ج23 - عقد النكاح

الفصل الأول

في العقد

والكلام فيه يقع في الصيغة وما يلحقها من الأحكام والأولياء للعقد وما يتعلق بهم في المقام ، وحينئذ فالبحث هنا يقع في مقصدين :

الأول : في الصيغة وما يلحقها من الأحكام ، وفيه مسائل :

الأولى : أجمع العلماء من الخاصة والعامة على توقف النكاح على الإيجاب والقبول اللفظيين.

واتفقوا على أن الإيجاب في العقد الدائم يقع بلفظ : زوجتك وأنكحتك ، بل صرح جملة منهم بأنه لا يقع إلا بهذين اللفظين.

قال الشيخ في المبسوط : لا ينعقد عقد الدوام إلا بلفظين : زوجتك وأنكحتك وبه قال ابن الجنيد والسيد المرتضى وأبو الصلاح وأبو حمزة وابن إدريس.

والأصل في الانعقاد بهما ، ما ورد في الكتاب العزيز من قوله تعالى (1) «فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها» وقوله تعالى (2) «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ» فإن المراد منه العقد هنا ، للإجماع على تحريم من عقد عليها الأب على ابنه وإن لم يدخل بها الأب.

واختلفوا في لفظ متعتك ، وهل ينعقد به أم لا؟ قولان :

نقل (الأول) منهما في المختلف عن بعض أصحابنا ، وهو صريح المحقق في كتابيه ، وإليه يميل كلام السيد السند في شرح النافع.

و (الثاني) منهما اختيار العلامة في جملة من كتبه ، واختاره في المسالك ونقله عن الأكثر.

والوجه فيما ذهب إليه الأولون هو أن المستفاد من الأخبار أن المعتبر من الألفاظ في العقود ما دل على المطلوب والمقصود ، ولفظ متعتك من الألفاظ الدالة على هذا المعنى.

ويعضد ذلك ما دل عليه الخبر ، وقال به جملة من الأصحاب من أنه لو تزوج متعة وأخل بذكر الأجل انقلب دائما ، وذلك فرع صلاحية الصيغة له ، فإنه لو لم يكن الصيغة صالحا لذلك لما لزم الانقلاب.

ويؤيد ذلك أيضا عدم ورود لفظ مخصوص من الشارع لذلك مع عموم البلوى بهذا الحكم وشدة الحاجة إليه بل المستفاد من الأخبار الواردة في هذا

__________________

(1) سورة الأحزاب ـ آية 37.

(2) سورة النساء ـ آية 22.


الباب وغيره مما تقدم هو اتساع الدائرة في العقد كما تقدم ذكر ذلك في غير مقام.

وغاية ما احتج به العلامة في المختلف على ما ذهب إليه من المنع أن الأصل عصمة الفروج عن الغير ، خرج منه ما أجمعوا عليه من الصيغ فيبقي الباقي على المنع الأصلي إلى أن يثبت الدليل على التحليل.

ولأن المتعة حقيقة في النكاح المنقطع في العرف الشرعي فيكون مجازا في الدائم لأصالة عدم الاشتراك.

ولا يكفي في صيغ العقد ما يدل بالمجاز ، وإلا لم تنحصر الألفاظ وهو باطل إجماعا. انتهى.

والجواب عن الأول بثبوت الدليل بما ذكرنا ، وعن الثاني بمنع كون اللفظ المذكور حقيقة في العقد المنقطع ، وذلك فإن أصل اللفظ صالح للنوعين ، فيكون حقيقة في القدر المشترك بينهما ، ويتميزان بذكر الأجل وعدمه ، سلمنا أنه مجاز في الدائم ، ولكن لا نسلم عدم انعقاد العقد بالألفاظ المجازية ، خصوصا إذا كان المجاز مشهورا ، ولهذا حكم الأكثر بانعقاد البيع الحال بلفظ السلم.

أقول : والتحقيق عندي في هذا المقام وهو الأوفق بالاحتياط المطلوب سيما في النكاح كما استفاضت به أخبارهم عليهم‌السلام هو أن يقال : لا ريب أن الذي تكاثرت به الأخبار في العقد الدائم إنما هو التعبير بالتزويج أو النكاح خاصة ، ولم يرد في شي‌ء منها على كثرتها وانتشارها التعبير بلفظ المتعة.

وأما لفظ المتعة فإنه لم يعبر به في الأخبار إلا في النكاح المنقطع خاصة ، وظاهر ذلك اختصاص لفظ المتعة بالمنقطع ، واشتراك لفظي التزويج والنكاح بين الدائم والمنقطع وإن احتيج في المنقطع إلى التقييد بذكر الأجل ، فالاحتياط يقتضي الوقوف على ذلك.

وحيث إن المشهور بين الأصحاب بل هو من القواعد المسلمة عندهم أن


العقود اللازمة يجب أن يكون لها ألفاظ معينة من الشارع صريحة الدلالة ، وأما العقود الجائزة فليست كذلك بل يكفي فيها كل ما دل على المراد ولم تكن من قبل الشارع أوجبوا في هذا المقام بهذين اللفظين ، واختلفوا في الثالث.

وأنت خبير بأن هذه القاعدة المدعاة لم نقف لها على مستند بل ظاهر الأخبار وهو أن الأمر أوسع من ذلك فإن المطلوب من العقود يحصل بكل ما دل على المقصود ، لكنا في هذا الباب لما رأينا الأخبار بالنسبة إلى لفظ المتعة إنما تضمنت التعبير به في المنقطع خاصة حكمنا احتياط بالتخصيص به وعدم انعقاد الدائم به (1) فإنه من المحتمل أن تصريح الأخبار بذلك لعلة موجبة للاختصاص وإن كنا لا نهتدي إلى الآن بوجهها.

ثم إن المشهور بين الأصحاب خصوصا المتأخرين أنه يشترط في عقد النكاح وغيره من العقود اللازمة وقوع الإيجاب والقبول بلفظ الماضي.

قالوا : لأنه دال على صريح الإنشاء المطلوب في العقود ، بخلاف صيغة المضارع والأمر فإنهما ليستا موضوعتين للإنشاء ، ولاحتمال الأول منهما الوعد ، ولأن العقد مع الإتيان باللفظ الماضي متفق على صحته وغير مشكوك فيه ، فيقتصر على المتيقن ، ولأن تجويز غيره يؤدي إلى انتشار الصيغة وعدم وقوفها على قاعدة ، فيصير العقد اللازم مشبها للإباحة ، والعقود اللازمة موقوفة على ثبوت أمر من الشارع لأنها أسباب توقيفية فلا يتجوز فيها.

وأنت خبير بما فيه ، أما (أولا) فلما ذكره السيد السند في شرح النافع حيث قال ـ بعد قول المصنف بأنه يشترط الماضي لأنه صريح في الإنشاء ، ونعم ما قال ـ :

__________________

(1) نعم ربما أشكل ذلك بخبر أبان بن تغلب الدال على أنه مع عدم ذكر الأجل ينقلب دائما فان لحكم بانقلابه دائما مشعر بأن لفظ المتعة مما ينعقد به العقد الدائم ، والجواب عن ذلك ما سيأتي ان شاء الله تعالى في المسألة المذكورة ، من أن التحقيق عدم دلالة الخبر على ما ادعوه. (منه ـ قدس‌سره ـ).


قد تكرر هذا التعليل في كلام الأصحاب وهو غير مستقيم ، فإن الأصل في الماضي أن يكون أخبارا لا إنشاء ، وإنما التزموا بجعله إنشاء بطريق النقل ، فاللفظ بمجرده يحتمل الاخبار والإنشاء ، وإنما يتعين لأحدهما بقرينة خارجة فلا يكون صريحا في الإنشاء ، ومع اقترانه بالقرينة يمكن ذلك في غيره من صيغة الأمر والاستقبال وبالجملة الاسمية ، كما في الطلاق. انتهى.

و (ثانيا) ما في هذه الوجوه التخريجية من النظر الظاهر لكل من تأمل الأخبار وجاس خلال تلك الديار.

وقد قدمنا جملة من الأخبار في الفصل الأول في البيع من كتاب المتاجر دالة على ما قلناه ، فارجع إليها لتعلم ما هو الحق الحقيق بالاتباع وإن كان قليل الاتباع.

ومن ذلك أيضا ما رواه في الكافي عن عبيد بن زرارة (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التزويج بغير خطبة ، فقال : أو ليس عامة ما تزوج فتياننا ونحن نتعرق الطعام على الخوان نقول : يا فلان زوج فلانا فلانة ، فيقول : نعم قد فعلت».

والقبول هنا قد وقع بلفظ الأمر مقدما على الإيجاب وهو على خلاف قاعدتهم المذكورة.

وما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (2) في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : زوجني فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لهذه؟ فقام رجل فقال : أنا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زوجنيها فقال : ما تعطيها؟ فقال : ما لي شي‌ء ، قال : لا ، فأعادت فأعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام ، فلم يقم أحد غير الرجل ، ثم أعادت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المرة الثالثة : أتحسن من القرآن شيئا؟ قال :

__________________

(1 و 2) الكافي ج 5 ص 368 ح 1 وص 380 ح 5 ، الوسائل ج 14 ص 66 ح 1 وج 15 ص 3 ح 1.


نعم ، قال : قد زوجتك على ما تحسن من القرآن فعلمها إياه» (1).

وفي هذا الخبر مخالفات عديدة لقواعدهم منها : الموضع المذكور ، وهو وقوع القبول بلفظ الأمر ، مع أنهم أوجبوا أن يكون بلفظ الماضي ، ومنها : تقديم القبول على الإيجاب ، وجملة منهم يوجبون العكس.

وبالجواز كما دل عليه الخبر قاله الشيخ في المبسوط (2) ومنعه ابن إدريس والعلامة في المختلف وجماعة واختلفوا في تنزيل الخبر ، فالشهيد في شرح الإرشاد نزله على أن الواقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائم مقام الإيجاب والقبول لثبوت ولايته المستفادة من قوله عزوجل «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».

ورد بأن الولي المتولي للعقد عنهما يعتبر وقوع كل من الإيجاب والقبول

__________________

(1) أقول : العجب أن شيخا الشهيد الثاني ـ رحمه‌الله عليه ـ في المسالك نقل الخبر بوضع آخر قال : كما ورد في خبر السهل الساعدي المشهور بين العامة والخاصة ورواه كل منهما في الصحيح ، وهو أن امرأة أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله وهبت نفسي لك ، وقامت قياما طويلا ، فقام رجل وقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زوجنيها ان لم يكن لك بها حاجة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل لك من شي‌ء تصدقها إياه؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك ، التمس ولو خاتما من حديد ، فلم يجد شيئا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل معك من القرآن شي‌ء؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا سماها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : زوجتك بما معك من القرآن. ويحتمل أنه أخذه من كتب العامة ، وأنه بهذه الكيفية في كتبهم والى ذلك تنبه سبطه في شرح النافع فاعترضه كما ذكرنا أيضا ، فقال ـ بعد نقلها ـ : قلت : ان هذه الرواية بهذا المتن لم أقف عليها في كتب روايات الأصحاب. انتهى (منه ـ رحمه‌الله ـ).

(2) قال في المبسوط ج 4 ص 194 : لو تقدم القبول في النكاح فقال الزوج : زوجنيها فقال : زوجتكها صح ، وان لم يعد الزوج القبول بلا خلاف لخبر سهل الساعدي. انتهى ، وفيه دلالة على جواز تقدم القبول مع كون القبول بلفظ الأمر ، وقال في المختلف ـ بعد نقل ذلك ـ : والوجه المنع ، لبعده من الإنشاء الموضوع له لفظ الماضي ، ولم يجب عن الخبر بشي‌ء. (منه ـ رحمه‌الله ـ).


منه على حده ، ولا يكفي أحد من الفقهاء بلفظ واحد عنهما منه (1) وهو موضع وفاق ولا ضرورة إلى جعل ذلك من خصوصياته صلى‌الله‌عليه‌وآله مع وجود القبول اللفظي ، وقول جملة من العلماء به.

ومنهم من نزل الخبر على أن يكون الزوج قبل باللفظ بعد إيجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن لم ينقل ، ولا يخفى ما فيه من التمحل والبعد من غير موجب لذلك إلا مجرد ما قدمناه عنهم من الدعاوي العارية عن الدليل والتخريجات التي لا توصل إلى سبيل.

ولو قامت مثل هذه التأويلات الباردة والتمحلات الشاردة لانسد أبواب الاستدلال إذ لا قول إلا وللتأويل فيه مجال ، فكيف يقوم لهم الاستدلال على مخالفيهم في الأصول وأصحاب الملل والأديان ، إذ أبدوا لهم مثل هذه الاحتمالات الغثة مع أنه لو تم لهم في هذا الخبر ، فإنه لا يتم في الخبر الأول.

ومنها الفصل الكثير بين الإيجاب والقبول ، وهم يوجبون المقارنة وفورية القبول.

وربما أجيب بأنه لا بأس بذلك إذا كان الكلام الفاصل لمصلحة العقد ، وإنما المانع تخلل الكلام الأجنبي.

وفيه أن الأصل لم يقم عليه دليل يلجئ إلى ارتكاب الحمل على ما ذكروا من التأويل على أن الظاهر من التذكرة جواز التراخي بين الإيجاب والقبول بما

__________________

(1) وهو موضع وفاق ولا ضرورة إلى جعل ذلك من خصوصياته صلى‌الله‌عليه‌وآله مع وجود القبول اللفظي وقول جملة من الفقهاء به ومنهم المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد قال ـ بعد ذكر المصنف الوقوع بلفظ الأمر ما لفظه ـ : وهو ظاهر المبسوط لخبر السهل الساعدي المشهور ، والأكثر لم يذكروه ، وفيه احتمال يدفع الدلالة وهو جواز أن يكون الواقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إيجابا وقبولا عنهما لثبوت الولاية المستفادة من قوله تعالى «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» أو جواز أن يكون ملحوقا بقبول الزوج وان لم ينقل لنا مع أصالة عصمة الفرج فلا يثبت الا بمثبت. انتهى وفيه ما عرفت. (منه ـ قدس‌سره ـ).


يزيد على ما هنا ، فإنه قد اعتبر في الصحة وقوع الإيجاب والقبول في مجلس واحد وإن تراخى أحدهما عن الآخر.

وبالجملة فإن الظاهر من الخبر الاقتصار في العقد على ما وقع فيه كما وقع في الخبر المتقدم عليه وارتكاب هذه التأويلات الغثة والتمحلات البعيدة مع عدم الموجب لذلك غير مسموع ولا مقبول ، وهاتان الروايتان قد دلتا على انعقاده بلفظ الأمر.

ونحوهما رواية مؤمن الطاق (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «يقول لها : زوجيني نفسك متعة على كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله نكاحا غير سفاح ـ الحديث».

وأما ما يدل على انعقاده بلفظ المستقبل المقترن بقصد الإنشاء ـ كأن يقول الزوج «أتزوجك» مريدا به الإنشاء فتقول «زوجتك» وبه قال ابن أبى عقيل والمحقق وجماعة ـ فجملة من الأخبار.

منها : رواية أبان بن تغلب (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال : تقول : أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه لا وارثة ولا موروثة كذا وكذا يوما ، وإن شئت كذا وكذا سنة بكذا وكذا درهما وتسمي من الأجر ما تراضيتما عليه قليلا كان أم كثيرا ، فإذا قالت نعم فقد رضيت فهي امرأتك ، وأنت أولى الناس بها ـ الحديث».

وما رواه الكليني في الحسن عن ثعلبة (3) قال : «تقول ، أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه نكاحا غير سفاح وعلى أن لا ترثيني ولا أرثك كذا وكذا يوما بكذا وكذا درهما وعلي أن عليك العدة».

وعن هشام بن سالم (4) قال : «قلت : كيف يتزوج المتعة؟ قال : تقول :

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 263 ح 61 ، الوسائل ج 14 ص 467 ح 5.

(2 و 3 و 4) الكافي ج 5 ص 455 ح 3 و 4 و 5 ، التهذيب ج 7 ص 265 ح 70 وص 263 ح 62 ، الوسائل ج 14 ص 466 ح 1 و 2 و 3.


يا أمة الله أتزوجك كذا وكذا يوما بكذا وكذا درهما ، فإذا مضت تلك الأيام كان طلاقها في شرطها ولا عدة لها عليك».

وعن أبي بصير (1) في الموثق قال : «لا بد أن يقول فيه هذه الشروط : أتزوجك متعة كذا وكذا يوما بكذا وكذا درهما نكاحا غير سفاح على كتاب الله وسنة نبيه وعلى أن لا ترثيني ولا أرثك على أن تعتدي خمسة وأربعين يوما».

وإلى القول بالمنع ذهب العلامة ، ونقله عن ابن حمزة ، وبه صرح الشهيد في شرح الإرشاد (2) ، والعلامة في المختلف نقل رواية أبان ولم يتعرض للجواب عنها ، والشهيد ردها بضعف الاسناد.

وفيه ما عرفت من أن الدليل غير منحصر في الرواية المذكورة بل الدال على ذلك جملة من الروايات ، وفيها الحسن باصطلاحهم ، وربما يتخيل أنه لا يلزم من وقوع المتعة بصيغة المستقبل وقوع الدائم بها ، لما بينهما من الاختلاف.

وفيه (أولا) أن الغرض من نقل هذه الأخبار ونحوها إنما هو بيان ما في قواعدهم المذكورة من الفساد والخروج عما وردت به أخبار سادات العباد ، فإنك قد عرفت أن من قواعدهم اشتراط هذه الشروط ، أعني ما ضوئه الإيجاب والقبول ونحوها مما تقدم في العقود اللازمة.

ولا ريب أن عقد المتعة من جملة العقود اللازمة مع أن الاخبار دلت على جواز القبول فيه بلفظ الأمر ولفظ الاستقبال وبه يعلم انخرام هذه القاعدة ، وعدم اشتراط الماضوية في العقود اللازمة كما ادعوه.

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 263 ح 63 ، الوسائل ج 14 ص 467 ح 4.

(2) قال في شرح الإرشاد : والثاني وقوعه بلفظ المستقبل وهو قول ابن عقيل وظاهر المحقق نجم الدين عملا برواية أبان بن تغلب في المتعة ، وسيأتي أن كل لفظ صالح للمتعة صالح للدوام ، للنص على انقلاب المتعة دائما من دون لفظ الدوام ، وجوابه بعد التمسك بالأصل منع صحة السند أولا ومنع كلية الكبرى ثانيا ، وسيأتي الخلاف في انقلابه دائما أو بطلانه. انتهى. (منه ـ رحمه‌الله ـ).


ودعوى كون ذلك مختصا بعقد المتعة يتوقف على ثبوت دليل على أصل القاعدة المدعاة مع أنه لا دليل عليها إلا دعواهم المتقدمة وتخريجاتهم المنخرمة.

و (ثانيا) أنه لا ريب أن لفظ التزويج صالح للدائم والمنقطع ، وإنما يفترقان بذكر الأجل وعدمه ، ولهذا قيل : إنه لو قصد المتعة وأهمل ذكر الأجل انقلب دائما فدل على اشتراكهما في اللفظ الدال على العقد بل دل على جواز إيقاع الدائم بلفظ التمتع كما قيل.

وحينئذ فيلزم من صحة عقد التمتع بالمضارع صحة الدائم به.

قالوا : ولا يشترط في القبول مطابقته لعبارة الإيجاب ، بمعنى أن يكونا من مادة واحدة بل تصح إن اختلفا بأن يقال زوجتك فيقال قبلت النكاح أو رضيت به أو يقال أنكحتك فيقال قبلت التزويج أو تزوجت.

والوجه في ذلك أن المعتبر من القبول اللفظي ما دل على الرضا بالإيجاب أعم من أن يكون أحد اللفظين المشهورين أو غيرهما مما دل المعنى المقصود منهما.

ثم إنهم قد اختلفوا فيما لو قال : زوجت بنتك من فلان فقال : نعم فقال الزوج : قبلت ، فقيل : بالصحة ، ونقل عن الشيخ ـ رحمه‌الله ـ وبه جزم المحقق في النافع ، وتردد في الشرائع ، وعلله في النافع بأن «نعم» يتضمن السؤال بمعنى أنها وضعت لتصديق ما تقدم فتحذف الجملة بعدها وتقوم هي مقامها فإذا قصد بها الإنشاء فقد أوجب ، لأنه في قوة «نعم زوجت بنتي من فلان» فإذا قبل الزوج تم العقد ، ويعضده رواية أبان المتقدمة ، وكذا رواية عبيد بن زرارة السابقة أيضا.

وقيل بعدم الصحة ونسبه في المسالك إلى الأشهر بين الأصحاب نظر إلى ما تقدم من أن الموضوع شرعا في سببية النكاح وحصوله هو أحد اللفظين أو الثلاثة على الخلاف المتقدم فيجب الاقتصار عليها ، لأن الأسباب الشرعية لا يقاس عليها ، فجزء العقد غير مذكور وإن وجد ما يدل عليه ، والمسألة لا تخلو من تردد وإن كان القول الأول لا يخلو من قوة.


وظاهره في المسالك ما ذكرناه أيضا ، حيث إنه اقتصر على مجرد نقل حجج القولين ولم يرجح شيئا في البين ، إلا أنه قال : وقد تقدم في المسائل السابقة ما يؤيد الأول ، وأشار به إلى ما قدمناه أولا ، ونحوه سبطه السيد السند في شرح النافع حيث قال بعد ذكر القول الثاني : ثانيا : وهو أولى ، وإن كان الأول لا يخلو من قرب.

ووجه القوة والقرب فيه ما عرفت في غير مقام مما تقدم في الكتب المتقدمة ، أن ما ادعوه من وضع ألفاظ مخصوصة للعقود اللازمة بحيث لا يجوز تجاوزها ولا الخروج عنها مما لم يقم عليه دليل.

وإنما المستفاد من الأخبار هو كل ما أفهم المقصود ودل عليه في طرف الإيجاب كان أو القبول ، ومن الجائز أن خروج هذين اللفظين أو الثلاثة في هذا المقام إنما هو من حيث كونها هي الجارية في المحاورات ، لا من حيث الاختصاص ، ويؤيد ذلك بالروايتين المشار إليهما هنا.

هذا وما قدمنا نقله عنهم من وجوب الترتيب بتقديم الإيجاب وتأخير القبول هو أحد القولين في المسألة ، وهو المشهور بينهم ، وهو الذي صرح به الشيخ في المبسوط «العدم» (1) مدعيا عليه الإجماع ، وهو الأقوى لما عرفت من دلالة جملة من الأخبار المتقدمة عليه.

ويؤيده أيضا أن غاية ما يفهم من الأخبار هو وجوب اشتمال العقد على الإيجاب والقبول ، وأما وجوب الترتيب كما يدعونه فلا دليل عليه ، وحينئذ فيصح العقد لحصول المقتضي ، وهو العقد الجامع لشرائط الصحة.

وربما علل وجوب الترتيب بأن حقيقة القبول الرضاء بالإيجاب ، فإذا وجد قبل لم يكن قبولا ، وفيه أنه مع الإغماض عن المناقشة في عدم ثبوت الأحكام الشرعية بأمثال هذه التعليلات العقلية مسلم لو انحصر القبول في لفظ قبلت أو رضيت مثلا.

__________________

(1) أقول : قد تقدم عبارته بذلك في الحاشية المتقدمة فليلاحظ. (منه ـ قدس‌سره ـ).


أما مع كونه بلفظ تزوجت ونكحت أو أتزوجك ونحوه كما تقدم في الأخبار فلا ، لأنه في معنى الإيجاب ، وإن سمي قبولا اصطلاحا ، وفي الحقيقة أن كلا منهما موجب وقابل.

وربما صار بعض المانعين إلى الفرق بين النكاح وغيره ، فمنع من تقديم القبول في غير النكاح ، وجوز فيه ، مستندا إلى أن الإيجاب يقع من المرأة ، وهي تستحي غالبا فيمنعها الحياء من أن تبتدئ به فإذا ابتدء الزوج بالقبول المتضمن لكل ما يطلب في العقد من المهر والشروط السابقة خفت المئونة على المرأة ، ولم يفت المطلوب ، وتعدى الحكم إلى ما لو كان القبول من وكيلها أو وليها تبعا وطردا للباب ، ولا يخفى ما فيه ، والاعتماد على ما قدمناه أولا.

المسألة الثانية : المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) عدم جواز العدول عن العربية إلى الترجمة بالفارسية ونحوها إلا مع العجز.

وقيل : إن اعتبار العربية إنما هو على جهة الاستحباب ، وإلا فإنه يجوز الترجمة اختيارا ، والأول مذهب الشيخ في المبسوط حيث قال : إذا كان لا يحسن العربية صح العقد بلفظ التزويج بالفارسية ، وإن كان يحسنها لم ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج ، لأنه لا دلالة عليه ، وادعى عليه الإجماع.

وتبعه على هذه المقالة من تأخر عنه من الأصحاب إلا ابن حمزة ، فإنه قال : فإن قدر المتعاقدان على القبول والإيجاب بالعربية عقد بها استحبابا ، وهو ظاهر في جواز العقد بالترجمة وإن كان قادرا على العربية.

احتج الأصحاب على القول المشهور بأن هذين اللفظين ـ أعني زوجتك وأنكحتك ـ لما كانا متعينين في الإيجاب وهما عربيان قد ثبت شرعا التعبير بهما عن هذا المعنى ، وكونهما سببا في عقده لم يجز العدول عنهما إلى غيرهما من الألفاظ الدالة عليهما بغير العربية ، وقوفا على ما حده الشارع ونصبه سببا ، ولأصالة بقاء


الفروج على التحريم إلى أن يثبت المزيل ، ولأن غير العربية وإن أدت معناهما كالكنايات الدالة عليهما بالعربية ، فكما لا يصح العقد عندنا بالكنايات لا يصح بغير العربية ، ولأن العقود المتلقاة من الشارع كلها عربية ، فالعدول عنها عدول إلى ما لم يثبت شرعا كونه سببا لترتب الأحكام الخاصة.

أقول : ويرد على الوجه الأخير أنه من الجائز أن السبب في ذلك إنما هو من حيث إنه لما كانوا عربا ومحاوراتهم ومخاطباتهم وما يجري من الكلام بينهم إنما هو بالعربية ، من حيث إنها هي اللغة التي جبلوا عليها ، فجرت العقود الواقعة منهم على هذا المجرى ، فلا دلالة في ذلك على خصوصية العقود بذلك كما ادعوه.

احتج ابن أبي حمزة بأن المقصود من الألفاظ دلالتها على الرضا الباطني ، فكل ما دل عليه كفى.

ولأن غير العربية إذا دل عليه اللفظ المطلوب منها كالمترادف الذي يجوز إقامته مقام رديفه ، ولا نسلم أن تجويز ذلك يستلزم تجويز الكناية ، للفرق بينهما ، فإن ما دل على اللفظ الصريح صريح ، بخلاف الكناية الدالة بالفحوى ، كالبيع والهبة.

وربما أيد ذلك باتفاق الأصحاب ظاهرا على إجزاء الترجمة ممن لا يحسن العربية ، وأنه لا يوجب عليه التوكيل في العقد ، ولو لا ثبوت كون العقد الواقع بغير العربية سببا في الحل لما أجزأ ذلك ، والفرق بين القادر على العربية وغيره غير مستفاد من النقل.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف في المسألة حيث اقتصر على نقل القولين ونقل حججهما كما ذكرناه ، ولم يرجح شيئا منهما ، ولا طعن في شي‌ء من دليلهما ، وهو أيضا ظاهر سبطه السيد السند في شرح النافع ، بل صريحه حيث قال بعد ذكر القولين ودليلهما : والمسألة محل إشكال. والظاهر أن منشأ


ذلك تأييد كلام ابن حمزة بما تقدم في غير مقام من الأبحاث المتقدمة من أن المدار في صحة العقود على التراضي من الطرفين والاتفاق من الجانبين ، فكل ما أشعر بذلك من الألفاظ كان كافيا في البين.

ودعوى أن للعقود اللازمة ألفاظا مخصوصة تدور الصحة معها وجودا وعدما مما لم يقم عليه دليل ، وهو جيدا كما عرفت فيما تقدم.

إلا أنه قد روى الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري (1) في كتاب قرب الاسناد عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة قال : «سمعت جعفر بن محمد عليهما‌السلام يقول : إنك قد ترى من المحرم من العجم لا يراد منه ما يرد من العالم الفصيح ، وكذلك الأخرس في القراءة للصلاة والتشهد وما أشبه ذلك فهذا بمنزلة العجم المحرم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلم الفصيح ، ولو ذهب العالم المتكلم الفصيح حتى يدع ما قد علم أنه يلزمه ويعمل به ، وينبغي له أن يقوم به حتى يكون ذلك منه بالنبطية والفارسية ، فحيل بينه وبين ذلك بالأدب حتى يعود إلى ما قد علمه وعقله ، قال : ولو ذهب من لم يكن في مثل حال الأعجمي المحرم ففعل فعال الأعجمي والأخرس علي ما قد وصفنا إذا لم يكن أحد فاعلا لشي‌ء من الخير ولا يعرف الجاهل من العالم».

أقول : قال في النهاية الأثيرية (2) «فأرسل إلى ناقة محرمة» المحرمة هي التي لم تركب ولم تذلل».

وفي الصحاح (3) : جلد محرم أي لم تتم دباغته ، وسوط محرم : لم يلين بعد ، وناقة محرمة : أي لم تتم رياضتها بعد ، وقال : كل من لا يقدر على الكلام أصلا فهو معجم ومستعجم ، والعجم الذي لا يفصح ولا يبين كلامه. انتهى.

__________________

(1) قرب الاسناد ص 24 ، الوسائل ج 4 ص 802 ح 2.

(2) النهاية الأثيرية ج 1 ص 374.

(3) ج 5 ص 1896.


ومنه يعلم إطلاق المحرم في هذا الخبر على من لم يمكنه التكلم بالعربية الفصيحة والإتيان بالقراءة والدعاء والعقود ونحوها على الوجه العربي ، لشبهه بالدابة التي لم تذلل ، ونحوها مما ذكر لعدم لين لسانه وتذليله بالنطق بالعربية والخبر ظاهر في التفصيل بين من لا يمكنه ذلك بالكلية ـ فيجزيه ما يأتي به من الفارسية ونحوها من اللغات ، ويصح ما يأتي به من القراءة والتشهد ونحوهما الفارسية ونحوها من اللغات ، ويصح ما يأتي به من القراءة والتشهد ونحوهما من التلبيات والعقود وإن لم يكن على نهج العربية ، وينبغي تقييده بما إذا ضاق الوقت عن التعلم أو عدم إمكانه بالكلية ، كالألكن والألثغ ونحوهما. ومن يمكنه الإتيان باللغة العربية الفصيحة ، فإنه لا يجزيه ذلك ولا يجوز له ، بل يحال بينه وبين ما يأتي به من غير اللغة العربية بالأدب والمنع.

إلا أن الظاهر أن مورد الخبر وما ذكر فيه من التفصيل إنما هو ما ثبت شرعا أن التكليف به إنما وقع باللغة العربية كالصلاة وقراءة القرآن والدعاء والتلبيات ونحو ذلك.

وأما ما لم يقم دليل على التكليف به باللغة المذكورة ، بل إنما هو من قبيل الألفاظ الجارية في المحاورات ، فليس من الخبر في شي‌ء ، لأن التأديب فيما لو خالف كما صرح به في الخبر إنما يترتب على ما ذكرنا ، وإليه يشير قوله «ولو ذهب العالم المتكلم الفصيح حتى يدع ما قد علم أنه يلزمه ويعمل به وينبغي أن يقوم به. إلى آخره».

وحينئذ فلو ثبت ما ادعاه أصحاب القول المشهور من تعيين هذه الألفاظ المدعاة شرعا لأمكن انصباب الحديث عليه وإدخال العقود فيه ، إلا أنك قد عرفت ما فيه ، وأنه لا دليل على ذلك إن لم يكن الدليل على خلافه.

وأما ما رواه وهب بن وهب (1) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام قال : «كل

__________________

(1) التهذيب ج 8 ص 38 ح 31 ، الوسائل ج 15 ص 297 ب 17.


طلاق بكل لسان فهو طلاق». فإن قلنا : إنه لا يصح الطلاق شرعا إلا بتلك الصيغة المشهورة كما هو ظاهر الأصحاب ، وجب حمل الخبر على تعذر العربية ، ولهذا حمله جملة من الأصحاب علي ذلك ، وإلا جرى فيه ما نحن فيه من هذه المسألة ، وصح الطلاق بأي لسان كان ، وبالجملة فالمسألة غير خالية من الإشكال في المقام كما عرفت من كلام أولئك الأعلام.

بقي الكلام في الاعراب ، والظاهر أن كل من جوز التعبير بغير اللغة العربية اختيارا جوز اللحن لو أتى باللفظ العربي الذي لا يغير المعنى بالطريق الأولى.

وأما من اشترط الصيغة العربية ـ كما هو المشهور ـ فبعض منهم اقتصروا على ذلك ، ولم يذكروا وجوب الاعراب ، وظاهرهم عدم اشتراطه ، لأن تركه لا يخل بأصل اللفظ العربي ، والأصل عدمه ، وبعض منهم صرح باشتراطه مع القدرة لعين ما تقدم في اشتراط العربية ، فإن المنقول عن الشارع غير ملحون قطعا ، هذا كله مع الإمكان.

وأما مع العجز أو المشقة عادة : فالظاهر أنه لا خلاف في الصحة ، وهل يجب التوكيل؟ الظاهر العدم.

ويؤيده الاكتفاء بإشارة الأخرس في عقوده وإيقاعاته وأنه لا يجب عليه التوكيل ، وإذا اكتفى في ذلك بالإشارة فاللفظ الغير العربي بطريق أولى.

وأما مع إمكان التعلم بغير عسر ولا مشقة ، فإنه لا يصح بدونه ، قالوا : ولو عجز دون الآخر تكلم كل منهما بما يحسنه ، فإن كان الاختلاف في اللحن فأمره سهل لفهم كل منهما لغة الآخر ، وإن كان الاختلاف في أصل العربية اعتبر فهم كل منهما لغة الآخر ليتحقق التخاطب والقصد إلى مدلول ما عبر به الآخر ، ولو لم يفهم أحدهما كلام الآخر فلا بد من مترجم ثقة يعرفه المراد.

ولو عجزا معا عن النطق أصلا أو أحدهما اقتصرا أو أحدهما على الإشارة إلى


العقد والإيماء به أعم من أن يكون العجز بخرس أصلي أو غيره ، وحينئذ فيكتفى بالإشارة كما يكتفى في أذكار الصلاة وسائر التصرفات القولية ، بشرط كون الإشارة مفهمة للمراد ، دالة على القصد القلبي بحسب ما يعرف حاله ، قاله المحقق الشيخ علي وكأنه لا خلاف فيه.

أقول : لم أقف في الأخبار على ما يدل على نكاح الأخرس وعقده ، نعم ورد في طلاقه جملة روايات دالة على صحة طلاقه بالإشارة كما ذكروه ، والظاهر أنه كذلك.

فمن الأخبار المذكورة ما رواه في الكافي (1) في الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل تكون عنده المرأة ثم يصمت فلا يتكلم ، قال : يكون أخرس؟ قلت : نعم فيعلم منه بغض لامرأته وكراهته لها ، أيجوز أن يطلق عنه وليه؟ قال : لا ، ولكن يكتب ويشهد على ذلك ، قلت : أصلحك الله فإنه لا يكتب ولا يسمع كيف يطلقها ، قال : بالذي يعرف منه من أفعاله مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها».

وفي خبر آخر (2) طلاق الأخرس «يلف قناعها على رأسها ويجذبه».

وفي ثالث (3) «يأخذ مقنعتها فيضعها على رأسها ويعتزلها».

وفي رابع (4) «في رجل أخرس كتب في الأرض بطلاق امرأته فقال : إذا فعل ذلك في قبل الطهر بشهود وفهم عنه كما يفهم من مثله ويريد الطلاق جاز طلاقه على السنة.

المسألة الثالثة : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في عدم انعقاد النكاح بعبارة الصبي ولا عبارة المجنون لا إيجابا ولا قبولا لنفسه أو لغيره ، لأن عبارة كل منهما مسلوبة في نظر الشارع إلا أن يكون الجنون أدوارا ، فيقع في حال الإفاقة.

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) الكافي ج 6 ص 128 ح 1 و 2 و 3 و 4، الوسائل ج 15 ص 299 ح 1 و 2 و 3 و 4.


وبالجملة فالمعتبر قصد المكلف إلى العقد ، واختلفوا في عبارة السكران الذي لا يعقل ، والمشهور بينهم أنها باطلة كما تقدم ، قلا تعتبر ، لأن شرط صحة العقد القصد إليه ، والسكران الذي بلغ من السكر حدا أزال عقله وارتفع قصده ، نكاحه باطل كغيره من عقوده ، ولا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى.

وذهب الشيخ في النهاية إلى أنه إذا زوجت السكرى نفسها ثم أفاقت فرضيت أو دخل بها فأفاقت وأقرته كان صحيحا.

قال في الكتاب المذكور : وإذا عقدت المرأة على نفسها وهي سكرى كان العقد باطلا ، فإن أفاقت ورضيت بفعلها كان العقد ماضيا ، فإذا دخل بها الزوج حال السكر ثم أفاقت الجارية ، فأقرته كان ذلك ماضيا ، وتبعه ابن البراج.

وقال ابن إدريس : الذي يقوى عندي أن هذا العقد باطل ، فإذا كان باطلا فلا يقف على الرضاء والإجازة ، لأنه لو كان موقوفا وقف على الفسخ والإجازة.

وشيخنا قال : كان العقد باطلا ، فكيف يكون في نفسه بعد الإفاقة والرضاء ماضيا ، وأيضا العقد حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ولا دليل على ذلك من كتاب ولا سنة متواترة ولا إجماع ، ولا يرجع في مثل ذلك إلى أخبار الآحاد ، انتهى ، وإلى هذا القول ذهب من تأخر عنه.

أقول : والشيخ قد عول في هذه المسألة على ما رواه هو والصدوق في الفقيه عن محمد بن إسماعيل بن بريع (1) في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن امرأة ابتليت بشرب النبيذ فسكرت فزوجت نفسها رجلا في سكرها ثم أفاقت فأنكرت ذلك ثم ظنت أنه يلزمها ففزعت منه فأقامت مع الرجل على ذلك التزويج ، إحلال هو لها ، أم التزويج فاسد لمكان السكر ولا سبيل للزوج عليها؟ فقال : إذا

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 392 ح 47 ، الفقيه ج 3 ص 259 ح 15 ، الوسائل ج 14 ص 221 ح 1.


أقامت معه بعد ما أفاقت فهو رضا منها ، قلت : ويجوز ذلك التزويج عليها؟ فقال : نعم».

والمتأخرون عن ابن إدريس فمن دونه قد أطرحوا الرواية لما فيها من المخالفة لمقتضى القواعد.

وقال العلامة في المختلف ـ بعد أن اختار مذهب ابن إدريس وإيراد الخبر المذكور حجة للشيخ رحمة الله عليه ، ما لفظه ـ : والتحقيق أن نقول إن بلغ السكر بها إلى حد عدم التحصيل كان العقد باطلا ، ولا ينعقد بإقرارها ، لأن مناط صحة العقود وهو العقل منفي ، فينتفي هنا وإن لم يبلغ السكر إلى ذلك الحد صح العقد مع تقديرها إياه ، وعليه تحمل الرواية. انتهى.

وأورد عليه بأنه إذا لم يبلغ ذلك الحد فعقدها صحيح وإن لم تقرره وترضى به بعد ذلك فالجمع بين صحة عقدها واعتبار رضاها بعد ذلك غير مستقيم.

أقول : لا ريب أن مقتضى القواعد هو ما عليه القول المشهور ، لأن العقد مع زوال العقل وعدم الشعور بالكلية باطل ، لعدم تحقق القصد الذي هو المناط في صحة العقود ، ومتى حكم ببطلانه فالإجازة له بعد الإفاقة لا تؤثر صحة ، لأن الإجازة لا تصحح ما وقع باطلا من أصله وإنما محل الإجازة بالنسبة إلى الموقوف به كما ذكره ابن إدريس ، وهو الذي يكون صحيحا غير لازم ، إلا أنه لما كان سند الرواية المذكورة صحيحا باصطلاحهم ضاق على بعض الأصحاب ـ هذا الاصطلاح المحدث ـ المخرج منها والتفصي عن ذلك.

قال في المسالك بعد ذكر الخبر المذكور : وعمل بمضمون الرواية الشيخ في النهاية ومن تبعه ، وله عذر من حيث صحة سندها ، ولمن خالفه عذر من حيث مخالفتها للقواعد الشرعية ـ إلى أن قال بعد رد تأويل المختلف بما تقدم ـ : بل اللازم إما إطراح الرواية رأسا أو العمل بمضمونها ، ولعل الأول أولى.


وفيه أن ما اعتذر به عن الشيخ ليس في محله ، فإن صحة الأخبار عند المتقدمين من الشيخ وغيره ليس باعتبار الأسانيد كما هو ظاهر ، وسبطه السيد السند في شرح النافع لما كان من قاعدته التهافت على صحة الأسانيد إختار العمل بالرواية وأغمض النظر عما فيها من مخالفتها لقواعدهم ، بل انكسر دلالتها على المخالفة ، فقال : وهذه الرواية مروية في الفقيه بطريق صحيح أيضا ، وليس فيها ما يخالف الأدلة القطعية فيتجه العمل بها.

وفيه ما عرفت مما أوضحناه من مخالفتها الأدلة القطعية ، ولكنه لتهافته على صحة الأسانيد لا يبالي بما اشتمل عليه متن الروايات من المخالفات كما أوضحناه في غير موضع من كتب العبادات.

وكيف كان ففي ذلك تأييد لما قدمناه في غير موضع من أن الواجب العمل بالرواية وأن يخصص بها عموم ما دلت عليه تلك القواعد المذكورة.

ويمكن تأييد هذه الرواية بما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (1) قال : «قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام الغلام له عشر سنين فيزوجه أبوه في صغره ، أيجوز طلاقه وهو ابن عشر سنين؟ قال : فقال : أما التزويج فهو صحيح ، وأما طلاقه فينبغي أن تحبس عليه امرأته حتى يدرك ، فيعلم أنه كان قد طلق ، فإن أقر بذلك وأمضاه فهي واحدة بائنة وهو خاطب من الخطاب ، وإن أنكر ذلك وأبى أن يمضيه فهي امرأته» الحديث.

والتقريب فيه أن المشهور بينهم أن عبارة الصبي كما تقدم غير معتبرة ولا صحيحة ، في طلاق كان أو نكاح ، بل هي باطلة في حكم العدم.

وهذا الخبر مع صحة سنده باصطلاحهم قد دل على أنه إذا طلق وهو ابن عشر سنين ثم بعد بلوغه أجاز الطلاق ورضي به ، فإن الطلاق يكون صحيحا وهو

__________________

(1) ما عثرنا بهذه الرواية في التهذيب ونقلناها عن الفقيه ج 4 ص 227 ح 3 ، الوسائل ج 17 ص 528 ح 4.


خلاف مقتضى القواعد ، فإنه كيف يكون صحيحا بالرضاء به بعد البلوغ وهو باطل من أصله كما عرفت.

وتزويج الأب له صحيح لازم له ، وطلاقه في حال الصغر غير صحيح عندهم وإجازته بعد البلوغ غير موجبة لصحة ما كان باطلا من أصله فهو عين ما تقدم في خبر السكرانة ، لا يقال : إنه قد وردت أخبار في صحة طلاق ابن عشر ، وبها قال بعض الأصحاب ، فيكون هذا منها أيضا.

لأنا نقول : نعم ، ولكن هذا الخبر لا يجري ذلك المجرى ، لأنه لم يحكم في هذا الخبر بصحة طلاقه في حال الصغر كما دلت عليه تلك الأخبار ، بل جعله موقوفا على الرضاء والإجازة بعد البلوغ.

وبالجملة فإن الكلام في هذا الخبر عين الكلام في ذلك الخبر فالواجب كما قدمنا ذكره هو العمل بالخبر وتخصيص القواعد المذكورة بالخبرين المذكورين فإنهما على نهج واحد في مخالفة القواعد المقررة بينهم وإطراحها سيما مع صحة السند باصطلاحهم مما لا سبيل إليه ، وإن كانوا قد أطرحوا ذلك الخبر في مقابلة القواعد المذكورة ، وقد عرفت اعتضاده بهذا الخبر كما أوضحناه ويعضدهما أيضا روايات كثيرة تقدمت في كتب المعاملات ظاهرة في مخالفة القواعد المقررة بينهم قد عمل بها الشيخ وأتباعه ، فناقش فيها ابن إدريس ومن تبعه كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، والتقط من لذيذ هذه الثمار ، والله العالم.

تذنيب :

قالوا : إذا أوجب ثم جن أو أغمي عليه بطل حكم الإيجاب ، فلو حصل القبول بعد ذلك كان لغوا ، وكذا لو سبق القبول وزال عقله ، فلو أوجب الولي بعده كان لغوا ، وعللوه بأن العقد اللازم قبل تمامه يكون بمنزلة الجائز ، يجوز لكل منهما فسخه فيبطل بما يبطل به الجائز ، ومن جملته الجنون والإغماء ولا فرق في ذلك بين النكاح والبيع وغيرهما من العقود اللازمة.


أقول : لم أقف لهم في هذا المقام علي دليل شاف يدل على البطلان كما ذكروه.

وما ادعوه من حمله على العقد الجائز وأن العقد الجائز كالوكالة ونحوها تبطل بالجنون والإغماء محل منع ، فإنا لم نقف لهم فيه أيضا على دليل إلا ما يظهر من دعوى بعضهم الإجماع على ذلك ، وقد عرفت ما في هذه الإجماعات وإلى ذلك أشرنا في كتاب الوكالة أيضا.

وبالجملة فإني لا أعرف هنا مانعا من صحة العقد لو عرض الجنون أو الإغماء بعد الإيجاب ، ثم حصل القبول بعد زوالهما من غير حاجة إلى تجديد إيجاب آخر ، لصدق حصول العقد الشرعي المشتمل على الإيجاب والقبول.

وما ربما يتخيل من الفصل بين الإيجاب والقبول وعدم الفورية في القبول فقد تقدم الكلام فيه ، وأنه لا دليل عليه ، بل الظاهر من الدليل خلافه كما تقدمت الإشارة إليه في المسألة الاولى في الكلام على حديث الساعدي.

ومما يعضد ما ذكرناه وجود النظير لذلك في مواضع من الأحكام.

منها ما صرحوا به من دخول الصيد الغائب في ملك المحرم بعد زوال الإحرام ، وأن من وكل محرما ثم صار محلا لم يحتج إلى تجديد الوكالة بعد تحلله من الإحرام ، والظاهر من ذلك أن ما وقع من العقد باق على الصحة ، وإن تخلف أثره لمانع ، وظاهرهم أن النوم هنا لا يقدح في الصحة ، كما لا يقدح في الوكالة ونحوها من العقود الجائزة ، لكن هل يصح الإتيان هنا بالقبول للآخر حالته؟ قيل : لا ، وبه قطع في التذكرة على ما نقله عنه في المسالك ، قال : لأن التخاطب بين المتعاقدين معتبرة ، وهو منتف مع نوم صاحبه ، ومن ثم لو خاطب شخصا بالعقد فقبل الآخر لم يصح به.

قال : ويحتمل الصحة هنا ، لأن الإيجاب توجه إلى هذا القابل قبل النوم ، والأصل الصحة ، مع أنه في التذكرة أيضا قال في موضع آخر على ما نقله الناقل


المتقدم ذكره : لو قال المتوسط للولي ، زوج ابنتك من فلان ، فقال زوجت ، ثم أقبل على الزوج فقال : قبلت نكاحها ، فالأقرب صحة العقد. وهو أصح وجهي الشافعية ، لوجود ركني العقد «الإيجاب والقبول» وارتباط أحدهما بالآخر ، والثاني لا يصح لعدم التخاطب بين المتعاقدين ، ولا يخفى ما بين هذين الكلامين من التنافي ، والله العالم.

المسألة الرابعة : إذا اعترف الزوج بزوجية امرأة ، أو الزوجة بزوجية الرجل ، وصدق كل منهما الآخر في الصورتين ، فإنه لا ريب في الحكم بالزوجية في ظاهر الشرع ، وكذا ما يترتب عليها من الأحكام لعموم «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (1). والحق منحصر فيهما.

وأما إذا ادعى أحدهما الزوجية وأنكر الآخر فإن كان للمدعي بينة ، وإلا فالقول قول المنكر بيمينه ، ثم إنه لو أقام المدعي البينة ، أو حلف اليمين المردودة وثبت النكاح بذلك ظاهرا فإنه يجب عليهما فيما بينهما وبين الله عزوجل مراعاة الحكم الواقعي لو لم يوافق الظاهري ، فإن كان المثبت الزوج فله طلبها ظاهرا ، والواجب عليها مع عدم كونه واقعا الهرب منه ، وهكذا لو لم تكن بينة بل حلف المنكر انتفى النكاح ظاهرا ، فإن كان الواقع كذلك فلا إشكال ، وإلا لزم المدعي أحكام الزوجية.

فإن كان المدعي الرجل حرم عليه التزويج بأمها وابنتها وأختها وابنتي أختها وأخيها بغير رضاها ، والتزويج بخامسة ، وبالجملة فإنه يعتبر بالنسبة إليه كونها زوجة ، وكذا يحب عليه التوصل بإعطائها المهر ، أما النفقة فلا لاشتراطها بالتمكين.

وإن كانت المدعية المرأة لم يصح لها التزويج بغيره ، ولا فعل ما يتوقف على إذن الزوج بدونه ، كالسفر المندوب والعبادات المتوقفة على إذنه ، ولو أوقع

__________________

(1) الوسائل ج 16 ص 111 ح 2.


الرجل المنكر الطلاق ولو معلقا ، بأن قال : إن كنت زوجتي فأنت طالق ، أو إن كانت فلانة زوجتي فهي طالق ، انتفت عنها الزوجية ، وجاز لها التزويج بغيره ، ولكن لا ينتفي عنها حرمة المصاهرة فلا يجوز لها التزويج بابنه ولا ابنته لاعترافها بالنكاح الموجب للحرمة.

هذا خلاصة ما ذكروه في المقام ولم أقف في المسألة على نص مخصوص إلا أن جميع ما ذكر فيها مطابق لمقتضى القواعد الشرعية والضوابط المرعية.

المسألة الخامسة : إذا كان لرجل عدة بنات فزوج واحدة منهن ولم يسمها عند العقد لكن قصدها بالنية ، فاختلف الأب والزوج بعد ذلك ، قال الشيخ في النهاية : إن كان الزوج قد رآهن كلهن كان القول قول الأب ، وعلى الأب أن يسلم إليه التي نوى العقد عليها عند عقدة النكاح ، وإن كان الزوج لم يرهن كان العقد باطلا ، وتبعه ابن البراج وجملة من المتأخرين منهم المحقق والعلامة وقال ابن إدريس (1) : إن النكاح باطل في الموضعين.

والوجه فيما ذهب إليه الشيخ هو ما رواه الكليني في الصحيح عن أبي عبيدة (2) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل كانت له ثلاث بنات أبكار ، فزوج واحدة منهن رجلا ، ولم يسم التي زوج للزوج ولا للشهود ، وقد كان الزوج فرض لها صداقها فلما بلغ إدخالها على الزوج بلغ الرجل أنها الكبرى من الثلاث ، فقال الزوج لأبيها : إنما تزوجت منك الصغرى من بناتك ، قال : فقال

__________________

(1) أقول : نقل الشيخ الفاضل شهاب الدين أحمد بن فهد بن إدريس الأحسائي في شرحه على الإرشاد هذا القول أيضا عن شيخه ، والمراد به الشيخ جمال الدين وقيل : فخر الدين الشيخ أحمد بن عبد الله بن المتوج البحراني تلميذ الشيخ فخر الدين بن العلامة ـ رحمه‌الله ـ لان الشيخ أحمد المذكور أحد تلامذته ، واليه يشير كثيرا في الكتاب المذكور بشيخنا. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

(2) الكافي ج 5 ص 412 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 393 ح 50 ، الفقيه ج 3 ص 267 ح 53 ، الوسائل ج 14 ص 222 ب 15.


أبو جعفر عليه‌السلام : إن كان الزوج رآهن كلهن ، ولم يسم له واحدة منهن فالقول في ذلك قول الأب ، وعلى الأب فيما بينه وبين الله عزوجل أن يدفع إلى الزوج الجارية التي كان نوى أن يزوجها إياه عند عقدة النكاح ، وإن كان الزوج لم يرهن كلهن ولم يسم واحدة منهن عند عقدة النكاح فالنكاح باطل».

ورواه الشيخ رحمه‌الله والصدوق أيضا مثله.

والوجه فيما ذهب إليه ابن إدريس هو أن من شروط صحة العقد تعيين كل واحد من الزوجين حال العقد ليتعلق القصد به ويقع التراضي عليه ويحصل التعيين بالاسم أو الوصف أو الإشارة إلى معين ، أو اتفاقهما على معين بل هو معتبر في كل عاقد ومعقود عليه.

وعلى هذا فلو زوجه إحدى بناته ولم يعينها عند العقد بأحد الأمور المذكورة بطل العقد لعدم القصد ، وإن قصدها الأب ولم يقصدها الزوج فكذلك هذا ما تقتضيه القواعد الشرعية.

والرواية المذكورة بحسب ظاهرها خارجة عن ذلك ومنافية لما ذكرنا ، لأنها تدل على أن رؤية الزوج لهن كافية في الصحة والرجوع إلى ما عينه الأب ، وإن اختلفا في القصد ، وعدم رؤيته كاف في البطلان مطلقا وإن اتفقا في القصد.

مع أن المدار في الصحة والبطلان إنما هو على التعيين وعدمه لا الرؤية.

ومن أجل ذلك أطرح ابن إدريس ومن تبعه الرواية المذكورة (1) حسبما مضى في رواية تزويج السكرانة نفسها حال سكرها.

ولكن الرواية لما كانت صحيحة السند بالاصطلاح المحدث اضطربت أفكار

__________________

(1) وبما ذكرنا من الوجه المذكور في كلام ابن إدريس صرح الشيخ في المبسوط فقال في فصل ما ينعقد به النكاح : لا يصح النكاح حتى يكون المنكوحة معروفة بعينها على صفة تكون متميزة عن غيرها ، وذلك بالإشارة إليها أو التسمية أو الصفة. انتهى. (منه ـ رحمه‌الله ـ).


المتأخرين في التفصي عنها ، ولم يجرؤا على ردها بالكلية ، فذهب جملة منهم المحقق والعلامة إلى تنزيلها على أن تعليق الحكم بالصحة والبطلان على رؤية الزوج لهن وعدمها ، معناه أنه برؤيته لهن كملا ، قد وكل التعيين إلى الأب لأن الزوج إذا كان قد رآهن وقبل نكاح من أوجب عليها الأب يكون قد رضي بتعيينه ، ووكل ذلك إليه فيلزمه ما عين ، ويقبل قول الأب فيما عينه ، وإن لم يكن مفوضا إلى الأب ولا راضيا بتعيينه فيبطل العقد.

واعترض عليه في المسالك بأن تفويض (1) الزوج إلى الأب التعيين إن كان كافيا عنه مع كونه المتولي للقبول ، من غير أن يقصد معينة عنده ، فلا فرق بين رؤيته وعدمها ، لأن رؤية الزوج لا مدخل لها في صحة النكاح كما سبق ، وإن لم يكن ذلك كافيا في الصحة بطل على التقديرين.

ودعوى أن رؤيتهن دلت على الرضا بما يعينه الأب ، وعدمها على عدمه ، في موضع المنع ، لأن كل واحد من الحالين أعم من الرضا بتعيينه وعدمه.

وليس في الرواية على تقدير الاعتناء بها دليل على ذلك ، بل عند التنزيل تخصيص لها في الحالين ، وحينئذ فاللازم إما العمل بمدلول الرواية من غير حمل كما فعل الشيخ ، أو ردها رأسا والحكم بالبطلان في الحالين كما فعل ابن إدريس ولعله أجود ، لأن العقد لم يقع على معينة مخصوصة منهما ، وهو شرط الصحة انتهى ، وهو جيد إلا فيما استجوده من رد الرواية رأسا.

وسبطه السيد السند في شرح النافع لما كان من قاعدته الدوران مدار صحة الأسانيد من غير ملاحظة ما يشتمل عليه متون الأخبار من المخالفات ، جمد على ما ذكره المحقق والعلامة هنا من التنزيل المتقدم ، فقال بعد ذكره : ولا بأس بهذا التنزيل جمعا بين الرواية والأدلة الدالة على الأحكام المتقدمة. انتهى.

__________________

(1) ولأن رؤيته لهن أعم من تفويض التعيين إلى الأب ، وعدمها أعم من عدمه ، والرواية مطلقة. (منه ـ قدس‌سره ـ).


وهو تشبث بما هو أوهن من بيت العنكبوت ، وهو من أوهن البيوت ، لما عرفت مما حققه جده (قدس‌سره) ، ولكنه لضيق المجال بالتزام هذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد أقرب منه إلى الصلاح ، لا علاج لهم في ذلك كما يقال : إن الغريق يتشبث بكل حشيش ، ومثله ما تقدم منه في مسألة تزويج السكرانة نفسها من دعواه عدم مخالفة الرواية للقواعد ، وهي في مخالفتها أظهر من الشمس في دائرة النهار.

قال في المسالك : واعلم أن طريق الرواية في التهذيب ضعيف ، لأن فيه من لا يعرف حاله ، وظاهر الأصحاب المشي عليها. لأنهم لم ينصوا عليها بتصحيح ، بل رووها مجردة عن الوصف.

ولكن الكليني رواها بطريق صحيح ، ولقد كان على الشيخ روايتها به لأنه متأخر عنه ، فكان أولى باتباعه فيه ، ولكن قد اتفق ذلك للشيخ كثيرا ووقع بسببه من أصحاب الفتاوى خلل حيث رد الرواية بناء على ضعفها ولو اعتبروها لوجدوها صحيحة ، فينبغي التيقظ لذلك ، وحينئذ (1) يقوى الإشكال في رد الرواية نظرا إلى صحتها ، وللتوقف في ذلك مجال. انتهى.

__________________

(1) ومما يؤيد ما اخترناه في غير موضع من هذا الكتاب من العمل بالاخبار وان خالفت مقتضى قاعدتهم العقلية ـ ما ذكره الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في شرح الإرشاد في مسألة التزويج بأمة المرأة بدون اذنها كصحيحة سيف بن عميرة وغيرها ما لفظه ـ : واعلم أنه لا معارض لهذه الرواية في الحقيقة إلا الدليل العقلي الدال على تحريم التصرف في مال الغير بدون اذنه ، ولكن الأحكام الشرعية أخرجت كثيرا من الأصول العقلية بالأدلة كجواز أخذ مال الممتنع عن الأداء مقاصة بشروطه بغير اذنه ، وجواز أكل المار على النخل والشجر على المشهور ونحو ذلك ، فحينئذ لا يمتنع جواز مثل هذه المسألة من غير إذن المرأة ، اما لعلة خفية لا نعلمها أو لما يلتحق للأمة من الذلة بترك الوطي عند المرأة الذي هو إضرار ، ولا يزول إلا بالوطي. إلى آخر كلامه زيد في مقامه (منه ـ قدس‌سره ـ).


أقول : العجب منه (قدس‌سره) في تكرار هذا الكلام والاعتراض به على الشيخ (رحمه‌الله) كما تقدم نظيره قريبا لما قدمناه في مقدمات الكتاب في أول جلد كتاب الطهارة من تصريح جملة من الأصحاب منهم ابنه المحقق الشيخ حسن في مقدمات كتاب منتقى الجمان ومثله الشيخ البهائي في مشرق الشمسين بأن جملة الأخبار المروية في الأصول عند المتقدمين صحيحة ، فإن الصحة عندهم ليست بالنظر إلى الأسانيد.

والمتأخرون إنما عدلوا عن ذلك الذي كان عليه متقدموهم لما خفي عليهم الوجه في ذلك لخفاء القرائن والأسباب التي أوجبت للمتقدمين الحكم بالصحة فعدلوا إلى هذا الاصطلاح.

وأما ما ذكره اعتراضا على مثل المحقق والعلامة حيث نقلوا الرواية مع ضعفها من التهذيب ، ولم يردوها بذلك.

ففيه أنهم لا يردون إلا ما تعذر حمله على معنى يجتمع به مع الأخبار الباقية ، وإلا فمتى وجد للخبر معنى يمكن الجمع به بينه وبين ما ينافيه ظاهرا ، فإنهم يقدمون ذلك على رده وإطراحه.

وأما ما ذكره من الاعتراض على أصحاب الفتاوى من المتأخرين من عدم تتبعهم للاسانيد ومراجعة كتب الأصول كملا ، حتى أنهم يسارعون إلى رد الخبر بالضعف بناء على روايته في بعض الأصول مع وجود طريق صحيح له في أصل آخر فهو جيد ، وقد وقع له (قدس‌سره) مثله في غير موضع.

وأما ما ذكره من قوة الإشكال لصحة الخبر ، وتوقفه في المسألة لذلك بعد ما عرفت في كلامه المتقدم من ميله إلى مذهب ابن إدريس في المسألة ، فهو جار على ما قدمنا ذكره من اضطراب أصحاب هذا الاصطلاح في الخبر الصحيح السند متى خالف مقتضى القواعد المقررة بينهم.


والحق الحقيق بالاتباع وإن كان قليل الاتباع هو العمل بالخبر صح سنده باصطلاحهم أو لم يصح مهما أمكن ، وفي مثل هذه المواضع تخصص به تلك الأخبار الدالة على تلك القواعد ، والله العالم.

المسألة السادسة : قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يصح اشتراط الخيار في الصداق ، ولا يفسد به العقد ، وأما اشتراطه في أصل النكاح فالمشهور أنه غير جائز ، ولو اشترطه كان العقد باطلا ، وقيل : بصحة العقد وبطلان الشرط خاصة والكلام هنا يقع في مقامين.

الأول : في اشتراطه في الصداق والظاهر أنه لا خلاف في صحته ، لأن ذكر المهر في العقد غير شرط في صحته ، بل يجوز إخلاء العقد عنه ، فاشتراط الخيار فيه غير مناف لمقتضى العقد ، فيندرج في عموم ما دل على وجوب الوفاء بالشروط ، ولأن غايته فسخه وبقاء العقد بغير مهر ، فتصير كالمفوضة البضع ، وهو جائز شرعا.

ويشترط ضبط مدة الخيار. ولا يتقيد بثلاثة ، وإن مثل بها الشيخ في المبسوط لعدم إفادته الحصر ، ثم إن استمر عليه حتى انقضت عدته لزم ، وإن فسخه ثبت مهر المثل كما لو عرى العقد عن المهر ، ولكن إنما يوجب بالدخول كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولو اتفقا على شي‌ء آخر غيره قبل الدخول صح.

الثاني : في اشتراطه في النكاح ، والمشهور بطلان العقد ، وبذلك قطع الشيخ في المبسوط وجملة من المتأخرين ، محتجين بأن النكاح ليس من عقود المعاوضات القابلة لخيار الشرط ، بل فيه شائبة العبادة ، فالشرط يخرجه عن وضعه.

وخالف في ذلك ابن إدريس فحكم بصحة العقد وفساد الشرط ، لوجود المقتضي لصحة العقد باجتماع شرائط الصحة فيه كما هو المفروض ، وانتفاء الموانع وليس إلا اشتراط الخيار فيه.

وإذا كان العقد غير قابل للخيار لغى شرطه ، ووجب العمل بمقتضى العقد


لأصالة الصحة ، وعموم (1) «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ، فلا يلزم من بطلان أحدهما بطلان الآخر وبالغ ابن إدريس فقال : إنه لا دليل على البطلان من كتاب ولا سنة ولا إجماع ، بل الإجماع على الصحة : لأنه لم يذهب إلى البطلان أحد من أصحابنا ، وإنما هو من تخريج المخالفين وفروعهم ، واختاره الشيخ على عادته في الكتاب.

واعتمد القائلون بالبطلان ـ زيادة على ما تقدم ـ على أن التراضي لم يقع على العقد إلا مقترنا بالشرط المذكور ، فإذا لم يتم الشرط لم يصح العقد مجردا لعدم القصد إليه كذلك ، وصحة العقود مترتبة على القصود ، وبالجملة فإن الواقع غير مقصود ، والمقصود غير واقع.

أقول : قد تقدم الكلام في هذه المسألة في غير موضع ، أعني أنه متى اشتمل العقد على شرط فاسد ، فهل يصح العقد ، ويبطل الشرط خاصة ، أو يبطل العقد من أصله؟ قولان : المشهور بين المتأخرين الثاني ، وابن الجنيد وابن البراج على الأول ، ولهذا أن الشيخ هنا لم يعلل البطلان بما ذكروه.

وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في مقدمات الكتاب المذكورة في أول جلد كتاب الطهارة ، وفي الفصل الثاني عشر في نكت متفرقة من فصول كتاب التجارة.

وقد بينا أن الأخبار في ذلك مختلفة ، فجملة منها يدل على صحة العقد وبطلان الشرط خاصة.

وبعض يدل على القول المشهور ، فالتحقيق في ذلك هو الوقوف على ما دلت عليه الأخبار في كل جزئي جزئي من الأحكام ، ومع عدم وجود نص يجب الوقوف عن الفتوى.

وأما جعل ذلك قاعدة كلية كما عليه المشهور بناء على ما ذكروه من التعليلات العقلية فهو مردود بما ذكرناه من اختلاف الأخبار في المقام ، ودلالة

__________________

(1) سورة المائدة ـ آية 1.


أكثرها وأصحها على خلاف هذه القاعدة ، والمسألة هنا لما كانت عارية عن النص ، فالواجب التوقف فيها ، والله العالم.

المسألة السابعة : قد صرحوا بأنه يشترط في النكاح امتياز الزوجة من غيرها بالإشارة أو التسمية أو الصفة ، فلو زوجه إحدى ابنتيه لم يصح ، وعلل ذلك بأنه لما كانت الزوجة المعقودة عليها عينها مقصودة للاستمتاع ، اشترط تعيينها في صحة النكاح كما في كل معقود ، سواء أريد عينه كالبيع أو منفعته كالعين المؤجرة.

وكذلك يشترط تعيين الزوج لأن الاستمتاع يستدعي فاعلا ومنفعلا معينين لتعينه ، فلو قال : زوجتك إحدى ابنتي أو تزوجت ابنتي من إحدى ولديك لم يصح.

أقول : وفي هذا الكلام تأييد لما ذهب اليه ابن إدريس في المسألة الخامسة من بطلان عقد الأب على إحدى بناته بمجرد قصده خاصة ، من غير معلوميتها للزوج ، وإن رآهن الزوج جميعا لعدم امتياز الزوجة عنده بشي‌ء من هذه الأمور المذكورة ولا فرق بين المسألتين إلا باعتبار ما يظهر منهم من تخصيص هذه المسألة بما إذا كانت مجهولة عند الولي والزوج معا كما تدل عليه الأمثلة المذكورة ، وأن تلك المسألة موردها تعيين الزوجة عند الولي ومجهوليتها عند الزوج.

والمفهوم من اشتراط الامتياز في هذه المسألة هو الامتياز عند الجميع على وجه لا يتطرق إليه النزاع والاختلاف بعد ذلك ، كما يظهر من التعليل المذكور هنا ، وتنزيل الخبر على ما ذكره المحقق والعلامة كما تقدم غير شاف ولا واف بالخروج عن مخالفة الخبر لمقتضى القواعد المذكورة ، إلا أنه لا مندوحة عن العمل بما دل عليه الخبر كما تقدم ، حملا على نظائره من الأخبار التي جرت هذا المجرى مما لا يكاد يعد ولا يحصى كما تقدم جملة من ذلك في الكتب المتقدمة ، وسيأتي أمثاله في الكتب الآتية إن شاء الله تعالى.


إذا عرفت ذلك فالإشارة أن تقول : زوجتك هذه ، ولو قلت مع ذلك المرأة أو فلانة كان ذلك تأكيدا ، لأن التخصيص حصل بالإشارة إليها ، وهكذا في تعيين الزوج ، والتسمية أن تقول : زوجتك فاطمة ، حاضرة كانت أو غائبة ، وفي معناه ما لو قال : زوجتك ابنتي ولا ابنة له غيرها ، ولو قال : فاطمة ابنتي أو ابنتي فاطمة كان ذلك تأكيدا إن كانا مطابقتين ، ولو لم تطابقا بأن أشار إليها ولكن سماها بغير اسمها أو قال : ابنتي ولكن سماها بغير اسمها ففي صحة العقد أو بطلانه إشكال.

ينشأ من ترجيح الإشارة والتنبيه على الاسم (1) لأنهما ـ أعني الإشارة والتنبيه ـ لازمتان متميزتان ، فيحصل التميز بهما ويلغو الاسم فيصح العقد حينئذ.

ومن أنه ليس له بنت بذلك الاسم إذا ليست الحاضرة كذلك فيبطل.

أقول : وقد تقدم نظير ذلك في البيع بأن يقول : بعتك هذا الفرس ، ويشير إلى بغل ، وظاهره في المسالك ترجيح الأول ، وهو القول بالصحة لما ذكر وهو محل توقف وتأمل لعدم الدليل الواضح في ذلك.

وأما الوصف فإنه بأن يقول زوجتك ابنتي الصغيرة أو الكبيرة أو الوسطى أو البيضاء أو السمراء أو نحو ذلك مع فرض أن له بنات متعددة متميزات بالصفات المذكورة ، والله العالم.

المسألة الثامنة : إذا عقد على امرأة ، فادعى آخر زوجيتها ، فقد صرح جمع من الأصحاب بأنه لا يلتفت إلى دعواه إلا بالبينة ، بمعنى عدم سماع دعواه بالكلية مع عدم البينة بحيث لا يترتب عليها اليمين على المرأة ، وإن كانت منكرة بالكلية مع عدم البينة بحيث لا يترتب عليها اليمين على المرأة ، وإن كانت منكرة كما هو مقتضى القاعدة «اليمين على المنكر» فإن مقتضى القاعدة المنصوصة أنه مع عدم البينة للمدعي فإن دعواه مسموعة وعلى المنكر اليمين أو ردها ، ويترتب على

__________________

(1) قوله «على الاسم» متعلق بترجيح أى الإشارة والتنبيه مرجحة على الاسم. (منه ـ قدس‌سره ـ).


كل منهما ما هو حكمه شرعا ، وكذا لو نكل ، والحكم هنا ليس كذلك ، بل سماع الدعوى مخصوص بإقامة المدعي البينة.

قالوا : والوجه في ذلك أن اليمين إنما تتوجه على المنكر إذا كان بحيث لو اعترف لزمه الحق ويقع للمدعي ، والأمر هنا ليس كذلك لأن المرأة لو صادقت المدعي على دعواه لم يثبت الزوجية لأن إقرارها واقع في حق الغير فلا يؤثر شيئا ، فإن الزوج قد ملك بضعها بالعقد المعلوم المتفق عليه فلا يقبل قولها بعد ذلك في إسقاطه ، وكذا لا يتوجه دعوى إمكان ردها اليمين عليه ، لأن اليمين المردودة إن كانت كالإقرار ، فقد عرفت حكمه ، وأن إقرارها لو أقرت غير مسموع ، لكونه إقرارا في حق الغير ، وإن كانت كالبينة ، فالبينة إنما تفيد بالنسبة إلى المتداعيين دون غيرهما ، وهو هنا الزوج ، وحينئذ فلا وجه لرد اليمين على المدعي بالكلية كما في هذا المقام ، وإن كان ذلك مقتضى القاعدة المنصوصة.

وذهب آخرون من الأصحاب أيضا إلى قبول الدعوى وتوجه اليمين والرد وإن لم يسمع في حق الزوج ، فإن لذلك فائدة أخرى أيضا وكذا لإقرارها لو أقرت ، وإن لم يؤثر في حق الزوج.

وفائدته على تقدير الإقرار ثبوت مهر المثل على الزوجة للمدعي لو أقرت لحيلولتها بينه وبين البضع بالعقد الثاني.

ونظيره ما لو باع شيئا على أنه له ، ثم أقر به لزيد ، فإنه يغرم لمن أقر له به عوضه مثلا أو قيمة ، وعلى تقدير رد اليمين أو نكولها عن اليمين والقضاء للمدعي بالنكول أو مع اليمين فالحكم كذلك.

وأنت خبير بأن مبنى هذا القول على أن منافع البضع تضمن بالتفويت ، كما هو أحد القولين في المسألة المذكورة ، إلا أن الحكم بالتضمين مما لم يقم عليه دليل يعتد به.


واعلم أن الأصحاب لم ينقلوا في هذه المسألة نصا ، مع أن النصوص فيها موجودة. منها ما رواه

في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن عبد العزيز بن المهتدي (1) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام قلت : جعلت فداك إن أخي مات ، وتزوجت امرأته ، فجاء عمي فادعى أنه قد كان تزوجها سرا ، فسألتها عن ذلك فأنكرت أشد الإنكار فقالت : ما كان بيني وبينه شي‌ء قط ، فقال : يلزمك إقرارها ويلزمه إنكارها». ورواه الصدوق بإسناده عن إبراهيم بن هاشم مثله.

وما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن يونس (2) «قال سألته عن رجل تزوج امرأة في بلد من البلدان فسألها : ألك زوج؟ فقالت : لا ، فتزوجها ، ثم إن رجلا أتاه فقال : هي امرأتي فأنكرت المرأة ذلك ما يلزم الزوج؟ فقال : هي امرأته إلا أن يقيم البينة».

وما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (3) قال : «سألته عن رجل تزوج أمة أو تمتع بها فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة ، فقال : إن هذه امرأتي وليست لي بينة ، فقال : إن كان ثقة فلا يقربها ، وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه».

والروايتان الأولتان ظاهرتان فيما ذكره الأصحاب من عدم سماع دعواه إلا أن يقيم البينة ، سيما الثانية منهما ، ولو كانت دعواه مسموعة مع عدم البينة ـ بأن يترتب عليها لزوم اليمين على المرأة لإنكارها ، لأن اليمين على المنكر ـ لما حسن تخصيص الاستثناء بإقامة البينة في الخبر الثاني ، والحكم بكونها امرأة الثاني إلا مع إقامة الأول البينة ، بل كان ينبغي أن يقال : إلا مع إقامة البينة أو حلفها على نفي الزوجية ، ولوجب ذكر ذلك في الخبر الأول ، لأن المقام مقام البيان

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 563 ح 27 ، الفقيه ج 3 ص 303 ح 35 ، الوسائل ج 14 ص 226 ح 1.

(2 و 3) التهذيب ج 7 ص 468 ح 82 وص 461 ح 53 ، الوسائل ج 14 ص 226 ح 3 و 2.


مع أن ظاهر كلامه عليه‌السلام هو اندفاع دعواه بمجرد إنكارها وليس له عليها يمين كما هو على المنكر ، وليس إلا لما قدمناه مما صرح به الأصحاب من أنها لو اعترفت له لم يسمع اعترافها.

بقي الكلام في الخبر الثالث ، والمفهوم من قواعد الأصحاب عدم القول به ، إلا أنا قد قدمنا في كتب المعاملات ما يؤيده من الأخبار الدالة على ثبوت أمثال ذلك بقول الثقة (1) ، فالواجب تخصيص الخبرين المذكورين به فإن قول الثقة حكمه حكم البينة.

وبما ذكروه من فرض المسألة في الدعوى على المعقود عليها ليترتب الحكم بعدم سماع الدعوى نظرا إلى ما تقدم من التعليل ، يظهر أنها لو كانت خلية من الزوج لسمعت الدعوى قطعا كغيرها من الدعاوي ، ويترتب عليها اليمين مع الإنكار ولزوم العقد بالإقرار ، وثبوت النكاح لو نكلت عن اليمين أوردتها عليه فحلف كما هو مقتضى القاعدة المنصوصة ، إلا أن العلامة قال في القواعد في هذا المقام. ولو ادعى زوجية امرأة لم يلتفت إليه إلا بالبينة سواء عقد عليها غيره أو لا وهو كما ترى مناف لما نقلناه عنهم من الفرق بين المسألتين ولا يحضرني شي‌ء من شروح الكتاب المذكور.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الظاهر من كلام شيخنا في المسالك الميل إلى القول الثاني ، وهو سماع الدعوى بالنسبة إلى تضمين فائت البضع وإن لم تسمع بالنسبة إلى الزوج ، قال (قدس‌سره) ـ بعد ذكر القولين المتقدمين ومبنى القولين على أن منافع البضع هل تضمن بالتفويت أم لا؟ ـ : وقد اختلف فيه الحكم ، فحكموا بضمانه تارة ، وبعدمه اخرى ، نظرا إلى أن حق البضع متقوم شرعا ، فمن أتلفه وجب عليه عوضه ، وهو المهر ، والتفاتا إلى أنه ليس مالا للزوج ، وإنما حقه الانتفاع به ، ومنافع الحق لا تضمن بالتفويت لأنها لا تدخل تحت

__________________

(1) منها ما قدمناه في كتاب الوصية في المسألة السابعة من المقصد الأول من الكتاب المذكور. (منه ـ قدس‌سره ـ).


اليد ، وينبه على حكمهم بوجوب مهر المثل لمن انفسخ نكاحها بإرضاعها من يفسد النكاح ، ووجوب دفع المهاجرة المسلمة إلى زوجها الكافر المهر للحيلولة بينه وبينها بالإسلام : وهو قائم هنا.

وعلى الثاني عدم وجوب مهر للزانية ، ولا لزوجها ، وثبوت المهر لها في وطء الشبهة دونه ، والقول بسماع الدعوى ، وثبوت الغرم ، متجه عملا بالقاعدة المستمرة من ثبوت اليمين على من أنكر ، وزجرا عن الاقدام على مثل ذلك. انتهى.

وفيه (أولا) أنك قد عرفت أنه لا نص هنا على ما ادعوه من تضمين فائت البضع كما تقدمت الإشارة إليه ، وبذلك أيضا اعترف سبطه السيد السند (قدس‌سره) في شرح النافع فقال : والحكم بالتضمين غير واضح. انتهى.

وإثبات حكم شرعي بمجرد هذه التعليلات العقلية مخالف لما دلت عليه الأخبار المعصومية والآيات القرآنية من النهي عن القول بغير علم كما استفاضت به الآيات أو سماع منهم كما تظافرت به الروايات.

و (ثانيا) أن ما استند إليه من العمل بالقاعدة المستمرة من أن اليمين على من أنكر فهو إنما يتم بالنسبة إلى ما لو وقعت الدعوى فيه ، والدعوى هنا إنما وقعت في الزوجية فالمدعي يدعي أنها زوجته وهي تنكر ذلك ، فمورد اليمين إنما هو نفي الزوجية ، وهو قد صرح هنا كغيره من الأصحاب بأن اليمين هنا لا وجه لها سواء كانت في معنى الإقرار أو البينة.

وأما دعوى كون اليمين ـ وإن لم تفد ثبوت زوجية الثاني لكنها تفيد دفع الضمان عنها ـ موقوف على وجوب ضمان فائت البضع ، فالاستدلال بالقاعدة المذكورة موقوف على ثبوت وجوب الضمان وهو قد استدل على وجوب ثبوت الضمان بها وذلك دور ظاهر.

و (ثالثا) أن ما ذكره من «حكمهم بوجوب مهر المثل لمن انفسخ نكاحها


بإرضاعها من يفسد النكاح ، ووجوب دفع المهاجرة المسلمة إلى زوجها الكافر المهر للحيلولة» إن ثبت بنص عليه فهو المعتمد ، وإلا فهو ممنوع ، على أن المذكور في تفسير الآية الدالة على حكم المرأة المهاجرة المسلمة كما هو صرح به في كتاب مجمع البيان أن الدافع للمهر إنما هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا المرأة المسلمة.

وبالجملة فإن كلامه هنا (قدس‌سره) واختياره القول المذكور لا أعرف له وجها ، ولا دليلا شرعيا يدل عليه.

ثم إنه على تقدير وقوع الدعوى على امرأة خالية من الزوج وسماع الدعوى وأنه يترتب عليها ما يترتب على سائر الدعاوي لدخولها تحت القاعدة المنصوصة كما تقدم ، فهل يجوز العقد عليها لغير المدعي قبل انتهاء الدعوى؟ قالوا : وجهان يترتبان على الخلاف المتقدم ، فإن قلنا في المسألة بالقول الثاني ، وهو سماع الدعوى وترتب الفائدة السابقة عليه جاز لها أن يعقد وصح العقد ، وكان الحكم كما تقدم من سماع الدعوى بالنسبة إلى فائت البضع دون أصل الزوجية مع احتمال البطلان.

وأيضا لأن العقد عليها ثانيا قبل انتهاء دعوى الأول يفيد الحيلولة بينه وبين البضع ، والغرض من دعواه الزوجية إنما هو البضع فيحتمل لذلك عدم جواز العقد حتى ينهي الأول دعواه لسبق حقه فلا يسقطه الثاني بعقده.

نعم لو تراخى الأول في الدعوى وسكت عنها فجواز العقد أجود حذرا من الإضرار (1) في بعض الصور ، وإن قلنا بالقول الأول ، وهو عدم سماع الدعوى على المعقود عليها بالكلية اتجه عدم جواز تزويجها إلى أن تخرج من حقه بانتهاء

__________________

(1) وذلك فإنه متى علم بأنه ليس لها العقد حتى ينهى دعواه فإنه ربما سكت عن الدعوى لقصد تطويل الأمر عليها وحصول الضرر عليها بترك التزويج ليكون ذلك وسيلة إلى رجوعها اليه وموافقتها له على دعواه فيلزم من ذلك الضرر والحرج المنفيين آية ورواية. (منه ـ قدس‌سره ـ).


الدعوى لأنها متى تزوجت قبل انتهاء الدعوى لزم بناء على هذا القول عدم سماع دعواه بالكلية فيجب عليها الصبر عن التزويج إلى أن تنتهي الدعوى ، ولكن ينبغي أن يستثني منه ما تقدم من قصد الإضرار بها بالسكوت عن الدعوى والمماطلة بها. حتى ترجع إليه.

أقول : والأقرب والأنسب بالأصول أنه يجوز لها التزويج مطلقا كما أنه يجوز له التصرف في كل ما يدعيه عليه غيره قبل ثبوت دعواه استصحابا للحكم السابق ، والاستصحاب هنا ليس من قبيل الاستصحاب المختلف في حجية ، بل المراد هنا إنما هو استصحاب عموم الدليل ، فإن الأصل ملكه لما في يده ، والأصل ملك المرأة أمر نفسها ، فيجوز بناء على هذا الأصل تصرفه فيما يملكه كيف شاء حتى يقوم الدليل على المنع.

قولهم إنها بترويجها تحصل الحيلولة ـ بينه وبين قصده من تلك الدعوى ـ غير مسموع في مقابلة ما ذكرناه من ثبوت ذلك لها شرعا ، ويؤكد الجواز ما عرفت من تطرق الضرر في بعض الصور ، واحتمل بعض المحققين في صورة مماطلة المدعي بالدعوى ، وعدم تحليفه لها استقلال الحاكم بالتحليف ، لأنه قائم مقام المالك مع امتناعه مما يلزمه شرعا ، والله العالم.

المسألة التاسعة : المشهور بين الأصحاب رضوان الله عليهم من غير خلاف يعرف أنه لو ادعى زوجية امرأة ، وادعت أختها زوجية ، وأقام كل منهما البينة ، فالحكم لبينة الرجل ، إلا أن يكون مع المرأة ترجيح لبينتها من دخول أو تقدم تاريخ.

والأصل في هذا الحكم ما رواه الكليني في الكافي ، والشيخ في التهذيب عن الزهري (1) عن علي بن الحسين عليه‌السلام «في رجل ادعى على امرأة أنه تزوجها بولي وشهود

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 562 ح 26 ، التهذيب ج 7 ص 454 ح 27 ، الوسائل ج 14 ص 225 ب 22.


وأنكرت المرأة ذلك ، فأقامت أخت هذه المرأة على هذا الرجل البينة أنه قد تزوجها بولي وشهود ، ولم يوقتا وقتا ، فكتب : أن البينة بينة الرجل ولا تقبل بينة المرأة ، لأن الزوج قد استحق بضع هذه المرأة ، وتريد أختها فساد النكاح فلا تصدق ، ولا تقبل بينتها إلا بوقت قبل وقتها ، أو بدخول بها».

والرواية المذكورة ضعيفة السند جدا باصطلاح المتأخرين لما في سندها جملة من الضعفاء ورجال العامة ، ومنهم الزهري والراوي عنه ، وهو الأوزاعي ، ولكن ظاهرهم تلقاها بالقبول كما تلاقاها متقدموهم مع ما في مخالفة متنها لمقتضى الأصول كما ذكروه.

وفيه تأييد لما قدمناه من أن الواجب هو العمل بالرواية صح سندها أو ضعف باصطلاحهم. وعدم الالتفات إلي ما فيها من المخالفة لمقتضى الأصول ، ولكنهم لضيق المجال لما في هذا الاصطلاح تارة يردون الرواية وإن صح سندها بذلك كما تقدم قريبا ، وتارة يقبلونها وإن ضعف سندها كما في هذا الموضع ، فإنه لم يصرح أحد منهم بخلاف ذلك.

قال في المسالك بعد ذكر المصنف الحكم المذكورة : هذا الحكم مشهور بين الأصحاب لا يظهر فيه خلاف بينهم ، وهو مخالف للقواعد الشرعية في تقديم بينة الرجل مع إطلاق البينتين أو تساوي التاريخين لأنه منكر يقدم قوله مع عدم البينة ، ومن كان القول قوله ، والبينة بينة صاحبه.

أقول : ويمكن أن يقال في دفع ما ذكره من الاشكال ، أنه لا ريب أن هنا دعويين.

(إحديهما) دعوى الزوج على المرأة التي تزوجها مع إنكارها لدعواه.

و (الثانية) دعوى الأخت على الرجل أنه تزوجها مع إنكار الرجل ، والرجل إنما أقام البينة على دعواه على تلك المرأة التي ادعى تزويجها ، ولا ريب أنه مطابق لمقتضى القاعدة ، من أن البينة على المدعي ، وبموجب ذلك يثبت تزويجه


ولا مدخل هنا للأخت في ذلك حتى أنه يعد منكرا ، وأن البينة بينة صاحبه.

نعم هو في دعوى الأخت عليه منكر ، ولكنها دعوى اخرى ، وليس له بينة هنا حتى أنها ترد ، وإنما البينة بينة المرأة.

وبالجملة فإن هنا دعويين مختلفين ، فالرجل في الأولى مدع ووظيفته البينة وقد أقامها ، وفي الدعوى الثانية منكر إلا أن المرأة أقامت عليه البينة ، وكل من الدعويين وإقامة البينة فيهما جار على مقتضى الأصول لكن لما كان اللازم من ثبوت دعوى الأخت عليه وإقامتها البينة المنافاة لما ادعاه وأقام عليه البينة ، فإنه بثبوت إحدى الدعويين يجب انتفاء الأخرى يرجع الكلام إلى تقديم إحدى الدعويين ، والحكم بصحتها على الأخرى ، والامام عليه‌السلام حكم بتقديم دعوى الزوج وصحة نكاحه بالبينة التي أقامها ما لم يقدم تاريخ بينتها أو يحصل الدخول بها ، معللا ذلك بأن الأخت إنما أرادت بهذه الدعوى التي ادعتها فساد النكاح ، ولعل ذلك لأمر ظهر له عليه‌السلام ، وإن خفي الآن وجهه علينا.

وبالجملة فإن محط الكلام ومطرح البحث إنما هو في تقديم إحدى الدعويين على الأخرى الموجب لصحة المتقدمة وفساد المتأخر ، وهذا أمر آخر خارج عن محل الإشكال في كلامهم ، وبذلك يتجه أنه لا مخالفة في الرواية المذكورة لمقتضى الأصول كما ذكروه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن شيخنا الشهيد الثاني (عطر الله مرقده) في المسالك قد أنهى صور المسألة وما يتحصل منها إلى ثمانية عشر صورة بما هذا ملخصه بأن يقال : إذا وقع النزاع على هذا الوجه فإما أن يقيم كل من المدعيين بينة أولا يقيما أو يقيم أحدهما دون الآخر ، وهو إما الرجل أو المرأة ، فالصور أربع.

ثم إنه على تقدير إقامتهما البينة إما أن تكون البينتان مطلقتين أو مؤرختين أو تكون إحديهما مؤرخة والأخرى مطلقة ، فإما بينة الرجل أو بينة


المرأة ، والمؤرختان إما بتاريخ واحد أو مختلفتان بأن تقدم تاريخ الرجل أو المرأة ، فهذه تسع صور.

وعلى جميع التقادير إما أن يكون الرجل دخل بالمرأة المدعية أولا ، فهذه ثمانية عشر صورة ، وموضع النص منها ما إذا أقام كل واحد منهما بينة ، وما عداه ينبغي الرجوع فيه إلى القواعد الشرعية (1) في باب الدعوى ، وحينئذ فمع عدم البينة يكون القول قول الرجل في إنكار زوجية المدعية بيمينه لأنه منكر ، وهو ظاهر ، ودعواه زوجية أختها يرجع فيه إلى القواعد أيضا ، سواء أنكرت كما في الرواية أو اعترفت ، هذا إذا لم يكن دخل بالمدعية ، أما لو دخل بها ففي الاكتفاء بيمينه ، لأنه منكر أو يرجع الى يمينها ، لأن دخوله بها مكذب لإنكاره وجهان يرجعان إلى تعارض الأصل والظاهر.

قال في المسالك : والأول أقوى ، وإن أقام أحدهما بينة خاصة قضى له سواء كان الرجل أو المرأة ، إلا إذا كانت البينة للرجل وقد دخل بالمدعية فالوجهان لأنه بالنظر إلى إقامة البينة ، وثبوت الحق بها يثبت دعواه ، وبالنظر إلى أن دخوله بالأخت مكذب لبينته فلا تسمع ، ولعله الأقرب كما يشير إليه النص الوارد في المسألة وقرب السيد السند في شرح النافع (2) في هذه الصورة توجه اليمين على ذي البينة ، فلا يقضى له بمجرد البينة كما ذكرنا أولا ، قال : لجواز صدق البينة الشاهدة للأخت المدعية للعقد مع تقدم عقده على من ادعاها ، والبينة لم تطلع عليه ، وجواز صدق بينة الزوج بالعقد على من ادعى عليها مع تقدم عقد أختها

__________________

(1) وعلى هذا فيقدم قولها في سبع صور من هذه الاثني عشر ، وهي الستة الجامعة للدخول مطلقا ، وواحدة من الستة الخالية عنه وهي ما لو تقدم تاريخها ، ويقدم قوله في الخالية عنه الباقية. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

(2) حيث صرح فيه بأن دعوى الزوج مقدمة على دعوى الأخت وبينته متقدمة إلا في صورة دخوله بها أو تقدم تاريخ بينة الأخت. (منه ـ رحمه‌الله ـ).


عليه ، والبينة لا تعلم بالحال ، لكن الأخت تحلف على نفي العلم بسبق عقد أختها لأن اليمين ترجع إلى نفي فعل الغير ، والزوج يحلف على القطع لأنه حلف على نفي فعله. انتهى ، وهو جيد.

وإن أقام كل واحد منهما بينة مطلقة ، أو كانت إحديهما مطلقة والأخرى مؤرخة فالترجيح لبينة الرجل كما هو مقتضى النص إلا مع الدخول لسقوط بينة بتكذيبه إياها فيحكم لبينة الأخت ، وكذا إن ورختا معا وتقدم تاريخ بينتها ، فإنه لا إشكال في تقديمها لثبوت سبق نكاحها في وقت لا يعارضها الأخرى فيه ، ومع تساوي التاريخين أو تقدم تاريخ بينته تقدم بينته إن لم يكن دخل بالأخت كما هو مقتضى النص.

وقال في المسالك بعد البحث في المسألة : بقي أمران : (أحدهما) أن ظاهر النص أن من قدم جانبه لا يفتقر معه إلى اليمين ، وكذلك أطلق المصنف الحكم تبعا لظاهرة ، إذ لو افتقر إلى اليمين مع البينة لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإقامة جزء السبب التام مقامه ، وهو ممتنع ، والأقوى الافتقار إلى اليمين إلا مع سبق تاريخ إحدى البينتين.

أما الأول : فلأنه مع التعارض بتساوي التاريخ أو إطلاقه يتساقط البينتان فلا بد من مرجح للحكم بأحدهما ، فمن رجح جانبه افتقر إلى اليمين ، ومجرد الدخول على تقديره لا يوجب سقوط حكم بينته رأسا ، بل غاية كونه مرجحا ، فلا بد من اليمين جمعا بين النصوص والقاعدة الكلية.

وأما الثاني : فلأنه مع سبق تاريخ إحدى البينتين تكون السابقة مثبتة النكاح في وقت لا يعارضها فيه أحد فتعين الحكم بها.

(الثاني) على تقدير العمل بالنصوص هنا ينسحب الحكم إلى مثل الام والبنت لو ادعي زوجية إحديهما وادعت الأخرى زوجيته ، وجهان : من اتحاد صورة


الدعوى إذ لا مدخل للاخت في هذا الحكم بل إنما هو لتحريم الجمع ، وهو مشترك ، ومن كون الحكم على خلاف الأصل فيقتصر على مورده. انتهى.

أقول : قد عرفت مما سبق في الكتاب وفيما تقدم في الكتب السابقة ، تكاثر الأخبار بالخروج على خلاف مقتضى قواعدهم ، فلا معنى لارتكاب هذا الوجه الذي تكلفه ، وقيد به الخبر من غير دلالة عليه ، ولا إشارة بالكلية إليه خروجا عن مخالفة مقتضى القاعدة التي ذكرها. شعر : «ما أنت أول سار غره قمر».

وقد قدمنا آنفا أن حكمه عليه‌السلام بتقديم بينة الرجل وصحة دعواه وبطلان دعوى الأخت ، لعله لأمر ظهر له عليه‌السلام بقرائن الحال يومئذ ، فإنه عليه‌السلام جزم وحكم بصحة دعوى الزوج ، وأنه قد استحق بضع هذه المرأة ، وحكم ببطلان دعوى أختها ، وأنها تريد فساد النكاح فلا تصدق ، إلا على أحد الوجهين المذكورين ، ومن البين أن حكمه بذلك إنما يكون لأمر أوجبه عنده ، دون مجرد الدعويين المذكورين ، إلا أن الوجه في ذلك خفي علينا ، وتطلب العلل والأسباب في أحكامهم عليهم‌السلام غير واجب علينا ، بل الواجب التسليم لما حكموا به وإن خفي علينا وجهة وسببه ، فالواجب العمل بما دل عليه الخبر ، وغض الطرف عن تطلب العلة المذكورة.

وما ذكره من أن مجرد الدخول على تقديره لا يوجب سقوط حكم بينة الرجل رأسا بل غايته كونه مرجحا رد للنص الظاهر ، بل الصريح في سقوط حكم بينته على التقدير المذكور ، فإنه عليه‌السلام قال «لا تصدق ولا تقبل بينتها إلا بوقت قبل وقتها ، أو بدخول بها» فجعل كلا من تقديم التاريخ والدخول موجبا لبطلان دعوى الزوج ، وصحة دعوى الأخت.

فحكمه ـ بذلك في الأول لما ذكره من التعليل وتوقفه في الثاني على اليمين لما ذكره خروج عن النص.


وبالجملة فإنه قبل النص وعمل به ، فالواجب عليه القول بما دل عليه ، وعدم مقابلته بهذه التعليلات في بعض والإغماض عنها في أخرى ، وإلا فالواجب طرحه وسقوط هذا البحث من أصله ، والله العالم.

المسألة العاشرة : إذا تزوج العبد بمملوكة ثم أذن له سيده في شرائها ، فإن كان الشراء المأذون فيه إنما وقع لسيده فالعقد الأول باق بحاله ، إذ لم يحصل إلا انتقالها من مالك إلى آخر ، وذلك لا يوجب انفساخ عقدها ، وإن كان الاذن في الشراء إنما وقع للعبد أو للسيد ولكن ملكه إياها سيده بعد الشراء.

فإن قلنا أن العبد لا يملك فالنكاح الأول باق بحاله ، لأن الشراء والحال هذه باطل بل هي باقية على ملك الأول ، والتمليك من السيد لاغ بل هي باقية على ملك السيد.

وإن قلنا إن العبد يملك مطلقا أو يملك مثل هذا الفرد من التصرفات فإنها تنتقل إلى ملك العبد ، ويبطل النكاح الأول ، كما يبطل نكاح الحر للأمة إذا اشتراها الزوج ، للمنافاة بين وطئها بالملك والعقد ، بقوله عزوجل (1) «إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» والتفصيل يقطع الشركة ، فإذا ثبت الثاني انتفى الأول.

ويدل على ما دلت عليه الآية من الأخبار ما رواه في الكافي عن الحسين بن زيد (2) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : يحل الفرج بثلاث : نكاح بميراث ، ونكاح بلا ميراث ، ونكاح بملك اليمين».

وما رواه الشيخ عن الحسن بن زيد (3) قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فدخل عليه عبد الملك بن جريح المكي فقال له : ما عندك في المتعة؟ قال : أخبرني

__________________

(1) سورة المؤمنون ـ آية 6.

(2) الكافي ج 5 ص 364 ح 3 ، الوسائل ج 14 ص 57 ب 35 ح 1.

(3) التهذيب ج 7 ص 241 ح 3 ، الوسائل ج 14 ص 58 ح 2.


أبوك محمد بن علي عليه‌السلام عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب الناس فقال : أيها الناس إن الله أحل لكم الفروج على ثلاثة معان : فرج موروث وهو البنات وفرج غير موروث وهو المتعة ، وملك أيمانكم».

وروى الحسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول (1) عن الصادق عليه‌السلام في حديث قال : «وأما ما يجوز من المناكح فأربعة وجوه : نكاح بميراث ونكاح بغير ميراث ، ونكاح بملك اليمين ، ونكاح بتحليل من المحلل».

أقول : لا منافاة بين هذا الخبر وما تقدم من الحصر في الثلاثة ، فإن التحليل داخل في ملك اليمين لأنه متى أحل له جاريته فقد ملكه منها ما أحله.

وأما ما يؤيد ما ذكره الأصحاب من أن الجارية إذا اشتراها زوجها بطل العقد الأول وحل له النكاح بالملك فمنه ما رواه الكليني عن سماعة (2) في الموثق قال : «سألته عن رجلين بينهما أمة فزوجاها من رجل ، ثم إن الرجل اشترى بعض السهمين ، فقال : حرمت عليه».

وبإسناده آخر عن سماعة مثله ، إلا أنه قال : «حرمت عليه باشترائه إياها ، وذلك أن بيعها طلاقها ، إلا أن يشتريها من جميعهم».

ورواه الصدوق عن زرعه عن سماعة مثله ، إلا أنه قال «إلا أن يشتريها جميعا».

وقد تكرر في الأخبار أن بيعها طلاقها ، وحينئذ فبيعها على زوجها يحصل طلاقها كما يحصل بالبيع على غيره ، وأما هو فإنه ينكحها بعد الشراء بالملك حينئذ لما عرفت من حصول الطلاق بالبيع.

وأما في صورة شراء شقص منها كما تضمنه الخبر ، فإنها تحرم مطلقا حتى يشتري الجميع ، فيرجع إلى النكاح بالملك ، وقد تقدم الكلام في نظير هذه المسألة ، وهو ملك المرأة زوجها ، وأنه بملكها له تحرم عليه ، وينفسخ نكاحها في كتاب

__________________

(1) تحف العقول ص 338 ، الفقيه ج 3 ص 285 ب 14 ح 1 ، الوسائل ج 14 ص 58 ح 3.

(2) الكافي ج 5 ص 482 ح 4 ، الوسائل ج 14 ص 553 ح 1.


التجارة في المسألة الرابعة من الفصل التاسع في بيع الحيوان من الكتاب المذكور (1).

بقي هنا شيئان : (أحدهما) أنه على تقدير القول بملكه وبطلان العقد الأول هل يستبيحها العبد بغير إذن من مولاه ، أو يتوقف على الاذن ، الظاهر كما تقدم تحقيقه في كتاب البيع هو أن العبد وإن كان يملك لكن تصرفه موقوف على إذن المولى.

هذا هو الظاهر من الجمع بين أخبار المسألة ، وحينئذ فيتوقف وطؤها على الاذن.

(وثانيهما) أن ما قدمنا ذكره من البطلان لو شراها العبد لنفسه بإذن السيد ، وقلنا بأن العبد لا يملك كما هو أحد القولين في المسألة ، وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في الروضة والمسالك ، وقيل بأنه يقع للمولى ، وهو اختيار شيخنا الشهد الأول في شرح الإرشاد ، قال : وأما بقاء العقد على القول بأنه لا يملك بالتمليك كما تقدم ذكر الخلاف فيه فلأن الشراء حينئذ للمولى فالملك له وزوال الملك عن الزوج إلى غير الزوج لا يقتضي فسخ نكاحها لعدم المنافاة. انتهى.

وعلله في المسالك قال : إن الشراء حينئذ يقع للمولى لأن إذنه فيه للعبد تضمن أمرين : مطلق الشراء ، وكونه مقيدا بالعبد ، وإذا بطل المقيد بقي المطلق المدلول عليه بالمقيد

ضمنا ، ثم تنظر فيه بأنه لا يلزم من الاذن في الشراء للعبد ، الاذن فيه للمولى ، وبقاء المطلق مع انتقاء المقيد في مثل هذه المواضع ظاهر المنع ، ومن الجائز أن يرضى المولى بتملك الأمة المعينة للعبد ، ولا يرضى بتملكها لنفسه ، فعدم صحة العقد أصلا أقوى. انتهى ، وهو جيد.

والعجب منه (قدس‌سره) أنه فرع بقاء العقد ـ أعني عقد الزوج على المملوكة مع القول بعدم الملك كما عرفت ـ على كون الشراء للمولى ، مع أنه لا خصوصية له بذلك بل هو باق أيضا وإن قلنا بالبطلان وبقائها على ملك مولاها الأول ، والله العالم بحقائق أحكامه.

__________________

(1) ج 19 ص 385.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *