ج14 - حج النذر وشبهه
المقصد الثاني
وفيه مسائل :
الأولى ـ لا خلاف في انه يشترط في انعقاد النذر وشبهه ـ من
اليمين والعهد ـ التكليف ، فلا يصح من الصبي وان كان مراهقا ، ولا المجنون المطبق
أو في حال الجنون لو كان غير مطبق ، لحديث رفع القلم (1) ونحو ذلك
السكران والمغمى عليه والساهي والغافل.
ولا خلاف أيضا في اشتراط الحرية أو اذن المولى ، فلا
ينعقد نذر العبد بدون الاذن اتفاقا.
قال في المدارك : ويدل عليه مضافا الى عموم ما دل على
الحجر عليه صحيحة منصور بن حازم عن ابي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا يمين
لولد مع والده ، ولا لمملوك مع مولاه ، ولا لمرأة مع زوجها». وغير ذلك من الاخبار.
أقول : ومن ما ورد بهذا المضمون ايضا ما رواه ثقة
الإسلام في الكافي عن عبد الله بن ميمون القداح عن ابي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «لا
يمين للولد مع والده ، ولا للمرأة مع زوجها ، ولا للمملوك مع سيده».
__________________
(1) الوسائل الباب 4 من مقدمة
العبادات ، وسنن البيهقي ج 8 ص 264.
(2 و 3) الوسائل الباب 10 من كتاب
الايمان.
وما رواه في الفقيه (1) عن منصور بن حازم في الصحيح عن ابي
جعفر عليهالسلام قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا رضاع بعد
فطام. ولا وصال في صيام. ولا يتم بعد احتلام. ولا صمت يوما الى الليل. ولا تعرب
بعد الهجرة. ولا هجرة بعد الفتح. ولا طلاق قبل نكاح. ولا عتق قبل ملك. ولا يمين
لولد مع والده ، ولا لمملوك مع مولاه ، ولا للمرأة مع زوجها. ولا نذر في معصية.
ولا يمين في قطيعة».
وقال في كتاب الفقه الرضوي (2) : واعلم انه
لا يمين في قطيعة رحم. ولا نذكر في معصية الله. ولا يمين لولد مع الوالدين ، ولا
للمرأة مع زوجها ، ولا للمملوك مع مولاه.
أقول : ومورد هذه الاخبار كلها إنما هو اليمين ، وظاهر
الأصحاب ـ كما عرفت من كلام المدارك ـ الاستدلال بهذه الروايات على حكم النذر
ايضا. وفيه ما لا يخفى.
نعم قد روى الحميري في كتاب قرب الاسناد عن الحسن بن
ظريف عن الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (3) : «ان عليا عليهالسلام كان يقول :
ليس على المملوك نذر إلا ان يأذن له سيده». وبذلك يتم الاستدلال على الحكم
المذكور.
وظاهر الأصحاب أيضا الاتفاق على انه لا يصح نذر المرأة
إلا بإذن بعلها.
__________________
(1) الوسائل الباب 5 من ما يحرم
بالرضاع من كتاب النكاح ، والباب 11 من كتاب الايمان.
(2) ص 37.
(3) الوسائل الباب 15 من كتاب النذر
والعهد.
قال في المدارك بعد ان نقل نحو ذلك : يمكن المناقشة في
توقف نذر الزوجة على اذن الزوج ، لان الروايات إنما تضمنت توقف اليمين على ذلك
والنذر خلاف اليمين.
أقول : فيه ان هذا يرد عليه في نذر العبد أيضا ، فإنه لم
يعتمد في ذلك إلا على حديث اليمين كما عرفت ، والنذر غير اليمين.
وتحقيق البحث في المقام يقتضي بسطا من الكلام تنكشف به
غياهب الإبهام وتزول به الشكوك والأوهام.
فنقول : المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) اشتراط
اذن الزوج والمولى في انعقاد نذر الزوجة والمملوك ، وألحق بهما العلامة في بعض
كتبه والشهيد في الدروس الولد وانه يتوقف نذره على إذن الأب أيضا.
وقد صرح جملة من متأخري المتأخرين بأنهم لم يقفوا لهم
على نص يدل على ذلك. وربما علل ذلك بوجود النص في اليمين وانسحاب الحكم في النذر
لمشاركته اليمين في بعض الأحكام. وهو ضعيف لا يلتفت إليه ، فإنه وان كان قد ورد في
اليمين من النصوص المتقدمة انه لا يمين لأحد من الثلاثة المذكورين إلا بإذن الوالد
والزوج والمولى ، إلا ان إلحاق النذر به قياس لا يجري على مذهبنا.
ثم انه لا يخفى ان هذا الإيراد الذي أوردوه على من قال
بتوقف نذر الولد على اذن والده وارد عليهم أيضا في توقف نذر الزوجة والمملوك بدون
اذن الزوج والسيد ، لانه ليس عندهم إلا أحاديث اليمين المتقدمة ولم يوردوا في
المقام غيرها ، والنذر غير اليمين ، فان صح الاستناد الى هذه الاخبار ففي المواضع
الثلاثة ، فلا معنى لاعتراضهم هنا وإيرادهم بعدم الوقوف على نص بهذا القول ، وإلا
فلا وجه لحكمهم بذلك في الفردين المتقدمين.
واما ما نقل عن الدروس ـ من الاستدلال على ما قدمنا نقله
عنه بإطلاق اليمين على النذر في الخبر المروي عن الكاظم عليهالسلام (1) : «لما سئل عن
جارية حلف عليها سيدها بيمين ان لا يبيعها فقال : لله على ان لا أبيعها. فقال عليهالسلام : ف لله بنذرك».
فإن إطلاق اليمين على النذر وان كان في كلام الراوي إلا ان تقرير الامام عليهالسلام على ذلك حجة ،
ومتى ثبت ذلك جرى الحكم المذكور في اليمين في باب النذر ـ
فهو ضعيف سخيف ، أما أولا ـ فلما ذكره بعض الأجلاء من ان
الظاهر من قوله : «ف لله بنذرك» دون ان يقول «بيمينك» إنما هو الرد عليه في تسمية
النذر يمينا لا التقرير. ولو سلم فالتقرير على هذا الإطلاق لا يوجب كونه حقيقة فيه
بل هما حقيقتان متمايزتان ، لنص أهل اللغة على ان اليمين : القسم ، والنذر وعد
بشرط. وحينئذ لا يتم ما ذكروه.
أقول : ومن ما يدل على إطلاق اليمين على النذر ما في
موثقة سماعة (2) من قوله عليهالسلام : «انما
اليمين الواجبة التي ينبغي لصاحبها ان يفي بها ما جعل لله عليه في الشكر ان هو
عافاه من مرضه أو عافاه الله من أمر يخافه أو رد عليه ماله أورده من سفر أو رزقه
رزقا ، فقال : لله علي كذا وكذا شكرا. فهذا الواجب على صاحبه ينبغي له ان يفي به».
وكان الاولى لشيخنا المشار اليه الاستدلال بهذا الخبر في إطلاق اليمين على النذر.
إلا انه بمجرد هذا الإطلاق ـ مع معلومية كونهما حقيقتين
متمايزتين
__________________
(1) وهو خبر الحسن بن على الوارد في
الوسائل الباب 17 من كتاب النذر والعهد. وسيأتي منه (قدسسره) ان اللفظ فيه
: «ف لله بقولك له».
(2) الوسائل الباب 17 من كتاب النذر
والعهد.
لغة وشرعا كما عرفت ـ لا يلزم السحاب
حكم أحدهما في الآخر.
وما أحسن ما قال شيخنا البهائي (قدسسره) في كتاب
الأربعين ، حيث قال : وأمثال هذه الدلائل الضعيفة لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.
واما ثانيا ـ فإن الذي وقفت عليه في التهذيب في موضعين
أو ثلاثة (1) ـ وهو الذي
نقله عنه المحدث الكاشاني في الوافي من متن الخبر المذكور ـ انما هو بهذه العبارة
: «ف لله بقولك له» وكذلك نقله شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بهذه العبارة ، فما
ذكره في الدروس ـ وان تبعه عليه شيخنا البهائي في كتاب الأربعين ـ لا اعرف له سندا
، إلا ان يكون سهوا من شيخنا المشار اليه ، أو نقل الخبر من موضع آخر.
نعم قد وقفت في حكم نذر المرأة على خبر لم يتعرض له
الأصحاب في هذه المسألة ، وهو ما رواه الصدوق في الفقيه (2) في الصحيح عن
عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله عليهالسلام قال : «ليس
للمرأة مع زوجها أمر في عتق ولا صدقة ولا تدبير ولا هبة ولا نذر في مالها إلا بإذن
زوجها ، إلا في حج أو زكاة أو بر والديها أو صلة قرابتها».
وربما تطرق الطعن الى هذا الخبر بان ما تضمنه ـ من توقف
تصرف المرأة في مالها وصرفه في هذه الوجوه المذكورة في الخبر على اذن الزوج ـ لا
قائل به من الأصحاب ، مع خروجه عن مقتضى الأدلة المتعلقة بهذه الأبواب.
اللهم إلا ان يقال : ان ترك الخبر لمعارض أقوى لا يستلزم
ترك ما لا معارض له ، كما صرحوا به في غير المقام وجعلوا ذلك من قبيل العام
المخصص. وحينئذ
__________________
(1) ج 8 ص 301 و 310.
(2) الوسائل الباب 15 من كتاب النذر
والعهد.
فيمكن العمل بالرواية بالنسبة إلى
المرأة في صورة نذرها بمالها وقوفا على مورد الخبر ، ويبقى ما عداه من نذر غيرها
وغير العبد ـ كما تقدم ـ أو نذرها بغير مالها باقيا على الإطلاق وصحة انعقاد النذر
من غير توقف على اذن ، عملا بإطلاق الأدلة الواردة في النذور (1).
وبما ذكرناه من التحقيق يعلم الدليل على الحكمين
المتقدمين وصحة ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم).
وتلحق بهذه المسألة فوائد الأولى ـ هل المراد من قولهم (عليهمالسلام) في الاخبار
المتقدمة : «لا يمين لولد مع والده. الى آخره» هو بطلان اليمين بدون الإذن ، لنفى
اليمين على أحد الوجوه الثلاثة المحمول على نفي الصحة ، لأنه أقرب المجازات الى
نفي الماهية ، أو ان الاذن ليس شرطا في الصحة بل النهي مانع منها؟ قولان ، المشهور
الثاني ، وبالأول صرح شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) والظاهر انه
الأقرب.
وتظهر فائدة القولين في ما لو زالت ولاية الثلاثة قبل
الحل ، كما إذا وقع فراق الزوج أو موت الأب أو عتق العبد ، فعلى القول المشهور
تنعقد اليمين واما على ما تقدم عن شيخنا المذكور فتبطل.
الثانية ـ حيث ثبت بما ذكرناه وجوب الحج على العبد
والمرأة بالنذر مع اذن المولى والزوج ، فلو أتيا به كان صحيحا ، ولو نهياهما عنه
لم يجب إطاعتهما لوجوب تقديم حق الله (عزوجل) على حقهما.
