاوية الأخرى؟ قال لا ينبغي ذلك إلا ان يكون بينهما ستر فان كان بينهما ستر أجزأه». وهي أظهر في ما قلناه هذا كله على تقدير ما نقله من الرواية بلفظ الستر واما على ما في رواية الشيخ (قدس‌سره) في التهذيب من لفظ الشبر بالشين المعجمة والباء الموحدة فالوجه فيه ما ذكره الشيخ من تقدم الرجل بهذا المقدار واستبعاده له بعيد كما أشار إليه شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين.

ومنها ـ صحيحة حريز أو حسنته عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) «في المرأة تصلي إلى جنب الرجل قريبا منه؟ فقال إذا كان بينهما موضع رجل فلا بأس». والتقريب فيها ما تقدم في أمثالها من تقدم الرجل بذلك المقادير المذكورة إلا انه قدره هنا بموضع الرجل وهو ما يجعل على البعير كالسرج للفرس وهو يقرب من الذراع.

__________________

(1) الوسائل الباب 8 من مكان المصلي.

(2) الوسائل الباب 5 من مكان المصلى.


ومنها ـ رواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) «في الرجل والمرأة يصليان في وقت واحد المرأة عن يمين الرجل بحذائه؟ فقال لا إلا ان يكون بينهما شبر أو ذراع». والتقريب فيها ظاهر حيث نهى عن المحاذاة إلا مع تقدم الرجل بالشبر أو الذراع

وما رواه محمد بن مسلم في الصحيح (2) قال : «سألته عن المرأة تزامل الرجل في المحمل يصليان جميعا؟ فقال لا ولكن يصلي الرجل فإذا فرغ صلت المرأة». وهي ظاهرة في التحريم كما اخترناه.

وصحيحة إدريس بن عبد الله القمي (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصلي وبحياله امرأة نائمة على فراشها جنبا؟ فقال ان كانت قاعدة فلا تضره وان كانت تصلي فلا». وهي كسابقتها ظاهرة في التحريم.

ورواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصلي والمرأة بحذائه يمنة أو يسرة؟ قال لا بأس به إذا كانت لا تصلى». وهي ظاهرة في المدعى ايضا.

وموثقة ابن بكير عن من رواه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (5) «في الرجل يصلي والمرأة تصلي بحذائه أو الى جانبه؟ فقال إذا كان سجودها مع ركوعه فلا بأس». وهي كالأخبار المتقدمة في الجواز بشرط تقدمه عليها بهذا المقدار الذي يقرب من شبر أو ذراع.

ورواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (6) قال : «سألته عن الرجل والمرأة يصليان جميعا في المحمل؟ قال لا ولكن يصلي الرجل وتصلي المرأة بعده». وهي صريحة في المطلوب كصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة المتضمنة للصلاة في المحمل أيضا.

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 5 من مكان المصلي.

(3 و 4) الوسائل الباب 4 من مكان المصلي.

(5) الوسائل الباب 6 من مكان المصلي.

(6) الوسائل الباب 10 من مكان المصلى.


وموثقة عمار الساباطي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) «انه سئل عن الرجل يستقيم له ان يصلي وبين يديه امرأة تصلي؟ قال لا يصلي حتى يجعل بينه وبينها أكثر من عشرة أذرع ، وان كانت عن يمينه أو عن يساره جعل بينه وبينها مثل ذلك وان كانت تصلي خلفه فلا بأس وان كانت تصيب ثوبه. الحديث».

وروى في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الرجل يصلي الضحى وامامه امرأة تصلي بينهما عشرة أذرع؟ قال لا بأس ليمض في صلاته».

أقول : ان المستفاد من هذه الاخبار بعد ضم مجملها الى مفسرها ومطلقها الى مقيدها ان الواجب في صلاة الرجل مع المرأة في مكان دفعة ان المرأة ان كانت متقدمة فلا بد من حاجز أو قدر عشرة أذرع فصاعدا ، وهكذا إذا كانت الى أحد جانبيه محاذية له في الموقف فلا بد من أحد الأمرين ، واما مع تأخرها ولو بشي‌ء من المقادير المذكورة في تلك الاخبار فإنه لا بأس وصلاة كل منهما صحيحة ولا يشترط هنا أزيد من ذلك.

وبذلك يظهر ما في كلامه في المدارك وكذا من تبعه حيث قال بعد نقل الأخبار التي أشرنا إلى انه استدل بها. ما صورته : وجه الدلالة من هذه الأخبار اشتراكها في عدم اعتبار الحائل أو التباعد بالعشرة وإذا انتفى ذلك ثبت الجواز مطلقا إذ لا قائل بالفصل ، وعلى هذا فيجب حمل الأخبار المقيدة على الاستحباب صونا للاخبار من التنافي ، ولا ينافي ذلك اختلاف القيود لان مراتب الفضيلة مختلفة ، وبالجملة فهذا الاختلاف قرينة الاستحباب. انتهى.

أقول : قد عرفت انه لا اختلاف هنا بين الأخبار المذكورة بل كلها متفقة الدلالة عدا رواية جميل المتقدمة أول الروايات على ما ذكرناه. قوله ـ وجه الدلالة من هذه الاخبار اشتراكها في عدم اعتبار الحائل أو التباعد ـ مردود بأن الحائل والتباعد المذكورين انما يعتبران في تقدم المرأة على الرجل أو محاذاتها لأحد جانبيه بحيث تساويه في الموقف

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 7 من مكان المصلي.


لا في صورة تأخرها وان كان قليلا. ومنشأ الشبهة عنده ان أكثر الروايات الدالة على الشبر أو الذراع أو ما لا يتخطى ونحو ذلك من التقديرات المذكورة قد حملها على مساواة الرجل للمرأة في الموقف ولكن تتباعد عنه بهذه المقادير كما يشير اليه قوله : «ولا ينافي ذلك اختلاف القيود» يعني اختلاف التباعد بكونه بعشرة أذرع في بعض وقدر عظم الذراع في بعض وما لا يتخطى في ثالث وهكذا. وهو غلط محض فان هذه الروايات لإجمالها وان أوهمت ذلك لكن هنا أخبار أخر قد صرحت بما ذكرناه من ان المراد بهذه المقادير في تقدم الرجل على المرأة لا مع المحاذاة مثل موثقة ابن بكير الدالة على نفي البأس إذا كان سجودها مع موضع ركوعه ، وصحيحة زرارة الدالة على انه لا يجوز ان تصلي بحياله إلا ان يكون الرجل قدامها بصدره وهو مما يقرب من الشبر. وبذلك يظهر لك وجه حمل إجمال تلك الأخبار على هذين الخبرين وبه يحصل انتظام هذه الاخبار مع اخبار المنع الصريحة في التحريم كما قدمناها ، على ان ما ذكرناه ان لم يكن متعينا فلا أقل من ان يكون محتملا وبه يسقط استدلاله بهذه الأخبار وحينئذ فلا تصلح لمعارضة ما قدمناه من الأخبار الصريحة والظاهرة في التحريم حتى انه يرتكب الجمع بحمل ما ذكره من رواية عمار ونحوها على الكراهة زعما منه انحصار دليل التحريم في رواية عمار ونحوها مما ذكره ، واما على ما ذكرناه من القول بالتحريم وحمل إجمال تلك الروايات التي توهم فيها ما ذكرناه على الروايات المفصلة فإن الروايات تكون متفقة على تحريم تقدم المرأة ومساواتها للرجل إلا مع الحائل أو البعد بعشرة أذرع واما مع التأخر ولو بشي‌ء من تلك المقادير فلا إشكال في صحة صلاتهما.

ثم انه قال في المدارك بعد ما نقلناه عنه من الروايات وما ذيلها به مما أوضحنا بطلانه : احتج المانعون بموثقة عمار الساباطي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) «انه سئل عن الرجل.». ثم ذكرها كما قدمناه ثم قال وصحيحة محمد عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : «سألته عن المرأة تزامل الرجل في المحمل. الخبر». وقد قدمناه ، ثم قال وصحيحة علي


ابن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن امام كان في الظهر فقامت امرأة بحياله تصلي معه وهي تحسب انها العصر هل يفسد ذلك على القوم؟ وما حال المرأة في صلاتها معهم وقد كانت صلت الظهر؟ فقال لا يفسد ذلك على القوم وتعيد المرأة». والجواب بحمل النهي في الروايتين الأوليين على الكراهة وحمل الأمر بالإعادة في الرواية الأخيرة على الاستحباب صونا للاخبار عن التنافي ، مع ان الأمر بالإعادة لا يتعين كونه بسبب المحاذاة لاحتمال ان يكون بسبب اقتدائها في صلاة العصر بمن يصلي الظهر مع اعتقادها انها العصر فلا تدل على أحد الأمرين نصا. انتهى.

وفيه (أولا) ان دليل التحريم غير منحصر في ما ذكره لما عرفت من الاخبار التي قدمناها وبينا دلالتها على ذلك.

و (ثانيا) ما عرفته في غير موضع مما تقدم من انه لا دليل على هذا الجمع بين الاخبار من الحمل على الكراهة والاستحباب وان اتخذوه طريقا مهيعا في جميع الأبواب ، وكيف يحصل صون الاخبار عن التنافي مع تصريحهم في الأصول بأن الأصل في الأمر الوجوب وفي النهي التحريم وبموجب ذلك يلزم العقاب والعذاب على ترك ما أمر به وارتكاب ما نهى عنه ، مع ان الاستحباب مما يؤذن بجواز الترك والكراهة مما يؤذن بجواز الفعل ، فكيف مع هذا يحصل صون الاخبار عن التنافي ويخرج المكلف عن العهدة بما قالوه.

و (ثالثا) ما عرفت من انه لا معارض لهذه الأخبار الدالة على التحريم إلا ما توهمه من تلك الأخبار الواردة في المحاذاة المتضمنة للفصل بتلك المقادير المتقدمة ، والحال انك قد عرفت الوجه فيها وانها تنطبق مع هذه الاخبار على أحسن وجوه الانطباق وتتفق معها بأظهر وجوه الاتفاق. نعم تبقى رواية جميل المتقدمة وقد عرفت الجواب عنها.

و (رابعا) ان من العجيب قوله في الجواب عن صحيحة علي بن جعفر : «ان الأمر بالإعادة لا يتعين كونه بسبب المحاذاة. إلخ» وان تبعه فيه من تبعه فإن اسناد الابطال

__________________

(1) الوسائل الباب 9 من مكان المصلي.


الى ما ذكره وقيامه احتمالا في معنى الرواية المذكورة يتوقف على وجود دليل على ذلك من خارج مع انه لا دليل ولا قائل بذلك والاستناد الى هذه الرواية في ذلك مصادرة في البين.

وبالجملة فإن التحقيق عندي في المسألة هو ما كشفت عنه نقاب الإبهام وأوضحته لجميع الافهام. والله العالم.

بقي في المقام فوائد يحسن التنبيه عليها (الاولى) قد صرح جمع من الأصحاب : منهم ـ العلامة والشهيدان والسيد السند في المدارك بأنه يشترط في تعلق الحكم بكل منهما كراهة وتحريما صحة صلاة الأخر لو لا المحاذاة بأن تكون جامعة لجميع الشرائط المعتبرة في الصحة سوى المحاذاة ، فلا يتعلق الحكم بالفاسدة بل تصح الأخرى من غير كراهة إذ الفاسدة في حكم العدم. واحتمل شيخنا الشهيد الثاني عدم الاشتراط لصدق الصلاة على الفاسدة ونفى عنه البعد في الذخيرة. أقول : كأنه لصحة قولهم انها صلاة فاسدة فإطلاق الصلاة أعم من الصحيحة والفاسدة.

ثم انهم ذكروا انه على الأول فالمعتبر في رفع المنع العلم بالفساد قبل الشروع ولو علم بعد الفراغ لم يؤثر في الصحة لأن الصلاة صارت باطلة بالمحاذاة على القول بالتحريم أو متصفة بالكراهة على القول الآخر ، وظهور الفساد بعد الفراغ لا يؤثر في صحتها أو زوال الكراهة عنها بعد ما ثبت اتصافها به.

أقول : الظاهر ان ما ذكروه من الحكم ـ بأنه متى ظهر الفساد بعد الفراغ فإنه لا يؤثر في صحة الصلاة من حيث بطلانها ظاهرا بالمحاذاة ـ مبني على مسألة أخرى وهو ان الصلاة إذا كانت صحيحة بحسب الواقع ونفس الأمر وان كانت بالنظر الى الظاهر باطلة فهل يحكم بصحتها باعتبار ما كانت عليه في الواقع أو يحكم بالبطلان بالنظر الى الظاهر؟ المشهور الثاني وعليه يتجه ما ذكره الأصحاب هنا من بطلان صلاة المحاذي لمن كانت صلاته صحيحة بحسب الظاهر لو لا المحاذاة وان كانت باطلة في نفس الأمر بغيرها إلا انه


انما علم بعد الفراغ فإنه يصدق على الصلاة المذكورة انها صحيحة في الواقع لبطلان تلك الصلاة الأخرى في الواقع وباطلة في الظاهر من حيث المحاذاة في تلك الصلاة الصحيحة ظاهرا ، اما على ما ذهب اليه جمع من الأصحاب من القول الأول في تلك المسألة ـ ومنهم ـ السيد السند في كتابه حيث قال في مسألة الصلاة قبل الوقت جاهلا أو ناسيا : ولو صادف الوقت صلاة الناسي أو الجاهل بدخول الوقت ففي الإجزاء نظر من حيث عدم الدخول الشرعي ومن مطابقة العبادة ما في نفس الأمر وصدق الامتثال. والأصح الثاني وبه قطع شيخنا المحقق سلمه الله تعالى. الى آخر كلامه ـ فالوجه هو الصحة إذ لا ريب ان ما نحن فيه كذلك لان المفروض ان تلك الصلاة فاسدة واقعا فهي في حكم العدم وان لم يعلم المحاذي لها إلا بعد الفراغ ، والمحاذاة الموجبة لبطلان الصلاة انما هي محاذاة الصلاة الصحيحة وهذه الصلاة قد ظهر بطلانها فلا تؤثر المحاذاة لها في بطلان صلاة المحاذي بعد ظهور ذلك ، فصلاة المحاذي خالية من المبطل بحسب الواقع وقت صلاته فتدخل تحت تلك المسألة ، فكيف اختار هنا ما ذهب إليه الأصحاب (رضوان الله عليهم) والحال ان المسألتين من باب واحد.

والظاهر الرجوع في الفساد الى اخبار المصلي عن نفسه بفساد صلاته إلا ان يعلم ذلك بوجه آخر. واما ما ذكره في الذخيرة ـ حيث قال : «وهل يقبل قوله في الفساد؟ وجهان» مما يؤذن بتوقفه في ذلك ـ فالظاهر ضعفه وكيف لا يقبل قوله مع عموم «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (1). ونحوه من الأدلة العامة.

(الثانية) ـ إطلاق كلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق بين اقتران الصلاتين أو سبق إحداهما في بطلان كل منهما ، ونقل عن جمع من المتأخرين تخصيص البطلان بالمقارنة والمتأخرة دون السابقة ، وإطلاق الروايات المتقدمة ظاهر في الدلالة على القول

__________________

(1) قال في الوسائل في الباب 3 من كتاب الإقرار : روى جماعة من علمائنا في كتب الاستدلال عن النبي «ص» انه قال : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» ..


الأول ، وظاهر صحيحة علي بن جعفر المشتملة على قيام المرأة بحيال امام كان في صلاة الظهر يدل على الثاني فيمكن ان يقيد بها إطلاق تلك الاخبار ، ويؤيده ان المتبادر من جملة من عبارات تلك الأخبار ان المراد من قوله : «يصلي والمرأة بحياله» يعني يريد الصلاة ، وحاصل السؤال حينئذ انه هل يجوز له الدخول في الصلاة والحال هذه؟ ويؤكده ايضا انه لم يعهد في القواعد الشرعية بعد افتتاح الصلاة على الصحة تأثير فعل الغير بغير اختيار المكلف في إبطالها ، وبذلك يظهر قوة القول الثاني وهو الذي اختاره في المدارك فقال : وينبغي القطع بصحة الصلاة المتقدمة لسبق انعقادها وفساد المتأخرة خاصة ومع الاقتران تبطل الصلاتان لعدم الأولوية. انتهى. وظاهره الاستناد إلى أصالة الصحة حتى يقوم دليل الابطال وهو قوى بناء على ما ذكرناه. وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال فالاحتياط كما هو القول المشهور اولى. واما ما ذهب اليه بعضهم من عدم دلالة صحيحة علي بن جعفر على ما ذكرنا بناء على جواز استناد بطلان صلاتها الى ما قدمنا نقله عن صاحب المدارك ـ من ان العلة في فساد صلاتها الاقتداء في صلاة العصر بمن يصلي الظهر مع اعتقادها انها العصر ـ فقد عرفت انه خيال فاسد أوجبه التعصب في متابعة القول المشهور في تلك المسألة.

(الثالثة) ـ قد صرحوا أيضا بأنهما لو صليا ولم يعلم أحدهما بالاخر إلا بعد الفراغ صحت الصلاتان جميعا واما في الأثناء فان كلا منهما يستمر لسبق الانعقاد ، وممن صرح بذلك واختاره السيد السند في المدارك ، وقال في الذخيرة : ويحتمل قويا وجوب الإبطال في سعة الوقت ان لم يمكن ازالة المانع بدون المبطل. انتهى. أقول : لا يخفى ما في هذا الاحتمال من القوة وهو الأنسب عندي بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية ، فإن ما اعتمدوا عليه في تعليل الاستمرار من سبق الانعقاد لا يخلو من النظر ، ولا ريب ان هذه المسألة وان لم يقم عليها نص بالخصوص إلا ان النصوص في نظائرها من عروض البطلان في أثناء الصلاة كثيرة ولم يتضمن شي‌ء منها وجوب المضي على ذلك المبطل بل


فيها ما يدل على انه ان أمكن إزالته بما لا يبطل الصلاة وإلا قطع الصلاة كاخبار الرعاف في أثناء الصلاة (1) ووجود النجاسة في الثوب في الأثناء (2) ونحو ذلك ، وبه يظهر قوة الاحتمال المذكور بل لا يبعد تعينه سيما مع موافقته للاحتياط. والمسألة حيث كانت عارية عن النصوص فالاحتياط فيها لازم والاعتماد على هذه التخريجات التي يذكرونها لا يخلو من مجازفة في أحكامه تعالى.

(الرابعة) ـ صرح شيخنا الشهيد الثاني بأنه يعتبر في الحائل ان يكون مانعا من الرؤية وهو ظاهر كلام سبطه السيد السند في المدارك ايضا حيث قال : ويعتبر فيه كونه جسما كالحائط والستر وكلام سائر الأصحاب (رضوان الله عليهم) مطلق في ذلك وقد روى الثقة الجليل علي بن جعفر (رضي‌الله‌عنه) في كتاب المسائل عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن الرجل هل يصلح ان يصلي في مسجد وحيطانه كوى كله قبلته وجانباه وامرأة تصلي حياله يراها ولا تراه؟ قال لا بأس». ورواها الشيخ في التهذيب في الصحيح عن علي بن جعفر (عليه‌السلام) مثله (4). وروى في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (5) قال : «سألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي في مسجد قصير الحائط وامرأة قائمة تصلي بحياله وهو يراها وتراه؟ قال ان كان بينهما حائط قصير أو طويل فلا بأس». وهما ـ كما ترى ـ صريحتا الدلالة في خلاف القول المذكور.

(الخامسة) ـ نقل عن العلامة في النهاية انه قال : ليس المقتضى للتحريم أو الكراهة النظر ، لجواز الصلاة وان كانت قدامه عارية ، ولمنع الأعمى ومن غمض عينيه وقريب منه في التذكرة. وقال الشهيد في البيان : وفي تنزيل الظلام أو فقد البصر منزلة الحائل نظر أقربه المنع ، واولى بالمنع منع الصحيح نفسه عن الأبصار. واستوجه

__________________

(1) الوسائل الباب 2 من قواطع الصلاة.

(2) الوسائل الباب 44 من النجاسات.

(3 و 4 و 5) الوسائل الباب 8 من مكان المصلي.


العلامة في التحرير الصحة في الأعمى واستشكل في من غمض عينيه. وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : والمراد بالحائل الحاجز بينهما بحيث يمنع الرؤية من جدار وستر وغيرهما. والظاهر ان الظلمة وفقد البصر كافيان فيه وهو اختيار المصنف في التحرير لا تغميض الصحيح عينيه مع احتماله. انتهى. والظاهر هو ما استظهره جملة من أفاضل متأخري المتأخرين من عدم اجزاء شي‌ء من ذلك ، لان الوارد في النصوص اما بلفظ الحاجز كما في صحيحة محمد بن مسلم «إذا كان بينهما حاجز» أو بلفظ «ستر» كما في قوله في صحيحته الثانية «أو كان بينهما ستر أجزأه» أو الحائط كما في روايتي علي بن جعفر المتقدمتين ، وشي‌ء من هذه الألفاظ لا يصدق على ما ذكروه فيكون ما ذكروه خاليا من الدليل.

(السادسة) ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو اجتمعا في مكان واحد واتسع الوقت صلى الرجل أولا ، والظاهر ان الحكم على سبيل الأولوية والاستحباب وربما نقل عن الشيخ (قدس‌سره) القول بالوجوب إلا ان العلامة قال في المنتهى بعد ذكر الرواية : فلو خالف وصلت المرأة أولا صحت صلاتهما إجماعا. انتهى. ويدل عليه ما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم في المرأة التي تزامل الرجل في المحمل حيث حكم فيها بصلاة الرجل أولا ونحوها رواية أبي بصير المتقدمة أيضا وان كان العطف فيها بالواو المفيدة لمطلق الجمع إلا ان سياق الخبر يدل على انها بمعنى «ثم» وهو كثير الاستعمال في الاخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار. ولا ينافي ذلك ما تقدم في صحيحة عبد الله بن ابي يعفور من قوله «إلا ان تتقدم هي أو أنت» فإنه محمول على الجواز. هذا في غير المكان الذي تختص به المرأة أو تشارك فيه عينا أو منفعة ومعه فلا أولوية لتسلطها على ملكها إلا ان الأفضل لها تقديم الرجل لفحوى الخبرين المذكورين. ولو ضاق الوقت سقط الوجوب والاستحباب كما صرح به جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) وفيه إشكال تأتي الإشارة إليه.


(السابعة) ـ قال شيخنا في الروض : مبدأ التقدير في العشرة أذرع من موقف المصلي إلى موقفها وهو واضح مع المحاذاة اما مع تقدمها فالظاهر انه كذلك ، لانه المفهوم من التباعد عرفا وشرعا كما نبهوا عليه في تقدم الامام على المأموم. ويحتمل اعتباره من موضع السجود لعدم صدق التباعد بين بدنيهما حالة السجود بذلك القدر ، وليس في كلامهم تصريح في ذلك بشي‌ء ، انتهى. أقول : ويؤيد الأول أيضا اعتبار ما لا يتخطى بين الامام والمأموم والمأمومين بعضهم مع بعض فإن مبدأ ذلك من الموقف الى الموقف.

