ج1 - المقدمة الثالثة
في مدارك الأحكام الشرعية ، وهي عند الأصوليين أربعة:
(الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل) وحيث تقدم مجمل الكلام في السنة يبقى الكلام هنا في مقامات ثلاثة:
(المقام
الأول) ـ في الكتاب العزيز ، ولا خلاف بين أصحابنا الأصوليين في
العمل به في الأحكام الشرعية والاعتماد عليه حتى صنف جملة منهم كتبا في الآيات
المتعلقة بالأحكام الفقهية وهي خمسمائة آية عندهم ، واما الأخباريون فالذي وقفنا
عليه من كلام متأخريهم ما بين إفراط وتفريط. فمنهم من منع فهم شيء منه مطلقا حتى
مثل قوله «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» (1) إلا بتفسير من
أصحاب العصمة (صلوات الله عليهم) ومنهم من جوز ذلك حتى كاد يدعي المشاركة لأهل
العصمة (عليهمالسلام) في تأويل
مشكلاته وحل مبهماته.
والتحقيق في المقام ان الأخبار متعارضة من الجانبين
ومتصادمة من الطرفين ، إلا ان اخبار المنع (2) أكثر عددا وأصرح دلالة.
ففي جملة منها ـ قد ورد في تفسير قوله تعالى «ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا الآية» (3) ـ دلالة على
اختصاص ميراث الكتاب بهم (عليهمالسلام) وجملة في
تفسير قوله تعالى : «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...» (4) بأن
__________________
(1) قال المحدث السيد نعمة الله الجزائري (قده) في بعض رسائله
: انى كنت حاضرا في المسجد الجامع في شيراز ، وكان الأستاذ المجتهد الشيخ جعفر
البحراني والشيخ المحدث صاحب جوامع الكلم يتناظران في هذه المسألة ، فانجر الكلام
ههنا حتى قال له الفاضل المجتهد : ما تقول في معنى «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» فهل يحتاج في فهم معناها الى الحديث؟
فقال : نعم لا نعرف معنى الاحدية ولا الفرق بين الأحد والواحد ونحو ذلك الا بذلك.
انتهى.
(أقول)
: ونقل عن بعض المتحذلقين ـ ممن يدعى الانتظام في سلك الأخباريين ـ انه يمنع من
اللباس على غير الهيئة التي كان عليها لباس الأئمة (عليهمالسلام) وهو جهل محض (منه قدسسره).
(2) قد عقد لها في الوسائل (الباب الثالث عشر) من أبواب صفات
القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء ، وعنوانه (عدم جواز استنباط الأحكام النظرية
من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة).
(3) سورة فاطر. آية 32.
(4) سورة العنكبوت. آية 49.
المراد بهم الأئمة (صلوات الله عليهم)
، وجملة في تفسير «قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» (1) قال : إيانا
عنى. ومثل ذلك في تفسير قوله سبحانه : «وَإِنَّهُ
لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ...» (2). وكذا في
تفسير قوله تعالى : «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ
وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ...» (3).
وفي جملة من تلك الاخبار : «ليس شيء أبعد من عقول
الرجال من تفسير القرآن».
وفي مناظرة الشامي لهشام بن الحكم بمحضر الصادق (عليهالسلام) المروية في
الكافي (4) وغيره : «قال
هشام : فبعد رسول صلىاللهعليهوآله من الحجة؟ قال
الشامي : الكتاب والسنة. فقال هشام : فهل نفعنا الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنا؟
قال الشامي : نعم. قال هشام : فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في
مخالفتنا إياك؟ فسكت الشامي. فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) للشامي ما لك
لا تتكلم؟ فقال الشامي : ان قلت لم نختلف كذبت وان قلت ان الكتاب والسنة يرفعان
عنا الاختلاف أبطلت ، لأنهما يحتملان الوجوه ، الى ان قال الشامي : والساعة من
الحجة؟ فقال هشام : هذا القاعد الذي تشد اليه الرحال ويخبرنا باخبار السماء.»
الحديث. ولا يخفى ما فيه من الصراحة.
وفي بعض آخر (5) : «قال السائل : أو ما يكفيهم القرآن؟
قال (عليهالسلام) : بلى لو
وجدوا له مفسرا. قال : أو ما فسره رسول الله (صلىاللهعليهوآله)؟ قال :
__________________
(1) سورة الرعد. آية 43.
(2) سورة الزخرف. آية 44.
(3) سورة آل عمران. آية 7.
(4) في باب (الاضطرار إلى الحجة) من كتاب الحجة.
(5) وهو خبر الحسن بن العباس بن جريش عن ابى جعفر الثاني (ع)
المروي في الوسائل في باب «13» (عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن
إلخ) من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
بلى فسره لرجل واحد وفسر للأمة شأن
ذلك الرجل.» الحديث.
وفي آخر (1) «انما القرآن
أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ولقوم (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) وهم الذين
يؤمنون به ويعرفونه. واما غيرهم فما أشد إشكاله عليهم وأبعده من مذاهب قلوبهم ،
الى ان قال : وإنما أراد الله بتعميته في ذلك ان ينتهوا الى بابه وصراطه ويعبدوه
وينتهوا في قوله إلى طاعة القوام بكتابه والناطقين عن امره وان يستنبطوا ما
احتاجوا اليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم.». الحديث (2).
ويدل على ذلك الحديث المتواتر بين العامة والخاصة (3) من قوله (صلىاللهعليهوآله) «اني تارك
فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض». فان
الظاهر ان المراد من عدم افتراقهما إنما هو باعتبار الرجوع في معاني الكتاب إليهم (صلوات
الله عليهم) وإلا لو تم فهمه كلا أو بعضا بالنسبة إلى الأحكام
__________________
(1) وهو خبر المعلى بن خنيس عن ابي عبد الله (عليهالسلام) المروي في الوسائل في باب «13» (عدم
جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلخ) من أبواب صفات القاضي وما يقضى
به من كتاب القضاء.
(2) ومن الاخبار في ذلك ما رواه العياشي عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «من فسر القرآن برأيه إن أصاب
لم يؤجر وان أخطأ خر أبعد من السماء». وفي الكافي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض
إلا كفر». وعن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «من فسر القرآن برأيه
فليتبوأ مقعده من النار». وحمل الرأي ـ على الميل الطبيعي المرتب على الأغراض
الفاسدة والمطالب الكاسدة كما ذكره بعضهم ـ بعيد كما أوضحناه في كتاب الدرر
النجفية (منه رحمهالله).
(3) وقال في الوسائل في باب 5 (تحريم الحكم بغير الكتاب والسنة
ووجوب نقض الحكم مع ظهور الخطأ) من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء
: وقد تواتر بين العامة والخاصة عن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «انى تارك فيكم الثقلين ما
ان تمسكتم بهما ان تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وانهما لن يفترقا حتى يردا
علي الحوض».
الشرعية والمعارف الآلهية بدونهم لصدق
الافتراق ولو في الجملة.
ويؤيد ذلك ايضا قول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : «القرآن
كتاب الله الصامت وأنا كتاب الله الناطق» (1). فلو فهم معناه بدونه (عليهالسلام) لم يكن لوصفه
بكونه صامتا معنى (2).
ولا يخفى على الفطن المنصف صراحة هذه الأدلة في المدعى ،
وظني ان ما يقابلها مع تسليم التكافؤ لا صراحة له في المعارضة.
فمن ذلك ـ الأخبار الواردة بعرض الحكم المختلفة فيه
الأخبار على القرآن والأخذ بما يوافقه وطرح ما يخالفه. ووجه الاستدلال انه لو لم
يفهم منه شيء إلا بتفسيرهم (عليهمالسلام) انتفى فائدة
العرض. والجواب انه لا منافاة ، فإن تفسيرهم (عليهمالسلام) إنما هو
حكاية مراد الله تعالى فالأخذ بتفسيرهم أخذ بالكتاب ، واما ما لم يرد فيه تفسير
عنهم (صلوات الله عليهم) فيجب التوقف فيه وقوفا على تلك الأخبار وتقييدا لهذه
الاخبار بها.
ومن ذلك الآيات ، كقوله سبحانه : «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ...» (3) وقوله : «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ...» (4) وقوله : «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
__________________
(1) وقد رواه في الوسائل في الباب ـ 5 ـ من أبواب صفات القاضي
وما يقضى به من كتاب القضاء هكذا : «هذا كتاب الله الصامت وانا كتاب الله الناطق».
(2) ومن ذلك ايضا ما ورد من ان القرآن مشتمل على الناسخ
والمنسوخ والمحكم والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد والمجمل والمفصل
والتقديم والتأخير والتغيير والتبديل ، واستفادة الأحكام الشرعية من مثل ذلك لا
يتيسر إلا للعالم بجميع ما هنالك وليس إلا هم (عليهمالسلام) خصوصا الآيات المتعلقة بالأحكام
الشرعية ، فإنها لا تخرج عن هذه الأقسام المذكورة (منه قدسسره).
(3) سورة النحل. آية 89.
(4) سورة الانعام. آية 38.
يَسْتَنْبِطُونَهُ ...» (1) وقوله : «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ
أَقْفالُها» (2).
والجواب ان الآيتين الأوليين لا دلالة فيهما على أكثر من
استكمال القرآن لجميع الأحكام وهو غير منكور ، وأما كون فهم الأحكام مشتركا بين
كافة الناس كما هو المطلوب بالاستدلال فلا ، كيف؟ وجل آيات الكتاب سيما ما يتعلق
بالفروع الشرعية كلها ما بين مجمل ومطلق وعام ومتشابه لا يهتدى منه ـ مع قطع النظر
عن السنة ـ إلى سبيل. ولا يركن منه الى دليل. بل قد ورد من استنباطهم (عليهمالسلام) جملة من
الأحكام من الآيات ما لا يجسر عليه سواهم ولا يهتدى إليه غيرهم ، وهو مصداق ما
تقدم من قولهم : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن». كالأخبار الدالة
على حكم الوصية بالجزء من المال ، حيث فسره (عليهمالسلام) بالعشر
مستدلا بقوله سبحانه : «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءاً ...» (3) وكانت الجبال عشرة ، والوصية بالسهم.
حيث فسره بالثمن لقوله سبحانه : «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ... الآية» (4) والنذر بمال
كثير. حيث فسره (عليهالسلام) بالثمانين
لقوله تعالى : «فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ...» (5) وكانت ثمانين
موطنا ، وأمثال ذلك مما يطول به الكلام.
واما الآية الثالثة فظاهر سياق ما قبلها وهو قوله : «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ...» يدل على كون
المستنبطين هم الأئمة (عليهمالسلام) وبذلك توافرت
الأخبار عنهم (عليهمالسلام) ، ففي الجوامع
عن الباقر (عليهمالسلام) : «هم الأئمة
المعصومون». والعياشي عن الرضا (عليهالسلام) : «يعني آل
محمد وهم الذين يستنبطون من القرآن ويعرفون الحلال والحرام». وفي الإكمال عن
الباقر (عليهالسلام) مثل ذلك. وقد
تقدم في بعض الاخبار التي قدمناها ما يشعر
__________________
(1) سورة النساء. آية 83.
(2) سورة محمد (صلىاللهعليهوآله). آية 24.
(3) سورة البقرة. آية 260.
(4) سورة التوبة. آية 60.
(5) سورة التوبة. آية 25.
بذلك ايضا. واما الآية الرابعة فانا ـ
كما سيتضح لك ـ لا نمنع فهم شيء من القرآن بالكلية ليمتنع وجود مصداق الآية ، فإن
دلالة الآيات ـ على الوعد والوعيد والزجر لمن تعدى الحدود الإلهية والتهديد ـ ظاهر
لامرية فيه ، وهو المراد من التدبر في الآية كما ينادي عليه سياق الكلام.
والقول الفصل والمذهب الجزل في ذلك ما أفاده شيخ الطائفة
(رضوان الله عليه) في كتاب التبيان وتلقاه بالقبول جملة من علمائنا الأعيان ، حيث
قال بعد نقل جملة من اخبار الطرفين ما ملخصه : والذي نقول : ان معاني القرآن على
أربعة أقسام : (أحدها) ـ ما اختص الله تعالى بالعلم به. فلا يجوز لأحد تكلف القول
فيه (وثانيها) ـ ما يكون ظاهره مطابقا لمعناه فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف
معناه. مثل قوله : «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللهُ إِلّا بِالْحَقِّ ...» (1) (وثالثها) ـ ما
هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلا مثل قوله «أَقِيمُوا
الصَّلاةَ ...» (2) ثم ذكر جملة من الآيات التي من هذا
القبيل وقال : انه لا يمكن استخراجها إلا ببيان من النبي (صلىاللهعليهوآله) (ورابعها) ـ ما
كان اللفظ مشتركا بين معنيين فما زاد عليهما ويمكن ان يكون كل واحد منهما مرادا.
فإنه لا ينبغي ان يقدم أحد فيقول ان مراد الله بعض ما يحتمله إلا بقول نبي أو إمام
معصوم ، الى آخر كلامه «زيد في إكرامه» وعليه تجتمع الاخبار على وجه واضح المنار.
ويؤيده ما رواه (3) في الاحتجاج
__________________
(1) سورة الانعام. آية 151.
(2) سورة الانعام. آية 72.
(3) ومنه ما روى ان الحسن (عليهالسلام) تلا قوله سبحانه : «وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلّا فِي
كِتابٍ مُبِينٍ» فقال معاوية : اين قصة لحيتي ولحيتك في الكتاب. وقد كان
الحسن (عليهالسلام) حسن اللحية وكان معاوية قبيحها ، فقال
(عليهالسلام) : «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ
نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلّا نَكِداً». وما روى في حديث ابى الجارود قال قال
أبو جعفر (عليهالسلام) : «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب
الله» ثم قال في بعض حديثه : «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) نهى عن القيل والقال
عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) (1) في حديث
الزنديق الذي جاء اليه بآي من القرآن زاعما تناقضها. حيث قال (عليهالسلام) في أثناء
الحديث : «ان الله جل ذكره لسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدلون من
تغيير كتابه قسم كلامه ثلاثة أقسام : فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل. وقسما
منه لا يعرفه إلا من صف ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام.
وقسما لا يعرفه إلا الله وأنبياؤه والراسخون في العلم ، وإنما فعل ذلك لئلا يدعي
أهل الباطل المستولون على ميراث رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من علم
الكتاب ما لم يجعل الله لهم ، وليقودهم الاضطرار الى الائتمار لمن ولاه أمرهم. الى
أن قال : فاما ما علمه الجاهل والعالم من فضل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من كتاب
الله. فهو قوله سبحانه : «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللهَ ...» (2) وقوله : «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (3) ولهذه الآية
ظاهر وباطن. فالظاهر هو قوله : (صَلُّوا عَلَيْهِ) والباطن (يُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً) اي سلموا ـ لمن
وصاه واستخلفه عليكم ـ فضله وما عهد اليه تسليما. وهذا مما أخبرتك انه لا يعلم
تأويله إلا من لطف حسه وصفا ذهنه وصح تمييزه ، وكذلك قوله «سلام على آل يس» (4) لأن الله سمى
النبي (صلى الله
__________________
وفساد المال وكثرة السؤال. فقيل له : يا ابن رسول الله! اين
هذا من كتاب الله فقال : ان الله عزوجل يقول : «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ
إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ» وقال : «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ
الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً» وقال : «لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ
تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ». (منه قدسسره).
(1) في احتجاجات أمير المؤمنين (عليهالسلام).
(2) سورة النساء. آية 80.
(3) سورة الأحزاب. آية 56.
(4) سورة الصافات. آية 130.
عليه وآله) بهذا الاسم. حيث قال «يس
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» لعلمه انهم
يسقطون «سلام على آل محمد» كما أسقطوا غيره. الحديث».
(أقول) : والقسم الثاني من كلام الشيخ (قدسسره) هو الأول من
كلامه (صلوات الله عليه) وهو الذي يعرفه الجاهل والعالم ، وهو ما كان محكم
الدلالة. وهذا مما لا ريب في صحة الاستدلال به والمانع مكابر. والقسم الرابع من
كلامه (رضوان الله عليه) هو الثاني من كلامه (صلوات الله عليه) وهو الذي لا يعرفه
إلا من صفا ذهنه ولطف حسه ، والظاهر انه أشار بذلك إلى الأئمة (عليهمالسلام) ، فإنهم هم
المتصفون بتلك الصفات على الحقيقة ، وان ادعى بعض من أشرنا إليه آنفا دخوله في ذلك
، والآيات ـ التي جعلها (عليهالسلام) من هذا القسم
ـ دليل على ذلك. فإنها كما أشار إليه (صلوات الله عليه) من التفسير الباطن الذي لا
يمكن التهجم عليه إلا من جهتهم (لا يقال) : انه يلزم اتحاد القسم الثاني من كلامه (صلوات
الله عليه) بما بعده. لكون القسم الثالث ايضا من المعلوم لهم (عليهمالسلام) (لأنا نقول)
: الظاهر تخصيص القسم الثالث بعلم الشرائع الذي يحتاج الى توقيف ، وانه لا يعلمه
إلا هو (جل شأنه) أو أنبياؤه بالوحي إليهم وان علمه الأئمة (عليهمالسلام) بالوراثة من
الأنبياء. بخلاف الثاني. فإنه مما يستخرجونه بصفاء جواهر أذهانهم ويستنبطونه
بإشراق لوامع إفهامهم ، وحينئذ فالقسم الثالث من كلام الشيخ (قدسسره) هو الثالث من
كلامه (صلوات الله عليه) ولعل عدم ذكره (صلوات الله عليه) للقسم الأول من كلام
الشيخ لقلة أفراده في القرآن المجيد إذ هو مخصوص بالخمسة المشهورة ، أو أن الغرض
التام إنما يتعلق بذكر الأقسام التي أخفاها (جل شأنه) عن تطرق تغيير المبدلين وان
ذكر معها القسم الأول استطرادا ، ومرجع هذا الجمع الذي ذكره الشيخ (قدسسره) الى حمل أدلة
الجواز على القسم الثاني من كلامه (طاب ثراه) واخبار المنع على ما عداه. واما ما
يفهم من كلام المحدث الكاشاني (قدسسره) ـ في المقدمة
الخامسة من كتاب الصافي من الجمع بين
الاخبار بالحمل على تفاوت مراتب الناس
في الاستعداد والوصول الى تحصيل المقصود منه والمراد ـ فظني بعده عن سياق الأخبار.
فإن أخبار المنع ـ كما عرفت من الشطر الذي قدمناه منها ـ قد دلت على الاختصاص
بالأئمة (عليهمالسلام). وادعاء
مزاحمتهم (صلوات الله عليهم) في تلك المرتبة يحتاج إلى جرأة عظيمة. ومن أراد تحقيق
الحال والإحاطة بأطراف المقال فليرجع الى كتابنا الدرر النجفية.
(المقام
الثاني) ـ في الإجماع. ومجمل الكلام فيه ما افاده المحقق (طاب
ثراه) في المعتبر واقتفاه فيه جمع ممن تأخر ، قال (قدسسره) : «وأما
الإجماع فهو عندنا حجة بانضمام المعصوم. فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما
كان حجة ، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة ، لا باعتبار اتفاقهما بل باعتبار
قوله (عليهالسلام). فلا تغتر
إذا بمن يتحكم فيدعي الإجماع باتفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهلة قول
الباقين» انتهى. وحينئذ فالحجة هو قوله (عليهالسلام) لا مجرد
الاتفاق ، فيرجع الكلام ـ على تقدير ثبوت الإجماع المذكور ـ الى خبر ينسب الى
المعصوم (عليهالسلام) إجمالا.
وترجيحه على الاخبار المنسوبة إليه تفصيلا غير معقول. وكأنهم زعموا ان انتسابه
إليه في ضمن الإجماع قطعي ولا في ضمنه ظني. وهو ممنوع. على ان تحقق هذا الإجماع في
زمن الغيبة متعذر. لتعذر ظهوره (عليهالسلام) وعسر ضبط
العلماء على وجه يتحقق دخول قوله في جملة أقوالهم. إلا أن ينقل ذلك بطريق التواتر
والآحاد المشابه له نقلا مستندا الى الحس ، بمعاينة اعمال جميع من يتوقف انعقاد
الإجماع عليه ، أو سماع أقوالهم على وجه لا يمكن حمل القول والعمل على نوع من
التقية ونحوها. ودونه خرط القتاد. لما يعلم يقينا من تشتت العلماء وتفرقهم في
أقطار الأرض بل انزوائهم في بلدان المخالفين وحرصهم على ان لا يطلع أحد على
عقائدهم ومذاهبهم.
وما يقال ـ من انه إذا وقع إجماع الرعية على الباطل يجب على الامام ان يظهر ويباحثهم حتى يردهم إلى الحق لئلا يضل الناس ، أو انه يجوز ان تكون هذه الأقوال ـ المنقولة في كتب الفقهاء التي لا يعرف قائلها ـ قولا للإمام (عليهالسلام) ألقاه بين أقوال العلماء حتى لا يجتمعوا على الخطأ كما ذهب اليه بعض المتأخرين ، حتى انه (قدسسره) كان يذهب الى اعتبار تلك الأقوال المجهولة القائل لذلك ـ فهو مما لا ينبغي ان يصغى اليه (1) ولا يعرج في مقام التحقيق عليه. وعلى هذا فليس في عد الإجماع في الأدلة إلا مجرد تكثير العدد واطالة الطريق ، لأنه ان علم دخوله (عليهالسلام) فلا بحث ولا مشاحة في إطلاق اسم الإجماع عليه وإسناد الحجة اليه ولو تجوزا ، وإلا فإن ظن ولو بمعاضدة خبر واحد فكذلك ، وإلا فليس نقل الإجماع بمجرده موجبا لظن دخول المعصوم (عليهالسلام) ولا كاشفا عنه كما ذكروه. نعم لو انحصر حملة الحديث في قوم معروفين أو بلدة محصورة في وقت ظهوره (عليهالسلام) كما في وقت الأئمة الماضين (صلوات الله عليهم أجمعين) اتجه القول بالحجية. ويقرب منه ايضا ما لو أفتى ـ جماعة من الصدر الذي يقرب منهم كعصر الصدوق وثقة الإسلام الكليني (عطر الله مرقدهما) ونحوهما من أرباب النصوص ـ بفتوى لم نقف فيها على خبر ولا مخالف منهم ، فإنه أيضا مما يقطع بحسب العلم العادي فيها بالحجية ودخول قول المعصوم (عليهالسلام) فيهم لوصول نص لهم في ذلك ، ومن هنا نقل جمع من أصحابنا
__________________
(1) اما الأول منهما فلما هو ظاهر لكل ناظر من تعطيل الأحكام
جلها بل كلها في زمان الغيبة ، ولا سيما في مثل زماننا هذا الذي قد انطمس فيه
الدين ، بل صار جملة اهله شبه المرتدين. وقد صار المعروف فيه منكرا والمنكر معروفا
، وصارت الكبائر لهم ألفا مألوفا ، واما الثاني منهما فكيف يكفي في الحجية مجرد
احتمال كون ذلك هو المعصوم؟ مع انهم في الاخبار يبالغون في تنقية أسانيدها والطعن
في رواتها ، ولا يحتجون إلا بصحيح السند منها ولا يكتفون بمجرد الاحتمال هناك مع
توفر القرائن على الصحة فكيف هنا؟ ما هذا إلا تخريص في الدين وجمود على مجرد
التخمين. وهو مما قد نهت عنه سنة سيد المرسلين (منه قدسسره).
ان المتقدمين كانوا إذا اعوزتهم
النصوص في المسألة يرجعون الى فتاوى علي بن الحسين ابن بابويه.
وممن صرح بامتناع انعقاد الإجماع في زمن الغيبة المحقق
الشيخ حسن في كتاب المعالم ، حيث قال : «الحق امتناع الاطلاع عادة على حصول
الإجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل ، إذ لا سبيل الى العلم بقول
الامام (عليهالسلام) كيف؟ وهو
موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ، ليدخل في جملتهم ويكون قوله مستورا بين
أقوالهم ، وهذا مما يقطع بانتفائه ، فكل إجماع ـ يدعى في كلام الأصحاب مما يقرب من
عصر الشيخ الى زماننا هذا وليس مستندا الى نقل متواتر أو آحاد حيث يعتبر أو مع
القرائن المفيدة للعلم ـ فلا بد ان يراد به ما ذكره الشهيد من الشهرة. واما الزمان
السابق على ما ذكرناه المقارب لعصر ظهور الأئمة (عليهمالسلام) وإمكان العمل
بأقوالهم ، فيمكن فيه حصول الإجماع والعلم به بطريق التتبع والى مثل هذا نظر بعض
علماء أهل الخلاف ، حيث قال : الإنصاف انه لا طريق إلى معرفة حصول الإجماع إلا في
زمان الصحابة. حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفصيل» انتهى
كلام المحقق المذكور (منحه الله تعالى البهجة والسرور).
والتحقيق ان أساطين الإجماع كالشيخ والمرتضى وابن إدريس
وأضرابهم قد كفونا مؤنة القدح فيه وإبطاله بمناقضاتهم بعضهم بعضا في دعواه. بل
مناقضة الواحد منهم نفسه في ذلك كما لا يخفى على المتتبع البصير. ولا ينبئك مثل
خبير. ولقد كان عندي رسالة. الظاهر انها لشيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) كتبها في
الإجماعات التي ناقض الشيخ فيها نفسه. وقد ذهبت في بعض الحوادث التي جرت على
جزيرتنا البحرين.
(فان قيل) : ان بعض الاخبار مما يدل على حجية الإجماع واعتباره ، كمقبولة عمر ابن حنظلة (1) حيث قال السائل : «فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ليس يتفاضل واحد منهما على صاحبه؟ فقال (عليهالسلام) : ينظر الى ما كان ـ من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به ـ المجمع عليه أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه».
وما رواه في الكافي في باب إبطال الرؤية (2) في الصحيح عن
صفوان ، قال : «سألني أبو قرة المحدث أن ادخله على ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) الى أن قال :
فقال أبو قرة : فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (عليهالسلام) : إذا كانت
الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما اجمع عليه المسلمون انه لا يحاط به علما ولا
تدركه الأبصار. الحديث».
وما رواه في الكافي أيضا في الباب المذكور عن محمد بن
عبيد. قال : «كتبت الى ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) اسأله عن
الرؤية وما ترويه العامة والخاصة ، وسألته ان يشرح لي ذلك. فكتب بخطه : اتفق
الجميع لا تمانع بينهم ان المعرفة من جهة الرؤية. الحديث».
(فالجواب) عن ذلك ممكن إجمالا وتفصيلا. اما الأول فلأن
المسألة من الأصول المنوطة بالقطع عندهم. والاخبار المذكورة لا تخرج عن خبر الآحاد
الذي قصاراه الظن عندهم فلا يتم الاستدلال. واما الثاني فاما عن الخبر الأول (فأولا)
ان غاية ما يستفاد منه كون الإجماع مرجحا لأحد الخبرين على الآخر عند التعارض وهو
مما لا نزاع فيه. انما النزاع في كونه دليلا مستقلا برأسه. والخبر لا يدل عليه. (وثانيا)
فان ظاهره بل صريحه كون الإجماع في الرواية وهو مما لا نزاع فيه. لا في الفتوى كما
هو المطلوب
__________________
(1) المروية في الوسائل في باب ـ 9 ـ من أبواب صفات القاضي وما
يقضى به من كتاب القضاء.
(2) من كتاب التوحيد.
بالاستدلال. واما عن الأخيرين فيمكن (أولا)
الحمل على كون الاستدلال جدليا إلزاميا للخصم القائل بجواز الرؤية بالإجماع الذي
يعتقد حجيته على ما ينافي مدعاه من جوازها. و (ثانيا) بأنه على تقدير دلالتهما على
الحجية في الجملة فلا دلالة لهما على العموم في الأمور العقلية والنقلية ، إذ
متعلق الاستدلال هنا الأمور العقلية. والجواب ـ بأنه لا قائل بالفرق ـ مردود بان
اللازم من ذلك الاستدلال بفرع من فروع حجية الإجماع قبل ثبوت أصل حجيته. على ان
المفهوم ـ من رسالة الصادق (عليهالسلام) التي كتبها
لشيعته وأمرهم بتعاهدها والعمل بما فيها المروية في روضة الكافي (1) بأسانيد ثلاثة
ـ ان أصل الإجماع من مخترعات العامة وبدعهم ، قال (عليهالسلام) : «وقد عهد
إليهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قبل موته
فقالوا : نحن بعد ما قبض الله تعالى رسوله يسعنا أن نأخذ ما اجتمع عليه رأي الناس
بعد قبض رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الى أن قال (عليهالسلام) : فما أحد
اجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم ان ذلك يسعه. الحديث».
وبالجملة : فإنه لا شبهة ولا ريب في انه لا مستند لهذا
الإجماع من كتاب ولا سنة. وإنما يجري ذلك على مذاق العامة ومخترعاتهم ، ولكن جملة
من أصحابنا قد تبعوهم فيه غفلة ، كما جروا على جملة من أصولهم في مواضع عديدة مع
مخالفتها لما هو المستفاد من الاخبار ، كما سيظهر لك إن شاء الله في ضمن مباحث هذا
الكتاب.
وقد نقل المحدث السيد نعمة الله الجزائري (قدسسره) ـ عن بعض
مشايخه في بيان وجه العذر لمشايخنا المتقدمين في اختلاف الإجماعات المنقولة عنهم ـ
ما ملخصه : أن الأصول التي كان عليها المدار وهي التي انتخبوا منها كتب الحديث
المشهورة الآن كانت بأيديهم ، وإنما حدث فيها التلف والاضمحلال من زمان ابن إدريس
لأسباب
__________________
(1) في أول الكتاب.
ذكرها ، وكانوا ـ بملاحظة ما اشتملت
عليه جميعها أو أكثرها من الأحكام ـ يدعون عليه الإجماع. وربما اختلفت الأخبار في
ذلك الحكم بالتقية وعدمها والجواز والكراهة ونحوها ، فيدعي كل منهم الإجماع على ما
يؤدي إليه نظره وفهمه من تلك الأخبار بعد اشتمال أكثر تلك الأصول أو كلها على
الأخبار المتعلقة بما يختاره ويؤدي إليه نظره.
(أقول) : وعندي ان هذا الاحتمال ليس ببعيد ، فان الظاهر
ان مبدأ التفريع في الأحكام والاستنباط إنما هو من زمن المرتضى والشيخ (رضوان الله
عليهما) فان كتب من تقدمهما من المشايخ إنما اشتملت على جمع الاخبار وتأليفها ،
وان كان بعضها قد اشتمل على مذهب واختيار في المسألة ، فإنما يشار إليه في عنوان
الأبواب وينقل ما يخصه من الاخبار ، كما لا يخفى على من لاحظ الكافي والفقيه
ونحوهما من كتب الصدوق وغيره وكذلك ايضا فتاويهم المحفوظة عنهم لا تخرج عن موارد
الاخبار ، وحينئذ فنقل الشيخ والسيد (قدسسرهما) إجماع
الطائفة على الحكم مع كون عمل الطائفة إنما هو على ما ذكرنا من الأخبار وكونهما
على اثر أولئك الجماعة الذين هذه طريقتهم من غير فاصلة ، فكيف يصح حمل ما يدعونه
من الإجماع على الإجماع في الفتوى وان كان من غير خبر؟ بل الظاهر إنما هو الإجماع
في الاخبار. الا ترى ان الشيخ في الخلاف والمرتضى في الانتصار إنما استندا في
الاستدلال الى مجرد الإجماع وجعلوه هو المعتمد والمعتبر مع كون الأخبار بمرأى منهم
ومنظر ، وليس ذلك إلا لرجوعه إليها وكونه عبارة عن الإجماع فيها. وهذا أحد الوجوه
التي اعتذر بها شيخنا الشهيد في الذكرى عن اختلافهم في تلك الإجماعات. وهو أظهرها
وان جعله آخرها.
(المقام الثالث) ـ في دليل العقل ، وفسره بعض بالبراءة الأصلية والاستصحاب ، وآخرون قصروه على الثاني ، وثالث فسره بلحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب ، ورابع بعد البراءة الأصلية والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين المندرج فيه مقدمة الواجب واستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص والدلالة الالتزامية ولا بد لنا ان نتكلم على ما لا بد منه في مطالب :
(المطلب
الأول) ـ في البراءة الأصلية ، اعلم ان الأصل ـ كما ذكره جملة من
الفضلاء ـ يطلق على معان (أحدها) ـ الدليل كما يقال : الأصل في هذه المسألة الكتاب
والسنة و (ثانيها) ـ الراجح كقولهم : الأصل في الكلام الحقيقة و (ثالثها) ـ القاعدة
كقولهم : الأصل في البيع (1) اللزوم ،
والأصل في تصرفات المسلمين الصحة.
و (رابعها) ـ الاستصحاب كقولهم : إذا تعارض الأصل
والظاهر فالأصل مقدم. والأصل فيما نحن فيه اما بمعنى الراجح ، والمراد منه ما
يترجح إذا خلى الشيء ونفسه ، بمعنى انه متى لوحظت الذمة من حيث هي هي مع قطع
النظر عن التكليفات فان الراجح براءتها ، كما في قولهم : الأصل في الكلام الحقيقة
، بمعنى ان الراجح ذلك لو خلي الكلام ونفسه من غير قرينة صارفة عن معناه الموضوع
له. ويحتمل ان يكون الأصل هنا ايضا بمعنى استصحاب الحالة التي كان عليها الشيء قبل
التكليف أو قبل حال الاختلاف كاستصحاب براءة الذمة قبل ذلك. ومن هنا صرح بعضهم بان
الوجه في التمسك بالبراءة الأصلية من حيث ان الأصل في الممكنات العدم.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان المعنى الأول من هذه المعاني مما
لا اشكال ولا خلاف فيه ، وكذا الثاني في غير البراءة الأصلية. واما فيها ففيه ما
سيتضح لك من التفصيل
__________________
(1) وما ذكروه ـ من قولهم : الأصل في البيع اللزوم ، حتى انهم
كثيرا ما يتمسكون به في إثبات بيع أو عقد مشتمل على شرط مختلف في صحته وفساده ـ ففيه
ان ظاهر الاخبار ترده ، فان العقود المشتملة على القيود بعضها مما دلت الاخبار على
صحته وبعضها مما دلت على فساد الشرط دون العقد ، والحكم بالصحة والفساد تابع لما
ورد عن أهل العصمة (عليهمالسلام) كما أشرنا الى ذلك في المقدمة الحادية
عشرة من مقدمات هذا الكتاب (منه رحمهالله).
ان شاء الله تعالى. واما الثالث فان
كانت تلك القاعدة مستفادة من الكتاب والسنة فلا إشكال في صحة البناء عليها ، ومنه
قولهم : الأصل في الأشياء الطهارة ، أي القاعدة المستفادة من النصوص ـ وهي قولهم (عليهمالسلام) : «كل شيء
طاهر حتى تعلم انه قذر» (1) ـ تقتضي طهارة
كل شيء ، واما الرابع فهو محل الاختلاف في المقام ومرمى سهام النقض والإبرام.
ثم انه يجب ان يعلم ان الأصل بمعنى النفي والعدم إنما
يصح الاستدلال به ـ على تقديره ـ على نفي الحكم الشرعي لا على إثباته ، ولهذا لم
يذكر الأصوليون البراءة الأصلية في مدارك الأحكام الشرعية ، وحينئذ فإذا كانت
أصالة البراءة مستلزمة لشغل الذمة من جهة أخرى امتنع الاستدلال بها ، كما إذا علم
نجاسة أحد الثوبين أو الإناءين بعينه واشتبه بالآخر ، فإنه لا يصح الاستدلال على
طهارة كل واحد منهما بان يقال : الأصل عدم نجاسته ، فإنه ينتج من ذلك الحكم
بطهارتهما ويلزم منه اشتغال الذمة بالنجاسة لمعلوميتها كما عرفت وان جهل تعيينها ،
ولذلك فروع (2) كثيرة في
أبواب
__________________
(1) الوارد بهذا المضمون هو موثق عمار الذي رواه الشيخ في
التهذيب في كيفية غسل الأواني من باب (تطهير الثياب وغيرها من النجاسات) من كتاب
الطهارة. ورواه في الوسائل في باب ـ 37 ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من
كتاب الطهارة. وإليك نصه : «عن محمد بن احمد بن يحيى عن احمد بن الحسن عن عمرو بن
سعيد عن مصدق بن صدقة عن عمار عن ابى عبد الله (عليهالسلام) في حديث قال : كل شيء نظيف حتى تعلم
انه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك».
(2) (منها) ـ ما لو اشتغلت ذمة المكلف بصلاة من الخمس غير
معينة ، فإنه لا يصح ان يقال : الأصل براءة الذمة من كل فرد فرد من تلك الأفراد
المعلومة الاشتغال وان جهل محله ، بل الواجب كما ورد به النص الإتيان بجميع
الافراد المشكوكة ، ومثله الشك في الجمعة والظهر ، والشك في القبلة. وفي جميع هذه
المواضع يجب الاحتياط بما يوجب الخروج من عهدة التكليف. نعم لو حصل الشك مع ذلك
الواجب في محرم كما إذا وجب عليه وطء
الفقه يقف عليها المتدبر. والسر في
ذلك ان حجية الأصل في النفي والعدم إنما هو من حيث لزوم قبح تكليف الغافل كما
سيتضح لك ان شاء الله تعالى ، وهذا لا يجري في إثبات الحكم به ، ولا دليل سوى ذلك
، فيلزم إثبات حكم بلا دليل.
إذا تقرر ذلك فاعلم ان البراءة الأصلية على قسمين : (أحدهما)
ـ انها عبارة عن نفي الوجوب في فعل وجودي الى ان يثبت دليله ، بمعنى ان الأصل عدم
الوجوب حتى يثبت دليله. وهذا القسم مما لا خلاف ولا إشكال في صحة الاستدلال به
والعمل عليه ، إذ لم يذهب أحد الى أن الأصل الوجوب ، لاستلزام ذلك تكليف ما لا
يطاق وللأخبار الدالة على ان «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (1). و «الناس في
سعة ما لم يعلموا» (2). و «رفع القلم
عن تسعة أشياء ، وعد منها
__________________
الزوجة بنذر وشبهه واشتبهت بالأجنبية ، امتنع الاحتياط
بالإتيان بالأفراد المشكوكة ، لتحريم وطء الأجنبية مطلقا معلومة كانت أو مشتبهة.
وللزوم الجمع بين النقيضين. وهكذا في كل موضع تردد الفعل بين الوجوب والتحريم ،
كما لو وجب قتل شخص قصاصا فاشتبه بمحترم ونحو ذلك ، فإنه لا مجال هنا لأصالة
الوجوب ولا للاحتياط ، ويفهم من بعض الاخبار ـ كما ذكرنا في المقدمة الرابعة ـ ان
الاحتياط هنا بالترك (منه رحمهالله).
(1) المروي في الوسائل عن التوحيد والكافي في باب ـ 12 ـ من
أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء. ولكن رواية الكافي ليس فيها كلمة (علمه).
(2) الشهاب في الحكم والآداب ص 7 (في الألف الموصول والمقطوع)
للقاضي محمد بن سلامة والذي وقفنا عليه مما يوافقه في المعنى من كتبنا ـ هي رواية
السفرة المروية في الكافي في باب 48 ـ من كتاب الأطعمة وفي الوسائل في باب 23 ـ من
كتاب اللقطة. وإليك نص الرواية كما في الكافي :
«علي
بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن ابى عبد الله (عليهالسلام) ان أمير المؤمنين (عليهالسلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق
مطروحة كثير لحمها وخبزها وبيضها وجبنها ، وفيها سكين. فقال أمير المؤمنين (عليهالسلام) : يقوم ما فيها ثم يؤكل ، لانه
يفسد وليس له بقاء ، فان جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل يا أمير المؤمنين لا يدرى
سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال : هم في سعة حتى يعلموا».
ما لا يعلمون» (1). و (ثانيهما)
ـ انه عبارة عن نفي التحريم في فعل وجودي الى ان يثبت دليله بمعنى ان الأصل
الإباحة وعدم التحريم في ذلك الفعل الى ان يثبت دليل تحريمه ، وهذه هي البراءة
الأصلية التي وقع النزاع فيها نفيا وإثباتا ، فالعامة كملا وأكثر أصحابنا على
القول بها والتمسك في نفي الأحكام بها ، حتى طرحوا في مقابلتها الأخبار الضعيفة
باصطلاحهم بل الأخبار الموثقة ، كما لا يخفى على من طالع كتبهم الاستدلالية
كالمسالك والمدارك ونحوهما ، فالأشياء عندهم اما حلال أو حرام خاصة ، وجملة
علمائنا المحدثين وطائفة (2) من الأصوليين
على وجوب التوقف والاحتياط ، فالأشياء عندهم مبنية على التثليث (3) (حلال بين
وحرام بين وشبهات بين ذلك) ، وربما نقل ايضا القول بأن الأصل التحريم الى ان تثبت
الإباحة ، وهو ضعيف.
والحق ـ الحقيق بالاتباع ، وهو المؤيد باخبار أهل الذكر (صلوات
الله عليهم) ـ هو القول الثاني ، ولنا عليه وجوه :
__________________
(1) رواه في الوسائل عن الكافي والتوحيد والخصال في باب ـ 56 ـ
من أبواب جهاد النفس وما يناسبه من كتاب الجهاد. وإليك نص الحديث كما
عن
التوحيد والخصال : «عن احمد بن محمد بن يحيى عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد
عن حماد ابن عيسى عن حريز بن عبد الله عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : رفع عن أمتي تسعة أشياء :
الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا اليه
والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة».
(2) منهم الشيخ (قدسسره) في كتاب العدة ، فإنه قد اختار القول
بالتثليث في الأحكام ومنع من الاعتماد على البراءة الأصلية وأطال في الاستدلال ،
ونقل ذلك أيضا في الكتاب المذكور عن شيخه المفيد (رضى الله عنه) وقد نقلنا شطرا من
كلامه في المسألة في كتاب الدرر النجفية. ومثله ايضا المحقق في المعتبر (منه رحمهالله).
(3) نقله الشيخ في كتاب العدة عن طائفة من أصحابنا الإمامية
البغداديين (منه قدسسره).
(الأول) ـ ان ما عداه قول بلا دليل فيجب إطراحه ، وأدلة
الخصم لا تنهض بالدلالة كما سيتضح لك ان شاء الله تعالى.
(الثاني) ـ استفاضة الاخبار بان لله في كل واقعة حكما
شرعيا مخزونا عند أهله حتى أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة ، وحينئذ فإذا كان جميع
الأحكام قد ورد فيها خطاب شرعي فكيف يصح التمسك بأصالة العدم والاستدلال به؟ نعم
الاستدلال بذلك انما يتجه على مذهب المخالفين القائلين بأن جميع ما جاء به النبي (صلىاللهعليهوآله) أظهره
للصحابة ولم يكتم شيئا منه لا عن الأبيض ولا الأسود ، ولا خص أحدا دون أحد بشيء
من علومه ، ولم تقع بعده فتنة أوجبت إخفاء شيء مما جاء به (صلىاللهعليهوآله) فالمجتهد إذا
فحص وفتش عن الأدلة الشرعية ولم يقف على دليل ذلك الحكم يجب عنده الجزم بنفي ذلك
الحكم ويكون التمسك بالبراءة الأصلية على نفيه ، كما قالوا : عدم وجود المدرك
للحكم الشرعي مدرك شرعي لعدم الحكم ، وبعبارة أخرى عدم وجود الدليل دليل على
العدم. واما عندنا معاشر الإمامية فحيث استفاض في أخبارنا ـ بل صار من ضروريات
ديننا ـ إنه أودع علومه عند أهل بيته وخصهم بها دون غيرهم ، واستفاض ايضا انه لم
يبق شيء من الأحكام جزئي ولا كلي إلا وقد ورد فيه خطاب شرعي وحكم إلهي وان جميع
ذلك عندهم ، وانهم كانوا في زمن تقية وفتنة ، فقد يجيبون عن السؤال بما هو الحكم
الشرعي الواقعي تارة وقد يجيبون بخلافه تقية وقد لا يجيبون أصلا ، فلا يتجه اجراء
هذا الكلام ولا صحته في هذا المقام (1) ، ولا تمام هذه القاعدة ولا ما يترتب
عليها من الفائدة ، ولا يمكن التمسك بالعدم الأصلي الذي هو عبارة عن عدم تعلق
التكليف
__________________
(1) إذ الفرض انه لا حكم من الأحكام إلا وقد ورد فيه خطاب شرعي
وان كان لم يصل إلينا ، فكيف يقال : الأصل براءة الذمة وخلوها لعدم الدليل واقعا ،
بمعنى انها إذا لوحظت مع قطع النظر عن تعلق التكليف فالراجح الحكم بخلوها وبراءتها؟
(منه رحمهالله).
ووقوعه بالكلية. وما ذكرنا سابقا ـ من
صحة الاستدلال بالقسم الأول من قسمي البراءة الأصلية على نفي الوجوب في فعل وجودي
ـ لا باعتبار عدم الحكم واقعا بل لعدم وصول الحكم وللزوم تكليفنا بذلك مع عدم
العلم بالحكم للحرج المنفي بالآية والرواية ، وللاخبار المشار إليها ثمة. نعم ما
ذكروه يتم عندنا فيما تعم به البلوى من الأحكام كما نبه على ذلك جملة من علمائنا
الاعلام (1) واليه أشار
المحقق في المعتبر حيث قال في بيان معاني الاستصحاب : «الثاني ـ ان يقال : عدم
الدليل على كذا فيجب نفيه. وهذا يصح فيما يعلم انه لو كان هناك دليل لظفر به ، اما
لا مع ذلك فإنه يجب التوقف» انتهى.
(الثالث) ـ استفاضة الأخبار بتثليث الأحكام «حلال بين
وحرام بين وشبهات بين ذلك». ولو تم ما ذكروا من العمل بالبراءة الأصلية المقتضي
لدخول ما دلت عليه في الحلال البين ، لم يبق للقسم الثالث فرد يندرج تحته ولما كان
للتثليث وجه ، بل يتعين القول بالتثنية وهو الحلال والحرام خاصة ، والاخبار
بخلافه.
(الرابع) ـ الأخبار المتكاثرة بل المتواترة معنى انه مع
عدم العلم بالحكم الشرعي يجب السؤال منهم (عليهمالسلام) أو من نوابهم
، والا فالتوقف والوقوف على جادة الاحتياط. ولو كان للعمل بالبراءة الأصلية أصل في
الشريعة لما كان لأمرهم (عليهمالسلام) بالتوقف وجه.
__________________
(1) من ان عدم الدليل يدل على العدم ـ والتمسك بالبراءة
الأصلية على عدم الحكم واقعا ـ يتم عندنا في الأحكام التي تعم بها البلوى ، كوجوب
قصد السورة ووجوب نية الخروج من الصلاة بالتسليم ونحوهما ، فان المحدث الماهر ـ إذا
تتبع الأدلة حق تتبعها في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى
بها ، ولم يظفر بما يدل على ذلك ـ يحصل له الجزم أو الظن القوى عند بعض بعدم
الحكم. وتحقيق القول فيما اجملنا هنا يرجع فيه الى كتابنا الدرر النجفية ، حيث ان
المسألة فيه قد أعطيناها حقها من التحقيق ووفيناها ما هو بها حقيق (منه رحمهالله).
(الخامس) ـ انه قد ورد عنهم (عليهمالسلام) جملة من
الطرق لترجيح الاخبار كما تقرر في مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها ، ولم يذكروا
البراءة الأصلية في جملة تلك الطرق ، بل قد اشتملت مقبولة عمر بن حنظلة بعد
التوافق في جميع طرق الترجيح على الإرجاء حتى يلقى امامه (1) ، معللا له
بان «الوقوف في الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». وحينئذ فإذا كان الواجب مع
الاتفاق في جميع تلك الطرق هو ترك الحكم من كل منهما والتوقف فأي ترجيح بأصالة البراءة
التي ذكروها؟ إذ لو كانت دليلا شرعيا على العدم وموجبة لترجيح ما اعتضد بها لترجح
بها هنا أحد الجانبين وما ربما يظهر من كلام بعض الأجلاء ـ من أن ذلك مخصوص
بالمنازعات في الأموال والفرائض والمواريث كما يعطيه صدر الخبر وهو قول السائل : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجلين من
أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث». ـ ففيه (أولا) ـ ان خصوص السؤال لا
يخصص عموم الجواب كما تقرر عندهم. و (ثانيا) ـ ان هذه الترجيحات التي ذكرها (عليهالسلام) لم يخصها أحد
من الأصحاب بالاخبار المتعارضة في خصوص هذه الأشياء التي ذكرها بل يجرونها في كل
حكم تعارضت فيه الأخبار ، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار وذاق لذيذ تلك
الثمار.
احتج بعض فضلاء متأخري المتأخرين بأن القول بالبراءة
الأصلية مما تدل عليه الآية والاخبار ، كقوله تعالى : «خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» (2) وقول الصادق
__________________
(1) ومن ذلك ايضا ما ورد في موثقة سماعة عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان
من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟
قال يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه». فتراه في هذا الخبر أيضا
أوجب التوقف الذي هو ساحل الهلكة ولم يرجح بأصالة البراءة ولا بغيرها (منه رحمهالله).
(2) سورة البقرة آية 29.
(عليهالسلام) : «كل شيء
مطلق حتى يرد فيه نهي» (1). قال : على
انا لا نعني بالبراءة الأصلية عدم التكليف بالكلية ، لظهور فساده بما استفاض في
الاخبار انه لا حكم من الأحكام الا وقد ورد فيه خطاب شرعي ، وانما نعني بها عدم
تعلق التكليف بنا وأصالة براءة الذمة منه ، لعدم الوقوف على دليله ، إذ لا تكليف
إلا بعد البيان. ولعين ما تقدم من الاخبار المشار إليها في المعنى الأول من معاني
البراءة الأصلية. وأجاب بتخصيص الشبهة والتثليث في الأحكام بما تعارضت فيه الاخبار
، واما ما لم يرد فيه نص فليس من الشبهة في شيء ، وعلى تقدير تسليم كونه شبهة
وشمول تلك الاخبار له يخرج بالأخبار الدالة على ان
«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» ونحوه.
وما ذكره (قدسسره) محل نظر ،
أما الآية المذكورة فالجواب عنها (أولا) ـ ما عرفت في المقام الأول من ان محل
الاستدلال من القرآن العزيز هو ما كان محكم الدلالة. والآية المذكورة مجملة محتملة
لمعان عديدة كما سيظهر لك و (ثانيا) ـ انه قد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين (صلوات
الله عليه) قال : «خلق لكم ما في الأرض لتعتبروا به. الحديث». وعلى هذا يسقط
الاستدلال رأسا و (ثالثا) ـ ان غاية ما تدل عليه انه (سبحانه) خلق ما في الأرض
لأجل منافع العباد الدينية والدنيوية بأي وجه اتفق ، وذلك لا يستلزم اباحة كل شيء
، ومجرد خلقه للانتفاع لا يستلزم حلية ما لم يرد في حليته نص ، لجواز الانتفاع به
على وجه آخر ، إذ لا شيء من الأشياء إلا وفيه وجوه عديدة من المنافع. ولئن سلمنا
الدلالة فالتخصيص قائم بما قدمنا من الأخبار كما قد خصت بغيرها مما لا يخالف فيه
الخصم.
__________________
(1) المروي في الفقيه في باب (وصف الصلاة من فاتحتها الى
خاتمتها).
وفي
الوسائل في باب ـ 19 ـ من أبواب القنوت من كتاب الصلاة. وفي باب ـ 12 ـ من أبواب
صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
واما الرواية فمن وجوه أيضا عديدة : (أحدها) ـ ان هذا
الخبر وما ضاهاه مما استدلوا به اخبار آحاد لا تفيد إلا الظن ، والمسألة من الأصول
المطلوب فيها القطع عندهم. و (ثانيها) ـ ان هذا الخبر وما شاكله موافق للعامة ،
لدلالتها على التثنية في الأحكام بالحل والتحريم وانه لا وجود للتشابه فيها ، وانه
لا توقف ولا احتياط في شيء من الأحكام كما هو مذهبهم ، والاخبار التي قدمناها
دالة على التثليث والتوقف ووجوب الاحتياط في بعض وهو المتشابه ، وقد تقرر في
أخبارنا وجوب الأخذ بخلافهم فان الرشد فيه. و (ثالثها) ـ ان المفروض في الخبر
المذكور عدم وجود النهي وعدم حصول العلم ، والحال ان النهي موجود فيما أشرنا إليه
آنفا من الاخبار وهو النهي عن القول بغير علم في الأحكام الشرعية والنهي عن ارتكاب
الشبهات ، وحصل ايضا العلم منها وهو العمل بالاحتياط في بعض افراد موضع النزاع
والتوقف في بعض ، وعلى هذا يكون مضمون هذا الخبر وأمثاله مخصوصا بما قبل إكمال
الشريعة أو بمن لم يبلغه النهي العام المعارض لهذه الاخبار ، فيبقى الآن مضمونها
غير موجود عند العلماء العارفين بمعارضاتها. و (رابعها) ـ الحمل على الخطابات
الشرعية ، وحاصل معناه : ان كل خطاب شرعي فهو باق على إطلاقه وعمومه حتى يرد فيه
نهي في بعض افراده يخرجه عن ذلك الإطلاق ، مثل قولهم : «كل شيء طاهر حتى تعلم انه
قذر» (1). و «كل شيء
فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه» (2). ونحو ذلك من
القواعد الكلية والضوابط الجلية. و (خامسها) ـ ان العمل بهذا الخبر وما شابهه خلاف
الاحتياط وما يقابلها موافق للاحتياط ، فإنه لا خلاف في رجحان
__________________
(1) تقدم الأصل في ذلك في صحيفة (42).
(2) قد روى الأحاديث الواردة بهذا المضمون في الوسائل في باب ـ
35 ـ من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة ، وفي باب ـ 61 ـ من
أبواب الأطعمة المباحة من كتاب الأطعمة والأشربة ، وفي باب ـ 31 ـ من أبواب ما
يكتسب به من كتاب التجارة.
الاحتياط في المقام وإنما الخلاف في
وجوبه أو استحبابه ، فالنافون للبراءة الأصلية على الوجوب والمثبتون لها على
الاستحباب ، والأخبار الدالة على الأمر بالاحتياط في الدين أوضح دلالة وأكثر عددا
فالعمل بها أرجح البتة.
وأما قوله : على انا لا نعني بأصالة البراءة ، الى آخره.
فان فيه انه خروج عن ظاهر العبارة بل عن تصريحاتهم بذلك كما لا يخفى على من راجع
كلامهم ، فان مرادهم بالإباحة هي الإباحة الأصلية التي هي عبارة عن عدم تعلق
التكليف ، لكن هذا القائل حيث استشعر الإيراد بالأخبار التي أشرنا إليها التجأ إلى
القول بما ذكره ، مع ان فيه ايضا ان الإباحة الشرعية أحد الأحكام الشرعية المتوقفة
ايضا على الدليل ، ولا دليل على اباحة ما لا نص فيه ، والآية والخبر اللذان هما
عمدة أدلة أولئك القائلين بالحجية قد عرفت ما فيهما.
وأما الأخبار التي استند إليها في عدم تعلق التكليف بنا
حتى يظهر دليله ، فهي محمولة على المعنى الأول من معنيي البراءة الأصلية كما ينساق
للناظر من ظواهر ألفاظها لا المعنى الثاني منهما ، لمعارضتها بالأخبار المستفيضة
التي أشرنا إليها آنفا من حيث دلالتها على وجوب الكف والتثبت في كل فعل وجودي لم
نقطع بجوازه عند الله تعالى.
واما جوابه ـ بتخصيص الشبهة والتثليث في الأحكام بما
تعارضت فيه الاخبار بناء على ظنه انحصار الدليل في مقبولة عمر بن حنظلة ونحوها ـ ففيه
ان الاخبار دالة على ما هو أعم بل صريحة في الفرد الذي ندعيه ، ومن ذلك ما رواه في
الفقيه (1) من خطبة أمير
المؤمنين (عليهالسلام) حيث قال : «ان
الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها
نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها ، ثم قال (عليهالسلام) : حلال بين
وحرام بين وشبهات
__________________
(1) في باب (نوادر الحدود) وفي الوسائل في باب ـ 12 ـ من أبواب
صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
بين ذلك. الحديث». ومن المعلوم ان
السكوت عنها إنما هو باعتبار عدم النص عليها بالكلية. وفي حديث الطيار عن الصادق (عليهالسلام) (1) : «لا يسعكم
فيما ينزل بكم مما لا تعلمون (2) الا الكف عنه
والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد». وبمضمونه أخبار عديدة.
وحينئذ فلا يتجه ما ذكره من إخراج ما لم يرد فيه نص من الشبهة على تقدير شمول تلك
الأخبار ، فإن الدليل على دخوله في الشبهة ليس مختصا بعموم اخبار الشبهة كما توهمه
، بل خصوص هذه الاخبار الناصة عليه بخصوصه الآمرة بالتوقف فيه والرد إلى أصحاب
العصمة (سلام الله عليهم).
واما الاخبار التي ادعى الاستناد إليها والتخصيص بها فقد
عرفت وجه الجواب عنها مفصلا. (المطلب الثاني) ـ في الاستصحاب ، اعلم انهم
صرحوا بان الاستصحاب يقع على أقسام أربعة : (أحدها) ـ استصحاب نفي الحكم الشرعي
وبراءة الذمة منه الى ان يظهر دليله ، وهو المعبر عنه بالبراءة الأصلية التي تقدم
الكلام عليها بمعنييها. و (ثانيها) ـ استصحاب حكم العموم الى ان يقوم المخصص ،
وحكم النص الى ان يرد الناسخ. و (ثالثها) ـ استصحاب إطلاق النص الى ان يثبت
المقيد. و (رابعها) ـ استصحاب حكم شرعي في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم
لها ، بمعنى انه يثبت حكم في وقت ثم يجيء وقت آخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك
__________________
(1) المروي في الوسائل في باب ـ 4 و 8 و 12 ـ من أبواب صفات
القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
(2) وهذا القسم من افراد الشبهة ربما عبر عنه بما ذكر في هذا
الخبر ، وربما عبر عنه تارة بالمبهمات كما في خبر عبد الرحيم القصير وصفوان وموسى
الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) وربما عبر عنه تارة بالمبهمات المعضلات
كما في الخطبة المروية عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال في جملة وصف أبغض الخلق الى الله
: «وان نزلت به احدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع به. فهو من
لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت ، فهو خباط عشوات ركاب شبهات. الحديث». (منه رحمهالله).
الحكم فيه ، فيحكم ببقائه على ما كان
، استصحابا لتلك الحالة الأولى.
إذا عرفت ذلك فاعلم انه لا خلاف ولا إشكال في حجيته
بالمعنى الثاني والثالث ، لان مرجعها الى الاستدلال بعموم النص وإطلاقه ، وإنما
الاشكال والخلاف في أحد معنيي البراءة الأصلية. وقد تقدم وفي المعنى الرابع ، وهو
محل الخلاف في المقام ومنتصل سهام النقض والإبرام ، فجملة من علمائنا الأصوليين بل
أكثرهم على ما نقله البعض على القول بالحجية ، والمشهور بين المحدثين وجملة من
علمائنا الأصوليين ـ بل نقل بعض انه مذهب أكثرهم ايضا ـ على العدم ، وهو المنقول
عن الشيخ والسيد المرتضى والمحقق. وهو اختيار صاحبي المعالم والمدارك. ومثلوا له
بالمتيمم إذا دخل في الصلاة ثم وجد الماء في أثنائها ، فإن الاتفاق واقع على وجوب
المضي فيها قبل الرؤية ، لكن هل يستمر على فعلها والحال كذلك أم يستأنف؟ مقتضى
الاستصحاب الأول.
احتج القائلون بالحجية بوجوه : (أحدها) ـ ان المقتضي
للحكم الأول ثابت والعارض لا يصلح رافعا له ، فيجب الحكم بثبوته في الثاني. وجوابه
ان صلاحية العارض للرفع وعدمها فرع الثبوت في الثاني ، فإن غاية ما دل عليه الدليل
ثبوت الحكم في الزمن الأول ، وثبوته في الثاني يحتاج الى دليل.
و (ثانيها) ـ ان الثابت أولا قابل للثبوت ثانيا ، وإلا
لانقلب من الإمكان الذاتي إلى الاستحالة ، فيجب ان يكون في الزمان الثاني جائز
الثبوت كما كان أولا ، فلا ينعدم إلا بمؤثر ، لاستحالة خروج الممكن عن أحد طرفيه
الى الآخر إلا لمؤثر ، فإذا كان التقدير عدم العلم بالمؤثر يكون بقاؤه أرجح من
عدمه في اعتقاد المجتهد ، والعمل بالراجح واجب. وجوابه ان توقف الانعدام على مؤثر
فرع الوجود بالفعل لا إمكان الوجود.
وبالجملة فالمانع مستظهر ، قال سيدنا المرتضى (قدسسره) ـ في الاحتجاج على إبطال العمل بالاستصحاب ـ ما حاصله : ان في الاستصحاب جمعا بين حالين مختلفين في حكم من غير دلالة ، فانا إذا كنا أثبتنا الحكم في الحالة الأولى بدليل فالواجب ان ننظر ، فان كان الدليل يتناول الحالين ، سوينا بينهما فيه إلا أنه ليس من الاستصحاب في شيء ، وان كان تناول الدليل إنما هو للحالة الأولى فقط والثانية عارية عن الدليل ، فلا يجوز إثبات مثل الحكم لها من غير دليل ، وجرت هذه الحالة مع الخلو عن الدليل مجرى الأولى لو خلت من دلالة ، فإذا لم يجز إثبات الحكم للأولى إلا بدليل فكذلك الثانية. انتهى. وهو جيد.
و (ثالثها) ـ ان الفقهاء عملوا باستصحاب الحال في كثير
من المسائل ، والموجب للعمل هناك موجود في موضع الخلاف ، وذلك كمسألة من تيقن
الطهارة وشك في الحدث فإنه يعمل على يقينه. وجوابه انه قياس مع وجود الفارق ، لان
الاستصحاب المقاس عليه من القسم الثاني من الأقسام المتقدمة ، والفرق بينه وبين ما
نحن فيه ظاهر. (أما أولا) ـ فإن محل الاستصحاب المتنازع فيه هو الحكم الشرعي ،
وذلك القسم محل الاستصحاب فيه جزئيات الحكم الشرعي ، والشارع قد أوجب في الحكم
الشرعي البناء على العلم واليقين دون جزئيات الحكم ، فان الحكم فيها مختلف كما
أوضحناه في محل أليق (1) و (اما ثانيا)
ـ فلأن الاستصحاب المقاس عليه ليس هو في التحقيق من الاستصحاب في شيء كما صرح به
علم الهدى (رضياللهعنه) فيما تقدم من
كلامه ، بل هو عمل بإطلاق الدليل أو عمومه ، لأن قوله ـ : «لا تنقض اليقين بالشك. ولا
تنقضه إلا بيقين آخر». وقوله : «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر». ونحو ذلك ـ دال
على ثبوت تلك الأحكام في جميع الأحوال والأزمان الى ان يحصل يقين وجود الرافع ،
بخلاف الاستصحاب المتنازع فيه ، فان الدليل ـ كما عرفت ـ إنما دل
__________________
(1) قد أوضحنا ذلك حسبما يراد على وجه لا يتطرق إليه الإيراد
في كتاب الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية ، وفقنا الله تعالى لإتمامه (منه قدسسره).
على حكم الحال الاولى وسكت عن الثانية
، ولهذا سمي تعديته الى الحال الثانية حيث كانت عارية عن الدليل استصحابا ، ومن ثم
ايضا جعل الاستصحاب دليلا برأسه مقابلا للسنة ، وبإبطال الأدلة المذكورة تنتفي
الحجية ويزيد ذلك بيانا ايضا وجوه :
(الأول) ـ ان مفاد الاستصحاب ـ على ما ذكروه ـ إنما هو
الظن ، وقد قامت الأدلة القاطعة ـ كما بسطنا الكلام عليه في كتاب المسائل ـ على ان
الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى غير معتبر شرعا. على ان وجود الظن ايضا فيه ممنوع
، لان موضوع المسألة الثانية مقيد بالحالة الطارئة وموضوع المسألة الأولى مقيد
بنقيض تلك الحالة ، فكيف يظن بقاء الحكم الأول؟
(الثاني) ـ انه لا يخفى ـ على من راجع الاخبار وغاص لجج
تلك البحار ـ انه قد ورد من الشارع في بعض الصور حكم يوافق الاستصحاب بالمعنى الذي
ذكروه وفي بعضها ما يخالفه. ومنه يعلم انه ليس حكما كليا ولا قاعدة مطردة تبنى
عليه الأحكام ، ومن تأمل ـ في أحاديث مسألة المتيمم إذا وجد الماء بعد الدخول في
الصلاة التي هي المثال الدائر للاستصحاب ـ ظهر له صحة ما قلنا ، فان بعضها قد دل
على انه ينصرف من الصلاة ويتوضأ ما لم يركع ، وبعضها على انه يمضي في صلاته مطلقا
، وبعضها على انه ينصرف بعد أن صلى ركعة ويتوضأ ويبني على ما مضى ، وجل الاخبار
دال على الانصراف وان كان في بعضها (ما لم يركع) وبعضها (ولو بعد تمام الركعة) ولم
يرد بالمضي إلا رواية محمد بن حمران ، فلو كان الاستصحاب ـ الذي اعتمدوه دليلا في
الأحكام ومثلوا له بهذا المثال ـ دليلا برأسه. لوجب ـ على هذا المصلي بمقتضى ذلك ـ
المضي في الصلاة ولزم طرح هذه الاخبار. وفيه من البطلان ما لا يحتاج الى البيان (1).
__________________
(1) ومثل ذلك مسألة من نوى الإقامة عشرا ثم بدا له. سواء كان
بعد الصلاة أم قبلها فان مقتضى العمل بالاستصحاب وجوب التمام بنية الإقامة القاطعة
للسفر والاستمرار على ذلك ، وان العزم على السفر بعد ذلك ولو قبل الصلاة تماما لا
يزيل حكم نية الإقامة مع ان الاخبار فيه فصلت بالصلاة وعدمها ، فلو كان الاستصحاب
قاعدة كلية يتحتم البناء عليها في الأحكام لما كان للتفصيل وجه في هذا المقام (منه
رحمهالله).
