ج21 - كتاب المضاربة
قال في التذكرة : وهي عقد شرعي لتجارة الإنسان بمال غيره
بحصة من الربح. انتهى.
وهذه التسمية لغة أهل العراق ، وأما أهل الحجاز فيسمون
هذه المعاملة قراضا ، قيل : ووجه المناسبة بالنسبة إلى التسمية الأولى أنها من
الضرب في الأرض ، قال الله تعالى «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ» (1) لان العامل يضرب فيها للسعي على
التجارة وابتغاء طلب الربح بطلب صاحب المال ، فكان الضرب مسببا عنها طردا لباب
المفاعلة في طرفي الفاعل ، أو من ضرب كل منهما في الربح بسهم ، أو لما فيه من
الضرب بالمال وتقليبه.
وأما وجه المناسبة في التسمية الثانية ، فهو اما من
القرض ، وهو القطع كما يقال : قرض الفار الثوب أى : قطعه ، ومنه المقراض ، لانه
يقطع به ، فكان صاحب المال اقتطع من ماله قطعة ، وسلمها الى العامل ، واقتطع له
قطعة من الربح ، أو من المقارضة ، وهي المساواة والموازنة ، يقال : تقارض الشاعران
إذا وازن كل منهما الأخر بشعره.
__________________
(1) سورة المزمل الآية 19.
وحكى عن أبى الدرداء أنه قال : قارض الناس ما قارضوك ،
فان تركتهم لم يتركوك يريد ساوهم فيما يقولون ، وهذا المعنى تحقق هنا ، لان المال
من جهة رب المال ، ومن جهة العامل العمل ، فقد تساويا في قيام العقد بهما ، فمن
هذا المال ومن هذا العمل ، ويحتمل أن يكون ذلك لاشتراكهما في الربح ، وتساويهما في
أصل استحقاقه ، وان اختلفا في كميته ، ويقال منه للمالك مقارض بكسر الراء ،
وللعامل مقارض بالفتح ، ومن اللفظة الأولى يقال للعامل : مضارب بكسر الراء ، لأنه
الذي يضرب في الأرض بالمال ويقلبه ، ولم يشتق أهل اللغة لرب المال من المضاربة
أسماء ، بخلاف القراض ، كذا في التذكرة ، ونحوه في المسالك.
وقال في المسالك : واعلم أن من دفع الى غيره مالا ليتجر
به فلا يخلو اما أن يشترطا كون الربح بينهما ، أو لأحدهما أو لا يشترطا شيئا ، فإن
اشترطاه بينهما فهو قراض ، وان اشترطاه للعامل فهو قرض ، وان اشترطاه للمالك فهو
بضاعة ، وان لم يشترطا شيئا فكذلك ، الا أن للعامل أجرة المثل ، ونحوه قال في
التذكرة.
واعترضهما المحقق الأردبيلي هنا في موضعين : أحدهما ـ في
البضاعة ، حيث حكما بأن للعامل أجرة المثل ، قال بعد نقل عبارة التذكرة قوله : «وعليه
أجرة المثل للعامل» محل التأمل ، لأن الأصل عدم لزوم الأجرة ، وما ذكر من أنه إذا
استعمل شخص بعمل له أجرة عادة لمثل هذا الشخص ، يستحق به أجرة المثل ان ثبت ذلك ،
وكان ما نحن فيه من ذلك القبيل يكون له أجرة المثل ، والا فهو متبرع لما مر.
انتهى.
وحاصله يرجع الى قيام احتمال التبرع ، فالحكم بالأجرة مع
الإطلاق يحتاج الى دليل ، وليس فليس ، وهو جيد.
وثانيهما ـ قولهما في صورة ما إذا اشترطا الربح للعامل
أنه قرض ، فان ظاهره المنع من الحكم بكونه قرضا بمجرد هذا الشرط ، قال (رحمة الله
عليه) : وكذا قوله : «كان المال قرضا ودينا» فان القرض يحتاج إلى صيغة خاصة ، وله
أحكام خاصة ، والمفروض عدم وجودها من المالك ، فكيف يحكم بوجوده ، وترتب أحكامه
عليه ، ولان خروج المال عن ملك مالكه ودخوله في ملك آخر يحتاج الى ناقل ، وما وجد
الا نحو قوله : «اتجر فيه فيكون الربح لك» وغير معلوم كون هذا المقدار مملكا ،
باعتبار أن كون الربح له فرع كون المال له ، فكأنه قال : المال لك بالعوض ، فربحه
لك ، لان الاكتفاء في خروج مال عن ملكه ودخوله في ملك آخر بمثله من غير دلالة شرع
به مشكل ، على أنه قد يكون العامل أو القائل جاهلا لا يعلم أنه لا يمكن كون المال
باقيا على ملكه ، وكون الربح للعامل ، إذ يكون مقصوده إعطاء الربح للعامل ، بعد ان
كان له ، وبالجملة ان وجد دليل مفيد لنقل الملك مع العوض يكون قرضا ، والا فلا.
انتهى.
وهو جيد أيضا ، الا أنه يمكن الجواب هنا بأنه ليس المراد
ثبوت القرض وحصوله بمجرد هذا الاشتراك بل مع حصول القرض أولا بصيغته الدالة عليه ،
والا لورد ما قاله أيضا بالنسبة إلى القراض الذي هو محل البحث ، فإنه لا بد فيه من
صيغة خاصة عندهم ، مع أن ظاهر هذا الكلام الاكتفاء بمجرد هذا الاشتراط ، وهم لا
يقولون به.
وبالجملة فالمراد انما هو أن اشتراط الربح لهما معا انما
يكون في القراض ، واشتراطه للعامل خاصة انما يكون في القرض ، وللمالك خاصة انما
يكون في البضاعة ، وهذا لا يدل على حصول القراض بمجرد هذا الاشتراط كما يوهمه ظاهر
الكلام المتقدم ، ولا على حصول القرض كذلك (1).
__________________
(1) قال في المسالك : وعقد القراض مركب من عقود كثيرة لأن
العامل مع صحة
على أنه يمكن الاستدلال هنا بما رواه في الكافي والتهذيب
عن محمد بن قيس (1) في الصحيح عن
أبي جعفر (عليهالسلام) : قال : قال
أمير المؤمنين (ع): من اتجر مالا واشترط نصف الربح فليس عليه ضمان ، وقال : من ضمن
تاجرا فليس له الا رأس ماله ، وليس له من الربح شيء».
ومثله موثقة محمد بن قيس (2) عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : قضى
على (عليهالسلام) في تاجر اتجر
بمال واشترط نصف الربح فليس على المضارب ضمان. وقال ايضا : «من ضمن مضاربة فليس له
الا رأس المال ، وليس له من الربح شيء».
والتقريب فيهما أنه بمجرد تضمين المالك للمضارب يصير
المال قرضا ، ويخرج عن المضاربة ، وان لم يتقدم هناك عقد القرض أولا ، وهو في معنى
اشتراط الربح للعامل ، فإن الأمرين من لوازم القرض.
قال في الوافي بعد نقل الخبرين المذكورين : أريد
بالحديثين أن في المضاربة لا ضمان على العامل ، فان اشترط عليه الضمان يصير قرضا
انتهى. ومرجعه إلى أنه باشتراطه الضمان كأنه قصد أن المال يكون قرضا حينئذ ، كما
أنه باشتراط الربح للعامل خاصة كأنه قصد ذلك ، وبه يندفع الإيراد الثاني ، وأما
الأول فهو لازم.
والكلام في هذا الكتاب يقع في مقاصد أربعة :
الأول : في العقد وما يلحق به ، وفيه مسائل الأولى ـ قال
العلامة في
__________________
التعدد وعدم ظهور ربح ودعى أمين ، ومع ظهوره شريك ومع التعدي
غاصب وفي تصرفه وكيل ومع فساد العقد أجير. انتهى. أقول : الظاهر أن المراد أنه
يترتب على هذا العقد من اللوازم باعتبار وجود بعض الأمور وعدم بعض ما يترتب على
تلك العقود ، لان تلك العقود حاصلة في ضمن العقد كما يشعر به ظاهر الكلام. منه رحمهالله.
(1 و 2) الكافي ج 5 ص 240 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 188 ح 16 ،
الوسائل ج 13 ص 185 ح 2 و 4.
التذكرة : لا بد في هذه المعاملة من
لفظ دال على الرضا من المتعاقدين ، إذ الرضاء من الأمور الباطنية التي لا يطلع
عليها الا الله تعالى ، وهذه المعاملة كغيرها من المعاملات يشترط فيها الرضا للاية
، واللفظ الدال على الإيجاب أن يقول رب المال : ضاربتك أو قارضتك أو عاملتك على أن
يكون الربح بيننا نصفين ، أو أثلاثا ، أو غير ذلك من الوجوه ، بشرط تعيين الأكثر
لمن هو منهما ، والأقل كذلك ، والقبول أن يقول العامل قبلت أو رضيت أو غيرهما من
الألفاظ الدالة على الرضاء بالإيجاب ، وكذا الإيجاب لا يختص لفظا فلو قال : خذه
واتجر به على أن ما سهل الله في ذلك من ربح وفائدة يكون بيننا على السوية ، أو
متفاوتا جاز ، ولا بد من القبول على التواصل المعتبر في سائر العقود ، وهل يعتبر
اللفظ؟ الأقرب العدم ، فلو قال : خذ هذه الدراهم واتجر بها على أن الربح بيننا على
كذا ، فأخذها واتجر بها فالأقرب الاكتفاء به في صحة العقد ، كالوكالة ويكون قراضا.
ثم نقل عن جملة من العامة أنه لا بد من القبول ، بخلاف
الوكالة ، فإن القراض عقد معاوضة ، فلا يشبه الوكالة التي هي اذن ، ثم قال :
والوجه الأول.
أقول : قد عرفت في غير موضع مما تقدم سهولة الأمر في
العقد ، وأنه ليس الا ما دل على التراضي بتلك المعاملة ، وظاهر كلامه هنا وكذا
كلام غيره الاكتفاء بما دل على الرضا ، وان كان فعلا في جانب القبول.
قال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة : وفي اشتراط وقوع
قبوله لفظا أو جوازه بالفعل ، قولان : لا يخلو ثانيهما من قوة ، وبذلك يظهر لك ما
في قوله : «فلا بد من القبول على التواصل المعتبر في سائر العقود» من التأمل ،
فإنه متى صح القبول بالفعل دون القول فلا معنى لاشتراط التواصل الذي هو عبارة
عندهم
عن تعقيب الإيجاب بالقبول ، وعدم
الفصل بينهما ، فان هذا انما يتجه فيما لو كان القبول لفظا ، الا أن يراد أنه لا
بد من التواصل وان كان القبول فعلا ، بأن يكون الأخذ بعد الإيجاب بلا فصل ، وهو
بعيد.
وبالجملة فإنه لا دليل على اعتبار هذه المقارنة ، بل
ربما دلت ظواهر جملة من الاخبار المشتملة على العقود على خلاف ذلك ، والأصل إناطة
صحة العقد بالرضا ، والألفاظ الدالة عليه من الطرفين ، فان ذلك غاية ما تدل عليه
الآية والروايات ، وما عداه من المقارنة المذكورة خال من الدليل ، ولا خلاف بينهم
في أن القراض من العقود الجائزة من الطرفين ، ويؤيده أنه وكالة في الابتداء ، ثم
قد يصير شركة بعد العمل ، وكل من الوكالة والشركة من العقود الجائزة ، ولا فرق في
ذلك بين انضاض المال بمعنى صيرورته دراهم بعد أن كان عروضا ، أو كان عروضا لم ينض
، فلكل منهما فسخه وان كان عروضا ، وليس لصاحب المال أن يكلف المضارب بإنضاض
العروض بان يصيرها دراهم كالأول وليس للمضارب أيضا أن يقول للمالك اصبر حتى ينض
المال.
الثانية : في جملة من
الشروط الواقعة في العقد ، قال في التذكرة : يجب التنجيز في العقد ، فلا يجوز
تعليقه على شرط أو صفة مثل إذا دخلت الدار أو إذا جاء رأس الشهر فقد قارضتك ، وكذا
لا يجوز تعليق البيع ونحوه لأن الأصل عصمة مال الغير. انتهى.
أقول : لا يخفى ما في دليله من تطرق النظر إليه ، فإن
عموم الأدلة الدالة على جواز هذا العقد من آية ورواية شامل لما ذكره ، فإنه تجارة
عن تراض ، وعقد المضاربة التي قدمنا نقله عنه في صدر الكتاب شامل له.
وبالجملة فإنه لا دليل يعتمد عليه في ما ذكره من البطلان
بهذا الشرط ، والأصل عدمه ولو قال ضاربتك سنة بمعنى انه جعل أجلا للمضاربة لم تلزم
المضاربة في هذه المدة ، بل لكل منهما
فسخها قبل الأجل ، والشرط والعقد صحيحان ، أما الشرط ففائدته المنع من التصرف بعد
السنة ، لأن جواز التصرف تابع للاذن عن المالك ، ولا اذن بعد المدة المذكورة ،
وأما العقد فإنه لا مانع من صحته الا ما ربما يتوهم من هذا الشرط ، وهو غير مناف
لمقتضى العقد ، إذ غايته أن التصرف ليس مطلقا بل محدود بوقت معين ، وهو صحيح لما
عرفت ، وكذا لو قال له : ان مرت بك سنة فلا تشتر وبع ، أو قال : فلا تبع واشتر ،
فان العقد صحيح ، وكذا الشرط لعين ما عرفت ، من أن أمر البيع والشراء منوط بنظر
المالك وأمره ، فله المنع منهما بعد السنة ، أو من أحدهما بطريق اولى ، وهذا بخلاف
ما لو شرط اللزوم ، بأن قال : على أنى لا أملك منعك ، فان هذا الشرط مناف لمقتضى
العقد ، إذ مقتضاه كما عرفت الجواز ، فيكون الشرط المذكور باطلا ، وبه يبطل العقد
على المشهور من أن العقد المشتمل على شرط فاسد باطل ، وشرط الأجل مرجعه الى تقييد
التصرف بوقت خاص ، وهو غير مناف لمقتضى العقد كما عرفت.
ولو شرط عليه أن لا يشترى الا من زيد ، ولا يبيع الا على
عمرو أولا يشتري إلا المتاع الفلاني ، أو لا يسافر الا الى البلد الفلانية ، أو لا
يسافر بالكلية صح ووجب عليه العمل بالشرط فان خالف ضمن ، لكن لو ربح كان الربح
بينهما.
ويدل على ذلك جملة من الاخبار منها ما رواه ثقة الإسلام
والشيخ عن محمد بن مسلم (1) في الصحيح عن
أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته
عن الرجل يعطى المال مضاربة ، وينهى أن يخرج به فخرج قال : يضمن المال ، والربح
بينهما».
وروى الحلبي (2) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليهالسلام) أنه قال :
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 240 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 189 ح 836.
(2) المصدر ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 181 ح 1 و 2.
في الرجل يعطى الرجل المال فيقول له :
ائت أرض كذا وكذا ولا تجاوزها ، واشتر منها قال : فان جاوزها وهلك المال فهو ضامن
، وان اشترى متاعا فوضع فيه فهو عليه وان ربح فهو بينهما».
وما رواه من الكافي عن ابى الصباح الكناني (1) في الحسن «عن
أبى عبد الله (عليهالسلام) في الرجل
يعمل المال مضاربة قال : له الربح وليس عليه من الوضيعة شيء ، الا أن يخالف عن شيء
مما أمره صاحب المال».
وما رواه الشيخ في التهذيب عن أبى بصير (2) «عن أبي عبد
الله (عليهالسلام) في الرجل
يعطى الرجل مالا مضاربة ونهاه أن يخرج به الى أرض أخرى ، فعصاه فقال : هو له ضامن
، والربح بينهما إذا خالف شرطه وعصاه». وعن الحلبي (3) في الصحيح عن
ابي عبد الله (عليهالسلام) «قال المال
الذي يعمل به مضاربة له من الربح وليس عليه من الوضيعة شيء ، الا أن يخالف أمر
صاحب المال».
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن أبى الصباح (4) «قال سألت أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن المضاربة
يعطى الرجل المال يخرج به الى الأرض ، ونهى أن يخرج به الى أرض غيرها ، فعصى فخرج
به الى أرض أخرى فعطب المال ، فقال : هو ضامن ، وان سلم فربح فالربح بينهما».
وما رواه الشيخ عن جميل (5) «عن أبي عبد
الله (عليهالسلام) في رجل دفع
الى رجل ما لا يشترى به ضربا من المتاع مضاربة ، فذهب فاشترى به غير الذي أمره به
، قال : هو ضامن ، والربح بينهما على ما شرط».
وهذه الرواية في طريقها معاوية بن حكيم ، وهو وان قال
النجاشي :
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 241 ح 7.
(2 و 3) التهذيب ج 7 ص 187 ح 13.
(4 و 5) التهذيب ج 7 ص 189 ح 23 ، الفقيه ج 3 ص 143 ح 1 وهذه
الرواية في الوسائل ج 13 ص 181.
انه ثقة جليل ، الا أن الكشي قال :
انه فطحي ، وهو عدل عالم ، وبذلك يظهر لك ما في قول المحقق الأردبيلي ان هذه
الرواية أصح الروايات التي في هذا الباب.
وما رواه الشيخ عن الشحام (1) عن أبي عبد
الله (عليهالسلام) في المضاربة
إذا أعطى الرجل المال ونهى أن يخرج المال إلى أرض أخرى ، فعصاه فخرج به ، فقال :
هو ضامن والربح بينهما».
وهذه الاخبار على كثرتها وتعددها فقد اشتركت في الدلالة
على أن الربح بينهما مع المخالفة ، وضمان العامل لو عطب المال أو حصلت فيه نقيصة ،
وهو لا يوافق قواعدهم.
ولهذا قال في المسالك : ولو لا النص لكان مقتضى لزوم
الشرط فساد ما وقع مخالفا أو موقوفا على الإجازة ، انتهى.
وتوضيحه ما عرفت من أن القراض في معنى الوكالة ، بل هو
وكالة ، وحينئذ فان لم يكن وكيلا في شراء عين فكيف يصح الشراء ، ويترتب عليه حل
الربح بينهما ، وكذا فيما لو نهى عن السفر إلى جهة أو البيع أو الشراء على شخص
بعينه ، مع أنه في الوكالة لا تصح ذلك ، فإنه متى وكل على أمر مخصوص وتجاوزه إلى
أمر آخر غير ما وكل عليه فإنه يكون بيعه وشرائه باطلا ، وكيف يستحق ربح عمل لم يكن
مأذونا فيه ، ولا مقارضا عليه ، بل يكون آثما ضامنا مع أن الاخبار كما عرفت قد
اتفقت على حل الربح ، وأنه بينهما.
وهو مؤيد لما قدمناه في غير مقام من أن الواجب هو الوقوف
على مقتضى الاخبار ، وان خالفت مقتضى قواعدهم ، ومن الجائز تخصيص قواعدهم بهذه
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 191 ح 32 ، الوسائل ج 13 ص 183 ح 11.
الاخبار ، فيكون ما دلت عليه مستثنى
من مقتضى تلك القواعد ، كما قدمنا مثله مرارا.
وأما ما ارتكبه المحقق الأردبيلي هنا من الاحتمالات
البعيدة ، والتمحلات غير السديدة ، فلا يخفى ما فيه على من تأمله ، وتدبر ما في
باطنه وخافية.
ولو اشترط أن يشترى أصلا يشتركان في نمائه كالشجر والغنم
ونحوهما ، قيل : يفسد العقد ، لان مقتضى عقد المضاربة التصرف في رأس المال بالبيع
والشراء ، وتحصيل الربح بالتجارة ، ومن هنا استحق العامل حصته من الربح في مقابلة
هذا العمل ، وما ذكر هنا ليس كذلك ، لأن فوائده تحصل من غير تصرف بل من عين المال
، وتردد بعضهم في الصورة المذكورة نظرا ـ الى ما ذكر مما يدل على البطلان ـ والى
أن حصول هذه الأشياء انما وقع بسبب سعى العامل ، إذ لو لا شرائه لم يحصل النماء ،
وذلك من جملة الاسترباح بالتجارة ، فيكون صحيحا.
وضعف الثاني بأن الحاصل بالتجارة هو زيادة القيمة لما
وقع عليه العقد لا نماؤه الحاصل مع بقاء عين المال ، وبأن المضاربة تقتضي معاوضتين
، أحدهما بالشراء ، والأخرى بالبيع ، وأقل ما يتحققان بمرة ، وبها يظهر الربح.
والتحقيق أن الفرع المذكور لما كان غير منصوص ، فالحكم
فيه بأحد الوجهين مشكل ، والبناء على هذه العلل الاعتبارية مجازفة في الأحكام
الشرعية المطلوب فيها العلم واليقين بالاستناد إلى السنة النبوية ، أو الكتاب
المبين ، ولا سيما مع تعارضها وتدافعها كما عرفت.
ثم انه على تقدير القول بفساد المضاربة ، الظاهر أنه لا
مانع من صحة الشراء المذكور ، لدخوله تحت إطلاق الإذن للعامل بالبيع والشراء ،
فيكون
النماء الحاصل بأجمعه للمالك ، وعليه
أجرة المثل للعامل ، ويحتمل البطلان بالنظر الى أنه مأذون في البيع والشراء الذي
يقع في المضاربة بأن يترتب عليه الربح لا مطلقا ، بحيث يشمل ما وقع هنا هذا.
وينبغي أن يعلم ان الممتنع على القول به انما هو مع
انحصار الربح في النماء المذكور ، كما يقتضيه هذه المعاملة ، والا فلا مانع من كون
النماء بينهما مع عدم انحصار الربح فيه على بعض الوجوه ، بأن يشترى شيئا له غلة ،
فظهرت غلته قبل أن يبيعه ، فإن الغلة تكون من جملة الربح الذي يحصل بعد البيع
ويكون الجميع بينهما على ما شرطاه والله العالم.