(الثامنة) ـ قال الشيخ في المبسوط : فان صلت خلفه في صف بطلت صلاة من على يمينها وشمالها ومن يحاذيها من خلفها ولا تبطل صلاة غيرهم ، وان صلت بجنب الامام بطلت صلاتها وصلاة الامام ولا تبطل صلاة غيرهم. انتهى. ولا يخفى ما فيه من الاشكال ، والأظهر هو ما فصله في الروض حيث قال : لو صلت المرأة معه جماعة محاذية له فعلى القول بالتحريم تبطل صلاتها وصلاة الامام ومن على يمينها ويسارها ومن تأخر عنها مع علمهم بالحال ومع عدم العلم تبطل صلاتها لا غير ، ولو علم الإمام خاصة بطلت صلاتهما معا دون المأمومين ، وأطلق الشيخ (قدس‌سره) صحة صلاة المأمومين. وهذا كله انما يتم مع القول بأن الصلاة الطارئة تؤثر في السابقة أو على جواز تكبير المأموم مع تكبير الامام وإلا صحت صلاة الإمام لتقدمها ويبقى الكلام في المأمومين. انتهى. وهو جيد.

(التاسعة) ـ قد أطلق جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان هذا الحكم انما هو في حال الاختيار فلو ضاق الوقت والمكان فلا كراهة ولا تحريم ، قال في الفروض وربما استشكل الحكم مطلقا بناء على ان التحاذي مانع من الصحة مطلقا ، والنصوص مطلقة فالتقييد بحالة الاختيار يحتاج الى دليل. انتهى. ولا يخلو من قوة إلا انه يمكن ان يقال ان شروط الصحة انما تعتبر مع الإمكان كما تقدمت الإشارة إليه في غير مكان.

(العاشرة) ـ روى الصدوق في كتاب العلل في الصحيح عن الفضيل عن


ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «انما سميت مكة بكة لأنها يبتك بها الرجال والنساء والمرأة تصلي بين يديك وعن يمينك وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك انما يكره في سائر البلدان». أقول : والظاهر ان معنى «يبتك بها الرجال والنساء» اي يزدحمون ولم أقف في اللغة على معنى لهذا اللفظ والموجود في هذه المادة «يبتك» بمعنى القطع ومنه قوله سبحانه «فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ» (2) اي قطعها ، وهذا المعنى غير مناسب في الخبر والمناسب فيه ما قدمناه (3) وفي هذا الخبر ما يدل على استثناء مكة شرفها الله تعالى من هذا الحكم ، وربما أشعر ظاهره بتعلق الحكم بالبلد مطلقا إلا انه لا يبعد ارادة المسجد من هذا اللفظ باعتبار كونه مجمعا للرجال والنساء ولا سيما في حال صلاة الطواف ولا يحضرني الآن كلام لأحد من الأصحاب في ذلك.

(الحادية عشرة) ـ قال في الروض : لو كانت أعلى منه أو أسفل بحيث لا يتحقق التقدم والتأخر وأمكنت المشاهدة فهل هو ملحق بالتأخر أم بالتقدم؟ اشتراط العشرة في الرواية بالتقدم والمحاذاة يقتضي عدم اعتبارها هنا ، واشتراط نفي البأس بالصلاة خلفه يقتضي اعتبار العشرة هنا لعدم تحقق الخلفية فمفهوما الشرط متدافعان ، والظاهر انه ملحق بالتأخر لأصالة الصحة وعدم المانع خرج منه حالة التقدم والمحاذاة فيبقى الباقي ، مع ان فرض الرؤية في ذلك بعيد. انتهى. أقول : فرض المسألة المذكورة هو كون المرأة في مكان عال أو أسفل بحيث ان موقفها يكون محاذيا لموقف الرجل في جهة العلو أو السفل ، ومجرد فرض العلو والسفل في العبارة أعم من ذلك فكان الأولى ان يقول بحيث لا يتحقق التقدم والتأخر ولا المحاذاة يمينا أو يسارا فإنها

__________________

(1) الوسائل الباب 5 من مكان المصلي.

(2) سورة النساء ، الآية 119.

(3) لا يخفى ان المصنف ضبط الكلمة في الحديث من مادة «بتك» ففرع عليه ما فرع والوارد في كتب الحديث «يبك» من مادة «بكك» وهي في اللغة بالمعنى المذكور. وقد أورد في مجمع البحرين هذه الفقرة من الحديث في المادة المذكورة. راجع الوسائل الباب 11 من مكان المصلى.


قد تكون أعلى منه ولكنها في جهة اليمين عنه أو اليسار فتحصل المحاذاة والمساواة في فالموقف وان كانت في محل ارفع.

(الثانية عشرة) ـ قد طعن جملة من الأصحاب القائلين بالجواز في رواية عمار بأنها قد تضمنت أكثر من عشرة أذرع وهو خلاف الإجماع. وفيه ان الظاهر ـ وان كان غريبا غير مأنوس في كلامهم ـ ان المراد من هذه العبارة ونحوها عشرة أذرع فأكثر من قبيل قوله سبحانه «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» (1) اي اثنتين فما فوق ومثله في الأخبار غير عزيز مع ان رواية قرب الاسناد المتقدمة قد تضمنت العشرة.

(الثالثة عشرة) ـ قال في الروض : المراد بالمرأة البالغ لانه المتعارف ولأنها مؤنث المرء ، يقال مرء ومرأة وامرؤ وامرأة ، والمرء هو الرجل كما نص عليه أهل اللغة فلا يتعلق الحكم بالصغيرة وان قلنا ان عبادتها شرعية لعدم المقتضى له. ولا فرق فيها بين كونها مقتدية به أو منفردة للعموم. وكذا القول في الصبي. وفي بعض حواشي الشهيد (قدس‌سره) على القواعد ان الصبي والبالغ يقرب حكمهما من الرجل والمرأة وعنى بالبالغ المرأة لأن الصفة التي على «فاعل» يشترك فيها المذكر والمؤنث وكيف كان فالعمل على المشهور من اختصاص الحكم بالمكلفين لعدم الدليل الدال على الإلحاق. انتهى.

أقول : يمكن ان يكون مستند ما نقله عن الشهيد (قدس‌سره) ما يوجد في كتب اللغة من إطلاق الرجل على غير المكلف البالغ ، قال في القاموس : الرجل بالضم معروف وانما هو لمن شب واحتلم أو هو رجل ساعة يولد. وفي الصحاح هو الذكر من الناس. والاخبار قد اشتملت على لفظ الرجل كما عرفت فمتى صح إطلاقه على غير البالغ لغة صح ما ذكره الشهيد (قدس‌سره) إلا ان المستفاد من إطلاق العرف العام والخاص اعني عرفهم (عليهم‌السلام) انما هو البالغ خاصة ومتى أريد غيره عبر بلفظ الصبي ونحوه. والله العالم.

__________________

(1) سورة النساء ، الآية 12.


(المسألة الثالثة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا بأس ان يصلي الرجل في الموضع النجس إذا كانت النجاسة لا تتعدى الى ثوبه أو بدنه وكان موضع الجبهة طاهرا.

والكلام في مقامين (الأول) انه قد نقل عن ابي الصلاح انه اشترط طهارة مواضع المساجد السبعة ، وعن المرتضى (رضي‌الله‌عنه) انه اعتبر طهارة مكان المصلي ، وربما نقل عنه انه اعتبر طهارة ما يلاصق البدن وان لم يسقط عليه. فاما القول الأول من هذين القولين فلم نقف له على دليل ولم ينقلوا له دليلا وقائله أعرف به. واما الثاني فنقلوا ان قائله احتج بنهيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الصلاة في المجزرة وهي المواضع التي تذبح فيها الانعام والمزبلة والحمامات وهي مواطن النجاسة (1) فتكون الطهارة معتبرة. وأجيب عن ذلك بأنه يجوز ان يكون النهي عن هذه المواضع من جهة الاستقذار والاستخباث الدالة على مهانة نفس من يستقر بها فلا يلزم التعدية إلى غيرها ، وبالجملة فإن النهي عن ذلك نهى تنزيه فلا يلزم التحريم.

أقول : والمعتمد في رد هذين القولين الأخبار الدالة على جواز الصلاة في الأماكن النجسة مع عدم التعدي :

ومنها ـ ما رواه الصدوق في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (2) «انه سأله عن البيت والدار لا يصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة أيصلى فيهما إذا جفا؟ قال نعم».

وما رواه الصدوق والشيخ في الصحيح عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن الشاذكونة تكون عليها الجنابة أيصلى عليها في المحمل؟ فقال لا بأس».

__________________

(1) تيسير الوصول ج 2 ص 250 عن الترمذي.

(2 و 3) الوسائل الباب 30 من النجاسات.


قال في الوافي : الشاذكونة بالفارسية الفراش الذي ينام عليه. انتهى (1).

وما رواه الشيخ عن ابن ابي عمير (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أصلي على الشاذكونة وقد أصابتها الجنابة؟ قال لا بأس».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر (3) قال : «سألته عن البواري يصيبها البول هل يصلح الصلاة عليها إذا جفت من غير ان تغسل؟ قال نعم لا بأس».

وعن علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن البواري يبل قصبها بماء قذر أيصلى عليها؟ قال إذا يبست فلا بأس».

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن عمار في الموثق (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البارية يبل قصبها بماء قذر هل يجوز الصلاة عليها؟ فقال إذا جفت فلا بأس بالصلاة عليها».

فاما ما رواه الشيخ في الموثق عن ابن بكير (6) ـ قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الشاذكونة يصيبها الاحتلام أيصلى عليها؟ فقال لا». وما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد (7) عن محمد بن الوليد عن ابن بكير قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام). مثله ـ فحمله الأصحاب على الكراهة ، ويحتمل الحمل على تعدى النجاسة وكيف كان فهو لا يبلغ قوة في معارضة ما نقلناه من الاخبار المعتضدة بالأصل.

(الثاني) ـ ظاهر الأصحاب الاتفاق على اشتراط طهارة موضع الجبهة ، وقد نقل الإجماع عليه جماعة : منهم ـ العلامة في المنتهى والمختلف والشهيد في الذكرى وابن

__________________

(1) قال في البحار في ذيل حديث قرب الاسناد الآتي «بيان : الشاذكونة في أكثر النسخ بالذال المعجمة وفي كتب اللغة بالمهملة وقد يقال انه معرب شاديانه ، قال الفيروزآبادي الشادكونة بفتح الدال ثياب غلاظ مضربة تعمل باليمن.

(2 و 4 و 5 و 6) الوسائل الباب 30 من النجاسات.

(3) الوسائل الباب 29 من النجاسات.

(7) ص 80.


زهرة في الغنية ، ولا اعرف لهم دليلا على الحكم المذكور زيادة على الإجماع ، مع ان صاحب الذخيرة اعترضهم في دعوى الإجماع هنا حيث قال في هذا المقام بعد نقل دعوى الإجماع ما لفظه : لكن لا يخفى انه قد مر في كتاب الطهارة ان المحقق نقل عن الراوندي وصاحب الوسيلة أنهما ذهبا الى ان الأرض والبواري والحصر إذا أصابها البول وجففتها الشمس لا تطهر بذلك لكن يجوز السجود عليها. واستجوده المحقق ، وعلى هذا فدعوى الإجماع كلية محل تأمل. انتهى. أقول : الذي في المعتبر في ما حضرني من نسخه في مسألة تطهير الشمس هكذا : «وقيل لا تطهر ويجوز الصلاة عليها وبه قال الراوندي منا وصاحب الوسيلة وهو جيد» والموجود في هذه العبارة انما هو لفظ الصلاة لا السجود نعم لفظ السجود في عبارة الراوندي خاصة على ما نقله في المختلف واما عبارة صاحب الوسيلة فإنما هي بلفظ الصلاة ايضا على ما نقله في الذخيرة أيضا حيث قال في مسألة تطهير الشمس : وذهب صاحب الوسيلة ـ على ما في النسخة الموجودة عندي ـ إلى انها لا تطهر بذلك ولكن يجوز الصلاة عليها إذا لم يلاق شيئا منها بالرطوبة دون السجود عليها. وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة في صحة الصلاة مع استثناء موضع السجود كما عليه الأصحاب. والذي يقرب عندي ان المحقق انما عبر بلفظ الصلاة في العبارة المتقدمة مع ان الموجود في عبارة الراوندي لفظ السجود حملا للسجود على الصلاة مجازا ، إلا انه لا يخفى على من راجع عبارة الرواندي المنقولة في المختلف انها لا تقبل ذلك. وكيف كان فالمخالفة لما ادعوه من الإجماع منحصرة في الراوندي

وأنت خبير بأن إطلاق الاخبار المتقدمة ظاهر في شمول موضع السجود والمسألة لذلك محل إشكال لأن الخروج عما ظاهرهم الاتفاق عليه مشكل والخروج عن ظواهر هذه الأخبار أشكل ، والاحتياط لا يخفى.

وكيف كان فههنا فوائد لا بد من التنبيه عليها (الاولى) قد صرح جملة منهم بأنه يجب تقييد النجاسة المتعدية المانعة من الصلاة فيها بغير المعفو عنها إذ لا منع من المعفو


وبذلك صرح شيخنا في الذكرى فقال ولو كان المكان نجسا بما عفى عنه كدون الدرهم دما ويتعدى فالظاهر انه لا يزيد على ما هو على المصلي. ونقل المحقق الشيخ علي في شرح القواعد عن فخر المحققين انه قال : الإجماع منا واقع على اشتراط خلو المكان من نجاسة متعدية وان كانت معفوا عنها في الثوب والبدن. وإطلاق عبارة المنتهى وان وافقت ما ذكره إلا ان دليله يؤذن بخلاف ذلك ، وكذا عبارة التذكرة تشعر بأن الإجماع مختص بالنجاسة التي لم يعف عنها.

والتحقيق عندي انه لا ثمرة مهمة في هذا التقييد بل ولا لذكر ذلك بالكلية ، وذلك فإنه من المعلوم ان المنع من الصلاة في الموضع النجس إذا استلزم ذلك تعدى النجاسة إلى ثوب المصلي أو بدنه انما هو الدليل العام الدال على اشتراط صحة الصلاة بطهارة بدن المصلي وثوبه مما لا يعفى عنه ، قال العلامة في المنتهى : ويشترط في المكان ان يكون خاليا من نجاسة متعدية إلى ثوب المصلي أو بدنه ، ذهب إليه علماؤنا أجمع لأن طهارة الثوب والبدن شرط في الصلاة ومع النجاسة المتعدية يفقد الشرط. انتهى. وحينئذ فإذا صلى الإنسان في موضع فيه نجاسة وتعدت اليه روعي فيها ما يراعى في غيرها من النجاسات الخارجة منه أو الواقعة عليه من كونها معفوا عنها أو غير معفو عنها ولا خصوصية للمكان تقتضي إفراده بالذكر إلا ان يكون الحامل لهم على ذلك خلاف فخر المحققين في المسألة كما قدمنا ذكره. وضعفه أظهر من ان يحتاج الى بيان.

(الثانية) ـ لو كانت الأرض نجسة وفرش عليها فرشا طاهرا فالظاهر انه على مذهب المرتضى لا مانع من الصلاة إذ المكان باعتبار الطهارة والنجاسة غيره باعتبار الإباحة والغصب كما تقدم في تعريف كل منهما.

ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المسجد يكون في الدار ، الى ان قال : وسألته

__________________

(1) اللفظ المذكور انما هو لحديث ابى الجارود برواية الكافي إلا الذيل ، راجع الوسائل الباب 10 و 11 من أحكام المساجد.


عن المكان يكون خبيثا ثم ينظف ويجعل مسجدا؟ قال يطرح عليه من التراب حتى يواريه فان ذلك يطهره ان شاء الله». ورواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن عبيد الله الحلبي (1) انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام). الحديث.

وفي رواية محمد بن مصادف عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «لا بأس بأن يجعل على العذرة مسجدا». وعن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (3) قال : «سئل أيصلح مكان حش ان يتخذ مسجدا؟ فقال إذا القى عليه من التراب ما يوارى ذلك ويقطع ريحه فلا بأس ، وذلك لان التراب يطهره وبه مضت السنة».

(الثالثة) ـ لو كان في مسجد الجبهة نجاسة لا تتعدى أو على نفس الجبهة نجاسة معفو عنها في الصلاة فإن استوعبت النجاسة المسجد والجبهة بطلت الصلاة وإلا صحت صلاته إذا حصل السجود على الطاهر منها في الصورتين المذكورتين.

(المسألة الرابعة) ـ قد اتفقت الاخبار وكلمة الأصحاب على المنع من الصلاة في مواضع زيادة على ما قدمناه إلا ان أكثرها كون المنع فيها منع كراهة وبعضها محل خلاف ، وها انا افصل ذلك كلا في موضع على حياله :

فأقول ـ وبالله تعالى الهداية إلى إدراك المأمول ـ روى الصدوق في الفقيه مرسلا وثقة الإسلام في الكافي مسندا عن عبد الله بن الفضل عن من حدثه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (4) قال : «عشرة مواضع لا يصلى فيها : الطين والماء والحمام والقبور ومسان الطريق وقرى النمل ومعاطن الإبل ومجرى الماء والسبخ والثلج».

قال الصدوق في كتاب الخصال بعد نقل الخبر المذكور مسندا (5) إلا انه أسقط منه «القبور» وزاد فيه «وادي ضجنان» ما صورته : هذه المواضع لا يصلي فيها الإنسان في حال الاختيار ، فإذا حصل في الماء والطين واضطر إلى الصلاة فيه فإنه يصلي إيماء ويكون

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 11 من أحكام المساجد.

(4 و 5) الوسائل الباب 15 من مكان المصلي.


ركوعه اخفض من سجوده. واما الطريق فإنه لا بأس ان يصلى على الظواهر التي بين الجواد فاما على الجواد فلا يصلى. واما الحمام فإنه لا يصلى فيه على كل حال فاما مسلخ الحمام فلا بأس بالصلاة فيه لانه ليس بحمام. واما قرى النمل فلا يصلى فيها لانه لا يتمكن من الصلاة لكثرة ما يدب عليه من النمل فيؤذيه ويشغله عن الصلاة. واما معاطن الإبل فلا يصلى فيها إلا إذا خاف على متاعه الضيعة فلا بأس حينئذ بالصلاة فيها. واما مرابض الغنم فلا بأس بالصلاة فيها. واما مجرى الماء فلا يصلى فيه على كل حال لانه لا يؤمن ان يجري الماء اليه وهو في صلاته. واما السبخة فإنه لا يصلي فيها نبي ولا وصي نبي واما غيرهما فإنه متى دق مكان سجوده حتى تتمكن الجبهة فيه مستوية في سجوده فلا بأس. واما الثلج فمتى اضطر الإنسان إلى الصلاة عليه فإنه يدق موضع جبهته حتى يستوي عليه في السجود. واما وادي ضجنان وجميع الأودية فلا يجوز الصلاة فيها لأنها مأوى الحياة والشياطين. انتهى.

وها انا اذكر المواضع التي اشتمل عليها الخبر المذكور وما ذكره الأصحاب زيادة على ذلك ووردت به الاخبار :

فأقول منها ـ الحمام والمشهور بين الأصحاب كراهة الصلاة فيه ، ونقل عن ابي الصلاح انه منع من الصلاة فيه وتردد في الفساد ، والأظهر الأول لمرسلة عبد الله بن الفضل المتقدمة وما رواه الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في بيت الحمام؟ قال إذا كان الموضع نظيفا فلا بأس». وما رواه في الفقيه في الصحيح عن علي بن جعفر (2) «انه سأل أخاه موسى (عليه‌السلام) عن الصلاة في بيت الحمام؟ فقال إذا كان الموضع نظيفا فلا بأس». وهذان الخبران صريحان ـ كما ترى ـ في الجواز ، والأصحاب قد حملوا النهي في الحمام على الكراهة جمعا بينه وبين ما تقدم.

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 34 من مكان المصلي.


وظاهر ذلك عدم الفرق بين المسلخ وغيره والمفهوم من كلامي الصدوق في الفقيه والخصال كما تقدم والشيخ في التهذيب تخصيص روايتي الجواز بالمسلخ حيث قال في الفقيه : لا بأس بالصلاة في مسلخ الحمام وانما يكره في الحمام لأنه مأوى الشياطين. والشيخ بعد ان ذكر موثقة عمار حملها على المسلخ وصرح الشهيدان بنفي الكراهة في المسلخ ايضا. ولم نقف في الاخبار على تعرض لخصوص المسلخ بنفي ولا إثبات وإطلاق لفظ الحمام شامل له إلا ان الصدوق في الخصال بعد ان نفى البأس عن الصلاة فيه ادعى انه ليس بحمام. وفيه منع ظاهر فان كان ما ذكروه وجه جمع بين الأخبار فحمل النهى على الكراهة في غير المسلخ يحتاج الى دليل إذ هو حقيقة في التحريم واما تعليل الصدوق بأنه مأوى الشياطين فغير ظاهر من الاخبار ليصلح وجها للكراهة. ونقل عن العلامة في التذكرة انه احتمل ثبوت الكراهة في المسلخ وبنى الاحتمال على علة النهى فان كانت النجاسة لم تكره وان كانت كشف العورة فيكون مأوى للشياطين كره. ورد بأنه ضعيف لجواز ان لا يكون الحكم معللا أو تكون العلة غير ما ذكره. ولو جعل وجه الجمع بين هذه الأخبار ما صرحت به الروايتان الأولتان من تعليق نفي البأس على النظافة فيحمل ما دل على النهى على عدم النظافة لكان أقرب ، وعلى هذا فيكون النهي محمولا على التحريم لعدم نظافة المكان.

وكيف كان فإنه لا تكره الصلاة في سطح الحمام كما صرح به غير واحد من الأصحاب. والله العالم.

ومنها ـ بيوت الغائط ، عدها الأصحاب في هذا الباب ولم أقف في النصوص عليه بهذا العنوان ، والظاهر ان المراد به بيت الخلاء الذي هو بيت لذلك ، وظاهر الشيخ المفيد في المقنعة التحريم حيث قال : لا تجوز الصلاة في بيوت الغائط. وحمله الأصحاب على الكراهة لعدم ما يوجب التحريم إذ ليس إلا انها مظنة النجاسة وغاية ما يوجب ذلك الكراهة.

والأصحاب قد استدلوا على هذا الحكم بما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد


ابن مروان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان جبرئيل أتاني فقال انا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تمثال جسد ولا إناء يبال فيه». وعن عمرو بن خالد عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (2) قال : «قال جبرئيل يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انا لا ندخل بيتا فيه صورة إنسان ولا بيتا يبال فيه ولا بيتا فيه كلب». وأنت خبير بما في هذا الاستدلال من البعد عن المدعى إذ المدعى بيوت الغائط والبول لا يستلزم الغائط.