(الثالث) ـ ان هذا الموضع من المواضع الغير المعلوم حكمه
تعالى فيها في غير ما دلت عليه النصوص ، وقد تواترت الاخبار في مثل ذلك بوجوب
التوقف والاحتياط كما سلف تحقيقه. هذا. والمفهوم ـ من كلام المحدث الأمين
الأسترآبادي (قدسسره) في تعليقاته
على المدارك ـ الميل الى العمل بالاستصحاب على تفصيل ذكره هناك. وقد بسطنا الكلام
على المسألة المذكورة في كتاب الدرر النجفية ، ونقلنا كلام المحدث المذكور وأوضحنا
ما فيه من القصور ، وكذا كلام بعض الاعلام في المقام وما يتعلق به من النقض
والإبرام ، وههنا مواضع من الأحكام قد حصل الشك في اندراجها تحت القسم الثالث الذي
هو عبارة عن إطلاق النص ، أو القسم الرابع الذي هو محل النزاع سيأتي التنبيه عليها
في مواضعها ان شاء الله تعالى.
(المطلب
الثالث) ـ في لحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب. ومرجع ذلك الى
دلالة المفهوم موافقة أو مخالفة.
وتفصيل القول في ذلك ان دلالة اللفظ على معناه اما ان
تكون في محل النطق أو لا في محله.
والأول ـ اما ان يكون مطابقة أو تضمنا أو التزاما ، والا
ولان صريح المنطوق والثالث غير صريحه ، وهو أقسام:
(أحدها) ـ ما يتوقف صدق المعنى أو صحته عليه ، ويسمى
دلالة اقتضاء. و (الأول) ـ نحو قوله (صلىاللهعليهوآله) : «رفع عن
أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان. الحديث» (1). فان صدقه يتوقف على تقدير المؤاخذة
ونحوها. و (الثاني) ـ نحو قوله سبحانه : «وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ» (2) فإن صحة المعنى تتوقف على تقدير
__________________
(1) رواه في الوسائل في باب ـ 56 ـ من أبواب جهاد النفس وما
يناسبه من كتاب الجهاد.
(2) سورة يوسف آية 82.
الأهل ، لأن السؤال من القرية لا يصح
عقلا ، وحجية هذا القسم ظاهرة إذا كان الموقوف عليه مقطوعا به.
(الثاني) ـ ما لا يتوقف عليه صدق المعنى ولا صحته لكنه
اقترن بحكم على وجه يفهم منه انه علة لذلك الحكم ، فيلزم حينئذ جريان الحكم
المذكور في غير هذا المورد مما اقترن بتلك العلة ، ويسمى بدلالة التنبيه والإيماء
، نحو قوله (صلىاللهعليهوآله) : «أعتق رقبة»
(1). حين قال له
الأعرابي : واقعت أهلي في شهر رمضان. فإنه يفهم منه ان علة وجوب العتق هي المواقعة
فتجب في كل موضع تحققت ، وكما إذا قيل له (عليهالسلام) : صليت مع
النجاسة فقال : أعد صلاتك. فإنه يفهم منه ان علة الإعادة هي النجاسة ، فتجب
الإعادة حينئذ في كل موضع تحققت النجاسة ، والظاهر حجيته مع علم العلية وعدم
مدخلية خصوص الواقعة في ذلك. وهذا أحد قسمي تنقيح المناط ، واليه أشار المحقق في
المعتبر حيث حكم بحجية تنقيح المناط القطعي ، وهو كذلك ، فان مدار الاستدلال في جل
الأحكام الشرعية على ذلك ، إذ لو لوحظ خصوصية السائل أو الواقعة لم يثبت حكم كلي
في مسألة شرعية إلا نادرا.
(الثالث) ـ ما لم يقصد عرفا من الكلام ولكنه يلزمه ، نحو
قوله تعالى : «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» (2) مع قوله
سبحانه : «وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» (3) فإنه يعلم منه
ان أقل مدة الحمل ستة أشهر ، والمقصود من الآية الأولى إنما هو بيان حق الوالدة
وتعبها ، وفي الثانية بيان مدة الفصال ، ولكن قد لزم منهما بيان أقل الحمل ، وتسمى
دلالة إشارة ، وحجيته ظاهرة مع قطعية اللزوم.
__________________
(1) هذا من حديث رواه في الوسائل عن الفقيه في باب ـ 8 ـ من
أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك من كتاب الصيام.
(2) سورة الأحقاف آية 15.
(3) سورة لقمان آية 14.
واعترض بعض الفضلاء على عد الدلالة الالتزامية بأقسامها
الثلاثة من المنطوق واختار دخولها في المفهوم ، محتجا بان المنطوق ما دل عليه
اللفظ في محل النطق. والمفهوم ما دل عليه لا في محله ، والمطلوب بالدلالة
الالتزامية ليس مدلولا عليه في محل النطق.
والثاني ـ وهو دلالة اللفظ لا في محل النطق ، وتسمى
دلالة المفهوم ـ قسمان : مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة ، لان حكم غير المذكور اما
موافق لحكم المذكور نفيا وإثباتا أو لا ، والأول الأول والثاني الثاني.
فالقسم الأول يسمى بفحوى الخطاب ولحن الخطاب. ومثلوه
بقوله تعالى : «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ...» (1) فإنه يعلم من
حال التأفيف وهو محل النطق حال الضرب وهو غير محل النطق ويعلم اتفاقهما في الحرمة
، وقوله سبحانه : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (2) فإنه يعلم منه
حال ما زاد على الذرة والمجازاة عليه. ومرجعه الى التنبيه بالأدنى اي الأقل مناسبة
على الأعلى اي الأكثر مناسبة ، وهو حجة إذا كان قطعيا ، بمعنى قطعية العلية في
الأصل كالاكرام في منع التأفيف وعدم تضييع الإحسان والإساءة في الجزاء ، وكون
العلة أشد مناسبة في الفرع ، واما إذا كان ظنيا فيدخل في باب القياس المنهي عنه ،
كما يقال : يكره جلوس الصائم المجبوب في الماء لأجل ثبوت الكراهة للمرأة الصائمة.
لعدم علم كون علة الكراهة للمرأة هو جذب الفرج الماء.
والقسم الثاني ويسمى دليل الخطاب ـ ينقسم الى مفهوم
الشرط ، ومفهوم الغاية ، ومفهوم الصفة. ومفهوم الحصر. ومفهوم العدد. ومفهوم الزمان
والمكان.
وقد وقع الخلاف بين الأصوليين من أصحابنا وغيرهم في حجية
المفهوم بجميع
__________________
(1) سورة الإسراء. آية 23.
(2) سورة الزلزال. آية 7 و 8.
أقسامه ، فنفاه من أصحابنا المرتضى (رضياللهعنه) وجماعة من
العامة ، واليه مال المحدث السيد نعمة الله الجزائري والشيخ محمد بن الحسن الحر
العاملي (قدس الله سرهما) وأدلة القوم ـ في كتب الأصول من الطرفين ـ متصادمة ،
والاحتجاجات متعارضة ، الا ان الظاهر تبادر ذلك في كثير من الأمثلة الواردة في
جملة منها. ولعل ذلك بحسب العرف ولم نقف في النصوص على ما يقتضي الحجية في شيء
منها سوى مفهوم الشرط ، فقد ورد في جملة منها ما يدل على ذلك.
فمنها ـ ما ورد عن الصادق (عليهالسلام) في تفسير
قوله تعالى : «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا
يَنْطِقُونَ» (1) قال : «والله ما فعله كبيرهم وما كذب
إبراهيم. فقيل : كيف ذاك؟ قال : انما قال : فعله كبيرهم هذا ان نطقوا ، وان لم
ينطقوا فلم يفعل كبيرهم هذا شيئا».
و (منها) ـ ما رواه الشيخ في التهذيب في باب النفر من
منى (2) عنه (عليهالسلام) في حديث قال
فيه : «فان الله عزوجل يقول : «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ
تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» (3) فلو سكت لم
يبق أحد إلا تعجل لكنه قال ومن تأخر فلا اثم عليه».
و (منها) ـ ما رواه في الكافي والفقيه عن عبيد بن زرارة (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) قوله تعالى (فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (5) قال : ما
أبينها من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه».
__________________
(1) سورة الأنبياء. آية 63.
(2) وفي الوسائل في باب ـ 9 ـ من أبواب العود إلى منى ورمى
الجمار والمبيت والنفر من كتاب الحج.
(3) سورة البقرة ، آية 203.
(4) وفي الوسائل في باب ـ 1 ـ من أبواب من يصح منه الصوم من
كتاب الصيام.
(5) سورة البقرة. آية 185.
و (منها) ـ ما رواه في الفقيه في باب الشقاق. في الصحيح
عن ابن ابي عمير عن هشام بن الحكم : «انه تناظر هو وبعض المخالفين في الحكمين
بصفين : عمرو ابن العاص وأبي موسى الأشعري ، فقال المخالف : ان الحكمين لقبولهما
الحكم كانا مريدين للإصلاح بين الطائفتين. فقال هشام : بل كانا غير مريدين للإصلاح
بين الطائفتين. فقال المخالف : من اين قلت هذا؟ قال هشام : من قول الله تعالى في
الحكمين : «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما» (1) فلما اختلفا
ولم يكن بينهما اتفاق على أمر واحد ولم يوفق الله بينهما. علمنا انهما لم يريدا
الإصلاح.».
ولا ريب ان هشاما من أجلاء ذوي الأفهام ورؤساء علماء
الكلام ، ولهذا ان خصمه سلم اليه ولم يمكنه الرد عليه.
والعجب هنا من المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (طاب
ثراه) في كتاب الفوائد الطوسية ، حيث بالغ في إنكار حجية مفهوم الشرط. وأورد جملة
من الآيات القرآنية دالة على عدم جواز اعتبار مفهوم الشرط. مع ورود ما سردناه من
الاخبار الدالة على ذلك بأوضح دلالة ، وانه قد تقرر ـ عند القائلين بحجيته ـ ان
اعتبار المفهوم إنما يصار إليه إذا لم يكن للتعليق على الشرط فائدة سوى الانتفاء
بانتفائه ، وما أورده من الآيات كلها من ذلك القبيل. هذا.
واما ما ذكروه ـ من الملازمة بالنسبة الى مقدمة الواجب
وكذلك استلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص ـ فلم نقف له في الاخبار على اثر
، مع ان الحكم في ذلك مما تعم به البلوى. وقد حققنا ـ في كتاب الدرر النجفية في
مسألة البراءة الأصلية ، وأشرنا الى ذلك ايضا هنا في المطلب الأول من المقام
الثالث ـ ان التمسك بالبراءة الأصلية فيما تعم به البلوى من الأحكام بعد تتبع
الأدلة وعدم الوقوف على ذلك
__________________
(1) سورة النساء. آية 36.
فيها حجة واضحة ، ولو كان الأمر كما
ذكروا ، لورد عنهم (عليهمالسلام) النهي عن
أضداد الواجبات من حيث هي كذلك بالنسبة إلى مسألة استلزام الأمر بالشيء النهي عن
ضده الخاص. والتالي باطل. على انه لا يخفى ما في القول بذلك من الحرج المنفي
بالآية والرواية كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني (1) وحينئذ فيكون
داخلا في باب «اسكتوا عما سكت الله عنه» (2).
تتميم نفعه
عميم
جمهور الأصوليين من أصحابنا وغيرهم على حجية قياس
الأولوية ومنصوص العلة ، ومثلوا للأول بدلالة تحريم التأفيف في الآية على تحريم
أنواع الأذى الزائدة عليه. وسماه بعضهم بالقياس الجلي ، وأنكره المحقق وجمع من
الأصحاب ، واختلفوا في وجه التعدية في الآية ، فذهب بعض إلى انه من قبيل دلالة
المفهوم وهو مفهوم الموافقة كما تقدم تحقيقه ، وقيل انه منقول عن موضوعه اللغوي
إلى المنع من أنواع الأذى ، لاستفادة ذلك المعنى من اللفظ من غير توقف على استحضار
القياس ، وهو اختيار المحقق.
ويدل على عدم حجيته من الاخبار ما رواه الصدوق في كتاب
الديات (3) عن ابان (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما تقول في
رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟ قال عشرة من الإبل. قلت : قطع اثنين : قال
عشرون
__________________
(1) قال (قدسسره) ـ بعد الكلام في المسألة ـ ما صورته :
لو كان كذلك لم يتحقق السفر إلا لأوحدي الناس ، لمصادمته غالبا لتحصيل العلوم
الواجبة ، وقلما ينفك الإنسان عن شغل الذمة بشيء من الواجبات الفورية. مع انه على
ذلك التقدير موجب لبطلان الصلاة الموسعة في غير آخر وقتها. ولبطلان النوافل اليومية
وغيرها. انتهى (منه رحمهالله).
(2) الذي قد تضمنته خطبة أمير المؤمنين (عليهالسلام) المروية في الفقيه في باب (نوادر
الحدود) المتقدمة في صحيفة (50) وغيرها من الروايات.
(3) في باب (الجراحات والقتل بين الرجال والنساء) وفي الوسائل
في باب ـ 45 ـ من أبواب ديات الأعضاء من كتاب الديات.
(4) ابن تغلب.
قلت : قطع ثلاثا؟ قال : ثلاثون. قلت :
قطع أربعا؟ قال : عشرون. قلت : سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع
أربعا فيكون عليه عشرون؟ ان هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنتبرأ ممن قاله ، ونقول
: الذي قاله شيطان. فقال. مهلا يا ان هذا حكم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان المرأة
تعاقل الرجل الى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان إنك
أخذتني بالقياس ، والسنة إذا قيست محق الدين» ورواه في كتاب المحاسن ، وزاد ـ بعد
قوله : «إنك أخذتني بالقياس» ـ «ان السنة لا تقاس ، ألا ترى انها تؤمر بقضاء صومها
ولا تؤمر بقضاء صلاتها». ولا يخفى عليك ما في الخبر المذكور من الصراحة في
المطلوب.
و (منها) ـ ما ورد من قول الصادق (عليهالسلام) لأبي حنيفة :
«اتق الله ولا تقس الدين برأيك ، فإن أول من قاس إبليس ، الى أن قال : ويحك أيهما
أعظم ، قتل النفس أو الزنا؟ قال : قتل النفس. قال : فان الله عزوجل قد قبل في قتل
النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة. ثم قال : أيهما أعظم ، الصلاة أو الصوم؟
قال : الصلاة. قال : فما بال الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة ، فكيف يقوم لك
القياس؟
فاتق الله ولا تقس».
و (منها) ـ قوله (عليهالسلام) لأبي حنيفة
في عدة اخبار : «البول أقذر أم المني؟ فقال : البول أقذر. فقال : يجب على قياسك ان
يجب الغسل من البول دون المني ، وقد أوجب الله الغسل من المني دون البول (1).
__________________
(1) وفي بعض الاخبار ايضا : لما قال له السائل : «الحائض تقضي
الصلاة؟ قال : لا. قال : تقضى الصوم؟ قال : نعم. قال : من اين جاء هذا؟ قال أول من
قاس إبليس. ثم قال : والصائم يستنقع في الماء؟ قال نعم. قال : يبل الثوب على جسده؟
قال : لا ، قال : من اين جاء هذا؟ قال : ذا من ذاك». ومن ذلك صحيحة عبد الله بن
سنان ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يسافر في شهر رمضان ومعه
جارية له فله ان يصيب منها بالنهار؟ فقال : سبحان الله اما يعرف حرمة شهر رمضان ،
ان له في الليل
و (منها) ـ ما رواه في تفسير العسكري (عليهالسلام) (1) عن أمير المؤمنين
(صلوات الله عليه) : قال : قال : «يا معشر شيعتنا والمنتحلين مودتنا إياكم وأصحاب
الرأي ، الى أن قال : اما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين اولى بالمسح من
ظاهرهما». الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع (2) وقد دلت على
كون ذلك قياسا ولا سيما الخبر الأول منها ، مع انه قد استفاضت الأخبار عنهم (عليهمالسلام) بالمنع عن
العمل بالقياس بقول مطلق من غير تخصيص بفرد بل صار ذلك من ضروريات مذهب أهل البيت (عليهمالسلام).
فما يظهر ـ من بعض مشايخنا المتأخرين (3) من كون ذلك
ليس من باب القياس ، مستندا الى ان ما جعل فرعا على الأصل في الحكم أولى بالحكم من
الأصل فكيف يجعل فرعا عليه؟ ـ اجتهاد في مقابلة النصوص أو غفلة عن ملاحظة ما هو في
تلك الاخبار مسطور ومنصوص. على انه يمكن الجواب عما ذكره من عدم الفرعية بأن الحكم
إنما ثبت أولا وبالذات بمنطوق الكلام للتأفيف مثلا ، لمنافاته لوجوب الإكرام ،
والضرب إنما ثبت له لمشاركته للأول في العلة المذكورة وان كانت العلة أشد بالنسبة
إليه
__________________
سبحا طويلا. قلت : أليس له ان يأكل ويشرب ويقصر فقال : ان الله
تعالى قد رخص للمسافر في الإفطار والتقصير رحمة وتخفيفا لموضع التعب والنصب ووعث
السفر ، ولم يرخص له في مجامعة النساء في السفر بالنهار في شهر رمضان ، وأوجب عليه
قضاء الصيام ولم يوجب عليه قضاء تمام الصلاة إذا آب من سفره ، ثم قال : والسنة لا
تقاس. الحديث». (منه رحمهالله).
(1) في تفسير قوله تعالى : «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضّالِّينَ».
(2) روى اخبار المنع عن العمل بالقياس في الوسائل في باب ـ 6 ـ
من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
(3) هو شيخنا بهاء الملة والحق والدين في كتاب الزبدة ، حيث
أشار الى ذلك في المتن وبين وجهه في الحاشية بما نقلناه عنه رحمهالله (منه قدسسره).
وأشديتها بالنسبة إليه لا تخرجه عن
الفرعية ، إذ اعتبار الأصالة والفرعية إنما هو بالنظر الى ما دل عليه الكلام أولا
وبالذات وثانيا وبالعرض.
وربما استند بعض الفضلاء الى الاستدلال على الحجية بقول
أمير المؤمنين (عليهالسلام) في خطابه للأنصار
: «أتوجبون عليه الحد والرجم ، ولا توجبون عليه صاعا من ماء؟» (1).
وسيأتي الجواب عن ذلك في باب غسل الجنابة في مسألة
الجماع في دبر المرأة.
وأما منصوص العلة فظاهر كلام المرتضى (رضياللهعنه) إنكاره.
والعلامة وجمع من الأصحاب على القول به.
احتج المرتضى (رضياللهعنه) بما ملخصه :
ان علل الشرع انما تنبئ عن الدواعي إلى الفعل أو عن وجه المصلحة فيه ، وقد يشترك
الشيئان في صفة واحدة ويكون في أحدهما داعية في فعله دون الآخر مع ثبوتها فيه ،
وقد يكون مثل المصلحة مفسدة ، وقد يدعو الشيء إلى غيره في حال دون حال وعلى وجه دون
وجه. الى ان قال : «فإذا صحت هذه الجمل لم يكن في النص على العلة ما يوجب التخطي
والقياس وجرى النص على العلة مجرى النص على الحكم في قصره على موضعه».
وحكى العلامة (قدسسره) عن المانعين
الاحتجاج بان قول الشارع : حرمت الخمر لكونها مسكرة. يحتمل أن تكون العلة هي
الإسكار ، وان تكون إسكار الخمر بحيث يكون قيد الإضافة إلى الخمر معتبرا في العلة.
وإذا احتمل الأمران لم يجز القياس. ثم أجاب بالمنع من احتمال اعتبار القيد في
العلية ، ثم أطال في البحث الى ان قال : «والتحقيق ان النزاع هنا لفظي. لأن المانع
إنما يمنع من التعدية لأن قوله : حرمت الخمر لكونه مسكرا. محتمل لان يكون في تقدير
التعليل بالإسكار المختص بالخمر ، فلا
__________________
(1) هذا من صحيح زرارة المروي في الوسائل في باب ـ 6 ـ من
أبواب الجنابة من كتاب الطهارة.
يعم ، وان يكون في تقدير التعليل
بمطلق الإسكار فيعم ، والمثبت يسلم ان التعليل بالإسكار المختص بالخمر غير عام وان
التعليل بالمطلق يعم. فظهر انهم متفقون على ذلك. نعم النزاع وقع في أن قوله ـ :
حرمت الخمر لكونه مسكرا ـ هل هو بمنزلة علة التحريم للإسكار أم لا؟ فيجب ان يجعل
البحث في هذا لا في ان النص على العلة هل يقتضي ثبوت الحكم في جميع مواردها ، فان
ذلك متفق عليه» انتهى (وفيه) ان الأمر كما ذكر لو كان حجة الخصم ما ذكره خاصة ،
وقد عرفت من كلام السيد (رضياللهعنه) التعليل بغير
ذلك مما لا ينطبق عليه هذا التفصيل الذي ذكره.
ونقل عن المحقق (رحمهالله) التفصيل في
المسألة بأنه إذا نص الشارع على العلة وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما
عدا تلك العلة في ثبوت الحكم ، جاز تعدية الحكم وكان ذلك برهانا. واليه مال ايضا
المحقق الشيخ حسن في المعالم ، وأجاب فيه عن حجة المرتضى (رضياللهعنه) بان المتبادر
من العلة ـ حيث يشهد الحال بانسلاخ الخصوصية فيها ـ تعلق الحكم بها لا بيان الداعي
ووجه المصلحة. وما ذكره (قدسسره) جيد بالنظر
الى مفهوم العلة ، إلا ان المتتبع ـ لعلل الشرع الواردة في الاخبار ـ لا يخفى عليه
ان جلها إنما هو من قبيل ما ذكره المرتضى (رضياللهعنه).
وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين : «والحق أن يقال : إذا
حصل القطع بان الأمر الفلاني علة لحكم خاص من غير مدخلية شيء آخر في العلية وعلم
وجود تلك العلة في محل آخر لا بالظن بل بالعلم ، فإنه حينئذ يلزم القول بذلك الحكم
في هذا المحل الآخر ، لأن الأصل حينئذ يصير من قبيل النص على كل ما فيه تلك العلة
، فيخرج في الحقيقة عن القياس. وهذا مختار المحقق لكن هذا في الحقيقة قول بنفي
حجية القياس المنصوص العلة ، إذ حصول هذين القطعين مما يكاد ينخرط في سلك المحالات
إلا في تنقيح المناط» انتهى. وهو جيد.