الثالثة : متى صحت المضاربة فللعامل تولى ما يتولاه
المالك من عرض القماش ونشره وطيه وإحرازه ، وبيعه وقبض ثمنه ، والاستيجار على نقله
أن احتيج اليه ، ودفع الأجرة في ما جرت العادة بدفعها فيه ، كالدلال والحمال ،
واجرة الكيل والوزن ، ونحو ذلك ، والوجه فيه أنه لما كانت المضاربة معاملة على
المال لتحصيل الربح كان إطلاق العقد مقتضيا لفعل ما يتولاه المالك لو باشر ذلك
بنفسه من هذه الأشياء ، وكلما لم تجر العادة بالاستيجار عليه لو استأجر عليه ، فالأجرة
من ماله لا يلحق المالك منها شيء ، حملا للإطلاق على المتعارف وما جرت العادة
بالاستيجار عليه لو عمله بنفسه فهو متبرع ، لا يستحق عليه أجرة.
ولو قصد بالعمل الأجرة بأن يأخذ الأجرة كما يأخذ غيره
ففي استحقاقه لها احتمال قوى ، خصوصا على القول بأن للوكيل في البيع أن يبيع على
نفسه ، وفي الشراء أن يشترى لنفسه ، فيكون له أن يستأجر نفسه أيضا ، ولكن إطلاق
الأصحاب يقتضي العدم ، وهو الأحوط وأما لو أذن له المالك في ذلك زال الاشكال. والله
العالم.
الرابعة : المشهور بين الأصحاب أن جميع ما ينفقه في
السفر للتجارة من رأس المال سواء كانت النفقة زيادة على نفقة الحضر أو ناقصة أو
مساوية ، وكل ما يحتاج إليه للأكل والشرب لنفسه ودوابه وخدامه حتى القرب والجواليق
ونحوهما ، الا أنها بعد انتهاء السفر والاستغناء عنها يكون كل ذلك من أصل المال ،
سواء حصل له ربح أم لا.
وقيل : انه لا يخرج من أصل المال ، الا ما زاد على نفقة
الحضر ، للإجماع على أن نفقة الحضر على نفسه ، فما ساواه في السفر يحتسب أيضا عليه
، والزائد على ذلك من مال القراض ، وأيد ذلك بعضهم بأنه انما حصل بالسفر الزيادة
لا غير ، اما غيرها فسواء كان مسافرا أم حاضرا لا بد منها ، فلا يكون من مال
القراض.
وقيل : ان نفقة السفر كلها على العامل كنفقة الحضر ،
وعلل بأن الربح مال المالك ، والأصل أن لا يتصرف فيه الا بما دل عليه الاذن ، ولم
يدل الا على الحصة التي عينها للعامل ، وهو لم يدخل في العمل الا على هذا الوجه ،
فلا يستحق سواه.
ويدل على القول الأول ما رواه الكليني في الصحيح «عن على
بن جعفر (1) عن أخيه أبي
الحسن (عليهالسلام) قال : في
المضارب ما أنفق في سفره فهو من جميع المال ، فإذا قدم بلده فما أنفق من نصيبه».
وعن السكوني (2) عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال
أمير المؤمنين (عليهالسلام) : في
المضاربة» الحديث.
ورواه في الفقيه (3) مرسلا «قال : قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) : مثله» وبه
يظهر قوة القول المشهور ، وأنه المؤيد المنصور ، فلا يلتفت الى هذه التخريجات
الضعيفة ، والتعليلات السخيفة كما عرفت في غير مقام.
__________________
(1 و 2) الكافي ج 5 ص 241 ح 5.
(3) الفقيه ج 3 ص 144 الحديث 5 وهذه الروايات في الوسائل ج 13
ص 187 باب 6.
تنبيهات :
الأول : المراد بالسفر هنا هو السفر العرفي لا الشرعي ،
وهو ما يجب فيه القصر ، فلو كان السفر قصيرا أو أقام في الطريق وأتم الصلاة فنفقة
تلك المدة من أصل المال ، الا أنه يجب الاقتصار في ذلك على ما يحتاج إليه التجارة
، فلو أقام زيادة على ما يحتاج اليه كان الزائد عليه.
الثاني : قد عرفت أن المراد بالنفقة ما يحتاج اليه من
مأكول وملبوس ومشروب له ، ولمن في صحبته ممن يتوقف عليه سفره وآلات السفر وأجرة
المسكن ، ونحو ذلك ، ويراعى فيها ما يليق بحاله شرفا وضعة ووسطا على وجه الاقتصاد
، فلو أسرف حسب عليه ، وان قتر على نفسه لم يحتسب له ، لأن الذي له ما أنفق على
الوجه المتقدم ، وبعد العود من السفر ، فما بقي من أعيان النفقة ، ولو من الزاد
يجب رده الى مال التجارة أو تركه وديعة عنده الى أن يسافر ان كان ممن يتكرر سفره ،
ولم يكن بيعه أعود على التجارة من تركه.
الثالث : لو شرط
المالك على العامل عدم النفقة لم يجز له الإنفاق من المال اتفاقا ، ولو أذن له في
الإنفاق بعد ذلك فهو تبرع محض ، وقد عرفت أنه مع الإطلاق فالأشهر الأظهر ثبوتها ، فلو
شرطها والحال هذه كان ذلك تأكيدا ومخرجا من الخلاف المتقدم ، وان كان ضعيفا كما
عرفت ، وعلى هذا فهل يشترط تعيينها حينئذ حذرا من الجهالة في الشرط الذي هو جزء من
العقد ، فتسرى الجهالة إلى العقد ويؤيده اشتراط نفقة الأجير حيث لا يثبت على
المستأجر ، فإنه لا بد من تعيينها كما ذكروه أم لا؟ نظرا الى أن الأشهر الأظهر كما
عرفت ثبوتها بمجرد العقد مع عدم اعتبار وجوب ضبطها فلا يجب ضبطها بالشرط إذ لا
يزيد الثبوت بالاشتراط على الثبوت بالأصل إشكال ، ولعل الثاني أقوى ورجح في
المسالك الأول.
الرابع : قد عرفت أنه لا
يشترط بالنفقة وجود ربح بل ينفق من أصل المال ، وان قصر المال ولم يكن ربح لكن لو
حصل الربح فإنه تخرج النفقة منه مقدمة على حق العامل.
الخامس : ما ذكرنا من
وجوب النفقة مخصوص بالسفر المأذون فيه ، فلو سافر الى غيره اما بتجاوز السفر
المأذون فيه الى مكان غير مأذون فيه أو الى جهة غير جهة السفر المأذون فيه فلا
نفقة له ، وان كانت المضاربة صحيحة والربح بينهما كما عرفت آنفا.
السادس : لو تعدد
أرباب المال الذي في يده بأن كان بعضه له مثلا ، وبعضه لزيد ، وبعضه لثالث ،
وهكذا. قسطت النفقة على حسب المال ، فلو كان نصف المال للعامل ، ونصفه للمالك كانت
النفقة انصافا ، وهكذا. هذا هو الأظهر الأشهر.
وقيل : بأن التقسيط بنسبة العملين اى ما يعمله لكل واحد
من أصحاب المال ، ورد بأن استحقاق النفقة في مال المضاربة منوط بالمال ، ولا ينظر
الى العمل ، قالوا : ولا فرق في التقسيط بين أن يكون قد شرطها على كل واحد منهما
أو أطلق ، بل له نفقة واحدة عليهما على التقديرين ، لان ذلك منزل على اختصاص
المشروط عليه بالعمل.
هذا مع جهل كل واحد منهما بالاخر ، أما لو علم صاحب
القراض الأول بالثاني ، وشرط على ماله كمال النفقة جاز ، واختصت به ، ولا شيء على
الثاني.
السابع : لو اتفق موته
أو مرضه في السفر كان ما ينفق في ذلك من ماله ، إذ لا تعلق لذلك بالتجارة ،
واستثنى بعضهم ما لو كان معلوما أنه لو كان في بلده لم يمرض ، أو أن مؤنة مرضه
يكون في الحضر ، وفي بلده أرخص منها في تلك البلد ، قال فيمكن حينئذ احتساب
الزيادة من مال المضاربة.
الثامن : لو سافر بالمال للمضاربة فاتفق عزله في السفر ،
وانتزع المال منه كانت نفقة الرجوع عليه ، لأنه إنما استحق النفقة في السفر
للمضاربة ، وقد ارتفعت بالفسخ وعزله عنها.
وما توهمه بعض العامة من حصول الضرر عليه مردود ، بأن
دخوله في عقد يجوز فسخه كل وقت قدوم منه على ذلك ، وهذا القائل أثبت له نفقة
الرجوع لما ذكره وفيه ما عرفت. والله العالم.
الخامسة : قد صرح جملة من الأصحاب بأن مقتضى إطلاق الاذن
في المضاربة هو البيع نقدا بثمن المثل من نقد البلد ، فلو خالف لم يمض الا مع
اجازة المالك ، وكذا مقتضى الإطلاق هو ان يشترى بعين المال ، فلو اشترى في الذمة
لم يصح الا مع الإجازة.
وتفصيل الكلام في هذه الجملة أن يقال انه لما كان عقد
المضاربة محمولا على ما هو المتعارف في التجارة والموجب لتحصيل الربح وجب قصر تصرف
العامل على ما يوجب حصول الغاية المذكورة.
قال في التذكرة : لما كان الغرض الأقصى من القراض تحصيل
الربح ، والفائدة وجب أن يكون تصرف العامل مقصورا على ما يحصل هذه الغاية الذاتية
وان يمنع من التصرف المؤدي الى ما يضادها فينفذ تصرفه بما فيه الغبطة والفائدة ،
كتصرف الوكيل للموكل لأنها في الحقيقة نوع وكالة ، وان كان له أن يتصرف في نوع مما
ليس للوكيل التصرف به تحصيلا للفائدة ، فإن له أن يبيع بالعروض ، كما له أن يبيع
بالنقد بخلاف الوكيل ، فان تصرفه في البيع انما هو بالنقد خاصة ، لأن المقصود من
القراض الاسترباح ، والبيع بالعروض قد يكون وصلة اليه وطريقا فيه ، وأيضا له أن
يشترى المعيب إذا رأى فيه ربحا بخلاف
الوكيل. انتهى.
وحينئذ فليس له البيع الا نقدا لما في النسية من التغرير
بمال المالك وجعله في معرض التلف ، كما في الوكالة ، مع أنه يمكن أن يكون في بعض
الأحوال حصول الربح في جانب النسية مع المصلحة وأمن التلف ، الا أنهم منعوا من ذلك
مطلقا ، وكأنهم بنوا على أن الأغلب في مثل ذلك التلف ، والتعرض له محل خطر وتغرير
، وكذا ليس له البيع الا بثمن المثل ، وهو ظاهر ، لان البيع بدونه تضييع على
المالك ، مع أنه يمكن حصول الزائد ، وأما البيع بنقد البلد فلان الإطلاق في
الوكالة انما ينصرف اليه ، والقراض في معناه ، فلذا أطلقوا الحكم هنا.
وفيه أن القراض قد يفارق الوكالة في بعض الموارد ، لان
القرض المطلوب به تحصيل الربح قد يتفق في غير نقد البلد كالعروض ، واليه يميل كلام
الشهيد الثاني في المسالك ، فيجوز البيع بغير نقد البلد مع ظهور الغبطة ، وحصول
المصلحة لأنها هي المدار في القراض وهو الظاهر من كلام التذكرة المذكور ، وتردد في
القواعد.
وبالجملة فإنه لما كان المدار في القراض انما هو تحصيل
الربح والفائدة فينبغي أن يترتب الجواز عليه ، سواء كان في البيع بالعروض التي هي
غير نقد البلد ، أو في البيع بالنسية التي ليست نقدا ، بل يمكن أيضا في البيع بأقل
من ثمن المثل إذا اقتضته المصلحة ، وترتبت عليه الغبطة ، بأن يبيع بأقل من ثمن
المثل ، ويشترى مالا فيه ربح كثير ، فإطلاق الجماعة المذكورة أن إطلاق الاذن في
المضاربة يقتضي الأمور المذكورة محل تأمل كما ظهر لك ، والحمل على الوكالة غير
مطرد كما عرفت من كلامه في التذكرة.
والعجب انهم اعترفوا بذلك في شراء المعيب ، فجوزوا
للعامل شراء
المعيب إذا رأى الغبطة في شراءه بحصول
الربح فيه ، حيث أنه المدار في القراض مع أن ذلك لا يجوز للوكيل ، وحينئذ فالواجب
بمقتضى ذلك هو دوران الحكم جوازا ومنعا مدار الغرض المذكور وجودا وعدما ، هذا كله
مع إطلاق الاذن.
أما لو أذن له في شيء من هذه الأمور خصوصا أو عموما
كتصرف حيث شئت ، وبع بما أردت ، واعمل بحسب رأيك ونظرك ، فالظاهر حينئذ هو الجواز
في جميع ما ذكرناه (1).
أما قوله في المسالك أنه يجوز له البيع بالعروض قطعا
وأما النقد وثمن المثل فلا يخالفهما الا بالتصريح ، فانى لا أعرف له وجها وجيها مع
دخوله في الإطلاق المذكور ، سيما مع ظهور الغبطة ، كما شرحناه آنفا.
وكيف كان فإنه يستثني من ثمن المثل نقصان ما يتسامح
الناس به عادة فلا يدخل تحت المنع.
ثم انه لو خالف العامل ما دل عليه اللفظ بخصوصه أو
إطلاقه ، فهل يقع العقد باطلا أم صحيحا موقوفا على اجازة المالك ، المشهور الثاني
، بناء على ما هو المشهور بينهم من صحة البيع الفضولي ، وان لزومه موقوف على اجازة
المالك ، وحينئذ فإن أجاز نفذ البيع ولزم فعلى تقدير كون البيع نسية فان حصل الثمن
فلا اشكال والا ضمن العامل الثمن للمالك لثبوته بالبيع الصحيح
__________________
(1) أقول : ويؤيد ما ذكرناه ، ما صرح به العلامة في المختلف
حيث قال : قال الشيخ في المبسوط : إذا دفع اليه مالا قراضا وقال له اتجر به أو قال
: اصنع ما ترى أو تصرف كيف شئت فإنه يقتضي أن يشترى بثمن مثله ، نقدا بنقد البلد ،
والوجه عندي أن له البيع كيف شاء سواء كان بثمن المثل أم لا ، وبنقد البلد أو لا ،
وحالا أو لا ، لانه جعل المشية إليه. نعم انه منوط بالمصلحة انتهى ، وهو ظاهر فيما
قلناه وقد وفقني الله سبحانه للوقوف عليه بعد ذكرنا ما ذكرناه في الأصل فنقلنا
كلامه في الحاشية وهو من نوادر الخاطر ، منه رحمهالله.
لا القيمة ، وان لم يجز المالك ذلك
وجب استرداد المبيع مع إمكانه فلو تعذر ضمن قيمة المبيع ان كان قيميا أو مثله ان
كان مثليا ، لا الثمن المؤجل وان كان أزيد من القيمة ، ولا التفاوت في صورة
النقيصة ، لأنه مع عدم اجازة المالك البيع يكون البيع باطلا ، فيضمن للمالك عين
ماله الذي تعدى فيه وسلمه من غير إذن شرعي ، هكذا قالوا (رضى الله عنهم).
وفيه ما حققناه سابقا في كتاب البيع في مسئلة البيع
الفضولي (1) من الإشكالات
التي أوردناها عليهم في هذا المقام ، هذا كله مع القول بصحة العقد الفضولي.
وأما على ما اخترناه من القول ببطلانه كما قدمنا تحقيقه
ثمة فالأمر واضح ، وأما اقتضاء الإطلاق الاشتراء بعين المال فلان المضاربة إنما
وقعت على ذلك المال والوكالة التي اقتضتها المضاربة انما تعلقت بذلك المال ،
والربح الذي اشترطه العامل انما تعلق بذلك المال.
وأيضا فإنه ربما يتطرق التلف الى رأس المال ، فتبقى عهدة
الثمن متعلقة بالمالك ، وقد لا يمكنه الخروج منها ، وعلى هذا فلو اشترى في الذمة
من غير اذن المالك وقف على اجازة المالك بناء على ما تقدم من الحكم بصحة البيع
الفضولي ولو اشترى في الذمة ولم يعين العقد لا للمالك ولا لنفسه وقع الشراء له
ظاهرا وباطنا ، وان عينه لنفسه تعين له أيضا وان عينه للمالك فإنه مع الاذن لازم ،
وبدونه فهو كما عرفت أولا يكون موقوفا على اجازة المالك ، بناء على صحة البيع
الفضولي ، وأن عين المالك بنية وقع للعامل ظاهرا وتمام تحقيق الكلام في المقام
يأتي إنشاء الله في كتاب الوكالة والله العالم.
__________________
(1) ج 18 ص 376.
السادسة : لا خلاف بين
الأصحاب فيما أعلم في أنه مع موت كل منهما تبطل المضاربة ، لان بالموت يخرج المال
عن ملك المالك ويصير للورثة ، فلا يجوز التصرف بالإذن الذي كان من المورث ، بل لا
بد من اذن الوارث ، هذا مع موت المالك.
وأما مع موت العامل فلان المأذون له في المضاربة كان هو
العامل لا وارثه فلا يجوز لوارثه التصرف إلا بإذن جديد ، وهو المراد من بطلان
المضاربة هنا ، ولأنها أيضا من العقود الجائزة فتبطل بما تبطل به من موت كل منهما
أو جنونه أو إغمائه أو الحجر عليه للسفه.
ثم ان كان الميت هو المالك ، فان كان المال ناضا لا ربح
فيه أخذه الوارث ، وان كان فيه ربح اقتسمه العامل مع الورثة ، وتقدم حصة العامل
على الغرماء ، لو كان على الميت ديون مستوعبة لملكه لحصته من الربح ، بظهوره ،
فكان شريكا للمالك ، ولان حقه متعلق بعين المال لا بذمة المالك ، وان كان المال
عروضا فللعامل بيعه رجاء الربح ، والا فلا ، وللوارث إلزامه بالإنضاض ، وسيأتي
تحقيق الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى في مسئلة الفسخ.
وان كان الميت هو العامل ، فان كان المال ناضا ولا ربح
أخذه المالك ، وان كان فيه ربح دفع الى الورثة حصة مورثهم منه ، ولو كان عروضا
واحتيج الى البيع والتنضيض فان أذن المالك للوارث في ذلك جاز ، والا عين له الحاكم
أمينا يبيعه ، فان ظهر فيه ربح أوصل حصة الوارث اليه ، والا سلم الجميع الى المالك
والله العالم.
المقصد الثاني في مال القراض :
والبحث يقع فيه في مواضع الأول لا خلاف بين الأصحاب في
أنه يشترط في مال القراض أن يكون عينا لا دينا وان يكون دراهم أو دنانير ، ونقل في
التذكرة الإجماع على ذلك.
أقول : ويدل على كونه عينا لا دينا ما رواه المشايخ
الثلاثة عن السكوني (1) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) قال : «قال
أمير المؤمنين (عليهالسلام) : في رجل له
على رجل مال فتقاضاه ولا يكون عنده ما يقتضيه ، فيقول : هو عندك مضاربة ، قال : لا
يصلح حتى يقبضه منه». وهو صريح في المطلوب ولا يضر ضعف السند خصوصا مع تلقى
الأصحاب له بالقبول وإجماعهم على ذلك.
ومثله ما لو أذن للعامل في قبضه من الغريم ، فإنه لا
يخرج بذلك عن كون المضاربة قد وقعت بالدين ، الا أن يجدد العقد بعد القبض.
وأما اشتراط كونه دراهم أو دنانير فقد اعترف جملة من
الأصحاب بأنهم لم يقفوا له على دليل غير الإجماع المدعى في المقام ، والظاهر أنه
كذلك ، حيث انا لم نقف بعد الفحص والتتبع على دليل من النصوص على ذلك ، وتردد
المحقق في الشرائع في الجواز بالنقرة ، وهي بضم النون القطعة المذابة من الذهب
والفضة.
قال في المسالك : ومنشأ التردد فيها من عدم كونها دراهم
ودنانير الذي هو موضع الوفاق ، ومن مساواتها لهما في المعنى ، حيث أنها من النقدين
، وانما فاتها النقش ونحوه ، وانضباط قيمتها بها وأصالة الجواز ، ثم قال : وهذا
كله يندفع لما ذكرناه من اتفاقهم على اشتراط إحديهما ، ومع ذلك لا نعلم قائلا بجوازه
بها ، وانما ذكرها المصنف مترددا في حكمها ، ولم ينقل غيره فيها خلافا ، وإذا كانت
المضاربة حكما شرعيا فلا بد من الوقوف على ما ثبت الاذن فيه شرعا ، وربما أطلقت
النقرة على الدراهم المضروبة من غير سكة ، فإن صح هذا الاسم كان التردد من حيث
أنها قد صارت دراهم ودنانير : وانما تخلفت السكة وهي وصف في النقدين ، وربما لا
يقدح خصوصا إذا تعومل بهما على ذلك الوجه
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 240 ح 4 ، التهذيب ج 7 ص 192 ح 34 الفقيه ج 3
ص 144 ح 4 الوسائل ج 13 ص 187 باب 5.
ومما تقدم من وجوه المنع ، انتهى وهو
جيد.
أقول : لا يخفى أن من لا يلتفت الى دعوى مثل هذه
الإجماعات ، لعدم ثبوت كونها دليلا شرعيا فإنه لا مانع عنده من الحكم بالجواز في
غير النقدين نظرا الى عموم الأدلة الدالة على جوازه ، وتخصيصها يحتاج الى دليل
شرعي ، وليس فليس.
قالوا تفريعا على ما تقدم : فلا يصح المضاربة بالفلوس ،
ولا بالدراهم المغشوشة ، سواء كان الغش أقل أو أكثر ، ولا بالعروض (1) وأنت خبير بما
فيه بعد ما عرفت ، حيث أنه لا مستند لهم هنا أيضا سوى دعوى الإجماع.
ولكن ينبغي تقييد المنع من الدراهم المغشوشة بما لو كان
التعامل بها ساقطا ، والا فلو جرت في المعاملة فإنه لا مانع من المضاربة بها.