والذي وقفت عليه هنا مما يناسب ذلك ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة (3) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول الأرض كلها مسجد إلا بئر غائط أو مقبرة». وفي رواية «أو حمام» وما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار (4) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أقوم في الصلاة فأرى قدامي في القبلة العذرة؟ فقال تنح عنها ما استطعت». والظاهر ان ما اشتملت عليه هذه الرواية مكروه آخر غير ما نحن فيه وهو ان يصلي الى عذرة في قبلته كما ذكره بعض الأصحاب. وبالجملة فالمقام وان كان مقام كراهة يتسامح بينهم في دليله لكن الكلام في ان كون الحكم شرعيا يتوقف على الدليل الشرعي الواضح.

ومنها ـ مبارك الإبل وفي مرسلة عبد الله بن الفضل المتقدمة وغيرها معاطن الإبل وبه عبر بعضهم ايضا وهو مبارك الإبل حول الماء ، قال في الصحاح العطن والمعطن واحد الأعطان والمعاطن وهي مبارك الإبل عند الماء لتشرب علا بعد نهل. وقال في القاموس العطن محركة وطن الإبل ومنزلها حول الحوض. وكلامهما وكذا كلام غيرهما من أهل اللغة صريح في تخصيص اسم المعاطن بمبارك الإبل عند الشرب ، والمفهوم من كلام الأصحاب انه أعم من ذلك وبه صرح ابن إدريس في السرائر فقال بعد تفسير المعطن

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 33 من مكان المصلي.

(3 و 4) الوسائل الباب 31 من مكان المصلي.


بما نقلناه عن أهل اللغة : هذا حقيقة المعطن عند أهل اللغة إلا ان أهل الشرع لم يخصصوا ذلك بمبرك دون مبرك. انتهى. ولعلهم بنوه على عدم تعقل الفرق بين موضع الشرب وغيره ، وهو محتمل إلا انه لا يخلو من نوع اشكال لان من قواعدهم الرجوع في معاني الألفاظ بعد تعذر الحقيقة الشرعية والعرف الخاص الى كلام أهل اللغة.

ثم ان القول بالكراهة هو المشهور ونقل عن ابي الصلاح القول بالتحريم وهو ظاهر الشيخ المفيد في المقنعة أيضا أخذا بظاهر النهي.

ومن اخبار المسألة زيادة على ما تقدم في مرسلة عبد الله بن الفضل صحيحة محمد ابن مسلم (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في أعطان الإبل فقال إذا تخوفت الضيعة على متاعك فاكنسه وانضحه وصل ولا بأس بالصلاة في مرابض الغنم».

وصحيحة على بن جعفر المروية في كتابه عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الصلاة في معاطن الإبل أتصلح؟ قال لا تصلح إلا ان تخاف على متاعك ضيعة فاكنس ثم انضح بالماء ثم صل. وسألته عن معاطن الغنم أتصلح الصلاة فيها؟ قال نعم لا بأس به». وموثقة سماعة (3) قال : «سألته عن الصلاة في أعطان الإبل وفي مرابض البقر والغنم؟ فقال ان نضحته بالماء وقد كان يابسا فلا بأس بالصلاة فيها فاما مرابض الخيل والبغال فلا».

وحمل الشيخ (قدس‌سره) في التهذيب هذه الرواية على الضرورة والخوف على المتاع كما تضمنته صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة الحلبي (4) «أنه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال صل فيها ولا تصل في أعطان الإبل إلا ان تخاف على متاعك الضيعة فاكنسه ورشه بالماء وصل فيه».

أقول : ظاهر هذه الاخبار من حيث دلالتها على انه ان كان يخاف على متاعه

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 17 من مكان المصلي.


الضيعة جاز له الصلاة فيه من غير كراهة بعد ان يكنسه ويرشه هو الدلالة على القول المشهور في تفسير أعطان الإبل بمباركها حيث كان من غير تقييد بما ذكره أهل اللغة ، بل الظاهر التخصيص بموضع النزول وذلك فان الظاهر من هذا الكلام هو ان القافلة متى نزلوا في مكان فجمالهم ورحالهم وأثقالهم في ذلك المكان وانه تكره الصلاة في ذلك المكان فينبغي ان يخرج الى مكان آخر خارج عن محل النزول إلا إذا كان يخاف من خروجه الضيعة على متاعه فإنه يصلي فيه ، وإلا فإنه لا مناسبة بين هذا التعليل وبين تخصيص المعاطن بمواضع السقي كما هو ظاهر فان موضع السقي ليس مقام متخذ للنزول ووضع الأثقال والأحمال فيه.

ثم ان ظاهر كلامهم انه لا فرق في الكراهة أو التحريم بين وجود الإبل في ذلك المكان وعدمه ، وبذلك صرح في المنتهى ايضا معللا بأنها بانتقالها عنه لا يخرج عن اسم المعطن إذا كانت تأوي اليه ، وظاهر هذا التعليل انه لو كان ذلك الموضع انما اتفق بروكها فيه مرة واحدة ثم لم تعد اليه لم يتعلق به الحكم.

ثم انه قد صرح الأصحاب أيضا بكراهة الصلاة في مرابط الخيل والبغال ، وعن ابي الصلاح هنا ايضا القول بالتحريم ، ومن الاخبار الدالة على النهي هنا أيضا موثقة سماعة المتقدمة ومثلها موثقته الأخرى (1) إلا انها مقطوعة وفيها زيادة الحمير على الخيل والبغال.

ومنها ـ مساكن النمل وهو المعبر عنه في خبر عبد الله بن الفضل المتقدم بقرى النمل وهو جمع قرية وهي مجتمع ترابها حول جحرتها ، ويدل على ذلك زيادة على الخبر المتقدم ما رواه في كتاب المحاسن بسنده عن عبد الله بن عطاء (2) قال «ركبت مع ابي جعفر (عليه‌السلام) وسار وسرت حتى إذا بلغنا موضعا قلت الصلاة جعلني الله فداك قال هذا ارض وادي النمل لا يصلى فيه حتى إذا بلغنا موضعا آخر قلت له مثل ذلك فقال

__________________

(1) الوسائل الباب 17 من مكان المصلي.

(2) الوسائل الباب 20 من مكان المصلى.


هذه الأرض مالحة لا يصلى فيها». أقول : نقل شيخنا في البحار ان في بعض النسخ «نصلي» في الموضعين بالنون وفي بعضها بالياء ، ثم قال : فعلى الأول ظاهره اختصاص الحكم بهم (عليهم‌السلام) فالمراد التحريم أو شدة الكراهة فلا ينافي حصول الكراهة في الجملة لغيرهم ورواه العياشي في تفسيره (1) إلا ان فيه هكذا «فسرنا حتى زالت الشمس وبلغنا مكانا قلت هذا المكان الأحمر فقال ليس يصلى ههنا هذه أودية النمال وليس يصلى فيها قال فمضينا إلى أرض بيضاء قال هذه سبخة وليس يصلى بالسباخ. قال فمضينا إلى أرض حصباء قال ههنا فنزل. الخبر». وظاهر الخبر كراهة الصلاة في وادي النمل وان لم تكن عند قرأها وجحرتها إلا ان يحمل على كون الوادي مملوء بذلك ، وربما علله بعض الأصحاب (رضوان الله عليهم) بعدم انفكاك المصلى من أذاها وقتل بعضها. ويدل على الأول ما في كتاب العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم ، قال : والعلة في جحرة النمل ان النمل ربما آذاه فلا يتمكن من الصلاة.

ومنها ـ مجاري المياه وهو المكان المعد لجريانه وان لم يكن فيه ماء ، وقد تقدم في كلام الصدوق تعليل النهي بأنه لا يؤمن ان يجري الماء اليه وهو في صلاته ، والظاهر انه لا دليل عليه إلا خبر عبد الله بن الفضل المتقدم صدر الكلام ، وظاهر الخبر المذكور أعم من ان يكون الماء موجودا فيه أم لا فلو قصر الحكم على ما إذا كان موجودا أو يخاف هجومه في حال الصلاة لكان أظهر.

وفي شمول الحكم للصلاة في السفينة باعتبار كونها في مجرى الماء وكذا على الساباط الذي على نهر يجري فيه الماء إشكال ينشأ من صدق الصلاة في مجرى الماء ، ومن ان المتبادر من العبارة هو إيقاع الصلاة في الأرض التي يجري فيها الماء فعلا أو قوة باعتبار إعدادها لذلك ، والاشكال في الساباط أضعف. وقد صرح في المنتهى بدخول هذين الفردين في حكم المسألة المذكورة.

__________________

(1) مستدرك الوسائل الباب 15 من مكان المصلى.


وقيل بالكراهة في بطون الأودية التي يخاف فيها هجوم السيل ، والظاهر انه يرجع الى الأول لأن المراد بالمجاري ما يحصل فيه الجريان من واد وغيره ، وقد روى الشيخان في الكافي والتهذيب عن ابي هاشم الجعفري (1) قال : «كنت مع ابي الحسن (عليه‌السلام) في السفينة في دجلة فحضرت الصلاة فقلت جعلت فداك نصلي في جماعة؟ فقال لا يصلى في بطن واد جماعة». وهذا الخبر كما يدل على صدق الوادي على المجرى من حيث اتساعه كذا يدل على ان حكم الصلاة في السفينة إذا كانت في مجرى الماء حكم أصل المجرى. وبه يتجه دخول هذا الفرد تحت الحكم المذكور كما صرح به شيخنا المتقدم ذكره. ولعل التخصيص بالجماعة وقع من حيث سؤال السائل عن الجماعة فلا منافاة لما دل على الحكم المذكور مطلقا.

بقي هنا شي‌ء وهو انه قال في المدارك بعد تفسير مجرى المياه بأنها الأمكنة المعدة لجريانها فيها : وقيل تكره الصلاة في بطون الأودية التي يخاف فيها هجوم السيل ، قال في النهاية فإن أمن السيل احتمل بقاء الكراهة اتباعا لظاهر النهي وعدمها لزوال موجبها ولم أقف على ما ادعاه من الإطلاق. انتهى. أقول : الظاهر ان ما ذكره من عد الأودية هنا بناء على دخولها تحت مجرى المياه باعتبار جريان السيول فيها فيصدق عليها مجرى المياه وحيث ان العلامة ادعى احتمال بقاء الكراهة وان أمن السيل تمسكا بالإطلاق رده السيد (قدس‌سره) بأنه لا نص في هذه المسألة بالكلية حتى يستند إلى إطلاقه.

أقول : اما النهي عن بطون الأودية فقد ورد وان لم يكن مشهورا إلا ان كون العلة فيه ما ذكره من هجوم السيل غير معلوم بل ربما علل بأمر آخر ، فالأظهر أن يجعل هذا فردا من افراد المسألة على حدة وهو كراهة الصلاة في بطون الأودية.

والذي يدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب المجالس في جملة المناهي المنقولة عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (2) قال : «ونهى ان يصلي الرجل في المقابر والطرق

__________________

(1) الوسائل الباب 29 من مكان المصلي.

(2) الوسائل الباب 25 من مكان المصلى.


والأرحية والأودية ومرابط الإبل وعلى ظهر الكعبة».

وفي كتاب العلل لمحمد بن إبراهيم (1) قال : «لا يصلى في ذات الجيش ولا ذات الصلاصل ولا بطون الأودية. ، ثم ساق الكلام في باقي المناهي وذكر علل النهي الى ان قال : والعلة في بطون الأودية انها مأوى الحياة والجن والسباع. الى آخره»

وكلامه في جميع هذه العلل المذكورة في هذا الكتاب وان لم يسندها الى نص إلا ان الظاهر انه حيث كان من أصحاب الصدر الأول مثل أبيه وجده الذين لا يقولون إلا بالنصوص كما وصل إلينا في أكثر ما ذكره من هذه العلل فهو لا يقول هذا إلا بعد وصول نص اليه بذلك.

ومنها ـ الطين وقد تقدم ذكره في خبر عبد الله بن الفضل ، والمراد بالطين هنا الوحل الذي هو طين وماء ممتزجان وإلا فالطين اليابس لا مانع من الصلاة عليه ، ولهذا قال الصدوق (قدس‌سره) في ما تقدم نقله عنه : فان حصل في الطين والماء واضطر إلى الصلاة فإنه يصلي إيماء. إلخ. وعطف الماء عليه (2) لانه فرد آخر لا يتيسر الصلاة فيه إلا كذلك كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

والظاهر ان النهي هنا محمول على التحريم ان استلزم الصلاة ثمة منع شي‌ء من واجبات الصلاة كالاستقرار في السجود ونحوه وإلا كره لما رواه عمار في الموثق عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) «انه سأله عن حد الطين الذي لا يسجد عليه ما هو؟ قال إذا غرقت الجبهة ولم تثبت على الأرض».

__________________

(1) البحار ج 18 الصلاة ص 122.

(2) كذا في النسخ والذي نقله عن الصدوق في ما سبق ص 198 انما اشتمل على عطف الطين على الماء على عكس قوله هنا وكذا في ما يأتي منه ايضا ص 208 من نقله كما ذكرنا من عطف الطين على الماء. والله العالم.

(3) الوسائل الباب 15 من مكان المصلى.


فلو اضطر إلى الصلاة فيه أومأ كما ذكره الأصحاب ، ويدل عليه موثقة عمار ايضا عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الرجل يصيبه المطر وهو في موضع لا يقدر ان يسجد فيه من الطين ولا يجد موضعا جافا؟ قال يفتتح الصلاة فإذا ركع فليركع كما يركع إذا صلى فإذا رفع رأسه من الركوع فليومئ بالسجود إيماء وهو قائم يفعل ذلك حتى يفرغ من الصلاة ويتشهد وهو قائم ثم يسلم».

وإطلاق الخبر وكذا إطلاق جملة من عبارات الأصحاب يدل على عدم وجوب الجلوس للسجود في الحال المذكورة وان أمكن ، وأوجب شيخنا الشهيد الثاني الجلوس وتقريب الجبهة من الأرض بحسب الممكن ، وبعض آخر بعد رد الرواية بضعف السند بناء على الاصطلاح المحدث قال بان وجوب الجلوس والإتيان بالممكن من السجود هو الاولى استنادا إلى انه لا يسقط الميسور بالمعسور (2). وفيه ان وجوب الانحناء انما هو من باب المقدمة فوجوبه تابع لوجوب السجود الذي هو ذو المقدمة فمتى سقط وجوب ذي المقدمة سقط وجوبها. واما حديث «لا يسقط الميسور بالمعسور». فمع تسليم صحته لا يشمل ما نحن فيه إلا على تقدير كون وجوب الانحناء مستقلا ليس مترتبا على السجود والحال ان الأمر ليس كذلك. واما ضعف الخبر فمجبور بالشهرة والأمران اصطلاحيان فلا معنى للعمل بأحدهما وترك الآخر.

ومنها ـ الماء ويدل على المنع من الصلاة فيه زيادة على خبر عبد الله بن الفضل المتقدم ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن الرجل يخوض الماء فتدركه الصلاة؟ فقال ان كان في حرب فإنه يجزئه الإيماء وان كان تاجرا فليقم ولا يدخله حتى يصلي».

وعن إسماعيل بن جابر في الصحيح (4) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(1 و 3 و 4) الوسائل الباب 15 من مكان المصلي.

(2) عوائد النراقي ص 88 وعناوين مير فتاح ص 146 عن عوالي اللئالي عن على «ع».


وقد سأله إنسان عن الرجل تدركه الصلاة وهو في ماء يخوضه لا يقدر على الأرض؟ فقال ان كان في حرب أو في سبيل من سبيل الله فليومئ إيماء وان كان في تجارة فلم يك ينبغي له ان يخوض الماء حتى يصلي قال : قلت وكيف يصنع؟ قال يقضيها إذا خرج من الماء وقد ضيع».

وملخص ما اشتمل عليه الخبران انه ان كان الصلاة في الماء من حيث الضرورة كالحرب والخوف ونحو ذلك فليصل فيه إيماء وإلا فلا يجوز له الصلاة فيه. فلو صلى فيه والحال كذلك وجب القضاء لنقصان الصلاة فيه بالإيماء فلا تجزى اختيارا. واما الإيماء المذكور في الخبرين فينبغي تقييده بعدم إمكان ما ينوب الإيماء منابه فالإيماء عن الركوع انما يكون مع تعذره وإلا فإنه يركع وهكذا في السجود. ومن الظاهر في هذا الموضع وسابقه ان السجود متعذر فيومى له كما تقدم ، واما الركوع فهو مبني على ما ذكرناه ايضا من الإمكان وعدمه. واما ما تقدم في كلام الصدوق في صدر المسألة من قوله في الخصال : «فان حصل في الماء والطين واضطر إلى الصلاة فيه فإنه يصلى إيماء ويكون سجوده اخفض من ركوعه» فهو مبني على تعذر الركوع والسجود معا وإلا فلو تمكن من الركوع وجب كما تقدم في موثقة عمار في سابق هذا الموضع.

ومنها ـ مسان الطريق قال في القاموس : سنن الطريق مثلثة وبضمتين نهجه وجهته ومنه مسان الطريق. وقال في المغرب سنن الطريق معظمه ووسطه. ولعل المراد بالطريق الجادة أو العظيمة ولهذا وقع التفسير بالجادة في كلام جملة من الأصحاب.

والمشهور كراهة الصلاة فيها ونقل الأصحاب عن ظاهر الصدوق والشيخ المفيد التحريم ، وكأنه نظرا الى تعبيرهما بعدم الجواز في هذا المقام ، وهو وان كان ظاهرا في ذلك إلا انه قابل للحمل على تشديد الكراهة والتعبير بذلك مبالغة كما يقع مثله في الاخبار.


ومن اخبار المسألة صحيحة محمد بن مسلم (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في السفر؟ فقال لا تصل على الجادة واعتزل على جانبيها».

وصحيحة الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الصلاة في ظهر الطريق؟ فقال لا بأس بأن تصلى في الظواهر التي بين الجواد واما على الجواد فلا تصل فيها».

وصحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «لا بأس ان يصلى بين الظواهر وهي الجواد جواد الطريق ويكره ان يصلى في الجواد».

وموثقة الحسن بن الجهم عن ابي الحسن الرضا (عليه‌السلام) (4) قال : «كل طريق يوطأ فلا تصل عليه».

ورواية محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه‌السلام) (5) قال : «كل طريق يوطأ ويتطرق كانت فيه جادة أو لم تكن فلا ينبغي الصلاة فيه».

ومن هذين الخبرين يعلم تعميم الحكم للطريق مطلقا وان لم يكن جادة ، ومنهم من خص الحكم بالجواد وهي العظمى من الطرق التي يكثر سلوكها.

وأنت خبير بأنه لو لا اعتضاد القول بالكراهة بالشهرة بين الأصحاب لكان القول بما نسب الى الصدوق والمفيد من التحريم في غاية القوة ، فإن جل الأخبار مصرحة بالنهي الذي هو حقيقة في التحريم ، وغاية ما ربما يتمسك به للقول بالكراهة قوله (عليه‌السلام) في صحيحة معاوية بن عمار : «ويكره ان يصلى في الجواد» وقوله (عليه‌السلام) في رواية محمد بن الفضيل : «فلا ينبغي» وورود هذين اللفظين بمعنى التحريم في الأخبار أكثر كثير كما تقدم التنبيه عليه في غير موضع.

ثم الظاهر انه لا فرق في الكراهة بين ان تكون الطريق مشغولة بالمارة وقت الصلاة أم لا لعموم الاخبار ، واما لو استلزمت الصلاة تعطيل المارة ومنعهم عن المرور

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 19 من مكان المصلي.


فلا ريب في التحريم في ظاهر الأصحاب بل الظاهر انه لا خلاف فيه ، وقد صرح جملة منهم بفساد الصلاة أيضا والظاهر ان وجهه عندهم من حيث ان الطريق ملك للمسلمين يتطرقون فيها فالتصرف فيها على وجه يوجب رفع حقهم محرم البتة.

بقي الكلام هنا في الحكم بفساد العبادة وهو بناء على المشهور من حمل النهي على الكراهة لا يخلو من اشكال ، نعم لو قلنا بظاهر ما دلت عليه هذه الاخبار من حمل النهي فيها على التحريم اتجه الأمران معا لزم من ذلك تعطيل المارة أم لا.

هذا كله في الطرق النافذة أما الطرق المرفوعة فلا إشكال في التحريم فيها لأنها ملك لأرباب البيوت التي تنفذ إليها.

ومنها ـ السبخة بفتح الباء وإذا كانت نعتا للأرض كقولك «الأرض السبخة» فهي بكسر الباء كذا نقل عن الخليل في كتاب العين ، وقال في الروض بعد قول المصنف «وارض السبخة» ما صورته : بفتح الباء واحدة السباخ وهو الشي‌ء الذي يعلو الأرض كالملح ويجوز كون السبخة بكسر الباء وهي الأرض ذات السباخ فتكون إضافة الأرض إليها من باب اضافة الموصوف الى صفته كمسجد الجامع والظاهر ان ما ذكره الخليل أقرب

ومن الاخبار في ذلك زيادة على الخبر المتقدم في صدر المسألة موثقة أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الصلاة في السبخة لم تكرهه؟ قال لأن الجبهة لا تقع مستوية. فقلت ان كان فيها أرض مستوية؟ فقال لا بأس».

وموثقة سماعة (2) قال : «سألته عن الصلاة في السباخ فقال لا بأس». وصحيحة الحلبي (3) وفيها «قال وكره الصلاة في السبخة إلا ان يكون مكانا لينا تقع عليه الجبهة مستوية».

وروى في العلل عن داود بن الحصين بن السري (4) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) لم حرم الله تعالى الصلاة في السبخة؟ قال لأن الجبهة لا تتمكن عليها».

وحملها الأصحاب على الكراهة جمعا ، وقد تقدم في الموضع الرابع نقل روايتي

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 20 من مكان المصلي.


المحاسن والعياشي المتضمنتين لانه لا يصلى في أرض السبخة.

وروى في كتاب المحاسن عن المعلى بن خنيس عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن السبخة أيصلي الرجل فيها؟ فقال انما تكره الصلاة فيها من أجل أنها فتك ولا يتمكن الرجل يضع وجهه كما يريد. قلت أرأيت ان هو وضع وجهه متمكنا؟ فقال حسن». والظاهر ان قوله «فتك» من التفتيك وهو كناية عن كونها رخوة نشاشة لا تستقر الجبهة عليها. قال في القاموس : تفتيك القطن تفتيته. انتهى.

والمشهور بين الأصحاب هو الكراهة وظاهر الصدوق في كتاب العلل التحريم حيث قال : «باب العلة التي من أجلها لا تجوز الصلاة في السبخة» وظاهر كلامه المتقدم نقله عن الخصال تخصيص التحريم بالنبي والامام ، وظاهر هذه الاخبار ان العلة في الكراهة هو عدم حصول كمال التمكن للجبهة في الوقوع على الأرض من حيث رخاوتها ومع حصول كمال التمكن بكسر الموضع وتسويته أو بان توجد ارض كذلك فلا كراهة وعلى ذلك يحمل إطلاق موثقة سماعة.