ونقل عن العلامة في المنتهى انه يجب على المولى اعانة
المملوك على أداء الحج بالحمولة إن احتاج إليها ، لأنه السبب في شغل ذمته ، ورد
بان سببيته في شغل الذمة لا يقتضي ذلك.
__________________
(1) كقوله تعالى في سورة الحج ، الآية
29 (وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ).
قال في المدارك بعد نقل ذلك : نعم لو قيل بوجوب تمكينه
من تحصيل ما يتوقف عليه الحج لتوقف الواجب عليه كان وجها قويا. انتهى.
أقول : فيه ان هذا الدليل الذي ذكره ان صلح لتأسيس حكم
شرعي عليه وجب القول به وان لم يقل به أحد ، والحكم الشرعي تابع للدليل لا للقائل.
على انهم بناء على أصولهم وقواعدهم إنما منعوا من احداث القول في المسألة في
مقابلة الإجماع ، ولم يدعه أحد منهم في المقام. وان لم يصلح ـ وهو الظاهر ـ فلا
يجب تمكينه من تحصيل ما يتوقف عليه الحج ، إذ لا يخفى ان المتبادر من وجوب مقدمة
الواجب انما هو بالنسبة الى من خوطب بذلك الواجب ـ مثلا : متى وجب عليه الحج بحصول
الاستطاعة وجب عليه السعي في تحصيل مقدماته من السفر وأسباب السفر ونحو ذلك ، ومن
وجبت عليه الصلاة وجب عليه السعي في ما يتوقف عليها صحتها من الشرائط ونحو ذلك ـ لا
بالنسبة إلى شخص آخر كما في ما نحن فيه ، فان الحج هنا انما وجب على العبد بالنذر
والتمكين انما هو من السيد ، فكيف يجب عليه بناء على وجوب مقدمة الواجب؟ وبالجملة
فإن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذي المقدمة ، فكل من خوطب بالواجب صريحا خوطب
بمقدماته ضمنا ، كما ذكرنا من الأمثلة.
والتحقيق انه ان أمكن العبد الإتيان بما نذره وجب عليه
الإتيان به وإلا توقع المكنة ، واما خطاب السيد والإيجاب عليه فلا وجه له ولا دليل
عليه
وبالجملة فلا اعرف لكلامه (قدسسره) هنا وجه
استقامة.
الثالثة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) من
غير خلاف يعرف بأنه لا يشترط في الحج بالنذر وأخويه شرائط حجة الإسلام بل يكفي في
وجوبه التمكن منه من غير مشقة شديدة. وهو كذلك ، لأن الاستطاعة التي
هي المدار في وجوب حج الإسلام إنما
وقعت في الآية (1) شرطا لحج
الإسلام خاصة فلا يتقيد بها غيره ، ويبقى الحج على حكم غيره من النذور التي المدار
في وجوب الإتيان بها على القدرة والإمكان.
المسألة الثانية ـ إذا نذر الحج فاما ان ينذره مطلقا غير
مقيد بسنة أو مقيدا فان نذره مطلقا فالمقطوع به في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم)
انه يجوز له التأخير الى ان يتضيق وقته بظن الوفاة وان استحب له المبادرة والتعجيل
، فان مضى زمان يمكنه الإتيان به فيه ولم يفعله حتى مات وجب ان يقضى عنه ، لانه قد
وجب عليه بالنذر واستقر بمضي زمان التمكن. اما لو منعه مانع عن الفورية فإنه يصبر
حتى يزول المانع ، فان مات قبل زوال المانع لم يجب القضاء عنه ، لفوات شرط الوجوب
وهو القدرة والتمكن. وان نذره مقيدا بسنة مخصوصة فأخل مع القدرة وجب القضاء
والكفارة في ما قطع به الأصحاب أيضا وان منعه مانع من مرض أو عدو لم يجب القضاء ،
لعدم الاستقرار في الذمة ، وتمسكا بأصالة العدم حتى يقوم دليل الوجوب.
قيل : ولا يخفى ان طروء المانع من فعل المنذور في وقته
لا يقتضي بطلان النذر ، لوقوعه صحيحا ابتداء وان سقط الواجب بالعجز عنه. وهذا
بخلاف نذر غير المقدور ابتداء كالطيران ونحوه ، فان النذر يقع فاسدا من أصله كما
هو واضح.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الخلاف هنا قد وقع في القضاء في
الصورتين المذكورتين هل يجب أم لا؟ المقطوع به في كلام الأصحاب الأول وظاهر السيد
السند في المدارك الثاني.
__________________
(1) وهو قوله تعالى في سورة آل عمران
، الآية 97 (وَلِلّهِ عَلَى
النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).
ثم انه على تقدير الوجوب هل هو من الأصل أو من الثلث؟
المشهور الأول وقيل بالثاني.
قال السيد السند في المدارك ـ بعد قول المصنف (قدسسره) : ولو تمكن
من أدائه ثم مات قضى عنه من أصل تركته ـ ما هذا لفظه : واما وجوب قضائه من أصل
التركة إذا مات بعد التمكن من الحج فمقطوع به في كلام أكثر الأصحاب ، واستدلوا
عليه بأنه واجب مالي ثابت في الذمة فيجب قضاؤه من أصل ماله كحج الإسلام. وهو
استدلال ضعيف (أما أولا) ـ فلان النذر انما اقتضى وجوب الأداء ، والقضاء يحتاج إلى
أمر جديد كما في حج الإسلام ، وبدونه يكون منفيا بالأصل السالم من المعارض. (واما
ثانيا) فلمنع كون الحج واجبا ماليا ، لأنه عبارة عن المناسك المخصوصة وليس بذل
المال داخلا في ماهيته ولا من ضرورياته. وتوقفه عليه في بعض الصور كتوقف الصلاة
عليه في بعض الوجوه ، كما إذ احتاج الى شراء الماء أو استئجار المكان أو الساتر
ونحو ذلك مع القطع بعدم وجوب قضائها من التركة. وذهب جمع من الأصحاب إلى وجوب قضاء
الحج المنذور من الثلث ، ومستنده غير واضح ايضا. وبالجملة فالنذر إنما تعلق بفعل
الحج مباشرة وإيجاب قضائه من الأصل أو الثلث يتوقف على الدليل. انتهى كلامه زيد
مقامه.
أقول : اما ما ذكره (قدسسره) من ضعف الوجه
الأول فيمكن المناقشة فيه بان قوله ـ : ان النذر إنما اقتضى وجوب الأداء ، والقضاء
يحتاج إلى أمر جديد ـ مردود بأنه لا ريب ان النذر قد اقتضى شغل الذمة اليقيني
بالمنذور واستقر وجوبه بعد مضي زمان التمكن منه ، والظاهر بقاء الاشتغال والتعلق
بالذمة حتى يحصل الإتيان بالفعل من المكلف أو نائبه ، وتخرج الأخبار الواردة في حج
الإسلام شاهدا على ذلك ، فإنه بعد استقرار حج الإسلام في الذمة
واشتغالها به لا يزول ذلك إلا
بالإتيان به في الحياة أو بعد الموت.
وقولهم ـ : ان القضاء يحتاج إلى أمر جديد ـ الظاهر انه
ليس على إطلاقه بل ذلك مخصوص بالواجبات الموقتة ، فان توجه الأمر بالإتيان بالفعل
في ذلك الوقت لا يتناول ما بعده من ما خرج عنه الذي هو القضاء ، بل لا بد في إيجاب
القضاء في الصورة المذكورة من أمر على حده ، وما نحن فيه ليس كذلك ، فان مقتضى
النذر اشتغال الذمة بالمنذور مطلقا ، وليس في الاخبار ما يدل على اختصاص الخطاب
حال الحياة ليكون القضاء بعد الموت يحتاج إلى أمر جديد ، وإنما إطلاق الاستقرار
واشتغال الذمة اقتضى بقاء ذلك الى ان تحصل البراءة بالإتيان بالفعل.
واما ما ذكره أخيرا ـ من ان النذر انما تعلق بفعل الحج
مباشرة ـ فيمكن الجواب عنه أيضا بأن النذر اقتضى هنا شيئين : أحدهما ـ اشتغال
الذمة بذلك الفعل المنذور كما قدمنا ، والآخر ـ مباشرة الناذر للإتيان بالفعل ،
والثاني قد امتنع بالموت فيبقى الأول على حاله حتى يحصل موجب البراءة منه. وهذا
الحكم عام في جميع افراد النذور ، ولا ريب انه الأوفق بالاحتياط في الدين.
ومن ما يؤيد ما قلناه ما سيأتي (1) ـ ان شاء الله
تعالى ـ من نقل جملة من الروايات الصحيحة في وجوب قضاء حجة النذر في ما إذا نذر ان
يحج رجلا (2) وهو كما يحتمل
ان يكون المراد يعني : يعطيه ما لا يحج به ، كما ذكره السيد في ما سيأتي ان شاء
الله تعالى ـ في مسألة من مات وعليه حجة الإسلام وحجة منذورة ـ من جوابه عن صحيحة
ضريس ، كذلك يحتمل ان يكون المراد انما هو ان يمضي بذلك الرجل حتى يوصله المناسك
ويأتي بجميع أفعال الحج وهو قائم بمؤنته ، بل هذا هو الظاهر من اللفظ ، إذ
المتبادر من مادة الأفعال هو المباشرة لا السببية ،
__________________
(1) ص 209.
(2) الوسائل الباب 29 من وجوب الحج
وشرائطه.
فإذا قلت : «أخرجته أو أدخلته» يعني :
توليت إدخاله وإخراجه وباشرت ذلك لا بمعنى : أمرت بذلك من يفعل به. وحينئذ فتكون
هذه الأخبار ـ باعتبار الاحتمال الذي استظهرناه ـ دالة على وجوب قضاء حجة النذر في
الجملة.
بقي الكلام في ان موردها القضاء في من نذر ان يحج رجلا ،
وهو خارج عن ما نحن فيه من نذر الرجل ان يحج بنفسه. ويمكن ان يقال : انها لما دلت
على وجوب قضاء الحج المنذور فقد ثبت بها ان نذر الحج يجب قضاؤه بعد الموت. وبه
يظهر بطلان قول المانع : ان النذر انما اقتضى وجوب الأداء ، والقضاء يحتاج إلى أمر
جديد. وكون متعلق ذلك النذر حجه بنفسه أو ان يحج غيره لا مدخل له في تغير الحكم ،
فان الموجب للقضاء هو النذر وتمكنه من الفعل وتفريطه حتى مات. والظاهر انه لهذا
الوجه استدل الشيخ بصحيحة ضريس في ما يأتي ان شاء الله (تعالى) (1) على مسألة من
نذر الحج بنفسه فمات ، مع ان موردها من نذر ان يحج غيره.
وما ذكرناه من التوجيه لا يخلو من قوة ، وبه تكون
الأخبار الآتية قابلة للاستدلال على محل النزاع. وسيأتي تحقيق الكلام زيادة على ما
ذكرنا هنا ان شاء الله تعالى.
واما ما ذكره (قدسسره) من الوجه
الثاني ـ وهو منع كون الحج وأجاب ماليا ـ فتحقيق الكلام فيه ان يقال : انه لا ريب
ان ما ذكروه ـ من الفرق بين الواجب المالي والواجب البدني من إخراج الأول من الأصل
والثاني مع الوصية به من الثلث ـ فلم أقف فيه على مستند من النصوص وان كان مشهورا
في كلامهم ومتداولا على رؤوس أقلامهم.
قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في هذه المسألة :
وتعتبر الأجرة من
__________________
(1) في المسألة الخامسة من مسائل
المقام.
أصل التركة كحج الإسلام ، لأنه واجب
مالي وان كان مشوبا بالبدني.
وقال أيضا في كتاب الوصايا ـ بعد قول المصنف : انه لو
اوصى بواجب وغيره بدئ بالواجب من الأصل ـ ما صورته : إنما يخرج الواجب من أصل
المال إذا كان واجبا ماليا حتى يكون متعلقا بالمال حال الحياة ، سواء كان مالي
محضا كالزكاة والخمس والكفارات ونذر المال أم ماليا مشوبا بالبدن كالحج ، فان جانب
المالية متغلب من حيث تعلقه به في الجملة ، اما لو كان الواجب بدنيا محضا كالصلاة
والصوم فإنه يخرج من الثلث مطلقا ، لانه لا يجب إخراجه عن الميت إلا إذا اوصى به ،
فيكون حكمه حكم التبرعات الخارجة من الثلث مع الوصية بها وإلا فلا. انتهى.
وعلى هذه المقالة جرت كلمتهم وبنيت قاعدتهم.
والذي يستفاد من النصوص بالنسبة إلى الواجب المالي المحض
هو ما ذكروه من تعلق بالأصل ، كما في رواية عباد بن صهيب عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) : «في رجل فرط
في إخراج زكاته في حياته فلما حضرته الوفاة حسب جميع ما كان فرط فيه من ما لزمه من
الزكاة ثم اوصى به ان يخرج ذلك فيدفع الى من تجب له؟ قال : فقال : جائز يخرج ذلك
من جميع المال ، انما هو بمنزلة الدين لو كان عليه ليس للورثة شيء حتى يؤدى ما
اوصى به من الزكاة. قيل له : فان كان اوصى بحجة الإسلام؟ قال : جائز يحج عنه من
جميع المال». فان ظاهر الخبر المذكور بل صريحه ان جملة الديون المتعلقة بالذمة من
الأموال على اختلاف أسبابها تخرج من الأصل.
واما بالنسبة إلى المالئ المشوب بالبدن كالحج فإشكال ،
إلا ان ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب انه كالسابق. والمفهوم من الاخبار الآتية التفرقة
بين الحج
__________________
(1) الوسائل الباب 21 من المستحقين
للزكاة ، والباب 40 من الوصايا.
الإسلام فمن الأصل وحج النذر فمن
الثلث.
واما بالنسبة إلى الواجب البدني محضا مثل الصوم والصلاة
فإن المستفاد من النصوص انها بعد الموت تتعلق بالولي ، كما في صحيحة حفص بن
البختري (1) : «في الرجل
يموت وعليه صلاة أو صيام؟ قال : يقضي عنه اولى الناس بميراثه». وفي مرسلة حماد (2) : «اولى الناس
به».
وفي مرسلة ابن ابي عمير عن الصادق عليهالسلام (3) : «في الرجل
يموت وعليه صلاة أو صيام؟ قال : يقضيه اولى الناس به».
واما انه لو لم يكن له ولي واوصى الميت بقضائه عنه ، فهل
تكون مخرجة من الثلث ـ كما عليه الأصحاب بناء على القاعدة المتقدمة ـ أو من الأصل؟
لم أقف فيه على نص يدل على شيء من الأمرين ، وشيخنا الشهيد الثاني في ما تقدم من
كلامه انما علله بما عرفت.
ويمكن ان يستدل على ما ذكره الأصحاب من ان مخرج قضاء حجة
النذر من الأصل بما ذكرناه ، وحاصله ان الحج ـ إسلاميا أو نذرا ـ واجب مالي وان
كان مشوبا بالبدن ، وكل ما كان واجبا ماليا فمخرجه من الأصل ، فيكون مخرج الحج من
الأصل. اما الصغرى فلان الحج وان كان عبارة عن المناسك المخصوصة لكن الإتيان به
متوقف على المال وان تفاوت قلة وكثرة باعتبار مراتب البعد والقرب ، ولهذا انه متى
مات بعد استقراره انتقل الحكم الى ماله إجماعا نصا وفتوى ، فوجب القضاء عنه من
ماله واما الكبرى فللنصوص المتقدمة الدالة على ان كل ما كان دينا فمخرجه من الأصل (4) وهي مسلمة عند
الخصم.
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 23 من أحكام
شهر رمضان.
(3) الوسائل الباب 12 من قضاء الصلوات
عن كتاب غياث سلطان الورى.
(4) ص 207 وأورد ما يدل على ذلك في
الوسائل في الباب 28 من الوصايا.
واما ما ذكره من المعارضة بالصلاة فهي مناقشة واهية ،
فإن ما عدده من الصور في توقف الصلاة على المال أمور نادرة وقد لا تقع بالكلية وان
كان فرضها ممكنا ، بخلاف الحج فان توقفه على المال ولا سيما من الآفاقي أمر ضروري
اتفاقي ، والأحكام الشرعية إنما تبنى على الافراد المتكثرة الشائعة المتكررة ،
فوصف الحج بكونه واجبا ماليا باعتبار توقفه على المال صحيح لا ريب فيه ، والصلاة
لا توصف بذلك باعتبار هذه الفروض النادرة وانما توصف بكونها واجبا بدنيا كما هو
الشائع المتكرر في إيقاعها ، وتوقفها نادرا على ذلك لا يقدح في كونها واجبا بدنيا.
وبالجملة فإنه لما كان الواجب في حال الحياة ـ على
المكلف بالحج من أهل الآفاق والبلدان الذين هم الفرد الغالب المتكثر بل وغيرهم من
حاضري مكة ـ أمرين : صرف المال والمباشرة بالبدن ، وبعد الموت تعذرت المباشرة بقي
الوجوب المتعلق بالمال على حاله. والمكلف بالصلاة لما كان الواجب عليه فيها انما
هو المباشرة بالبدن ، والمال لا مدخل له فيها في حال الحياة ، فبعد الموت سقط
الخطاب عن ماله وتوقف وجوب الإتيان بها على الوصية. إلا أنه سيأتي في المقام ما
يظهر منه المنافاة لما قررناه من هذا الكلام.
إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد روى ثقة الإسلام في الكافي
والشيخ في التهذيب في الصحيح عن مسمع بن عبد الملك (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : كانت لي
جارية حبلى فنذرت لله (تعالى) ان ولدت غلاما أن أحجه أو أحج عنه؟ فقال : ان رجلا
نذر لله في ابن له ان هو أدرك ان يحجه أو يحج عنه ، فمات الأب وأدرك الغلام بعد ،
فاتى رسول الله صلىاللهعليهوآله الغلام فسأله
عن ذلك ، فأمر
__________________
(1) الوسائل الباب 16 من كتاب النذر
والعهد.
رسول الله صلىاللهعليهوآله ان يحج عنه من
ما ترك أبوه».
وروى الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن ابي يعفور (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل نذر لله
لان عافى الله ابنه من وجعه ليحجنه الى بيت الله الحرام ، فعافى الله الابن ومات
الأب؟ فقال : الحجة على الأب يؤديها عنه بعض ولده. قلت : هي واجبة على ابنه الذي
نذر فيه؟ فقال : هي واجبة على الأب من ثلثه ، أو يتطوع ابنه فيحج عن أبيه».
قال في الوافي بعد نقل هذه الرواية : إنما كان على الأب
لأنه هو الذي أوجب على نفسه. انتهى.
وروى الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه في الصحيح عن
ضريس الكناسي (2) قال : «سألت
أبا جعفر عليهالسلام عن رجل عليه
حجة الإسلام نذر نذرا في شكر ليحجن رجلا إلى مكة ، فمات الذي نذر قبل ان يحج حجة
الإسلام ، ومن قبل ان يفي لله بنذره الذي نذر؟ قال : ان كان ترك مالا يحج عنه حجة
الإسلام من جميع المال واخرج من ثلثه ما يحج به رجل لنذره ، وقد وفى بالنذر ، وان
لم يكن ترك مالا إلا بقدر ما يحج به حجة الإسلام حج عنه بما ترك ويحج عنه وليه حجة
النذر ، انما هو مثل دين عليه».
وظاهر هذه الأخبار انه متى نذر ليحجن رجلا ثم مات قبل ان
يحجه فإنه يجب القضاء عنه ، وان ذلك من الثلث لا من الأصل. وحينئذ فإن حملنا
العبارة
__________________
(1) الوسائل الباب 29 من وجوب الحج
وشرائطه.
(2) التهذيب ج 5 ص 406 ، والفقيه ج 2
ص 263 ، وفي الوسائل الباب 29 من وجوب الحج. وقد أورد موارد الاختلاف بينهما في اللفظ
بعضها على طبق التهذيب وبعضها على طبق الفقيه. والراوي في التهذيب هو ضريس بن
أعين.
المذكورة على ان المراد ان يعطي رجلا
مالا يحج به ، كما تأول به السيد صحيحة ضريس في ما سيأتي ان شاء الله (تعالى) في
كلامه ، أشكل ذلك بان الواجب على هذا التقدير يكون ماليا محضا ، وقد عرفت من
كلامهم ـ بل من ظاهر الاخبار التي قدمناها ـ ان الواجب المالي مخرجه من الأصل.
وبذلك يظهر ان تأويل السيد (رحمهالله) للرواية غير
تام. وان حملناها على ما قدمنا ذكره من تنفيذ ذلك بنفسه ـ وهو الأظهر كما عرفت ـ كان
ذلك من قبيل الواجب البدني وان توقف على المال كحج الإسلام ، وينبغي على قياس حج
الإسلام بالتقريب الذي قدمنا ذكره ـ كما عليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب ـ ان يكون
مخرجه من الأصل ، مع ان هاتين الصحيحتين المذكورتين صريحتان في ان مخرجه من الثلث.
ولعل القول الفصل والمذهب الجزل في جميع الأحكام هو التوقف
على ورود النص الصريح أو الظاهر في ذلك الحكم ، فان وجد وجب الحكم بمقتضاه وإلا
فالتوقف عن الحكم وعدم الاعتماد على هذه التقريبات والقواعد المستنبطة والتخريجات
التي لم ترد بها النصوص ، وان أمكن التقريب فيها كما قدمناه سابقا. وقد سبق نظير
ذلك في المسألة الخامسة من المقصد السابق في المسألة قضاء الحج من البلد أو
الميقات ، وفي مسألة تزاحم دين الحج مع غيره من الديون كما أوضحناه ثمة. وحينئذ
فالواجب هو الوقوف على ما دلت عليه الاخبار في كل جزئي جزئي ان وجدت وإلا فالتوقف.