قال في المسالك : هذا إذا لم يكن متعاملا بالمغشوش ، فلو
كان معلوم الصرف بين الناس جازت به المعاملة ، وصح جعله مالا للقراض ، سواء كان
الغش أقل أو أكثر ، انتهى.
الثاني : قالوا : لو دفع آلة الصيد كالشبكة بحصة من
الصيد كان الصيد للصائد وعليه أجرة الإله ، وذلك لان هذه المعاملة ليست بمضاربة إذ
المضاربة كما هو المجمع عليه عندهم انما يكون بالدراهم والدنانير ، ولان مقتضى
المضاربة التصرف في عين المال المدفوع ، وإتلافه بالبيع أو الشراء ، وهنا ليس كذلك
، لا بالنسبة إلى الأول ولا الثاني. وليس أيضا بشركة ، لأنها هنا مركبة من شركة
__________________
(1) العروض بضم العين جمع عرض بفتحها وسكون الراء وفتحها أيضا
هو المتاع وكل شيء غير النقدين كما ذكره في القاموس ، وحكى الجوهري عن أبى عبيد
أن العروض هي التي لا يدخلها كيل ولا وزن ، ولا تكون حيوانا ولا عقارا ، وظاهر ،
إطلاقات الفقهاء في هذه الأبواب على المعنى الأول فإنهم يقابلون بها النقدين كما
لا يخفى على المتتبع منه رحمهالله.
الأبدان وغيرها ، وقد تقدم بطلانها مع
تميز مال صاحب الشبكة ، وعدم حصول الشركة فيه ، وليست أيضا بإجارة ، وهو ظاهر.
ثم ان الحكم هنا بكون الصيد للصائد خاصة يبنى على عدم
تصور التوكيل في تملك المباح ، كما هو أحد القولين ، والا فإنه يصير الصيد مشتركا
بينهما حسبما يراه الصائد ، وقد تقدم الكلام في ذلك في المسئلة الثالثة من الفصل
الثالث في اللواحق من الكتاب المتقدم (1) واحتمال أنه انما قصد الصيد لنفسه ،
ولم ينو مشاركة الأخر بعيد ، فان الظاهر أن دخوله انما كان على جهة الشركة.
قال في المسالك : وحيث يكون الصيد لهما فعلى كل منهما من
أجرة مثل الصائد والشبكة بحسب ما أصابه من الملك.
أقول : قد مر توضيح ذلك في المسئلة الثانية من الفصل المتقدم
ذكره من الكتاب المتقدم (2) ، ومرجعه الى
أن لكل منهما أجرة المثل فيرجع كل منهما على الأخر بما يخصه من ذلك.
الثالث : لا اشكال
ولا خلاف فيما إذا كان مال القراض معلوم المقدار معينا وان كان مشاعا ، لان
المشارع معين في نفسه مع كونه جامعا لباقي الشرائط ، ولا فرق بين أن يكون العقد مع
الشريك أو غيره ، ولو كان مشاهدا مع كونه مجهولا قيل : لا يصح للجهالة ، وقيل :
بالصحة لزوال معظم الضرر بالمشاهدة ، بل حكى في المختلف عن المشهور القول بجواز
المضاربة بالجزاف وان لم يكن مشاهدا محتجا بالأصل ، وقوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) «المؤمنون
عند شروطهم» (3).
__________________
(1) ص 189.
(2) ص 187.
(3) التهذيب ج 7 ص 371 ح 1503 ، الاستبصار ج 3 ح 835 ، الوسائل
ج 15 ص 30 ح 4.
أقول : قال الشيخ في الخلاف : لا يصح القراض إذا كان رأس
المال جزافا (1) لان القراض
عقد شرعي يحتاج الى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل على صحة هذا القراض ، فوجب
بطلانه ، والظاهر أنه هو المشهور.
وقال في المبسوط : يبطل ، وقال قوم يصح ، ويكون القول
قول العامل في قدره ، فإن أقاما بينتين كان الحكم لبينة المالك ، لأنها بينة
الخارج ، قال : وهذا هو الأقوى عندي.
قال في المختلف : وما قواه الشيخ هو الأجود ، لنا الأصل
الصحة ، وقوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) «المؤمنون
عند شروطهم». وقد وجد شرط سائغ فيحكم به ، انتهى.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ترجيح الأول من
حيث الجهالة ، وظاهر المحقق الأردبيلي الميل الى الثاني ، لعموم الأدلة ، وعدم
الدليل الواضح على المنع ، والمسئلة محل توقف لعدم الدليل الواضح على الجواز ،
والتعلق بإطلاق الأدلة مردود بما عرفت في غير مقام مما تقدم ، من أن الإطلاق يجب
حمله على الافراد المتعارفة المتكررة الشائعة ، وذلك انما هو مع التعين ، ومعلومية
المقدار ، وعدم تطرق الجهالة بوجه من الوجوه.
وكيف كان فإنه لا إشكال في كون القول قول العامل بيمينه
لو اختلفا في قدره ، صحت المضاربة أم بطلت ، لانه منكر ، ومقتضى القاعدة تقديم
قوله بيمينه ، ومع وجود البينتين وتعارضهما فان الحكم لبينة المالك ، لانه المدعى
__________________
(1) قال في التذكرة : لا يصح القراض على الجزاف وان كان مشاهدا
له مثل قبضة من ذهب أو فضة مجهولة القدر أو كيس من الدراهم مجهول القدر سواء شاهده
العامل والمالك أو لا ، وبه قال الشافعي ، لعدم إمكان الرجوع اليه عند المناضلة
فلا بد من الرجوع الى رأس المال عندها ، وأن جهالة رأس المال يستلزم جهالة الربح ،
وقال أبو حنيفة : يجوز أن يكون رأس المال مجهولا ويكون القول قول العامل بيمينه
الا أن يكون لرب المال بينة فبينة رب المال أولى انتهى ، منه رحمهالله.
ومقتضى القاعدة تقديم قوله ببينته ،
وكذا لا ينعقد القراض بناء على ما قدمنا لو أحضر مالين معدودين ، فقال : قارضتك
بأيهما شئت ، لانتفاء التعيين الذي هو شرط في صحة العقد ، كما عرفت ، ولا فرق بين
أن يكون المالان متساويين جنسا وقدرا أو مختلفين ، خلافا لبعض العامة ، حيث جوزه
مع التساوي ، وظاهر المحقق المتقدم ذكره الميل الى الجواز هنا أيضا استنادا الى
عموم الأدلة ، وفيه ما عرفت.
الرابع : لو أخذ مالا للمضاربة مع عجزه عنه بمعنى أنه
يعجز عن تقليبه في التجارة والبيع والشراء به لكثرته ، قالوا : لا يخلو اما أن
يكون المالك عالما بعجزه ، أو جاهلا بذلك ، فان كان الثاني فإنه يضمن ، لانه مع
علمه بنفسه وأنه يعجز عن ذلك يكون واضعا يده على المال على غير الوجه المأذون له
فيه ، فإنه إنما دفع اليه ليعمل به في التجارة.
لكن هل يكون ضامنا للجميع أو القدر الزائد على مقدوره
قولان : اختار أولهما في المسالك ، ووجه الأول من عدم التميز والنهى عن أخذه على
هذا الوجه ووجه الثاني من أن التقصير انما حصل بسبب الزائد ، فيختص به ، وربما قيل
: انه ان أخذ الجميع دفعة ، فالحكم الأول ، وان أخذ المقدور ثم أخذ الزائد ولم
يمزجه به ضمن الزائد خاصة ، وأورد عليه بأنه بعد وضع يده على الجميع عاجز عن
المجموع من حيث هو مجموع ، ولا ترجيح الان لأحد أجزائه ، إذ لو ترك الأول وأخذ
الزيادة لم يعجز.
أقول : لا يخفى ما في هذه التعليلات العليلة من عدم
الصلوح لابتناء الأحكام الشرعية عليها ، والحكم غير منصوص ، وبه يظهر ما في
الاستناد في عموم الضمان إلى النهى ، وأى نهى هنا مع عدم نص في المسئلة ، وكأنه
أشار بهذا النهي الى ما ذكر من قوله يكون واضعا يده على المال غير الوجه المأذون
فيه.
وفيه أنه يمكن تخصيصها بالزائد لأنه هو الذي حصل فيه
العجز ، فيكون
هو الغير المأذون فيه ، وأما ما كان
يمكن العمل به فإنه يكون مأذونا فيه.
وبالجملة فالحكم لا يخلو من شوب الاشكال لما عرفت لعدم
الدليل الواضح.
قالوا : ولو كان المالك عالما بعجزه لم يضمن ، اما
لقدومه على الخطر ، أو أن علمه بذلك يقتضي الإذن له في التوكيل.
أقول : وفيه بالنسبة إلى التعليل الأول ما في سابقه من
الإشكال ، إذ من الممكن أن يكون عالما بعجزه ، لكن يجوز حصول القدرة له بعد ذلك
بوجود من يساعده ، أو بتجدد بعض الأسباب الموجبة للقدرة ، ومع عدم إمكان ذلك فانا
لا نسلم أنه بمجرد علمه بعدم القدرة مع أنه انما دفعه إليه لأجل المعاملة به ،
وتحصيل الربح والنفع ينتفي عنه الضمان ، إذ لا أقل أن يكون في يده كالأمانة ،
ومجرد دفعه له على هذا الوجه لا يستلزم جواز فواته على مالكه ، لان المدفوع اليه
عاقل مكلف أمين ليس بمجنون ولا سفيه ، حتى يكون المالك قد فرط بدفعه اليه ، ولكن
قد تقدم لهم مثل هذا الكلام في مسئلة بيع الفضولي ، وقد أوضحنا ما فيه (1).
قالوا : وحيث يثبت الضمان لا يبطل العقد ، إذ لا منافاة
بين الضمان وصحة العقد.
أقول : ويدل عليه ما تقدم في تلك الاخبار وعليه اتفاق
الأصحاب من أنه مع المخالفة لما شرطه المالك فإنه يضمن ، والربح بينهما.
الخامس : لو كان له
مال مغصوب في يد شخص وذلك المال موجود معين معلوم القدر ، فإنه يجوز عندهم أن
يقارض عليه الغاصب مع استكمال باقي
__________________
(1) وأما بالنسبة إلى التعليل الثاني فعدم الضمان عليه انما هو
من حيث أنه مأذون في دفعه الى الغير ليعمل به ، فلو حصل من ذلك الغير تفريط يوجب
ذهاب المال مثلا فإن الأول لا يضمن من حيث الاذن في الدفع ، وانما الكلام في
الثاني فيراعى فيه حكم عامل المضاربة منه رحمهالله.
الشروط ، والظاهر أن الحكم اتفاقي عند
الأصحاب ، إذ لم أقف على نقل خلاف في المسئلة والظاهر أنه لا إشكال في ذلك
المضاربة ، وكذا لا اشكال ولا خلاف في أنه متى وقعت المضاربة واشترى العامل وهو
الغاصب بذلك المال المغصوب عروضا ودفعه عن قيمتها ، فإنه تبرئ ذمته من الضمان
الثابت عليه بالغصب ، لانه قضى دين المالك بإذنه.
إنما الخلاف في انه هل تبرئ ذمته بمجرد عقد المضاربة أم
لا؟ الظاهر أن المشهور الثاني ، وبالأول صرح العلامة وولده في الشرح ، قال شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك : ووجه بقاء الضمان أنه كان حاصلا قبل ولم يحصل ما يزيله
، لان عقد القراض لا يلزمه عدم الضمان ، فإنه قد يجامعه بأن يتعدى فلا ينافيه ،
ولقوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) (1) «على اليد ما
أخذت حتى تؤدى». وحتى لانتهاء الغاية ، فيبقى الضمان إلى الأداء اما الى المالك ،
أو من أذن له ، والدفع إلى البائع مأذون فيه ، فيكون من جملة الغاية. ثم نقل عن
العلامة أنه استقرب زوال الضمان هنا ، وتبعه ولده في الشرح ، مستندا الى أن القراض
أمانة ، فصحة عقده يوجب كون المال أمانة ، لأن معنى الصحة ترتب الأثر ، ولانتفاء
علة الضمان لزوال الغصب ، ولانه أذن في بقائه في يده.
ثم اعترض عليه بأن معنى كون القراض أمانة من حيث أنه
قراض ، وذلك لا ينافي الضمان من حيثية أخرى ، كما لو كان غصبا لعدم المنافاة ، فإن
الضمان قد يجامعه كما إذا تعدى العامل ، الى أن قال : اما اقتضاء العقد الاذن في
القبض فضعفه ظاهر ، لان مجرد العقد لا يقتضي ذلك ، وانما يحصل الإذن بأمر آخر ولو
حصل سلمنا زوال الضمان انتهى.
__________________
(1) المستدرك ج 2 ص 504.
أقول : قال العلامة في التذكرة (1) وهل يزول عن
الغاصب ضمان الغصب بعقد المضاربة عليه أو بدفعة إلى بائع السلعة للقراض؟ أبو حنيفة
ومالك على الأول ، لأنه ماسك له باذن صاحبه ، والشافعي على الثاني لعدم التنافي
بين القراض وضمان الغصب كما لو تعدى فيه ، والوجه عندي الأول ، لأن ضمان الغصب
يتبع الغصب والغصب قد زال بعقد القراض ، فيزول تابعه انتهى.
والظاهر أن الحق في المسئلة هو ما ذكره العلامة ، وبيانه
أنه لا ريب أن ترتب الضمان على الغصب ـ ووجوب الضمان على الغاصب ـ انما هو من حيث
كون المقبوض كذلك بغير رضا المالك ولا أجازته ، وحينئذ فلو فرض ان المالك رضى
بالغصب وأجاز قبض الغاصب ، لا يتعقبه ضمان ولا اثم ، وبذلك يعلم أن الضمان وعدمه
دائر مدار الرضا بالقبض وعدمه ، ولا أظن أن شيخنا المذكور ولا غيره يخالف في شيء
مما ذكرناه.
وحينئذ فإذا حصلت المضاربة بذلك المال المغصوب قد حصل
الرضا بالقبض ، فيزول موجب الضمان كما عرفت.
وأما قول شيخنا المذكور أنه لا مانع من اجتماع صحة
القراض مع الضمان ، وهو صحيح ، الا أن ذكر ذلك هنا نوع مغالطة ، فإنا لا نمنع ذلك
، ولكنا نقول أن ثبوت الضمان متوقف على وجود سبب يقتضيه ، وفي ما ذكره السبب موجود
، وهو المخالفة ، وأما فيما نحن فيه فلا سبب له الا استصحاب الضمان وقت الغصب ، والاستصحاب
هنا غير تام ، لعروض حالة أخرى غير الحالة التي كان عليها وقت الغصب ، وشرط العمل
بالاستصحاب على تقدير تسليم حجيته أن لا يعرض ما يخالف العلة الاولى ويرفعها ،
والأمر هنا على خلاف ذلك ، لما عرفت من عدم الرضا
__________________
(1) أقول : صورة كلام التذكرة إذا ثبت هذا فإذا اشترى شيئا
للقراض وسلم المال المغصوب إلى البائع صح وبرء من الضمان حيث سلمه باذن صاحبه ،
فإن المضاربة تضمنت تسليم المال إلى البائع في التجارة وهل يزول عن الغاصب الى آخر
ما هو مذكور في الأصل منه رحمهالله.
أولا وحصول الرضا ثانيا وقد عرفت أن
ثبوت الغصب وعدمه دائر مدار الرضا وعدمه.
وأما قوله : ان مجرد العقد لا يقتضي ذلك ، وانما يحصل
الإذن بأمر آخر فلا يخفى ما فيه ، اما أولا فلأنه قد تقدم في صدر الكتاب تعريف
المضاربة بأنها عقد شرعي لتجارة الإنسان بمال غيره بحصة من الربح.
ومن الظاهر أن ثبوت شرعية هذا العقد على الوجه المذكور
لا تجامع الغصب ، بل لا يكون الا مع الاذن والرضا ، فكيف لا يكون مجرد العقد
متعينا للرضا بالقبض ، وأيضا فإنه قال في المسالك في شرح قول المصنف وهو جائز من
الطرفين : إذ لا خلاف في كون القراض من العقود الجائزة من الطرفين ، ولأنه وكالة
في الابتداء ثم قد يصير شركة وهما جائزان الى آخره ، وحينئذ كيف يتم كون هذا العقد
وكالة في الابتداء مع البقاء على الغصب كما يدعيه ، بل اللازم من الحكم بكونه
وكالة هو حصول الاذن والرضا بالقبض ، والا فإنه لا يتم الحكم بكونه وكالة وهو
ظاهر.
واما ثانيا فانا لم نقف في كلام أحد منهم على اشتراط
الإذن زيادة على العقد المذكور كما لا يخفى على من تتبع كلامهم ، بل ظاهر كلامهم
أن مجرد العقد مستلزم للإذن في التصرف ، وترتب سائر الأحكام.
وبالجملة فإن كلامه (رحمة الله عليه) هنا لا أعرف له
وجها وجيها ، وأما ثالثا فإنه لا يخفى أنه لما كان ثمرة هذا العقد ، والغرض منه
انما هو التصرف في المال والعمل به ، فكيف يتم وقوع هذا العقد من المالك مع عدم
الرضا ، والاذن ما هذه الا سفسطة ظاهرة ، وقد تقدم نظير هذه المسئلة في كتاب الرهن
أيضا ، والعجب من العلامة أنه في هذه المسئلة صرح بما نقلناه عنه من زوال الغصب
بمجرد عقد المضاربة ، وفي الرهن اشترط الاذن في القبض زائدا على عقد الرهن ، كما
قدمنا نقله عنه ثمة ، والمسألتان من باب واحد كما لا يخفى.
والله العالم.
السادس : وهو يشتمل
على فروع في المقام الأول ـ قالوا : لو قال : بع هذه السلعة فإذا نض ثمنها فهو
قراض كان باطلا ، لان شرط صحة القراض أن يكون مال القراض عينا معينة مملوكة للمالك
، وما هنا ليس كذلك ، فان ثمن السلعة حال العقد مجهول ، ولأنه أمر كلي بعد البيع
في ذمة المالك ، وهو أيضا غير مملوك للمالك حال العقد ، وأيضا فإن العقد معلق على
شرط ، وقد تقدم أنه لا يصح عندهم.
الثاني ـ لو مات رب المال والمال عروض في يد العامل ،
وأقرّه الوارث على العقد الأول ، فإنهم صرحوا بأنه لا يصح ، لان العقد الأول بطل
بالموت ، كما تقدم من أنه من العقود الجائزة التي تبطل بالموت ، فلا يصح الا
بتجديد العقد من المالك الثاني ، والتجديد أيضا غير جائز ، لأنه لا بد في مال
المضاربة أن يكون من النقدين ، والموجود الان عروض ، فلا يصح المضاربة بها.
ولو مات رب المال والمال في يد العامل كان نقدا صح تجديد
الوارث عقد القراض معه بلا اشكال ، وهل يصح بلفظ التقرير؟ قيل : لا ، لأنه يؤذن باستصحاب
الأول وإمضائه ، فإنه انما يقول له : قد تركتك على ما أنت عليه ، أو أقررتك على ما
كنت عليه ، والحال أن ما هو عليه قد بطل كما عرفت.
قال في المسالك : والأقوى الصحة ان استفاد من اللفظ معنى
الإذن ، لأن عقد القراض لا ينحصر في لفظ كغيره من العقود الجائزة ، والتقرير قد
يدل عليه ، انتهى.
وهو جيد. وفي كلامه هنا كما ترى رد لما زعمه سابقا من أن
عقد القراض لا يقتضي الإذن ، بل انما يحصل الإذن بأمر آخر فإنه جعل مناط الصحة هنا
في الاكتفاء بالتقرير عن تجديد العقد كونه يفيد ما يفيده العقد من الاذن ، وهو
ظاهر في بطلان كلامه الأول.
الثالث ـ لو اختلف العامل والمالك في قدر رأس المال فمقتضى
القاعدة أن القول قول العامل بيمينه ، لانه ينكر قبض الزيادة ، والمالك يدعي
إقباضها ولا فرق في ذلك بين كون المال باقيا ، أو تالفا بتفريط العامل ، بل الحكم
في الثاني بطريق أولى ، فإن العامل حينئذ غارم ، فالقول قوله في القدر.
قال في المسالك : هذا كله إذا لم يكن ظهر ربح ، والا ففي
قبول قوله اشكال من جريان التعليل المذكور ، وهو الظاهر من إطلاق المصنف ، ومن
اقتضاء إنكاره لزيادة رأس المال توفير الربح ، فيزيد حصته منه ، فيكون ذلك في قوة
اختلافهما في قدر حصته منه مع أن القول قول المالك فيه بيمينه ، ولانه مع بقاء
المال الأصل يقتضي كون جميعه للمالك ، الى أن يدل دليل على استحقاقه الزائد ، ومع
تلفه بتفريط فالمضمون قدر مال المالك ، وإذا كان الأصل استحقاق المالك لجميعه قبل
التلف الا ما أقر به للعامل ، فالضمان تابع للاستحقاق وهذا هو الأقوى ، وربما قيل
: ان القول قول المالك الا مع التلف بتفريط مطلقا ، وهو ضعيف جدا انتهى.
ثم انه كتب في الحاشية في بيان صاحب هذا القول : قال
القائل به الامام فخر الدين في شرح القواعد.
المقصد الثالث في الربح :
وفيه مسائل ـ الأولى : المشهور بين
الأصحاب أن المضارب يستحق من الربح ما وقع عليه الشرط من النصف أو الثلث أو الربع
أو غير ذلك ، وهو اختيار الشيخ في الخلاف والمبسوط والاستبصار ، وقال في النهاية
ان له أجرة المثل ، والربح بتمامه للمالك ، قال : وقد روى أنه يكون للمضارب من
الربح بمقدار ما وقع الشرط عليه من نصف أو ربع ، أو أقل أو أكثر ، ونقل هذا القول
أيضا عن الشيخ المفيد ، وسلار وابن البراج.
ومرجع هذا الخلاف الى أن عقد المضاربة هل هو عقد شرعي
صحيح أو باطل؟ والقول المشهور مبنى على الأول ، والثاني على الثاني.
والأول هو المستفاد من الاخبار المتظافرة من طرق الخاصة
والعامة ، وبه قال كافة العلماء من الطرفين الا ما ذكرناه ، وقد تقدمت جملة من
الاخبار الدالة على ذلك في المسئلة الاولى من المقصد الأول ، ومنها صحيحة محمد بن
قيس (1) وموثقته
المتقدمتان في صدر هذا الكتاب ، ومنها أيضا زيادة على ذلك موثقة إسحاق بن عمار (2) عن أبى الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته
عن مال المضاربة؟ قال : الربح بينهما ، والوضيعة على المال».
وحسنة الكاهلي (3) عن أبى الحسن موسى (عليهالسلام) «في رجل دفع
الى رجل مالا مضاربة فجعل له شيئا من الربح مسمى. فابتاع المضارب متاعا فوضع فيه؟
قال : على المضارب من الوضيعة بقدر ما جعل له من الربح (4)».
احتج القائلون بالقول الثاني بأن النماء تابع للأصل
بالأصالة ، فيكون الربح للمالك ، ولان هذه المعاملة معاملة فاسدة لجهالة العوض
فتبطل ، فيكون الربح لصاحب المال ، وعليه أجرة المثل للعامل.
والجواب أن جميع ما ذكروا ان كان هو مقتضى قواعدهم كما
صرحوا به في غير موضع ، الا أنه بعد استفاضة النصوص وتكاثرها كما عرفت بصحة هذه
المعاملة ، وفيها الصحيحة وغيرها مع عدم مخالف ولا مناقض فيها ، فإنه يجب القول
بصحة العقد ،
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 240 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 188 ح 16 ، الوسائل
ج 13 ص 185 ح 2 و 4.
(2) المصدر ح 15 ، الوسائل ج 13 ص 186 ح 5.
(3) التهذيب ج 7 ص 188 ح 17 ، الوسائل ج 13 ص 186 ح 6.
(4) أقول : هذا الخبر بحسب ظاهره لا يخلو من الاشكال ونقل عن
الشيخ أنه حمله على ما إذا كان المال بينهما شركة ، وانما أطلق عليها المضاربة
مجازا والأقرب كما ذكره بعض مشايخنا المحققين من متأخر المتأخرين هو أن يكون
المراد أنه حصل ربح ثم بعد ذلك وضيعة فإنه ينقص من ربح كل منهما بنسبة نصيبه من
الربح ، منه رحمهالله.
وعدم الضرر بجهالة العوض كما قيل مثله
في المزارعة والمساقاة ، ومنع تبعية النماء للأصل.
أقول : وهذا الموضع أيضا مؤيد لما قدمنا ذكره في غير
موضع من عدم وجوب الالتزام بقواعدهم ، والوقوف عليها في مقابلة النصوص ، فان ما
ذكروه هنا من القواعد المذكورة قد بنوا عليه الأحكام في جملة من المواضع ، واحتجوا
به في غير مقام ، الا أنه لما وردت النصوص هنا كما ترى على خلافها ، وجب الخروج
عنها بذلك ، وحينئذ فالواجب هو الوقوف على النصوص حيثما وجدت.
الثانية : الظاهر أنه
لا خلاف بينهم في أنه يشترط في الربح الشياع ، بمعنى أن يكون كل جزء جزء منه
مشتركا ، لانه مقتضى المضاربة كما تنادي به الاخبار المتقدمة من حكمها ، بأن الربح
بينهما ، يعنى كل جزء جزء منه ، وما لم يكن مشتركا فإنه خارج عن مقتضاها ، فهذا
الشرط داخل في مفهوم المضاربة.
ويتفرع عليه صور ، منها ـ أن يجعل لأحدهما شيئا معينا
كعشرة دراهم مثلا ، فإنه باطل اتفاقا ، وكذا لو ضم الى ذلك أن الباقي بينهما ،
ولانه ربما لا يربح الا ذلك القدر ، فيلزم أن يختص به من شرط له ، ويبقى الأخر
بغير شيء مع أن الروايات المتقدمة قد اتفقت على أن الربح بينهما.
وبالجملة فإن عقد المضاربة يقتضي الاشتراك بينهما في كل
ما يحصل من الربح بمقتضى الأخبار المذكورة ، وهيهنا الربح ليس بينهما ، سواء ضم
الى ذلك ان الباقي بينهما أم لا ، بل الذي بينهما انما هو بعضه على تقدير الزيادة
، وجميعه على تقدير عدم الزيادة انما هو لمن شرط له ، فيبطل العقد البتة على كل من
الصورتين.
ومنها أن يقول : خذه قراضا والربح لي ، ووجه الفساد فيه
أيضا ظاهر ، لان مقتضى القراض كما عرفت من النصوص واتفاق كلمة الأصحاب الاشتراك في
الربح ، وقوله : والربح لي ينافي ذلك
، وحينئذ فلا يصح أن يكون قراضا البتة ، وهل يكون في هذه الصورة بضاعة؟ بمعنى أن
العامل لا يستحق على عمله أجرة كما هو المقرر في البضاعة ، أم يكون قراضا باطلا؟
للإخلال بشرط القراض مع التصريح بكونه قراضا ـ وجهان : والمشهور الثاني لما ذكر ،
وعلى تقديره حينئذ قراضا يكون الربح للمالك خاصة ، لأنه نماء ماله ، وعليه أجرة
المثل للعامل ، هذا مقتضى قواعدهم ، وبه صرحوا هنا.
قيل : ووجه الأول النظر الى المعنى ، فإنه دال على
البضاعة ، وان كان بلفظ القراض ولأن البضاعة توكيل في التجارة تبرعا ، وهو لا يختص
بلفظ ، وما ذكر دال عليها ، ولانه لا يحكم بإلغاء اللفظ ما أمكن حمله على الصحة ،
وذكر القراض وان كان منافيا بحسب الظاهر ، الا أنه يمكن أن يكون مأخوذا من معنى
المساواة التي هي أن يكون من أحدهما المال ، ومن الأخر العمل ، من غير التفاوت إلى
أمر آخر ، وهو أخذ ما اشتق منه المعنى الشرعي.
ولو قيل : ان ذلك بحسب اللغة ، والحقيقة الشرعية تأباه ،
أمكن أن يتجوز فيه ، فان الحقائق اللغوية تصير مجازاة شرعية ، وهو أولى من الفساد
انتهى.
أقول : لا يخفى ما فيه من التكلف البعيد ، والتمحل الغير
السديد ، ولو انفتح هذا الباب في مفاهيم الألفاظ ، لانفتح الباب في الجدال ،
واتسعت دائرة القيل والقال.
وكيف كان فالمسئلة لخلوها من الدليل الواضع لا يخلو من
الاشكال ، كغيرها مما جرى في هذا المجال.
بقي الكلام في أن ظاهر الأصحاب أنه ـ مع الحكم بكونه
قراضا فاسدا ـ يكون الربح للمالك ، وللعامل أجرة المثل كما عرفت.
وقال العلامة في المختلف بعد أن نقل عن الشيخ في الخلاف
والمبسوط أنه لو قال : خذه قراضا على أن الربح كله لي ، كان قراضا فاسدا ولا يكون
بضاعة ـ
ما لفظه : والوجه عندي أنه لا أجرة
للعامل ، لانه دخل على ذلك فكان متبرعا بالعمل ، فلا أجرة له حينئذ ، وظاهره أنه
وان كان قراضا فاسدا فإنه لا أجرة له لدخوله مع عدم تعيين أجرة ، فكان عمله تبرعا
، وقواه في المسالك ، الا أنه احتمل بناء كلام العلامة على البضاعة أيضا ، ولا
يخلو من قوة ، اما بالنسبة إلى البضاعة فظاهر ، وأما بالنسبة إلى القراض ، فلما
عرفت من فساده ، ودخول العامل فيه على هذا الوجه.
هذا إذا لم ينضم الى الكلام المذكور ما يفهم منه إرادة
أحد الأمرين المذكورين من القراض ، أو البضاعة من القرائن الحالية أو المقالية ،
والا كان العمل على ذلك ، وما يقتضيه من صحة أو بطلان.
ومنها أن يقول : خذه قراضا والربح كله لك ، وقد عرفت
آنفا وجه الفساد فيه ، وأنه لا يصح قراضا ، وهل يكون ذلك قرضا بالتقريب المتقدم في
البضاعة بالنظر الى تلك العبارة ، أو قراضا فاسدا كما تقدم أيضا ، فعلى الأول يكون
الربح كله للعامل ، والمال مضمون عليه ، كما هو شأن القرض ولا شيء للمالك وعلى
الثاني فالربح كله للمالك ، وعليه أجرة المثل للعامل.
هذا إذا لم يتحقق قصد شيء من الأمرين ، بأن لم يقصد
شيئا بالكلية ، أو لم يعلم ما قصده ، والا كان قرضا في الأول ، وقراضا فاسدا في
الثاني.
نعم لو قال في الصورة الثانية : خذه فاتجر به والربح لي
، فإنه يكون بضاعة بغير اشكال ، وكذا لو قال في الصورة الثالثة : خذه واتجر به
والربح لك فإنه قرض بغير اشكال ، والوجه في ذلك أنه لم يذكر في هاتين الصيغتين ما
ينافي البضاعة في الاولى ، والقرض في الثانية ، بخلاف ما تقدم ، حيث قال : خذه
قراضا وأضاف اليه والربح لي ، أو لك فصرح بأن الأخذ قراضا وهو حقيقة شرعية في
العقد المخصوص الذي يترتب عليه الشركة في الربح ، مع أنه قد ضم اليه ما ينافي ذلك
من قوله «والربح لي أو لك» ولو قال : خذه على النصف فالظاهر الصحة
لأن المتبادر من ذلك أن الربح بينهما
نصفين ، وهو متضمن لتعيين حصة العامل وكذا لو قال : على أن الربح بيننا ، فإنه
يقتضي التوزيع بينهما انصافا ، قيل : ان الوجه في ذلك استوائهما في السبب المقتضى
للاستحقاق ، والأصل عدم التفاضل كما لو أقر لهما بمال ، وكما لو قال المقر : الشيء
الفلاني بيني وبين زيد.
ونقل عن بعض الشافعية الحكم ببطلان العقد ، لأن البينة
تصدق مع التفاوت فحيث لم يبينها يتحمل استحقاق الربح ، ورد بمنع صدقها على غير
المتساوي مع الإطلاق.
نعم لو انضم إليه قرينة صح حمله على غيره بواسطتها ،
وعلل بعضهم الحكم بالمناصفة في هذه العبارة ، بأن قوله : الربح بيننا ظاهر في ان
جميع ما يربح يكون بيننا وهو يرجع الى أن كل جزء جزء مما يصدق عليه الربح فإنه
بينهما وهو يقتضي المناصفة بلا اشكال ، وبه يظهر ضعف ما تعلق به ذلك القائل
بالبطلان من أن البينة تصدق مع التفاوت ، فان دعوى صدقها ممنوع لما عرفت.
أقول : في دعوى ثبوت الحكم بالمناصفة من هذه العبارة
إشكال ، وذلك لان هذه العبارة قد تكررت في الاخبار المتقدمة من قولهم (عليهمالسلام) : «والربح
بينهما» ولو اقتضت المناصفة كما يدعونه لكان الحكم في المضاربة هو أن يكون للعامل
النصف مطلقا ، مع أنهم لا يقولون بذلك ، وانما فهموا منها مجرد الاشتراك ، كما هو
قول هذا البعض من الشافعية هنا ، وبه يظهر قوة القول بالبطلان ، كما ذهب اليه هذا
القائل.
ولو قيل : ان بعض روايات المسئلة قد اشتمل على أنه
بينهما على ما شرط فيقيد به إطلاق تلك الاخبار ، قلنا : هذا مما يؤيد ما ذكرناه ،
بإشعاره بأنه لو لا التقييد لكان مدلول العبارة هو الاشتراك مطلقا كيف اتفق فكيف
يحكم هنا باقتضائها المناصفة.
قيل : ولو قال : على أن لك النصف صح ، ولو قال : ان لي
النصف واقتصر
بطل ، وعلل وجه الفرق بين الصيغتين
بصحة الاولى ، وبطلان الثانية ، بأن الربح لما كان تابعا للمال والأصل كونه للمالك
لم يفتقر الى تعيين حصته ، فان عينها كان ذلك تأكيدا ، وأما تعيين حصة العامل فلا
بد منه ، لعدم استحقاقها بدونه ، فإذا قال : النصف لك ، كان تعيينا لحصة العامل ،
وبقي الباقي على حكم الأصل وأما إذا قال : النصف لي لم يقتض ذلك كون النصف الأخر
لغيره ، بل هو باق على حكم الأصل أيضا ، فيبطل العقد.
وربما قيل : بأنه يحتمل الصحة أيضا ، وحمل النصف الأخر
على حصة العامل نظرا الى عدم الفرق بين الصيغتين عرفا وعملا بمفهوم التخصيص ، إذ
لو كان النصف الأخر له أيضا لم يكن لهذا التخصيص وجه ، ورد بعدم استقرار العرف على
ذلك وضعف دلالة المفهوم.
أقول : والحكم لا يخلو من شوب الاشكال ، وان كان للحكم
بالبطلان نوع قرب لما ذكر ، والله العالم.
الثالثة : قالوا : لو
شرط أحدهما لغلامه حصة من الربح ، صح ، عمل الغلام أم لم يعمل ، أما لو شرط لأجنبي
فإنه لا يصح الا أن يكون عاملا.
وقيل : يصح وان لم يكن عاملا ، أقول : وتفصيل هذه الجملة
يقع في مواضع ثلاثة : أحدها ـ أنه متى شرط أحدهما لغلامه حصة ، فإنه يصح ، والحكم
فيه مبنى على عدم ملك العبد كما هو المشهور ، فإنه يرجع حينئذ إلى سيده ، فهو في
معنى ما لو شرط أحدهما حصة زائدة على حصته ، ولا نزاع في الصحة.
أما لو قلنا بملك العبد كان الحكم فيه كاجنبى الاتى حكمه
، وثانيها ـ لو شرط لأجنبي فإنه لا يصح الا أن يكون عاملا ، والوجه فيه أنه حيث أن
الأصل في الربح أن يكون بين المالك والعامل خاصة ، أما المالك ففي مقابلة ماله ،
وأما العامل ففي مقابلة عمله ، فلا يصح إدخال الأجنبي في ذلك ، ولا جعل شيء من
الربح له.
نعم إذا كان عاملا كان بمنزلة العامل المتعدد ، فلا يكون
أجنبيا ، ومن هنا ربما ينقدح إشكال في المقام ، وهو أنه متى شرط العمل كان من قبيل
العامل المتعدد كما ذكرتم ، مع أن المفروض كونه أجنبيا ، وحينئذ فلا معنى لكونه
أجنبيا عاملا ، لأن الأجنبي من لا مدخل له في العمل.
والجواب أن العامل في هذا الباب حيثما يطلق انما يراد به
المفوض إليه أمر التجارة كما تقدم ، وأنه وكيل عن المالك ، والمراد بالعامل هنا
بالنسبة الى هذا الأجنبي ليس كذلك ، بل المراد به من له دخل في العمل في الجملة ،
كأن شرط عليه حمل المتاع الى السوق ، ومن السوق الى البيت مثلا ، ونحو ذلك من
الأعمال الجزئية المخصوصة ، ولهذا انهم اشترطوا هنا ضبط العمل بما يرفع الجهالة ،
وأن يكون من أعمال التجارة ، لئلا يخرج عن مقتضاها.
وثالثها انه قيل : بصحة الشرط للأجنبي وان لم يكن عاملا
ولا مدخل له في العمل بالكلية ، وكأنه لعموم (1) «المؤمنون عند شروطهم». و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (2) وعموم أدلة وجوب الوفاء بالوعد ، وقد
تقدم نظيره في مواضع عديدة.
وقيل : ان هذا المشروط ان كان مع العمل فهو للعامل كما
تقدم ، وان لم يجامعه عمل فهو للمالك ، رجوعا إلى أصله ، لئلا يخالف مقتضى العقد ،
ولقدوم العامل على أن له ما عين له خاصة.
أقول : قد تقدم في غير مقام ما في هذا التعليل أعنى قوله
لئلا يخالف مقتضى العقد ، فإنه جار في جميع الشروط ، فان الشرط في الحقيقة بمنزلة
الاستثناء مما دل عليه العقد ، والأدلة على وجوب الوفاء بالشروط هي دليل الاستثناء
المذكور ، وقد تقدم تحقيق ذلك.
الرابعة : قالوا : لو
قال : لاثنين لكما نصف الربح صح ، وكانا فيه سواء
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 371 ح 1503 ، الاستبصار ج 3 ح 835 ، الوسائل
ج 15 ص 30 ح 4.
(2) سورة المائدة الآية 1.
ولو فضل أحدهما صح أيضا وان كان
عملهما سواء ، وعلل الحكم الأول وهو تساويهما مع الإطلاق باقتضاء الاشتراك وأن
الأصل عدم التفصيل ، ولانه المتبادر منه عرفا كما سبق في قوله بيننا.
أقول : لا يخفى ما فيه ، فان اقتضاء الاشتراك التساوي
ممنوع ، بل هو أعم ، وهو أول المسئلة أيضا ، ودعوى أنه المتبادر منه عرفا كذلك ،
وقد تقدم ما في الاستناد الى قوله «بيننا» من أن ظاهره انما هو الاشتراك مطلقا كما
هو ظاهر الاخبار ، لا التنصيف كما ادعوه ، وعلل الثاني وهو تفصيل أحدهما مع
استوائهما في العمل بأن غايته اشتراط حصة قليلة لصاحب العمل الكثير ، وهو مما لا
منافاة فيه لأن الأمر في الحصة راجع الى ما يشترطانه ، ويتفقان عليه قل أو كثر ،
ولان العقد الواحد مع اثنين في قوة عقدين فيصح ، كما لو قارض أحدهما في نصف المال
بنصف الربح ، والأخر في النصف الأخر بربع الربح ، فإنه جائز اتفاقا مع تساويهما في
العمل ، والخلاف هنا انما هو من بعض العامة ، حيث اشترط التسوية بينهما في الربح
مع التساوي في العمل ، قياسا على اقتضاء شركة الأبدان ذلك ، والأصل والفرع عندنا
باطلان.
الخامسة : لو اختلفا
في نصيب العامل فان مقتضى القواعد الشرعية أن القول قول المالك بيمينه ، لانه منكر
لما يدعيه العامل من الزيادة ، ولان الاختلاف في فعل المالك الذي هو تعيين الحصة
وهو أبصر به ، ولأن الأصل تبعية الربح لرأس المال ، فلا يخرج عنه الا ما أقر
المالك بخروجه ، والمعتمد من هذه الوجوه هو الوجه الأول ، فإنه المعتضد بالنصوص
الصحيحة الصريحة ، وما عداه من المؤيدات الواضحة.
وقيل : ان هذا مع عدم ظهور الربح ، أما معه فالحكم هو
التحالف ، لان كلا منهما مدع ، ومدعى عليه ، فان المالك يدعى استحقاق العمل الصادر
بالحصة الدنيا ، والعامل ينكر ذلك ، فيجيء القول بالتحالف ، لان ضابطه كما
سلف في البيع أن ينكر كل واحد منهما
ما يدعيه الأخر ، بحيث لا يجتمعان على أمر ويختلفان فيما زاد عليه ، ورد بأنه ضعيف
، لان نفس العمل لا يتناوله الدعوى ، لانه بعد انقضائه لا معنى لدعوى المالك
استحقاقه ، وكذا قبله ، لان العقد الجائز ، لا يستحق به العمل ، وانما المستحق
المال الذي أصله للمالك ، وحقيقة النزاع فيه فيجيء فيه ما تقدم من الأصول وهو
جيد.
السادسة : الظاهر أنه
لا اشكال فيما لو دفع المالك مال القراض في مرض الموت على الوجه المعتبر من تعيين
الحصة من الربح للعامل ونحوه ، لوجود المقتضى وهو دخوله تحت الأدلة الدالة على
مشروعية القراض وصحته ، وعدم المانع ، إذ ليس الا ما ربما يتوهم من التفويت على
الوارث بالنسبة إلى الحصة المعينة للعامل من الربح ، وإدخال النقص عليه بذلك ،
فيتعلق به الخلاف بين كونه من الأصل أو الثلث ، والحال أنه ليس كذلك إذ لا تفويت
على الوارث في الصورة المذكورة.
ومحل الخلاف في تلك المسئلة انما هو ما يتبرع به المريض
من المال الموجود حال التبرع وهنا ليس كذلك ، لان الربح غير موجود يومئذ ، بل هو
متوقع الحصول ، وقد لا يحصل فلا يتصف بكونه مالا للمريض ، ليترتب عليه الخلاف
المذكور ، ثم انه بعد حصوله فهو متجدد بسعي العامل بعد العقد ، فليس للوارث فيه
اعتراض ، ولا نزاع بوجه من الوجوه ، وهو ظاهر ، ولا فرق في تلك الحصة المعينة
للعامل بين كونها قدر أجرة المثل أو أكثر أو أقل حسبما مر في غير هذه الصورة من
صور القراض.
وبالجملة فإن مقتضى الأدلة كما عرفت صحة المعاملة
المذكورة حتى يقوم دليل على البطلان ، وليس فليس ، والله العالم.
السابعة : يملك العامل
من الربح بظهوره من غير توقف على انضاض العروض ولا قسمة المال بينهما ، قال في
المسالك : هذا هو المشهور بين الأصحاب بل لا يكاد
يتحقق فيه مخالف ، ولا نقل في كتب
الخلاف عن أحد من أصحابنا ما يخالفه ووجهه مع ذلك إطلاق النصوص بأن العامل يملك ما
شرط له من الربح وهو متحقق قبل الانضاض ، وقبل القسمة ، ولان سبب الاستحقاق هو
الشرط الواقع في العقد ، فيجب أن يثبت مقتضاه متى وجد ، لان الربح بعد ظهوره مملوك
، فلا بد له من مالك ، ورب المال لا يملكه اتفاقا ، ولا يثبت أحكام الملك في حقه ،
فيلزم أن يكون للعامل ، إذ لا مالك غيرهما اتفاقا.
أقول : ومن أظهر الأدلة على ذلك ما رواه الشيخ والصدوق
عن محمد بن قيس (1) في الصحيح قال
: «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) رجل دفع الى
رجل ألف درهم مضاربة فاشترى إياه ، وهو لا يعلم ، قال : يقوم فان زاد درهما واحدا
أعتق ، واستسعى في مال الرجل» ، والتقريب فيها انه لو لم يكن مالكا لحصته بمجرد
الظهور لم ينعتق عليه أبوه في الصورة المفروضة في الخبر ، مع أنه قد حكم بأنه بعد
تقويم العبد فان حصل في الثمن زيادة على رأس المال ولو درهم ، فإنه ينعتق الأب على
ابنه بنصيبه من ذلك الدرهم ، فالمقتضي للانعتاق انما هو دخوله في ملكه بتلك الحصة
فيسري العتق في الباقي كما هو القاعدة في العتق.
إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد نقل فخر المحققين عن والده
العلامة.
ان في هذه المسئلة أقوال أربعة :
أحدها ـ أنه يملك
بمجرد الظهور كما عرفت.
وثانيها ـ أنه يملك
بالإنضاض لأنه قبل الانضاض غير موجود خارجا بل مقدر موهوم ، والمملوك لا بد أن
يكون محقق الوجود ، فيكون الظهور موجبا لاستحقاق الملك بعد التحقيق ، ولهذا يورث
عنه ويضمن حصة من أتلفها سوى المالك والأجنبي.
وثالثها ـ أنه يملك
بالقسمة ، لأنه لو ملك قبلها لكان النقصان الحادث بعد
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 144 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 190 ح 27 ، الوسائل
ج 13 ص 188 ح 1.
ذلك شائعا في المال كسائر الأموال
المشتركة ، والتالي باطل ، لانحصاره في الربح ، ولانه لو ملك لاختص بربحه ، ولان
القراض معاملة جائزة والعمل فيها غير مضبوط ، فلا يستحق العوض فيها الا بتمامه ،
كمال الجعالة.
ورابعها ـ أن القسمة كاشفة عن ملك العامل ، لأن القسمة
ليست من الأسباب المملكة ، والمقتضى للملك انما هو العمل ، وهي دالة على تمام
العمل الموجب للملك قال في المسالك بعد نقل هذه الأقوال : وفي التذكرة لم يذكر في
المسئلة عن سائر الفقهاء من العامة والخاصة سوى القولين الأولين ، وجعل الثاني
للشافعي في أحد قوليه ، ولأحمد في إحدى الروايتين ، ووافقا في الباقي على الأول ،
ولا ندري لمن ثبتت هذه الأقوال ، وهي مع ذلك ضعيفة المأخذ فإنا لا نسلم ان الربح
قبل الانضاض غير موجود ، لان المال غير منحصر في النقد ، فإذا ارتفعت قيمة العرض
فرأس المال منه ما قابل قيمة رأس المال والزائد ربح وهو محقق الوجود ، ولو سلم انه
غير محقق الوجود لا يقدح في كونه مملوكا فان الدين مملوك وهو غير موجود في الخارج
بل هو في الذمة أمر كلي هذا ما على الثاني.
وعلى الثالث انه لا ملازمة بين الملك وضمان الحادث على
الشياع ويجوز ان يكون مالكا ويكون ما يملكه وقاية رأس المال فيكون الملك متزلزلا
فاستقراره مشروط بالسلامة ، وكذا لا منافاة بين ملك الحصة وعدم ملك ربحها بسبب
تزلزل الملك ولانه لو اختص بربح نصيبه لاستحق من الربح أكثر مما شرط له ولا يثبت
بالشرط ما يخالف مقتضاه ولأن القسمة ليست من العمل في شيء فلا معنى لجعلها تمام
السبب في الملك فلا وجه لإلحاقها بالجعالة وقد نبه عليه ولو سلم انه غير محقق
الوجود في الوجه الرابع ومن ضعف ما سبق يستفاد ضعف الرابع لانه مترتب عليها انتهى
كلامه زيد مقامه وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.
ثم انه ينبغي ان يعلم انه وان كان العامل يملك حصته
بمجرد ظهور الربح الا انه يكون ملكا متزلزلا مراعى بإنضاض جميع المال أو قدر رأس
المال مع
الفسخ أو القسمة حيث ان الربح وقاية
لرأس المال فيجبر به ما وقع في التجارة من تلف وخسران ، سواء كان الربح والخسران
في مرة واحدة أو مرتين ، وفي صفقة أو صفقتين ، وفي سفر أو سفرين ، لان معنى الربح
هو الزائد على رأس المال مدة العقد ، فلو لم يفضل منه شيء بعد أن حصل وجبرت
بالتجارة فلا ربح ، وهو موضوع وفاق كما ذكره في المسالك ، وسيأتي الكلام ـ إنشاء
الله تعالى ـ في بعض ما يدخل في هذا المقام من الأحكام ، والله العالم.
المقصد الرابع في اللواحق :
وفيه مسائل الاولى
ـ لا خلاف بين الأصحاب في ان العامل أمين فيقبل قوله في
التلف بغير تفريط بيمينه ، سواء كان التلف ظاهرا كالحرق أو خفيا كالسرق ، وسواء
أمكن إقامة البينة عليه أم لم يكن ، وكذا يقبل قوله في الخسارة ولا يضمن الا مع
التفريط ، وقد تقدم الكلام في الاختلاف في قدر رأس المال ، وأن الأظهر قبول قول
العامل بيمينه في الموضع السادس من المقصد الثاني (1) وكذا الاختلاف
في حصة العامل وان الأظهر فيها أن القول قول المالك بيمينه في المسئلة الخامسة من
المقصد الثالث (2).
وبقي الكلام هنا في الاختلاف في الرد ، فهل يقبل قول
العامل في رد المال الى المالك أم لا؟ قولان : أولهما للشيخ في المبسوط قال : إذا
ادعى العامل رد المال الى المالك فهل يقبل قوله؟ فيه قولان : أحدهما وهو الصحيح
أنه يقبل قوله.
أقول : وقد علل ذلك بأنه أمين كالمستودع ، ولما في عدم
تقديم قوله من الضرر لجواز أن يكون صادقا فتكليفه بالرد ثانيا تكليف ما لا يطاق ،
والمشهور بين الأصحاب الثاني ، لأصالة العدم ، ولان المالك منكر فيكون القول قوله
بيمينه ، كما هو القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، كما أن العامل في ذلك مدع فعليه
__________________
(1) ص 228.
(2) ص 236.
البينة بمقتضى القاعدة المذكورة وثبوت
قول العامل في دعوى التلف لدليل خارج لا يقتضي ثبوت قوله مطلقا.
وأما ما علل به من أنه أمين كالمستودع وكل أمين يجب قبول
قوله ، ففيه منع كلية الكبرى ، والفرق بين العامل هنا وبين المستودع ظاهر ، فان
العامل هنا قبض لنفع نفسه والمستودع قبض لنفع المالك ، وهو محسن محض ، فلا يناسب
إثبات السبيل عليه بعدم قبول قوله ، لما فيه من الضرر.
وأما ما علل به هنا من الضرر لو لم يقدم قوله ، فإنه
مدفوع بأن الحكم بذلك لما ثبت شرعا كما عرفت من أنه مقتضى القاعدة المتفق عليها
نصا وفتوى ، فلا يلتفت الى هذا الاستبعاد ، وهذا الضرر ، فإنه لو تم ذلك لجرى في
كل مدعى عليه ، وهو خلاف الإجماع نصا وفتوى.
قال في المسالك بعد ذكر نحو مما ذكرناه : لكن يبقى في
المسئلة بحث ، وهو أنه إذا لم يقبل قوله في الرد يلزم تخليده في الحبس لو أصر على
إنكاره ، خصوصا مع إمكان صدقه ، وهم قد تحرجوا من ذلك في الغاصب حيث يدعى التلف ،
فكيف بثبوته في الأمين ، الا أن يحمل على مؤاخذته ومطالبته به ، وان أدت إلى الحبس
للاستظهار به ، الى أن يحصل اليأس من ظهور العين ، ثم يؤخذ منه البدل للحيلولة ،
الا أن مثل هذا يأتي في دعوى التلف ، خصوصا من الغاصب ، وليس في كلامهم تنقيح لهذا
المحل ، فينبغي النظر فيه انتهى.
أقول : ما ذكره من أنه إذا لم يقبل قوله ـ في الرد يلزم
تخليده في الحبس الى آخره ـ لا أعرف له وجها وجيها بحسب نظري القاصر ، وفكرى
الفاتر ، وأى موجب للحبس هنا ، وذلك فان المسئلة هنا أحد أفراد مسئلة المدعى
والمنكر ، ولا ريب أن الحكم الشرعي فيها هو البينة على المدعى ، والا فاليمين على
المنكر ، فإن أقام المدعى البينة على الرد انقطعت الدعوى والا حلف المالك ووجب على
مدعى الرد دفع الحق اليه. والنظر الى كونه أمينا غير ملتفت اليه
هنا ، لما عرفت آنفا ، وكذا احتمال
صدقه ، فإنه جار في كل دعوى ، وكونه كذلك بحسب الواقع لا يوجب الخروج عن مقتضى
الحكم الشرعي ظاهرا ، فان الشارع حكم بثبوت الحق مع قيام البينة مطلقا ، أعم من أن
تطابق الواقع أم لا وحكم بسقوطه مع حلف المنكر مطلقا ، والحق المدعى هنا هو الرد ،
فبالبينة يثبت ، فينبغي المطالبة ، وباليمين يسقط ، وتتوجه المطالبة بالمال ، وان
احتمل بحسب الواقع براءة ذمته لصحة دعواه.
وبالجملة فهذا الحبس الذي ذكره في المقام لا أعرف له
وجها ولا ذكره غيره من الاعلام ، ومقتضى الحكم الشرعي في المسئلة انما هو ما ذكرناه
، هذا بالنسبة إلى كلام الأصحاب في المسئلة.
وأما بالنسبة الى الاخبار فالذي وقفت عليه مما يتضمن
الحبس ، الروايات المتقدمة في كتاب الدين (1) ، وموردها كلها أن الامام (عليهالسلام) يحبس في
الدين إذ التوى الغريم حتى تبين له حاله من ملائه أو إفلاس ، فإذا تبين إفلاسه خلا
عنه ، وفي رواية يدفعه إلى غرمائه ، وان تبين ملائته استوفى الحق منه ، وما نحن
فيه لا تعلق له بما دلت عليه هذه الاخبار.
نعم روى الشيخ في الصحيح عن زرارة (2) عن أبى جعفر (عليهالسلام) قال : كان
على (عليهالسلام) لا يحبس في
السجن إلا ثلاثة : الغاصب ، ومن أكل مال اليتيم ظلما ، ومن ائتمن على أمانة فذهب
بها ، وان وجد له شيئا باعه غائبا كان أو شاهدا» ،.
وهذا الخبر على ظاهره غير معمول عليه بين الأصحاب فيما
أعلم ، ولذا حمله الشيخ على الحبس على سبيل العقوبة أو الحبس الطويل ، قال (قدسسره) : هذا الخبر
يحتمل وجهين : أحدهما ـ انه ما كان يحبس على وجه العقوبة ، إلا الثلاثة الذين
ذكرهم ، والثاني ـ انه ما كان يحبس طويلا إلا الثلاثة الذين
__________________
(1) ج 20 ص 199.
(2) التهذيب ج 6 ص 299 ح 43 ، الوسائل ج 18 ص 181 ح 2.
استثناهم ، لان الحبس في الدين انما يكون
مقدار ما يتبين حاله ، انتهى ، وهو جيد.
وبالجملة فإن مقتضى النظر فيما نحن فيه هو إدراجه في
قاعدة الدعوى الواقعة بين كل مدع ومنكر ، والعمل فيه بما تقتضيه القاعدة المذكورة
شرعا والله العالم.
الثانية : إذا اشترى العامل من ينعتق بالشراء على المالك
، فهنا مقامان : الأول ـ أن يكون ذلك
باذن المالك وعلم العامل أنه أبو المالك مثلا ولا ريب في صحة الشراء لوجود شرائطها
، ولا ريب أيضا في انعتاقه على ابنه ، كما لو اشتراه الابن بنفسه ، أو وكيل له غير
العامل.
وحينئذ فإن بقي من مال المضاربة شيء بعد الثمن كان
الباقي مضاربة ، والا بطلت المضاربة في الثمن ، والوجه في ذلك عندهم هو أن مبنى
المضاربة على طلب الربح وتحصيل الانتفاع بتقليب المال في الشراء والبيع ، وحينئذ
فكل تصرف ينافي ذلك يكون باطلا ، ومن جملته شراء من ينعتق على المالك ، لانه موجب
للخسارة ، فضلا عن الاشتمال على الغرض الذاتي من القراض ، فتبطل المضاربة في ثمنه
، لأنه بمنزلة التالف ، فإن بقي هناك مال بعد الثمن استمرت المضاربة فيه ، والا
بطلت كما لو تلف جميع مال المضاربة.
وهل للعامل هنا أجرة المثل أم لا شيء له؟ قولان :
الثاني منهما للشيخ في المبسوط ، وبالأول صرح العلامة في المختلف ، والشهيد الثاني
في المسالك (1) وهذا في ما لو
لم يكن في العبد المشترى ربح واما لو حصل فيه ربح فهل يكون العامل شريكا في العبد
بما استحقه من حصته من الربح أو أنه لا يترتب على هذا
__________________
(1) هذا الخلاف انما يتجه على تقدير القول المشهور بأن حصة
العامل يتملك بالظهور كما هو المؤيد المنصور ، وأما على القول بأنها تملك بالإنضاض
أو القسمة فلا ريب في عدم استحقاق الربح حينئذ لانتفائهما ، منه رحمهالله.
الربح أثر ، وانما للعامل أجرة المثل؟
قولان : الأول منهما للشيخ في المبسوط وبالثاني صرح العلامة في المختلف.
قال في المبسوط : إذا اشترى من ينعتق على رب المال باذنه
، وكان فيه ربح انعتق ، وضمن للعامل حصته من الربح ، وان لم يكن ربح انصرف العامل
ولا شيء له.
قال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك : والوجه ، الأجرة
على التقديرين ، لبطلان القراض بالشراء المأذون فيه ، والوجه في القول الأول من
هذين القولين هو ثبوت حصة العامل في العبد ، لتحقق الملك بالظهور كما هو الصحيح
المشهور وان وجب ضمانها على المالك ، من حيث سريان العتق في العبد كما أشار إليه
الشيخ في عبارته بقوله : وضمن للعامل حصته من الربح ، ولا يقدح في استحقاقه الحصة
المذكورة ، عتقه القهري لصدوره باذن المالك.
والوجه في القول الثاني وهو اختيار العلامة كما عرفت ،
ومثله الشهيد الثاني في المسالك (1) أيضا والظاهر أن المشهور ما أشار
إليه العلامة فيما تقدم من كلامه بقوله ، لبطلان القراض وتوضيحه ما قدمنا ذكره من
أن هذا الشراء خارج عن مقتضى المضاربة ، فإن متعلق الاذن فيها اشتمل على تقليب
المال بالأخذ والعطاء مرة بعد أخرى لتحصيل الربح ، وهذا انما تضمن الخسارة لتعقب
العتق له ، وحينئذ فإذا بطلت المضاربة فيه لم يترتب على ذلك الربح أثر ، وانما
للعامل أجرة المثل عوض عمله خاصة.
فإن قيل : انه إذا كان هذا الشراء ليس من مقتضيات عقد
القراض ، فإنه كما لا يستحق شيئا من الربح فكذا لا يستحق أجرة ، لأنه خلاف مقتضى
العقد ،
__________________
(1) قالوا : فكأنه استرد طائفة من المال بعد ظهور الربح
وأتلفها حينئذ فيسري على العامل مع يسار المالك ان قلنا بالسراية في مثله من العتق
القهري أو مع اختيار الشريك السبب ، ويقوم له نصيبه مع يساره والا استسعى العبد
فيه ، منه رحمهالله.
فالجواب أن استحقاق الأجرة ليس
باعتبار هذا الأمر بخصوصه بل بالنظر اليه والى غيره من المقدمات ، كالسفر للتجارة
، ونحو ذلك من الحركات والسكنات التي انما أتى بها لذلك ، ومع تسليم الانحصار في
ما ذكر ، فإنه ان كان من الأمور التي تثبت في مثلها أجرة المثل يثبت الأجرة ، والا
فكيف كان فالمسئلة لا تخلو من شوب الاشكال ، لعدم النص الواضح الذي ينقطع به مادة
القيل والقال.
الثاني : أن يكون
الشراء بغير اذن المالك ، وحينئذ فإن وقع الشراء بعين المال ، فالظاهر أن المشهور
بطلانه ، بناء على ما تقدم من منافاته للغرض الذاتي المطلوب من عقد القراض ، بل
اشتماله على الإتلاف المحض.
ورد ذلك بأن غايته التصرف في مال الغير بغير اذنه ،
ومقتضى ذلك هو كونه فضوليا فان قلنا بصحة الفضولي فهو صحيح هنا ، وان وقف في
اللزوم على اجازة المالك ، هذا مع علمه بالنسب ، وعلمه بالحكم ، وأنه ينعتق عليه
قهرا.
وأما مع جهله فإنه يحتمل كونه أيضا كذلك ، لأن الاذن في
هذا الباب انما ينصرف الى ما يمكن بيعه وتقليبه في التجارة للاسترباح ، ولا يتناول
غير ذلك ، فلا يكون ما سواه مأذونا فيه : غاية ما في الباب أنه قد التبس الأمر على
العامل هنا ظاهرا من حيث الجهل ، وهو لا يقتضي الاذن ، وانما يقتضي عدم الإثم.
وبالجملة فالذي يترتب على الجهل انما هو عدم الإثم
والمؤاخذة ، لا الصحة ويحتمل صحة البيع ويحكم بعتقه على المالك قهرا ، ولا ضمان
على العامل ، لان مقتضى عقد القراض شراء ما يترتب عليه الربح بحسب الظاهر ، لا
بحسب نفس الأمر ، وهذا من حيث الجهل كذلك ، وظهور كونه في نفس الأمر ليس كذلك لا
يمنع من الصحة التي وقع عليها عقد الشراء ، ويترتب عليها العتق لاستحالة توجه
الخطاب الى الغافل والا لزم التكليف بما لا يطاق.
وبالجملة فإن الأحكام الشرعية انما تترتب على الظاهر لا
على نفس الأمر والخطابات والتكليفات انما تناط بما هو الظاهر في نظر المكلف من حل
وتحريم
وطهارة ونجاسة ونحوها ، لا ما كان
كذلك في الواقع ، ولعل هذا الاحتمال أقرب من الأول.
وان وقع الشراء في الذمة لم تقع المضاربة ، لما تقدم في
المسئلة الخامسة من المقصد الأول (1) من ان مقتضى إطلاق الإذن هو الشراء
بعين المال ، وعلى هذا فلو اشترى في الذمة فلا يخلو اما أن لا يعين العقد لا
للمالك ولا لنفسه ، وحينئذ يكون الشراء له ظاهرا وباطنا ، وان عينه لنفسه تعين له
كذلك ، وان عينه للمالك لفظا فهو فضولي على القول بصحة الفضولي ، وان عينه له نية
وقع للعامل بحسب الظاهر ، وبطل باطنا ، فلا ينعتق ، ويجب التخلص منه على وجه شرعي
، إذ ليس مملكا له في الواقع ونفس الأمر للنية المذكورة الصارفة عنه والله العالم.
الثالثة : ـ إذا كان مال القراض لامرأة فاشترى العامل
زوجها فلا يخلو اما أن يكون الشراء بإذنها ، وحينئذ يكون الشراء صحيحا ، وينفسخ
نكاحها لما قرر في محله من امتناع اجتماع الملك والنكاح.
أولا يكون الشراء بإذنها ، وفيه قولان : فقيل : بالصحة ،
الا أنه ذكر في المسالك أن القائل به غير معلوم ، وانما ذكره المصنف بلفظ قيل :
ولم يعلم قائله.
أقول : وهذا القول قد نقله العلامة أيضا في القواعد في
المسئلة ، وعلل وجه الصحة هنا بأنه اشترى ما يمكن طلب الربح فيه ، ولا يتلف به رأس
المال ، فيجوز حينئذ كما لو اشترى ما ليس بزوج.
وقيل : ببطلان الشراء المذكور لحصول الضرر على المالك به
، ويكون ذلك دليلا على عدم الرضا ، وتقييدا لما أطلقت من الاذن بدليل منفصل عقلي.
أقول : وهذان القولان حكاهما المحقق في الشرائع ، واختار
منهما القول بالبطلان ، معللا له بأن عليها في ذلك ضررا ، وبينه في المسالك بما
قدمنا ذكره ،
__________________
(1) ص 213.
والعلامة في الإرشاد اقتصر مع عدم
الاذن على القول بالبطلان جازما به من غير نقل قول آخر غيره.
وفي القواعد قال : قيل : يبطل الشراء لتضررها به ، وقيل
: يصح موقوفا ، وقيل : مطلقا ، وأنت خبير بأن ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك
وكذا ظاهر الأردبيلي في شرح الإرشاد أن مقتضى التعليل الذي ذكر في وجه البطلان هو
الرجوع الى العقد الفضولي ، لما عرفت من تعليل ذلك بحصول الضرر على المالك وموجب
ذلك أنه لو رضى المالك زال المانع ، فيكون التعبير بالعقد الفضولي أنسب من الحكم
بالبطلان مطلقا ، وظاهر العلامة في القواعد أن المشابهة بالعقد الفضولي والحمل
عليه انما هو في جانب القول بالصحة ، حيث عبر عنه بأنه يصح موقوفا ، يعنى على
الإجازة ، وفيه إشارة الى أن المراد بالقول بالبطلان انما هو مطلقا ، لا باعتبار
عدم الإجازة كما فهمه في المسالك ، ثم انه ذكر القول بالصحة مطلقا.
وبالجملة فإنه قد تلخص أن أقوالهم في المسئلة ثلاثة ،
صحة القول بالشراء مطلقا ، وبطلانه مطلقا ، والقول بكونه كالعقد الفضولي ، ونسب في
المسالك نقل الأقوال الثلاثة إلى العلامة ، وهو كذلك كما سمعته من كلامه في
القواعد ، الا أنه اقتصر على مجرد نقلها ، ولم يرجح شيئا منها ، وفي الإرشاد ظاهره
الجزم بالبطلان مطلقا.
والظاهر أن المراد بالضرر الذي جعلوه حجة للإبطال هو
انفساخ النكاح ، مع صحة الشراء ، والافاق العبد بعد الحكم بصحة الشراء يكون من جملة
أموال القراض ، يترتب عليه ما يترتب عليها من جواز البيع ، وتحصيل الربح.
وفي ثبوت الضرر بذلك على إطلاقه إشكال ، فإن ثبت دليل
على أن هذا ضرر يوجب بطلان الشراء ترتب عليه ما قالوه ، والا فالظاهر أن الشراء
صحيح وان فسد النكاح ، وجرى العبد في مال المضاربة كغيره من أموالها.
ثم انه على تقدير كون ذلك ضررا يوجب البطلان ، فالظاهر
انه يرجع الى العقد الفضولي ، لا كما هو ظاهر القائل بذلك من البطلان مطلقا ، نظرا
الى تلك القرينة المدعاة آنفا ، وحينئذ فإن قلنا ببطلان العقد الفضولي كما هو
الأظهر وان كان خلاف الأشهر ، فالأمر واضح ، وان قلنا بصحته مع وقوفه في اللزوم
على اجازة المالك ، رجع الأمر إلى الإجازة ، فان أجازته المرأة كان حكمه ما تقدم
في صورة ما إذا كان الشراء بإذنها ، والا وقع باطلا.
إذا تقرر ذلك فاعلم أنه على تقدير القول بالبطلان مطلقا
أو مع عدم الإجازة فالحكم واضح ، وأما على تقدير القول بالصحة ، فإن كان مستند
الصحة انما هو اذن المرأة في الشراء ، أو إجازتها ذلك ، بناء على كون العقد فضوليا
لم يضمن العامل ما فاتها من المهر والنفقة ، لأن فواته مستند إلى اذنها ورضاها.
وأما على القول بالصحة مطلقا وان لم يستند إلى اذنها أو
رضاها كما هو أحد الأقوال الثلاثة المتقدمة ، فإن العامل يضمن المهر مع علمه
بالزوجية ، وهو الذي صرح به في القواعد ، وغيره في غيره ، وربما قيل ، بضمانه في
هذه الصورة ما فات مطلقا من مهر ونفقة ، وهو في المهر كما ذكرنا ظاهر ، فإنه جاء
التفويت من قبله لعلمه بالزوجية ، وأن ملكها له موجب لبطلان النكاح وذهاب المهر ،
ومع هذا شراه.
أما في النفقة فمشكل كما ذكره في المسالك ، قال : لأنها
غير مقدرة بالنسبة إلى الزمان ، ولا موثوق باجتماع شرائطها ، بل ليست حاصلة لان من
جملتها التمكين في الزمان المستقبل ، وهو غير واقع الآن ، الى أن قال : والظاهر
اختصاصه بالمهر على هذا القول ، وهو الذي ذكره جماعة ، انتهى وهو جيد ، والله
العالم.
المسئلة الرابعة : لو اشترى
العامل أباه أو من ينعتق عليه ، فان ظهر فيه ربح حال الشراء ، فالأشهر الأظهر انه
ينعتق نصيب العامل من العبد بقدر ماله من
الربح فيه ، ويستسعى العبد في الباقي
، وهو حصة المالك سواء كان العامل مؤسرا أو معسرا.
وعلى هذا يدل صحيحة محمد بن قيس (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : رجل دفع
الى رجل ألف درهم مضاربة ، فاشترى أباه وهو لا يعلم؟ قال : يقوم فان زاد درهما
واحدا أعتق واستسعى في مال الرجل». والحكم المذكور مبنى على تملكه الربح بمجرد
الظهور ، كما هو مدلول الصحيحة المذكورة ، وهو الأشهر الأظهر.
وأما على القول بأن الملك انما يحصل بالقسمة أو الانضاض
فإن البيع صحيح ، الا أنه لا ينعتق لعدم الملك حينئذ ، وإطلاق الحكم بالاستسعاء شامل
لما لو كان العامل مؤسرا أو معسرا ، فان عدم الاستفصال دليل على العموم في المقال
، حيث حكم (عليهالسلام) بالاستسعاء ،
ولم يفصل فيه بين كون العامل مؤسرا أو معسرا وهو ظاهر.
وقيل : بأنه مع اليسار يقوم على العامل ، لاختياره السبب
، وهو موجب للسراية ، لأن اختيار السبب اختيار المسبب ، وحملت الرواية على إعسار
العامل جمعا بين الأدلة ، أو على تجدد الربح بعد الشراء.
وفيه أن الرواية المذكورة دلت على أنه اشترى أباه وهو لا
يعلم أى لا يعلم بكونه أباه ، فكيف يتم اختياره للسبب ، وهو لا يعلم حال الشراء.
نعم يحتمل صحة ما ذكروه على تقدير العلم ، الا أنه خارج
عن مورد الخبر ، فلا يحتاج الى الجمع بما ذكروه ، وقيل : ببطلان البيع لانه مناف
لمقصود القراض ، إذ الغرض هو السعي للتجارة التي تقبل التقليب للاسترباح وهذا
الشراء بتعقب العتق له ينافي ذلك ، فيكون مخالفا للتجارة ، فيكون باطلا
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 241 ح 8 وفيه عن محمد بن ميسر ، الفقيه ج 3 ص
144 ح 3 الوسائل ج 13 ص 188 ح 1.
لعدم الاذن فيه ، أو موقوفا على
الإجازة.
وفيه أنه اجتهاد في مقابلة النص الصحيح ، فإنه دل على
الصحة ، لكن مورده كما عرفت جهله بكونه ممن ينعتق عليه ، والعجب أنه لم يتنبه أحد
من الأصحاب لهذا القيد في الخبر ، بل جعلوا الحكم فيه مطلقا كما سمعت من كلامهم ،
وكأنهم بنوا على أنه إذا كان كذلك مع الجهل ، فمع العلم بطريق أولى.
وفيه أنه يمكن مع العلم أنه لا يجوز له الشراء ، لما فيه
من المخالفة للغرض المقصود من القراض ، كما علل به القول بالبطلان في المسئلة كما
سيأتي ذكره ، ويؤيده ما تقدم في المقام الثاني من المسئلة الثانية (1) ، فيما إذا
اشترى من ينعتق على المالك بغير إذنه.
أما مع الجهل فيصح ويترتب عليه ما ذكر في الخبر ، وعلى
هذا ينبغي إجراء الخلاف المذكور في غير مورد الخبر ، وهو العلم بكونه أباه ، فإنه
لخلوه من النص حينئذ قابل لهذه الاحتمالات والأقوال المتعددة ، والحكم في هذه
الصورة محل اشكال لما عرفت من خروجها عن مورد النص ، مع عدم دليل واضح على شيء
مما ذكروه ، سيما مع تدافع هذه التعليلات التي عللوا بها كلا من هذه الوجوه
المذكورة ، هذا كله إذا كان ظهور الربح حال الشراء.
أما لو كان بعد ذلك كتجدده بارتفاع السوق ، ونحوه فإشكال
، لعدم النص الدال على حكم يكون المعول عليه في هذا المجال ، الا أنه يمكن أن يقال
: انه بعد ظهور الربح بناء على التملك بمجرد الظهور كما هو الظاهر المشهور فإنه
يجري فيه الحكم المذكور في الخبر المتقدم ، من أنه ينعتق نصيب العامل منه ،
ويستسعى في الباقي ، لأن الظاهر من الخبر ترتب الحكم على ظهور الربح أعم من أن
يكون وقت الشراء أو بعد ذلك ، فإنه هو السبب في العتق ، لكن
__________________
(1) ص 245.
ينبغي التقييد بصورة الجهل كما أشرنا
إليه آنفا إذ مع العلم لا يبعد القول بالبطلان كما عرفت أيضا ، والله العالم.
الخامسة : قد صرح جملة من
الأصحاب بأنه لما كان القراض من العقود الجائزة ، فلكل من المالك والعامل فسخه
بقوله فسخت القراض ، أو أبطلته أو رفعته أو نحو ذلك مما يؤدى هذا المعنى أو بقول
المالك للعامل لا تتصرف بعد هذا ، أو يقول رفعت يدك ، وكذا يحصل ببيع المالك المال
لا بقصد اعانة العامل وحينئذ فإن كان هناك ربح يقسم بعد إخراج رأس المال ، وان لم
يكن ثمة ربح فللعامل أجرة المثل الى ذلك الوقت الذي حصل فيه الفسخ.
ولو كان في المال عروض فهل للعامل أن يبيعها بغير اذن
المالك؟ قولان : ولو طلب منه المالك الانضاض هل يجب عليه أم لا؟ قولان : أيضا ،
وان كان سلفا كان عليه جبايته.
قال في التذكرة : قد بينا أن القراض من العقود الجائزة
من الطرفين كالوكالة والشركة ، بل هو عينهما ، فإنه وكالة في الابتداء ، ثم يصير
شركة في الأثناء ، فلكل واحد من المالك والعامل فسخه ، والخروج منه متى شاء ، ولا
يحتاج فيه الى حضور الأخر ورضاه ، لان العامل يشترى ويبيع لرب المال باذنه فكان له
فسخه كالوكالة ، الى أن قال : إذا ثبت هذا فان فسخا العقد أو أحدهما فإن كان قبل
العمل عاد المالك في رأس المال ، ولم يكن للعامل أن يشترى بعده وان كان قد عمل فان
كان المال ناضا ولا ربح فيه أخذه المالك أيضا ، وكان للعامل أجرة عمله الى ذلك
الوقت ، وان كان فيه ربح أخذ رأس ماله وحصته من الربح ، وأخذ العامل حصته منه ، وان
لم يكن المال ناضا فان كان دينا بأن باع نسية باذن المالك ، فان كان في المال ربح
كان على العامل جبايته ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وان لم يكن هناك ربح ، قال
الشيخ (رحمة الله عليه) يجب على العامل جبايته ، وبه قال الشافعي إلى آخر كلامه.
أقول : والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ قولهم أنه متى فسخ المالك وكان
المال ناضا ولا ربح فيه فللعامل أجرة المثل ، قيل ووجهه من حيث أن عمله محترم باذن
المالك ، وليس على وجه التبرع بل في مقابلة الحصة ، وحيث أنه فاتت بفسخ المالك قبل
ظهور الربح فإنه يستحق أجرة عمله الى حين الفسخ.
وفيه نظر ، لانه لم يدخل الا على تقدير الحصة من الربح
على تقدير وجودها ، ومن الجائز أن لا يحصل ربح بالكلية ، أو يحصل مع فواته بجبر
نقص رأس المال ، فلا يحصل له شيء بالكلية ، والحصة فيما نحن فيه غير موجودة ،
وإثبات أجرة المثل يتوقف على الدليل ، فان قيل : أنه انما جعل له الحصة على تقدير
استمراره الى أن يحصل ، وهو يقتضي عدم عزله قبل حصولها ، فان خالف فقد فوتها عليه
، فيجب عليه أجرته ، قلنا : لا يخفى أن مقتضى عقد القراض حيث كان من العقود
الجائزة هو جواز فسخه في كل وقت منهما ، أو من أحدهما ، فدخول العامل في هذا العقد
مع علمه بما يقتضيه ويترتب عليه رضا منه بذلك فقول هذا القائل : أن العقد يقتضي
عدم عزله قبل حصول الحصة ، ليس في محله على أنك قد عرفت أنه يجوز أن يستمر العقد ،
ولا يحصل ربح بالكلية ، أو يحصل ولكن يفوت بجبر نقصان رأس المال.
وبالجملة فإن إثبات هذه الأجرة المذكورة يحتاج الى دليل
واضح ، وليس فليس ، والتعليل المذكور عليل بما عرفت.
وهذا البحث يأتي أيضا فيما لو لم يكن المال ناضا لا ربح
فيه ، فان الكلام المذكور جار فيه أيضا ، هذا كله فيما إذا كان الفسخ من المالك.
أما لو كان الفسخ في هذه الحال من العامل ، فإنه لا شيء
له كما هو ظاهر بعضهم ، والوجه فيه ظاهر ، لقدومه على ذلك ، وعدم صبره الى أن يحصل
الربح وأجرة المثل انما أوجبوها على المالك في الصورة الأولى حيث أنه كان سببا في
تفويت الأجرة ، وحينئذ فلا شيء له.
وفي التذكرة أطلق الحكم بثبوت الأجرة لو فسخا العقد أو أحدهما
، وكان ناضا لا ربح ، والظاهر بعده.
الثاني ـ ما ذكروه
فيما إذا كان الفسخ قبل الانضاض ، وكلامهم هنا مجمل يحتاج الى توضيح وتنقيح ، فإنه
لا يخلو في هذه الصورة اما أن يكون في المال ربح ، أو لا ، فعلى الأول متى قلنا
بأن الربح يملك بمجرد الظهور كما هو الصحيح المشهور ، والمؤيد المنصور ، فان اتفقا
على أن العامل يأخذ حصته من تلك العروض فلا بحث ، وكذا ان اتفقا على الانضاض ،
وأخذ العامل حصته بعد الانضاض.
أما لو طلب المالك من العامل الانضاض من غير إرادته ذلك
، فظاهرهم وجوب ذلك على العامل ، قالوا : لان استحقاقه الربح وان ثبت بالظهور الا
أن استقراره مشروط بالإنضاض ، لاحتمال ما يقتضي سقوطه.
وعندي فيه إشكال ، لأن ذلك انما يتم قبل الفسخ ، حيث أنه
مقتضى عقد القراض ، وأما بعده وصيرورة العامل كالأجنبي الشريك في ذلك المال ،
فإلزامه بما قالوه يتوقف على دليل واضح ، سيما مع إمكان أخذ الحصة من العروض ، فان
غايته أنه يكون شريكا في تلك العروض ، والشريك لا يجب عليه الانضاض بطلب شريكه.
وهكذا باقي الكلام فيما لو طلب العامل الانضاض ، فهل يجب
على المالك إجابته أم لا؟ قولان : والظاهر العدم لما عرفت أيضا.
وبالجملة فإن إثبات الوجوب على أحدهما بعد فسخ المعاملة
يحتاج الى دليل واضح ، والتمسك في دفعه بالأصل أقوى مستمسك.
وعلى الثاني فإن للمالك أن يأخذه ان شاء ، وهل عليه أجرة
المثل للعامل هنا أم لا؟ قولان : والكلام هنا كما تقدم فيما إذا كان المال ناضا
ولا ربح ، كما أشرنا إليه آنفا.
وهل للعامل أن يبيعه ان أراد بغير رضا المالك أم لا؟
قولان : أظهرهما الثاني ، لأن هذه العروض ملك للمالك ، ولا تعلق للعامل فيها بوجه
إذ المفروض عدم الربح والتصرف فيها بغير اذن المالك محرم بلا ريب.
وأما ما تعلق به القائل بالجواز من تعلق حق العامل به ،
واحتمال وجود زبون يزيد في الثمن ، فيحصل الربح مردود. بأن تعلق حق العامل به انما
يتم مع وجود شيء من الربح ، إذ لا حق له في رأس المال ، والمفروض هنا عدم وجود
ربح بالكلية ، واحتمال وجود زبون أضعف.
نعم لو كان الزبون موجودا بالفعل اتجه ما ذكره ، وكان من
قبيل ما لو ظهر فيه ربح كما قدمنا ذكره.
وهل للمالك في هذه الصورة إلزام العامل بالإنضاض أم لا؟
قولان : أيضا ، واستدل على الأول بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم (1) «على اليد ما
أخذت حتى تؤدى». وقد أخذه نقدا فيجب رده اليه ، ولحدوث التغيير في المال بفعله ،
فيجب رده.
ولا يخفى ما فيه ، فان الأخذ والتصرف بالشراء انما حصل
باذن المالك ، والتغيير انما نشأ عن اذنه ، فلا يستعقب ضررا على العامل ، والأصل
عدم الوجوب ، والخبر المذكور لا عموم فيه على وجه يشمل محل البحث ، ومع تسليمه فإن
الأداء أعم من أن يكون بالمثل أو العوض.
وبالجملة فالأصل العدم ، وهو أقوى دليل في المقام ، فلا
يخرج عنه الا بنص واضح ، وكذلك أيضا الأصل بعد ارتفاع العقد ، البراءة من عمل لا
عوض عليه.
الثالث ـ ما ذكروه
فيما إذا كان المال سلفا وتفصيل القول في ذلك أنه لا ريب كما عرفت فيما تقدم أن
العامل ليس له البيع بالدين الا مع الإذن ، لأنه خلاف مقتضى عقد المضاربة ، وكذا
ليس له الشراء نسية الا مع ذلك لما ذكر ، فلو فعل بغير اذن كان الثمن مضمونا عليه
، ولا إشكال في ذلك.
__________________
(1) المستدرك ج 2 ص 504.
وانما الكلام فيما إذا أذن له المالك ، وقد أطلق جمع
منهم المحقق في الشرائع وجوب جبايته بعد الفسخ على العامل ، وظاهر عبارة التذكرة
المتقدمة تقييد ذلك بما إذا كان في ذلك المال ربح ، وعن الشيخ القول بالإطلاق كما
هو ظاهر الجماعة المذكورين ، وبه صرح في القواعد أيضا فقال : إذا فسخ والمال دين
وجب على العامل تقاضيه ، وان لم يظهر ربح.
وبالجملة فظاهرهم الاتفاق على وجوب الانضاض في الجملة ،
وانما الخلاف في تخصيص ذلك بصورة وجود الربح كما هو ظاهر التذكرة أو مطلقا ، كما
هو ظاهر الأكثر ، وعللوا ذلك باقتضاء المضاربة رد رأس المال عن صفته ، والزبون لا
يجرى مجرى المال ، ولان الدين ملك ناقص ، والذي أخذه كان ملكا تاما فليؤد كما أخذ
لظاهر «على اليد ما أخذت حتى تؤدى».
وأنت خبير بما في هذه التعليلات من عدم الصلوح ، لابتناء
الأحكام الشرعية عليها ، كما أشرنا إليه في غير موضع مما تقدم ، فان الوجوب
والتحريم ونحوهما أحكام شرعية يتوقف على الدليل الواضح ، والأدلة عندنا منحصرة في
الكتاب والسنة ، وعندهم بضم الإجماع ، ولا إجماع مدعى في المسئلة ، على أن ما
ذكروه من التعليل المذكور معارض بأن الإدانة إنما حصلت باذن المالك كما هو
المفروض.
وقولهم ان المضاربة تقتضي رد رأس المال على صفته مسلم مع
الاستمرار على العقد ، وأما مع فسخه سيما ان كان الفاسخ هو المالك ، فهو ممنوع
والأصل عدم الوجوب ، وبراءة الذمة منه ، وهو أقوى دليل حتى يقوم الدليل الواضح على
خلافه.
وأما قوله في المسالك في رد ذلك : أنه يضعف بأن اذن
المالك فيه انما كان على طريق الاستيفاء لا مطلقا ، بدلالة القرائن ، ولاقتضاء الخبر
ذلك.
ففيه ان ذلك انما يتم مع الاستمرار على العقد المذكور لا
مع فسخه ، سيما إذا كان الفاسخ له هو المالك.
وبالجملة فإن مقتضى عقد القراض والاذن فيه هو جميع ما
ذكره ، وأما بعد فسخه فدعوى كون ذلك الإذن يقتضي ما ذكروه مع الحكم ببطلان العقد
بالفسخ محل المنع ، لاختلاف الحالين ، وتغاير الحكمين من جميع الجهات ، ومن جملتها
هذا الموضع ، والمانع مستظهر وأما دعواه اقتضاء الخبر ذلك فهو أضعف ، لما عرفت ،
ولو تم الاستدلال بهذا الخبر على ما ذكروه للزم منه أيضا جريان ذلك في الوكيل ،
إذا اشترى باذن موكله عروضا ثم عزله الموكل عن الوكالة ، فإنه يجب عليه بيع تلك
العروض ، وتنقيد الثمن ، والرد على المالك كما قبضه منه ولا قائل بذلك فيما أعلم ،
وهم قد صرحوا كما تقدم بأن عقد القراض يتضمن الوكالة ، بل هو وكالة في الأول كما
تقدم في كلام العلامة وغيره مع أنه لم يصرح أحد منهم في الوكالة بذلك بل الظاهر
أنه متى عزله الموكل امتنع تصرفه سواء كان المال نقدا أو عروضا.
فرع :
لو مات صاحب المال انفسخ العقد لان موت أحدهما من جملة
أسباب الفسخ ، فلو كان ذلك والمال عروض فالظاهر أنه لا إشكال في جواز بيع العامل
له مع الاتفاق على ذلك بينه وبين الوارث.
وأما مع عدم الاتفاق على ذلك فظاهر الأصحاب أن الكلام
هنا حسب ما تقدم من الخلاف في صورة الفسخ مع حيوة المالك ، من أنه هل لكل واحد
منها مطالبة الأخر بالإنضاض أم لا؟ وظاهر جملة منهم أن للعامل هنا البيع بالاذن
السابق الا أن يمنعه الوارث ، وقيل : انه ليس للعامل البيع ، وان لم يمنعه الوارث
، لان المال الان حق لغير من أذن فيه أو لا ، فلا يجوز التصرف فيه الا بإذنه
لبطلان العقد ، وهو جيد.
وفي التذكرة نسب الأول إلى المشهور بين الشافعية والثاني
إلى وجه
آخر لهم أيضا ، ونفى عنه البأس ،
ووجهه ظاهر كما عرفت ، والله العالم.
السادسة : قد تقرر ان
مقتضى المضاربة هو عمل العامل بنفسه ، فلا يجوز أن يضارب غيره الا بإذن المالك لما
فيه من التغرير بمال المالك ، والتصرف فيه بغير اذنه ، وهو محرم ، فان اذن له
المالك صح وكان وكيلا من قبل المالك في ذلك ، فان كان بعد عمل العامل الأول وقد ظهر
فيه ربح فله حصته من الربح ، بناء على الأشهر الأظهر من أنه يملك الربح بمجرد
الظهور.
وأما على القول بتوقفه على الانضاض أو القسمة فلا ، ولكن
له أجرة المثل بمقتضى كلام الأصحاب وبه صرح في التذكرة هنا أيضا ، وأيما كان فإنه
ليس للعامل الأول على هذا التقدير أن يشترط لنفسه شيئا من الربح ، إذ ليس له مال
ولا عمل هنا ، والربح تابع لهما ، ولا فرق في هذه الصورة بين جعل الحصة للعامل
الثاني بقدر حصة الأول التي وقع عليها الاتفاق بين المالك والعامل الأول ، أو أقل
، وعلى تقدير كونها أقل فإن هذه الزيادة لا يستحقها العامل الأول ، إذ ليس هذا
عملا من أعمال التجارة التي يستحق به حصة ، بل هي للمالك ، ولو كان أذن المالك
للعامل الأول في المضاربة ، لا بهذا المعنى المذكور ، بل بمعنى إدخال من أراد معه
، وجعلهما اثنين مثلا ، وحاصله جعل الثاني شريكا له في العمل والحصة ، فلا مانع من
ذلك ، بل يكون صحيحا لزوال المانع المذكور آنفا ، وهو عدم العمل ، هذا كله مع
الاذن له في المضاربة.
أما لو لم يأذن له فإنه لا يصح القراض الثاني ، لما عرفت
آنفا من أنه تصرف بغير اذن المالك ، وتغرير به.
وحينئذ فلو عمل به العامل الثاني والحال هذه وظهر فيه
ربح فلا خلاف في أن نصفه للمالك ، وانما الخلاف في النصف الأخر ، وفيه أقوال ثلاثة
: أحدها ـ أنه للعامل الأول ، واختاره في الشرائع والعلامة في الإرشاد وعلل
بوقوع العقد الصحيح بينه وبين المالك
، على أن يكون ذلك له ، فيستحقه لاشتراطه له ، وعقده مع الثاني باطل لما عرفت.
قالوا : وعلى هذا فللعامل الثاني على الأول أجرة مثل
عمله ، لانه غره.
وفيه انه انما يتم مع جهل العامل الثاني أما مع علمه
بكون العامل الذي ضاربه غير مالك ، ولا مأذون من المالك ، فإنه لا يستحق شيئا ،
لأنه تصرف في مال الغير بغير اذنه مع علمه بأنه ممنوع منه ، وفي هذا القول أيضا
زيادة على ما عرفت أنه لا يخلو اما أن يكون العامل الثاني قد شرى بعين المال ، أو
في الذمة ، وعلى الأول فإن العقد يكون فضوليا ، لانه غير مأذون من المالك فينبغي
بمقتضى صحة العقد الفضولي عندهم أن يكون موقوفا على الإجازة ، فان اجازه المالك فالواجب
أن يكون الربح كله له ، لان العامل الأول لم يعمل شيئا ، والثاني غير مأذون.
وعلى الثاني فإن نوى وصرح بالمالك فكذلك أيضا ، والا وقع
لمن نواه ولنفسه ان أطلق ، وبه يظهر أن ما أطلق في هذا القول من كون الحصة للعامل
الأول ليس في محله.
وثانيها ـ أن النصف
الأخر للمالك ، وهو ظاهر العلامة في التذكرة قال بعد ذكر المسئلة : فان حصل ربح
فالأقرب أنه للمالك ، ثم لا يخلو اما أن يكون العامل الثاني عالما بالحال أو لا ،
فان كان عالما لم يكن له شيء ، وان لم يكن عالما رجع على الأول بأجرة المثل ،
انتهى.
وكلامه ظاهر في منع العامل الثاني من الربح وعدم
استحقاقه شيئا منه ، وأما الأول فلم يتعرض له ، وينبغي أن يعلم أن الوجه في عدم
استحقاقه ، هو انه لم يعمل شيئا يوجب استحقاقه بشيء من الربح ، وعلل منع الثاني
أيضا ، بأن عقده فاسد ، فلا يترتب عليه أثر ، والحق هو التفصيل بما تقدم في القول
الأول من أن الشراء وقع بعين المال أو في الذمة حسب ما عرفت ، وبه يظهر أنه
لا يتم القول بأن عقده فاسد.
وثالثها ـ ان النصف بين العاملين بالسوية ، اتباعا للشرط
، خرج منه النصف الذي أخذه المالك ، فكأنه تالف ، وانحصر الربح في الثاني ، قالوا
: وعلى هذا فيرجع العامل الثاني على الأول بنصف أجرته ، لأنه دخل على نصف الربح
بتمامه ، ولم يسلم اليه الا نصفه.
قيل : ويحتمل هنا عدم الرجوع ، لان الشرط محمول على
اشتراكهما فيما يحصل ، ولم يحصل الا النصف.
وكيف كان فينبغي أن يعلم أن هذا كله مع الجهل ليتم
التوجيه المذكور والا فمع العلم فالعمل على ما تقدم من التفصيل بكون الشراء بالعين
، أو في الذمة ، فلا يتم ما ذكر هنا.
أقول : وهذه الأقوال الثلاثة نقلها المحقق في الشرائع في
المسئلة ، واختار الأول منها ، وقال في المسالك : وهذه الأقوال ليست لأصحابنا ،
ولا نقلها عنهم أحد ممن نقل الخلاف ، وانما هي وجوه للشافعية ، موجهة ذكرها المصنف
والعلامة في كتبه.
وفيه انك قد عرفت اختيار المحقق القول الأول من هذه
الأقوال الثلاثة ، وهو أيضا اختيار العلامة في الإرشاد والثاني منها اختيار
العلامة في التذكرة ، ومثله في القواعد.
واما الثالث فلم أقف على قائل به ، وبه يظهر أن قوله في
المسالك ان هذه الأقوال ليست لأصحابنا ، وانما هي وجوه للشافعية ليس في محله ، فان
ذكر الشافعية لها وجوها في المسئلة لا ينافي اختيار أصحابنا لما يترجح عندهم منها
، بل أنت إذا تأملت بعين التحقيق عرفت أن جميع الفروع الغير المنصوصة في أخبارنا
في جل أبواب الفقه انما هي للعامة ، وأصحابنا قد جروا على ما جروا عليه فيما
يختارونه منها ، كما تقدم التنبيه عليه في غير موضع ، ومنها هذه المسئلة.
والقول الثالث في هذه الأقوال قد نقله العلامة في
التذكرة بعد اختياره القول الثاني عن المزني من الشافعية ، وقال : انه قول الشافعي
في القديم ، ثم انه قال في المسالك بعد البحث وذكر الأقوال فيها : والتحقيق في هذه
المسئلة المترتب على أصولنا أن المالك ان أجاز العقد فالربح بينه وبين الثاني على
الشرط ، وان لم يجزه بطل ، ثم الشراء ان كان بالعين وقف على اجازة المالك ، فان
أجازه فالملك له خاصة ، ولا شيء لهما في الربح ، أما الأول فلعدم العمل ، وأما
الثاني فلعدم الاذن له ، وعدم وقوع العقد معه ، والثاني أجرة مثل عمله على الأول
مع جهله ، لا مع علمه ، وان كان الشراء في الذمة ونوى صاحب المال فكذلك ، وان نوى
ممن عامله وقع الشراء له ، لانه وكيله وان لم ينو شيئا أو نوى نفسه فالعقد له ،
وضمان المال عليه لتعديته بمخالفة مقتضى المضاربة ، وحيث لا يقع العقد للعامل
الثاني فله الأجرة على الأول مع جهله ان لم يتعد مقتضى المضاربة عمدا ، انتهى.
وهو جيد الا انه في جل المواضع مبتن على القول بصحة
العقد الفضولي وتوقفه على الإجازة ، وأما على القول ببطلانه كما هو الظاهر عندي
وعند جملة من المحققين كما تقدم في محله فالأمر واضح في جملة هذه المواضع والله
العالم.
السابعة : لو أنكر
العامل مال القراض فأثبته المالك بالبينة ، فادعى العامل بعد ذلك التلف ، فقد صرح
الأصحاب بأن هذه الدعوى الأخيرة غير مقبولة ، وكذا الحكم فيما لو ادعى عليه وديعة
أو غيرها من الأمانات فأنكرها ، ثم بعد الإثبات ادعى التلف قالوا : والوجه فيه أن
دعواه التلف مكذبة لإنكاره الأول وموجبة للإقرار به ، وإنكاره الأول نوع تعد في
المال ، والواجب عليه في جميع هذه المواضع البدل أو القيمة.
أما لو كان جوابه لا يستحق عندي شيئا وما أشبهه لم يضمن
، إذ ليس في
ذلك تكذيب للبينة ، ولا للدعوى
الثانية فإن المال إذا تلف بغير تفريط لا يستحق عليه بسببه شيئا ، وحينئذ فيقبل
قوله في التلف من غير تفريط بيمينه ، وثبوت القراض بالبينة لا ينافي جواز تلفه بعد
ذلك بغير تفريط ، وقد تقدم أن العامل أمين يقبل قوله بيمينه ، وهو ظاهر.
ولو ادعى الغلط في الربح أو قدره بأن قال أولا ربحت ، أو
ربحت كذا ، ثم ادعى الغلط في ذلك ، وانه ما ربح شيئا أو ربح شيئا أقل مما ذكره
أولا ، فإنه يؤخذ بإقراره الأول ، ولا يسمع دعوى الغلط كما هو شأن جميع الأقارير.
نعم لو قال : خسرت بعد ذلك أو تلف ، فإنه يقبل قوله
بيمينه كما تقدم.
ولو ذكر لما ادعاه من الغلط وجها يمكن استناده اليه
وابتناءه عليه فلا يبعد قبول قوله ، كما مر مثله ، بأن ظن هنا أن متاعه يشترى بكذا
وكذا زيادة على القيمة التي ابتاع بها ، فظهر كذب ظنه ، ونحو ذلك فليس فيه الا
ارتكاب التجوز في اخباره بالبناء على الظن ، ومثله في باب المجاز غير عزيز والله
العالم.
الثامنة : ـ الظاهر أنه
لا خلاف في أنه ليس لأحد من العامل والمالك استحقاق شيء من الربح استحقاقا تاما
حتى يستوفى المالك جميع رأس ماله ، فلو كان في المال خسران وربح جيرت الوضيعة من
الربح ، سواء كان الخسران والربح في مرة واحدة ، أو الخسران في صفقة ، والربح في
أخرى أو الربح في سفر ، والخسران في سفر آخر لان معنى الربح هو الفاضل عن رأس
المال ، وإذا لم يفضل شيء فلا ربح.
قال في التذكرة بعد ذكر الحكم المذكور : ولا نعلم في هذا
خلافا ، إذا تقرر ما ذكرناه فاعلم : أنهم قد صرحوا بأنه ليس لأحدهما قسمة الربح
قبل فسخ العقد قسمة إجبار ، بل يتوقف على رضاهما معا ، فلا يجبر أحدهما لو امتنع.
أما العامل فإنه لا يجبر لو طلب المالك القسمة ، لأنه لا
يأمن أن يخسر المال بعد ذلك ، ويكون قد خرج ما أخذه من الربح ، وفات من يده ،
فيحتاج
الى غرم ما حصل له بالقسمة ، وفي ذلك
ضرر عليه ، فلا يلزم الإجابة الى ما فيه ضرر عليه.
وأما المالك فإنه لا يجبر أيضا على القسمة لو طلبها العامل
، لان الربح وقاية لرأس ماله ، فله أن يقول : لا ادفع إليك شيئا من الربح حتى يسلم
لي رأس مالي ، ثم انه لو تراضيا بالقسمة قبل الفسخ ، فقد عرفت أنه لم يحصل استقرار
الملك للربح ، وعلى هذا فلو حصل الخسران بعد ذلك صبر المالك الى أن ينجبر هذا
النقص بتجارة أخرى ، والا فإنه يجب على العامل جبره بما أخذ من الربح ، لانه لم
يملك ما أخذه ملكا مستقرا ، بل مراعى بعدم الحاجة إليه لجبر الخسران ، وحينئذ فإذا
اتفق الخسران بعد قسمتهما الربح رد العامل أقل الأمرين مما وصل اليه من الربح ،
ومما يصيبه من الخسران ، لأن الأقل ان كان هو الخسران ، فلا يلزمه سوى جبر المال ،
والفاضل له ، وان كان هو الربح ، فلا يلزمه الجبر الا به ، وكذا يحتسب المالك
برجوع أقل الأمرين اليه.
وتوضيح ذلك بأن نفرض أن أصل المال مأة درهم ، والربح
عشرون درهما ، والشرط أن يكون الربح بينهما نصفين ، وبموجبه يكون النقصان كذلك ،
فاقتسما الربح وصار حصة العامل عشرة دراهم ثم انه اتفق نقصان المال من التجارة
عشرين درهما ، فعلى العامل عشرة دراهم ، وهي تمام حصته ، لان له نصف الربح فعليه
نصف النقصان ، وباقي النقصان على حصة المالك ، ولو كان الخسران ثلاثين درهما
والربح كما تقدم ، فان حصته من النقصان بموجب ما عرفت خمسة عشر درهما ، وحصته من
الربح انما هي عشرة ، فيأخذ هنا بالأقل الذي هو حصته من الربح ، فإنه لا يلزم
بأزيد مما يأخذه ، ولا يكلف بالجبر من غير الربح ، ولو كان الخسران عشرة دراهم فان
حصته من الخسران خمسة دراهم بموجب ما عرفت ، وهي أقل من حصته من الربح التي هي
عشرة كما عرفت فيؤخذ بالأول الذي هو الأقل والخمسة الأخرى على المالك ، وعلى هذا
يكون الزائد له ، لأن الأمر هنا بالحصة ،
والرصد والذي يتعلق بالعامل من ذلك هو
النصف ، والنصف الأخر بالمالك ، ومنه يعلم ما يتعلق بالمالك.
التاسعة : الظاهر أنه لا
خلاف في أن التالف من مال التجارة كلا أو بعضا بعد دورانه في التجارة يجبر بالربح
، والمراد بدورانه في التجارة التصرف فيه بالبيع والشراء ، لا مجرد السفر به ، قبل
وقوع شيء من ذلك ، ويمكن أن يستدل على هذا الحكم أعنى جبر الفائت كلا أو بعضا
بالربح بالأخبار الكثيرة المتقدمة ، الدالة على أنه مع المخالفة يضمن المال ،
والربح بينهما.
ومنها صحيحة محمد بن مسلم (1) «عن أحدهما (عليهماالسلام) «قال : سألته
عن الرجل يعطى المال مضاربة وينهى أن يخرج به ، فيخرج قال : يضمن المال والربح
بينهما».
والتقريب فيها ما تقدم من أن الربح هو الفاضل عن رأس
المال فيما لم يفضل عن رأس المال شيء فلا ربح ، وقد ادعى عليه في التذكرة الإجماع
، كما تقدمت الإشارة اليه ، وحينئذ فلا بد من جبر التالف ليحصل بقاء المال ، فما
زاد على ذلك يتصف بكونه ربحا يتعلق به القسمة بينهما ، وظاهر الأصحاب أنه لا فرق
في الفوائت التي يترتب عليها الخسران بين أن يكون بآفة سماوية أو بغصب غاصب أو
سرقة أو نحو ذلك.
ووجه الإطلاق في ذلك ما عرفت من أن الربح وقاية لرأس
المال فما دام المال لا يكون موجودا بكماله ، فلا ربح ، وربما قيل : باختصاص الحكم
بما لا يتعلق فيه الضمان بذمة المتلف ، لأنه حينئذ بمنزلة الموجود فلا حاجة الى
جبره ، ولانه نقصان لا يتعلق بتصرف العامل وتجارته بخلاف النقصان الحاصل بانخفاض
السوق ونحوه : والمشهور عدم الفرق.
قال في التذكرة : لو حصل في المال نقص بانخفاض السوق ،
فهو خسران
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 240 ح 2 الوسائل ج 13 ص 181 ح 1.
مجبور بالربح ، وكذا ان نقص المال
بمرض حادث أو بعيب متجدد ، وأما ان حصل نقص في العين بأن يتلف بعضها فان حصل بعد
التصرف في المال بالبيع والشراء ، فالأقرب انه كذلك ، وأكثر الشافعية على أن
الاحتراق وغيره من الآفات السماوية خسران مجبور بالربح أيضا.
وأما التلف بالسرقة والغصب ففيه لهم وجهان ، وفرقوا
بينهما بأن في الغصب والسرقة يحصل الضمان على الغاصب والسارق ، وهو يجبر النقص فلا
حاجة الى جبره بمال القراض ، وأكثرهم لم يفرقوا بينهما ، وسووا بين التلف بالآفة
السماوية وغيرها ، فجعلوا الوجهين في النوعين : أحدهما المنع ، لانه نقصان لا تعلق
له بتصرف العامل وتجارته ، بخلاف النقصان الحاصل بانخفاض السوق ، وليس هو بناش من
نفس المال الذي اشتراه العامل ، بخلاف المرض والعيب فلا يجب على العامل جبره.
وكيف كان فالأصح عندهم أنه مجبور بالربح انتهى كلامه.
وبه يظهر لك أن ما ذكره الأصحاب في المقام مأخوذ من كلام
الشافعية هنا ، كما أشرنا إليه فيما تقدم ، وهذا كله فيما إذا حصل التلف في المال
بعد دورانه في التجارة.
أما لو كان قبل ذلك فلا يخلو اما أن يكون التالف الجميع
أو البعض ، وعلى الثاني فالأقرب عندهم جبره بالربح ، كما لو دفع له مأة فتلف منها
قبل الاستعمال خمسون ، فإنه يجبر التالف بالربح ، لانه تعين للقراض بالعقد والدفع
الى العامل وقبض العامل له ، وحينئذ يكون رأس المال مأة كذا صرح به في التذكرة.
وعلى الأول فالذي صرح به في التذكرة ، هو أنه ان كان
التلف بآفة سماوية أو من جهة المالك انفسخ العقد ، لزوال المال الذي تعلق به العقد
، فان اشترى بعد ذلك للمضاربة كان لازما له ، والثمن عليه ، سواء علم بتلف المال
قبل نقد الثمن أو جهل ذلك ، الا أن يجيز المالك الشراء ، فإن أجاز احتمل أن يكون
قراضا ـ كما لو لم يتلف المال ـ وعدمه
كما لو لم يأخذ شيئا من المال ، أما لو أتلفه أجنبي قبل دورانه في التجارة ، وقبل
تصرف العامل فيه ، فان العامل يأخذه بماله ، ويكون القراض باقيا فيه ، لان القراض
كما يتناول عين المال فكذا يتناول بدله كاثمان السلعة التي يبيعها العامل ،
والمأخوذ من الأجنبي عوضا بدل.
وقال في المسالك : أنه أى تلف المال كلا قبل الدوران
موجب لبطلان العقد ، فلا يمكن جبره ، الا أن يحمل على ما لو أذن له في الشراء في
الذمة فاشترى ، ثم تلف المال ونقد عنه الثمن ، فان القراض يستمر ويمكن جبره حينئذ
بالربح المتجدد ، كلامهما متفق على البطلان في الصورة المذكورة إلا مع التأويل بما
ذكره كل منهما ، وان تغاير التأويلان.
وقال في الشرائع : إذا تلف مال القراض أو بعضه بعد
دورانه في التجارة احتسب التالف من الربح ، وكذا لو تلف قبل ذلك ، وفي هذا تردد.
قال في المسالك : وجه التردد فيما لو كان تلفه قبل
الدوران من أن وضع المضاربة على أن الربح وقاية لرأس المال ، فلا يستحق العامل
ربحا الا بعد أن يبقى رأس المال بكماله ، لدخوله على ذلك ، وعدم دورانه لا دخل له
في الحكم بخلافه ، ومن أن التلف قبل الشروع في التجارة يخرج التالف عن كونه مال قراض
، والأقوى عدم الفرق ، لأن المقتضي لكونه مال قراض هو العقد ، لا دورانه في
التجارة ، فمتى تصور بقاء العقد وثبوت الربح جبر ما تلف مطلقا انتهى.
أقول : قد عرفت أن مقتضى تلف المال قبل الدوران هو بطلان
المضاربة كما اعترف به فيما قدمنا نقله عنه ، وكذا في ما قدمناه من كلام التذكرة ،
ومقتضى ذلك أنه لا ربح هنا بالكلية ليحصل به الجبران ، ولم يبق الا الحمل على ما
ذكره من التأويل ، وهو مع بعده عن ظاهر عبارة المصنف غاية البعد ، مدخول بأن
الظاهر انما هو عدم الجبران.
قوله : ان وضع المضاربة على أن الربح وقاية لرأس المال
الى آخره مسلم
الا أنه فرع وجود رأس المال فإن رأس
المال انما يصدق كما هو المتبادر على المبلغ الذي دفعه المالك ، وهو قد تلف كما هو
المفروض ، والربح الذي يجب الجبر به انما هو ما حصل من ذلك المال بعد المعاملة به
، وهذا الربح الذي حصل بالشراء في الذمة لم يترتب على ذلك المال المقروض ، لانه قد
ذهب قبل دورانه ، ويؤيده أن الأصل بقاء ملك العامل لهذا الربح وخروجه عنه الى أن
يجبر به الفائت يحتاج الى الدليل.
نعم قام الإجماع. وظاهر ما تقدم من الاخبار على الجبر
بعد الدوران ، فيبقى ما عداه على حكم الأصل ، وبذلك يظهر أن قوله وعدم دورانه لا
دخل له في الحكم بخلافه ليس في محله.
وبالجملة فإنا لا نمنع بقاء العقد في صورة التأويل الذي
فرضه ـ وبنى عليه الكلام ، لعدم فسخه وارتفاعه مع الاذن في الشراء في الذمة ،
وظهور ربح هناك ـ وانما نمنع من جبر التالف بهذا الربح ، إذ المتبادر من الاخبار
وكلام الأصحاب أن الربح الذي يجبر التالف انما هو ربح ذلك المال الذي وقعت
المعاملة به ، ورأس المال الذي يخرج أولا انما هو المستعمل في التجارة وكونه مال
التجارة ، إنما يصدق حقيقة بعد الدوران لا قبله ، بمعنى جبر التالف بالربح أي الذي
عرض له التلف بعد حصول الربح فيه ، لا ما لم يكن كذلك.
وكيف كان فالمانع مستظهر ، والله العالم.
العاشرة : يجوز تعدد كل
من العامل والمالك فيضارب المالك اثنين ، وبالعكس ، فإذا تعدد العامل بأن قارض
الواحد اثنين ، اشترط تعين الحصة لهما ولا يجب عندهم تفصيلها ، بل يجوز أن يجعل
النصف لهما ، فيحكم بالنصف لهما بالسوية ، لاقتضاء الإطلاق ذلك ، وأصالة عدم
التفصيل ،
وفيه نظر قد تقدم ذكره في المسئلة الرابعة من المقصد
الثالث في
الربح ولو شرط التفاوت بينهما بأن جعل
لأحدهما ثلث الربح ، وللآخر ربعه فأبهم ولم يعين بطل ، ولو عين الثلث لواحد بعينه
، والربح للآخر صح ، لان عقد الواحد مع اثنين في حكم عقدين قد قارض في أحدهما بثلث
الربح ، وفي الأخر بالربع ، وقد تقدم إيضاح ذلك في المسئلة المذكورة ، وإذا اتحد
العامل وتعدد المالك فلو بينا نصيب العامل من الربح بأن جعلا له نصف الربح ، ولهما
الباقي يكون بينهما على ما يشترطانه من التفاضل والتساوي ، سواء كان على نسبة
المالين أم لا ، وبه أفتى في التذكرة ونقل عن الشافعي المنع من التفاضل مع تساوى
المالين ، والتساوي مع تفاضلهما ، لان الربح يكون تابعا للمال ، فإذا شرطا له
النصف كان النصف الأخر بينهما بالسوية ، فشرط التفاوت فيه يكون شرطا لاستحقاق ربح
بغير عمل ولا مال.
ولو شرط أحدهما للعامل النصف من حصته من الربح ، وشرط
الأخر له الثلث على أن يكون الباقي بينهما نصفين صح على القول الأول ، وبطل على
قول الشافعي ، قال : انه لا يجوز ، لأن أحدهما يستحق مما بقي بعد شرطه النصف
والأخر يستحق الثلثين ، ولا يجوز أن يشترط التساوي ، فيكون قد شرط أحدهما على
الأخر من ربح ماله بغير عمل عمله ، ولا مال يملكه.
أجاب القائلون بالقول الأول بأن الفاضل الذي أخذه الشريك
من حصة العامل ، لا من حصة شريكه ، وتوضيحه أن الأصل لما اقتضى التساوي في الربح
للشريكين مع التساوي في المال كان شرط التفاوت المذكور منصرفا إلى حصة العامل ،
بمعنى أن شارط الزيادة يكون قد جعل للعامل أقل مما جعل له أخذ النقيصة ، وهو جائز
، ومنه علم حجة القول الأول.
أقول : ومن تعارض هذين الوجهين في المسئلة تردد المحقق
في المسئلة المذكورة وهو في محله ، لعدم النص الواضح في المقام ، وان كان القول
الأول لا يخلو من قوة.
هذا فيما لو اشترطا التفاضل في القسمة مع إطلاق النصف
الذي عيناه للعامل بمعنى أنه لم يعين نصيب كل منهما من ذلك النصف الذي جعلاه له ،
أما لو عيناه بأن قالا لك نصف الربح على أن يكون بالمناصفة بيننا ، فيرجع الى أنه
قد جعل له كل واحد منهما ربع الربح ، فإنه بهذا التعيين يخرج المسئلة عما قلناه
هنا من الخلاف ، ويرجع الكلام في ذلك الى ما تقدم في كتاب الشركة من اشتراط
التفاوت في الربح مع تساوى المالين ، وبالعكس وقد تقدم البحث في ذلك في المسئلة الخامسة
(1) من الفصل
الأول من الكتاب والله العالم.
الحادية عشر ـ اختلف
الأصحاب في ما لو اشترى العامل شيئا للقراض فتلف الثمن قبل دفعه البائع ، قال
الشيخ في الخلاف : إذا دفع إليه ألفا للقراض فاشترى به عبدا للقراض ، فهلك الالف
قبل أن يدفعه في ثمنه ، اختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب ، قال أبو حنيفة ومحمد :
يكون المبيع لرب المال ، وعليه أن يدفع إليه ألفا غير الأول ، ليقضي به دينه ،
ويكون الأول والثاني قراضا وهما معا رأس المال ، وقال مالك : رب المال بالخيار بأن
يعطيه ألفا غير الأول ليقضي به الدين ويكون الألف الثاني رأس المال دون الأول ، أو
لا يدفع إليه شيئا ، فيكون المبيع للعامل ، والثمن عليه ، ونقل البزنطي عن الشافعي
أن المبيع للعامل ، والثمن عليه ، ولا شيء على رب المال ، وهو اختيار أبى العباس
، قال الشيخ : وهو الذي يقوى في نفسي لأنه لا يخلو اما أن يكون الالف تلف قبل
الشراء ، أو بعده ، فان كان تلف قبل الشراء وقع الشراء للعامل ، لانه اشتراه بعد
زوال القراض ، وان كان التلف بعد الشراء فالبيع وقع لرب المال ، وعليه أن يدفع
الثمن من ماله الذي سلمه اليه ، فإذا هلك المال فحول الملك الى العامل ، وكان
الثمن عليه ، لان رب المال انما فسخ للعامل في التصرف في ألف اما أن يشترى به
بعينه ، أو في الذمة ، وينقد عنه ، ولم يدخل على أن يكون له في القراض أكثر منه.
__________________
(1) ص 163.
وقال في المبسوط : إذا دفع ألفا قراضا فاشترى به عبدا
للقراض فهلك الالف قبل أن يدفعه ، قال قوم : ان المبيع للعامل والثمن عليه ولا شيء
على رب المال وقال قوم : المبيع لرب المال ، وعليه أن يدفع إليه ألفا غير الأول ،
فيقضي به دينه ، ويكون الألف الأول والثاني قراضا وهما معا رأس المال وهو الأقوى ،
وبه قال ابن البراج ، ثم نقل مذهب مالك الذي قدمنا نقله عنه في الخلاف ، ثم قال :
وإذا سرق المال قبل أن يدفعه في ثمن المبيع قال قوم : يكون للعامل والثمن عليه ،
ولا شيء على رب المال ، وفي الناس من قال : إذا تلف المال قبل الشراء ، فالمبيع
للمشتري ، لأنه اشتراه بعد زوال عقد القراض ، وان كان بعد الشراء كان الشراء للقراض
ووقع الملك لرب المال ، لانه اشتراه والقراض بحاله ، لأن الإذن قائم ، وإذا كان
الشراء له كان الثمن عليه ، وإذا دفع إليه ألفا آخر ليدفعه في الثمن ، نظرت فان
سلم فلا كلام ، وان هلك فعليه غيره كذلك أبدا ، فعلى هذا إذا هلك الالف الأول ،
ودفع إليه ألفا آخر فدفعه في الثمن ، فإن الألفين يكون رأس المال ، وهو الصحيح ،
لأن الألف تلف بعد أن قبضه العامل ، فلم يكن من أصل المال ، كما لو كان في التجارة
، انتهى.
وقال الشيخ المفيد : إذا ابتاع المضارب متاعا لصاحب
المال ، وأراد نقد الثمن ، فوجد المال قد هلك ، فنقد من عنده في المتاع كان المتاع
له دون صاحب المال ، وكان الربح له والخسران عليه ، ولم يكن لصاحب المال فيه نصيب
على حال.
وقال ابن إدريس : ان كان المضارب اشترى العبد بثمن في
الذمة لا بعين المال فالعبد للمضارب دون رب المال ، ويجب على العامل الذي هو
المضارب أن يدفع من ماله ألفا ثمن العبد ، والبيع لا ينفسخ ، لأن الأثمان إذا كانت
في الذمة لا ينفسخ البيع بهلاكها ، لأنها غير معينة ، وان اشترى بعين مال المضاربة
انفسخ البيع ، وكان العبد ملكا لبائعه ، على ما كان دون العامل ، ودون رب مال
المضاربة لان
هلاك الثمن المعين يوجب الفسخ ، قال :
وهذا الذي اخترناه مذهب شيخنا في مواضع كثيرة من كتب مسائل الخلاف والمبسوط ،
انتهى.
أقول : والمسئلة المذكورة وان كانت خالية من النصوص على
العموم والخصوص ، الا أن مقتضى قواعدهم في هذا الباب هو التفصيل ، بأن يقال : ان
كان تلف المال بعد الشراء بتفريط من العامل اما بعدم الحفظ أو بالتأخير عن الدفع
فإنه يكون ضامنا ، ويكون القراض باقيا ويجب عليه الدفع إلى البائع ، وان لم يكن
بتفريط ، فلا يخلو اما أن يكون الشراء بالعين أو في الذمة ، فإن كان الشراء بالعين
بطل البيع ، ووجب دفع المبيع إلى بائعه كما ذكره ابن إدريس ، وان كان في الذمة فإن
كان مأذونا من المالك وقع الشراء للقراض ، ووجب على المالك دفع الثمن عوض التالف ،
ويكون الجميع رأس المال فيجبر بالربح عندهم ، كما تقدم.
وان لم يكن مأذونا من المالك بطل الشراء ان أضاف ذلك الى
المالك والقراض ، وترد المبيع على بائعه ، الا أن يجيز المالك ذلك بناء على صحة
العقد الفضولي ، فإن أجاز المالك وجب عليه دفع الثمن ثانيا وثالثا وهكذا ، ويكون
الجميع رأس المال كما تقدم ، وان لم يضف ذلك الى المالك ولا القراض ، بل أضافه الى
نفسه أو أطلق وقع الشراء للعامل ، وعليه دفع الثمن ، وعليه يحمل إطلاق كلام ابن
إدريس هذا مقتضى قواعدهم في الباب والله العالم بحقيقة الحق والصواب.
الثانية عشر ـ إذا دفع اليه
مالا قراضا وشرط عليه أن يأخذ له بضاعة ، فهل يصح القراض والشرط ، أولا يصح شيء
منهما ، أو يصح القراض ويبطل الشرط؟ أقوال : أولها ـ للعلامة في المختلف والمحقق
في الشرائع ، وثانيهما ـ أحد قولي الشيخ وبه جزم ابن البراج ، وثالثهما ـ للشيخ
أيضا.
قال في المبسوط : إذا دفع إليه ألفا قراضا بالنصف على أن
يأخذ منه ألفا بضاعة بطل الشرط ، لان العامل في القراض لا يعمل عملا بغير جعل ،
ولا قسط من الربح ، وإذا بطل الشرط بطل القراض ، لان قسط العامل يكون مجهولا ، لان
المالك انما يحصل له النصف حتى اشترط العامل له عملا بغير جعل ، فيذهب من نصيب
العامل قدر ما زيد فيه لأجل البضاعة ، وهو مجهول.
ثم قال : وان قلنا أن القراض صحيح ، والشرط جائز ـ لكنه
لا يلزم الوفاء به ، لأن البضاعة لا يلزم القيام بها ـ كان قويا ، وجزم ابن البراج
بالأول.
وقال في المختلف بعد نقل ذلك : والحق صحة الشرط والعقد ،
وأي منافاة بين أن يعمل العامل عملا في مال بعوض ، وفي غيره بغير عوض ، لنا وجود
المقتضى وهو العقد ، وقوله (عليهالسلام) (1) : «المؤمنون
عند شروطهم». والمانع منتف لما بيناه ، فيثبت القراض والشرط ، ويجب عليه القيام به
، لقوله (عليهالسلام) «المؤمنون
عند شروطهم» ، وقال في المسالك : وهو الأقوى.
أقول ، وملخص حجة القول ببطلان الجميع أن وضع القراض على
أن يكون للعامل في مقابلة عمله جزء من الربح ، وهذا العمل ليس في مقابلة شيء
فيفسد الشرط ، ويتبعه العقد ، لان قسط العامل يكون مجهولا ، لاقتضاء الشرط قسطا من
الربح ، وقد بطل ، فيبطل ما يقابله فيجهل الحصر في النصف.
ورد بمنع منافاة هذا الشرط لمقتضى العقد ، فان مقتضاه أن
يكون عمله في مال القراض بجزء من الربح ، أما غيره فلا ، فإذا تناوله دليل مجوز
لزم القول بجوازه.
وأنت خبير بأن المسئلة غير خالية من الاشكال على كل من
هذه الأقوال ، وتوضيح ذلك أن البضاعة لا يجب القيام بها ، لان مبناها على الجواز ،
والقراض
__________________
(1) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.
أيضا من العقود الجائزة كما عرفت لا
يلزم الوفاء به ، فلا يلزم الوفاء بما شرط في عقده ، لأن الشرط كالجزء من العقد
تابع له ، فلا يزيد عليه ، والحال أن المالك لم يعين للعامل هذه الحصة الا من حيث
هذا الشرط ، فإن وفى به فلا بحث ، والا أشكل الأمر.
ومقتضى القواعد كما عرفت أنه لا يلزم للعامل الوفاء به ،
فمتى أخل به تسلط المالك على الفسخ ، ولو كان ذلك له بدون الشرط الا أن هذا سبب
زائد ، فلو فسخ والحال هذه فان كان قبل ظهور ربح ، فمقتضى قواعدهم أن للعامل عليه
الأجرة كما تقدم ، وان كان بعد ظهوره فهل يكون جميع الربح للمالك نظرا إلى أنه لم يبذله
للعامل الا بالشرط ، وقد فات ، أو للعامل حصته المعينة ، نظرا الى ملكه لها
بالظهور قبل الفسخ ، والأصل بمعنى الاستصحاب يقتضي بقائه ، ويؤيده أن المالك قد
قدم على ذلك حيث اقتصر على شرط ذلك في عقد لا يلزم الوفاء فيه بالشرط اشكال ، وقيل
: هنا بالأول ، وفيه ما عرفت ، والله العالم.
الثالثة عشر ـ لا خلاف ولا
إشكال في أنه لو اشترى جارية للقراض لم يجز له وطئها ، لأنها ملك لرب المال ، ظهر
فيها ربح أم لا ، غاية الأمر بظهور الربح أن تكون مشتركة بين المالك والعامل ،
والجارية المشتركة لا يجوز لأحد الشريكين وطئها بدون إذن الأخر ، فإن وطأها والحال
كذلك فقد تقدم الكلام في تحقيق القول في ذلك بالنسبة إلى الحد والمهر والولد في
كتاب البيع في المسئلة الرابعة عشر من المقصد الثاني من الفصل التاسع في بيع
الحيوان (1).
وقد صرح العلامة في التذكرة هنا بأن المهر المأخوذ منه
هنا يجعل في مال القراض ، قال : لانه ربما وقع خسران فيحتاج الى الجبر.
وقال في التذكرة أيضا : أنه لا يجوز للمالك أن يطأها
أيضا سواء كان هناك ربح أم لا ، لان حق العامل قد تعلق بها ، والوطي ينقصها ان
كانت بكرا ، أو
__________________
(1) ج 19 ص 474.
يؤدى الى خروجها من المضاربة ، لأنه
ربما يؤدى الى إحبالها ، الى أن قال : ولو لم يكن فيها ربح لم يكن للمالك أيضا ،
لأن انتفاء الربح في المتقومات غير معلوم ، وانما يتيقن الحال بالتنضيض للمال ،
اما لو تيقن عدم الربح فالأقرب أنه يجوز له الوطي ، انتهى.
أقول : وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله أولا لا يجوز للمالك
أن يطأها سواء كان هنا ربح أم لا ، على الربح الذي من أصل المال ، لا من الجارية
جمعا بين كلاميه ، وانما الخلاف والاشكال فيما إذا أذن له في شراء الجارية ووطأها
، فالمشهور أنه كالأول ، لأن الإذن قبل الشراء لا أثر لها في التحليل ، سواء قلنا
أن التحليل تمليك أو عقد ، فإنه على تقدير كل منهما لا يحصل شيء منهما قبل الشراء
، فلا يدخل تحت الحصر في قوله تعالى «إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» (1) الا انه قد
روى الشيخ في التهذيب عن الحسن بن محمد بن سماعة عن محمد بن زياد عن عبد الله بن
يحيى الكاهلي (2) عن أبى الحسن (عليهالسلام) قال : «قلت :
رجل سألني أن أسألك أن رجلا أعطاه مالا مضاربة يشترى له ما يرى من شيء ، فقال :
اشتر جارية تكون معك ، والجارية انما هي لصاحب المال ان كان فيها وضيعة فعليه ،
وان كان فيها ربح فله ، للمضارب أن يطأها؟ قال : نعم».
وبهذا الرواية أفتى الشيخ في النهاية ، وظاهر المحدث
الكاشاني في الوافي الميل الى ذلك ، حيث قال : وانما أجاز له وطأها لأن قوله تكون
معك تحليل لها إياه ، انتهى.
والأصحاب قد ردوها بما عرفت ، قال في المسالك : والقول
بالجواز للشيخ في النهاية استنادا إلى رواية ضعيفة السند ، مضطربة المفهوم ، قاصرة
الدلالة.
__________________
(1) سورة المؤمنون ـ الاية 6.
(2) التهذيب ج 7 ص 191 ح 31 ، الوسائل ج 13 190 باب 11.
أقول : أما ضعف السند فهو غير وارد على الشيخ وأمثاله من
المتقدمين الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم ، بل الاخبار كلها صحيح باصطلاحهم ،
الا ما نصوا عليه ، وقد تقدم تحقيق ذلك في المجلد الأول من الكتاب (1).
وأما قصور الدلالة فهو مردود بأنه لا أصرح في الجواز من
قوله (عليهالسلام) «نعم» بعد
قول السائل «إله أن يطأها» وأما اضطراب المفهوم فهو غير مفهوم ولا معلوم ، وأما ما
استندوا اليه من أن الاذن قبل الشراء لا أثر له في التحليل فهو أول المسئلة ومحل
البحث ، وأى مانع منع منه «قولهم : سواء قلنا أن التحليل تمليك أو عقد» مدخول بعدم
الانحصار في القسمين المذكورين ، فان التحليل قسم ثالث ، ليس بتمليك ولا عقد ، وقد
دلت الاخبار على جواز النكاح به ، وان كان ظاهر كلامهم إرجاعه الى أحد القسمين
المتقدمين ، الا أن ظاهر الاخبار كونه قسما برأسه.
وبالجملة فإن رد الخبر من غير معارض مشكل ، والركون الى
هذه التعليلات العليلة ورد الخبر بها مجازفة ظاهرة ، هذا كله فيما إذا كان الاذن
قبل الشراء.
أما لو كان بعد الشراء فان الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال
في جواز الوطي الا أن يكون الشراء للقراض ويكون قد ظهر فيها ربح ، فإنه تصير
المسئلة هنا راجعة إلى مسئلة تحليل أحد الشريكين لصاحبه ، وفيها خلاف وإشكال سيأتي
التنبيه عليه في محله ان شاء الله ، ومنشؤه من حيث لزوم حل النكاح بسببين مختلفين
، الا أن هذا خارج عن مورد الخبر المذكور ، فان ظاهره أن الجارية للمالك خاصة ،
وليست من القراض في شيء.
وكيف كان فالمسئلة لما عرفت محل توقف واشكال ، والاحتياط
فيما ذكره الأصحاب والله العالم.
الرابعة عشر ـ إذا مات وفي
يده أموال مضاربة فان علم مال أحدهم بعينه
__________________
(1) ج 1 ص 25.
حكم له به ، وان جهل كانوا فيه سواء ،
فان جهل كونه مضاربة حكم به للورثة ، ويدل على الأولين ما رواه الشيخ في التهذيب
عن السكوني (1) عن جعفر عن
أبيه عن آبائه عن على (عليهمالسلام) انه كان يقول
: من يموت وعنده مال مضاربة قال : ان سماه بعينه قبل موته فقال : هذا لفلان فهو له
، وان مات ولم يذكر فهو أسوة الغرماء». ورواه الصدوق مرسلا ، ويدل على الثالث
أصالة العدم ، والحكم باليد ، ثم انه على تقدير الثاني فالمراد باستوائهم في المال
كما ذكره الأصحاب هو أن يقسم بينهم على نسبة أموالهم لا بمعنى أن يقسم بالسوية كما
في اقتسام غيرهم من الشركاء.
هذا إذا كانت أموالهم مجتمعة في يده على حده ، وأما ان
كان المال ممتزجا مع جملة ماله مع العلم بكونه موجودا فالغرماء بالنسبة الى جميع
التركة كالشريك ان وسعت التركة أموالهم أخذوها ، وان قصرت تحاصوا وعلى تقدير
الثالث فالمراد به أن العامل كان في يده مضاربة في الجملة ، ولكن لم يعلم بقاؤها
ولا تلفها ومن أجل ذلك حصل الجهل بكون المال الذي في يده مضاربة ، إذ كما يحتمل أن
يكون من مال المضاربة ، يحتمل أن يكون من ماله ، فيحكم بكونه ميراثا ، عملا بظاهر
اليد ، ولكن يبقى الإشكال في أنه هل يحكم بضمانه لمال المضاربة من حيث أصالة
بقائها الى أن يعلم التلف بغير تفريط ولعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (2). أم لا؟
لأصالة براءة الذمة ، وكون مال المضاربة أمانة غير مضمونة ، وأصالة بقائه لا يقتضي
ثبوته في ذمته مع كونه أمانة إشكال ، ولعل الثاني أقوى والله العالم.
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 192 ح 37 الفقيه ج 3 ص 144 ح 6 الوسائل ج 13
ص 191 باب 13.
(2) المستدرك ج 2 ص 504 كتاب الوديعة.