ومنها ـ الثلج وقد تقدم عده في خبر عبد الله بن الفضل ، والظاهر ان النهي عن الصلاة عليه هنا محمول على التحريم لان الثلج ليس بأرض حتى يجوز السجود عليه مع وجود الأرض ومع عدم التمكن من الأرض فلا إشكال في جواز السجود عليه مع الضرورة إلا ان يحمل على الصلاة عليه مع السجود على شي‌ء آخر فلا ينافي الكراهة.

ومن الأخبار الواردة في المقام رواية داود الصرمي (2) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) قلت اني اخرج في هذا الوجه وربما لم يكن موضع أصلي فيه من الثلج؟ فقال ان أمكنك ان لا تسجد على الثلج فلا تسجد وان لم يمكنك فسوه واسجد عليه».

ورواية منصور عن غير واحد من أصحابنا (3) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه

__________________

(1) الوسائل الباب 20 من مكان المصلي.

(2) الوسائل الباب 28 من مكان المصلي.

(3) الوسائل الباب 4 من ما يسجد عليه.


السلام) انا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج أفنسجد عليه؟ فقال لا ولكن اجعل بينك وبينه شيئا قطنا أو كتانا».

وصحيحة معمر بن خلاد (1) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن السجود على الثلج؟ فقال لا تسجد على السبخة ولا على الثلج».

وموثقة عمار (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصلي على الثلج؟ قال لا فان لم يقدر على الأرض بسط ثوبه وصلى عليه».

أقول : الظاهر من موثقة عمار هو كراهة الصلاة على الثلج بمعنى القيام عليه في الصلاة أعم من ان يكون السجود عليه أو على غيره ، وباقي الأخبار قد اشتركت في النهي عن السجود عليه وانه مع عدم وجود الأرض يسجد على القطن أو الكتان أو ثوب من غيرهما وانه لا يسجد على الثلج إلا مع تعذر الثوب ونحوه. ويمكن حمل السجود في هذه الأخبار سؤالا وجوابا على الصلاة ، ويؤيده السؤال عن الصلاة في رواية الصرمي ووقوع الجواب بلفظ السجود ، وحينئذ فالأمر بجعل شي‌ء بينه وبينه في مرسلة منصور وقع على نحو الأمر ببسط الثوب عليه مع تعذر الأرض في رواية عمار ، وعلى هذا فلا تعرض فيها للسجود بمعنى وضع الجبهة بالكلية. وعندي ان هذا الوجه أقرب إذ لا بعد فيه إلا من حيث التجوز بإطلاق السجود على الصلاة ، ونظائره في الاخبار أكثر كثير ولا سيما اخبار «جعلت لي الأرض مسجدا.» (3). اي مصلى ، وغيرها.

ومنها ـ مواضع بين الحرمين : (أحدها) البيداء وهي على ميل من ذي الحليفة مما يلي مكة وانما سميت بذلك لأنها تبيد جيش السفياني ومن ذلك ايضا سميت ذات الجيش

ويدل على ذلك من الأخبار صحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (4) قال : «الصلاة تكره في ثلاثة مواطن من الطريق : البيداء وهي ذات

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 28 من مكان المصلي.

(3) الوسائل الباب 7 من التيمم.

(4) الوسائل الباب 23 من مكان المصلى.


الجيش وذات الصلاصل وضجنان. وقال لا بأس ان يصلى بين الظواهر وهي الجواد جواد الطريق ويكره ان يصلى في الجواد».

وصحيحة ابن ابي نصر (1) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) انا كنا في البيداء في آخر الليل فتوضأت واستكت وانا أهم بالصلاة ثم كأنه دخل قلبي شي‌ء فهل نصلي في البيداء في المحمل؟ فقال لا تصل في البيداء. قلت فأين حد البيداء؟ فقال كان أبو جعفر (عليه‌السلام) إذا بلغ ذات الجيش جد في السير ولا يصلى حتى يأتي معرس النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله). قلت واين ذات الجيش؟ قال دون الحفيرة بثلاثة أميال».

وصحيحة أيوب بن نوح عن ابي الحسن الأخير (عليه‌السلام) (2) قال : «قلت له تحضر الصلاة والرجل بالبيداء؟ فقال يتنحى عن الجواد يمنة ويسرة ويصلى».

وصحيحة علي بن مهزيار (3) «انه سأل أبا الحسن الثالث (عليه‌السلام) عن الرجل يسير في البيداء فتدركه صلاة فريضة فلا يخرج من البيداء حتى يخرج وقتها كيف يصنع بالصلاة وقد نهى ان يصلي في البيداء؟ فقال يصلي فيها ويجتنب قارعة الطريق».

ومن هذين الخبرين يعلم حمل النهي في الخبرين الأولين على الكراهة.

قال ابن إدريس في تعداد ما يكره فيه الصلاة : والبيداء لأنها أرض خسف على ما روى في بعض الأخبار ان جيش السفياني يأتي إليها قاصدا مدينة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيخسف الله تعالى به تلك الأرض ، وبينها وبين ميقات أهل المدينة الذي هو ذو الحليفة ميل واحد وهو ثلث فرسخ فحسب ، قال وكذلك يكره الصلاة في كل ارض خسف ولهذا كره أمير المؤمنين (عليه‌السلام) الصلاة في أرض بابل. انتهى.

و (ثانيها) ـ ذات الصلاصل جمع صلصال ، قال ابن إدريس هي الأرض التي لها صوت ودوي. وبذلك فسرها العلامة في المنتهى. وقيل انه الطين الحر المخلوط بالرمل فصار

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 23 من مكان المصلي.


يتصلصل إذا جف اي يصوت. وبه فسره الشهيد (قدس‌سره) ونقله الجوهري عن ابي عبيدة ونحوه كلام القاموس.

أقول : ان كان المراد من هذه التفسيرات في كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) هو دوران الحكم بالكراهة مدارها فهو مشكل لان المفهوم من صحيحة معاوية ابن عمار المتقدمة ان هذا الاسم لموضع مخصوص كالاسمين الآخرين المذكورين معه في هذا الطريق بين الحرمين إلا اني لم أقف على تعيينه في الأخبار ولا كلام أحد من أصحابنا الأبرار.

و (ثالثها) وادي الشقرة لما رواه في الفقيه (1) مرسلا قال : «روى انه لا يصلى في البيداء ولا ذات الصلاصل ولا في وادي الشقرة ولا في وادي ضجنان».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن احمد بن محمد عن ابن فضال عن بعض أصحابنا عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «لا يصلى في وادي الشقرة». ورواه الشيخ بإسناده عن احمد بن محمد مثله (3).

قال ابن إدريس : تكره الصلاة في وادي الشقرة بفتح الشين وكسر القاف واحد الشقر موضع بعينه مخصوص سواء كان فيه شقائق النعمان أو لم يكن ، وليس كل واد يكون فيه شقائق النعمان تكره فيه الصلاة بل في الموضع المخصوص فحسب وهو بطريق مكة لأن أصحابنا قالوا تكره الصلاة في طريق مكة بأربعة مواضع من جملتها وادي الشقرة وقال العلامة في المنتهى : الشقرة بفتح الشين وكسر القاف واحد الشقر وهو شقائق النعمان وكل موضع فيه ذلك تكره الصلاة فيه ، وقيل وادي الشقرة موضع مخصوص بطريق مكة ذكره ابن إدريس. والأقرب الأول لما فيه من اشتغال القلب بالنظر إليها. وقيل هذه مواضع خسف فتكره الصلاة فيها لذلك. انتهى. أقول : بل الأقرب ما ذكره ابن

__________________

(1) الوسائل الباب 23 من مكان المصلي.

(2 و 3) الوسائل الباب 24 من مكان المصلي.


إدريس لما رواه البرقي في كتاب المحاسن بسنده عن عمار الساباطي (1) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لا تصل في وادي الشقرة فإن فيه منازل الجن». وقال في كتاب مجمع البحرين : في الحديث «نهى عن الصلاة في وادي شقرة» هو بضم الشين وسكون القاف وقيل بفتح الشين وكسر القاف موضع معروف في طريق مكة ، قيل انه والبيداء وضجنان وذات الصلاصل مواضع خسف وانها من المواضع المغصوب عليها. انتهى. أقول : بل الأظهر في وجه الكراهة هو ما ذكره (عليه‌السلام) في حديث عمار المذكور.

و (رابعها) ـ وادي ضجنان وضبطه بعضهم بالضاد المعجمة المفتوحة والجيم الساكنة اسم جبل بناحية مكة.

أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بذلك ـ ومنها يعلم وجه الكراهة ـ ما رواه في كتاب بصائر الدرجات بسند صحيح عن علي بن المغيرة (2) قال : «نزل أبو جعفر (عليه‌السلام) في وادي ضجنان ، وذكر حديثا يقول في آخره وانه ليقال انه واد من أودية جهنم».

وروى في كتاب الخرائج والجرائح عن علي بن المغيرة (3) قال : «نزل أبو جعفر (عليه‌السلام) بوادي ضجنان فسمعناه يقول ثلاث مرات : «لا غفر الله لك» فقال له ابي لمن تقول جعلت فداك؟ قال مر بي الشامي «لعنه الله» يجر سلسلته التي في عنقه وقد دلع لسانه يسألني ان استغفر له فقلت له لا غفر الله لك».

وعن عبد الملك القمي عن أخيه (4) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول بينا انا وابي متوجهين إلى مكة فتقدم أبي في موضع يقال له ضجنان إذ جاءني رجل في عنقه سلسلة يجرها فاقبل علي فقال اسقني فسمعه ابي فصاح بي وقال لا تسقه لا سقاه

__________________

(1) الوسائل الباب 24 من مكان المصلي.

(2) الوسائل الباب 23 من مكان المصلى.

(3 و 4) ص 134.


الله فإذا رجل يتبعه حتى جذب سلسلته وطرحه على وجهه في أسفل درك من النار فقال ابي هذا الشامي لعنه الله».

أقول : والمراد بالشامي في الخبرين المذكورين هو معاوية صاحب السلسلة التي ذكرها الله تعالى في سورة الحاقة (1).

ومنها ـ القبور والمراد الصلاة عليها أو إليها أو بينها ، والمشهور بين الأصحاب الكراهة في الجميع ، وعن الشيخ المفيد (قدس‌سره) انه قال لا يجوز الصلاة الى شي‌ء من القبور حتى يكون بين الإنسان وبينه حائل ولو قدر لبنة أو عنزة منصوبة أو ثوب موضوع ، ثم قال وقد روى انه لا بأس بالصلاة إلى قبلة فيها قبر امام والأصل ما قدمناه. ونقل في المنتهى عن الصدوق ايضا القول بما ذهب اليه المفيد ، والظاهر انه اشارة الى ما ذكره في الفقيه حيث قال : واما القبور فلا يجوز ان تتخذ قبلة ولا مسجدا ولا بأس بالصلاة بين خللها ما لم يتخذ شي‌ء منها قبلة. انتهى. ونقل عن ابي الصلاح ايضا القول بالتحريم وانما تردد في الابطال

وها أنا أولا اذكر الأخبار المتعلقة بالمسألة ثم أعطف الكلام على تحقيق المقام بما ظهر لي من اخبارهم (عليهم‌السلام) :

فمنها ـ ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الرجل يصلي بين القبور؟ قال لا يجوز ذلك إلا ان يجعل بينه وبين القبور إذا صلى عشرة أذرع من بين يديه وعشرة أذرع من خلفه وعشرة أذرع عن يمينه وعشرة أذرع عن يساره ثم يصلي ان شاء».

وعن علي بن يقطين (3) قال : «سألت أبا الحسن الماضي (عليه‌السلام) عن الصلاة بين القبور هل تصلح؟ قال لا بأس».

وما رواه في الفقيه في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (4) «انه سأله عن الصلاة بين القبور هل تصلح؟ قال لا بأس به».

__________________

(1) الآية 32.

(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 35 من مكان المصلي.


وعن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه (عليهم‌السلام) في حديث المناهي (1) قال : «نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان تجصص المقابر ويصلى فيها ، ونهى ان يصلى الرجل في المقابر والطرق. الحديث».

وفي حديث يونس بن ظبيان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نهى ان يصلى على قبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن عبد الله الحميري (3) قال : «كتبت الى الفقيه (عليه‌السلام) اسأله عن الرجل يزور قبور الأئمة (عليهم‌السلام) هل يجوز ان يسجد على القبر أم لا؟ وهل يجوز لمن صلى عند قبورهم (عليهم‌السلام) ان يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة ويقوم عند رأسه ورجليه؟ وهل يجوز ان يتقدم القبر ويصلى ويجعله خلفه أم لا؟ فأجاب ـ وقرأت التوقيع ومنه نسخت ـ اما السجود على القبر فلا يجوز في نافلة ولا فريضة ولا زيارة بل يضع خده الأيمن على القبر ، واما الصلاة فإنها خلفه يجعله الامام ولا يجوز ان يصلي بين يديه لأن الإمام لا يتقدم ويصلى عن يمينه وشماله».

وما رواه في الفقيه (4) مرسلا قال : «قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدا فان الله عزوجل لعن اليهود لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

وما رواه في التهذيب عن معمر بن خلاد في الصحيح عن الرضا (عليه‌السلام) (5) قال : «لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتخذ القبر قبلة».

ومنها ـ صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (6) قال : «قلت له الصلاة بين القبور؟ قال صل في خلالها ولا تتخذ شيئا منها قبلة فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نهى عن ذلك وقال لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدا فان الله تعالى لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

__________________

(1 و 2 و 5) الوسائل الباب 25 من مكان المصلي.

(3 و 4 و 6) الوسائل الباب 26 من مكان المصلي.


ورواية أبي اليسع المنقولة في الأمالي (1) قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا اسمع قال إذا أتيت قبر الحسين (عليه‌السلام) اجعله قبلة إذا صليت؟ قال تنح هكذا ناحية». وروى بهذا المضمون خبرا آخر معه.

وما رواه الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن الحميري (2) «انه كتب الى الامام القائم (عليه‌السلام) يسأله انه هل يجوز لمن صلى عند بعض قبورهم (عليهم‌السلام) ان يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة أم يقوم عند رأسه أو رجليه؟ وهل يجوز ان يتقدم القبر ويصلي ويجعل القبر خلفه أم لا؟ فأجاب (عليه‌السلام) اما الصلاة فإنها خلفه ويجعل القبر امامه ولا يجوز ان يصلى بين يديه ولا عن يمينه ولا عن يساره لأن الإمام لا يتقدم ولا يساوى».

وروى الصدوق في كتاب عيون الاخبار في الموثق عن الحسن بن علي بن فضال (3) قال : «رأيت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) وهو يريد ان يودع للخروج إلى العمرة فأتى القبر من موضع رأس النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد المغرب فسلم على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولزق بالقبر ثم انصرف حتى اتى القبر فقام الى جانبه يصلى فألزق منكبه الأيسر بالقبر قريبا من الأسطوانة التي دون الأسطوانة المخلفة التي عند رأس النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فصلى ست ركعات».

وروى جعفر بن محمد بن قولويه في كتاب كامل الزيارات عن محمد بن البصري عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (4) في حديث زيارة الحسين (ع) قال : «من صلى خلفه صلاة واحدة يريد بها الله لقي الله تعالى يوم يلقاه وعليه من النور ما يغشى له كل شي‌ء يراه. الحديث».

وعن هشام بن سالم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) في حديث طويل (5) قال : «أتاه رجل فقال له يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هل يزار والدك؟ قال نعم

__________________

(1) الوسائل الباب 69 من المزار.

(2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 26 من مكان المصلي.


ويصلى عنده. وقال يصلى خلفه ولا يتقدم عليه».

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام في هذه الاخبار يقع في مقامين (الأول) في حكم قبر الامام (عليه‌السلام) والصلاة عنده اما بالتقدم عليه أو المساواة له بان يكون مما يلي رأسه أو رجليه واما مع التأخر عنه ، فهذه مواضع ثلاثة لا بد فيها من تنقيح الكلام بما يدفع عنها غشاوة الإبهام وتوضيحها من اخبارهم (عليهم‌السلام) :

(الأول) ـ في حكم التقدم على القبر الشريف ، اعلم ان ظاهر المشهور في كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) هو الجواز على كراهة ، وممن صرح بذلك الشهيد في الدروس فقال : ولو استدبر القبر وصلى جاز وان كان غير مستحسن إلا مع البعد. وقال العلامة في المنتهى بعد نقله صحيحة الحميري المتقدمة برواية الشيخ في التهذيب : واعلم ان المراد بقوله «لا يجوز ان يصلى بين يديه» الكراهة لا التحريم ، ويفهم من ذلك كراهة الاستدبار له في غير الصلاة. انتهى. وظاهره عدم المخالف في الحكم المذكور وإلا لذكره كما هي عادتهم في الكتب الاستدلالية. وهو الظاهر ايضا من كلام المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد حيث قال ـ بعد البحث عن حكم الصلاة الى القبور ونقل صحيحة الحميري في الرد على مذهب الشيخ المفيد (قدس‌سره) ـ ما صورته : فالقول بالكراهة غير بعيد في قبر غير المعصوم إلا ان يجعل القبر خلفه فإنه يكره حينئذ لما مر. انتهى. وملخصه اختيار كراهية الصلاة الى سائر القبور غير قبر المعصوم فإنه يجوز الصلاة إليه من غير كراهة للصحيحة المذكورة إلا ان يجعل قبر المعصوم خلفه فإنه تحصل الكراهة للرواية المذكورة. وهو الظاهر ايضا من كلام المحدث الكاشاني في المفاتيح حيث قال : ويكره ان يصلي بين المقابر إلا مع بعد عشر أذرع ، الى ان قال في سياق الكراهة وان يستدبر لقبره (عليه‌السلام) بل التقدم على ضريحه المقدس مطلقا كما في الصحيح بل لا يبعد تحريمه لظاهر النهي. وهو ظاهر المحقق أيضا في المعتبر كما ستقف عليه قريبا حيث طعن في الصحيحة المذكورة وردها بأشنع رد.


وبالجملة فإني لم أقف على من قال بالتحريم عملا بظاهر الصحيحة المذكورة سوى شيخنا البهائي (قدس‌سره) في ما سيأتي قريبا ان شاء الله تعالى في كلامه ثم اقتفاه جمع ممن تأخر عنه : منهم ـ شيخنا المجلسي ، وهو الأقرب عندي إذ لا معارض للخبر المذكور بل في الاخبار ما يؤيده مثل حديث هشام بن سالم المتقدم نقله عن كتاب كامل الزيارات حيث قال فيه : «يصلى خلفه ولا يتقدم عليه» والاستناد الى الأصل في مقابلة الخبر المذكور خروج عن مقتضى أصولهم وقواعدهم فان الخبر صحيح صريح ، ومن قواعدهم الخروج عن ذلك الأصل بالخبر الصحيح الصريح. ولا اعرف لهم مستندا في رد الخبر وتأويله بالحمل على الكراهة إلا التمسك بالأصل وقد عرفت ما فيه ، أو عدم القول بذلك من المتقدمين كما هو أحد أصولهم. ولا يخفى وهنه كما تقدم إيضاحه في مقدمات الكتاب. ولو اقتصروا على أقوال المتقدمين لما انتشر بينهم الخلاف في المسائل الشرعية والأحكام الفرعية الى ما هو عليه الآن كما لا يخفى على الفطن البصير ولا ينبئك مثل خبير.

(الموضع الثاني) ـ في حكم المحاذاة ، قد عرفت من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الموضع الأول القول بجواز التقدم فالمحاذاة بطريق اولى ، وقد تقدمت صحيحة الحميري الصريحة في جواز المحاذاة.

ويدل على ذلك جملة من الاخبار الدالة على استحباب الصلاة عند الرأس ، ففي خبر جعفر بن ناجية عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «صل عند رأس قبر الحسين عليه‌السلام». وفي رواية أبي حمزة الثمالي عن الصادق (عليه‌السلام) (2) «ثم تدور من خلفه الى عند رأس الحسين (عليه‌السلام) وصل عند رأسه ركعتين تقرأ في الأولى. الى ان قال وان شئت صليت خلف القبر وعند رأسه أفضل». وفي رواية صفوان

__________________

(1) الوسائل الباب 69 من المزار.

(2) البحار ج 22 ص 154.


عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «ثم قم فصل ركعتين عند الرأس». وفي رواية أخرى لصفوان عن الصادق (عليه‌السلام) (2) «ثم صل عند الرأس ركعتين». الى غير ذلك من الاخبار.

وبذلك صرح أيضا جملة من علمائنا الأعلام أعلى الله درجاتهم في دار السلام : منهم ـ الصدوق في الفقيه (3) حيث قال في زيارة الإمامين الكاظمين (عليهما‌السلام): ثم صل في القبة التي فيها محمد بن علي (عليهما‌السلام) اربع ركعات بتسليمتين عند رأسه : ركعتين لزيارة موسى (عليه‌السلام) وركعتين لزيارة محمد بن علي (عليه‌السلام). وقال في زيارة الرضا (عليه‌السلام) نحوه (4) وقال شيخنا الشهيد في الدروس في تعداد آداب الزيارة : وسادسها صلاة ركعتين للزيارة عند الفراغ وان كان زائرا للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ففي الروضة وان كان لأحد الأئمة (عليهم‌السلام) فعند رأسه. ونحوه في الذكرى. وبه صرح ايضا الشيخ المفيد (قدس‌سره) حيث حرم الصلاة خلف القبر كما تقدم في عبارته ، ثم قال : ويصلي الزائر مما يلي رأس الإمام (عليه‌السلام) فهو أفضل من ان يصلي الى القبر من غير حائل بينه وبينه على حال. وقال أيضا في زيارة الحسين (عليه‌السلام) : وصل عند الرأس ركعتين للزيارة وصل بعدهما ما بدا لك. وقال في زيارة الرضا (عليه‌السلام) مثله.

وأنت خبير بان المتبادر من كونها عند الرأس هو القيام بحذاء الرأس كما وقع نظيره في الاخبار من استحباب الجلوس عند الرأس والدعاء عنده أو يقف عند الرأس ويقول كذا وكذا ، فان المتبادر من هذه العندية في جميع هذه المواضع هو المحاذاة للرأس من غير تقدم ولا تأخر. ولو زعم زاعم ـ ان العندية أعم من المساواة أو التقدم قليلا والتأخر قليلا ـ قلنا مع تسليمه يكفينا في الدلالة على ما ندعيه العموم مع ظهور كونه

__________________

(1) البحار ج 22 ص 159.

(2) البحار ج 22 ص 179.

(3) ج 2 ص 363.

(4) ج 3 ص 367.


أظهر أفراد العام.

وبالجملة فإن جل الاخبار وجملة كلام الأصحاب متفق على جواز ذلك الى ان نشأ في أيامنا هذه بعض من لم يعض على العلم بضرس قاطع ولم يعط التأمل حقه في أمثال هذه المواضع ويرتاع بأدنى شبهة تعرض لباله ويضعف عن ردها بفكره وخياله ، فحكم بتحريم الصلاة مع محاذاة قبر المعصوم (عليه‌السلام) حيث رأى حديث الاحتجاج المتقدم والجواب عنه (أولا) المعارضة بما هو أوضح سندا وأكثر عددا من الاخبار الدالة على استحباب الصلاة عند الرأس دون الخلف الذي اشتملت عليه هذه الرواية إذ المتبادر من الخلفية هو جعل القبر قبلة للمصلي فتكون هذه الرواية منافية للروايات المتقدمة مع تسليم ما ادعاه الخصم ايضا من الشمول للتقدم والتأخر قليلا ، وكذلك الروايات المتقدمة المانعة من الصلاة خلف القبر ، والترجيح لجملة هذه الروايات لما هي عليه من الكثرة والاستفاضة والاعتضاد بعمل الطائفة قديما وحديثا كما عرفت وستعرف.

و (ثانيا) انها معارضة بخصوص صحيحة الحميري المذكورة المنقولة في التهذيب وموثقة الحسن بن علي بن فضال المنقولة من عيون الأخبار المشتملة على ان الرضا (عليه‌السلام) قام الى جانب قبر جده (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولزق منكبه الأيسر بالقبر يعني عند رأسه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهي ظاهرة في المساواة ، وصحيحة الحميري كما عرفت صريحة في ذلك.

وبذلك صرح شيخنا البهائي (قدس‌سره) في كتاب الحبل المتين حيث قال بعد نقل خبر الحميري المذكور بتمامه : هذا الخبر يدل على عدم جواز وضع الجبهة على قبر الإمام ، الى ان قال وعلى عدم جواز التقدم على الضريح المقدس حال الصلاة لأن قوله (عليه‌السلام) «يجعله الامام» صريح في جعل القبر بمنزلة الإمام في الصلاة فكما انه لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام بأن يكون موقفه أقرب الى القبلة من موقف الامام بل يجب ان يتأخر عنه أو يساويه في الموقف يمينا أو شمالا فكذا هنا ، وهذا هو المراد


هنا بقوله (عليه‌السلام) «ولا يجوز ان يصلي بين يديه لأن الإمام لا يتقدم ويصلي عن يمينه وشماله». والحاصل ان المستفاد من هذا الحديث ان كل ما ثبت للمأموم من وجوب التأخر عن الإمام أو المساواة أو تحريم التقدم عليه ثابت للمصلي بالنسبة إلى الضريح المقدس من غير فرق فينبغي لمن يصلى عند رأس الإمام (عليه‌السلام) أو عند رجليه ان يلاحظ ذلك. وقد نبهت على ذلك جماعة من إخواني المؤمنين في المشهد الرضوي على مشرفه السلام فإنهم كانوا يصلون في الصفة التي عند رأسه (عليه‌السلام) صفين فبينت لهم ان الصف الأول أقرب الى القبلة من الضريح المقدس على صاحبه السلام ، وهذا مما ينبغي ملاحظته للمصلي في مسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وكذا في سائر المشاهد المقدسة على ساكنيها أفضل التسليمات. انتهى كلامه (أعلى الله في الخلد مقامه) وهو ظاهر الجودة والرشافة لمن رغب لتحقيق الحق واشتاقه ولم تأخذه في التعصب على الباطل حمية الجاهلية والحماقة.

وما ذكره بعض المتحذلقين ممن حكينا عنهم الخلاف في هذه المسألة ـ من احتمال عطف «ويصلى» في الخبر المذكور على قوله «ولا يجوز ان يصلي» أو قوله «لا يتقدم» ـ فهو تعسف ظاهر عند ذوي الأفهام بل هو مما ينزه عنه كلام الإمام الذي هو امام الكلام ، إذ لا يخفى على من مضغ ثلج البلاغة والفصاحة ومن سرح بريد نظره في تلك الساحة ان المتبادر من قول القائل «ما جاء زيد وجاءني عمر» هو نفي المجي‌ء عن زيد مع إثباته لعمرو لا نفيه عنه ، ومتى أريد نفيه عنه أعيد حرف النفي فقيل «ما جاءني زيد ولا عمرو» حسبما وقع في الخبر الذي استندوا اليه.

وكيف كان فلا ريب في ترجيح خبر التهذيب بصحة السند أولا ، وثانيا انه لا خلاف بين المحققين في ترجيح اخبار الكتب الأربعة المشهورة على غيرها بل المشهور عندهم عدم العمل بغير اخبار الكتب الأربعة لشهرتها ومعلوميتها ونحو ذلك مما ذكروه وان كنا لا نعتمده ، إلا انه في مقام التعارض بين ما فيها وفي غيرها فالترجيح لما فيها


البتة ولا سيما مع صحة السند وضعف المعارض ، فيتعين العمل بالرواية المذكورة وارجاء الرواية المقابلة إلى قائلها. ومع غض الطرف عن جميع ذلك فلنا ان نقول ان هذين الخبرين قد تعارضا فتساقطا فرجعنا إلى قضية الأصل. ولا ريب ان الأصل صحة الصلاة حتى يقوم دليل الابطال وليس فليس. والعجب من هؤلاء المتحذلقين انهم في جميع الأحكام متى تعارضت الاخبار جمعوا بينها بالكراهة والاستحباب كما هي القاعدة المطردة عند الأصحاب فكيف غفلوا عن ذلك في هذا المقام؟

(الموضع الثالث) ـ في حكم التأخر خلف القبر ، والمشهور بين الأصحاب الجواز على كراهة قبر امام كان أو غيره ، وقد تقدم نقل القول بالتحريم عن الصدوق والمفيد وابي الصلاح ، وهو ظاهر المحقق في المعتبر ايضا حيث انه ـ بعد ان نقل موثقة عمار ورواية معمر بن خلاد الدالتين على النهي عن الصلاة خلف القبر مطلقا ، ثم نقل كلام المفيد المتقدم وقوله فيه «وقد روى انه لا بأس. إلخ» ـ قال ولا ريب أن إطراحه هذه الرواية لضعفها وشذوذها واضطراب لفظها. انتهى. وهو ـ كما ترى ـ ظاهر في موافقة الشيخ المفيد في ما ذهب اليه من التحريم خلف القبور مطلقا للروايتين المذكورتين في كلامه وتصويب الشيخ المفيد (قدس‌سره) في رد صحيحة الحميري الدالة على الأمر بالصلاة خلف الامام (عليه‌السلام).

ومنشأ هذا الاختلاف هو ما عرفت من الاخبار في المقام ، فما يدل على القول بالتحريم ما لم يحصل الفاصل أو البعد المذكور في موثقة عمار صحيحة معمر بن خلاد وموثقة عمار ورواية أبي اليسع وصحيحة زرارة ومرسلة الفقيه المتقدم جميع ذلك إلا ان بإزائها ما يدل على الجواز كصحيحة علي بن يقطين وصحيحة على بن جعفر وصحيحة الحميري ورواية الاحتجاج وغيرها مما تقدم جميعه.

والأصحاب قد جمعوا بين الجميع بحمل أخبار النهي على الكراهة حيث ان الأفضل ـ كما تقدم ذكره ـ هو الصلاة عند الرأس ، ويشير الى ذلك قوله (عليه‌السلام)


في رواية الثمالي المتقدمة في الموضع الثاني : «وان شئت صليت خلفه وعند رأسه أفضل» نعم اجراء هذا الحمل في صحيحة زرارة ومرسلة الفقيه لا يخلو من بعد ، ولهذا احتمل بعض مشايخنا في معناهما ان المراد انه لا يجوز ان يجعل قبره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قبلة يعني مثل الكعبة يصلى إليها من كل جهة ولا مسجدا يعني السجود على القبر. والظاهر عندي بعده ولا سيما في الصحيحة المذكورة لأن هذا الكلام وقع تعليلا للنهي عن اتخاذ شي‌ء من القبور قبلة وانما يصلى خلالها يعني من غير ان يجعل شيئا منها قبلة ، ومن الظاهر البين ان المراد من هذا الكلام انما هو النهي عن الصلاة خلفها لا استقبالها من جميع الجهات فلو حمل الكلام الذي وقع تعليلا على ما ذكروه لم يصلح للتعليل مع انه مسوق له نعم يمكن حمل الخبرين المذكورين على التقية لأن العامة قد رووا نحوه عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (1) كما نقله العلامة في المنتهى ، مع إمكان حمل الخبرين على التخصيص به (صلى‌الله‌عليه‌وآله) دون سائر قبور الأئمة المعصومين (عليهم‌السلام) كما يؤذن به التعليل الذي في الخبر من التشبه باليهود.

وبالجملة فالظاهر عندي هو جواز الصلاة خلف قبورهم (عليهم‌السلام) وان كان على كراهية ، قال السيد السند في المدارك ـ بعد ان نقل كلام الشيخ المفيد (قدس‌سره) وبين انه أشار بالرواية إلى صحيحة الحميري المتقدمة ـ ما صورته : ولا بأس بالعمل بهذه الرواية لصحتها ومطابقتها لمقتضى الأصل والعمومات. وذكر المصنف في المعتبر انها ضعيفة شاذة. وهو غير واضح. انتهى.

(المقام الثاني) ـ في حكم سائر القبور ، والمشهور بين الأصحاب ـ كما عرفت ـ الحكم بالجواز على كراهة ، وتقدم ايضا مذهب المشايخ القائلين بالتحريم. واما الاخبار المتعلقة بذلك فقد عرفت دلالة صحيحة زرارة على جواز الصلاة خلال القبور والمنع من اتخاذها قبلة ومثلها صحيحة معمر بن خلاد ، والأصحاب قد حملوهما على الكراهة جمعا

__________________

(1) صحيح مسلم ج 5 ص 12.


بينهما وبين صحيحتي علي بن يقطين وعلي بن جعفر الدالتين على جواز الصلاة بين القبور.

ولقائل أن يقول من جانب القول بالتحريم ان صحيحتي علي بن يقطين وعلي بن جعفر انما دلتا على جواز الصلاة بين القبور وهو أعم من التوجه إليها وعدمه فغايتهما الدلالة على ذلك بالإطلاق ، والصحيحتان المعارضتان قد فصلتا بالفرق بين الصلاة خلالها فإنه جائز والصلاة إليها فإنه محرم ، وقضية القاعدة المقررة حمل المجمل على المفصل والمطلق على المقيد. نعم قد ورد جواز الصلاة خلف القبر صريحا بالنسبة إلى قبور الأئمة (عليهم‌السلام) كما تقدم ، فيجب تخصيص الصحيحتين المانعتين من الصلاة خلف القبور بها وان لم يقل به الشيخان المذكوران ومن تبعهما ، ويبقى ما عدا قبور الأئمة (عليهم‌السلام) تحت النهي المقتضي للتحريم من غير معارض ظاهر في المعارضة.

وبالجملة فالظاهر عندي من ضم الأخبار بعضها الى بعض في هذه المسألة هو انه تجوز الصلاة الى قبور الأئمة على كراهة واما غير الأئمة فالظاهر التحريم. واما موثقة عمار المتقدمة فقد عرفت ان الأصحاب يحملونها على الكراهة جمعا بينها وبين صحيحتي علي بن يقطين وعلي بن جعفر ، ويأتي على ما اخترناه من تخصيص الصحيحتين المذكورتين بالصلاة خلال القبور من غير استقبال شي‌ء منها ثبوت الكراهة في الصورة المذكورة دون صورة الاستقبال فهو باق على ظاهر النهي والتحريم المفهوم من قوله في الخبر «لا يجوز» وحينئذ فقوله «لا يجوز» محمول على ظاهره بالنسبة إلى صورة الاستقبال وعلى الكراهة بالنسبة الى ما عدا ذلك. وما يقال ـ من لزوم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه وهو ممنوع عند الأصوليين ـ مدفوع بما قدمنا في غير موضع من وجود ذلك في الاخبار في مواضع لا تحصى ، وقد صرح بجواز ذلك ايضا الشهيد في الذكرى في مسألة الصلاة في السنجاب والحواصل. هذا ، وجملة من الاخبار المتقدمة أيضا مجملة في النهي عن الصلاة في المقابر وفي بعضها على القبر.

وبالجملة فإنا لم نجد في الاخبار معارضا صريحا لصحيحة زرارة ومعمر بن خلاد


الدالتين على النهي عن اتخاذ القبور قبلة إلا الاخبار الدالة على الصلاة خلف قبور الأئمة (عليهم‌السلام) وقد عرفت ان الشيخين المتقدمين ومن تبعهما قد أطلقا الحكم بالتحريم إلا ان مقتضى التأمل في الأخبار تخصيص التحريم بغير قبور الأئمة (عليهم‌السلام) كما شرحناه وأوضحناه. والوجه في استثناء قبورهم (عليهم‌السلام) مزيد الشرف لها على غيرها. والاحتياط لا يخفى.

فروع

(الأول) ـ الحق جمع من الأصحاب بالقبور القبر والقبرين ، قال في البحار ومستنده غير واضح. أقول : ان كان هذا الإلحاق بالنسبة إلى الصلاة خلف القبر فإنه صحيح لان الحكم معلق باستقبال القبر ولا يشترط فيه التعدد ، وان كان بالنسبة إلى الصلاة على القبر فكذلك ، وان كان بالنسبة إلى البينية فما ذكره (قدس‌سره) من عدم وضوح المستند جيد لان مورد الاخبار القبور.

(الثاني) ـ قد عرفت في ما تقدم من كلام المفيد (قدس‌سره) بعد حكمه بالتحريم انه حكم بزواله بالحائل ولو قدر لبنة أو عنزة منصوبة أو ثوب موضوع ، وكذلك حكم الأصحاب بزوال الكراهة بذلك. وهو مشكل حيث انا لم نقف على مستنده ، والذي ورد في موثقة عمار زوال ذلك ببعد عشرة أذرع من الجوانب الأربعة إذا كانت الصلاة بين القبور. واكتفى الشيخ بكون القبر خلف المصلى عن البعد ، قال في الروض : وهو متجه مع عدم صدق الصلاة بين المقابر كما لو جعل المقبرة خلفه وإلا فقد تقدم اعتبار تأخر القبر عنه من خلفه عشرة أذرع. انتهى. وهو جيد. نعم لو كان الحائل جدارا ونحوه مما يخفى به القبر فلا إشكال في جواز الصلاة من غير تحريم ولا كراهة لأن القبر يخرج عن كونه قبلة ولانه يلزم الكراهة ولو كان بينهما جدران متعددة.

(الثالث) ـ قال في المنتهى : لو بنى مسجدا في المقبرة لم تزل الكراهة


لأنها لا تخرج عن الاسم. انتهى. والظاهر ان مراده ان اتخاذ المسجد في المقبرة لا يرفع كراهة الصلاة فيها من حيث المسجدية ، إلا ان ظاهر هذا الكلام يعطي جواز بناء المسجد في المقبرة ، وهو مشكل لما رواه في الفقيه عن سماعة بن مهران (1) قال : «وسأله سماعة بن مهران عن زيارة القبور وبناء المساجد فيها؟ فقال اما زيارة القبور فلا بأس بها ولا يبنى عندها مساجد». ويؤيده ان الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في أن الأراضي المحبوسة على المنافع العامة كالشوارع والمشارع والطرق والمقابر والأسواق ونحوها لا يجوز التصرف فيها على وجه يمنع الانتفاع بها في ما هي معدة له.

(الرابع) ـ قال في الروض : وكما تكره الصلاة الى القبر تكره عليه من غير تحريم إلا ان يعلم نجاسة ترابه باختلاطه بصديد الموتى لتكرر النبش ويوجب التعدي اليه أو سجوده عليه ، وقال ابن بابويه يحرم. أقول : ويدل على النهي عن الصلاة على القبر عموم النهى عن الصلاة في المقابر وخصوص رواية ابن ظبيان المتقدمة.

ومنها ـ النار وقيدها بعضهم بالمضرمة وظاهر الاخبار العموم وعليه العمل ، والظاهر انه لا خلاف بينهم في النهي عن الصلاة إليها.

ويدل عليه ما رواه الصدوق والشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الرجل يصلى والسراج موضوع بين يديه في القبلة؟ قال لا يصلح له ان يستقبل النار».

وفي الموثق عن عمار الساباطي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «لا يصلي الرجل وفي قبلته نار أو حديد. قلت إله ان يصلي وبين يديه مجمرة شبه؟ قال نعم ، فان كان فيها نار فلا يصلي حتى ينحيها عن قبلته. وعن الرجل يصلي وفي قبلته قنديل معلق وفيه نار إلا انه بحياله. قال إذا ارتفع كان شرا لا يصلى بحياله».

والمشهور ان النهي في هذين الخبرين محمول على الكراهة ، ونقل عن ابي الصلاح

__________________

(1) الوسائل الباب 65 من الدفن.

(2 و 3) الوسائل الباب 30 من مكان المصلي.


انه لا يجوز أخذا بظاهر النهي في الخبرين المذكورين.

ويدل على الجواز ما رواه الشيخ والصدوق عن عمرو بن إبراهيم الهمداني رفع الحديث (1) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لا بأس ان يصلي الرجل والنار والسراج والصورة بين يديه ، ان الذي يصلي له أقرب إليه من الذي بين يديه». ونسبه في التهذيبين الى الشذوذ والرخصة.

وقال في الفقيه بعد نقل صحيحة علي بن جعفر المذكورة : هذا هو الأصل الذي يجب ان يعمل به فاما الحديث الذي روى عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) ـ انه قال : «لا بأس ان يصلي الرجل والنار والسراج والصورة بين يديه لأن الذي يصلى له أقرب إليه من الذي بين يديه». ـ فهو حديث يروى عن ثلاثة من المجهولين بإسناد منقطع يرويه الحسن بن علي الكوفي ـ وهو معروف ـ عن الحسين بن عمرو عن أبيه عن عمرو بن إبراهيم الهمداني ـ وهم مجهولون ـ يرفع الحديث قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ذلك» ولكنها رخصة اقترنت بها علة صدرت عن ثقات ثم اتصلت بالمجهولين والانقطاع فمن أخذ بها لم يكن مخطئا بعد ان يعلم ان الأصل هو النهي وان الإطلاق هو رخصة والرخصة رحمة. انتهى.

أقول : صورة سند الخبر المذكور في كتاب العلل «عن أبيه ومحمد بن الحسن عن محمد بن يحيى العطار عن محمد بن أحمد الأشعري عن الحسن بن علي بن الحسين بن عمرو. الى آخر ما ذكره» وما ذكره (قدس‌سره) من حمل هذا الخبر على الرخصة يحتمل ان يكون مراده الجواز وان كان مكروها فيكون النهي في الخبر الأول محمولا على الكراهة كما هو المشهور فلا منافاة ، ويحتمل ان يكون مراده بخبر النهي التحريم وخبر الرخصة من حيث الضرورة مثل ان يجاء بالنار في قبلته وهو يصلى وهو لا يتمكن من الانحراف عنها ولا قطع الصلاة فيتم صلاته. ولعل الأول أقرب وان كان الثاني بلفظ

__________________

(1) الوسائل الباب 30 من مكان المصلي.


الرخصة أنسب. ثم ان ما ذكره من قوله : «صدرت عن ثقات» موافق لما ذكره شيخ الطائفة في العدة الأصولية من ان أحاديث أصحابنا مأخوذة من أصول جمعها الثقات من قدمائنا وقد وقع إجماع الطائفة وفيهم الأئمة (عليهم‌السلام) على صحة تلك الأصول فلا يضر كون بعض رواتها ضعيفا أو مجهولا. انتهى وبذلك اعترف في هذا الخبر في المدارك فقال بعد نقل كلام الصدوق : وربما كان في هذا الكلام شهادة منه بصحة الرواية. أقول : بل فيه إشعار بالشهادة بصحة جميع الروايات لان جميع أصحاب الأصول معروفون عنده معلومون وان حصل في الطريق إليهم من يرمى بالضعف والمجهولية ونحوهما والمراد بالثقات هنا هو الحسن بن علي الكوفي ومن تقدمه في سند العلل المتقدم ويحتمل ان يكون المصنف نقل الخبر الذي في الفقيه من كتاب الحسن بن علي الكوفي أو من كتاب محمد بن احمد بن يحيى الأشعري كما نقله في التهذيب فيكون الثقات هم الرواة لتلك الأصول والسلسلة بين المصنف وبين أصحاب الأصول. ويظهر من الصدوق توثيق الحسن بن علي الكوفي وهو الحسن بن علي بن عبد الله بن المغيرة الكوفي فإن معنى قوله «معروف» يعنى بالوثاقة ولهذا وجه القدح الى من بعده ، وفيه رد على شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) حيث رد حديث الحسن بن علي الكوفي ورماه بالضعف في غير موضع من المسالك. واما وصف من روى عنهم الحسن بن علي بكونهم مجهولين يعني عند المصنف وعندنا حيث لم نقف على أحوالهم في ما وصل إلينا من كتب الاخبار ولا يستلزم ذلك كونهم مجهولين عند أصحاب الأصول الذين أخذوا عنهم.

أقول : والذي يختلج في بالي ويتردد في فكري وخيالي في معنى الخبر الذي حملوه على الرخصة ان المراد منه معنى آخر غير ما ذكروه ولعله الأقرب ، وهو انه لا يخفى ان الكراهة وعدمها في هذا المقام تتفاوت باعتبار أحوال المصلين وإقبالهم على الله سبحانه في صلاتهم وعدمه فمن كان وجه قلبه متوجها الى الله عزوجل لا الى غيره وفكره مستغرقا في مراقبته في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده فلا يضره ما يكون بين يديه من


هذه الأشياء ولا يشغله عن ملاحظته ، ومن لم يكن كذلك فهو المراد بأخبار النهي لأن هذه الأشياء تكون موجبة لشغل قلبه وتشويش فكره. ومما يؤيد ذلك ما رواه في كتاب التوحيد عن ابن ابي عمير (1) قال : «رأى سفيان الثوري أبا الحسن (عليه‌السلام) وهو غلام يصلي والناس يمرون بين يديه فقال له ان الناس يمرون بين يديك وهم في الطواف؟ فقال (عليه‌السلام) الذي أصلي له أقرب من هؤلاء». وبمضمونه أخبار أخر ستأتي ان شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا فاعلم انه قد روى الطبرسي في الاحتجاج عن محمد بن جعفر الأسدي (2) قال : «كان في ما ورد علي من محمد بن عثمان العمري عن القائم (عليه‌السلام): واما ما سألت عنه من أمر المصلي والنار والصورة والسراج بين يديه هل تجوز صلاته فان الناس قد اختلفوا في ذلك قبلك؟ فإنه جائز لمن لم يكن من أولاد عبدة الأوثان والنيران يصلي والنار والصورة والسراج بين يديه ولا يجوز ذلك لمن كان من أولاد عبدة الأوثان والنيران». ورواه الصدوق في كتاب كمال الدين مسندا عن محمد بن جعفر الأسدي. ويمكن حمل التفصيل في هذا الخبر على ان الكراهة بالنسبة إلى أولاد عبدة النيران والأوثان أشد واحتمال ارادة التحريم ليس بذلك البعيد أيضا إلا ان الظاهر ان الأول أقرب. والله العالم.

ومنها ـ صلاة الفريضة في جوف الكعبة على المشهور وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في صدر المقدمة الرابعة في القبلة.

ومنها ـ بيوت المجوس وعللوا ذلك بعدم انفكاكها عن النجاسة ، ولا يخفى ان هذه العلة جارية في غيرهم من اليهود والنصارى ونحوهم مع انهم لا يقولون بذلك بل العلة الحقيقية انما هو النص وهو ما رواه أبو بصير (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في بيوت المجوس فقال رش وصل». وما رواه عبد الله بن سنان في

__________________

(1) الوسائل الباب 11 من مكان المصلي.

(2) الوسائل الباب 30 من مكان المصلي.

(3) الوسائل الباب 14 من مكان المصلى.


الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس فقال رش وصل». وقد قطع الأصحاب بزوال الكراهة بالرش كما دل عليه الخبران.

وقد صرحوا بالكراهة أيضا في بيت فيه مجوسي وتجوز بلا كراهة إذا كان الذي فيه نصرانيا أو يهوديا ، ويدل عليه ما رواه في الكافي عن أبي أسامة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «لا يصلى في بيت فيه مجوسي ولا بأس ان يصلى وفيه يهودي أو نصراني». وظاهر الخبرين الأولين كراهة الصلاة في بيته وان لم يكن فيه حتى يرشه وظاهر الثالث كراهة الصلاة في البيت الذي فيه المجوسي وان لم يكن بيته بل من حيث مجرد حضوره فيه ولهذا لم يذكر الرش هنا لتغاير العلتين في الخبرين والخبر الثالث قد رواه الشيخ عن أبي جميلة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) مثل خبر أبي أسامة.

وظاهرهم الجواز من غير كراهة في البيع والكنائس ، ونقل عن ابن إدريس وسلار وابن البراج انهم كرهوا الصلاة في البيع والكنائس محتجبين بعدم انفكاكها من النجاسة ، قال في المدارك وهو ضعيف.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص بن القاسم (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البيع والكنائس يصلى فيها؟ قال نعم. قال وسألته هل يصلح نقضها مسجدا؟ فقال نعم».

وعن عبد الله بن سنان (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في البيع والكنائس فقال رش وصل. قال وسألته عن بيوت المجوس فقال رشها وصل». وصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة أيضا.

__________________

(1 و 4 و 5) الوسائل الباب 13 من مكان المصلى. والأولى رواية الشيخ والثالثة للكليني.

(2 و 3) الوسائل الباب 16 من مكان المصلي.


وما رواه في الكافي عن الحكم بن الحكم (1) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول وسئل عن الصلاة في البيع والكنائس فقال : صل فيها قد رأيتها ما أنظفها. قلت أيصلى فيها وان كانوا يصلون فيها؟ قال نعم أما تقرأ القرآن ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (2) صل إلى القبلة وغربهم».

وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) في حديث قال : «سألته عن الصلاة في البيعة فقال إذا استقبلت القبلة فلا بأس به».

وروى في كتاب قرب الاسناد عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (4) قال : «لا بأس بالصلاة في البيعة والكنيسة الفريضة والتطوع والمسجد أفضل».

أقول : لا يخفى ان هذه الروايات الواردة في المقام ما بين مطلق للجواز وما بين مقيد بالرش وقضية حمل المطلق على المقيد الكراهة حتى يحصل الرش الذي به تزول الكراهة. وبذلك يظهر قوة ما ذهب اليه ابن إدريس وسلار وابن البراج فلا معنى لفرقهم في هذا المقام بين بيوت المجوس التي اتفقوا فيها على الكراهة وبين البيع والكنائس التي حكموا فيها بعدم الكراهة ، فإن الرش ان كان لدفع الكراهة ففي الموضعين وان كان لا لذلك ولا يستلزم الكراهة ففي الموضعين ايضا ، فإثباتها في أحدهما دون الآخر مع اشتراك الدليل لا اعرف له وجها.

أقول : ومن الأخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (5) قال : «سألته عن بواري اليهود والنصارى التي يقعدون عليها في بيوتهم أيصلى عليها؟ قال لا». أقول : حيث كان مقتضى

__________________

(1) الوسائل الباب 13 من مكان المصلى والرواية في التهذيب دون الكافي.

(2) سورة بني إسرائيل ، الآية 86.

(3 و 4) الوسائل الباب 13 من مكان المصلي.

(5) ص 86 ورواه الشيخ في التهذيب ج 1 ص 242 راجع الوسائل الباب 73 من النجاسات.


الأصل الطهارة فالخبر اما محمول على علم النجاسة فيكون النهي للتحريم أولا فيكون النهي محمولا على الكراهة.

وما رواه في الكافي عن عامر بن نعيم (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن هذه المنازل التي ينزلها الناس فيها أبوال الدواب والسرجين ويدخلها اليهود والنصارى كيف نصلي فيها؟ قال صل على ثوبك».

أقول : يستفاد من هذين الخبرين كراهة الصلاة في بيوت اليهود والنصارى ومقاعدهم وان لم يذكره الأصحاب.

ثم انه هل يشترط إذن أهل الذمة في ذلك أم لا؟ مقتضى إطلاق النص وكلام الأصحاب هو الثاني ، واحتمل الشهيد في الذكرى الأول تبعا لغرض الواقف وعملا بالقرينة. والظاهر ضعفه لإطلاق الأخبار المذكورة وما دل عليه بعضها من جواز نقضها مسجدا ، قال بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) بل لو علم اشتراطهم عند الوقف عدم صلاة المسلمين فيها كان شرطهم فاسدا باطلا وكذا الكلام في مساجد المخالفين وصلاة الشيعة فيها. انتهى.

ومنها ـ بيوت الخمور وبيوت النيران ، أقول : اما بيوت الخمور فيدل عليه قول ابي عبد الله (عليه‌السلام) في موثقة عمار (2) «لا تصل في بيت فيه خمر أو مسكر». وقال في المقنع : لا يجوز الصلاة في بيت فيه خمر محصور في آنية ، قال وروى انه يجوز. أقول : هذه العبارة مأخوذة من عبارة كتاب الفقه الرضوي (3) حيث قال (عليه‌السلام) فيه «لا تصل في بيت فيه خمر محصور في آنية». وبنحو هذه العبارة عبر في من لا يحضره الفقيه ايضا. قال في المدارك : ومنع الصدوق في من لا يحضره الفقيه من الصلاة في بيت فيه خمر محروز في آنية مع انه حكم بطهارة الخمر واستبعده المتأخرون لذلك ولا بعد فيه

__________________

(1) الوسائل الباب 22 من مكان المصلي.

(2) الوسائل الباب 21 من مكان المصلى.

(3) البحار ج 18 الصلاة ص 113.


بعد ورود النص به. انتهى. أقول : فيه ان استبعاد المتأخرين ذلك يرجع الى الجمع بين هذين الحكمين وهو قوله بالكراهة هنا مع قوله بطهارة الخمر ، وهو في محله وذلك فإنه متى كانت الخمر طاهرة فسبيلها سبيل الأشياء الطاهرة في البيت فلا مناسبة للمنع من الصلاة والحال هذه وهذا المنع انما يلائم القول بالنجاسة ، فكلامهم في الحقيقة يرجع الى الاعتراض عليه في ذهابه إلى طهارة الخمر إذ لو كان طاهرا كما يدعيه لما حكم عليه بالكراهة هنا إذ لا يعقل للحكم بالكراهة هنا مناسبة على هذا التقدير.

واما بيوت النيران ـ والمراد بها ما أعدت لإضرام النار فيها كالفرن والأتون وان لم تكن موضع عبادتها ـ فقد ذكرها الأصحاب (رضوان الله عليهم) ولم أقف بعد الفحص على خبر يدل على كراهة الصلاة فيها كما اشتهر في كلامهم ، والعلامة في جملة من كتبه انما علل كراهة الصلاة فيها بكون الصلاة فيها تشبها بعبادتها. قال في المدارك : وهو ضعيف جدا والأصح اختصاص الكراهة بمواضع عبادة النيران لأنها ليست موضع رحمة فلا تصلح لعبادة الله تعالى.

أقول : لا يخفى انه متى كانت المسألة عارية من النص وانما يراد التعليل بهذه المناسبات الاعتبارية فلا معنى لهذه الا صحية التي ادعاها ولا وجه لتضعيفه كلام العلامة فإنه إذا كفى في ثبوت الكراهة الأمور الاعتبارية المناسبة لتعظيم الصلاة فما ذكره العلامة فإنه إذا كفى في ثبوت الكراهة الأمور الاعتبارية المناسبة لتعظيم الصلاة فما ذكره العلامة متجه وان كان ما ذكره أوجه. نعم ذكر محمد بن علي بن إبراهيم في كتاب العلل المتقدم ذكره (1) في جملة ما عده من الأماكن التي تكره الصلاة فيها قال : ولا بيت فيه صلبان ، الى ان قال في بيان العلة : والعلة في بيت فيه صلبان انها شركاء يعبدون من دون الله تعالى فينزه الله تبارك وتعالى ان يعبد في بيت فيه ما يعبد من دون الله تعالى. انتهى. وفيه نوع ملائمة لما ذكروه في هذه المسألة إلا ان إثبات الحكم بمجرد ذلك لا يخلو من الاشكال.

__________________

(1) البحار ج 18 الصلاة ص 122.


ومنها ـ الغائط في قبلته أو حائط ينز من بالوعة. اما الأول فيدل عليه ما رواه في الكافي والتهذيب عن الفضيل بن يسار (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أقوم في الصلاة فأرى قدامي في القبلة العذرة؟ قال تنح عنها ما استطعت. الحديث». واما الثاني فيدل عليه ما رواه في الكافي عن البزنطي (2) «عن من سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المسجد ينز حائط قبلته من بالوعة يبال فيها؟ فقال ان كان نزه من البالوعة فلا تصل فيه وان كان نزه من غير ذلك فلا بأس». والتقريب فيها انه وان كان موردها البول إلا انه متى ثبت ذلك في البول ففي الغائط بطريق اولى. وروى في الفقيه عن محمد بن أبي حمزة عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) (3) قال : «إذا ظهر النز من خلف الكنيف وهو في القبلة ستره بشي‌ء». ونقل في البحار (4) عن كتاب الحسين بن عثمان قال : «روى عن ابي الحسن (عليه‌السلام) انه قال إذا ظهر النز إليك من خلف الحائط من كنيف في القبلة سترته بشي‌ء. قال ابن ابي عمير رأيتهم قد ثنوا بارية وباريتين قد ستروا بها».

ومنها ـ ان يكون بين يديه مصحف مفتوح ، وزاد بعضهم الإنسان المواجه والباب المفتوح فتكره الصلاة إليها.

أقول : اما الأول فاستندوا فيه الى رواية عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (5) «في الرجل يصلي وبين يديه مصحف مفتوح في قبلته؟ قال لا. قلت فان كان في غلاف؟ قال نعم».

قال في المدارك : والحق به الشارح كل مكتوب ومنقوش ، وهو جيد للمسامحة في أدلة السنن وان كان للمناقشة في أمثال هذه المباني المستنبطة مجال.

__________________

(1) الوسائل الباب 31 من مكان المصلي.

(2 و 3) الوسائل الباب 18 من مكان المصلي.

(4) مستدرك الوسائل الباب 13 من مكان المصلي.

(5) الوسائل الباب 27 من مكان المصلي.


أقول : لعل المستند لما نقله عن جده (قدس‌سره) ما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن العلوي عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الرجل هل يصلح له ان ينظر في نقش خاتمه وهو في الصلاة كأنه يريد قراءته أو في مصحف أو في كتاب في القبلة؟ قال ذلك نقص في الصلاة وليس يقطعها». والسيد السند حيث لم يقف على الرواية نسب ذلك الى الاستنباط والظاهر ان جده لم يقف عليها ايضا وانما ذكر الحكم بالتقريب الذي ذكره سبطه كما هي قاعدتهم في غير موضع لكن الخبر ـ كما ترى ـ ظاهر في الحكم المذكور فلا اشكال.

ثم العجب من السيد السند (قدس‌سره) انه مع اعترافه بكون ذلك من المباني المستنبطة كيف يذكر أولا انه جيد ويعلل ذلك بالمسامحة في أدلة السنن؟ أليس السنن من الأحكام الشرعية المتوقف تشريعها على الدليل؟ وهل تبلغ المسامحة في الأحكام الشرعية الى هذا المقدار؟ وغاية ما بلغ إليه الأصحاب بناء على هذا الاصطلاح المحدث هو الاكتفاء بالخبر الضعيف في ذلك لا مجرد القول من غير خبر قياسا على الأشباه والنظائر فإنه من القياس الممنوع منه ، على ان جمعا منهم نبهوا على انه ليس الاعتماد في ذلك على الخبر الضعيف بل على الاخبار المستفيضة الدالة على ان «من بلغه شي‌ء من الثواب على عمل فعمله ابتغاء ذلك الثواب كان له وان لم يكن الأمر كما بلغه» (2). وبالجملة فإن كلامه هنا لا يخلو من مسامحة.

واما الثاني فيمكن ان يكون المستند فيه ما رواه في كتاب قرب الاسناد عن علي ابن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن الرجل يكون في صلاته هل يصلح له ان تكون امرأة مقبلة بوجهها عليه في القبلة قاعدة أو قائمة؟ قال يدرأها عنه فان لم يفعل لم يقطع ذلك صلاته». ومورد الخبر وان كان أخص مما ذكروه إلا ان الظاهر

__________________

(1) الوسائل الباب 27 من مكان المصلي.

(2) الوسائل الباب 18 من مقدمة العبادات.

(3) الوسائل الباب 43 من مكان المصلي.


انه لا خصوصية للمرأة بذلك توجب قصر الحكم عليها خصوصا مع جواز النظر الى وجه الأجنبية فإن أكثر الأحكام انما خرجت سؤالا وجوابا في الرجال مع حكمهم فيها بالعموم للنساء إلا مع ظهور ما يوجب التخصيص ، ويؤيده ما رواه في كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (1) «انه كره ان يصلي الرجل ورجل بين يديه قائم».

واما الثالث فلم أقف له على دليل. والقول بالكراهة في هذين الموضعين الأخيرين منقول عن ابي الصلاح واعترف المتأخرون بعدم الوقوف له على دليل فيهما حتى ان المحقق في المعتبر إنما التجأ إلى انه أحد الأعيان فلا بأس باتباع فتواه. ونحن قد أثبتنا لك دليل الأول منهما. واما الثاني فلم نقف له على دليل. واما كلام المحقق هنا فلا يخفى ما فيه سيما مع ما علم من مناقشته للشيخ وأمثاله في طلب الأدلة وصحتها متى لم يصل اليه الدليل بل يناقشهم مع وجود الأدلة بزعم ضعفها ولم نره يعتمد على مجرد التقليد وحسن الظن بمن تقدمه من الأعيان إلا في هذا المكان. والله العالم.

(المسألة الخامسة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في استحباب السترة بضم السين للمصلي في قبلته ونقل عليه في المنتهى الإجماع عن كافة أهل العلم.

وقد دل على ذلك جملة من الاخبار : منها ـ ما رواه الشيخ والكليني عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «كان طول رحل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذراعان وكان إذا صلى وضعه بين يديه يستتر به ممن يمر بين يديه».

وما روياه في الصحيح عن معاوية بن وهب عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يجعل العنزة بين يديه إذا صلى». أقول : والعنزة بفتح العين المهملة وتحريك النون وبعدها زاى : عصاه في أسفلها حربة

__________________

(1) مستدرك الوسائل الباب 4 من مكان المصلي.

(2 و 3) الوسائل الباب 12 من مكان المصلي.


وفي الصحاح أنها أطول من العصا واقصر من الرمح.

وما رواه في التهذيب عن غياث عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وضع قلنسوة وصلى إليها».

وعن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) (2) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا صلى أحدكم بأرض فلاة فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرجل فان لم يجد فحجرا فان لم يجد فسهما فان لم يجد فليخط في الأرض بين يديه». قال في الوافي : «مثل مؤخرة الرحل» يعني بتلك المماثلة ارتفاعه من الأرض.

وعن محمد بن إسماعيل في الصحيح عن الرضا (عليه‌السلام) (3) «في الرجل يصلى؟ قال يكون بين يديه كومة من تراب أو يخط بين يديه بخط».

وعن عبد الله بن ابي يعفور في الموثق (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل هل يقطع صلاته شي‌ء مما يمر به؟ فقال لا يقطع صلاة المسلم شي‌ء ولكن ادرأوا ما استطعتم».

وعن ابي بصير في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (5) قال : «لا يقطع الصلاة شي‌ء كلب ولا حمار ولا امرأة ولكن استتروا بشي‌ء فإن كان بين يديك قدر ذراع رافع من الأرض فقد استترت».

وما رواه في الكافي عن علي رفعه عن محمد بن مسلم (6) قال : «دخل أبو حنيفة على ابي عبد الله (عليه‌السلام) فقال له رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه فلا ينهاهم وفيه ما فيه فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ادعوا لي موسى فدعي فقال يا بني ان أبا حنيفة يذكر انك كنت تصلي والناس يمرون بين يديك فلم تنههم؟ فقال نعم يا أبت ان الذي كنت أصلي له كان أقرب الي منهم يقول الله تعالى : «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 12 من مكان المصلي.

(4 و 5 و 6) الوسائل الباب 11 من مكان المصلي.


الْوَرِيدِ» (1) قال فضمه أبو عبد الله (عليه‌السلام) الى نفسه ثم قال بأبي أنت وأمي يا مستودع الأسرار». قال في الكافي : وهذا تأديب منه (عليه‌السلام) لا انه ترك الفضل. قال في الوافي بعد نقل ذلك عنه : أقول ليس في الحديث انه (عليه‌السلام) ترك السترة وانما فيه انه لم ينه الناس عن المرور فلعله لا يلزم نهى الناس بعد وضع السترة وانما اللازم حينئذ حضور القلب مع الله تعالى حتى يكون جامعا بين التوقير الظاهر للصلاة والتوقير الباطن لها ولهذا أدب (عليه‌السلام) أبا حنيفة بذلك وكأن هذا هو المراد من كلام صاحب الكافي.

وما رواه في التهذيب عن سفيان بن خالد عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) «انه كان يصلي ذات يوم إذ مر رجل قدامه وابنه موسى (عليه‌السلام) جالس فلما انصرف قال له ابنه يا أبت ما رأيت الرجل مر قدامك؟ فقال يا بني ان الذي أصلي له أقرب الي من الذي مر قدامي».

وروى في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي وامامه شي‌ء عليه ثياب؟ قال لا بأس. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي وامامه ثوم أو بصل نابت؟ قال لا بأس. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي والسراج موضوع بين يديه في القبلة؟ قال لا يصلح له ان يستقبل النار. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي وامامه حمار واقف؟ قال يضع بينه وبينه عودا أو قصبة أو شيئا يقيمه بينهما ويصلى لا بأس. قلت فان لم يفعل وصلى أيعيد صلاته أو ما عليه؟ قال لا يعيد صلاته وليس عليه شي‌ء وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلى وامامه النخلة وفيها حملها؟ قال لا بأس. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي في الكرم وفيه حمله؟ قال لا بأس. وسألته عن الرجل

__________________

(1) سورة ق ، الآية 15.

(2) الوسائل الباب 11 من مكان المصلي.

(3) الوسائل الباب 11 و 30 و 37 و 43 من مكان المصلى.


يكون في صلاته هل يصلح له ان تكون امرأة مقبلة بوجهها عليه في القبلة قاعدة أو قائمة؟ قال يدرأها عنه فان لم يفعل لم يقطع ذلك صلاته. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلى وامامه شي‌ء من الطير؟ قال لا بأس».

وروى في كتاب التوحيد بسنده عن منيف مولى جعفر بن محمد (1) قال : «حدثني سيدي جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليهم‌السلام) قال كان الحسن بن علي بن ابي طالب (عليهما‌السلام) ـ وفي نسخة الحسين بدل الحسن ـ يصلي فمر بين يديه رجل فنهاه بعض جلسائه فلما انصرف من صلاته قال له لم نهيت الرجل؟ فقال يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خطر في ما بينك وبين المحراب. فقال ويحك ان الله عزوجل أقرب الي من ان يخطر في ما بيني وبينه أحد».

أقول : وتحقيق الكلام في هذا المقام يقع في مواضع (الأول) ـ قد استفاضت هذه الاخبار باستحباب السترة للمصلي والظاهر ان الغرض منها منع المرور من بين يدي المصلي لئلا يشغل فكره عن إقباله على صلاته فكأنها بمنزلة تحجير المكان عن غيره ، ولهذا انه يجوز دفع المار كما يأتي ان شاء الله تعالى ولو استلزم أذاه اما إذا لم يضع السترة ولم يحجر الموضع بذلك فليس له ذلك ، وظاهر الاخبار الدالة على قول الأئمة (عليهم‌السلام) «ان الذي أصلي له أقرب من الذي يمر قدامي» ونحوه مما اشتملت عليه تلك الاخبار هو عدم السترة يومئذ ، وفيه إيماء الى ان الغرض من السترة ـ وهو عدم توزع الفكر بمرور المار ـ انما هو بالنسبة الى من لم يكن فكره في حال الصلاة مستغرقا مع الله سبحانه ، واما من كان فكره مستغرقا معه سبحانه وليس في قلبه شي‌ء سواه في تلك الحال ولا يشغله عنه شاغل ـ حتى انه روى (2) «ان السهام التي ثبتت في بدن أمير المؤمنين

__________________

(1) الوسائل الباب 11 من مكان المصلى.

(2) في أسرار الشهادة ص 255 طبعة 1319 ما ملخصه : ان أمير المؤمنين (ع) أصابت رجله نبلة في غزوة صفين واستحكمت فيها فلم يطق إخراجها فأخرجت منه في حال السجود ولم يحس بذلك أصلا.


(عليه‌السلام) من الحرب انما كانت تنزع وقت الصلاة لعدم إحساسه بذلك». ـ فلا تستحب بالنسبة إليه لعدم ما يترتب عليها فإنه حاصل بدونها إلا ان الظاهر تخصيص هذه المرتبة بهم (عليهم‌السلام) ومن قرب منهم وقد تقدم خبر آخر بهذا المعنى في مسألة كراهة استقبال النار (1) ويعضده مرفوعة عمرو بن إبراهيم الهمداني المتقدمة أيضا (2) (لا يقال) ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يستتر كما دلت عليه الاخبار المتقدمة (لأنا نقول) انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان مكلفا بتشريع الشرائع وسن السنن والواجبات وتعليم الناس فلا منافاة وبالجملة فإن النهي عن الصلاة بدون السترة مخصوص بالفرد الأول والتجويز بالفرد الثاني ، وبذلك يظهر ما في كلامي صاحب الكافي والوافي من التكلف الذي لا ضرورة تلجئ اليه.

(الثاني) ـ قد دل خبر علي بن جعفر المذكور على استحباب السترة إذا صلى وفي قبلته حمار ولم يذكره أحد من الأصحاب في ما أعلم ، إلا ان الصدوق في الفقيه روى ذلك عن علي بن جعفر ايضا مع جملة من هذه السؤالات ، وهو يؤذن بقوله بذلك بناء على ما قدمه في صدر كتابه من انه لا يذكر فيه إلا ما يفتي به ويحكم بصحته.