وبذلك يظهر ما في كلام المحقق المدقق الشيخ حسن ابن
شيخنا الشهيد الثاني (نور الله مرقديهما) في كتاب منتقى الجمان ، حيث قال بعد نقل
صحيحة ضريس وصحيحة ابن ابي يعفور : قلت : لا يخفى ما في هذين الخبرين من المخالفة
للأصول المقررة عند الأصحاب ، وليس لهم في تأويلهما كلام يعتد به ، والوجه
عندي في ذلك فرض الحكم في ما إذا قصد
الناذران يتعاطى تنفيذ الحج المنذور بنفسه فلم يتفق له. ولا ريب ان هذا القصد يفوت
بالموت ، فلا يتعلق بماله حج واجب بالنذر بل يكون الأمر بإخراج الحج المنذور واردا
على وجه الاستحباب للوارث. وكونه من الثلث رعاية لجانبه واحترازا من وقوع الحيف
عليه ، كما هو الشأن في التصرف المالي الواقع للميت من دون ان يكون مستحقا عليه. وحج
الولي أيضا محمول في الخبر الأول على الاستحباب ، وفي الثاني تصريح بذلك ، وقد
جعله الشيخ شاهدا على ارادة التطوع من الأول أيضا. وفيه نظر ، لان الحج في الثاني
مذكور على وجه التخيير بينه وبين الإخراج من الثلث ، وهو يستدعي وجود المال ، وفي
الأول مفروض في حال عدم وجوده. وقوله : «فإنما هو دين عليه» ينبغي ان يكون راجعا
الى حج الإسلام وان كان حج النذر أقرب إليه ، فإن الظاهر كونه تعليلا لتقديم حج
الإسلام حيث يكون المتروك بقدره فحسب. وبقي الكلام في قوله : «هي واجبة على الأب
من ثلثه» وارادة الاستحباب المتأكد منه غير بعيدة ، وقد بينا في ما سلف ان استعمال
الوجوب في هذا المعنى موافق لأصل الوضع ، ولم يثبت تقدم معنى العرفي له الآن بحيث
يكون موجودا في عصر الأئمة (عليهمالسلام) ليقدم على
المعنى اللغوي. وذكرنا ان الشيخ (قدسسره) يكرر القول
في ان المتأكد من السنن يعبر عنه بالوجوب ، وله في خصوص كتاب الحج كلام في هذا
المعنى لا بأس بإيراده وهو مذكور في الكتابين ، وهذه صورة ما في التهذيب : قد بينا
في غير موضع من هذا الكتاب ان ما الاولى فعله قد يطلق عليه اسم الوجوب وان لم يكن
يستحق بتركه العقاب. وأنت خبير بان اعتراف الشيخ بهذا يأبى تقدم العرف واستقراره
في ذلك العصر ، فيحتاج إثباته الى حجة وبدونها
لا أقل من الشك المنافي للخروج من
الأصل. وبما حررناه يعلم ضعف ما اختاره الشيخ هنا من وجوب إخراج الحجة المنذورة من
الثلث. هذا كله على تقدير نهوض الحديثين بإثبات الحكم ، وإلا استغنى عن تكلف البحث
في معناهما وكان التعويل في المسألة على ما تقتضيه الأصول. انتهى كلامه زيد
إكرامه.
أقول : لا يخفى ان السبب الموجب لارتكابه (قدسسره) ما ارتكبه من
هذه التأويلات البعيدة في هاتين الصحيحتين انما هو المخالفة لما زعمه من القواعد
المقررة بين الأصحاب ، وذلك هو انه متى حمل قوله عليهالسلام في الخبرين : «ليحجنه»
: بمعنى ان يعطى رجلا مالا يحج به ، كان ذلك من قبيل الواجب المالي الذي يكون
خروجه من الأصل مع ان الخبرين دلا على كون مخرجه من الثلث. ومتى حمل على المعنى
الذي ذكره من تنفيذ الحج المذكور بنفسه ، فالواجب هو إخراجه من الثلث حيث انه واجب
بدني ، إلا ان إخراج الواجب البدني يتوقف على الوصية بمقتضى قواعدهم مع ان الخبرين
دلا على الإخراج وان لم تكن وصية ، فلا علاج انه تأول الخبرين بهذه التأويلات
المتعسفة والتخريجات المتكلفة ، وبعدها أظهر من ان يخفى على ذي مسكة.
والحق ان ارتكاب ما ذكره يتوقف على المعارض سيما مع
إضافة الصحيحة الثالثة إلى الصحيحتين المذكورتين.
على ان ما ذكره ـ من انه قصد ان يتعاطى تنفيذ الحج بنفسه
، وان هذا القصد يفوت بعد الموت ، فلا يتعلق بماله حج واجب بالنذر ـ ممنوع ، فإنه
لا ريب ان قصد هذا تضمن شيئين : أحدهما ـ مباشرة التنفيذ بنفسه. وثانيهما ـ القيام
بما يحتاج اليه الرجل من الزاد والراحلة مدة الحج ، وبالموت إنما فاتت المباشرة ،
واما ما تعلق بالمال فيبقى على حاله ، فكيف يتم ما ذكره انه لم يتعلق بماله حج
واجب؟ وهذا بعينه جار في حج الإسلام ، فان الواجب
عليه السفر اليه بنفسه ومباشرته ولكن
السفر يتوقف على المال ، ومن أجل ذلك تعلق الحج بالمال بعد الموت.
وما ذكره من مخالفة قواعد الأصحاب إنما يتم لو كانت تلك
القواعد مستندة الى دليل من سنة أو كتاب. ومع تسليم الدليل لها فالتخصيص باب مفتوح
في كلامهم ، فيجوز خروج هذا الحكم بهذه الأخبار الصحيحة الصريحة في وجوب القضاء ،
واي مانع منه؟
وبالجملة فإن حمل القضاء في الاخبار المذكورة على
الاستحباب بعيد غاية البعد عن مناطيقها.
واما حمل قوله عليهالسلام ـ : «هي واجبة
على الأب من ثلثه» على الاستحباب المؤكد ، وسجل عليه بما ذكره ـ ففيه أولا ـ انه
لو لم يكن منشأ الوجوب إلا من التعبير بلفظ الوجوب في هذا المكان لربما تم ما ذكره
، كيف؟ وظواهر الأخبار الثلاثة كلها متفقة على ذلك ، فان قوله عليهالسلام في صحيحة مسمع
: «فأمر رسول الله صلىاللهعليهوآله ان يحج عنه من
ما ترك أبوه» صريح في الوجوب ، فإن أوامره صلىاللهعليهوآله كاوامر الله (سبحانه)
مراد بها الوجوب إلا مع قيام قرينة عدمه ، ولا ريب ان هذا اللفظ عند كل سامع انما
يتبادر منه الوجوب ، فلو أراد الإمام عليهالسلام به الاستحباب
من غير قرينة في المقام لكان في ذلك تعمية على السائل وإيهام عليه ، حيث يجيبه عن
حكم مستحب بما هو ظاهر في الوجوب. وقوله في صحيحة ضريس : «ان كان ترك مالا يحج عنه
حجة الإسلام من جميع المال واخرج من ثلثه ما يحج به رجل لنذره» ظاهر في الوجوب.
وقوله في صحيحة ابن ابي يعفور : «الحجة على الأب» ظاهر أيضا في ذلك. وبالجملة ظهور
الوجوب من هذه الاخبار أظهر من ان يقابل بالإنكار.
وثانيا ـ ان ظاهر كلامه هو إنكار استعمال لفظ الوجوب في
كلامهم (عليهمالسلام) وعرفهم
بالمعنى الأصولي وانما المستعمل في عرفهم هو المعنى اللغوي. وهي دعوى عجيبة. وما
أبعد ما بين هذه الدعوى وبين من يدعى حمل الوجوب في كلامهم (عليهمالسلام) على المعنى
الأصولي كما هو ظاهر المشهور في كلام الأصحاب. وكل من الدعويين وقعا في التفريط
والإفراط. والحق في ذلك ما قدمناه من لزوم الأوساط ، وهو ان هذا اللفظ من ما
استعمل في كلامهم (عليهمالسلام) في كل من
المعنيين المذكورين. وقد حققنا ايضا ان جملة من الألفاظ جرت هذا المجرى ، وانه
بسبب الاشتراك والشيوع في كلامهم كذلك لا يجوز ان يحمل على أحدهما إلا مع القرينة
، والقرينة على ما ندعيه هنا من المعنى الأصولي موجودة بما أشرنا إليه من تلك
المواضع المذكورة في الروايات.
وثالثا ـ ان قوله : «هذا كله على تقدير نهوض الحديثين
بإثبات الحكم. الى آخره» فانى لا اعرف له معنى واضحا ، فإنه بعد بحثه في متن
الخبرين وتأويله لهما لم يبق إلا السند والسند صحيح باصطلاحهم ، فكيف لا ينهضان
بالحجة من جهة السند؟ وبماذا يطعن به عليهما حتى انه يستغني عن تكلف تأويلهما
والبحث في معناهما ويكون المرجع في حكم المسألة الى ما ذكره.
وصاحب الذخيرة قد نقل كلام المحقق المذكور وجمد عليه ،
وقال بعد نقله : وهو حسن.
وبالجملة فالواجب الوقوف على ظاهر الاخبار حيثما كان إذا
لم تعارض بما هو أرجح منها. والاحتياط من ما لا ينبغي تركه سيما في أمثال هذه
المقامات. والله العالم.
المسألة الثالثة ـ قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان
ناذر الحج
متى كان مستطيعا اما ان ينذره مطلقا
بان لا يقصد حج الإسلام ولا غيره ، أو ينذره بنية حج الإسلام أو بنية غيره ،
فالكلام هنا يقع في مواضع ثلاثة :
الأول ـ ان يطلق النذر ، وقد اختلف الأصحاب في هذه الصورة
، فذهب الأكثر ـ ومنهم الشيخ في الخلاف والجمل وابن البراج وابن إدريس والعلامة في
جملة من كتبه ـ الى عدم التداخل ، التفاتا الى ان اختلاف السبب يقتضي اختلاف
المسبب.
ورد بان هذا الاقتضاء انما هو في الأسباب الحقيقية دون
المعرفات الشرعية ، ولهذا حكم كل من قال بانعقاد نذر الواجب بالتداخل إذا تعلق
النذر بحج الإسلام من غير التفات الى اختلاف الأسباب.
أقول : الظاهر ان مراده ان كون ذلك قاعدة كلية انما هو
في الأسباب الحقيقية دون الأسباب الشرعية ، فإنها لا يطرد فيها ذلك بل قد تكون
كذلك وقد لا تكون ، فهي منوطة بالدليل الوارد في كل حكم ، فقد يتفق فيه التداخل
إذا اقتضاه الدليل وقد يتفق التعدد كذلك.
وقال الشيخ في النهاية : ان نوى حج النذر أجزأه عن حج الإسلام
، وان نوى حج الإسلام لم يجزئ عن النذر.
احتج الشيخ على هذا القول بما رواه في
الصحيح عن رفاعة بن موسى (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل نذر ان
يمشي إلى بيت الله الحرام فمشى هل يجزئه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال : نعم. قلت : أرأيت
ان حج عن غيره ولم يكن له مال وقد نذر ان يحج ماشيا ، أيجزئ عنه ذلك من مشيه؟ قال : نعم».
__________________
(1) التهذيب ج 5 ص 406 و 407 ، وفي
الوسائل الباب 27 من وجوب الحج وشرائطه.
وما رواه الشيخ والكليني في الحسن أو الصحيح عن رفاعة (1). الحديث الأول
إلى قوله : قال : «نعم».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (2) قال : «سألت
أبا جعفر عليهالسلام عن رجل نذر ان
يمشي إلى بيت الله فمشى ، أيجزئه عن حجة الإسلام؟ قال : نعم».
أقول : والتقريب في هذه الروايات ان الظاهر ان المراد من
قوله : «رجل
نذر ان يمشي إلى بيت الله. الى آخره» إنما هو بمعنى نذر الحج ماشيا والغرض من
السؤال ان هذا الحج المنذور بهذه الكيفية بعد الإتيان به هل يكفي عن حجة الإسلام
أم لا؟ فأجابوا (عليهمالسلام) ب «نعم». ولا
معنى للسؤال عن نذر المشي خاصة ، إذ لا وجه لترتب السؤال على ذلك ، إذ ترتب حج
الإسلام على مجرد نذر المشي لا يعقل له وجه حتى يجوز ان يسأل عنه ، بل المعنى
الصحيح انما هو الأول ، ويدل عليه صريح السؤال الثاني في الرواية الاولى.
وهذا المعنى هو الذي فهمه الأصحاب من الرواية ممن استدل
بها ومن ردها ، ولهذا ان العلامة في التذكرة والمختلف انما أجاب عن صحيحة رفاعة
__________________
(1) هذا الحديث رواه الشيخ بسند واحد صحيح في التهذيب ج 5
مرتين :
مرة ص
13 واقتصر فيه على السؤال الأول ، ومرة ص 406 و 407 وجمع فيه بين السؤالين. ورواه
في الكافي ج 4 ص 277 بسند فيه إبراهيم بن هاشم وجمع فيه بين السؤالين. وأورد
الحديث ـ على نحو ما ذكرناه ـ في الوسائل في الباب 27 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) التهذيب ج 5 ص 459 ، وفي الوسائل
الباب 27 من وجوب الحج وشرائطه.
الأولى ـ حيث لم ينقل سواها ـ بالحمل
على ما إذا قصد بالنذر حجة الإسلام.
والعجب منهم (رضوان الله عليهم) في ارتكاب مثل هذا التأويل
البعيد عن ظاهر الخبر مع عدم المعارض سوى تعليلهم العليل الذي قدمنا نقله عنهم ،
فانى لم أقف لهم على دليل سواه ، وقد عرفت ضعفه.
ثم العجب من صاحب الوسائل في اقتفائه القول المشهور
ومتابعة الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تأويل هذه الاخبار ، مع انه لا مستند لهم
على أصل الحكم ـ كما ادعوه ـ سوى ما عرفت. وهذا من جملة غفلاته وخطراته فإنه لا
ريب ان ارتكاب التأويل في الأخبار وإخراجها عن ظاهرها إنما يصار اليه عند المعارض
الأقوى في المسألة لا بمجرد الشهرة وان لم تستند الى دليل. والحكم بالتداخل على
الوجه المذكور في الأخبار ليس فيه مخالفة للأصول والقواعد ، بل اخبار تداخل
الأغسال (1) ـ كما عرفت ـ مؤيدة
له ، فما الموجب الى رده؟
وأجاب العلامة في المنتهى عن الرواية باحتمال ان يكون
النذر إنما تعلق بكيفية الحج لا به نفسه ، فيكون النذر انما تعلق بالمشي وهو طاعة
هنا ، كما يدل عليه صحيحة عبد الله بن سنان (2) من قوله عليهالسلام : «ما عبد
الله بشيء أشد من المشي ولا أفضل». وفيه ما عرفت. وبذلك يظهر ان الأظهر ما ذكره
في النهاية.
قال في المدارك : ويدل على هذا القول ايضا صدق الامتثال
بالفعل الواحد ، على حد ما قيل في تداخل الاغتسال ، فان من اتى بالحج بعد
الاستطاعة يصدق عليه انه امتثل الأوامر الواردة بحج الإسلام ، ووفى بنذره.
__________________
(1) الوسائل الباب 43 من الجنابة.
(2) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج
وشرائطه.
أقول : الأظهر أن يجعل هذا الوجه مؤيدا لا دليلا ، فإنه
قاصر عن الدلالة كما لا يخفى ، والأحكام الشرعية موقوفة على النصوص في كل حكم. وورود
ذلك في تداخل الأغسال لا يستلزم القول به هنا لو لم يقم عليه بخصوصه دليل
بقي الكلام في ان مورد الأخبار المذكورة بالتقريب الذي
ذكرناه هو الدلالة على الحكم الأول من الحكمين المنقولين عن النهاية ، واما الحكم
الثاني ـ وهو ما إذا نوى حج الإسلام وانه لا يجزئ عن المنذور ـ فعلله في المدارك
بان الحج انما ينصرف الى النذر بالقصد ، بخلاف حج الإسلام فإنه يكفي فيه الإتيان
بالحج ولا يعتبر فيه ملاحظة كونه حج الإسلام. انتهى ، ولا يخفى ما فيه من عدم
الصلوح لتأسيس حكم شرعي وبنائه عليه.
ولعل الأظهر ان يقال : ان العبادات أمور توقيفية يتوقف
الحكم فيها على ظهور الأدلة الشرعية والاخبار النبوية ، قام الدليل على التداخل في
الصورة الاولى ، وكذا دلت صحيحة رفاعة (1) على انه إذا حج عن غيره وقد كان عليه
حج النذر ماشيا انه يجزئه عن حج النذر. وهي صريحة في التداخل في هذه الصورة أيضا.
وحينئذ فيجب القول بالتداخل في هاتين الصورتين.
وفي هذه الرواية ما يشير الى ضعف ما ذكره في المدارك من
ان الحج انما ينصرف الى النذر بالقصد ، فإنه هنا نوى الحج عن غيره ولم يقصد حج
النذر مع انه حكم عليهالسلام باجزائه عن حج
النذر. وبقي الباقي على مقتضى الأصل من التعدد وعدم التداخل.
وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب الذخيرة هنا حيث انه ـ بعد
ان نقل عبارة الشيخ في النهاية الدالة على التفصيل ـ قال ما صورته : وحكى عن الشيخ
ايضا القول بالتداخل من غير تفصيل. والأقرب التداخل ، لحصول امتثال
__________________
(1) ص 216.
الأمرين بفعل واحد ، وعدم دليل دال
على لزوم التعدد. انتهى.
أقول : اما ما نقله عن الشيخ من القول بالتداخل مطلقا
فلم أقف عليه في كتب الأصحاب. والظاهر ان ما علل به القول بالتداخل مطلقا ـ واختاره
لذلك ـ مأخوذ من كلام المدارك المتقدم وهو قوله : «ويدل على هذا القول. الى آخره»
مع ان صاحب المدارك إنما أراد به بالنسبة إلى الصورة التي اختار الشيخ التداخل
فيها ، وإلا فظاهر كلامه في الصورة الثانية إنما هو عدم التداخل كما يؤذن به
تعليله من اندراج حج الإسلام تحت قصد حج النذر وعدم اندراج حج النذر تحت قصد حج
الإسلام لاحتياجه الى القصد.
وكيف كان فما اختاره من القول بالتداخل مطلقا قياسا على
الأغسال ضعيف جدا ، بل لا يخرج عن القياس. والاستدلال بحصول الامتثال بفعل واحد
مصادرة ، فإنه عين الدعوى. وبذلك يظهر ما في قوله : «وعدم دليل دال على لزوم
التعدد» فإنه كما لم يوجد ما يدل على لزوم التعدد لم يوجد ايضا ما يدل على
التداخل.
ولقائل أن يقول : ان ما ذكره الأصحاب في تعليل التعدد
باعتبار تعدد الأسباب جيد لا بأس به ، وذلك لأن استطاعة الحج أوجبت اشتغال الذمة
بحج الإسلام ، ثم انه لما نذر الحج مطلقا فقد علم ان النذر أوجب حجا زائدا على
الحج الواجب أولا ، لكن لما قام الدليل الشرعي على التداخل في الصورة المفروضة وجب
القول بذلك ، وبقي ما عداها على حكم التعدد.
وبالجملة فما ذكره الفاضل المذكور من القول بالتداخل
مطلقا بعيد عندي غاية البعد.
الموضع الثاني ـ ان ينذر حج الإسلام ، والأشهر الأظهر
انعقاد نذره
لعموم الأدلة (1) وفائدة النذر
زيادة انبعاث النفس على الفعل ، ووجوب الكفارة مع التأخير عن الوقت المعين. ولا
خلاف هنا في التداخل والاكتفاء بحج الإسلام عن حج النذر. ولا بد من وجود الاستطاعة
في وجوب الحج في الصورة المذكورة ، لأنه النذر انما أفاد زيادة التأكيد في الوجوب
السابق.
ولو نذر مع عدم وجود الاستطاعة كان الوجوب مراعى بوجود
الاستطاعة ولا يجب عليه تحصيلها ، لعدم وجوب تحصيل شرط الواجب المشروط كما تقدم
والمنذور هنا ليس أمرا زائدا على حج الإسلام ، إلا ان ينذر تحصيلها ايضا فيجب.
ولو قيد النذر بسنة معينة فتخلفت الاستطاعة بطل النذر.
الموضع الثالث ـ ان ينذر حجا غير حج الإسلام ، وقد
اتفقوا هنا على عدم التداخل.
ولهم في المسألة تفصيل وصور ملخصها : انه لا يخلو اما ان
يكون مستطيعا حال النذر أم لا.
وعلى الأول فإن كانت حجة النذر مطلقة أو مقيدة بزمان
متأخر عن عام الاستطاعة فان الواجب تقديم حجة الإسلام ، لفوريتها واتساع زمان
النذر.
وهو ظاهر لا اشكال فيه.
وان كانت حجة النذر مقيدة بعام الاستطاعة ، فإن قصد الحج
عن النذر مع بقاء الاستطاعة بطل النذر من أصله ، لأنه نذر ما لا يصح فعله. وان قصد
الحج مع فقد الاستطاعة ، بمعنى انه يحج للنذر لو زالت الاستطاعة في ذلك العام ،
قالوا : فالظاهر الانعقاد ، فتجب عند زوال الاستطاعة. وان خلا نذره من القصد بأحد
وجهيه ، احتمل البطلان ـ لانه نذر في عام الاستطاعة
__________________
(1) كقوله تعالى في سورة الحج ، الآية
29 (وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ).
غير حج الإسلام ـ والصحة حملا للنذر
على الوجه الصحيح وهو ما إذا فقدت الاستطاعة.
وعلى الثاني ـ وهو ما إذا تقدم النذر على الاستطاعة ـ فالظاهر
انه لا إشكال في انعقاد النذر ووجوب الإتيان به مع القدرة والتمكن كسائر أفراد
النذور. ولا يشترط فيه حصول الاستطاعة الشرعية التي هي الزاد والراحلة عندهم ،
خلافا للدروس فإنه اعتبر في الحجة المنذورة الاستطاعة الشرعية.
ولو حصلت الاستطاعة الشرعية قبل الإتيان بالمنذورة ، فإن
كان النذر مطلقا أو مقيدا بعام متأخر عن عام الاستطاعة أو بزمان يشمل ذلك العام ،
فإنه يجب تقديم حجة الإسلام ، لفوريتها واتساع زمان المنذورة ، وإلا وجب تقديم حج
النذر ، قالوا : لعدم تحقق الاستطاعة في ذلك العام ، فان المانع الشرعي كالمانع
العقلي.
وفي هذه الصورة ما يؤيد ما قدمنا ذكره من ان النذر سبب
كلي في الوجوب ، فان هذا الناذر لما نذر في حال عدم الاستطاعة الحج في السنة
الفلانية من السنين القابلة انعقد وجوبها عليه بالنذر ، ثم لما تجددت الاستطاعة
الشرعية في تلك السنة لم تؤثر في المنع من حج النذر في ذلك العام لانعقاده سابقا ،
وصار منع النذر هنا من حج الإسلام كسائر الموانع التي تقدمت. وهو أظهر ظاهر في
تأثير الأسباب الشرعية واختلاف مسبباتها باختلافها إلا ما خرج بالدليل وحينئذ فمتى
كان الواجب عليه في هذا العام انما هو حج النذر ، فان كانت الاستطاعة موجودة فإنه
يراعى في وجوب حج الإسلام بقاؤها إلى العام القابل.
وقال الفاضل الخراساني (قدسسره) في الذخيرة :
وان كان النذر مقيدا بالسنة التي حصلت الاستطاعة فيها ففي تقديم الحجة المنذورة أو
حج الإسلام وجهان يلتفتان الى عدم تحقق الاستطاعة الشرعية ـ لأن المانع الشرعي
كالمانع العقلي ـ
والى حصول الاستطاعة المعتبرة في حجة
الإسلام مع عدم النذر. وانعقاد النذر فرع الشرعية والرجحان ، وهو غير متحقق.
انتهى.
أقول : لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه ، فان فرض
المسألة في كلام الأصحاب على الوجه الذي فصلناه إنما هو في ما إذا نذر وهو غير
مستطيع ثم تجددت الاستطاعة بعد ذلك ، فمن جملة صورها ما إذا نذر ان يحج في سنة
مسماة من السنين المستقبلة واتفق انه حصلت له الاستطاعة في تلك السنة ، فان مقتضى
انعقاد النذر سابقا وجوب تقديم حج النذر هنا وان النذر مانع عن حجة الإسلام.
وحينئذ فقوله في تعليل الوجه الثاني : «والى حصول الاستطاعة المعتبرة في حجة
الإسلام. الى آخره» لا وجه له ، فان وجود الاستطاعة بعد انعقاد النذر بالحج في هذه
السنة واشتغال الذمة به في حكم العدم. والعجب من قوله : «وانعقاد النذر فرع
الشرعية والرجحان ، وهو غير متحقق» فإنه كيف لا يكون النذر منعقدا والحال انه في
وقت النذر عادم الاستطاعة ، فأي مانع من انعقاد نذره وشرعيته ورجحانه؟ وبالجملة
فإن جميع ما ذكره في الوجه الثاني فهو غير موجه. والله العالم.
المسألة الرابعة ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) في ان من نذر الحج ماشيا انعقد نذره ووجب عليه الوفاء به ، وتدل عليه
عمومات المقتضية لانعقاد النذور (1) وهو عبادة راجحة ، وقد ورد في جملة
من الأخبار (2) : «ما عبد
الله بشيء أشد ولا أفضل من المشي إلى بيته». وقد مضى وسيأتي في تضاعيف المسائل
الآتية ما يدل على مشروعيته وانعقاده.
__________________
(1) كقوله تعالى في سورة الحج ، الآية
29 (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ).
(2) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج
وشرائطه.
ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابي عبيدة
الحذاء عن ابي جعفر عليهالسلام (1) : «أنه سئل عن
رجل نذر ان يمشى إلى مكة حافيا؟ فقال : رسول الله صلىاللهعليهوآله خرج حاجا فنظر
الى امرأة تمشي بين الإبل فقال : من هذه؟ فقالوا : أخت عقبة بن عامر ، نذرت أن
تمشي إلى مكة حافية. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا عقبة
انطلق إلى أختك فمرها فلتركب ، فان الله غني عن مشيها وحفائها. قال : فركبت». فإنها
محمولة على عدم جواز نذر الحفاء مضافا الى المشي ، لما فيه من المشقة الظاهرة. ولا
يلزم من ذلك عدم انعقاد نذر المشي.
وقال العلامة في القواعد : لو نذر الحج ماشيا وقلنا
المشي أفضل انعقد الوصف وإلا فلا.
وقال ولده في الإيضاح : إذا نذر الحج ماشيا انعقد أصل
النذر إجماعا وهل يلزم القيد مع القدرة؟ فيه قولان مبنيان على ان المشي أفضل من
الركوب أو الركوب أفضل من المشي.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنهما : وهذا غير سديد ، فان
المنذور وهو الحج على هذا الوجه لا ريب في رجحانه وان كان غيره أرجح منه ، وذلك
كاف في انعقاد نذره ، إذ لا يعتبر في المنذور كونه أفضل من جميع ما عداه. وهو جيد.
ثم قال في المدارك : واختلف الأصحاب في مبدأ المشي
ومنتهاه ، والذي يقتضيه الوقوف مع المعنى المستفاد من اللفظ وجوبه من حين الشروع
في أفعال الحج وانتهاؤه بآخر أفعاله وهي رمي الجمار ، لان «ماشيا» وقع حالا
__________________
(1) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج
وشرائطه. واللفظ هكذا : «سألت أبا جعفر عليهالسلام ...» وفي
التهذيب ج 5 ص 13 و 14 : «سألت أبا عبد الله».
من فاعل «أحج» فيكون وصفا له وانما
يصدق حقيقة بتلبسه به.
أقول : ما ذكره جيد لو لم يرد في الأخبار التعبير عن نذر
المشي إلا بهذا اللفظ مع انه ليس كذلك ، وهذه العبارة إنما وقعت في كلام الأصحاب
وقليل من الأخبار.
والمفهوم من الاخبار الكثيرة ان المشي المنذور انما هو
من البلد الى البيت فمن ذلك صحيحة ابي عبيدة المتقدمة وقول السائل فيها : «سئل عن
رجل نذر ان يمشي إلى مكة حافيا. الى آخر الخبر».
ومنها ـ صحيحة رفاعة (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل نذر ان
يمشي إلى بيت الله (تعالى) حافيا؟ قال : فليمش فإذا تعب فليركب».
وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (2) قال : «سألته
عن رجل جعل لله عليه مشيا الى بيت الله فلم يستطع؟ قال : يحج راكبا».
الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة المشتملة على هذه
العبارة ، وهي ان
__________________
(1) التهذيب ج 5 ص 403 والفروع ج 2 ص
373 ، وفي الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه رقم (1) عن الأول ، والباب 8 من
كتاب النذر والعهد عن الثاني ، إلا ان الوارد فيه عن رفاعة وحفص. واللفظ في المتن
يوافق لفظ الفروع.
(2) الوسائل الباب 8 من كتاب النذر
والعهد ، مضمرا كما في فروع الكافي ج 2 ص 373 ، إلا انه في التهذيب ج 8 ص 304 : «عن
الكليني عن أحدهما ع» كما في المتن ، وكذا في الوافي باب (سائر النذور من أبواب
النذور والايمان) من الجزء السابع. ولفظ «لله» ليس في الوسائل ولا في الفروع ولا
في التهذيب. نعم في الاستبصار ج 4 ص 50 موجود.
غاية المشي ونهايته بيت الله (عزوجل)
وقد تقدم جملة من الأخبار الدالة على ذلك في المسألة الرابعة من المسائل الملحقة
بالشروط.
وبالجملة فإن الظاهر من أكثر الأخبار هو ما ذكرناه ،
والظاهر هو الرجوع في ذلك الى نية الناذر.
بقي ان السيد أشار في صدر العبارة إلى الخلاف في منتهاه
ايضا واختار انه رمي الجمار ، ولم ينقل القول الآخر ولا الدليل على ما اختاره من
القول المذكور ، والقول الآخر المنقول في المسألة هو ان آخره طواف النساء ، وهو
ظاهر شيخنا الشهيد في الدروس ، ونسبه في المسالك الى المشهور ثم اختار القول
الآخر.
والظاهر هو ما اختاره السيد السند (قدسسره) وتدل عليه صحيحة
جميل (1) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام : إذا حججت
ماشيا ورميت الجمرة فقد انقطع المشي».
وصحيحة إسماعيل بن همام عن ابي الحسن الرضا عليهالسلام (2) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام في الذي عليه
المشي في الحج إذا رمى الجمرة زار البيت راكبا وليس عليه شيء».
وروى هذا الخبر في الفقيه في الصحيح عن إسماعيل بن همام
عن ابي الحسن الرضا عن أبيه (عليهماالسلام) (3) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام في الذي عليه
المشي إذا رمى الجمرة زار البيت راكبا».
وروى في الفقيه عن علي بن أبي حمزة عن ابى عبد الله عليهالسلام (4) قال :
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 35 من وجوب
الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 35 من وجوب الحج
وشرائطه ، والرواية للكليني في الكافي ج 4 ص 456.
«سألته متى ينقطع مشي الماشي؟ قال :
إذا رمى جمرة العقبة وحلق رأسه فقد انقطع مشيه فليزر راكبا».
وتنقيح الكلام في المقام يتوقف على رسم فوائد (1) :
الاولى ـ لو اتفق له في طريقه الاحتياج إلى السفينة فالمشهور
في كلامهم من غير خلاف ينقل انه يقوم في السفينة ان اضطر الى العبور فيها.
والمستند في ذلك رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه
(عليهمالسلام) (2) : «ان عليا (صلوات
الله عليه) سئل عن رجل نذر ان يمشي الى البيت فمر في المعبر؟ قال : فليقم في
المعبر قائما حتى يجوز».
قال في المدارك نقلا عن المعتبر : وهل هو على الوجوب؟
فيه وجهان أحدهما نعم ، لأن المشي يجمع بين القيام والحركة فإذا فات أحدهما تعين
الآخر. والأقرب انه على الاستحباب ، لان نذر المشي ينصرف الى ما يصلح المشي فيه
فيكون موضع العبور مستثنى بالعادة. ثم قال : وما قربه (رحمهالله) جيد. بل يمكن
المناقشة في استحباب القيام ايضا لضعف مستنده. انتهى.
أقول : لا ريب ان الحامل لهم على هذا الكلام انما هو ضعف
سند هذه الرواية وليس في المقام غيرها ، ولهذا قال في المدارك بعد نقل كلام
المعتبر : بل يمكن المناقشة في الاستحباب ايضا لضعف مستنده. انتهى.
ثم أقول : ان ما حكم به في المعتبر من الاستحباب لا اعرف
له وجها بعد طرحه الرواية ، لأنه متى اعتمد على ان نذر المشي انما ينصرف الى ما
يصلح المشي فيه
__________________
(1) أبدلنا كلمة «مسائل» ب «فوائد»
تبعا للنسخة الخطية ، ويساعده الاعتبار أيضا.
(2) الوسائل الباب 37 من وجوب الحج
وشرائطه.
عملا بالعادة فتكون مواضع العبور غير
داخلة في النذر ، وهذا موجب لطرح الرواية الدالة على الأمر بالوقوف الذي هو حقيقة
في الوجوب ، كما عليه أكثر الأصحاب ، وكأنه أراد حملها على الاستحباب تفاديا من
طرحها. وفيه ما عرفت في غير مقام من ما تقدم وان اشتهر ذلك بينهم.
ثم انه لا يخفى ان رواية السكوني المذكورة ظاهرة في كون
نذر المشي انما هو في الطريق إلى مكة ، لقوله فيها : «نذر ان يمشي الى البيت»
وقوله : «فمر في المعبر» فان هذا انما يكون في الطرق الآتية من الآفاق لا في مكة
فإنه ليس فيها شط ولا نهر يحتاج في عبوره إلى سفينة.
الثانية ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو
ركب طريقه وجب عليه القضاء ، ومرادهم بالقضاء الإعادة أعم من ان يكون بمعناه
المتعارف أم لا ، وذلك انه ان كانت سنة النذر معينة فالقضاء بمعناه المتعارف ،
ويلزمه مع ذلك كفارة خلف النذر ، وان كانت سنة النذر مطلقة فالقضاء بمعنى الفعل
ثانيا ولا كفارة لبقاء الوقت.
قالوا : وانما وجب عليه اعادة الحج ثانيا لإخلاله بالصفة
المشروطة وتوقف الامتثال على الإتيان بها.
ويستفاد من حكمهم بوجوب الإعادة كون الحج المأتي به فاسدا
، والظاهر ان وجهه من حيث عدم مطابقته للمنذور ، فلا يقع عن النذر لعدم المطابقة ،
ولا عن غيره لانتفاء النية كما هو المفروض.
واحتمل المحقق في المعتبر الصحة واجزاءه عن المنذور وان
وجبت الكفارة بالإخلال بالمشي ، قال : لأن الإخلال بالمشي ليس مؤثرا في الحج ولا
هو من صفاته بحيث يبطل بفواته ، بل غايته أنه أخل بالمشي المنذور ، فان كان مع
القدرة وجبت عليه كفارة خلف النذر.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو انما يتوجه إذا
كان المنذور الحج والمشي غير مقيد أحدهما بالآخر ، والمفهوم من نذر الحج ماشيا
خلاف ذلك. انتهى. وهو جيد.
ويؤيده انه لو تم ما ذكره للزم جريانه في جميع النذور
المقيدة بزمان أو مكان ، كأن يصلي ركعتين في زمان مخصوص أو مكان مخصوص ، فإنه تصح
الصلاة على غير الوجه المذكور وان لزمت الكفارة ، وهو لا يقول به.
ولم أقف في هذه المسألة على نص يدل على أحكامها المذكورة
، إلا ان ما نقلناه عنهم مطابق لمقتضى قواعد النذر مع أوفقيته بالاحتياط.
الثالثة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما لو
ركب بعضا ومشى بعضا ، فقيل : انه ان كان مشروطا بوقت معين وجب عليه القضاء
والكفارة ، وإلا وجب عليه الاستئناف ماشيا.
اما الأول فلأنه أخل بالصفة المنذورة فيجب عليه القضاء
لتحصيل تلك الصفة ، والكفارة لإخلاله بإيقاع تلك الصفة في الوقت المعين الواجب
بالنذر.
واما الثاني فلان الواجب عليه الحج ماشيا ولم يأت به
فيبقى في عهدة التكليف.
ونقل عن الشيخ وجماعة انه تجب عليه الإعادة بأن يمشي ما
ركب ويركب ما مشى ، لان الواجب عليه قطع المسافة ماشيا وقد حصل مع التلفيق فيخرج
عن العهدة. هكذا احتج له في المختلف ، ثم أجاب عنه بالمنع من حصوله مع التلفيق ،
إذ لا يصدق عليه انه قد حج ماشيا.
قال في المدارك بعد نقل هذا الجواب : وهو جيد ان وقع
الركوب بعد التلبس بالحج ، إذ لا يصدق على من ركب في جزء من الطريق بعد التلبس
بالحج انه حج ماشيا ، وهذا بخلاف ما إذا وقع الركوب قبل التلبس بالحج مع
تعلق النذر بالمشي من البلد ، لان
الواجب قطع تلك المسافة في حال المشي وان فعل في أوقات متعددة ، وهو يحصل بالتلفيق
، إلا ان يكون المقصود قطعها كذلك في عام الحج. انتهى.
أقول : قد عرفت ان المستفاد من الاخبار على وجه لا يكاد
يعتريه الإنكار ـ كما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى ـ ان المراد بنذر الحج ماشيا
انما هو المشي من البلد قاصدا الى البيت منتهيا الى رمي الجمرة ، فالمكلف لما أوجب
على نفسه الحج ماشيا مدة طريقه وأيام حجه الى الوقت المذكور تعين عليه ، والإخلال
بالمشي كلا أو بعضا موجب لعدم الإتيان بالفعل على الوجه المنذور ، فيبقى في عهدة
التكليف الى ان يأتي به كذلك قضاء ان كان النذر معينا وأداء ان كان مطلقا. هذا ما
تقتضيه قواعد النذر ، والمسألة خالية من النص على الخصوص فيجب الوقوف فيها على
قواعد النذر المتفق عليها بينهم.
وبذلك يظهر ما في كلام العلامة في المختلف حيث قال ـ على
اثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه ـ ما لفظه : ويحتمل ان يقال بصحة الحج وان كان
الزمان معينا وتجب الكفارة ، لأن المشي ليس جزء من الحج ولا صفة من صفاته ، فان
الحج مع المشي كالحج مع الركوب ، فيكون قد امتثل نذر الحج وأخل بنذر المشي ، فتجب
الكفارة ويصح حجه. انتهى.
وهو راجع الى ما قدمنا نقله عن المعتبر ، وقد عرفت انه
انما يتم لو كان المنذور هنا شيئين : أحدهما الحج والثاني المشي ، والظاهر من
الأخبار وكلام الأصحاب ان النذر انما تعلق بالحج مقيدا بالمشي ، فالمنذور شيء
واحد وعليه فلا يتم ما ذكره.
وبالجملة فإن الاحتياط في أمثال هذه المقامات الخالية من
النصوص من ما يجب المحافظة عليه.
الرابعة ـ لو عجز عن المشي فلا خلاف في جواز الركوب ، لان
الوجوب يسقط بالعجز ، لإناطة التكليف بالوسع ورفع الحرج والمشقة في الدين (1).
وانما الخلاف في وجوب السياق وعدمه ، فذهب الشيخ وجمع من
الأصحاب إلى الوجوب.
واستدلوا على ذلك بصحيحة الحلبي (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل نذر ان
يمشي إلى بيت الله وعجز عن المشي؟ قال : فليركب وليسق بدنة ، فان ذلك يجزئ عنه إذا
عرف الله منه الجهد».
وصحيحة ذريح المحاربي (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل حلف
ليحجن ماشيا ، فعجز عن ذلك فلم يطقه؟ قال : فليركب وليسق الهدي».
وقال الشيخ المفيد (نور الله تعالى مرقده) في المقنعة :
وإذا جعل الرجل على نفسه المشي إلى بيت الله فعجز عنه فليركب ولا شيء عليه. وهو
ظاهر في عدم وجوب السياق.
وهو اختيار ابن الجنيد على ما نقل عنه ، وابن إدريس على
ما ذكره في المختلف ، والمحقق.
واستدلوا عليه بأصالة البراءة ، وصحيحة رفاعة بن موسى (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : رجل نذر ان
يمشي إلى بيت الله؟ قال : فليمش. قلت : فإنه تعب؟ قال : فإذا تعب ركب».
ورواية عنبسة بن مصعب (5) قال : «نذرت
في ابن لي ان عافاه الله
__________________
(1) ارجع الى الحدائق ج 1 ص 151 و 152.
(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 34 من وجوب
الحج وشرائطه.
(5) الوسائل الباب 8 من كتاب النذر
والعهد.
أن أحج ماشيا ، فمشيت حتى بلغت العقبة
، فاشتكيت فركبت ، ثم وجدت راحة فمشيت ، فسألت أبا عبد الله عليهالسلام عن ذلك ، فقال
: اني أحب ان كنت موسرا ان تذبح بقرة. فقلت : معي نفقة ولو شئت ان أذبح لفعلت ،
وعلى دين؟ فقال : اني أحب ان كنت موسرا ان تذبح بقرة. فقلت : أشيء واجب افعله؟
قال : لا ، من جعل لله شيئا فبلغ جهده فليس عليه شيء».
قال في المدارك بعد نقل ذلك : يتوجه عليه ان الرواية
الاولى لا تنافي وجوب السياق ، لان عدم ذكره لا يعارض ما دل على الوجوب ، والرواية
الثانية ضعيفة السند لأن راويها واقفي ناووسي. ثم نقل عن ابن إدريس القول بأنه ان
كان النذر مطلقا وجب على الناذر توقع المكنة من الصفة ، وان كان مقيدا بسنة معينة
سقط الفرض لعجزه عنه. وهذا قول ثالث في المسألة.
والعلامة في المختلف نقل عن ابن إدريس موافقة الشيخ
المفيد ، ثم اختار فيه انه ان كان النذر معينا بسنة فعجز عن المشي ركب ولا شيء
عليه ، وان كان مطلقا توقع المكنة.
واحتج على الأول بأنه عجز عن الصفة فسقط اعتبارها ،
للإجماع. الدال على سقوط ما عجز عنه الناذر من غير تفريط. ثم قال : (لا يقال) :
فيسقط الحج للعجز ، كما نقل عن بعض علمائنا ذلك (لأنا نقول) : العجز انما حصل عن
الصفة لا عن أصل الحج ، والنذر تعلق بأمرين ، ولا يلزم من سقوط أحد الأمرين سقوط
الآخر إذا افترقا في العلة.
أقول : فيه ما تقدم من ان المنذور إنما هو شيء واحد لا
شيئان ، فعلى هذا فالموافق للعجز هو سقوط الحج من أصله كما نقله في المدارك عن ابن
إدريس وصرح به شيخنا الشهيد الثاني في المسالك.
بقي الكلام في ان ما نقله في المدارك عن ابن إدريس غير
موجود في
سرائره ، وانما الموجود فيه ما قدمنا
نقله عن المختلف من موافقة الشيخ المفيد وهذه عبارته في كتاب السرائر : ومن نذر ان
يحج ماشيا ثم عجز عنه فليركب ولا كفارة عليه ولا يلزمه شيء على الصحيح من المذهب.
وهذا مذهب شيخنا المفيد في مقنعته. ثم نقل عبارة الشيخ في النهاية الدالة على وجوب
سوق البدنة.
وظاهره في المدارك انه اعتمد في هذا النقل على غيره ،
حيث قال بعد نقل ذلك عن ابن إدريس : وقال الشهيد في الشرح : وكأنه نظر الى ان الحج
ماشيا مغاير له راكبا. وفيه نظر ، لان الحج راكبا وماشيا واحد وان اختلفا بصفة
واحدة ، فإذا نذر الحج ماشيا استلزم نذر الحج المطلق وان يكون ماشيا ، فإذا تعذر
أحد الجزئين لا يلزم سقوط الآخر. ثم قال (قدسسره) : هذا كلامه (قدسسره) وهو غير جيد
، لان المفهوم من نذر الحج ماشيا إيجاب الحج على الوجه المخصوص ، بمعنى كون المشي
شرطا في الحج ، وذلك لا يستلزم نذر مطلق الحج ، كما ان من نذر صلاة في موضع معين
لا يكون ناذرا لمطلق الصلاة. انتهى.
وهو جيد. إلا ان هذا الكلام ليس في المسالك ان أريد
بالشهيد جده (قدسسره) وبالشرح
المسالك ، ولا في شرح الشهيد على الإرشاد ان أريد بالشهيد الشهيد الأول وبالشرح
الكتاب المذكور. ولا اعرف لهذه العبارة محلا غير ذلك ، ولا أدرى كيف هذا النقل ولا
من اين حصل؟
وكيف كان فقد ظهر بما شرحناه ان في المسألة أقوالا أربعة
: أحدها ـ وجوب الكفارة مطلقا. وثانيها ـ سقوطها مطلقا. وثالثها ـ هو التفصيل بكون
النذر مطلقا فيتوقع المكنة ، وان كان معينا سقط الفرض. ورابعها ـ مثل سابقه في
صورة الإطلاق ، إلا انه يفارقه في صورة التعيين فيقول بوجوب الركوب ولا شيء عليه.
وقال في المدارك بعد نقل ما نقله عن ابن إدريس وكلام
الشهيد وكلامه عليه حسبما قدمناه : والمعتمد ما ذهب اليه ابن إدريس ان كان العجز
قبل التلبس
بالإحرام ، وان كان بعده اتجه القول
بوجوب إكماله وسياق البدنة وسقوط الفرض بذلك ، عملا بظاهر النصوص المتقدمة.
والتفاتا إلى إطلاق الأمر بوجوب إكمال الحج والعمرة مع التلبس بهما ، واستلزام
إعادتهما المشقة الشديدة. انتهى.
أقول : وهذا قول خامس في المسألة.
ثم أقول : ومن الأخبار التي وقفت عليها في هذه المسألة
زيادة على ما تقدم صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) قال : «سألته
عن رجل جعل لله عليه مشيا الى بيت الله فلم يستطع؟ قال : يحج راكبا».
وما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا عن نوادر
احمد بن محمد ابن ابي نصر البزنطي عن عنبسة بن مصعب (2) قال : «قلت له
ـ يعني أبا عبد الله عليهالسلام ـ اشتكى ابن
لي فجعلت لله علي ان هو بريء ان أخرج الى مكة ماشيا. وخرجت امشي حتى انتهيت إلى
العقبة فلم أستطع أن أخطو ، فركبت تلك الليلة حتى إذا أصبحت مشيت حتى بلغت ، فهل
على شيء؟ قال : فقال لي : اذبح فهو أحب الي. قال : قلت له : أي شيء هو الي لازم
أم ليس لي بلازم؟ قال : من جعل لله على نفسه شيئا فبلغ فيه مجهوده فلا شيء عليه
وكان الله أعذر لعبده».
وعن ابي بصير (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن ذلك (4) فقال : من جعل
لله على نفسه شيئا فبلغ فيه مجهوده فلا شيء عليه».
وما رواه احمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن محمد بن
مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (5) قال : «سألته
عن رجل جعل عليه مشيا الى بيت الله فلم يستطع؟ قال : يحج راكبا».
__________________
(1) ارجع الى التعليقة 2 ص 225.
(2 و 3 و 5) الوسائل الباب 34 من وجوب
الحج وشرائطه.
(4) اللفظ في السرائر والوسائل هكذا :
«سئل عليهالسلام عن ذلك».
وعن سماعة وحفص (1) قال : «سألنا أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل نذر ان
يمشي إلى بيت الله حافيا؟ قال : فليمش إذا تعب فليركب».
وعن محمد بن قيس عن ابي جعفر عليهالسلام (2) مثل ذلك.
وعن محمد بن مسلم (3) قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن رجل عليه
المشي إلى بيت الله فلم يستطع؟ قال : فليحج راكبا».
وعن حريز عن من أخبره عن ابي جعفر وابي عبد الله (عليهماالسلام) (4) قال : «إذا
حلف الرجل ان لا يركب أو نذر ان لا يركب ، فإذا بلغ مجهوده ركب. قال : وكان رسول
الله صلىاللهعليهوآله يحمل المشاة
على بدنة».
وأنت خبير بان هذه الاخبار متى ضمت بعضها الى بعض فالذي
يتضح منها هو ان العاجز في صورة نذر الحج ماشيا الذي هو ـ كما عرفت ـ عبارة عن
وجوب المشي فيه من البلد الى رمي الجمرة ، متى بلغ مجهوده فان الله (عزوجل) أعذر
له ، ولكن يستحب له السياق ، وانه لا فرق في ذلك بين كون النذر مطلقا أو مقيدا ،
ولا كون الركوب قبل الحج ولا بعده.
وصاحب المدارك بنى في هذا الكلام على ما قدمه من ان
النذر انما تعلق بالمشي حال الاشتغال بالحج. وهو غلط بالنظر الى ما سردناه من
الاخبار أولا وآخرا ، ولا سيما روايتا عنبسة بن مصعب ، فإنهما صريحتان في كون
النذر تعلق بالمشي من البلد وان العجز حصل له في الطريق قبل الوصول إلى مكة. وبذلك
يعلم قوة قول شيخنا المفيد ومن اقتفاه ، ويعلم الجواب عن أدلة الأقوال الأخر.
ويمكن حمل القول بالتفصيل بما تضمنه من القولين على ما
إذا وقع العجز في البلد ، فإنه ان كان نذره مطلقا توقع المكنة إلى العام القابل ،
وان كان
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 34 من
وجوب الحج وشرائطه.
معينا بتلك السنة سقط الفرض من أصله
أو الصفة بخصوصها ووجب الحج راكبا على القولين. والاخبار الواردة في المسألة غير
منافية لذلك ، لان ظاهر أكثرها وصريح بعضها هو ان العذر انما تجدد في الطريق ،
وبعضها وان كان مطلقا يجب حمله على المقيد منها. إلا ان ظاهر القائلين بهذا القول
ما هو أعم من ما ذكرنا حيث جعلوه مقابلا للقولين الآخرين.
المسألة الخامسة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ في
ان من مات وعليه حجة الإسلام واخرى منذورة قد استقرتا في ذمته ، بعد الاتفاق على
ان مخرج حجة الإسلام من أصل التركة ـ في ان مخرج حجة النذر هل هو من الأصل أيضا أو
من الثلث؟ قولان ، أولهما لابن إدريس وعليه أكثر المتأخرين والثاني للشيخ في النهاية
والمبسوط والتهذيب ، ونقله في المختلف عن ابن الجنيد قال : ورواه الصدوق في كتابه (1).
أقول : بل الظاهر انه قائل بذلك ، فإنه لم يقتصر على
مجرد نقل الرواية بل قال أولا : باب الرجل (2) يموت وعليه حجة الإسلام وحجة في نذر
عليه. ثم قال : روى الحسن بن محبوب عن على بن رئاب عن ضريس الكناسي. وساق الرواية (3) وهو ظاهر في
الفتوى بمضمون الرواية. وظاهر قوله : «وحجة في نذر عليه» ان الحجة الثانية منشأ
سببها النذر ، أعم من ان يكون نذر أن يحج بنفسه أو يحج غيره ، وانه لا فرق بين
الأمرين في وجوب القضاء من الثلث كما في الرواية.
__________________
(1) الفقيه ج 2 ص 263.
(2) في الفقيه هكذا : «باب من يموت ...».
(3) الوسائل الباب 29 من وجوب الحج
وشرائطه ، وقد تقدمت ص 210.
احتج الأصحاب على ما ذهبوا اليه من وجوب القضاء من الأصل
بأنها كحجة الإسلام من جملة الديون التي مخرجها من الأصل.
قال في المدارك : وهو انما يتم بعد قيام الدليل على وجوب
قضائها من التركة. ولم نقف في ذلك على رواية سوى رواية ضريس التي أوردها المصنف ،
وقد بينا في ما سبق ان الحج ليس واجبا ماليا بل هو واجب بدني وان توقف على المال
مع الحاجة إليه كما تتوقف الصلاة عليه كذلك. ثم نقل احتجاج الشيخ برواية ضريس
وأورد الرواية ، ثم قال : وأجاب عنها في المختلف بالحمل على من نذر في مرض الموت.
ثم رده بأنه يتوقف على وجود المعارض. ثم قال : نعم يمكن المناقشة في هذا الاستدلال
بان مورد الرواية خلاف محل النزاع ، لان موردها من نذر ان يحج رجلا ، اي يبذل له
مالا يحج به. وهو خلاف نذر الحج. ولعل ذلك هو السر في إيراد المصنف الرواية بعد
حكاية القولين من دون ان يجعلها مستندا لأحدهما. انتهى.
أقول : قد تقدم البحث مستوفى في المسألة وأوضحنا ما في
هذا الكلام ، وانما أطلنا الكلام بنقله هنا لأنا قد وعدنا سابقا بنقله وأشرنا
سابقا اليه.
ثم أقول : قال الفاضل المحقق محمد تقي المجلسي في شرحه
على الفقيه ـ بعد نقل صحيحة ضريس ـ ما هذه ترجمته : المشهور بين العلماء ان كل
واجب تعلق بالمال وتركه ذو المال حتى مات ، فان ترك مالا قضى عنه من أصل ماله ،
وإلا فلا يجب على الولي قضاؤه ، فقضاء الولي محمول على الاستحباب على المشهور. ويمكن
حمل إخراج المنذور من الثلث على انه بسبب اشتغال ذمته بحج واجب فلا يصح نذره لكن
يستحب له الوفاء به لتلفظه بصيغة النذر ، فلهذا يخرج من الثلث. وأجيب بأنه لا
ينعقد النذر إلا مع رجحان متعلقة وأقله الاستحباب ، ومع اشتغال الذمة بالواجب لا
يجوز له ان يحج مستحبا فلا ينعقد نذره. انتهى.
أقول : فيه أولا ـ ان منع صحة النذر لاشتغال الذمة بالحج
الواجب على إطلاقه ممنوع وانما يتم لو نذر الحج في عام الاستطاعة ، واما إذا كان
النذر مطلقا فأي مانع؟ وقد تقدم تحقيق ذلك في المسألة الثالثة (1).
وثانيا ـ انه متى لم يكن حج النذر واجبا عليه بالنذر ،
وانما هو مستحب من حيث التلفظ بالصيغة فكيف يسوغ إخراجه من غير الوصية؟ والحال ان
الواجب يتوقف على الوصية فكيف المستحب؟ على ان إثبات الاستحباب بمجرد التلفظ
بالصيغة ممنوع ، فان الاستحباب حكم شرعي لا بد له من الدليل.
واما ما ذكره من الجواب فضعيف ، لانه مبني على ان مجرد
اشتغال الذمة موجب لبطلان النذر.
وبالجملة فإن كلامه (قدسسره) هنا كلام عليل لا ثمرة له عند ذوي التحصيل. والله العالم.
__________________
(1) ص 215.