(الثالث) ـ الظاهر من هذه الاخبار استحباب الارتفاع في السترة بأن تكون عنزة ونحوها ولو قدر ذراع فيرتفع عن الأرض وهكذا الى ان ينتهي إلى مجرد الخط في الأرض ، والعلة في ذلك ظهور امارة التحجير فكلما كانت ارفع كانت أظهر للناظر والمارين ، هذا إذا كان في فضاء من الأرض ولو صلى في مسجد أو بيت قرب من حائطه. ونقل عن الجعفي ان الاولى بلوغ السترة ذراعا فما زاد.

(الرابع) ـ يستحب الدنو من السترة ، قال في الذكرى : يستحب الدنو من السترة لما روى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (3) «إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان صلاته». وقدره ابن الجنيد بمربض الشاة لما صح من خبر سهل

__________________

(1) ص 231.

(2) ص 229.

(3) تيسير الوصول ج 2 ص 258 عن ابى داود.


الساعدي (1) قال : «كان بين مصلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبين الجدار ممر الشاة». انتهى وقدره بعض الأصحاب (رضوان الله عليهم) بمربض عنز الى مربط فرس ، ونسبه في المدارك إلى الأصحاب مؤذنا بعدم وجود الدليل عليه مع انه روى الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «أقل ما يكون بينك وبين القبلة مربض عنز وأكثر ما يكون مربط فرس». ويؤيد ما ذكره في الذكرى ما رواه في كتاب دعائم الإسلام عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (3) قال : «إذا قام أحدكم في الصلاة الى سترة فليدن منها فان الشيطان يمر بينه وبينها وحد في ذلك كمربض الثور».

(الخامس) ـ قال في الذكرى : إذا نصب بين يديه عنزة أو عودا لم يستحب الانحراف عنه يمينا ولا شمالا قاله في التذكرة ، وقال ابن الجنيد يجعله على جانبه الأيمن ولا يتوسطها فيجعلها مقصده تمثيلا بالكعبة ، وقال بعض العامة ليكن على الأيمن أو على الأيسر. انتهى. أقول المفهوم من ظواهر الأخبار المتقدمة هو المحاذاة لها وما ذكره ابن الجنيد لا نعرف له وجها.

(السادس) ـ قال في الذكرى : سترة الإمام سترة لمن خلفه لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يأمر المؤتمين بسترة (4) ولان ظهر كل واحد منهم سترة لصاحبه. أقول : تعليله الثاني انما يجري في الصف الثاني وما بعده نعم الأول منهما ظاهر العموم ولو للواحد الذي يقوم بجنب الامام.

(السابع) ـ قال العلامة : لو كانت السترة مغصوبة لم يحصل الامتثال لعدم الإتيان بالمأمور به شرعا. واعترضه في الذكرى بأنه يشكل بأن المأمور به الصلاة الى السترة وقد حصل وغصبيتها أمر خارج عن الصلاة كالوضوء من الإناء المغصوب. اما

__________________

(1) صحيح مسلم ج 4 ص 225.

(2) الوسائل الباب 12 من مكان المصلى.

(3) مستدرك الوسائل الباب 8 من مكان المصلى.

(4) صحيح البخاري ج 1 ص 101.


لو كانت نجسة لم يضر إلا مع نجاسة ظاهرة. انتهى. أقول : ما ذكره في رد كلام العلامة جيد. واما ما ذكره من استثناء النجاسة الظاهرة فلا اعرف له وجها إلا ان كان خبر الفضيل بن يسار المتقدم في مسألة كراهة استقبال الغائط ومورده الغائط ولا عموم فيه ينهض بالدلالة ، أو اخبار نز الكنيف والبالوعة وهي كذلك خاصة ، إلا ان يستنبط منهما العموم لجميع النجاسات بأي نحو كانت. ونقل في الذكرى عن ابي الصلاح في جملة ما عده مما يكره الصلاة إليه النجاسة الظاهرة ونحوه في المقنعة ، والظاهر انه جرى هنا على ذلك.

(الثامن) ـ قال في الذكرى ايضا : يستحب دفع المار بين يديه لقوله (عليه‌السلام) (1) : «لا يقطع الصلاة شي‌ء فادرأوا ما استطعتم». أقول : الاستدلال بالخبر المذكور مبني على ان معناه كما فهمه هو وغيره من الأمر بدفع المار يعني ادفعوا المار بما استطعتم من إشارة أو رمي شي‌ء أو دفع باليد أو نحو ذلك ، والظاهر عندي انما هو الدفع بجعل السترة فهو كناية عن الأمر بالسترة بمعنى ادفعوا ضرر مروره بالاستتار بالسترة فإنها متى وضعت لم يمر بينها وبين المصلي ، ويظهر هذا المعنى من رواية أبي بصير المتقدمة المتضمنة انه لا يقطع الصلاة شي‌ء كلب ولا حمار. الحديث.

(التاسع) ـ قال في الكتاب المذكور : لو احتاج في الدفع الى القتال لم يجز ورواية أبي سعيد الخدري وغيره عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (2) «فان ابي فليقاتله فإنما هو شيطان». للتغليظ أو يحمل على دفاع مغلظ لا يؤدى الى حرج ولا ضرر. أقول : الظاهر ان ما نقل من خبر الخدري انما هو من طريق العامة إذ لم نجده في أخبارنا نعم روى في كتاب دعائم الإسلام عن علي (عليه‌السلام) (3) «انه سئل عن المرور

__________________

(1) ص 239.

(2) صحيح البخاري ج 1 ص 103.

(3) مستدرك الوسائل الباب 7 من مكان المصلى. وليس فيه «ولو قاتلته» نعم هو موجود في البحار ج 18 الصلاة ص 116.


بين يدي المصلي فقال لا يقطع الصلاة شي‌ء ولا تدع من يمر بين يديك ولو قاتلته». والظاهر حمله على ما ذكره (قدس‌سره) من التغليظ والمبالغة في الدفع.

(العاشر) ـ قال ايضا : هل كراهة المرور وجواز الدفع مختص بمن استتر أو مطلقا؟ نظر من حيث تقصيره وتضييعه حق نفسه وفي كثير من الاخبار التقييد بما إذا كان له سترة ثم لا يضره ما يمر بين يديه ، ومن إطلاق باقي الاخبار. ويمكن ان يقال بحمل المطلق على المقيد. أقول : الوجه انما هو الأول كما أشرنا اليه ومطلق الاخبار محمول على مقيدها كما ذكره فإنه مقتضى القاعدة في هذا الباب. والله العالم.

(المسألة السادسة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا يجوز السجود اختيارا إلا على الأرض أو ما أنبتت مما لا يؤكل ولا يلبس عادة ، ولم يستثنوا من هذه القاعدة إلا القرطاس ، ونقل عن المرتضى في المسائل الموصلية كراهة السجود على ثياب القطن والكتان وفي المصباح وافق الأصحاب ، ويدل على الأول الاخبار المستفيضة :

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن حماد بن عثمان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «سمعته يقول السجود على ما أنبتت الأرض إلا ما أكل أو لبس».

وعن الفضل ابي العباس (2) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لا يسجد إلا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلا القطن والكتان».

وعن زرارة في الصحيح عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (3) قال : «قلت له اسجد على الزفت يعني القير؟ فقال لا ولا على الثوب الكرسف ولا على الصوف ولا على شي‌ء من الحيوان ولا على طعام ولا على شي‌ء من ثمار الأرض ولا على شي‌ء من الرياش».

وعن هشام بن الحكم في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (4) قال له :

__________________

(1 و 2 و 4) الوسائل الباب 1 من ما يسجد عليه.

(3) الوسائل الباب 2 من ما يسجد عليه.


«أخبرني عما يجوز السجود عليه وعما لا يجوز؟ قال السجود لا يجوز إلا على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلا ما أكل أو لبس».

وروى الصدوق في كتاب العلل بسنده عن هشام بن الحكم (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أخبرني عما يجوز السجود عليه وعما لا يجوز؟ قال السجود لا يجوز إلا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلا ما أكل أو لبس. فقلت له جعلت فداك ما العلة في ذلك؟ قال لان السجود هو الخضوع لله عزوجل فلا ينبغي ان يكون على ما يؤكل ويلبس لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون والساجد في سجوده في عبادة الله عزوجل فلا ينبغي ان يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها. والسجود على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزوجل».

وروى في كتاب الخصال عن ابي بصير ومحمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لا يسجد الرجل على كدس حنطة ولا على شعير ولا على لون مما يؤكل ولا يسجد على الخبز».

وعن الأعمش عن الصادق (عليه‌السلام) (3) قال : «لا يسجد إلا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلا المأكول والقطن والكتان».

وقال الرضا (عليه‌السلام) في كتاب الفقه (4) : «كل شي‌ء يكون غذاء الإنسان في المطعم والمشرب من الثمر والكثر فلا يجوز الصلاة عليه ولا على ثياب القطن والكتان والصوف والشعر والوبر ولا على الجلد إلا على شي‌ء لا يصلح للبس فقط وهو مما يخرج من الأرض إلا ان تكون في حال ضرورة».

وقال أيضا في الكتاب المذكور : «إذا سجدت فليكن سجودك على الأرض أو على شي‌ء ينبت من الأرض مما لا يلبس ، ولا تسجد على الحصر المدينة لأن سيورها من جلود ، ولا تسجد على شعر ولا على وبر ولا على صوف ولا على جلد ولا على إبريسم ولا

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 1 من ما يسجد عليه.

(4) البحار ج 8 الصلاة ص 366 و 367.


على زجاج ولا على ما يلبسه الإنسان ولا على حديد ولا على الصفر ولا على الشبه ولا على النحاس ولا على الرصاص ولا على آجر يعني المطبوخ ولا على الريش ولا على شي‌ء من الجواهر وغيره من الفنك والسمور والحواصل والثعالب ولا على بساط فيه الصور والتماثيل. وان كانت الأرض حارة تخاف على جبهتك ان تحرق أو كانت ليلة مظلمة خفت عقربا أو حية أو شوكة أو شيئا يؤذيك فلا بأس ان تسجد على كمك إذا كان من قطن أو كتان».

إذا عرفت ذلك فاعلم ان تحقيق البحث في هذه المسألة يتوقف على بسطه في مقامات

(الأول) الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في استثناء القرطاس من هذا الحكم في الجملة بل نقل شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الإجماع على استثنائه مطلقا.

ويدل عليه مضافا الى ذلك صحيحة علي بن مهزيار (1) قال : «سأل داود بن فرقد أبا الحسن (عليه‌السلام) عن القراطيس والكواغذ المكتوب عليها هل يجوز السجود عليها أم لا؟ فكتب يجوز».

وصحيحة جميل بن دراج عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) «انه كره ان يسجد على قرطاس عليه كتابة». ولفظ الكراهة هنا مراد به المعنى المشهور لما دل عليه الخبر السابق من الجواز.

وصحيحة صفوان الجمال (3) قال : «رأيت أبا عبد الله (عليه‌السلام) في المحمل يسجد على القرطاس وأكثر ذلك يومئ إيماء». والظاهر ان المعنى في هذا الخبر انه حيث كانت صلاته (عليه‌السلام) في المحمل وقت السير فربما تمكن من السجود فيضع جبهته على القرطاس وربما لا يتمكن فيومى للسجود إيماء. وإطلاق هذه الاخبار يقتضي جواز السجود على القرطاس مطلقا سواء اتخذ

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 7 من ما يسجد عليه.


من القطن أو الإبريسم أو غيرهما ونقل عن العلامة في التذكرة انه اعتبر فيه كونه مأخوذا من غير الإبريسم لأنه ليس بأرض ولا من نبتها ، ويظهر من الشهيد في كتبه الثلاثة التوقف والاستشكال في السجود على القرطاس بقول مطلق حيث قال في كتاب البيان : ويجوز على القرطاس المتخذ من النبات ويشكل بأجزاء النورة. وقال في الدروس : ولا بأس بالقرطاس ويكره المكتوبات للقارئ المبصر ولو اتخذ القرطاس من القطن أو الكتان أو الحرير لم يجز. وقال في كتاب الذكرى بعد ذكر روايتي داود ابن فرقد وصفوان : وفي النفس من القرطاس شي‌ء من حيث اشتماله على النورة المستحيلة إلا ان نقول الغالب جوهر القرطاس أو نقول جمود النورة يرد إليها اسم الأرض ، الى ان قال : فرع ـ الأكثر اتخاذ القرطاس من القنب فلو اتخذ من الإبريسم فالظاهر المنع إلا ان يقال ما اشتمل عليه من أخلاط النورة مجوز له. وفيه بعد لاستحالتها عن اسم الأرض ولو اتخذ من القطن والكتان أمكن بناؤه على جواز السجود عليهما وقد سلف.

أقول : الظاهر ان ما تكلفه هذان الفاضلان في المقام ـ بارتكاب تخصيص اخبار القرطاس بالمتخذ مما يجوز السجود عليه كما يعطيه قوله في التذكرة في تعليل المنع من السجود على المتخذ من الإبريسم بأنه ليس بأرض. وقوله في الذكرى في المتخذ من القطن والكتان ببناء ذلك على جواز السجود عليهما ـ منشأه الجمع بين اخبار المنع من السجود على غير الأرض وما أنبتت ما لم يكن مأكولا ولا ملبوسا وبين اخبار القرطاس بإرجاع اخبار القرطاس الى تلك الاخبار وتقييدها بها ، وهو مما لا يسمن ولا يغني من جوع وذلك فإنه لا ريب ان القرطاس قد خرج عن تلك الأشياء المتخذ منها كائنة ما كانت إلى حقيقة أخرى فلا يفيد كونه متخذا مما يصح السجود عليه فائدة ، ألا ترى انه قد امتنع السجود على المعادن وان كان أصلها الأرض باعتبار الحيلولة والانتقال من الأرضية إلى حقيقة أخرى والقرطاس لا يصدق عليه انه أرض ولا ما أنبتت ، وكونه كان قبل الاستحالة الى هذه الحقيقة مما يسجد عليه لا يجدى نفعا وإلا لجاز السجود


على المعادن بالتقريب المذكور. والحق انما هو استثناء القرطاس بهذه الاخبار من القاعدة المستفادة من تلك الاخبار ، وجميع ما ذكراه تقييد للنصوص من غير دليل واضح ولا برهان لائح فلا ينبغي ان يلتفت اليه ولا يعرج في مقام التحقيق عليه.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد صرح الأصحاب بكراهة السجود على القرطاس المكتوب وعليه تدل صحيحة جميل المتقدمة إلا انه يشترط في صحة السجود عليه متى كان مكتوبا ان يقع السجود على مكان خال من الكتابة إذا كان المكتوب به مما لا يصلح السجود عليه ولا فرق في ذلك بين القارئ والأمي ، ونقل عن الشيخ في المبسوط وابن إدريس تخصيص الكراهة بالقارئ البصير كما تقدم في عبارة الدروس وانه لا يكره في حق الأمي ولا في حق القارئ الذي لا يبصر ، وإطلاق النص يرده.

(الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) المنع من السجود على القطن والكتان سواء كان قبل النسج أو بعده بل قال في المختلف انه قول علمائنا اجمع ، وخالف في ذلك المرتضى في المسائل الموصلية مع انه ذهب في الجمل والانتصار الى المنع ونقل فيه إجماع الطائفة ، وظاهر المحقق في المعتبر الميل الى الجواز على كراهية أيضا ، وهو ظاهر المحدث الكاشاني في الوافي أيضا كما ستقف عليه.

ونقل عن المرتضى انه احتج على ذلك بأنه لو كان السجود على الثوب المنسوج من القطن والكتان محرما محظور الجري في القبح ووجوب إعادة الصلاة واستئنافها مجرى السجود على النجاسة ومعلوم ان أحدا لا ينتهي الى ذلك. ولا يخفى ما فيه.

نعم يدل على ذلك جملة من الاخبار عنهم (عليهم‌السلام) وكان الاولى الاستدلال بها في المقام دون هذه التخريجات الغثة التي تمجها الافهام :

ومنها ـ ما رواه الشيخ عن داود الصرمي (1) قال : «سألت أبا الحسن الثالث (عليه‌السلام) هل يجوز السجود على الكتان والقطن من غير تقية؟ فقال جائز».

__________________

(1) الوسائل الباب 2 من ما يسجد عليه.


وعن منصور بن حازم عن غير واحد من أصحابه (1) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) انا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج أفنسجد عليه؟ قال لا ولكن اجعل بينك وبينه شيئا قطنا أو كتانا».

وعن الحسين بن علي بن كيسان الصنعائي (2) قال : «كتبت الى ابي الحسن الثالث (عليه‌السلام) اسأله عن السجود على القطن والكتان من غير تقية ولا ضرورة فكتب الي : ذلك جائز».

وعن ياسر الخادم (3) قال : «مر بي أبو الحسن (عليه‌السلام) وانا أصلي على الطبري (4) وقد ألقيت عليه شيئا اسجد عليه فقال لي مالك لا تسجد عليه أليس هو من نبات الأرض؟».

وأجاب الشيخ عن جميع هذه الاخبار بالحمل على حالة الضرورة أو التقية (5) ورده المحقق في المعتبر بان في رواية الصنعائي التنصيص على الجواز مع انتفاء التقية والضرورة واستحسن حمل الأخبار المانعة على الكراهة. قال في المدارك : وهو محتمل لكن هذه الاخبار لا تخلو من ضعف في سند أو قصور في دلالة فلا تصلح لمعارضة الأخبار الصحيحة الدالة بظاهرها على المنع المؤيدة بعمل الأصحاب. وظاهره الميل الى ما ذكره في المعتبر لو لا ضعف روايات الجواز. والمحدث الكاشاني في الوافي بعد ان نقل حمل الشيخ (قدس‌سره) لروايات الجواز استبعده وقال : والاولى ان يحمل النهي عنهما على الكراهة.

أقول وبالله التوفيق : لا يخفى ان ما ذكره الشيخ (قدس‌سره) هنا من الجمع

__________________

(1) الوسائل الباب 4 من ما يسجد عليه.

(2 و 3) الوسائل الباب 2 من ما يسجد عليه.

(4) الطبري ثوب ينسب الى طبرستان أو طبرية بالفتح محلة من واسط. قال في الوافي ذيل هذا الخبر : الطبري كأنه كان من القطن أو الكتان كما يظهر من الاستبصار. انتهى. منه (قدس‌سره).

(5) ارجع الى التعليقة رقم (1) ص 251.


بين الاخبار بحمل هذه الاخبار المجوزة على التقية أو الضرورة حمل جيد ، اما بالنسبة إلى التقية فلما استفاض عنهم (عليهم‌السلام) من عرض الاخبار في مقام الاختلاف على مذهب العامة والأخذ بخلافهم والجواز مذهب العامة (1) من غير اشكال ، ويعضد ذلك صحة الاخبار الدالة على التحريم وتكاثرها عموما وخصوصا واعتضادها بعمل الطائفة قديما ودعوى الإجماع في المقام. واما ما ذكره في المعتبر من ان رواية الصنعاني نصت على الجواز مع انتفاء التقية والضرورة فليس بشي‌ء لأن المفهوم من الاخبار على وجه لا يعتريه الإنكار انهم انما يجيبون على ما يرونه من المصلحة لا بما يريد السائل فربما تركوا الجواب بالكلية وربما أجابوا بالتقية وربما أجابوا بما فيه التباس واشتباه لا يستفاد منه معنى ظاهر بالكلية ، وقد ورد عنهم (عليهم‌السلام) (2) «ان الله سبحانه قد فرض عليكم السؤال ولم يفرض علينا الجواب بل ذلك إلينا ان شئنا أجبنا وان شئنا لم نجب». وبالجملة فإن مجرد طلب السائل لأن يكون الجواب لا على وجه التقية لا يوجب حمل الجواب على ما طلبه لما عرفت ، ويؤيد الحمل على التقية قوله (عليه‌السلام) في صحيحة علي بن يقطين (3) : «لا بأس بالسجود على الثياب في حال التقية». واما الحمل على الضرورة فلما تقدم من كلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي ونحوه ما رواه علي بن جعفر في كتابه والحميري في قرب الاسناد عنه عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن الرجل يؤذيه حر الأرض في الصلاة ولا يقدر على السجود هل يصلح له ان يضع ثوبه إذا كان قطنا أو كتانا؟ قال إذا كان مضطرا فليفعل». وفي كثير من الأخبار الآتية ما يدل على ذلك. والله العالم.

(الثالث) ـ لا خلاف ولا إشكال في جواز السجود على ما منعت منه الاخبار المتقدمة في حال التقية والضرورة لسقوط التكليف في الحالين المذكورين وعلى ذلك

__________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة قسم العبادات ص 161.

(2) أصول الكافي ج 1 ص 210.

(3) ص 252.

(4) الوسائل الباب 4 من ما يسجد عليه.


ايضا دلت الأخبار المتكاثرة :

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن يقطين (1) قال : «سألت أبا الحسن الماضي (عليه‌السلام) عن الرجل يسجد على المسح والبساط؟ قال لا بأس إذا كان في حال التقية». ورواه أيضا في موضع آخر (2) وزاد «ولا بأس بالسجود على الثياب في حال التقية».

ومنها ـ ما تقدم في كلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي وكذا صحيحة علي بن جعفر المتقدمة.

ومنها ـ ما رواه الشيخ عن ابي بصير (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يسجد على المسح؟ فقال إذا كان في تقية فلا بأس».

وعن عيينة بياع القصب (4) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ادخل المسجد في اليوم الشديد الحر فأكره أن أصلي على الحصى فابسط ثوبي فاسجد عليه؟ قال نعم ليس به بأس».

وعن القاسم بن الفضيل (5) قال : «قلت للرضا (عليه‌السلام) جعلت فداك الرجل يسجد على كمه من أذى الحر والبرد؟ قال لا بأس به».

وعن احمد بن عمر (6) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل يسجد على كم قميصه من أذى الحر والبرد أو على ردائه إذا كان تحته مسح أو غيره مما لا يسجد عليه؟ فقال لا بأس به».

وعن ابي بصير عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (7) قال : «قلت له أكون في السفر فتحضر الصلاة وأخاف الرمضاء على وجهي كيف اصنع؟ قال تسجد على بعض ثوبك. قلت ليس علي ثوب يمكنني ان اسجد على طرفه ولا ذيله؟ قال اسجد على ظهر كفك فإنها أحد المساجد».

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 3 من ما يسجد عليه.

(4 و 5 و 6 و 7) الوسائل الباب 4 من ما يسجد عليه.


وروى الصدوق في كتاب العلل عن ابي بصير (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) جعلت فداك الرجل يكون في السفر فيقطع عليه الطريق فيبقى عريانا في سراويل ولا يجد ما يسجد عليه يخاف ان سجد على الرمضاء أحرقت وجهه؟ قال يسجد على ظهر كفه فإنها أحد المساجد». قال في الوافي : لعل المراد ان كفك أحد مساجدك على الأرض فإذا وضعت جبهتك عليها صارت موضوعة على الأرض بتوسطها.

ويستفاد من رواية أبي بصير الاولى تصريحا ومن الثانية تلويحا انه لا ينتقل الى السجود على بدنه إلا مع تعذر الثياب ، وبذلك ايضا صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) قال في الشرائع : ولا يسجد على شي‌ء من بدنه فان منعه الحر عن السجود على الأرض سجد على ثوبه فان لم يمكن فعلى كفه.

(الرابع) ـ ينبغي ان يعلم ان ما دلت عليه الاخبار المتقدمة من المنع من السجود إلا على الأرض أو ما أنبتت انما هو بالنسبة إلى مسجد الجبهة خاصة لا غيرها من المساجد فإنه يجوز وقوعها على اي شي‌ء كان ، والظاهر ان الحكم بذلك إجماعي.

وعليه يدل من الاخبار ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الفضيل ابن يسار ويزيد بن معاوية عن أحدهما (عليهما‌السلام) (2) قال : «لا بأس بالقيام على المصلى من الشعر والصوف إذا كان يسجد على الأرض ، فإن كان من نبات الأرض فلا بأس بالقيام عليه والسجود عليه».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن فراش حرير ومثله من الديباج ومصلى حرير ومثله من الديباج يصلح للرجل النوم عليه والتكأة والصلاة؟ قال يفترشه ويقوم عليه ولا يسجد عليه.

__________________

(1) الوسائل الباب 4 من ما يسجد عليه.

(2) الوسائل الباب 1 من ما يسجد عليه.

(3) الوسائل الباب 15 من لباس المصلى.


وروى في الكافي عن الحلبي (1) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) دعا أبي بالخمرة فأبطأت عليه فأخذ كفا من حصباء فجعله على البساط ثم سجد».

وعن حمران في الصحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) (2) قال : «كان ابي يصلي على الخمرة يجعلها على الطنفسة ويسجد عليها فإذا لم تكن خمرة جعل حصى على الطنفسة حيث يسجد».

أقول : الطنفسة بتثليث الطاء والفاء بساط له خمل ، والخمرة بضم الخاء المعجمة وإسكان الميم سجادة صغيرة ، قال في كتاب مجمع البحرين : قد تكرر في الحديث ذكر الخمرة والسجود عليها وهي بالضم سجادة صغيرة تعمل من سعف النخل وتزمل بالخيوط وفي النهاية هي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده ولا يكون خمرة إلا هذا المقدار. ومنه كان ابي يصلي على الخمرة يضعها على الطنفسة. انتهى. وقال في النهاية : وفي حديث أم سلمة «قال لها وهي حائض ناوليني الخمرة» هي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير أو نسجية خوص ونحوه من النبات ولا تكون خمرة إلا في هذا المقدار ، وسميت خمرة لان خيوطها مستورة بسعفها ، وقد تكررت في الحديث وهكذا فسرت. وقد جاء في سنن ابي داود عن ابن عباس قال : «جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها مثل موضع درهم» قال وهذا صريح في إطلاق الخمرة على الكبير من نوعها.

أقول : بقي هنا شي‌ء وهو انه قد تقدم في كلام الرضا (عليه‌السلام) في كتاب الفقه النهي عن السجود على الحصر المدنية لان سيورها من جلود ، والمراد منها الخمرة لما رواه في الكافي والتهذيب عن علي بن الريان (3) قال : «كتب بعض أصحابنا بيد

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 2 من ما يسجد عليه.

(3) الفروع ج 1 ص 92 والتهذيب ج 1 ص 223 وفي الوسائل في الباب 11 من ما يسجد عليه.


إبراهيم بن عقبة إليه ـ يعني أبا جعفر (عليه‌السلام) ـ يسأله عن الصلاة على الخمرة المدنية فكتب : صل فيها ما كان معمولا بخيوطة ولا تصل على ما كان معمولا بسيورة. قال فتوقف أصحابنا فأنشدتهم بيت شعر ل (تأبط شرا) العدواني (1) «فكأنها خيوطة ماري تغار وتفتل». وماري كان رجلا حبالا يعمل الخيوط» وظاهر هذين الخبرين النهي عن الخمرة المدنية لأنها تعمل بالسيور وهي الجلود مع ان الظاهر ان ما تعمل به من سيور أو خيوط يكون مستورا بسعف النخل الذي تعمل منه فالسجود انما يقع على السعف ، ولعل بناء الفرق في رواية علي بن الريان على ان ما يعمل بالخيوط تكون الخيوط فيه مستورة بالسعف واما ما يعمل بالسيور فإنها تظهر بين السعف أو تغطى على السعف فلا يقع السجود على السعف بالكلية فيكون النهي محمولا على التحريم ، أولا يحصل الجزء الأكمل من السجود فيكون النهي للكراهة ، قال في الذكرى : لو عملت بالخيوط من جنس ما يجوز السجود عليه فلا إشكال في جواز السجود عليها ولو عملت بسيور فان كانت مغطاة بحيث تقع الجبهة على الخوص صح السجود ايضا ولو وقعت على السيور لم يجز وعليه دلت رواية ابن الريان. وأطلق في المبسوط جواز السجود على المعمولة بالخيوط. انتهى. وظني ان ما ذكرناه من التفصيل أظهر.

(الخامس) اختلفت الرواية في جواز السجود على القير ففي صحيحة زرارة المتقدمة النهي عن ذلك ، وروى الشيخ في التهذيب عن محمد بن عمرو بن سعيد عن ابي الحسن الرضا (عليه‌السلام) (2) قال : «لا تسجد على القير ولا على القفر ولا على الصاروج». ورواه الكليني مثله إلا انه ترك ذكر القفر. وعن صالح بن الحكم (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في السفينة؟ فقال ان رجلا سأل ابي عن الصلاة في السفينة فقال له أترغب عن صلاة نوح (عليه‌السلام) فقلت له آخذ معي مدرة

__________________

(1) كذا في فروع الكافي وفي التهذيب (الفهمي) بدل (العدواني) وكذا في تاج العروس مادة (إبط).

(2) الوسائل الباب 6 من ما يسجد عليه.

(3) الوسائل الباب 13 من القبلة.


اسجد عليها؟ قال نعم».

وروى الصدوق في الفقيه في الصحيح (1) قال : «سأل معاوية بن عمار أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن السجود على القار قال لا بأس به». وروى في الصحيح عن منصور بن حازم عنه (عليه‌السلام) (2) انه قال : «القير من نبات الأرض». وفي كتاب المسائل لعلي ابن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن الرجل هل يجزئه ان يسجد في السفينة على القير؟ قال لا بأس». وقد تقدم في اخبار الصلاة في السفينة (4) في صحيحة معاوية بن عمار قال (عليه‌السلام) «ويصلى على القير والقفر ويسجد عليه». وروى الشيخ في التهذيب عن معاوية بن عمار (5) قال : «سأل المعلى بن خنيس أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا عنده عن السجود على القفر وعلى القير فقال لا بأس به». وحمل الشيخ هذه الروايات على الضرورة أو التقية.

قال في الوافي : ويجوز حمل النهي على الكراهة. وقال في المدارك بعد ذكر صحيحة زرارة وصحيحة معاوية بن عمار الواردة في الصلاة في السفينة : ولو قيل بالجواز وحمل النهي على الكراهة أمكن ان لم ينعقد الإجماع على خلافه.

أقول : فيه (أولا) ان اخبار الجواز وان صح سندها كما هو المدار عليه عنده إلا ان اخبار النهي قد اعتضدت باتفاق الأصحاب ظاهرا وبالأخبار المتقدمة المصرحة بأنه لا يجوز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتت. و (ثانيا) ما عرفت في غير مقام مما تقدم مما في هذا الحمل من النظر. و (ثالثا) ان العامة متفقون على جواز السجود عليه كما نقله في البحار ، وحينئذ فالأنسب بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية المقررة عن أئمة الهدى (عليهم‌السلام) هو حمل اخبار الجواز على التقية ، لكنك قد عرفت في غير موضع مما تقدم انهم (رضوان الله عليهم) قد نبذوا هذه القواعد وراء ظهورهم

__________________

(1 و 2 و 4 و 5) الوسائل الباب 6 من ما يسجد عليه.

(3) مستدرك الوسائل الباب 5 من ما يسجد عليه.


وعكفوا على قاعدة الجمع بين الاخبار بالكراهة والاستحباب.

ثم انه لا يخفى عليك انا قد أشرنا في غير موضع مما تقدم الى اضطراب كلام السيد السند (قدس‌سره) في حديث إبراهيم بن هاشم وعده في الضعيف تارة وفي الحسن اخرى وفي الصحيح تارة ، وفي هذا الموضع قد وصف رواية زرارة المتقدمة بالصحة في موضعين وفي طريقها إبراهيم بن هاشم ووصفها بالصحة أيضا في شرح قول المصنف : «وفي القطن والكتان روايتان» وفي شرح قوله : «المقدمة السابعة في الأذان والإقامة» قال وروى الكليني في الصحيح عن الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «إذا أذنت وأقمت. الحديث».

(السادس) ـ المراد بالمأكول هو ما يطرد اكله ويعتاد فلو أكل نادرا أو في الضرورة كالعقاقير التي تجعل في الأدوية من النباتات التي لم يكثر أكلها لم يعد مأكولا ولو أكل شائعا في قطر دون قطر فإشكال ينشأ من احتمال اختصاص كل قطر بمقتضى عادته ومن صدق المأكول عليه. ولعله أرجح مع كونه أوفق بالاحتياط ولو كان له حالتان يؤكل في إحداهما دون الأخرى جاز السجود عليه في إحداهما دون الثانية.

والظاهر انه لا يشترط في المأكول كونه بحيث ينتفع به بالفعل بل تكفي القوة القريبة فلو توقف الأكل على طحن أو طبخ أو نحوهما واللبس على غزل ونسج وخياطة لم يخرجه ذلك عن صدق المأكول والملبوس عليه قبل تلك الحال ، ونقل عن العلامة في التذكرة والمنتهى انه جوز السجود على الحنطة والشعير قبل الطحن ، وعلله في المنتهى بكونهما غير مأكولين عادة ، وعلله في التذكرة بأن القشر حائل بين المأكول والجبهة. ورد الأول بأن الافتقار الى العلاج لا يخرجهما عن كونهما مأكولين عادة. والثاني بأن العادة في الصدر الأول جرت بأكلهما غير منخولين كما لا يخفى على من راجع الاخبار ، ونقل ان أول من نخل الدقيق معاوية. مع ان النخل لا يأتي على جميع الاجزاء القشرية

__________________

(1) الوسائل الباب 4 من الأذان والإقامة.


لان الاجزاء الصغيرة تنزل مع الدقيق فتؤكل ، وكونها تابعة للدقيق في الأكل لا يمنع من كونها مأكولة لصدق الأكل في الجملة. ونقل عن العلامة في النهاية انه جوز السجود على القطن والكتان قبل غزلهما وقوى جواز السجود على الكتان قبل غزله ونسجه وتوقف فيه بعد غزله. والمشهور بين الأصحاب المنع في الكل إلا انه نقل في كتاب البحار (1) عن كتاب تحف العقول قال «قال الصادق (عليه‌السلام) : وكل شي‌ء يكون غذاء الإنسان في مطعمه أو مشربه أو ملبسه فلا تجوز الصلاة عليه ولا السجود إلا ما كان من نبات الأرض من غير ثمر قبل ان يصير مغزولا فإذا صار غزلا فلا تجوز الصلاة عليه إلا في حال الضرورة». وهو ظاهر في ما ذكره في النهاية ، وربما استفيد منه بطريق الفحوى الدلالة على جواز السجود على ما كان كذلك مما يتوقف الانتفاع به على علاج بان يكون ذكر الغزل من قبيل التمثيل.

(السابع) ـ لو وضع الإنسان تربة أو شيئا مما يصح السجود عليه تحت كور عمامته وسجد عليه ، أو لو كانت قلنسوته من النبات الغير المأكول ولا الملبوس عادة وسجد عليها فلا إشكال في صحة السجود كذلك ، ونقل عن الشيخ المنع من السجود على ما هو حامل له ككور العمامة وطرف الرداء ، قال في الذكرى : فان قصد لكونه من جنس ما لا يسجد عليه فمرحبا بالوفاق وان جعل المانع نفس الحمل كمذهب بعض العامة (2) طولب بدليل المنع ، مع انه قد روى أبو بصير عن ابي جعفر (عليه‌السلام) ثم أورد الرواية وقد تقدمت في المقام الثالث (3) وأورد رواية أحمد بن عمر (4) الدالتين على السجود على المحمول ، ثم قال وان احتج برواية الأصحاب عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق (عليه‌السلام) (5) في السجود على العمامة «لا يجزئه ذلك حتى تصل جبهته إلى الأرض». قلنا لا دلالة فيه على كون المانع الحمل بل جاز لفقد كونه مما يسجد عليه. انتهى. وهو جيد

__________________

(1) ج 18 الصلاة ص 366.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة قسم العبادات ص 162.

(3) ص 252.

(4) ص 252.

(5) الوسائل الباب 14 من ما يسجد عليه.


(الثامن) ـ لا خلاف ولا إشكال في ان السجود على الأرض أفضل مما أنبتت لأنه أبلغ في التذلل والخضوع المطلوب في هذا المقام.

ويعضد ذلك جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الشيخ عن إسحاق بن الفضل (1) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن السجود على الحصر والبواري فقال لا بأس وان تسجد على الأرض أحب الي فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يحب ذلك ان يمكن جبهته من الأرض فأنا أحب لك ما كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يحبه».

وروى الصدوق في الصحيح عن هشام بن الحكم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) في حديث قال : «السجود على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزوجل». قال وقال الصادق (عليه‌السلام) (3) «السجود على الأرض فريضة وعلى غير الأرض سنة».

أقول : قيل في معناه وجوه : (الأول) ما ذكره الأكثر من ان السجود على الأرض ثوابه ثواب الفريضة وعلى ما أنبتته ثوابه ثواب السنة.

(الثاني) ـ ان المستفاد من أمر الله تعالى بالسجود انما هو وضع الجبهة على الأرض إذ هو غاية الخضوع والعبودية واما جواز وضعها على غير الأرض فإنما استفيد من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقوله رخصة ورحمة.

(الثالث) ـ ان يكون المراد بالأرض أعم منها ومما أنبتته والمراد بغير الأرض تعيين شي‌ء خاص للسجود كالخمرة واللوح أو الخريطة من طين قبر الحسين (عليه‌السلام). ولا يخلو من بعد إلا انه يؤيده ما رواه الكليني مرسلا (4) انه قال : «السجود على الأرض فريضة وعلى الخمرة سنة». لكن يمكن إرجاع هذا الخبر الى الوجه الثاني بأن يحمل ذكر الخمرة على التمثيل لما كان غير ارض ، وحاصل المعنى ان السجود على الأرض فريضة

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 17 من ما يسجد عليه.

(4) الوسائل الباب 11 من ما يسجد عليه.


وغيرها مما أمر به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ووردت به السنة المطهرة من الخمرة ونحوها سنة ، وحينئذ فيبقى هذا الوجه على ما هو عليه من الضعف كما ذكرنا.

وأفضل افراد الأرض في السجود التربة الحسينية على مشرفها أفضل الصلاة والسلام والتحية ، فروى الصدوق (1) قال : «قال الصادق (عليه‌السلام) السجود على طين قبر الحسين (عليه‌السلام) ينور إلى الأرضين السبعة ، ومن كانت معه سبحة من طين قبر الحسين (عليه‌السلام) كتب مسبحا وان لم يسبح بها».

وروى الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه (2) «انه كتب إليه يسأله عن السجدة على لوح من طين القبر هل فيه فضل؟ فأجاب (عليه‌السلام) يجوز ذلك وفيه الفضل».

وروى الشيخ في كتاب المصباح عن معاوية بن عمار (3) قال : «كان لأبي عبد الله (عليه‌السلام) خريطة ديباج صفراء فيها تربة ابي عبد الله (عليه‌السلام) فكان إذا حضرته الصلاة صبه على سجادته وسجد عليه ، ثم قال ان السجود على تربة ابي عبد الله (عليه‌السلام) يخرق الحجب السبع».

وروى الحسن بن محمد الديلمي في كتاب الإرشاد (4) قال : «كان الصادق (عليه‌السلام) لا يسجد إلا على تربة الحسين (عليه‌السلام) تذللا لله واستكانة إليه».

فوائد : (الأولى) الحق سلار بالتربة الحسينية في استحباب السجود عليها اللوح المتخذ من خشب قبورهم (عليهم‌السلام) سواء في ذلك قبر الحسين وغيره من الأئمة (عليهم‌السلام) ولم نقف على مأخذه وبذلك اعترف شيخنا الشهيد الثاني في شرح النفلية بعد نقل المصنف ذلك عنه.

(الثانية) ـ قال شيخنا المشار إليه في الشرح المذكور : ولا فرق في التربة الشريفة بين ما شوى منها بالنار وغيره في أصل الأفضلية لشمول التربة الواردة في الخبر

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 16 من ما يسجد عليه.


السابق لهما لكن يكره السجود على المشوي خصوصا إذا بلغ حد الخزف على الأقوى انتهى. أقول : لا يخفى ان هذه السبح المستعملة الآن من التربة المطبوخة فإنها تصير كالخزف فبعين ما يقال فيه من الخروج عن الأرضية بالطبخ وعدمه يقال فيها أيضا. ولي في ذلك توقف للشك في الخروج وعدمه والاحتياط فيها عندي واجب كما تقدم ويأتي ان شاء الله تعالى.

(الثالثة) ـ احتمل شيخنا المشار إليه في شرح النفلية حمل التربة في كلام المصنف على ما يعم ما اتخذ من قبر الحسين وغيره من الأئمة والأنبياء (عليهم‌السلام) الذين ثبت لهم تربة معينة وكذا الشهداء والصالحين ، قال إذ لا شك في تقدسها بواسطتهم كما تقدست التربة الحسينية بذلك وان كانت متظافرة بها ، وروى (1) «انهم كانوا يتخذون السبح من تربة حمزة (عليه‌السلام) قبل قتل الحسين (عليه‌السلام) وان فاطمة (عليها‌السلام) كانت لها سبحة منها فلما قتل الحسين (عليه‌السلام) اتخذت من تربته الشريفة وندب إليها الأئمة عليهم‌السلام». ومن قرائن إرادة العموم نقله عن سلار بعد ذلك اللوح المتخذ من خشب قبورهم (عليهم‌السلام) ولأن شرف التربة أقوى من شرف الخشب. انتهى.

أقول : يمكن تطرق البحث إليه بأن الاستحباب حكم شرعي يتوقف ثبوته على الدليل الواضح وما ذكره من التعليل المذكور لا يصلح لتأسيس الأحكام الشرعية. ولم لا يجوز اختصاص الحسين (عليه‌السلام) بذلك؟ كما خص بان الشفاء في تربته واجابة الدعاء تحت قبته وجعل الأئمة من ذريته (2) وان كان غيره من الأئمة والأنبياء والصلحاء من يرجى بهم ذلك ايضا.

(التاسع) ـ قد عرفت دلالة الأخبار المتكاثرة على انه لا يجوز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتت وقضية ذلك دوران الصحة مدار صدق الأرضية بالنسبة إلى الأرض.

__________________

(1) الوسائل الباب 16 من التعقيب.

(2) الوسائل الباب 76 من المزار.


وقد حصل الاشكال بسبب ذلك هنا في أشياء : (الأول) الخزف وفي خروجه بالطبخ عن الأرضية تردد ، وظاهر المشهور بين المتأخرين جواز السجود عليه من غير تردد ولا نقل خلاف حتى ان العلامة في التذكرة استدل على عدم خروجه بالطبخ عن اسم الأرض بجواز السجود عليه وهو مشعر بان جواز السجود عليه أمر مسلم بين الكل ، والمحقق في المعتبر مع منعه من التيمم به لخروجه بالطبخ عن اسم الأرض جوز السجود عليه فقال بعد المنع من التيمم لخروجه عن اسم الأرض : ولا يعارض بجواز السجود لانه قد يجوز السجود على ما ليس بأرض كالكاغذ وقد تقدم بيان ضعف هذا الكلام في باب التيمم من كتاب الطهارة. وبالجملة فالقائلون بالجواز انما جوزوا ذلك من حيث عدم خروج الخزف بالطبخ عن اسم الأرض كما صرح به الشهيدان وغيرهم وان صرحوا بالكراهة تفصيا من احتمال الخروج.

وممن صرح بالخروج المحقق كما عرفت واليه يميل كلام الفاضل الخراساني في الذخيرة والمتقدمون لم يتعرضوا لذكر هذه المسألة ، ويعضد هذا القول ما تقدم في كلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي من قوله في تعداد ما يمنع من السجود عليه : «ولا على آجر يعنى المطبوخ» وهذا التفسير يحتمل ان يكون منه (عليه‌السلام) أو من جامع الكتاب ، ومن الظاهر ان المنع انما هو من الجهة التي ذكرنا.

قال في المدارك : والاولى اجتنابه لما ذكره المصنف من خروجه بالطبخ عن اسم الأرض وان أمكن توجه المنع إليه فإن الأرض المحترقة يصدق عليها اسم الأرض عرفا. ويمكن ان يستدل على الجواز ايضا بما رواه الشيخ وابن بابويه في الصحيح عن الحسن ابن محبوب عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (1) «انه سأله عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثم يجصص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب اليه بخطه : ان الماء والنار قد طهراه». وجه الدلالة انها تدل بظاهرها على جواز السجود على الجص والخزف في معناه

__________________

(1) الوسائل الباب 81 من النجاسات و 10 من ما يسجد عليه.


ويؤيده الأخبار الكثيرة المتضمنة لجواز السجود على القرطاس وصحيحة معاوية بن عمار المتضمنة لجواز السجود على القير (1) انتهى. وفيه بحث حررناه في شرحنا على الكتاب وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف والاحتياط فيها واجب وقد تقدم في باب التيمم ما فيه زيادة بيان لما اخترناه في المقام. واما صحيحة الحسن بن محبوب المذكورة فقد تقدم تحقيق معناها في كتاب الطهارة في مسألة تطهير النار من المطهرات العشرة فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه.

و (الثاني والثالث) الجص والنورة قبل الإحراق وبعد الإحراق ، وقد تقدم تحقيق البحث في ذلك في باب التيمم من كتاب الطهارة ، والحكم في البابين واحد فإنه متى ثبتت الأرضية ترتب عليها جواز السجود والتيمم ومتى انتفت انتفيا.

(المسألة السابعة) ـ قد تقدم نقل اتفاق الأصحاب على طهارة موضع السجود وانه لا يجوز السجود على النجس وان لم تتعد نجاسته الى المصلى. ومن قواعدهم ايضا ان المشتبه بالنجس في حكم النجس في المواضع المحصورة ، وحينئذ فلو حصل الاشتباه في موضع محصور امتنع السجود عليه. وقد تقدم البحث في هذه المسألة منقحا في كتاب الطهارة في المسألة الرابعة من البحث الأول من المقصد الثاني من الباب الخامس في الطهارة من النجاسات من أبواب الكتاب المذكور.

__________________

(1) ص 256.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *