ج14 - حج الإسلام
المقدمة الثالثة
وحيث كان الحج من ما ينقسم باعتبار من يقع منه ـ الى حجة
الإسلام وما يجب بالنذر وشبهه وما يقع على جهة النيابة ، ولكل منها شرائط وأحكام ـ
فالكلام في هذه المقدمة يقع في مقاصد ثلاثة :
المقصد الأول
في حج الإسلام
وشرائط وجوبه ـ على ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ خمسة : الأول ـ كمال العقل فلا يجب على الصبي ولا على المجنون وهو قول كافة العلماء ، ويدل عليه حديث : «رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق» (1).
ولو حجا أو حج عنهما لم يجزئهما بعد الكمال ، وهو من ما
لا خلاف فيه ايضا كما نقله العلامة في المنتهى.
ويدل عليه أخبار كثيرة : منها ـ ما رواه الصدوق في
الصحيح عن صفوان عن إسحاق بن عمار (2) قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن ابن عشر
سنين يحج؟ قال : عليه حجة الإسلام إذا احتلم ، وكذلك الجارية عليها الحج إذا طمثت».
وما رواه الكليني والشيخ عنه عن مسمع بن عبد الملك عن
ابي عبد الله
__________________
(1) الوسائل الباب 4 من مقدمة
العبادات ، وسنن البيهقي ج 8 ص 264.
(2) الوسائل الباب 12 من وجوب الحج
وشرائطه.
عليهالسلام (1) قال : «ولو ان
غلاما حج عشر حجج ثم احتلم كان عليه فريضة الإسلام».
وما رواه في الكافي والفقيه عن شهاب (2) قال : «سألته
عن ابن عشر سنين يحج؟ قال : عليه حجة الإسلام إذا احتلم ، وكذلك الجارية عليها
الحج إذا طمثت».
بقي الكلام هنا في مسائل :
الاولى ـ لو دخل الصبي أو المجنون في الحج تطوعا ثم كمل
في أثناء الحج فان كان في أثناء الوقوف بالمشعر (3) أتم تطوعا ولم
يجزئه عن حجة الإسلام قولا واحدا كما نقله في التذكرة.
قالوا : لأن الأصل عدم اجزاء المندوب عن الواجب. وفيه ما
فيه. بل لعدم الدليل على ذلك ، والأصل بقاؤه تحت عهدة التكليف متى حصلت الاستطاعة
حتى يقوم الدليل على الاسقاط.
وان كان قبل الوقوف بالمشعر فالمشهور انه يدرك الحج بذلك
ويجزئه عن حجة الإسلام ، وذكره الشيخ وأكثر الأصحاب ، ونقل فيه العلامة في التذكرة
الإجماع.
واستدل عليه بالروايات الآتية في العبد الدالة على اجزاء
حجه إذا أدرك المشعر معتقا (4).
واستدل عليه أيضا في المنتهى ـ بعد التردد ـ بأنه زمان
يصح إنشاء الحج فيه
__________________
(1) الوسائل الباب 13 من وجوب الحج
وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 12 من وجوب الحج
وشرائطه. ولم نجده في الفقيه.
(3) في النسخة الخطية هكذا : «فان كان
بعد الوقوف بالمشعر أتم تطوعا ...».
(4) الوسائل الباب 17 من وجوب الحج
وشرائطه.
فكان مجزئا أن يجدد فيه نية الوجوب.
وأورد على الأول انه قياس مع الفارق. وعلى الثاني بأن
جواز إنشاء الحج في ذلك الزمان على بعض الوجوه بنص خاص لا يقتضي إلحاق غيره به ،
خصوصا مع مصادمته بمقتضى الأصل من عدم اجزاء المندوب عن الواجب.
ولعله لذلك تردد المحقق في المعتبر والشرائع في الحكم
المذكور ، وهو في محله.
وبالجملة فإني لم أقف لهم على دليل في المسألة إلا ما
يدعى من الإجماع ، وعليه اعتمد شيخنا الشهيد الثاني في المسالك فقال ـ بعد ان نقل
عن التذكرة دعوى الإجماع وعن المنتهى انه توقف وعن التحرير انه تنظر في ذلك ـ ما
صورته : والمعتمد الاجزاء تعويلا على الإجماع المنقول وعدم العلم بالمخالف على وجه
يقدح فيه. انتهى. وفيه انه قد طعن في مسالكه في هذا الإجماع في غير موضع كما سنشير
اليه ان شاء الله تعالى. وحينئذ فالظاهر هو عدم الاجزاء
ثم انه على تقدير القول بالاجزاء فههنا فروع :
الأول (1) ـ انه قد ذكر الشهيد في الدروس انهما
يجددان نية الوجوب. وهل المراد به انه ينوي بباقي الأفعال الوجوب حينئذ لوجود
المقتضى له ، أو للوقوف الذي حصل الكمال في أثنائه ، أو يكون المراد به تجديد نية
الإحرام على وجه الوجوب لانه مستمر الى ان يأتي بالمحلل فتكون النية في أثنائه
واجبة لما بقي منه؟ احتمالات أظهرها الأول. إلا ان الأمر عندنا في النية سهل كما
قدمنا بيانه في غير موضع.
الثاني ـ هل يعتبر على تقدير القول المذكور كون الصبي
والمجنون مستطيعين
__________________
(1) أوردنا عدد الفروع بالحروف تبعا
للنسخة الخطية.
قبل ذلك من حيث الزاد والراحلة؟ قيل :
نعم ، وبه قطع الشهيدان ، لان البلوغ والعقل أحد الشرائط الموجبة كما ان الاستطاعة
كذلك فوجود أحدهما دون الآخر غير كاف في الوجوب. وقيل : لا ، وهو ظاهر المشهور كما
نقله في المدارك حيث لم يتعرضوا لاشتراط ذلك ، تمسكا بالإطلاق. وهو الأظهر لما
سيأتي ان شاء الله تعالى تحقيقه في معنى الاستطاعة ، وانها عبارة عن ما ذا؟ ويعضده
ايضا النصوص الصحيحة المتضمنة للاجزاء في العبد إذا أدرك المشعر معتقا (1) مع تعذر
الاستطاعة السابقة في حقه ولا سيما عند من قال بإحالة ملكه.
الثالث ـ انه على تقدير القول باعتبار الاستطاعة كما ذهب
اليه الشهيدان فظاهرهما اشتراط حصول الاستطاعة في البلد ، وظاهر السيد السند (قدسسره) في كتاب
المدارك بناء على القول المذكور الاكتفاء بحصولها في الميقات قال : بل لا يبعد
الاكتفاء بحصولها من حين التكليف. وهو جيد لو قيل بذلك.
الرابع ـ انه على تقدير القول بالاجزاء فهل يفرق في
الحكم المذكور بين حج التمتع وبين الحجين الآخرين؟ حيث ان عمرة هذين الحجين متأخرة
فتقع بعد ذلك بنية الوجوب ، اما في التمتع فيقوى الاشكال كما ذكره في المسالك :
قال : لوقوع جميع عمرته مندوبة مضافة الى بعض أفعال الحج
ايضا فيبعد اجزاؤها عن الواجب مع عدم النص عليه. الى ان قال : والفتوى مطلقة وكذلك
الإجماع المنقول ، فينبغي استصحابهما في الجميع. ومال إليه في الدروس حيث قال :
ويعتد بالعمرة المتقدمة لو كان الحج تمتعا في ظاهر الفتوى. وقوى شارح ترددات
الكتاب العدم. انتهى.
والى ما نقله هنا عن شارح ترددات الكتاب ـ من القول
بالاختصاص
__________________
(1) الوسائل الباب 17 من وجوب الحج
وشرائطه.
بالقارن والمفرد ـ مال السيد السند في
المدارك استبعادا لإجزاء العمرة الواقعة بتمامها على وجه الندب عن الواجب ، قال :
ولا بأس به قصرا لما خالف الأصل على موضع الوفاق ان تم وإلا اتجه عدم الاجزاء
مطلقا. انتهى.
أقول : لا ريب انه على ما اخترناه من عدم الاجزاء لعدم
الدليل على ذلك فلا اثر لهذه الاحتمالات ولا ورود لهذه الإشكالات ، واما على القول
المذكور فالحكم محل اشكال ، لعدم النص ، وعدم صحة بناء الأحكام على هذه التعليلات
التي يتعاطونها في كلامهم ويتداولونها على رؤوس أقلامهم.
الثانية (1) ـ الصبي إذا كان مميزا صح إحرامه إذا
كان باذن وليه وإلا أحرم به الولي ، وكذا المجنون ، بمعنى جعلهما محرمين سواء كان
هو محلا أو محرما.
ومن الاخبار في ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح
عن زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) (2) قال : «إذا حج
الرجل بابنه وهو صغير فإنه يأمره ان يلبي ويفرض الحج ، فان لم يحسن ان يلبي لبوا
عنه ، ويطاف به ويصلى عنه. قلت : ليس لهم ما يذبحون؟ قال : يذبح عن الصغار ويصوم
الكبار. ويتقى عليهم ما يتقى على المحرم من الثياب والطيب. فان قتل صيدا فعلى أبيه».
وما رواه الشيخ عن معاوية بن عمار في الصحيح (3) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : قدموا
من كان معكم من الصبيان إلى الجحفة أو الى بطن مر ثم يصنع بهم ما يصنع بالمحرم ،
يطاف بهم ويسعى بهم ويرمى عنهم. ومن
__________________
(1) هذه هي المسألة الثانية ، وقد
أوردنا العبارة هنا على طبق النسخة الخطية.
(2) الوسائل الباب 17 من أقسام الحج.
(3) التهذيب ج 5 ص 409 وفي الوسائل
الباب 17 من أقسام الحج.
لم يجد منهم هديا فليصم عنه وليه».
وفي الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام ـ وكنا تلك
السنة مجاورين وأردنا الإحرام يوم التروية ـ فقلت : ان معنا مولودا صبيا؟ فقال :
مروا امه فلتلق حميدة فلتسألها كيف تفعل بصبيانها؟ قال فأتتها فسألتها فقالت لها :
إذا كان يوم التروية فجردوه وغسلوه كما يجرد المحرم ثم أحرموا عنه ثم قفوا به في
المواقف ، فإذا كان يوم النحر فارموا عنه واحلقوا رأسه ثم زوروا به البيت ثم مروا
الخادم ان يطوف به البيت وبين الصفا والمروة».
وصحيحة معاوية بن عمار عن ابى عبد الله عليهالسلام (2) قال : «انظروا
من كان معكم من الصبيان. الحديث الأول إلى قوله : فليصم عنه وليه ،. وزاد : وكان
علي بن الحسين عليهالسلام يضع السكين في
يد الصبي ثم يقبض على يده الرجل فيذبح».
ويستفاد من هذه الاخبار ان الولي يأمر الصبي بالتلبية
ونحوها من الأفعال كالطواف والرمي والذبح ونحو ذلك ، فان لم يحسن ناب عنه الولي أو
من يأمره ، ويلبسه ثوبي الإحرام ويجنبه ما يجب اجتنابه على المحرم. والجميع من ما
لا خلاف فيه. واما الصلاة فإنه يصلي عنه كما تضمنته صحيحة زرارة ، واحتمل في
الدروس أمره بالإتيان بصورة الصلاة أيضا كالطواف. وهو ضعيف وان نفى عنه البأس السيد
في المدارك. وإذا طاف به فالأحوط أن يكونا متطهرين ، واكتفى الشهيد في الدروس
بطهارة الولي.
__________________
(1) التهذيب ج 5 ص 410 وفي الوسائل
الباب 17 من أقسام الحج.
(2) هذه الصحيحة مع الزيادة هي رواية
الكافي والفقيه والمتقدمة هي رواية التهذيب ، وقد أورد الزيادة في الوسائل عن
الفقيه في الباب 17 من أقسام الحج برقم 4 وعن الكافي في الباب 36 من الذبح برقم 2.
وهذه الروايات ونحوها وان اختصت بالصبيان إلا ان الأصحاب
(رضوان الله عليهم) لم يفرقوا في هذه الأحكام بين الصبي والصبية. وهو جيد ، فإن
أكثر الأحكام في جميع أبواب الفقه إنما خرجت في الرجال مع انه لا خلاف في إجرائها
في النساء ولا اشكال.
وألحق الأصحاب المجنون ، واستدل عليه في المنتهى بأنه
ليس اخفض حالا من الصبي. وهو ضعيف فإنه لا يخرج عن القياس ، مع انه قياس مع
الفارق.
فائدة
اختلف الأصحاب في توقف الحج المندوب من الولد البالغ على
إذن الأب أو الأبوين وعدمه ، فنقل عن الشيخ انه أطلق عدم استئذانهما وهو ظاهر
اختيار الشهيد في الدروس ، واعتبر العلامة في القواعد إذن الأب خاصة ، وقوى شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك توقفه على إذنهما ، وفصل في الروضة فقال : ان عدم اعتبار
إذنهما حسن إذا لم يكن الحج مستلزما للسفر المشتمل على الخطر وإلا فالاشتراط أحسن.
وما في المدارك ـ بعد اعترافه بعدم الوقوف على نص في
خصوص هذه المسألة ـ إلى القول الأول فقال : ومقتضى الأصل عدم الاشتراط والواجب
المصير إليه الى ان يثبت المخرج عنه. انتهى.
وقال في الذخيرة بعد نقل هذه الأقوال : ولا أعلم في هذه
المسألة نصا متعلقا بها على الخصوص فالإشكال فيها ثابت. انتهى.
أقول : روى الصدوق (طاب ثراه) في كتاب العلل (1) عن أبيه عن
احمد بن إدريس عن محمد بن احمد عن احمد بن هلال عن مروك بن عبيد عن نشيط بن صالح
عن هشام بن الحكم عن ابي عبد الله عليهالسلام قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله : من فقه
الضيف ان لا يصوم تطوعا إلا بإذن صاحبه. ومن طاعة المرأة لزوجها ان لا تصوم تطوعا
إلا بإذن زوجها. ومن صلاح العبد وطاعته ونصحه لمولاه ان لا يصوم تطوعا إلا بإذن
مولاه وامره. ومن بر الولد ان لا يصوم تطوعا ولا يحج تطوعا ولا يصلي تطوعا إلا
بإذن أبويه وأمرهما. وإلا كان الضيف جاهلا ، وكانت المرأة عاصية ، وكان العبد
فاسقا عاصيا ، وكان الولد عاقا قاطعا للرحم». وهي ـ كما ترى ـ صريحة الدلالة على
توقف الحج على إذن الأبوين معا.
إلا ان شيخنا الصدوق بعد نقلها قال في الكتاب المذكور ما
صورته : قال محمد بن علي مؤلف هذا الكتاب : جاء هذا الخبر هكذا ، ولكن ليس
للوالدين على الولد طاعة في ترك الحج تطوعا كان أو فريضة ، ولا في ترك الصلاة ،
ولا في ترك الصوم تطوعا كان أو فريضة ، ولا في شيء من ترك الطاعات. انتهى.
وهذا الخبر قد رواه الصدوق في الفقيه (2) والكليني في
الكافي (3) في كتاب الصوم
خاليا من ذكر الحج والصلاة كما قدمناه في كتاب الصوم.
وشيخنا الصدوق قد رد الخبر ـ كما ترى ـ ولم ينقل له
معارضا ، مع ان ما تضمنه مؤيد بجملة من الأخبار الدالة على وجوب طاعتهما على الولد
وان كان في الخروج من اهله وماله :
__________________
(1) ص 385 الطبع الحديث ، وفي الوسائل
الباب 10 من الصوم المحرم والمكروه. وبين ألفاظ الحديث في المتن وفي العلل بعض
الفروق البسيطة.
(2) ج 2 ص 99 ، وفي الوسائل الباب 10
من الصوم المحرم والمكروه.
(3) ج 4 ص 151 ، وفي الوسائل الباب 10
من الصوم المحرم والمكروه.
روى في الكافي بسنده فيه عن محمد بن مروان (1) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : ان
رجلا اتى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا
رسول الله صلىاللهعليهوآله أوصني. فقال :
(لا تُشْرِكْ بِاللهِ) شيئا وان حرقت
بالنار وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالايمان. ووالديك فأطعهما وبرهما حيين كانا أو
ميتين ، وان أمراك ان تخرج من أهلك ومالك فافعل ، فان ذلك من الايمان».
وروى فيه (2) ايضا بسنده عن جابر عن ابي عبد الله عليهالسلام قال : «اتى
رجل رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : يا
رسول الله صلىاللهعليهوآله اني راغب في
الجهاد ونشيط؟ فقال له النبي صلىاللهعليهوآله : فجاهد في
سبيل الله ، فإنك ان تقتل تكن حيا عند الله ترزق ، وان تمت فقد وقع أجرك على الله
، وان رجعت رجعت من الذنوب كما ولدت. فقال : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله : ان لي
والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان خروجي؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : فقر مع
والديك فوالذي نفسي بيده لأنسهما بك يوما وليلة خير من جهاد سنة».
وروى فيه ايضا عن جابر (3) قال : «اتى
رسول الله صلىاللهعليهوآله رجل فقال : انى
رجل شاب نشيط وأحب الجهاد ولي والدة تكره ذلك؟ فقال له النبي صلىاللهعليهوآله : ارجع فكن مع
والدتك فوالذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير من جهادك في سبيل الله سنة».
وفي حديث (4) في معنى قوله (عزوجل) (وَقُلْ
لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (5)
__________________
(1) الوسائل الباب 92 من أحكام
الأولاد.
(2) ج 2 ص 160 الطبع الحديث ، وفي
الوسائل الباب 2 من جهاد العدو.
(3) الوسائل الباب 2 من جهاد العدو.
(4) الوسائل الباب 92 من أحكام
الأولاد. وهو حديث ابي ولاد الحناط.
(5) سورة بني إسرائيل الآية 23.
قال : ان ضرباك فقل لهما : غفر الله
لكما. فذلك منك قول كريم. قال «وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ» (1)؟ قال : لا
تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقة ، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك
فوق أيديهما ، ولا تقدم قدامهما.
الى غير ذلك من الاخبار الدالة على مزيد الحث على برهما
والانقياد لأمرهما
وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة في تأييد الخبر المذكور فالخروج
عنه وترك العمل به من غير معارض مشكل.
الثالثة ـ قد صرح جمع من الأصحاب بأن الولي هنا من له
ولاية المال كالأب والجد للأب والوصي.
والأولان من ما ادعى في التذكرة عليهما الإجماع فقال :
انه قول علمائنا اجمع.
قال (2) واما ولاية الوصي فمقطوع به في كلام
الأصحاب ، واستدل عليه بان له ولاية المال على الطفل فكان له ولاية الاذن في الحج.
قال في المدارك : وهو حسن ، وفي النصوص بإطلاقها دلالة عليه.
أقول : وعندي فيه توقف إذ المتبادر من الولي في هذا
المقام انما هو الأب والجد له ، ومجرد كون الوصي له ولاية المال لا يلزم انسحابه
في ولاية البدن ، لان الحج يستلزم التصرف في المال والبدن.
وربما يظهر من كلامهم ثبوت الولاية في هذا المقام للحاكم
ايضا بالنظر الى
__________________
(1) سورة بني إسرائيل الآية 24.
(2) هكذا وردت العبارة في النسخة
المطبوعة والخطية ، ويحتمل ان تكون كلمة «قال» زيادة من قلم النساخ. كما يحتمل
سقوط كلمة «في المدارك» من القلم ، لأن العبارة المذكورة من قوله «واما» الى قوله «في
الحج» عين عبارة المدارك.
ان له ولاية المال ، قال في المدارك :
ونقل عن الشيخ (قدسسره) في بعض كتبه
التصريح بذلك. ثم قال : ولا بأس به لأنه كالوصي. انتهى.
وفيه ما عرفت ، بل هو أبعد من الدخول في هذا المقام. ولا
ريب ان الاحتياط يقتضي الاقتصار على الأولين.
واختلف الأصحاب في ثبوت الولاية للأم في هذا المقام ،
والمشهور ذلك واليه ذهب الشيخ وأكثر الأصحاب.
واستدلوا عليه بما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن
سنان عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «سمعته
يقول : مر رسول الله صلىاللهعليهوآله برويثة (2) وهو حاج فقامت
إليه امرأة ومعها صبي لها فقالت : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله أيحج عن مثل
هذا؟ قال : نعم ولك اجره».
والتقريب فيه انه لا يثبت لها الأجر إلا من حيث صحة الحج
به وان جميع ما فعلته به أو عنه من أفعال الحج موافق للشرع.
ويعضدها ايضا ظاهر صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة (3).
وقال ابن إدريس : لا ولاية لها في ذلك لانتفاء ولايتها
في المال والنكاح فتنتفي هنا. ونقل عن فخر المحققين انه قواه. وهما محجوبان بالخبر
المذكور. إلا ان ابن إدريس بناء على أصله الغير الأصيل لا يتوجه عليه ذلك.
الرابعة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يلزم
الولي متى حج بالصبي نفقته الزائدة على نفقة الحضر ، بمعنى انه يغرم ما يحتاج اليه
من حيث السفر من نفسه لا من مال الطفل ، كاجرة الدابة وآلات السفر ونحو ذلك ، لانه
غرم ادخله على نفسه بسبب إخراجه الصبي والسفر به فلزمه التسبيب. ولأن
__________________
(1) الوسائل الباب 20 من وجوب الحج
وشرائطه.
(2) موضع بين الحرمين.
(3) ص 64.
الولي تلزمه كفارة الصيد كما تضمنته
صحيحة زرارة المتقدمة (1) في المسألة
الثانية فالنفقة أولى.
وأ حلق الأكثر بالنفقة الزائدة الفدية التي تلزم المكلف
في حالتي العمد والخطأ وهي كفارة الصيد ، وجزم في التذكرة بلزومها للصبي لوجوبها
بجنايته فكان كما لو أتلف مال غيره. قال في المدارك : وتدفعه صحيحة زرارة (2).
أقول : لا يخفى ان إطلاق الحكم بما ذكروه هنا ـ ولا سيما
على ما قدمنا نقله عنهم من عموم الولي للوصي والحاكم الشرعي ـ لا يخلو من الإشكال
، لأنه متى توقف حفظ الصبي وكفالته وتربيته على السفر به وكانت مصلحته في ذلك فلا
معنى لهذا التعليل في وجوب النفقة على الولي ، بل ينبغي ان يكون كل ما يغرمه في
السفر من الأشياء المذكورة من مال الطفل ان كان له مال وإلا فهو من مال الولي تبعا
لوجوب النفقة عليه في الحضر والقيام بما يحتاج اليه. وهذا بالنسبة إلى الولي
الجبري ، واما الوصي والحاكم الشرعي فقد عرفت انه لا دليل على عموم تصرفهما في
الصبي بحيث يسافرون به من بلد الى بلد اخرى وانما قصارى ولايتهم على ما يتعلق
بماله ، فحينئذ لو سافروا به والحال كذلك فينبغي ان يغرموا جميع ما يتعلق به ، وان
ثبت ان لهم التصرف على وجه العموم واقتضت المصلحة ذلك فالذي ينبغي ان يكون جميع ما
يغرمونه من مال الطفل.
وبالجملة فإن المسألة لخلوها من النص الواضح لا تخلو من
الاشكال ، وكلامهم هنا على إطلاقه لا يخلو من شوب الاختلال.
ثم انهم ايضا اختلفوا في ما يختلف حكم عمده وسهوه في
البالغ كالوطء واللبس إذا تعمده الصبي :
فنقل عن الشيخ (رحمهالله) انه قال :
الظاهر انه تتعلق به الكفارة على
__________________
(1 و 2) ص 63.
وليه. وان قلنا لا يتعلق به شيء ـ لما
روى عنهم (عليهمالسلام) (1) : ان «عمد
الصبي وخطأه واحد» والخطأ في هذه الأشياء لا يتعلق به كفارة من البالغين ـ كان
قويا.
قال في المدارك : وهو جيد لو ثبت اتحاد عمد الصبي وخطأه
على وجه العموم ، لكنه غير واضح ، لان ذلك إنما ثبت في الديات خاصة. انتهى وهو جيد
وقيل بالوجوب تمسكا بالإطلاق ، ونظرا الى ان الولي يجب
عليه منع الصبي عن هذه المحظورات ، ولو كان عمده خطأ لما وجب عليه المنع لأن الخطأ
لا يتعلق به حكم ولا يجب المنع منه.
قال في المدارك بعد نقل ذلك : والمسألة محل تردد ، وان
كان الأقرب عدم الوجوب اقتصارا في ما خالف الأصل على موضع النص وهو الصيد.
ونقل عن الشيخ انه يتفرع على الوجهين ما لو وطأ قبل أحد
الموقفين متعمدا ، فان قلنا ان عمده وخطأه سواء لم يتعلق به فساد الحج ، وان قلنا
ان عمده عمد فسد حجه ولزمه القضاء. ثم قال : والأقوى الأول ، لأن إيجاب القضاء
يتوجه الى المكلف وهو ليس بمكلف.
أقول : والمسألة لا تخلو من اشكال لعدم النص في المقام ،
فانا لم نقف في ذلك إلا على صحيحة زرارة المتقدمة (2) الدالة على
الصيد وانه تجب كفارته على الأب. والاحتياط واضح.
والثاني من الشروط المتقدمة ـ الحرية ، فلا يجب على
المملوك وان اذن له سيده ، ولو اذن له صح إلا انه لا يجزئه عن حج الإسلام لو أعتق.
__________________
(1) الوسائل الباب 36 من قصاص النفس ،
والباب 11 من العاقلة.
(2) ص 63.
اما انه لا يجب عليه وان اذن له سيده فقال في المعتبر :
ان عليه إجماع العلماء. ويدل عليه
ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسندين أحدهما صحيح عن
ابن محبوب عن الفضل بن يونس ـ وهو ثقة واقفي ـ عن ابي الحسن عليهالسلام (1) قال : «ليس
على المملوك حج ولا عمرة حتى يعتق».
واستدل في المدارك على ذلك برواية آدم بن علي عن ابي
الحسن عليهالسلام (2) قال : «ليس
على المملوك حج ولا عمرة حتى يعتق». وهو سهو من قلمه (قدسسره) فان هذا
المتن إنما هو في رواية الفضل التي ذكرناها ، واما رواية آدم بن علي فهي ما رواه
الشيخ عنه عن ابى الحسن عليهالسلام (3) قال : «ليس
على المملوك حج ولا جهاد ولا يسافر إلا بإذن مالكه». وهي أيضا دالة على الحكم
المذكور.
واما انه إذا حج باذن مولاه فإنه يصح حجه ولكن لا يجزئه
عن حجة الإسلام لو أعتق فقال في المنتهى : انه قول كل من يحفظ عنه العلم.
وتدل عليه الاخبار المتكاثرة ، ومنها ـ صحيحة علي بن
جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام (4) قال : «المملوك
إذا حج ثم أعتق فإن عليه اعادة الحج».
وصحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله عليهالسلام (5) قال : «ان
المملوك
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 15 من وجوب
الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 15 من وجوب الحج
وشرائطه. ومتنها كما ذكره المصنف (قدسسره).
(4) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج
وشرائطه.
(5) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج
وشرائطه رقم (1) وهي رواية الصدوق في الفقيه ج 2 ص 264.
ان حج وهو مملوك أجزأه إذا مات قبل ان
يعتق ، وان أعتق فعليه الحج».
وصحيحته الأخرى عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «المملوك
إذا حج وهو مملوك ثم مات قبل ان يعتق أجزأه ذلك الحج ، فإن أعتق أعاد الحج».
ورواية مسمع بن عبد الملك عن ابى عبد الله عليهالسلام (2) قال : «لو ان
عبدا حج عشر حجج ثم أعتق كانت عليه حجة الإسلام إذا استطاع الى ذلك سبيلا».
ورواية إسحاق بن عمار (3) قال : «سألت
أبا إبراهيم عليهالسلام عن أم الولد
تكون للرجل ويكون قد أحجها أيجزئ ذلك عنها من حجة الإسلام؟ قال : لا. قلت : لها
أجر في حجها؟ قال : نعم». ومثلها رواية شهاب (4).
وروى في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن
جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهالسلام (5) قال : «سألته
عن المملوك الموسر اذن له مولاه في الحج هل له أجر؟ قال : نعم ، فإن أعتق أعاد
الحج».
واما ما رواه الشيخ عن حكم بن حكيم الصيرفي (6) ـ قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : أيما
عبد حج به مواليه فقد أدرك حجة الإسلام». ـ فقد حمله الشيخ وغيره على من أدرك
الموقفين معتقا. والظاهر بعده ، بل الأقرب
__________________
(1) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج
وشرائطه رقم (4) وهي رواية الشيخ في التهذيب ج 5 ص 4.
(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 16 من وجوب
الحج وشرائطه.
(5) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج
وشرائطه. واللفظ هكذا : هل عليه ان يذبح وهل له أجر؟.
(6) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج
وشرائطه. واللفظ : «فقد قضى حجة الإسلام».
حمله على ادراك ثواب حجة الإسلام ما
دام مملوكا.
واليه يشير قوله عليهالسلام في صحيحة عبد
الله بن سنان الأولى : «أجزأه إذا مات قبل ان يعتق». اي أجزأه عن حجة الإسلام ،
بمعنى انه يكتب له ثواب حجة الإسلام. ومثله في صحيحته الثانية.
وأصرح من ذلك في هذا المعنى ما رواه في الفقيه عن ابان
بن الحكم (1) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : الصبي
إذا حج به فقد قضى حجة الإسلام حتى يكبر ، والعبد إذا حج به فقد قضى حجة الإسلام
حتى يعتق».
وتنقيح الكلام في هذا المقام يتوقف على رسم مسائل :
(الاولى) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
انه لو أدرك العبد الموقفين أو الثاني منهما معتقا أجزأه عن حجة الإسلام ، حكاه
العلامة في المنتهى.
وعليه تدل الاخبار ، ومنها ما رواه الصدوق في الصحيح عن
معاوية بن عمار (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : مملوك أعتق
يوم عرفة؟ قال : إذا أدرك أحد الموقفين فقد أدرك الحج».
وعن شهاب في الصحيح عن ابي عبد الله عليهالسلام (3) «في رجل أعتق
عشية عرفة عبدا له؟ قال : يجزئ عن العبد حجة الإسلام ، ويكتب لسيده أجران : ثواب
العتق وثواب الحج».
وروايته الأخرى عن ابي عبد الله عليهالسلام (4) «في رجل أعتق
عشية عرفة عبدا له أيجزئ عن العبد حجة الإسلام؟ قال : نعم».
__________________
(1) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج
وشرائطه.
(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 17 من وجوب
الحج وشرائطه.
وما رواه المحقق في المعتبر عن معاوية بن عمار عن ابي
عبد الله (عليهالسلام) (1) «في مملوك أعتق
يوم عرفة؟ قال : إذا أدرك أحد الموقفين فقد أدرك الحج وان فاته الموقفان فقد فاته
الحج ، ويتم حجه ويستأنف حجة الإسلام في ما بعد».
الثانية ـ لو اذن السيد لعبده في الحج لم يجب عليه ، لكن
لو تلبس به بعد الاذن وجب كغيره من افراد الحج المندوب.
وهل يجوز للسيد الرجوع في الاذن بعد التلبس؟ ظاهر
الأصحاب العدم وإنما يجوز له قبل التلبس اما بعده فحيث تعلق الوجوب بالعبد فليس له
ذلك.
بقي الكلام في انه لو رجع قبل التلبس ولكن لم يعلم العبد
إلا بعده ، فقيل بأنه يجب الاستمرار ، لدخوله دخولا مشروعا ، فكان رجوع المولى
كرجوع الموكل قبل التصرف ولم يعلم الوكيل ، وقال الشيخ انه يصح إحرامه وللسيد ان
يحلله.
قال في المدارك : وضعفه ظاهر ، لأن صحة الإحرام إنما هو
لبطلان رجوع المولى فكان كما لو لم يرجع ، والإحرام ليس من العبادات الجائزة وإنما
يجوز الخروج منه في مواضع مخصوصة ولم يثبت ان هذا منها.
أقول : والمسألة وان كانت خالية من النص على الخصوص إلا
ان ما ذكره السيد السند (قدسسره) في المدارك
هو الأوفق بالأصول الشرعية والقواعد المرعية.
(الثالثة) ـ اختلف الأصحاب في ما لو جنى العبد في إحرامه
بما يلزمه به الدم كاللباس والطيب وحلق الشعر وقتل الصيد ، فقال الشيخ (قدسسره) في
__________________
(1) الوسائل الباب 17 من وجوب الحج
وشرائطه.
المبسوط : يلزم العبد لانه فعل ذلك
بدون اذن مولاه ، ويسقط الدم الى الصوم لانه عاجز ففرضه الصيام ، ولسيده منعه منه
لأنه فعل موجبه بدون اذن مولاه. ونقل عن الشيخ المفيد : على السيد الفداء في
الصيد.
وقال المحقق في المعتبر بعد نقل كلام الشيخ المذكور :
وليس ما ذكره الشيخ بجيد ، لانه وان جنى بغير اذنه فان جنايته من توابع اذنه في
الحج فتلزمه جنايته. ثم استدل على ذلك بما رواه حريز عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «المملوك
كلما أصاب الصيد وهو محرم في إحرامه فهو على السيد إذا اذن له في الإحرام».
أقول : وهذه الرواية قد رواها الصدوق في الفقيه (2) في الصحيح
بسنده الى حريز عن ابي عبد الله عليهالسلام قال : «كل ما
أصاب العبد المحرم في إحرامه فهو على السيد إذا اذن له في الإحرام». ورواها الشيخ
في التهذيب (3) في الصحيح
ايضا عن حريز ، والكليني (4) في الحسن على
المشهور عنه ايضا عن ابي عبد الله عليهالسلام قال : «كل ما
أصاب العبد وهو محرم في إحرامه. الحديث». ورواه في الاستبصار (5) قال : «المملوك
كلما أصاب الصيد وهو محرم في إحرامه». وهو مطابق لما نقله في المعتبر. والظاهر ان
الشيخ المفيد إنما خص الصيد بالذكر اعتمادا على هذه الرواية.
وظاهر الشيخ في التهذيب القول بما ذكره في المعتبر حيث
انه ـ بعد ان
__________________
(1) الوسائل الباب 56 من كفارات الصيد
وتوابعها.
(2) ج 2 ص 264 ، وفي الوسائل الباب 56
من كفارات الصيد وتوابعها.
(3) ج 5 ص 382.
(4) الكافي ج 4 ص 304.
(5) ج 2 ص 216.
نقل صحيحة حريز المذكورة بالمتن
المتقدم ـ قال : ولا يعارض هذا الحديث ما رواه سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسن
عن محمد بن الحسين عن عبد الرحمن ابن ابي نجران (1) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن عبد أصاب
صيدا وهو محرم هل على مولاه شيء من الفداء؟ فقال : لا شيء على مولاه». لأن هذا
الخبر ليس فيه انه كان قد اذن له في الإحرام أو لم يأذن له ، وإذا لم يكن ذلك في
ظاهره حملناه على من أحرم من غير اذن مولاه ، فلا يلزمه حينئذ شيء على ما تضمنه
الخبر. وهذا القول منه رجوع عن ما تقدم عنه في المبسوط.
واعترضه المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى بأنه يرد عليه
ان اذن المولى شرط في صحة الإحرام فمع عدمه لا ينعقد ولا يترتب عليه الحكم. وقول
السائل : «وهو محرم» يدل ـ بمعونة تقريره عليه في الجواب ـ على كونه متحققا واقعا.
ثم أجاب بإمكان الحمل على ارادة الخصوص والعموم في الاذن ، فمتى اذن السيد لعبده
في الإحرام بخصوصه كان ما يصيبه فيه على السيد ، وإذا كان العبد مأذونا على العموم
بحيث يفعل ما يشاء من غير تعرض في الاذن لخصوص الإحرام لم يكن على السيد شيء. قال
: ولا بعد في هذا الحمل ، فان في الخبر الأول إشعارا به حيث علق الحكم فيه بالإذن
في الإحرام ولم يطلق الاذن ، وذلك قرينة إرادة الخصوص. انتهى.
واستوجه العلامة في المنتهى سقوط الدم ولزوم الصوم إلا
ان يأذن له السيد في الجناية فيلزمه الفداء.
وربما حملت الصحيحة الأولى على الاستحباب والثانية على
نفي الوجوب.
أقول : لا يخفى ما في هذه المحامل من البعد مع تدافعها ،
والمسألة
__________________
(1) الوسائل الباب 56 من كفارات الصيد
وتوابعها.
لا تخلو من شوب التردد والاشكال.
(الرابعة) ـ إذا أفسد العبد حجة المأذون فيه وجب عليه
إتمامه ثم القضاء والبدنة كما في الحر ، للأدلة الدالة بعمومها أو إطلاقها على ذلك
(1) وتناولها
العبد كالحر كما سيأتي ان شاء الله تعالى في مسألة إفساد الحج ، وحينئذ فتترتب
عليه أحكامه.
بقي انه هل يجب على السيد تمكينه من القضاء أم لا؟ قيل
بالأول ، لأن اذنه في الحج اذن في مقتضياته ، ومن جملتها القضاء لما أفسده. وقيل
بالثاني لأنه إنما اذن له في الحج لا في إفساده ، والإفساد ليس من لوازم الحج
ليلزم من الاذن في الحج الاذن فيه ، بل الأمر إنما هو على العكس ، لانه من منافياته
، لأن المأذون فيه أمر موجب للثواب والإفساد أمر موجب للعقاب.
قيل : وربما بنى الوجهان على ان القضاء هل هو الفرض
والفاسد عقوبة أم بالعكس؟ فعلى الثاني لا يجب التمكين لعدم تناول الاذن له ، وعلى
الأول يجب لأن الإذن بمقتضى الإفساد انصرفت الى القضاء وقد لزم بالشروع فلزمه
التمكين.
واستشكله في المدارك بأن الإذن لم يتناول الحج ثانيا وان
قلنا انه الفرض ، لأنها إنما تعلقت بالأول خاصة. ثم قال : والمسألة محل تردد وان
كان القول بعدم وجوب التمكين لا يخلو من قوة. انتهى.
أقول : وأنت خبير بأنه يمكن ان يستدل للقول الأول بظاهر
صحيحة حريز المتقدمة (2) في سابق هذه
المسألة ، وذلك انها قد دلت على ان كل
__________________
(1) الوسائل الباب 3 من كفارات
الاستمتاع.
(2) ص 76.
ما أصاب العبد المحرم في إحرامه فهو
على سيده إذا اذن له ، سواء جعل العبد فاعلا أو مفعولا ، ولا ريب ان القضاء من ما
اصابه ولزمه كما لزمه وجوب البدنة فان الواجب بالإفساد البدنة والقضاء ، فكما تجب
على السيد بمقتضى الخبر المذكور البدنة كذا يجب عليه القضاء ، غاية الأمر ان كيفية
الوجوب في الموضعين مختلفة ، فإن السيد لا يجب عليه الحج قضاء بل الواجب عليه
التمكين. إلا ان الرواية المذكورة ـ كما عرفت ـ معارضة بتلك الأخرى ، وقد عرفت ما
في المقام من الاشكال.
وكيف كان فالمسألة هنا ايضا لخلوها من الدليل الواضح محل
توقف.
ثم انه لو أعتقه المولى في الحج الفاسد ، فان كان قبل
الوقوف بالمشعر أتم حجه وقضى في القابل وأجزأه عن حجة الإسلام كما في الحر ، سواء
قلنا ان الإكمال عقوبة وان حجة الإسلام هي الثانية أم قلنا بالعكس ، وان كان بعد
فوات الموقفين كان عليه إتمام الحج والقضاء ، ولا يجزئه عن حجة الإسلام بل تجب
عليه مع الاستطاعة.
قالوا : ويجب تقديمها على حجة القضاء ، للنص والإجماع
على فوريتها ، فلو بدأ بالقضاء قال الشيخ : انعقد عن حجة الإسلام وكان القضاء في
ذمته ، وان قلنا لا يجزئ عن واحدة منهما كان قويا. هذا كلامه (قدسسره) وهو متجه
بناء على القول بان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، وإلا فالمتجه صحة
القضاء وان أثم بتأخير حجة الإسلام.
(الخامسة) ـ قالوا : لو أحرم العبد باذن مولاه ثم باعه
صح البيع إجماعا ، لأن الإحرام لا يمنع التسليم فلا يمنع صحة البيع. ثم ان كان
المشتري عالما بذلك فلا خيار وإلا ثبت الخيار على الفور إلا مع قصر الزمان بحيث لا
يفوته شيء من المنافع.
(السادسة) ـ قالوا : لا فرق في المملوك بين القن
والمكاتب المطلق الذي لم يؤد والمشروط وأم الولد والمبعض. نعم لو تهيأ المبعض مع
المولى ووسعت نوبته الحج وانتفى الخطر والضرر كان له الحج ندبا بغير اذن السيد ،
كما يجوز له غيره من الأعمال.
(الثالث) من الشروط المتقدمة ـ الاستطاعة إجماعا نصا
وفتوى ، وفسرها الأصحاب بالزاد والراحلة في من يفتقر الى قطع المسافة.
قال العلامة (قدسسره) في المنتهى :
اتفق علماؤنا على ان الزاد والراحلة شرطان في الوجوب ، فمن فقدهما أو أحدهما مع
بعد مسافته لم يجب عليه الحج وان تمكن من المشي ، وبه قال الحسن ومجاهد وسعيد بن
جبير والشافعي وأبو حنيفة (1).
قالوا : ويدل على اعتبارهما ـ مضافا الى عدم تحقق
الاستطاعة عرفا بدونهما غالبا ـ صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي (2) قال : «سأل
حفص الكناسي أبا عبد الله عليهالسلام وانا عنده عن
قول الله (عزوجل) (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) (3) ما يعني بذلك؟
قال : من كان صحيحا في بدنه مخلي سربه له زاد وراحلة فهو ممن يستطيع الحج ، أو قال
: ممن كان له مال. فقال له حفص الكناسي : فإذا كان صحيحا في بدنه مخلى سربه له زاد
وراحلة فلم يحج فهو ممن يستطيع الحج؟ قال : نعم».
__________________
(1) المغني لابن قدامة الحنبلي ج 3 ص
219 وبدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج 2 ص 122.
(2) الوسائل الباب 8 من وجوب الحج
وشرائطه.
(3) سورة آل عمران الآية 97.
ثم انه في المنتهى صرح بأنه إنما يشترطان في حق المحتاج
إليهما لبعد المسافة اما القريب فيكفيه اليسير من الأجرة بنسبة حاجته ، والمكي لا
يعتبر في حقه وجود الراحلة إذا لم يكن محتاجا إليها. ثم قال في فروع المسألة :
الثالث ـ لو فقدهما وتمكن من الحج ماشيا فقد بينا انه لا يجب عليه الحج ، فلو حج
ماشيا لم يجزئه عن حجة الإسلام عندنا ووجب عليه الإعادة مع استكمال الشرائط ، ذهب
إليه علماؤنا وبه قال الجمهور (1). انتهى.
وقال المحقق في المعتبر : الشرط الرابع والخامس ـ الزاد
والراحلة وهما شرط لمن يحتاج إليهما لبعد مسافته. الى ان قال : ومن ليس له راحلة
ولا زاد أو ليس له أحدهما لا يجب عليه الحج ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة واحمد ،
وقال مالك من قدر على المشي وجب عليه (2) لنا ـ ان النبي صلىاللهعليهوآله فسر السبيل
بالزاد والراحلة (3) ولانه صلىاللهعليهوآله سئل ما يوجب
الحج؟ فقال : الزاد والراحلة (4) فيقف الوجوب
عليه. ولو حج ماشيا لم يجزئه عن حجة الإسلام ، وقال الباقون يجزئه (5) لنا ـ ان
الوجوب لم يتحقق لأنه مشروط بالاستطاعة فمع عدمها يكون مؤديا ما لم يجب عليه فلا
يجزئه عن ما يجب عليه في ما بعد ، وينبه على ذلك روايات عن أهل البيت (عليهمالسلام) : منها ـ رواية
أبي بصير عن ابي عبد الله عليهالسلام (6) قال : «لو ان
رجلا معسرا أحجه رجل كانت له حجة ، فان أيسر بعد ذلك كان عليه الحج». انتهى.
__________________
(1) عبارة المنتهى ج 2 ص 652 هكذا : وقال الجمهور يجزئه.
انتهى. وفي المغني ج 3 ص 221. والمهذب ج 1 ص 197 كذلك.
(2) بداية المجتهد ج 1 ص 293.
(3) بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني ص
84.
(4) صحيح الترمذي باب ما جاء في إيجاب
الحج بالزاد والراحلة.
(5) ارجع إلى التعليقة (1).
(6) الوسائل الباب 21 من وجوب الحج
وشرائطه.
أقول : وعلى هذه المقالة اتفقت كلمتهم (رضوان الله عليهم)
كما سمعته من كلام العلامة ، ومقتضى ذلك ـ كما صرحوا به ـ انه لا يجزئ الحج ماشيا
مع الإمكان لو لم يملك الراحلة وعندي فيه اشكال ، حيث ان الآية قد دلت على ان شرط
الوجوب الاستطاعة ، والاستطاعة لغة وعرفا القدرة ، وتخصيصها بالزاد والراحلة يحتاج
الى دليل واضح.
والروايات في المسألة متصادمة تحتاج الى الجمع على وجه
يزول به الاختلاف بينها :
فمن ما يدل على ما ذكره الأصحاب من تفسير الاستطاعة
بالزاد والراحلة صحيحة الخثعمي المتقدمة.
وما رواه في الكافي بسنده عن السكوني عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «سأله
رجل من أهل القدر فقال : يا ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله أخبرني عن قول
الله (عزوجل) (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) (2) أليس قد جعل
الله لهم الاستطاعة؟ فقال : ويحك إنما يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة وليس
استطاعة البدن. الحديث».
وما رواه الصدوق في كتاب عيون الأخبار بإسناده عن الفضل
بن شاذان عن الرضا عليهالسلام في كتابه إلى
المأمون (3) قال : «وحج
البيت فريضة على من استطاع اليه سبيلا ، والسبيل الزاد والراحلة مع الصحة».
وما رواه في كتاب التوحيد في الصحيح أو الحسن على
المشهور عن هشام ابن الحكم عن ابي عبد الله عليهالسلام (4) في قول الله (عزوجل): (وَلِلّهِ عَلَى
__________________
(1 و 3 و 4) الوسائل الباب 8 من وجوب
الحج وشرائطه.
(2) سورة آل عمران الآية 97.
النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) (1) : ما يعني
بذلك؟ قال : من كان صحيحا في بدنه مخلى سربه له زاد وراحلة.
وما رواه في كتاب الخصال بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن
محمد (عليهماالسلام) في حديث
شرائع الدين (2) قال : «وحج
البيت واجب على (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وهو الزاد
والراحلة مع صحة البدن. الحديث». وسيأتي بتمامه ان شاء الله تعالى
ومن ما يدل على ما دل عليه ظاهر الآية جملة من الأخبار
ايضا :
منها ـ صحيحة معاوية بن عمار (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل عليه
دين أعليه ان يحج؟ قال : نعم ان حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين
، ولقد كان أكثر من حج مع النبي صلىاللهعليهوآله مشاة ، ولقد
مر رسول الله صلىاللهعليهوآله بكراع الغميم (4) فشكوا اليه
الجهد والعناء فقال : شدوا أزركم واستبطنوا. ففعلوا ذلك فذهب عنهم».
ورواية أبي بصير (5) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : قول الله (عزوجل)
(وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) (6)؟ قال : يخرج
ويمشي ان لم يكن عنده. قلت : لا يقدر على المشي؟ قال : يمشي ويركب. قلت : لا يقدر
على ذلك ـ أعني المشي؟ ـ قال : يخدم القوم ويخرج معهم».
وحملها الشيخ على الاستحباب المؤكد ، وقد عرفت في غير
موضع من ما تقدم ما في الجمع بين الاخبار بالحمل على الاستحباب وان اشتهر ذلك بين
الأصحاب.
__________________
(1 و 6) سورة آل عمران الآية 97.
(2) الوسائل الباب 9 من وجوب الحج
وشرائطه.
(3 و 5) الوسائل الباب 11 من وجوب
الحج وشرائطه.
(4) موضع بين مكة والمدينة.
ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم (1) قال : «قلت
لأبي جعفر عليهالسلام : قوله تعالى (وَلِلّهِ
عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (2)؟ قال : يكون
له ما يحج به. قلت : فان عرض عليه الحج فاستحى؟ قال : هو ممن يستطيع الحج ، ولم
يستحي؟ ولو على حمار أجدع أبتر ، قال : فان كان يستطيع ان يمشي بعضا ويركب بعضا
فليفعل».
وصحيحة الحلبي أو حسنته على المشهور عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) في قول الله (عزوجل)
(وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) (4) ما السبيل؟ قال
: ان يكون له ما يحج به. قال : قلت : من عرض عليه ما يحج به فاستحى من ذلك أهو ممن
يستطيع اليه سبيلا؟ قال : نعم ما شأنه أن يستحي ولو يحج على حمار أجدع أبتر ، فإن
كان يطيق ان يمشي بعضا ويركب بعضا فليحج».
والتقريب في هاتين الصحيحتين انه عليهالسلام فسر الاستطاعة
بأن يكون له ما يحج به وهو أعم من الزاد والراحلة ، ومرجعه الى ما يحصل به القدرة
والتمكن من الحج ، ويؤيده قوله عليهالسلام في آخر
الروايتين المذكورتين : «وان كان يستطيع ان يمشي بعضا ويركب بعضا فليحج». ومن
الظاهر البين ان هذا لا يلائم التخصيص بالزاد والراحلة.
ومقتضى هذه الاخبار انه لو أمكنه المشي فحج ماشيا أو
الركوب بعضا والمشي بعضا ادى به حج الإسلام ، مع تصريحهم بعدم الاجزاء لعدم حصول
شرط الاستطاعة الذي هو الزاد والراحلة.
ولم أقف لهم على جواب شاف عن هذه الاخبار. هذا. ومن
المحتمل
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 8 و 10 من وجوب
الحج وشرائطه.
(2 و 4) سورة آل عمران الآية 97.
قريبا خروج الأخبار المتقدمة مخرج
التقية فإن ذلك مذهب الجمهور (1) كما قدمنا
نقله عن المعتبر والمنتهى. ومن ذلك يظهر ان هذه الاخبار ترجح بمطابقة ظاهر الآية
ومخالفة الجمهور ، وهذان الطريقان من أظهر طرق الترجيح المنصوصة في مقام اختلاف
الاخبار. ولا اعرف لذلك معارضا سوى ما يدعونه من الإجماع على ما ذكروه.
وبالجملة فالمسألة غير خالية من شوب الإشكال ، فإن
الخروج عن ما ظاهرهم الإجماع عليه مشكل وموافقتهم مع ما عرفت أشكل.
واما ما استند اليه المحقق (رضياللهعنه) من رواية أبي
بصير فسيجيء ـ ان شاء الله تعالى ـ تحقيق القول فيها.
وفي هذا المقام مسائل :
الأولى ـ قال العلامة (قدسسره) في المنتهى :
الخامس ـ لو كان وحيدا اعتبر نفقة لذهابه وعودته ، وللشافعي في اعتبار نفقة العود
هنا وجهان : اعتبارها للمشقة الحاصلة بالمقام في غير وطنه وهو الذي اخترناه ،
والثاني عدمه لتساوي البلاد بالنسبة اليه (2). والأول أصح. انتهى.
وظاهره اعتبار نفقة الإياب وان كان وحيدا ليس له أهل ولا
عشيرة يأوي إليها. وعلى هذا النحو إطلاق كلام جملة من الأصحاب. وعلله بعضهم بما
علله به الشافعي هنا في أحد قوليه من المشقة الحاصلة بالمقام في غير وطنه.
__________________
(1) تقدم في التعليقة (1 (ص) 81) ان
مذهب الجمهور هو الاجزاء.
(2) المهذب للشيرازي الشافعي ج 1 ص
197.
وظاهر السيد السند في المدارك ـ ومثله الفاضل الخراساني
في الذخيرة ـ المناقشة في ذلك بان الحجة المذكورة مقصورة على صورة المشقة ، فعند
عدمها ـ كما إذا كان وحيدا غير متعلق ببعض البلاد دون بعض أو كان له وطن لا يريد
العود اليه ـ ولم يبعد عدم اعتبار العود في حقه ، نظرا الى عموم الآية والأخبار ،
فلا تعتبر نفقة العود في حقه حينئذ.
أقول : والمسألة لا تخلو من توقف ، فإنه وان كان الظاهر
من إطلاق الآية والاخبار هو حصول ما يوجب الوصول من الزاد والراحلة ، إلا ان
الإطلاق إنما يحمل على الافراد الغالبة المتكثرة ، ولا ريب ان الغالب على الناس في
جميع الأدوار والأمصار أنهم متى سافروا لغرض من الأغراض رجعوا بعد قضائه إلى
أوطانهم أو غيرها لأغراض تتجدد ، سواء كان لهم أهل وعشيرة أم لا أو مسكن أم لا ،
وحينئذ فمجرد كونه وحيدا لا عشيرة له ولا أهل لا يوجب خروجه من هذا الحكم ، بان
يجب عليه الحج بمجرد حصول نفقة الذهاب خاصة وكذا راحلة الذهاب خاصة ، ويكلف
الإقامة بمكة ان لم يكن عليه مشقة. نعم لو كان في نيته وقصده من خروجه هو التوطن
في تلك البلاد فما ذكروه من عدم اعتبار نفقة الإياب متجه وإلا فلا جريا على ما هو
الغالب الشائع المتكرر. وقد صرح غير واحد منهم بأن الأحكام المودعة في الاخبار
إنما تحمل على ما هو المتكرر الشائع الغالب الوقوع. على ان ما ذكروه لو تم لم يختص
بالوحيد الذي لا أهل له ولا عشيرة ولا مسكن بل يشمل ذلك من له عشيرة ومسكن ، فان
مجرد وجود هذه الأشياء لا يكون موجبا لتخصيص إطلاق الأدلة المشار إليها. نعم لو
كان له عيال يجب الإنفاق عليهم أو أبوان أو أحدهما لا يرضون بانقطاعه عنهما فإنه
من حيث قيام الأدلة على وجوب هذه الأشياء يجب ان يخص بها إطلاق الأدلة المذكورة
واما غيرها فلا دليل عليه ، مع انهم لا يقولون بذلك في غير الوحيد من صاحب المسكن
ومن له عشيرة وأهل.
وبالجملة فإن الظاهر هو القول المشهور وان هذه المناقشة
لا مجال لها في هذا المقام.
الثانية ـ الظاهر انه يكفي في الاستطاعة حصولها حيثما
اتفق ، فلو كان المكلف في غير بلده وحصلت له الاستطاعة على وجه يسافر للحج ويرجع
الى بلده وجب عليه ، ولا يشترط حصولها من البلد.
وحينئذ فما ذكره شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) ـ من ان من
اقام في غير بلده إنما يجب عليه الحج إذا كان مستطيعا من بلده ، إلا ان تكون
إقامته في الثانية على وجه الدوام أو مع انتقال الفرض كالمجاور بمكة بعد السنتين ـ
من ما لم نقف له على دليل.
بل ظاهر ما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار ـ (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يمر
مجتازا يريد اليمن أو غيرها من البلدان وطريقه بمكة فيدرك الناس وهم يخرجون الى
الحج فيخرج معهم الى المشاهد أيجزئه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال : نعم». ـ ينافي ما
ذكره.
ويؤيده عموم النصوص وصدق الاستطاعة بذلك.
الثالثة ـ المشهور في كلام الأصحاب انه لو لم يكن له زاد
ولا راحلة لكنه واجد للثمن فإنه يجب عليه شراؤهما وان زاد عن ثمن المثل ، وقيل انه
متى زادت قيمة الزاد والراحلة عن ثمن المثل لم يجب الحج ، ونقله في المدارك ـ وكذا
الفاضل الخراساني ـ عن الشيخ في المبسوط.
أقول : لا ريب ان الشيخ في المبسوط وان صرح بذلك لكنه
إنما صرح به
__________________
(1) الوسائل الباب 22 من وجوب الحج
وشرائطه.
بالنسبة إلى الزاد خاصة دون الراحلة
ولكن حيث كان ذلك لازما له في الراحلة أيضا ألزموه به فنقلوا خلافه فيهما.
قال في المبسوط : واما الزاد فهو عبارة عن المأكول
والمشروب ، فالمأكول هو الزاد فان لم يجده بحال أو وجده بثمن يضر به وهو ان يكون
في الرخص بأكثر من ثمن مثله وفي الغلاء مثل ذلك لم يجب عليه ، وهكذا حكم المشروب.
واما المكان الذي يعتبر وجوده فيه فإنه يختلف ، اما الزاد ان وجده في أقرب البلدان
الى البر فهو واجد ، وكذلك ان لم يجده إلا في بلده فيجب عليه حمله معه ما يكفيه
لطول طريقه إذا كان معه ما يحمل عليه. واما الماء فان كان يجده في كل منزل أو في
كل منزلين فهو واجد ، وان لم يجده إلا في أقرب البلدان الى البر أو في بلده فهو
غير واجد. والمعتبر في جميع ذلك العادة فما جرت العادة بحمل مثله وجب حمله وما لم
تجر سقط وجوب حمله. واما علف البهائم ومشروبها فهو كما للرجل سواء ان وجده في كل
منزل أو منزلين لزمه وان لم يجد إلا في أقرب البلاد الى البر أو في بلده سقط الفرض
لاعتبار العادة. وهذا كله إذا كانت المسافة بعيدة. الى آخر كلامه زيد في مقامه.
والمفهوم من هذا الكلام ظاهرا ان حكمه بسقوط الحج مع
زيادة قيمة الزاد إنما هو من حيث التضرر بالزيادة. وربما يفهم ايضا من سياق الكلام
الى آخره التعليل بالرجوع إلى العادة ، وان إطلاق الشراء إنما ينصرف إلى القيمة
المعتادة.
والأول منهما هو الذي فهمه العلامة في المختلف ، حيث قال
بعد نقل صدر العبارة : وهذا التفسير يشعر بأنه إذا زاد الثمن عن ثمن المثل في
المأكول والمشروب لا يجب شراؤهما ، والوجه وجوب ذلك مع القدرة ، لنا ـ انه مستطيع
فوجب عليه الحج. احتج بأنه قد زاد الثمن عن ثمن المثل فلا يجب لاشتماله على الضرر.
والجواب المنع من الضرر مع القدرة. انتهى.
والثاني منهما ذكره شيخنا الشهيد في نكت الإرشاد فقال ـ بعد
نقل القول بذلك عنه في الزاد وان ذلك لازم له في الراحلة ـ ما لفظه : لانه احتج
بأن إطلاق الشراء ينصرف الى المعتاد كالتوكيل في الشراء حتى قال : لا يجب حمل
الماء من بلده ولا من أقرب مكان الى البر بل ان كان في كل منزل أو منزلين وجب الحج
وإلا فلا ، وكذا علف الدواب ، حوالة على العرف ، ولان الحج يسقط لو خاف على المال
التلف فلا يناسبه إضاعته هنا. ورد بما مر في شراء الماء من وجوب الثواب هنا على
الله تعالى الذي هو أعظم من العوض الواجب على الآدمي. ثم قال : ويمكن انه ان كثر
الثمن كثرة فاحشة بحيث يستوعب المال العظيم قرب قول الشيخ للإضرار المنفي (1) وإلا فهو بعيد
لصدق الاستطاعة التي هي مناط الوجوب. انتهى.
والأصح ما عليه جمهور الأصحاب من وجوب الشراء وان زاد عن
ثمن المثل ، إلا ان يبلغ الى الحال التي أشار إليها شيخنا المتقدم ذكره في آخر
كلامه فإشكال. وبمثل ذلك صرح العلامة في التذكرة فقال ـ على ما نقله عنه في
الذخيرة ـ : وان كانت القيمة تجحف بماله لم يلزمه شراؤه وان تمكن ، على اشكال.
وسيجيء ان شاء الله تعالى ما فيه مزيد بيان لهذا المقام.
وأنت خبير بان ما نقلناه عن المبسوط بالنسبة الى عدم
وجوب حمل الماء وعلف الدواب هو عين ما نقلوه عن العلامة (قدسسره) في التذكرة
والمنتهى ، كما قدمنا ذكره في المسألة الاولى ، مع انهم لم ينقلوا الخلاف ثمة إلا
عن العلامة ، وكلام المبسوط ـ كما ترى ـ أصرح من كلام العلامة في ذلك.
__________________
(1) وهو قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار». وقد أورده في
الوسائل في الباب 5 من الشفعة ، والباب 12 من احياء الموات.
الرابعة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو
كان له مال وعليه دين فإنه لا يجب عليه الحج ، إلا ان يزيد على دينه ما يحصل به
الاستطاعة. وإطلاق كلامهم يقتضي عدم الفرق بين ان يكون الدين حالا أو مؤجلا.
وبهذا التعميم صرح في المنتهى فقال : لو كان له مال
وعليه دين بقدره لم يجب عليه الحج سواء كان الدين حالا أو مؤجلا ، لأنه غير مستطيع
مع الحلول والضرر متوجه عليه مع التأجيل ، فسقط فرض الحج. انتهى.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : ولمانع ان يمنع توجبه
الضرر في بعض الموارد ، كما إذا كان مؤجلا أو حالا غير مطالب به وكان للمديون وجه
للوفاء بعد الحج ، ومتى انتفى الضرر وحصل التمكن من الحج تحققت الاستطاعة المقتضية
للوجوب.
أقول : يمكن ان يقال عليه ان مراد العلامة (رضوان الله
عليه) ان في صورة الحلول فالواجب أداء الدين ، وعدم المطالبة به في ذلك الوقت لا
يوجب حصول الاستطاعة به والفرض انه لا مال له سواه ، لجواز رجوعه عليه بعد ذلك
ومطالبته وقد فات من يده ، والمتبادر من مال الاستطاعة ما يكون لصاحبه التصرف فيه
بلا معارض في ذلك. واما في صورة التأجيل فمع فرض انه لا مال له لا معنى لقوله في
الإيراد : «وكان للمديون وجه للوفاء بعد الحج» فإنه خلاف المفروض في كلام العلامة.
وبالجملة فإنه لا اعتماد على هذه التعليلات إبراما أو
نقضا بل الواجب الرجوع الى النصوص.
والذي وقفت عليه من الاخبار في المسألة ما رواه الشيخ في
الصحيح عن معاوية بن عمار (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل عليه
دين أعليه
__________________
(1) الوسائل الباب 11 من وجوب الحج
وشرائطه.
أن يحج؟ قال : نعم ان حجة الإسلام
واجبة على من أطاق المشي من المسلمين».
وما رواه عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري (1) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام : الحج واجب
على الرجل وان كان عليه دين».
وظاهر الخبرين المذكورين وجوب الحج عليه وان كان عليه
دين مستوعب للاستطاعة ، وهو على إطلاقه لا يخلو من الإشكال ، فإنه متى كان حالا
مطالبا به لا يجوز صرفه في الحج إجماعا.
والذي يقرب من الرواية الأولى بقرينة التعليل ان المراد
ان حج الإسلام ـ بناء على ما قدمناه في معنى الاستطاعة ـ يجب ولو بالمشي لمن أطاقه
، فمجرد وجود الدين لا يكون مانعا منه في جميع الحالات وان منع في بعض الأوقات.
وبالجملة فإنه يجب تقييد الخبرين المذكورين بما إذا لم
تحصل المطالبة بالدين اما بان يكون حالا ولكن صاحبه يسمح بتأخيره أو يكون مؤجلا.
وفي المقام أيضا أخبار أخر عديدة إلا انها غير ظاهرة في
حج الإسلام ، والظاهر ـ كما استظهره جملة من الأصحاب ـ حملها على الحج المندوب إلا
انها ايضا لا تخلو من معارض :
ومنها ـ ما رواه الشيخ عن موسى بن بكر الواسطي (2) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن الرجل
يستقرض ويحج؟ فقال : ان كان خلف ظهره ما ان حدث به حدث ادى عنه فلا بأس». ورواه
الكليني أيضا عن موسى بن بكر
__________________
(1) الوسائل الباب 50 من وجوب الحج
وشرائطه.
(2) التهذيب ج 5 ص 442 ، وفي الوسائل
الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه.
قريبا منه (1) وكذا الصدوق (2).
وما رواه المشايخ الثلاثة عن عبد الملك بن عتبة (3) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن الرجل عليه
دين يستقرض ويحج؟ قال : ان كان له وجه في مال فلا بأس».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب عن غير واحد (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : اني رجل ذو
دين أفأتدين وأحج؟ فقال : نعم هو اقضى للدين».
وعن محمد بن ابي عمير في الصحيح عن عقبة (5) قال : «جاءني
سدير الصيرفي فقال : ان أبا عبد الله عليهالسلام يقرأ عليك
السلام ويقول لك : ما لك لا تحج؟ استقرض وحج».
وما رواه الكليني في الحسن عن معاوية بن وهب عن غير واحد
(6) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : يكون على
الدين فتقع في يدي الدراهم فان وزعتها بينهم لم يبق شيء ، أفأحج بها أو أوزعها
بين الغرام؟ فقال : تحج بها ، وادع الله (عزوجل) ان يقضي عنك دينك».
وعن يعقوب بن شعيب (7) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل يحج
بدين وقد حج حجة الإسلام؟ قال : نعم ان الله سيقضي عنه ان شاء الله». ورواه الصدوق
عن يعقوب في الحسن (8).
__________________
(1) الوسائل الباب 50 من وجوب الحج
وشرائطه رقم 7 و 9.
(2) الفقيه ج 2 ص 267 ، وفي الوسائل
الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه.
(3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 8) الوسائل
الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه.
وما رواه الصدوق في الصحيح عن الحسن بن زياد العطار (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : يكون علي
الدين فتقع في يدي الدراهم فان وزعتها بينهم لم يبق شيء ، أفأحج بها أو أوزعها
بين الغرماء؟ قال : حج بها وادع الله ان يقضي عنك دينك».
وروى عن الصادق عليهالسلام مرسلا (2) انه «سأله رجل
فقال : اني رجل ذو دين فأتدين وأحج؟ قال : نعم هو اقضى للدين».
والشيخ (قدسسره) بعد ان ذكر
بعض هذه الأخبار حملها على ما إذا كان له وجه يقضي به دينه مستندا الى الخبرين
الأولين. والظاهر بعده ، ولعل الأقرب في الجمع هو الحمل على تفاوت درجات الناس في
قوة التوكل وعدمها.
الخامسة ـ ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على
انه يستثني من مال الاستطاعة دار سكناه وخادمه وثياب بدنه.
قال في المنتهى : وعليه اتفاق العلماء ، لان ذلك مما تمس
الحاجة اليه وتدعو إليه الضرورة فلا يكلف بيعه. ونحوه في المعتبر والتذكرة.
وقال في المسالك : لا خلاف في استثناء هذه الأربعة كما
ذكره العلامة في التذكرة وان كانت النصوص غير مصرحة بها. وزاد في التذكرة استثناء
فرس الركوب.
وظاهر عبارة الشرائع تخصيص الثياب المستثناة بثياب
الخدمة دون ثياب
__________________
(1) الفقيه ج 2 ص 268 ، وفي الوسائل
الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه رقم 10.
(2) الفقيه ج 2 ص 267 ، وفي الوسائل
الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه رقم (1).
التجمل ، وفي كلام الأكثر مطلق
الثياب.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك استثناء حلي
المرأة المعتاد لها بحسب حالها وزمانها ومكانها وان ذلك في حكم الثياب.
وجزم شيخنا المشار إليه بان من لم يكن له هذه المستثنيات
يستثني له أثمانها.
وألحق بعض الأصحاب كتب العلم مع عدم الغنى عنها ، ولو
كان للكتاب نسختان بيع الزائد.
ونقل ايضا استثناء أثاث البيت من بساط وفراش وآنية ونحو
ذلك.
أقول : ان مقتضى الآية والأخبار الكثيرة هو وجوب الحج
على كل من استطاع ، بمعنى : قدر على الإتيان به ، واستثناء هذه الأشياء أو بعضها
يحتاج الى دليل متى حصلت الاستطاعة بها. نعم قام الدليل العام على نفي الحرج في
الدين (1) وعدم تحمل
الضرر (2) وسهولة
الحنيفية (3) والتوسعة في
التكليف (4) فيجب بمقتضى
ذلك الاقتصار من هذه الأشياء على ما يلزم من التكليف بصرفها وفقدها ذلك عينا أو
قيمة.
__________________
(1) ارجع الى الحدائق ج 1 ص 151.
(2) الوسائل الباب 50 من الشفعة
والباب 12 من احياء الموات ، والحدائق ج 1 ص 153.
(3) الوسائل الباب 48 من مقدمات
النكاح وآدابه ، والجامع الصغير للسيوطي ج 1 ص 125 باب الباء ، والمقاصد الحسنة
للسخاوي ص 109 حرف الهمزة رقم 214 وتاريخ بغداد للخطيب ج 7 ص 209.
(4) ارجع الى الحدائق ج 1 ص 43 ،
والشهاب في الحكم والآداب حرف الالف : «الناس في سعة ما لم يعلموا».
وقال السيد السند في المدارك بعد الكلام في المسألة ـ ونعم
ما قال ـ : وبالجملة فمقتضى الآية الشريفة والأخبار المستفيضة وجوب الحج على كل من
تمكن من تحصيل الزاد والراحلة ، بل قد عرفت ان مقتضى كثير من الاخبار الوجوب على
من أطاق المشي ، فيجب الاقتصار في تخصيصها أو تقييدها على قدر الضرورة.
السادسة ـ قال السيد السند (قدسسره) في المدارك :
المعتبر في القوت والمشروب تمكنه من تحصيلهما اما بالشراء في المنازل أو بالقدرة
على حملهما من بلده أو غيره. وقال العلامة في التذكرة والمنتهى : ان الزاد إذا لم
يجده في كل منزل وجب حمله ، بخلاف الماء وعلف البهائم فإنهما إذا فقدا من الموضع
المعتاد لهما لم يجب حملهما من بلده ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام ،
ويسقط إذا توقف على ذلك. وهو مشكل. والمتجه عدم الفرق في وجوب حمل الجميع مع
الإمكان وسقوطه مع المشقة الشديدة. انتهى.
أقول : الظاهر من كلام العلامة في الكتابين المذكورين هو
الفرق بين الزاد وبين الماء ، ومثله علف الدواب ، فيجب حمل الأول دون الأخيرين
باعتبار عدم المشقة في الأول ووجود المشقة في الأخيرين ، فهو راجع في الحقيقة الى
ما استوجهه (قدسسره) بقوله : «والمتجه.
الى آخره».
وها أنا أسوق كلامه (قدسسره) في الكتابين
: اما في التذكرة فإنه قال : وان كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله ، وان لم
يجده كذلك لزمه حمله. واما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنازل التي
ينزلها على حسب العادة فلا كلام ، وان لم يوجد لم يلزمه حمله من بلده ولا من أقرب
البلدان إلى مكة كأطراف الشام ونحوها ، لما فيه من عظم المشقة وعدم جريان
العادة به ، ولا يتمكن من حمل الماء
لدوابه في جميع الطريق ، والطعام بخلاف ذلك. انتهى.
وهو ـ كما ترى ـ صريح في ان عدم وجوب حمل الماء له
ولدوابه وكذا العلف إنما هو من حيث لزوم المشقة العظيمة. وهو كذلك ، فإنه متى كان
الطريق ـ مثلا ـ عشرين يوما أو شهرا أو نحو ذلك والحال انه ليس فيها ماء فحمل
الماء له ولدوابه في تلك المدة في غاية الإشكال كما هو ظاهر ، ومثله علف الدواب. واما
في المنتهى فإنه ذكر هذه المسألة في موضعين : أحدهما صريح في ما ذكره هنا ،
وثانيهما ظاهر في ذلك ، قال في الكتاب المذكور : الرابع ـ الزاد الذي تشترط القدرة
عليه هو ما يحتاج اليه من مأكول ومشروب وكسوة ، فإن كان يجد الزاد في كل منزل لم
يلزمه حمله ، وان لم يجده كذلك لزمه حمله. واما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد
في المنازل التي ينزلها على حسب العادة لم يجب حملهما ، وإلا وجب مع المكنة ومع
عدمها يسقط الفرض. انتهى وهو ـ كما ترى ـ موافق لما استوجهه.
وقال في موضع آخر : قد بينا ان الزاد من شرط وجوب الحج ،
فإذا كانت سنة جدب لا يقدر فيها على الزاد في البلدان التي جرت العادة بحمل الزاد
منها كبغداد والبصرة لم يجب الحج ، وان كان يقدر عليه في البلدان التي جرت العادة
بحمل الزاد منها لم يعتبر وجوده في المراحل التي بين ذلك ، لان الزاد من ما جرت
العادة بحمله وهو ممكن وتقل الحاجة اليه. واما الماء فان كان موجودا في المواضع التي
جرت العادة بكونه فيها ـ كعبد (1) وعلبية (2) وغيرهما ـ وجب
__________________
(1) في القاموس : العبد : عين ببلاد
طي.
(2) في مراصد الاطلاع ج 2 ص 956 :
علبية بكسر اوله وسكون ثانيه على وزن فعلية : مويهة بالدآث. وكذا في القاموس :
والدآث ـ كما في مراصد الاطلاع ج 2 ص 503 ـ موضع بتهامة. هذا. وما ورد في الطبعة
الاولى من الحدائق ـ وكذا في المنتهى ـ الظاهر انه تحريف من النساخ.
الحج مع باقي الشرائط ، وان كان لا
يوجد في مواضعه لم يجب الحج وان وجد في البلدان التي يوجد فيها الزاد ، والفرق
بينهما قلة الحاجة في الزاد وكثرتها في الماء ، وحصول المشقة بحمل الماء دون
الزاد. انتهى.
وهو ظاهر ـ كما ترى ـ في ان عدم وجوب حمل الماء وسقوط
الحج بذلك إنما هو من حيث المشقة في حمله بخلاف الزاد. وهو متجه فان الزاد يكفيه
منه قليل لا يحتاج الى مزيد مؤنة في حمله ، بخلاف الماء له ولدوابه فإنه يحتاج
اليه كثيرا لشربه وطهارته وازالة نجاساته وسقي دوابه ونحو ذلك ، فالمشقة في حمله
من مثل بغداد والبصرة إلى مكة ظاهر لا خفاء فيه.
نعم ظاهر كلام الشيخ في المبسوط الذي قدمنا نقله في
المسألة الثالثة ـ حيث ناط وجوب الحمل وعدمه بالعادة دون المشقة ـ المنافاة لما
ذكروه ، ولهذا ان شيخنا الشهيد في الدروس إنما أسند الخلاف في المسألة إلى الشيخ
دون العلامة ، قال : ويجب حمل الزاد والعلف ولو كان طويل الطريق ، ولم يوجب الشيخ
حمل الماء زيادة عن مناهله المعتادة.
بقي الكلام في صدر عبارة العلامة الأخيرة فإنه لا يخلو
من مناقشة ، فإن ظاهرها انه إذا لم يقدر على تحصيل الزاد من البلد من حيث الجدب
سقط الحج. وظاهره ان ذلك أعم من ان يمكن وجوده في الطريق أم لا ، بل يجب تقييده
بعدم وجوده في الطريق وإلا لوجب شراؤه.
السابعة ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم)
بأنه يشترط في الراحلة أن تكون مناسبة لحاله في القوة والضعف ، فمن كان يمكنه
الركوب
على القتب لا يعتبر في حقه أزيد من ذلك ، ومن شق عليه ذلك
بحيث يحتاج الى محمل توقف حصول الاستطاعة عليه ، وهكذا لو شق عليه المحمل واحتاج
الى الكنيسة.
قال العلامة في التذكرة : ويعتبر راحلة مثله ، فان كان
يستمسك على الراحلة من غير محمل ولا يلحقه ضرر ولا مشقة شديدة فلا يعتبر في حقه
إلا وجدان الراحلة لحصول الاستطاعة معها ، وان كان لا يستمسك على الراحلة بدون
المحمل أو يجد مشقة عظيمة اعتبر مع وجود الراحلة وجود المحمل ، ولو كان يجد مشقة
عظيمة في ركوب المحمل اعتبر في حقه الكنيسة. ولا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك.
انتهى. وعلى هذا النحو كلامهم وان تفاوت إجمالا وتفصيلا.
والسيد السند في المدارك وتبعه الفاضل الخراساني في
الذخيرة قد نسبا إلى العلامة في التذكرة الخلاف في هذه المسألة ، فنقلا عنه ان
المراد بكون الراحلة مناسبة لحاله ان المراد المناسبة باعتبار الشرف والعزة ،
فيعتبر في استطاعته المحمل أو الكنيسة عند علو منصبه. ثم رداه بالأخبار الدالة على
الحج على حمار أجدع أبتر (1) واعتضدا بما
ذكره الشهيد في الدروس حيث قال : والمعتبر في الراحلة ما يناسبه ولو محملا إذا عجز
عن القتب ، ولا يكفي علو منصبه في اعتبار المحمل والكنيسة ، فإن النبي صلىاللهعليهوآله والأئمة (عليهمالسلام) حجوا على
الزوامل.
والعجب منهما في هذه الغفلة وعبارة التذكرة ـ كما
تلوناها عليك ـ صريحة في كون المراد بمناسبة حاله إنما هو في القوة والضعف لا في
الشرف والضعة ، فينبغي التأمل في ذلك وعدم الاعتماد على مثل هذه النقول ولو من مثل
هؤلاء الفحول ، فان المعصوم من عصمه الله ، والجواد قد يكبو ، والسيف قد ينبو.
__________________
(1) الوسائل الباب 10 من وجوب الحج
وشرائطه.
ثم انه لا يخفى ان في حكم الزاد والراحلة ما يحتاج اليه
من الخدم واحدا أو أكثر ، وما يحتاج اليه من الفراش وأوعية الماء من القرب وغيرها
، ونحو ذلك.
الثامنة ـ ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) الإجماع على
انه لو بذل له باذل الزاد والراحلة ونفقة له ولعياله وجب عليه الحج وكان بذلك
مستطيعا.
وتدل عليه جملة من الاخبار المتقدمة في صدر البحث مثل
صحيحة محمد بن مسلم وحسنة الحلبي أو صحيحته (1).
وموثقة أبي بصير أو صحيحته (2) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : من عرض
عليه الحج ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب فأبى فهو مستطيع للحج».
وصحيحة معاوية بن عمار (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام رجل لم يكن له
مال فحج به رجل من إخوانه هل يجزئ ذلك عنه من حجة الإسلام أم هي ناقصة؟ قال : بل
هي حجة تامة».
وبهذا الاسناد عن ابي عبد الله عليهالسلام (4) في حديث قال :
«وان كان دعاه قوم ان يحجوه فاستحى فلم يفعل فإنه لا يسعه إلا الخروج ولو على حمار
أجدع أبتر».
وروى شيخنا المفيد في المقنعة مرسلا (5) قال : «قال عليهالسلام : من عرضت
عليه نفقة الحج فاستحى فهو ممن ترك الحج مستطيعا اليه السبيل».
وروى البرقي في المحاسن في الصحيح عن ابي بصير (6) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل كان له
مال فذهب ثم عرض عليه الحج فاستحى؟ فقال :
من عرض عليه الحج فاستحى ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب
فهو ممن يستطيع الحج».
__________________
(1) ص 84.
(2 و 3 و 4 و 5 و 6) الوسائل الباب 10
من وجوب الحج وشرائطه.
وإطلاق هذه الروايات يقتضي عدم الفرق بين ان يكون البذل
على وجه التمليك أم لا ، ولا بين ان يكون واجبا بنذر أو شبهه أم لا ، ولا بين ان
يكون الباذل موثوقا به أم لا ، ولا بين بذل عين الزاد والراحلة أو أثمانهما.
ونقل عن ابن إدريس انه اعتبر في وجوب الحج بالبذل تمليك
المبذول ، ونقله في الدروس عن العلامة أيضا. وفرق العلامة في التذكرة ـ ومثله
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ـ بين العين والثمن فحكما بالاستطاعة ببذل الأول
دون الثاني. واشترط في الدروس التمليك أو الوثوق به ، ونقل عن جمع من الأصحاب
اشتراط التمليك أو الوجوب بنذر أو شبهه.
وقال العلامة في التذكرة : هل يجب على الباذل بالبذل
الشيء المبذول أم لا؟ فان قلنا بالوجوب أمكن وجوب الحج على المبذول له ، لكن في
إيجاب المبذول بالبذل اشكال أقربه عدم الوجوب ، وان قلنا بعدم وجوبه ففي إيجاب
الحج اشكال أقربه العدم ، لما فيه من تعليق الواجب بغير الواجب. انتهى.
أقول : لا يخفى ان هذا الكلام مخالف لما صرح (قدسسره) به في صدر
المسألة حيث قال : مسألة : لو لم يكن له زاد وراحلة أو كان ولا مؤنة لسفره أو
لعياله وبذل له باذل الزاد والراحلة ومؤنته ذاهبا وعائدا ومؤنة عياله مدة غيبته
وجب عليه الحج عند علمائنا سواء كان الباذل قريبا أو بعيدا ، لانه مستطيع للحج ،
ولان الباقر والصادق (عليهماالسلام) (1) سئلا عن من
عرض عليه الحج فاستحى من ذلك أهو ممن يستطيع الى ذلك سبيلا؟ قالا : نعم. وهو ظاهر
ـ كما ترى ـ في حكمه بالوجوب بمجرد البذل ودعواه الإجماع عليه ،
__________________
(1) هذا مضمون الأخبار الواردة في
الوسائل الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه.
وحينئذ فالظاهر ان هذا الكلام عدول عن
ما ذكره أولا.
وكيف كان فجميع ما ذكروه هنا تقييد للنص من غير دليل ،
وتخيل بطلان تعلق الواجب بغير الواجب ـ كما ذكره في التذكرة ـ مدفوع بان يقال انه
يشترط في استمرار الوجوب استمرار البذل ، فان من شرائط الوجوب استمرار الاستطاعة
والاستطاعة هنا إنما هي البذل. نعم لا يبعد ـ كما ذكر في المدارك ـ اعتبار الوثوق
بالباذل ، لما في التكليف بالحج بمجرد البذل مع عدم الوثوق بالباذل من التعرض
للخطر على النفس المستلزم للحرج العظيم والمشقة الزائدة فكان منفيا. والظاهر ان
الإطلاق في الأخبار بالنسبة الى هذا القيد الذي ذكرناه إنما وقع بناء على ما هو
المعروف المعهود يومئذ من وفاء الناس بذلك فلا يقاس على مثل أزماننا هذه.
بقي هنا شيء وهو ان السيد السند (قدسسره) قال : واعتبر
في التذكرة وجوب البذل بنذر وشبهه حذرا من استلزام تعليق الواجب بغير الواجب. ثم
رده بأنه ضعيف. وما ذكره ليس في التذكرة منه عين ولا اثر وإنما الذي فيها هو ما
قدمنا نقله عنه أولا ، ولعله أراد ان اللازم من العبارة المتقدمة ذلك.
ثم انه ينبغي التنبيه هنا على أمور :
الأول ـ قال السيد السند في المدارك : إطلاق النص وكلام
الأصحاب يقتضي عدم الفرق بين بذل عين الزاد والراحلة وأثمانهما ، وبه صرح في
التذكرة واعتبر الشارح (قدسسره) بذل عين
الزاد والراحلة ، قال : فلو بذل أثمانهما لم يجب القبول. الى آخر كلامه الآتي ذكره
ان شاء الله تعالى.
أقول : اما ما ذكره من إطلاق النص فصحيح كما أشرنا إليه
آنفا ، واما ما ذكره من إطلاق كلام الأصحاب فلم أقف عليه في كلام أحد منهم إلا في
عبارة الشيخ في المبسوط حيث قال : إذا بذل له الاستطاعة قدر ما يكفيه ذاهبا وجائيا
ويخلف لمن تجب عليه نفقته لزمه فرض
الحج لأنه مستطيع. فان قوله : «إذا بذل له الاستطاعة» صادق بإطلاقه على بذل العين
أو الثمن. ونحو ذلك في النهاية واما غيره فهم ما بين مصرح بخصوص بذل الزاد
والراحلة ولم يتعرض لحكم الثمن ـ كالمحقق في المعتبر والشرائع والعلامة في المنتهى
والإرشاد ـ ومن لم يتعرض لحكم البذل مطلقا كالعلامة في القواعد ـ ومن ذكرهما معا
وفرق بينهما كالعلامة في التذكرة وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، كما سيظهر لك
ان شاء الله تعالى.
واما ما نقله عن العلامة في التذكرة ـ من انه صرح بعدم
الفرق بين الزاد والراحلة وبين أثمانهما في حصول الاستطاعة ببذل العين والثمن ـ فهو
عجب عجيب ، كيف؟ وهذه صورة عبارة العلامة في الكتاب المذكور ، فإنه قال أولا : مسألة
: لو لم يكن له زاد وراحلة. إلى آخر العبارة التي قدمناها آنفا. ثم قال : فروع :
الأول ـ لو بذل له مال يتمكن به من الحج ويكفيه في مؤنته ومؤنة عياله لم يجب عليه
القبول. لاشتماله على المنة. ولأن في قبول المال وتملكه إيجاب سبب يلزم به الفرض
وهو القبول ، وربما حدثت عليه حقوق كانت ساقطة فيلزمه صرف المال إليها من وجوب
نفقة وقضاء دين. ولان تحصيل شرط الوجوب غير واجب كما في تحصيل مال الزكاة. انتهى.
وهو صريح ـ كما ترى ـ في الفرق بين بذل العين ـ كما ذكره في صدر المسألة من انه
يجب عليه الحج ـ وبين بذل الثمن فلا يجب عليه القبول ، كما ذكره في الفروع المذكور
نعم قال في الفرع الرابع : قال ابن إدريس من علمائنا :
ان من يعرض عليه بعض إخوانه ما يحتاج اليه من مؤنة الطريق يجب عليه الحج بشرط ان
يملكه ما يبذل له ويعرض عليه لا وعدا بالقول دون الفعل. والتحقيق ان نقول : ان
البحث هنا في أمرين : الأول ـ هل يجب على الباذل. الى آخر ما قدمناه من العبارة
المذكورة. ثم قال : الثاني ـ هل بين بذل المال وبذل الزاد والراحلة
ومؤنته ومؤنة عياله فرق أم لا؟ الأقرب
عدم الفرق لعدم جريان العادة بالمسامحة في بذل الزاد والراحلة والمؤن بغير منة
كالمال. انتهى.
وهو ـ كما ترى ـ ظاهر في ان المراد انما هو عدم الفرق
بينهما في انه لا تحصل الاستطاعة بهما ، لانه ذكر في الفرع الأول ـ كما نقلناه ـ عدم
وجوب قبول المال إذا بذل له لاشتماله على المنة. إلى آخر ما تقدم ، وهنا قد ألحق
به عين الزاد والراحلة لو بذل له وجعل حكمه حكم المال في عدم وجوب قبوله ،
لاشتماله على المنة لأنه لم تجر العادة بالمسامحة به. والسيد (قدسسره) قد توهم
العكس في وجوب القبول في الموضعين وحصول الاستطاعة ، وهي غفلة فاحشة.
وبالجملة فإن مرجع كلام العلامة هنا إلى موافقة ابن
إدريس في انه لا يكفي مجرد البذل ـ للعين كان أو للثمن ـ بل لا بد من التمليك.
وفيه رجوع عن ما يدل عليه أول كلامه في المسألة كما أشرنا إليه آنفا. والظاهر ان
شيخنا الشهيد في الدروس إنما نسب اليه القول بما ذهب اليه ابن إدريس من كلامه هنا
وإلا فكلامه في سائر كتبه خال من ذلك.
بقي الكلام في ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني ـ وقبله
العلامة في التذكرة ـ من دعوى حصول الفرق بين بذل عين الزاد والراحلة وبذل
أثمانهما في وجوب الحج ، وحصول الاستطاعة على الأول دون الثاني ، فإن إطلاق النصوص
المتقدمة شامل للأمرين. وتعليلهما المنع في الثاني ـ باعتبار اشتماله على المنة ،
وانه موقوف على القبول وهو شرط للواجب المشروط فلا يجب تحصيله ـ وارد عليهما في
بذل العين ايضا.
وبالجملة فالنصوص المتقدمة ـ كما عرفت ـ شاملة بإطلاقها
لعين الزاد والراحلة وأثمانهما ، فإن عمل بها على إطلاقها ففي الموضعين ، وإلا فلا
فيهما.
وظاهرها انه بمجرد بذل ما يحج به وعرض ذلك عليه يكون
مستطيعا ،
ومتى تحققت الاستطاعة بذلك كان الحج
واجبا مطلقا ، لأن كونه واجبا مشروطا إنما هو بالنسبة إلى الاستطاعة ، فمتى لم
تتحقق الاستطاعة لم يجب تحصيلها ، لان شرط الواجب المشروط لا يجب تحصيله ، ومتى
تحققت الاستطاعة صار الوجوب مطلقا فيجب تحصيل ما يتوقف عليه من المقدمات ، ومنها
في ما نحن فيه قبول ذلك لان ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهذا بحمد الله
واضح لا سترة عليه.
الثاني ـ الظاهر انه لا فرق بين بذل الزاد والراحلة وبين
هبتهما في حصول الاستطاعة ، لإطلاق النصوص المتقدمة. وظاهر كلام جملة من الأصحاب ـ
بل الظاهر انه المشهور بين المتأخرين ـ وهو الفرق ، معللين عدم وجوب قبول الهبة
بأن فيه تحصيلا لشرط الوجوب وهو غير لازم ، ولاشتماله على المنة. وقد عرفت آنفا ما
في التعليلين من الوهن والقصور ، ولهذا ان الشهيد في الدروس ـ بعد ان ذكر انه لا
يجب قبول هبتهما جريا على ما هو المشهور بينهم ـ تنظر في الفرق بين الهبة والبذل ،
ووجه النظر ظاهر بما قدمناه.
قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد قول المصنف ـ :
ولو وهب له مال لم يجب قبوله ـ ما لفظه : لان قبول الهبة نوع من الاكتساب وهو غير
واجب للحج ، لان وجوبه مشروط بالاستطاعة ، فلا يجب تحصيل شرطه بخلاف الواجب
المطلق. ومن هنا ظهر الفرق بين البذل والهبة ، فإن البذل يكفي فيه نفس الإيقاع في
حصول القدرة والتمكن فيجب بمجرده. انتهى.
أقول : لا يخفى ان قولهم (عليهمالسلام) (1) ـ في ما تقدم
من الاخبار : «من عرض عليه الحج أو من عرض عليه ما يحج به فهو مستطيع». ـ صادق على
من وهب له مال ، فإنه متى قال له : «وهبتك هذا المال للحج» فقد صدق عليه
__________________
(1) الوسائل الباب 10 من وجوب الحج
وشرائطه.
انه عرضه عليه كما في قوله : «خذ هذا
المال وحج به» وحينئذ فتثبت الاستطاعة بمجرد الهبة ، وإذا ثبتت الاستطاعة بمجرد
ذلك كان الحج واجبا مطلقا ، ووجب عليه القبول من حيث توقف الواجب عليه ، فان ما لا
يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فيصير القبول من جملة مقدمات الواجب. وحصول
الاستطاعة بالهبة لا يتوقف على القبول ليكون الحج قبل القبول واجبا مشروطا ولا يجب
تحصيل شرطه ، بل الحج بمجرد العرض عليه ـ بقوله : «وهبتك» أو قوله : «خذ هذا المال»
ـ قد صار واجبا مطلقا لحصول الاستطاعة بمجرد ذلك. اللهم إلا أن يناقش في ان قول
القائل : «وهبتك هذا المال للحج» لا يصدق عليه انه عرض عليه. وهو في غاية البعد ،
قال في القاموس : «عرض الشيء له أظهره له ، وعليه أراه إياه» وحينئذ فمعنى : «عرض
عليه ما يحج به» لغة : أراه ما يحج به. والعبارة في الاخبار خرجت مخرج التجوز
باعتبار اخباره واعلامه بذلك. ومن ذلك يعلم صدق العبارة المذكورة على الهبة كالبذل
بغير هبة.
ولم أر من خرج عن كلام الأصحاب في هذا المقام وألحق
الهبة بمجرد البذل سوى السيد السند في المدارك ، واقتفاه الفاضل الخراساني في
الذخيرة ، وقبلهما المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وهو الحق الحقيق بالاتباع
وان كان قليل الاتباع.
الثالث ـ قال في المسالك : ولا يشترط في الوجوب بالبذل
عدم الدين أو ملك ما يوفيه به بل يجب الحج وان بقي الدين. أقول : وهو كذلك لإطلاق
النصوص.
ثم قال : نعم لو بذل له ما تكمل به الاستطاعة اشترط في
ماله الوفاء بالدين وكذا لو وهبه مالا مطلقا ، ولو شرط عليه الحج به فكالمبذول.
الرابع ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا
يجب على
المبذول له اعادة الحج بعد اليسار ،
وذهب الشيخ في الاستبصار إلى وجوب الإعادة.
ويدل على الأول صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة (1) في صدر
المسألة.
احتج الشيخ بما رواه الكليني في الموثق عن الفضل بن عبد
الملك (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل لم يكن
له مال فحج به أناس من أصحابه أقضى حجة الإسلام؟ قال : نعم ، فإن أيسر بعد ذلك
فعليه ان يحج. قلت : هل تكون حجته تلك تامة أو ناقصة إذا لم يكن حج من ماله؟ قال :
نعم قضى عنه حجة الإسلام وتكون تامة وليست بناقصة ، وان أيسر فليحج».
ولا يخفى ان هذا الخبر بالدلالة على خلاف ما يدعيه انسب
، فإنه صريح في كونه قضى حجة الإسلام ، وحينئذ فالأمر بالحج ثانيا محمول على الاستحباب
وبذلك صرح في التهذيب فقال بعد حمل الرواية على الاستحباب : يدل على ما ذكرنا من
الاستحباب انه إذا قضى حجة الإسلام فليس بعد ذلك إلا الندب والاستحباب.
وبذلك يظهر لك ما في قوله في الاستبصار : واما قوله في
الخبر الأول : «ويكون قد قضى حجة الإسلام» المعنى فيه : الحجة التي ندب إليها في
حال إعساره فإن ذلك يعبر عنها بحجة الإسلام من حيث كانت أول الحجة. انتهى. وهو في
الضعف أظهر من ان يحتاج الى بيان.
وبما ذكرنا يجاب ايضا عن رواية أبي بصير عن ابي عبد الله
عليهالسلام (3)
__________________
(1) ص 99.
(2) التهذيب ج 5 ص 7 وفي الوسائل
الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 21 و 23 من وجوب
الحج وشرائطه.
قال : «لو ان رجلا معسرا أحجه رجل
كانت له حجة ، فان أيسر بعد ذلك كان عليه الحج. وكذلك الناصب إذا عرف فعليه الحج
وان كان قد حج».
ويؤكد الاستحباب في هذا الخبر اضافة الناصب ، فإن
الأخبار تكاثرت بأنه لا اعادة على الناصب بعد إيمانه في شيء من عباداته التي
عملها حال نصبه إلا الزكاة (1) أقول : ومن ما
يوضح ذلك بأوضح وجه دلالة الأخبار المتقدمة على حصول الاستطاعة الشرعية بالبذل
وانه يجب عليه الحج بذلك ، وهي حجة الإسلام البتة ، وليس بعدها إلا الاستحباب.
التاسعة ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم)
بأنه لو كان ذا مال تحصل به الاستطاعة فنازعته نفسه الى النكاح لم يجز صرفه في
النكاح وان شق عليه وحصل له العنت بل الواجب صرفه في الحج ، لان الحج مع الاستطاعة
واجب والنكاح مندوب ، والمندوب لا يعارض الواجب.
وقال العلامة في التذكرة : لو احتاج الى النكاح وخاف على
نفسه العنت قدم الحج ، لانه واجب والنكاح تطوع ، ويلزمه الصبر. وبنحو ذلك صرح
المحقق في الشرائع والعلامة في الإرشاد ، فإنهما صرحا بوجوب تقديم الحج وان شق
عليه ترك النكاح.
وصرح العلامة في المنتهى بتقدم النكاح لو خاف من تركه
المشقة العظيمة لحصول الضرر. ونحوه الشهيد في الدروس ايضا. ولا يبعد تقييد كلام
الموجبين لتقديم الحج بذلك ايضا ، وان صرحوا بوجوب تقديمه وان حصلت المشقة بترك
__________________
(1) الوسائل الباب 31 من مقدمة العبادات
، والباب 3 من المستحقين للزكاة ، والباب 23 من وجوب الحج وشرائطه.
النكاح ، بحمل ذلك على مشقة لا يترتب
عليها الضرر.
ولم أقف في المسألة على خبر على الخصوص ، إلا ان ما
ذكرناه من ما يستفاد من القواعد الشرعية.
العاشرة ـ لو طلب من فاقد الاستطاعة ان يؤجر نفسه
للمساعدة في السفر بما تحصل به الاستطاعة لم يجب عليه القبول ، لما تقرر من ان
تحصيل شرط الوجوب ليس بواجب. نعم لو آجر نفسه بمال تحصل به الاستطاعة ـ أو ببعضه
إذا كان مالكا للباقي ـ وجب عليه الحج ، لحصول الاستطاعة التي هي شرط الوجوب.
وأورد هنا اشكال وهو ان الوصول إلى مكة والمشاعر قد صار
واجبا على الأجير بالإجارة فكيف يكون مجزئا عن حجة الإسلام؟ وما الفرق بينه وبين
ناذر الحج في سنة معينة إذا استطاع في تلك السنة لحجة الإسلام؟ حيث حكموا بعدم
تداخل الحجتين.
وأجيب بأن الحج الذي هو عبارة عن مجموع الأفعال المخصوصة
لم تتعلق به الإجارة وانما تعلقت بالسفر خاصة ، وهو غير داخل في أفعال الحج وانما
الغرض منه مجرد انتقال البدن الى تلك الأمكنة ليقع الفعل ، حتى لو تحققت الاستطاعة
فانتقل ساهيا أو مكرها أو على وجه محرم ثم اتى بتلك الأفعال صح الحج ، ولا يعتبر
وقوعه لأجل الحج قطعا ، وهذا بخلاف نذر الحج في السنة المعينة ، فإن الحج نفسه
يصير واجبا بالنذر فلا يكون مجزئا عن حج الإسلام لاختلاف السببين ، مع احتمال
التداخل. وسيجيء تحقيق المسألة في محلها ان شاء الله تعالى.
الحادية عشرة ـ اختلف الأصحاب في ما لو لم يكن الرجل
مستطيعا وكان
له ولد ذو مال ، فهل يجب على الأب
الأخذ من مال ابنه ما يحج به ويحج أم لا؟ قولان :
قال الشيخ في النهاية : ومن لم يملك الاستطاعة وكان له
ولد له مال وجب عليه ان يأخذ من مال ولده قدر ما يحج به على الاقتصاد ويحج. وبه
قال ابن البراج. وقال في المبسوط والخلاف : روى أصحابنا إذا كان له ولد له مال وجب
عليه ان يأخذ من مال ولده قدر ما يحج به ويجب عليه إعطاؤه. ثم قال في الخلاف : ولم
يرو أصحابنا في ذلك خلاف هذه الرواية فدل على إجماعهم عليها.
وقال الشيخ المفيد في المقنعة : وان كان الرجل لا مال له
ولولده مال فإنه يأخذ من مال ولده ما يحج به من غير إسراف وتقتير.
واستدل له الشيخ في التهذيب (1) بما رواه في
الصحيح عن سعيد بن يسار قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يحج
من مال ابنه وهو صغير؟ قال : نعم يحج منه حجة الإسلام. قلت : وينفق منه؟ قال :
نعم. ثم قال : ان الولد لوالده ، ان رجلا اختصم هو ووالده إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقضى ان المال
والولد للوالد».
ونقل عن ابن إدريس انه منع من ذلك ، قال : لان مال الولد
ليس مالا للوالد. وتبعه من تأخر عنه. وأجاب العلامة في المختلف عن الرواية بالحمل
على الاستدانة بعد تحقق الاستطاعة ، أو على من وجب عليه الحج أولا واستقر في ذمته
وفرط فيه ثم تمكن من الاقتراض من مال الولد فإنه يلزمه ذلك.
واعترضه في المدارك بان هذا الحمل بعيد جدا ، لمنافاته
لما تضمنته الرواية من قضاء النبي صلىاللهعليهوآله. ثم قال :
وكيف كان فالأصح ما ذهب إليه المتأخرون ،
__________________
(1) ج 5 ص 15 وفي الوسائل الباب 36 من
وجوب الحج وشرائطه.
لأن هذه الرواية لا تبلغ حجة في إثبات
هذا الحكم المخالف للأدلة القطعية. انتهى
والفاضل الخراساني في الذخيرة بعد ان ذكر جواب العلامة
عن الرواية استبعده ، ثم قال : والعدول عن ظاهر الرواية الصحيحة لا يخلو من اشكال.
انتهى.
أقول : لا يخفى ان الروايات قد اختلفت في جواز أخذ
الوالد من مال ابنه بغير اذنه ، وكذا وطء جاريته بغير اذنه ، وهذه الرواية إنما
خرجت ذلك المخرج الذي خرجت عليه روايات الجواز ، والكلام فيها يترتب على الكلام في
تلك الروايات ، والأصحاب (رضوان الله عليهم) اقتصروا على الكلام في هذه الرواية
استدلالا وجوابا ، والتحقيق ان هذه الرواية لا خصوصية لها بالبحث عنها بل الواجب
هو النظر في جملة روايات المسألة والجمع بينها.
وها انا انقل ما وقفت عليه من الأخبار في ذلك وأبين ما
ظهر لي من الوجه فيها :
فمنها ـ ما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن محمد بن
مسلم عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن رجل لابنه مال فيحتاج إليه الأب؟ قال : يأكل منه. فاما الأم فلا تأكل منه إلا
قرضا على نفسها».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي عن ابى
جعفر عليهالسلام (2) قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله لرجل : أنت
ومالك لأبيك. ثم قال أبو جعفر عليهالسلام : ما أحب له
ان يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج اليه من ما لا بد منه ، ان الله (عزوجل) (لا
يُحِبُّ الْفَسادَ)».
وما رواه الكليني عن ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله عليهالسلام (3) «في
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 78 من ما
يكتسب به.
الرجل يكون لولده مال فأحب أن يأخذ
منه؟ قال : فليأخذ. وان كانت امه حية فما أحب ان تأخذ منه شيئا إلا قرضا على نفسها».
وما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) في
الصحيح في التهذيب والفقيه عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن الرجل يحتاج الى مال ابنه؟ قال : يأكل منه ما شاء من غير سرف. وقال : في كتاب
علي عليهالسلام : ان الولد لا
يأخذ من مال والده شيئا إلا باذنه ، والوالد يأخذ من مال ابنه ما شاء. وله ان يقع
على جارية ابنه إذا لم يكن الابن وقع عليها. وذكر ان رسول الله صلىاللهعليهوآله قال لرجل :
أنت ومالك لأبيك».
أقول : وصورة رواية الفقيه (2) لهذا الخبر من
قوله : «عن ابي جعفر عليهالسلام قال : في كتاب
علي عليهالسلام. الى قوله :
وقع عليها» وما زاد أولا وآخرا من الكتابين الآخرين.
وما رواه في التهذيب عن الحسين بن علوان عن زيد بن على
عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) (3) قال : «اتى
النبي صلىاللهعليهوآله رجل فقال : يا
رسول الله صلىاللهعليهوآله ان ابي عمد
إلى مملوك لي فأعتقه كهيئة المضرة لي؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أنت ومالك
من هبة الله لأبيك ، أنت سهم من كنانته «يَهَبُ
لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ... وَيَجْعَلُ مَنْ
يَشاءُ عَقِيماً» (4) جازت عتاقة أبيك ، يتناول
__________________
(1) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به
، وفي التهذيب ج 6 ص 343 عن ابي عبد الله عليهالسلام كما في
الوسائل عنه.
(2) ج 3 ص 286. وفي الوسائل الباب 40
من نكاح العبيد والإماء.
(3) الوسائل الباب 67 من العتق.
(4) سورة الشورى الآية 49 و 50.
والدك من مالك وبدنك ، وليس لك ان تتناول
من ماله ولا من بدنه شيئا إلا باذنه».
وما رواه الصدوق في كتابي العيون والعلل بسنده فيهما عن
محمد بن سنان (1) : «ان الرضا عليهالسلام كتب إليه في
ما كتب من جواب مسائله : وعلة تحليل مال الولد لوالده بغير اذنه وليس ذلك للولد ،
لان الوالد موهوب للوالد في قوله (عزوجل) (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
الذُّكُورَ) (2) مع انه
المأخوذ بمؤنته صغيرا وكبيرا ، والمنسوب اليه والمدعو له ، لقوله عزوجل (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) (3) ولقول النبي صلىاللهعليهوآله : أنت ومالك
لأبيك. وليس للوالدة مثل ذلك ، لا تأخذ شيئا من ماله إلا بإذنه أو بإذن الأب ، لأن
الوالد مأخوذ بنفقة الولد ولا تؤخذ المرأة بنفقة ولدها».
وما رواه الثقة الجليل على بن جعفر في كتابه عن أخيه
موسى بن جعفر عليهالسلام (4) قال : «سألته
عن الرجل تكون لولده الجارية أيطأها؟ قال : ان أحب. وان كان لولده مال وأحب ان
يأخذ منه فليأخذ. وان كانت الأم حية فلا أحب أن تأخذ منه شيئا إلا قرضا».
فهذه الأخبار كلها ـ كما ترى على تكاثرها وصحة أسانيد
بعضها ـ ظاهرة في موافقة الخبر المتقدم. وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المدارك
وقوله : «لان هذه الرواية لا تبلغ حجة. الى آخره» فإنها متى اعتضدت بهذه الأخبار
الدالة على ما دلت عليه كانت معها في أعلى مراتب الحجية.
إلا ان ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على عدم القول بها ،
وقد تأولوها بحمل أخذ الوالد على جهة النفقة ، والاخبار المذكورة تنبو عن ذلك ، فإنها
قد
__________________
(1 و 4) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب
به.
(2) سورة الشورى الآية 49.
(3) سورة الأحزاب الآية 4.
اشتملت على منع الام من الأخذ من ماله
إلا قرضا ، والابن إلا بإذن الأب. وهذا من ما يدافع الحمل المذكور ، لاشتراك
الجميع في وجوب الإنفاق على الغنى منهم ، فيجوز للام الأخذ نفقة ، والابن الأخذ
نفقة ، بلا خلاف ولا اشكال.
ومن الاخبار المدافعة لهذه الأخبار ما تقدم في صحيحة
الثمالي (1) من قول ابي
جعفر عليهالسلام : «ما أحب له
ان يأخذ من مال ابنه. الى آخره». فإنه ظاهر في العدم إلا مع الضرورة.
ومنها ـ ما رواه في الكافي والفقيه عن الحسين بن ابي
العلاء (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : ما يحل
للرجل من مال ولده؟ قال : قوته بغير سرف إذا اضطر اليه. قال : فقلت له : فقول رسول
الله صلىاللهعليهوآله للرجل الذي
أتاه فقدم أباه فقال له : أنت ومالك لأبيك؟ فقال : إنما جاء بأبيه إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا
رسول الله صلىاللهعليهوآله هذا ابي وقد
ظلمني ميراثي من أمي. فأخبره الأب انه قد أنفقه عليه وعلى نفسه. فقال صلىاللهعليهوآله : أنت ومالك
لأبيك. ولم يكن عند الرجل شيء ، أو كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يحبس الأب
للابن».
وهذا الخبر وان كان سنده ضعيفا في الكتابين المذكورين ،
إلا ان الصدوق رواه أيضا في كتاب معاني الاخبار (3) عن أبيه عن
احمد بن إدريس قال : حدثنا محمد بن احمد عن محمد بن عيسى عن علي بن الحكم عن
الحسين بن ابي العلاء. وهو ظاهر الصحة إلى الحسين ، وحسن به.
وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح الى ابن سنان (4) قال : «سألته
ـ يعني أبا عبد الله عليهالسلام ـ ما ذا يحل
للوالد من مال ولده؟ قال : اما إذا أنفق
__________________
(1) ص 110.
(2 و 4) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب
به.
(3) ص 155 الطبع الحديث ، وفي الوسائل
الباب 78 من ما يكتسب به.
عليه ولده بأحسن النفقة فليس له ان
يأخذ من ماله شيئا. فإن كان لوالده جارية للولد فيها نصيب فليس له ان يطأها إلا ان
يقومها قيمة تصير لولده قيمتها عليه. قال : ويعلن ذلك. قال : وسألته عن الوالد أيرزأ
من مال ولده شيئا؟ قال : نعم ، ولا يرزأ الولد من مال والده شيئا إلا بإذنه. فإن
كان للرجل ولد صغار لهم جارية فأحب أن يفتضها فليقومها على نفسه قيمة ثم ليصنع بها
ما شاء ، ان شاء وطئ وان شاء باع».
قوله : «يرزأ من مال ولده» اي يصيب منه وينتفع به مع
بقاء عينه.
وما رواه ثقة الإسلام في الكافي في الموثق عن علي بن
جعفر عن أبي إبراهيم عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن الرجل يأكل من مال ولده؟ قال : لا ، إلا ان يضطر إليه فيأكل منه بالمعروف. ولا
يصلح للولد ان يأخذ من مال والده شيئا إلا بإذن والده».
ورواه الحميري في قرب الاسناد (2) إلا ان فيه :
قال : «لا إلا بإذنه ، أو يضطر فيأكل بالمعروف ، أو يستقرض منه حتى يعطيه إذا أيسر».
وفي موثقة إسحاق بن عمار عن ابي عبد الله عليهالسلام (3) : «وان كانت
له جارية فأراد أن ينكحها قومها على نفسه ، ويعلن ذلك».
أقول : وبهذه الأخبار أخذ الأصحاب وعليها عملهم ، ولم
يحصل الخلاف بينهم إلا في مسألة الحج كما عرفت.
وأنت خبير بان المخالف في هذه المسألة لا معنى لقوله
بذلك في خصوص الحج ، بل اللازم عليه اما العمل بهذه الأخبار الدالة على الجواز
مطلقا أو تركها
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب
به.
(3) الوسائل الباب 79 من ما يكتسب به.
جميعا ، لأن رواية الحج من جملة هذه
الروايات وليس لها خصوصية بالحج ، بل ذكر الحج فيها انما خرج مخرج التمثيل كخبر
الجارية وخبر العتق (1) ومرجع الجميع
الى جواز تصرف الوالد في مال ولده كتصرفه في مال نفسه.
بقي الكلام في الجمع بين هذه الاخبار ، فإنك قد عرفت ان
ما جمع به الأصحاب بينها ـ من حمل أخذ الأب على كونه على جهة النفقة ـ غير تام.
والذي يقرب عندي ـ باعتبار اتفاق الطائفة المحقة قديما وحديثا على عدم العمل
بأخبار إنما خرجت مخرج التقية ، ولا سيما ما دل عليه خبر الحسين بن علوان من مزيد
التأكيد في هذا الحكم ، فان رجال هذا الخبر كلهم من العامة ، ومستندهم في ذلك يدور
على الخبر النبوي (2) وقد كثر
الاحتجاج به في هذه الاخبار على هذا الحكم. مع ان حسنة الحسين بن ابي العلاء صريحة
في تأويله وانه لا حجة فيه على ذلك. ويشير الى ذلك أيضا صحيحة الثمالي (3) فإنه عليهالسلام بعد ان نقل
الحديث النبوي الدال على الحكم المذكور اضرب عنه تنبيها واشارة الى عدم صحته وإلا
فكيف ينقله ويفتي بخلافه؟ وبذلك يظهر قوة القول المشهور في المقامين. والله
العالم.
الثانية عشرة ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) في ان من كان غير مستطيع للحج ثم استؤجر للحج عن غيره فإن حجه ذلك لا
يسقط
__________________
(1) ص 111 و 112.
(2) وهو قوله صلىاللهعليهوآله : «أنت ومالك لأبيك». المتقدم ، ورواه
ابن ماجة في سننه ج 2 ص 44 باب (ما للرجل من مال ولده) وأبو داود في سننه ج 3 ص
289 رقم 3530.
(3) ص 110.
عنه حجة الإسلام بعد الاستطاعة.
ويدل على ما قالوه خبر آدم بن علي عن ابي الحسن عليهالسلام (1) قال : «من حج
عن انسان ولم يكن له مال يحج به أجزأت عنه حتى يرزقه الله تعالى ما يحج به ويجب
عليه الحج».
واستدل بعضهم على ذلك بروايتي الفضل بن عبد الملك وابي
بصير المتقدمتين (2) في الفرع
الرابع من المسألة الثامنة ، والظاهر انهما ليستا من أدلة هذه المسألة في شيء ،
وإنما موردهما من بذل له مال يحج به كما هو موضوع تلك المسألة. نعم ربما أمكن
احتمال ذلك في رواية أبي بصير بالنظر الى قوله فيها : «أحجه رجل» فإنه يحتمل أنه
أعطاه مالا يحج به عن نفسه ، ويحتمل انه انابه عنه في الحج.
وقد ورد هنا جملة من الاخبار دالة بظاهرها على الاجزاء
عن حجة الإسلام وان استطاع بعده :
ومنها ـ صحيحة معاوية بن عمار (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل حج عن
غيره ، أيجزئه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال : نعم».
وصحيحة جميل بن دراج عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (4) «في رجل ليس له
مال حج عن رجل أو أحجه غيره ثم أصاب مالا ، هل عليه الحج؟ قال : يجزئ عنهما».
وصحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (5) قال : «حج
الصرورة يجزئ عنه وعن من حج عنه».
__________________
(1 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 21 من
وجوب الحج وشرائطه.
(2) ص 106.
ورواية عمرو بن الياس (1) قال : «حج بي
ابي وانا صرورة ، وماتت أمي وهي صرورة ، فقلت لأبي : انى أجعل حجتي عن أمي. قال :
كيف يكون هذا وأنت صرورة ، وأمك صرورة؟ قال : فدخل ابي على ابى عبد الله (عليهالسلام) وانا معه ،
فقال : أصلحك الله تعالى ، انى حججت بابني هذا وهو صرورة وماتت امه وهي صرورة ،
فزعم انه يجعل حجته عن امه؟ فقال : أحسن ، هي عن امه أفضل ، وهي له حجة».
وقد ورد بإزاء هذا الخبر ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي
بن مهزيار عن بكر بن صالح (2) قال : «كتبت
الى ابى جعفر (عليهالسلام) : ان ابني
معي وقد امرته ان يحج عن أمي ، أيجزئ عنهما حجة الإسلام؟ فكتب : لا. وكان ابنه
صرورة وكانت امه صرورة».
وحمله الشيخ على ما إذا كان للابن مال. وهو مؤذن بقوله
بالاجزاء لو لم يكن له مال. وأنت خبير بأنه لو لا صحيحة جميل المذكورة لأمكن حمل
هذه الأخبار على ما دلت عليه رواية آدم بن علي من حمل الاجزاء على الاجزاء الى
اليسار ، إلا ان صحيحة جميل صريحة في الاجزاء ولو استطاع بعد ذلك.
وأجاب المحقق الشيخ حسن عنها في المنتقى بالطعن في متنها
، قال بعد نقل الخبر المذكور : وربما تطرق اليه الشك لقصور متنه حيث تضمن السؤال
أمرين والجواب إنما ينتظم مع أحدهما ، فإن قوله : «يجزئ عنهما» يناسب مسألة الحج
عن الغير ، واما حكم من أحجه غيره فيبقى مسكوتا عنه ، مع ان اصابة المال
__________________
(1) التهذيب ج 5 ص 8 ، وفي الوسائل
الباب 21 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 6 من النيابة في
الحج.
إنما ذكرت معه ، وذلك مظنة الريب أو
عدم الضبط في حكاية الجواب ، فيشكل الالتفات إليه في حكم مخالف لما عليه الأصحاب.
انتهى.
أقول : لقائل أن يقول : ان المسؤول عنه وان كان رجلا
واحدا حج عن غيره أو أحجه رجل ثم أصاب بعد الحج ـ على أحد الوجهين ـ مالا ، إلا
انه يرجع في المعنى الى فردين : رجل حج عن غيره ، ورجل أحجه غيره ، وعلى هذا بنى
الجواب ، فأجاب عليهالسلام بان من حج عن
غيره فأصاب مالا ، ومن أحجه غيره ثم أصاب مالا ؛ فان حج كل منهما مجزئ عنهما ولا
يجب عليهما الإعادة بعد حصول المال. وهذا الوجه ـ بحمد الله تعالى ـ واضح الظهور
لا يعتريه القصور وعلى هذا تبقى المسألة في قالب الاشكال.
والسيد السند في المدارك ـ بعد نقل صحيحة معاوية بن عمار
الاولى ثم صحيحة جميل ـ قال : وأجاب الشيخ في الاستبصار عن الرواية الأولى بالحمل
على ان المراد بحجة الإسلام الحجة المندوب إليها في حال الإعسار دون التي تجب في
حال اليسار. وهو تأويل بعيد ، مع انه لا يجري في الرواية الثانية. إلا انه لا خروج
عن ما عليه الأصحاب. انتهى.
وفيه انه قد خالف الأصحاب في غير موضع من شرحه هذا ، وان
لم يبلغ الدليل الذي في خلافهم الى ما بلغت اليه هذه الاخبار ، كما نبهنا عليه في
غير موضع من شرحنا على هذا الكتاب.
والفاضل الخراساني ـ بعد البحث في المسألة ونقل كلام
الشيخ حسن المتقدم ـ قال : والمسألة عندي محل اشكال. وهو كذلك لما عرفت.
ولو لا ما يظهر من اتفاق الأصحاب قديما وحديثا على الحكم
المذكور لكان القول بما دلت عليه هذه الاخبار في غاية القوة. والله العالم.
المسألة الثالثة عشرة (1) ـ قال الشيخ
في النهاية : من غصب غيره مالا لا يجوز ان يحج به ، فان حج به لم يجزئ عن حجة
الإسلام.
وقال ابن إدريس بعد نقل ذلك عنه وكلام في البين : فاما
الحج بهذا المال فان كانت حجة الإسلام لم تجب عليه قبل ذلك ولا استقرت في ذمته ثم
حج بهذا المال الحرام ووجد بعد ذلك القدرة على الحج بالمال الحلال وحصلت له شرائط
وجوب الحج ، فان حجته الاولى بالمال الحرام لم تجزئه والواجب عليه الحج ثانيا ،
وان كان قد وجب عليه واستقر في ذمته قبل غصب المال ثم حج بذلك المال فالحجة مجزية
عنه ، لانه قد حصل بالمواضع وفعل أفعال الحج بنفسه ، إلا الهدى ان كان اشتراه بعين
المال المغصوب فلا يجزئه عن هديه الواجب عليه ، ووجب عليه شراء هدي أو الصوم بدلا
منه ، إلا انه لا يفسد حجة لأن الهدي ليس بركن. انتهى.
وقال العلامة في المختلف بعد نقل القولين المذكورين
وكلام في البين : واما الحج فمراد الشيخ انه حج حجة الإسلام بذلك المال من غير ان
يسبق وجوبها عملا بالأصل ، ولو كان قد سبق الوجوب احتمل عدم الإجزاء أيضا ، لأنه
لا يجوز له أداء المناسك قبل دفع المال الى مالكه ، فالزمان الذي صرفه في الحج قد
كان يجب فيه صرف المال الى ربه ، فيكون الحج حينئذ باطلا إذا لم يمكن الجمع بين
الحج ودفع المال. انتهى.
أقول : ظاهر كلام العلامة (رحمهالله) موافقة ابن
إدريس في ما ذكره من التفصيل ولذا حمل كلام الشيخ على ذلك ، واما ما ذكره من
الاحتمال لو سبق
__________________
(1) هذه المسألة شطب عليها في النسخة
المطبوعة ، وهي موجودة في بعض النسخ الخطية بالترتيب الذي أوردناه.
الوجوب فهو مبني على
مذهبه (قدسسره) من القول بان
الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده الخاص. وقد أوضحنا في غير موضع من ما تقدم ضعف
العمل بهذه القاعدة.
والوجه في ما ذكروه من التفصيل ، اما صحة الحج مع تقدم
استقراره في الذمة ، فلما تقدم في كلام ابن إدريس ، واما عدم الصحة مع عدم ذلك
فالظاهر انه من حيث عدم حصول الاستطاعة للحج ، فهو ليس بمستطيع له ولا مخاطب به
فيكون من قبيل تكلف الحج من غير ان يجب عليه ، وقد تقدم عنهم أنه غير مجزئ عن حجة
الإسلام بل تجب عليه الإعادة متى حصلت له الاستطاعة.
وقد أوضحنا في صدر البحث ما ظهر لنا من الآية والأخبار
في هذا المقام ، وبمقتضي ما حققنا ثمة انه لا فرق بين الصورتين في الاجزاء.
إلا ان ظواهر الأخبار الواردة في هذا المقام هو بطلان
الحج بالمال الحرام مطلقا :
ومنها ـ ما رواه في الفقيه مرسلا (1) قال : روى عن
الأئمة (عليهمالسلام) انهم قالوا :
«من حج بمال حرام نودي عند التلبية : لا لبيك عبدي ولا سعديك».
وما رواه في كتاب الخصال عن ابان ـ والظاهر انه ابن
عثمان الأحمر ـ عن ابي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «اربع
لا يجزن في أربع : الخيانة والغلول والسرقة والربا : لا يجزن في حج ولا عمرة ولا
جهاد ولا صدقة». ورواه في الفقيه عن ابان بن عثمان مثله (3).
وما رواه في كتاب المجالس في الصحيح عن محمد بن مسلم
ومنهال القصاب
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 52 من وجوب
الحج وشرائطه.
جميعا عن ابي جعفر عليهالسلام (1) قال : «من
أصاب مالا من اربع لم يقبل في أربع : من أصاب مالا من غلول أو رباء أو خيانة أو
سرقة ، لم يقبل منه في زكاة ولا صدقة ولا حج ولا عمرة».
وما رواه في كتاب عقاب الأعمال (2) بسنده عن رسول
الله صلىاللهعليهوآله انه قال في
آخر خطبة خطبها : «من اكتسب مالا حراما لم يقبل الله منه صدقة ولا عتقا ولا حجا
ولا اعتمارا ، وكتب الله له بعدد اجزاء ذلك أو زارا ، وما بقي منه بعد موته كان
زاده الى النار».
وما رواه فيه ايضا بسند صحيح الى حديد المدائني عن ابي
عبد الله عليهالسلام (3) قال : «صونوا
دينكم بالورع ، وقووه بالتقية والاستغناء بالله عن طلب الحوائج من السلطان ،
واعلموا أنه أيما مؤمن خضع لصاحب سلطان أو لمن يخالفه على دينه طلبا لما في يده ،
خمله الله ومقته عليه ووكله الله إليه ، فإن هو غلب على شيء من دنياه وصار في يده
منه شيء ، نزع الله البركة منه ولم يأجره على شيء ينفقه في حج ولا عمرة ولا عتق».
وما رواه البرقي في المحاسن عن النوفلي عن السكوني عن
ابي عبد الله عليهالسلام (4) : «ان النبي صلىاللهعليهوآله حمل جهازه على
راحلته وقال : هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة. ثم قال : من تجهز وفي جهازه علم
حرام لم يقبل الله منه الحج».
وما رواه ثقة الإسلام في الكافي في الموثق عن زرعة (5) قال : «سأل
أبا عبد الله عليهالسلام رجل من أهل
الجبال عن رجل أصاب مالا من اعمال السلطان فهو يتصدق منه ويصل قرابته ويحج ليغفر
له ما اكتسب ، وهو يقول : (إِنَّ
الْحَسَناتِ
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 52
من وجوب الحج وشرائطه.
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (1). قال : فقال
أبو عبد الله عليهالسلام : ان الخطيئة
لا تكفر الخطيئة ولكن الحسنة تحط الخطيئة. الحديث».
واما ما رواه في الفقيه مرسلا (2) ـ قال : «وقال
الصادق عليهالسلام : لما حج موسى
عليهالسلام نزل عليه
جبرئيل عليهالسلام فقال له موسى
: يا جبرئيل ما لمن حج هذا البيت بلا نية صادقة ولا نفقة طيبة؟ فقال : لا أدرى حتى
ارجع الى ربي. الحديث». وقد تقدم في المقدمة الاولى من المقدمات المذكورة في صدر
هذا الكتاب (3) وفيه : «ان
الله سبحانه قال لمن حج كذلك : أهب له حقي وارضي عليه خلقي». ـ فيجب حمله على ما
لو كان المال حلالا ظاهرا وكان في نفس الأمر حراما أو انه من ما فيه شبهة كجوائز
السلطان ونحوها ، جمعا بين الاخبار المذكورة.
ويمكن بناء على الفرق بين الصحة والقبول ـ كما عليه جملة
من الأصحاب ـ ان يقال بصحة الحج كما صرح به الأصحاب هنا ، وان كان غير مقبول كما
هو ظاهر الأخبار المذكورة. إلا ان الذي حققناه في غير موضع من زبرنا ان الأظهر عدم
الفرق بينهما. ويمكن بناء على هذا حمل الأخبار المذكورة على عدم القبول الكامل ،
كما ورد عدم قبول الصلاة في مواضع ، وانه ربما يقبل منها نصفها أو ثلثها أو نحو
ذلك (4) فإنه محمول على
القبول الكامل ، بناء على ما هو المشهور بين الأصحاب من اتحاد الصحة والقبول.
وبالجملة فإن المسألة غير خالية من شوب الاشكال. والله
سبحانه وأولياؤه العالمون بحقيقة الحال.
__________________
(1) سورة هود الآية 114.
(2) الوسائل الباب 52 من وجوب الحج
وشرائطه.
(3) ص 19.
(4) ج 6 ص 10.
الرابع من الشروط المتقدمة ـ ان يكون له ما يمون عياله
الواجبي النفقة عليه من مأكول وملبوس ونحو ذلك ، قالوا : لانه حق سابق على وجوب
الحج فيكون مقدما عليه.
ويدل على ذلك رواية أبي الربيع الشامي (1) قال : «سئل
أبو عبد الله عليهالسلام عن قول الله (عزوجل)
(وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) (2) فقال : ما
يقول الناس؟ قال : فقيل له : الزاد والراحلة (3) قال : فقال أبو عبد الله عليهالسلام : قد سئل أبو
جعفر عليهالسلام عن هذا فقال :
هلك الناس إذا ، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت به عياله ويستغني به عن
الناس ينطلق اليه فيسلبهم إياه لقد هلكوا. فقيل له : فما السبيل؟ فقال : السعة في
المال إذا كان يحج ببعض ويبقى بعضا يقوت به عياله ، أليس قد فرض الله الزكاة فلم
يجعلها إلا على من يملك مائتي درهم».
ويؤيد ذلك صحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليهالسلام (4) «في رجل مات
ولم يحج حجة الإسلام ، ولم يترك إلا قدر نفقة الحج ، وله ورثة؟
__________________
(1) الكافي ج 4 ص 267 ، والتهذيب ج 5
ص 2 ، والفقيه ج 2 ص 258 وفي الوسائل الباب 9 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) سورة آل عمران الآية 97.
(3) المغني ج 3 ص 219 ، وبداية
المجتهد ج 1 ص 293 ، وبدائع الصنائع ج 2 ص 122.
(4) الكافي ج 4 ص 305 ، والتهذيب ج 5
ص 405 ، إلا ان اللفظ فيهما يختلف عن ما أورده ويتفق مع ما أورده في الفقيه ج 2 ص
270 عن هارون بن حمزة الغنوي. وقد أورده في الوسائل عنه وعن الكافي والتهذيب في
الباب 14 من وجوب الحج وشرائطه.
قال : هم أحق بميراثه ،
ان شاءوا أكلوا وان شاءوا حجوا عنه».
والحكم اتفاقي لا خلاف فيه.
وانما الخلاف في انه هل يشترط في الوجوب الرجوع الى
كفاية من مال أو صناعة أو حرفة أم لا؟ ذهب الأكثر ـ ومنهم المرتضى وابن ابي عقيل
وابن الجنيد وابن إدريس وجملة من المتأخرين ـ الى الثاني ، وذهب الشيخان إلى الأول
ونسبه المرتضى (رضياللهعنه) الى كثير من
أصحابنا ، وبه قال أبو الصلاح وابن البراج وابن حمزة ، على ما نقله في المختلف ،
قال : ورواه أبو جعفر ابن بابويه في كتاب من لا يحضره الفقيه.
وهو ظاهر شيخنا علي بن سليمان البحراني (قدسسره) في حاشيته
على كتاب المختصر ، حيث قال : مقتضى قوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (1) اشتراط الرجوع
الى عمل أو ضيعة أو صناعة أو حرفة لمن ليس له سبيل في المعيشة غير ما ذكر عادة.
الى ان قال : اما لو كان بيت مال يعطى منه ، أو كان ممن تتيسر له الزكاة والعطايا
عادة ممن لم يتحرج من ذلك ، فلا يشترط في حقه. انتهى وادعى ابن إدريس رجوع الشيخ
عن القول المذكور في الاستبصار والخلاف ، ورده العلامة في المختلف ، ونقل كلام الشيخ
في الكتابين المذكورين. ولا ريب ان ما ذكره الشيخ لا يتضمن الرجوع كما توهمه ابن
إدريس.
ويدل على القول المشهور عموم قوله (عزوجل) (مَنِ
اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (2) وهذا مستطيع.
ولو قيل : ان مقتضى عموم الآية أيضا حصول الاستطاعة
بالزاد والراحلة
__________________
(1) سورة الحج الآية 78.
(2) سورة آل عمران الآية 97.
وان لم يجد النفقة إلى عياله مدة غيبته.
قلنا : نعم الأمر كذلك ولكن قام الدليل ـ كما تقدم ـ على
وجوب ذلك فيخص به عموم الآية ، واما هنا فلم يقم دليل على ذلك كما سيتضح لك ان شاء
الله تعالى.
وتدل عليه ايضا الروايات المتقدمة في الشرط الثالث ، مثل
صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي (1) المشتملة على
ان كل من كان صحيحا في بدنه مخلى سربه له زاد وراحلة فهو ممن يستطيع الحج ، وحسنة
الحلبي المشتملة على ان من عرض عليه ما يحج به فاستحى من ذلك فهو ممن يستطيع الحج (2) ونحوهما من ما
تقدم.
احتج الشيخ ـ على ما نقله في المختلف ـ بأصالة البراءة ،
والإجماع ، ورواية أبي الربيع الشامي المتقدمة (3).
ورد بأن أصالة البراءة إنما يصار إليها إذا لم يدل على
خلافها دليل. والإجماع غير ثابت. والخبر غير دال على ما ادعاه ، بل ظاهره إنما هو
الدلالة على نفقة عياله مدة ذهابه وإيابه لا الرجوع الى كفاية.
نعم قد روى هذه الرواية الشيخ المفيد في المقنعة (4) بزيادة ربما
توهم ما ذهبا إليه ، فإنه روى الرواية هكذا : «قد قيل لأبي جعفر عليهالسلام ذلك فقال : هلك
الناس ، إذا كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما ومقدار ذلك ما يقوت به عياله
ويستغني به عن الناس فقد وجب عليه ان يحج بذلك ثم يرجع فيسأل الناس بكفه ، لقد هلك
الناس اذن. فقيل له : فما السبيل؟ قال : السعة في المال وهو ان يكون معه ما يحج
ببعضه ويبقى البعض يقوت به نفسه وعياله».
__________________
(1) ص 80 و 129.
(2) ص 84.
(3) ص 123.
(4) ص 60 ، وفي الوسائل الباب 9 من
وجوب الحج وشرائطه.
وأجيب عنها بعدم الدلالة على ما ادعياه من اشتراط الرجوع
الى تلك الأشياء المعدودة التي فسروا بها الرجوع الى كفاية ، فإن غاية ما تدل عليه
اعتبار بقاء شيء من المال حتى لا يكون بعد رجوعه يحتاج إلى سؤال الناس ، وبه يصدق
قوله : «يبقى البعض يقوت به نفسه وعياله» فيحمل ذلك على قوت السنة له ولهم. وهذا
لا يستلزم ما ذكراه (نور الله تعالى مرقديهما).
وبذلك ايضا يجاب عن ما نقله الصدوق في الخصال (1) عن الأعمش عن
جعفر بن محمد (عليهماالسلام) في حديث طويل
قال فيه : «وحج البيت واجب على من استطاع اليه سبيلا ، وهو الزاد والراحلة مع صحة
البدن ، وان يكون للإنسان ما يخلفه على عياله وما يرجع اليه بعد حجه». فان اشتراط
بقاء شيء الى بعد رجوعه يكفي فيه مؤنة بعض السنة أو مؤنة السنة ، ولا يستلزم ما
ذكراه.
وبالجملة فإن الخروج عن ظاهر الآية والروايات العديدة
الصحيحة الصريحة بمثل هذين الخبرين المجملين مشكل.
الخامس من الشروط ـ إمكان السفر ، وهو يشتمل على الصحة ،
وتخلية السرب ، والاستمساك على الراحلة ، وسعة الوقت لقطع المسافة.
وحينئذ فالكلام هنا يقع في مقامات ثلاثة الأول ـ لا خلاف
نصا وفتوى في ان المريض الذي يتضرر بالركوب على القتب أو في المحمل ان وسعته
الاستطاعة لا يجب عليه الحج.
ويدل على ذلك ـ مضافا الى ما دل على نفي المشقة والحرج
في التكليف آية ورواية (2) ـ صحيحة ذريح
عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) قال : «من مات
ولم
__________________
(1) الوسائل الباب 9 من وجوب الحج
وشرائطه.
(2) راجع الحدائق ج 1 ص 151.
(3) الوسائل الباب 7 من وجوب الحج
وشرائطه.
يحج حجة الإسلام ـ لم يمنعه من ذلك
حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق به الحج أو سلطان يمنعه ـ فليمت يهوديا أو نصرانيا».
وصحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «قال
الله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) (2)؟ قال : هذه
لمن كان عنده مال وصحة. الحديث».
وصحيحة هشام بن الحكم (3) وفيها : «ومن
كان صحيحا في بدنه ، مخلى سربه ، له زاد وراحلة».
واما المريض مرضا لا يتضرر بالسفر فإنه كالصحيح في
الوجوب عليه ، ولو احتاج في سفره الى الدواء فهو كالزاد.
وكذا يسقط التكليف مع عدم الاستمساك على الراحلة
كالمعضوب ومقطوع اليدين والرجلين غالبا ، لعين ما تقدم من الأدلة.
بقي الكلام في انه هل تجب الاستنابة متى حصلت الاستطاعة
وعرض المانع من مرض ونحوه من الأعذار أم لا؟ قولان ، أولهما للشيخ وابي الصلاح
وابن البراج وابن الجنيد وغيرهم ، والثاني لابن إدريس ، واختاره العلامة في
المختلف.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة
روايات :
منها ـ صحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام (4) قال : «ان كان
موسرا
__________________
(1) الوسائل الباب 6 من وجوب الحج
وشرائطه.
(2) سورة آل عمران الآية 97.
(3) الوسائل الباب 8 من وجوب الحج
وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 24 من وجوب الحج
وشرائطه.
حال بينه وبين
الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره الله تعالى فيه ، فان عليه ان يحج عنه من ماله صرورة
لا مال له».
وصحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «كان
علي (عليهالسلام) يقول : لو ان
رجلا أراد الحج فعرض له مرض أو خالطه سقم فلم يستطع الخروج ، فليجهز رجلا من ماله
ثم ليبعثه مكانه».
وصحيحة عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «ان
أمير المؤمنين (عليهالسلام) أمر شيخا
كبيرا لم يحج قط ولم يطق الحج لكبره ان يجهز رجلا يحج عنه».
ورواية علي بن أبي حمزة (3) قال : «سألته
عن رجل مسلم حال بينه وبين الحج مرض أو أمر يعذره الله تعالى فيه. فقال : عليه ان
يحج من ماله صرورة لا مال له».
ورواية عبد الله بن ميمون القداح عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (4) «ان عليا (عليهالسلام) قال لرجل
كبير لم يحج قط : إن شئت ان تجهز رجلا ثم ابعثه ان يحج عنك».
ورواية سلمة أبي حفص عن ابى عبد الله عن أبيه (عليهماالسلام) (5) «ان رجلا اتى
عليا (عليهالسلام) ولم يحج قط
فقال : انى كنت رجلا كثير المال وفرطت في الحج حتى كبرت سني؟ قال : فتستطيع الحج؟
قال : لا. فقال علي (عليهالسلام) : ان شئت
فجهز رجلا ثم ابعثه يحج عنك».
وروى الشيخ المفيد في المقنعة عن الفضل بن عباس (6) قال : «أنت
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 6) الوسائل الباب 24
من وجوب الحج وشرائطه.
(5) التهذيب ج 5 ص 460 ، وفي الوسائل
الباب 24 من وجوب الحج وشرائطه.
امرأة من خثعم رسول
الله صلىاللهعليهوآله فقالت : ان
ابى أدركته فريضة الحج وهو شيخ كبير لا يستطيع ان يلبث على دابته؟ فقال لها رسول
الله صلىاللهعليهوآله : فحجي عن
أبيك».
وهذه الروايات ـ كما ترى ـ كلها ظاهرة الدلالة على القول
المشهور فيكون هو المعتمد المنصور. ومن ذلك يظهر ان هذا الشرط إنما هو شرط في وجوب
الحج البدني لا الوجوب المالي ، لوجوبه بهذه الأخبار مع عدم التمكن من الحج بنفسه.
احتج العلامة (قدسسره) في المختلف
بأصالة البراءة ، وبان الاستطاعة شرط وهي مفقودة ، فيسقط الوجوب قضية للشرط.
وبصحيحة محمد بن يحيى الخثعمي (1) قال : «سأل
حفص الكناسي أبا عبد الله عليهالسلام وانا عنده عن
قول الله (عزوجل) (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) (2) ما يعنى بذلك؟
قال : من كان صحيحا في بدنه ، مخلي سربه ، له زاد وراحلة ، فهو ممن يستطيع الحج». قال
: دل بمفهومه على ان فاقد الصحة ليس بمستطيع.
وأجيب عن ذلك بان الأصل يرتفع بالدليل وقد تقدم.
والاستطاعة شرط في وجوب الحج مباشرة.
وظاهر إطلاق هذه الاخبار هو وجوب الاستنابة مطلقا سواء
كان المرض والعذر مرجو الزوال أم لا ، وظاهر الأصحاب الاتفاق ـ كما نقله في
المنتهى ـ على انه لو رجا البرء لم تجب الاستنابة. فيختص وجوب الاستنابة عندهم
بالمرض
__________________
(1) الوسائل الباب 8 من وجوب الحج
وشرائطه.
(2) سورة آل عمران الآية 97.
الغير المرجو الزوال ، واما ما كان
مرجو الزوال فقالوا فيه بالاستحباب.
قال في المدارك : وإنما تجب الاستنابة مع اليأس من البرء
، فلو رجا البرء لم تجب عليه الاستنابة إجماعا ـ قاله في المنتهى ـ تمسكا بمقتضى
الأصل السالم من معارضة الأخبار المتقدمة ، إذ المتبادر منها تعلق الوجوب بمن حصل
له اليأس من زوال المانع. والتفاتا إلى انه لو وجبت الاستنابة مع المرض مطلقا لم
يتحقق اعتبار التمكن من المسير في حق أحد من المكلفين. إلا ان يقال : ان اعتبار
ذلك إنما هو في الوجوب البدني خاصة. انتهى.
أقول : لا يخفى ان إطلاق أكثر الأخبار المتقدمة ظاهر في
مطلق المرض مأيوسا من برئه أم لا ، فان قوله (عليهالسلام) في صحيحة
الحلبي ـ : «ان كان موسرا حال بينه وبين الحج مرض أو أمر يعذره الله فيه». ـ شامل
لما هو أعم من ما ذكروه ، ومثلها رواية علي بن أبي حمزة ، وأظهر منها صحيحة محمد
بن مسلم من قوله (عليهالسلام): «لو ان رجلا
أراد الحج فعرض له مرض. الحديث». نعم الأخبار المتضمنة للشيخ الكبير ظاهرة في ما
ذكروه ، إلا انها لا دلالة فيها على الاختصاص بما ادعوه. وخصوص السؤال لا يخصص
الجواب.
وبذلك يظهر لك ما في قوله في المدارك من ان المتبادر من
الاخبار المذكورة تعلق الوجوب بمن حصل له اليأس من زوال المانع ، فادعى لذلك سلامة
الأصل من المعارض. وفيه ما عرفت ، فإن الأخبار التي أشرنا إليها ظاهرة في العموم
فيجب الخروج عن ما ادعوه من الأصل بها. على انه لا مانع من العمل بهذه الاخبار على
إطلاقها مع وجوب الإعادة مع البرء ، كما صرحوا به بالنسبة الى غير المرجو الزوال.
وبالجملة فإني لا اعرف لهم حجة واضحة على التخصيص سوى
الإجماع المدعى في المقام.
ولعله لما ذكرنا ذهب في الدروس الى وجوب الاستنابة مطلقا
، وان وجبت الفورية بالنسبة إلى المأيوس من البرء والعدم بالنسبة إلى مرجو الزوال
، فان ظاهر كلامه مشعر بذلك ، حيث قال بعد ذكر المعضوب : والأقرب ان وجوب
الاستنابة فوري إن يئس من البرء وإلا استحب الفور. وفي حكم المعضوب المريض والهرم
والممنوع بعدو ، سواء كان قد استقر عليه الوجوب أم لا ، خلافا لابن إدريس. فإن
ظاهر كلامه ظاهر في ما قلناه ، وكذلك فهمه الأصحاب.
قال في المسالك : وإنما تجب الاستنابة مع اليأس من البرء
، ومعه فالوجوب فوري كأصل الحج ، ومتى لم يحصل اليأس لم يجب وان استحب ، ويظهر من
الدروس وجوب الاستنابة على التقديرين وان لم تجب الفورية مع عدم اليأس. انتهى.
وقول الشهيد (رحمهالله) ـ عندي هنا
لا يخلو من قوة وان نسبه في المدارك الى الضعف ، لدلالة ظاهر الاخبار المتقدمة
عليه ، مع تأيد ذلك بالاحتياط المطلوب في الدين.
على ان ما ادعوه من الاستحباب لا اعرف له دليلا في
المقام ، إذ ليس في المسألة سوى ما قدمناه من الاخبار ، وهي عندهم محمولة على
العذر الغير المرجو الزوال ، وقد صرحوا بأن النيابة فيها على جهة الوجوب. ومن ذلك
يعلم انه لا دليل لهذا الاستحباب وان نقلوه عن الشيخ (رحمهالله تعالى) وتبعوه
فيه ، كما هي قاعدتهم غالبا.
بقي الكلام هنا في فوائد تتعلق بالمقام الأولى ـ ظاهر
الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على انه لو تقدمت الاستطاعة على حصول العذر
وجبت الاستنابة قولا واحدا ، وقد صرح بذلك جملة منهم ، ويدل عليه
صريحا ورواية سلمة أبي حفص المتقدمة (1).
ولا ينافي ذلك قوله عليهالسلام : «ان شئت
فجهز رجلا» فإنه ليس المراد هنا التخيير له بين التجهيز وعدمه ، بل هذه العبارة ـ كثيرا
ما يرمى بها في أمثال هذه المقامات ـ المراد منها الوجوب ، كما وقعت أيضا في رواية
القداح المتقدمة (2) وكأن المراد
منها : ان شئت أداء ما وجب عليك وخلاص ذمتك.
وبذلك يظهر ما في كلام صاحب الذخيرة حيث انه توهم من هذه
الكلمة التخيير وعدم الوجوب ، فقال بعد نقل الخبر المشار اليه : وفيه اشعار بعدم
الوجوب. فإنه لا يخفى على من أحاط خبرا بالأخبار انه كثيرا ما يؤتى بهذه الكلمة في
مقام الوجوب ، ويؤيد ذلك استدلال الأصحاب بهذين الخبرين المذكورين على الوجوب في
المسألة ، وما ذاك إلا من حيث فهمهم من هذه الكلمة الحمل على غير المعنى المتبادر
منها.
وبالجملة فموضع الخلاف في المسألة عندهم ما إذا عرض
المانع قبل استقرار الوجوب.
الثانية ـ حيث ان الأصحاب صرحوا باستحباب الاستنابة لمن
يرجو زوال العذر ، فرعوا عليه انه لو حصل اليأس بعد رجاء البرء وقد استناب أولا ،
فإنه تجب عليه الاستنابة ثانيا مع بقاء الاستطاعة.
قال العلامة في التذكرة ـ بعد ان صرح في صدر المسألة بأن
المريض إذا كان مرضه يرجى زواله ونحوه غيره من ذوي الأعذار يستحب له الاستنابة ـ ما
لفظه : فلو استناب من يرجو القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسا من برئه فعليه ان
يحج عن نفسه مرة أخرى ، لأنه استناب في حال لا تجوز
__________________
(1 و 2) ص 128.
الاستنابة فيها فأشبه الصحيح. قال
الشيخ (قدسسره) : ولان تلك
الحجة كانت عن ماله وهذه عن بدنه. انتهى.
أقول : فيه انه قد صرح باستحباب الاستنابة في صدر
المسألة ، فكيف يتم هنا قوله : «انه استناب في حال لا تجوز»؟ بل كان الأظهر في
التعبير ان يقال : «في حال لا تجب» لان المستحب لا يكفى عن الواجب كما في الصحيح
الذي حج استحبابا.
واما ما نقله عن الشيخ من التعليل فقد نقله عنه سابقا.
وكذا صرح به في المنتهى بالنسبة الى من حصل له البرء بعد ان استناب في حال المرض ،
وهو الأوفق بلفظ العبارة المذكورة.
وبالجملة فإن كلامه (قدسسره) هنا لا يخلو
من مسامحة نشأت من الاستعجال وكيف كان فههنا أحوال ثلاثة : أحدها ـ ان يبرأ من ذلك
المرض ، ولا خلاف ولا إشكال في وجوب الإعادة والحج بنفسه. الثانية ـ ان يموت ، ولا
خلاف ولا إشكال أيضا عندهم ـ كما صرحوا به ـ في انه لا شيء عليه ، استناب أو لم
يستنب. الثالثة ـ ان يصير مرضه الى ما لا يرجى برؤه ، وظاهرهم ـ كما عرفت ـ وجوب
الاستنابة عليه ثانيا لما تقدم من التعليل. ويأتي على ما قدمنا ذكره ـ من ان ظاهر
الأخبار وجوب الاستنابة مطلقا ـ انه لو استناب أولا فقد ادى الواجب ولا يجب ثانيا.
ومثل ذلك يأتي في حالة الموت فإنه إذا استناب أولا فلا شيء عليه وإلا وجب القضاء
عنه. واما على ما ذكروه من الاستحباب فلا شيء مطلقا.
الثالثة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان
الممنوع لعذر لا يرجى زواله لو استناب ، فان استمر المانع حتى مات فلا قضاء ، وان
زال ذلك
المانع وجب الحج عليه بنفسه مع بقاء
الاستطاعة ، ولا خلاف بينهم في شيء من ذلك في ما اعلم.
ونقل عن الشيخ في تعليل الحكم الثاني بان ما فعله كان
واجبا في ماله وهذا يلزمه في نفسه. قيل : ومرجعه الى الاستدلال بإطلاق الأمر بالحج
المتناول لجميع المكلفين ممن لم يحج ، ومن استناب في الحج لا يصدق عليه انه حج
حقيقة فيتناوله الإطلاق.
ولا يخفى ما فيه من الإشكال ، فإن دخول هذا الفرد تحت
إطلاق الأمر بعد تكليف الشارع له بالحج في تلك الحال لا يخلو من غموض ، وان كان
الاحتياط في ما ذكروه.
ونقل عن بعض الأصحاب انه احتمل عدم الوجوب كما لو لم
يبرأ ، للأصل ولأنه أدى حج الإسلام بأمر الشارع فلا يلزمه حج ثان ، كما لو حج
بنفسه.
قال في المدارك بعد نقله : وهذا الاحتمال غير بعيد ، إلا
ان الأول أقرب تمسكا بإطلاق الأمر. انتهى.
أقول : قد عرفت ما في التمسك بإطلاق الأمر من البعد ،
سيما مع ما عرفت في غير موضع ـ وبه صرحوا (رضوان الله تعالى عليهم) ـ من ان
الإطلاق إنما ينصرف الى الافراد الغالبة الشائعة المتكررة دون الفروض النادرة
الوقوع.
وبالجملة فهذا الاحتمال جيد إلا ان المسألة لما كانت
عارية عن النص الصريح فالاحتياط فيها لازم ، وهو في جانب القول الذي عليه الأصحاب.
ومتى وجب عليه الحج بعد البرء كما ذكروه فان مات قبل ان
يأتي به وجب قضاؤه كغيره.
الرابعة ـ قالوا : لو لم يجد الممنوع مالا لم تجب عليه
الاستنابة قطعا. وكذا لو وجد المال ولم يجد من يستأجره فإنه يسقط الى العام
المقبل. ولو
وجد من يستأجره بأكثر من اجرة المثل
وجب مع المكنة. ولو لم يكن له مال ووجد من يعطيه المال لأداء الحج لم يجب عليه
قبوله ، لأن الاستنابة انما تجب على الموسر على ما تضمنته الأخبار المتقدمة. ولا
يقاس على الصحيح إذا بذل له الزاد والراحلة حيث وجب عليه الحج بذلك ، لاختصاصه
بالنص وبطلان القياس. وهو جيد موافق للقواعد الشرعية.
الخامسة ـ قال في الدروس : ولو وجب عليه الحج بإفساد أو
نذر فهو كحجة الإسلام بل أقوى. وكتب في الحاشية في بيان وجه القوة ، قال : لان سبب
الحج هنا المكلف ولما امتنع فعله بنفسه صرف الى ماله ، بخلاف حجة الإسلام فإن
سببها من الله. انتهى.
أقول : ما ذكره في الدروس قد نقله في التذكرة عن الشيخ (قدسسره) حيث قال :
قال الشيخ : المعضوب إذا وجب عليه حجة بالنذر أو بإفساد حجه وجب عليه ان يحج غيره
عن نفسه ، وان بريء في ما بعد وجب عليه الإعادة. ثم قال : وفيه نظر.
وفي المنتهى قال : وعندي في ذلك تردد. والظاهر ان وجه
النظر والتردد هو ان مورد نصوص الاستنابة حجة الإسلام ، والتعدي إلى غيرها قياس
محض.
واما ما ذكره في الدروس فلا يخفى ما فيه ، فان العبادات
توقيفية لا بد في ثبوتها من النصوص ، وهذه التعليلات العليلة لا تصلح لتأسيس
الأحكام الشرعية ولهذا قال السيد في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو غير واضح في
النذر ، بل ولا الإفساد ايضا ان قلنا ان الثانية عقوبة ، لأن الحكم بوجوب
الاستنابة على خلاف الأصل ، فيقتصر فيه على مورد النص وهو حج الإسلام ، والنذر
والإفساد إنما اقتضيا وجوب الحج مباشرة وقد سقط بالتعذر. انتهى. وهو جيد.
السادسة ـ ظاهر صحيحة الحلبي المتقدمة ومثلها رواية علي
بن أبي حمزة
تناول المانع الموجب للاستنابة
لما لو كان خلقيا أو عارضا ، وان كان أكثر أخبار المسألة إنما تضمن ذكر العارض
خاصة ، وعلى هذا فلو كان لا يستمسك خلقة فإنه تجب عليه الاستنابة.
وظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذه المسألة
العموم ايضا بل صرح العلامة في المنتهى بذلك فقال : ولو كان المرض لا يرجى برؤه ـ أو
كان العذر لا يزول كالإقعاد وضعف البدن خلقة وغير ذلك من الأعذار اللازمة أو كبر
السن وما أشبهه ـ قال الشيخ : وجب عليه ان يحج عنه رجلا ، لما تقدم من الأحاديث.
الى آخره.
وظاهر المحقق في الشرائع الخلاف في ذلك ، حيث اختار ان
من لا يستمسك خلقة يسقط الفرض عن نفسه وماله.
والظاهر ان الحامل للمحقق (قدسسره) هنا على هذا
القول هو انهم قد اتفقوا ـ كما عرفت في الفائدة الأولى ـ على انه لو تقدمت
الاستطاعة على حصول العذر وجبت الاستنابة قولا واحدا ، وان محل الخلاف إنما هو إذا
عرض المانع قبل استقرار الوجوب ، وظاهر أكثر النصوص إنما دل على من عرض له العجز ،
لفرضها في شيخ كبير أو من عرض له المرض ، ولهذا لم يذكر في المعتبر إلا ما دل على
ذلك دون ما دل بظاهره على الخلقي منه ، كرواية الحلبي ورواية على بن أبي حمزة ،
فالعجز الأصلي بعيد عن الدخول تحت تلك الروايات ، لإمكان حمل تلك النصوص على ما لو
سبق الوجوب على العجز ، بخلاف العاجز الأصلي فإنه لا يتصور فيه سبق الاستقرار.
وبالجملة فإن التفصيل الذي ذكروه ـ من انه ان تقدمت
الاستطاعة وجبت الاستنابة قولا واحدا ، وإلا فهو محل الخلاف ـ إنما يجري في المانع
العارضي الذي هو مورد تلك الاخبار ، واما الخلقي فيكون خارجا عنها ، ومتى كان
خارجا عنها فإنه يبقى على حكم
الأصل من عدم الوجوب ، لعدم الدليل بناء على انه ليس سوى تلك الأخبار. وقد عرفت ما
فيه.
وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك لما اختار القول
المشهور احتج على ذلك بعدم العلم بالقائل بالفرق بين الخلقي والعارضي. ثم ذكر
رواية على بن أبي حمزة.
واعترضه سبطه في المدارك فقال بعد نقل ذلك : وهو احتجاج
ضعيف فإن إحداث القول في المسألة لا يتوقف على وجود القائل إذا لم ينعقد الإجماع
على خلافه ، كما بيناه مرارا. والرواية لا تنهض حجة لأن راويها علي بن أبي حمزة
وقال النجاشي : انه كان أحد عمد الواقفية. انتهى. وهو جيد بناء على أصولهم
المشتركة بين المورد والمورد عليه.
السابعة ـ المستفاد من ظاهر عبائرهم انه لو تكلف الممنوع
بأحد الأعذار المتقدمة الحج لم يجزئه عن حجة الإسلام ، لعدم تحقق الاستطاعة التي
هي شرط الوجوب ، فكان كما لو تكلفه الفقير.
وبذلك صرح في التذكرة حيث قال بعد ذكر الشرائط المشار
إليها آنفا : هذه الشرائط التي ذكرناها منها ما هو شرط في الصحة والوجوب وهو العقل
، لعدم الوجوب على المجنون وعدم الصحة منه ، ومنها ما هو شرط في الصحة دون الوجوب
وهو الإسلام. الى ان قال : ومنها ما هو شرط في الوجوب دون الصحة وهو البلوغ
والحرية والاستطاعة وإمكان السير ، لأن الصبي والمملوك ومن ليس معه زاد ولا راحلة
وليس بمخلى السرب ولا يمكنه المسير ، لو تكلفوا الحج لصح منهم وان لم يكن واجبا
عليهم ، ولا يجزئهم عن حجة الإسلام. انتهى.
وظاهر الشهيد في الدروس الفرق هنا بين الفقير وغيره ،
حيث قال ـ بعد ان ذكر انه لو حج فاقد الشرائط لم يجزئه ـ ما لفظه : وعندي لو تكلف
المريض والمعضوب والممنوع بالعدو وضيق الوقت أجزأ ، إلا ان ذلك من باب تحصيل
الشرط ، فإنه لا يجب ولو حصله وجب
وأجزأ. نعم لو ادى ذلك الى إضرار بالنفس يحرم إنزاله وقارن بعض المناسك احتمل عدم
الاجزاء.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وفي الفرق نظر.
والمتجه انه ان حصلت الاستطاعة الشرعية قبل التلبس بالإحرام ثبت الوجوب والاجزاء ،
لما بيناه من عدم اعتبار الاستطاعة من البلد ، وان حصل التلبس قبل تحقق الاستطاعة
انتفى الأمران معا ، سواء كان عدم الاستطاعة بعدم القدرة على تحصيل الزاد والراحلة
أو بالمرض المقتضى لسقوط الحج أو بخوف الطريق أو غير ذلك ، لان ما فعله لم يكن
واجبا فلا يجزئ عن الواجب ، كما لا يجزئ فعل الواجب الموقت قبل دخول وقته. انتهى.
أقول : لا يخفى ان شيخنا الشهيد قد أشار في كلامه الى
وجه الفرق بقوله : «إلا ان ذلك من باب تحصيل الشرط. الى آخره» وتوضيحه ان شرطية
إمكان السير التي هي عبارة عن الصحة وتخلية السرب ونحوهما كشرطية الزاد والراحلة
فلا يجب الحج بدون حصول ذلك ، ولا يجب تحصيل شيء من ذلك ، لما تقدم من عدم وجوب
تحصيل شرط الواجب المشروط ، لكن لو تكلف المكلف تحصيله وحصله وجب عليه الحج ، كما
صرحوا به في الزاد والراحلة من انهما لا يجب عليه تحصيلهما اما لو تكلفهما فحصلهما
وجب الحج ، فكذلك شرط إمكان السير فإنه لا يجب عليه تحصيله فلو تكلفه وخاطر بنفسه
وحصلت له السلامة وتمكن من الحج وجب عليه وأجزأه. وهو جيد.
ثم استثنى من ذلك ما لو ادى الى إضرار بالنفس وقارن بعض
المناسك ، على احتمال ، كما لو كان في أثناء الإحرام فتحمل المريض أو مدافع العدو
بما لا يجوز تحمله كما لو غلب على ظنه العطب ، فان ذلك يبنى على قاعدة اجتماع
الأمر والنهي في شيء واحد ، اما لو لم يكن كذلك فالاجزاء ثابت وان تحمل
تلك المشاق التي لا يجب عليه تحملها.
وإنما ذكر ذلك احتمالا ولم يجزم به ، لإمكان ان يقال :
ان النهي هنا انما هو عن وصف خارج عن النسك ، فلا يلزم اتحاد متعلق الأمر والنهي
الذي هو محل الاشكال.
وحينئذ فقول السيد (قدسسره) ـ بعد تنظره
في الفرق : «والمتجه انه ان حصلت الاستطاعة الشرعية. الى آخره» ـ خروج عن محل
البحث ، فان محل البحث انما هو بالنسبة إلى وجوب الحج على هذا البعيد من بلده وهذه
الشروط انما بنيت على ذلك ، وكلمات الأصحاب والاخبار قد اتفقت على ان وجوب الحج
عليه مشروط بهذه الشروط التي نحن في البحث عنها ، ومنها الزاد والراحلة والسلامة
من المرض والأمن في الطريق من العدو ونحوها ، وقد صرح الأصحاب ـ كما عرفت من كلام
التذكرة ـ بأنه لو تكلف الحج وخاطر بنفسه وتحمل المشقة التي لم يكلف بها ، فإنه
وان صح حجة إلا انه لا يجزئه عن حج الإسلام ، من حيث عدم حصول شرط الوجوب ، بعين
ما قالوه في المتسكع الذي لا يملك زادا ولا راحلة. وشيخنا الشهيد يقول بصحة الحج
واجزائه ويجعله من قبيل تكلف تحصيل الزاد والراحلة الغير الواجبين عليه لا من قبيل
المتسكع الغير المالك لهما.
بل ظاهر كلامه في المدارك يرجع الى ما ذكره شيخنا الشهيد
(قدسسره) فإنه متى كان
اعتبار الاستطاعة انما هو من الميقات فعلى هذا لو تحمل المشقة وارتكب الخطر الذي
لم يكلف به بل نهى عنه حتى وصل الميقات ، فإنه يجب عليه الحج ويجزئ عنه ، مع ان
الأصحاب لا يقولون بذلك كما عرفت من كلام التذكرة ، وهو ظاهر كلام غيره ايضا ، لما
صرحوا به في الزاد والراحلة اللذين هما من جملة الشرائط.
وما ذكره من عدم اعتبار الاستطاعة من البلد فإنما هو في
صورة ما لو اتفق له الوصول الى الميقات بأي نحو كان ، فإنه لا يشترط في حقه ملك
الزاد والراحلة في بلده كما ذكره الأصحاب ، لا بمعنى ان من كان بعيدا لا يمكنه
المسير إلا بهذه الشروط المذكورة فإن استطاعته انما تحصل باعتبار الميقات ، فإنه باطل
قطعا ، بل الاستطاعة في هذه الصورة مشترطة من البلد ، فان استطاع بحصول هذه
الشرائط الخمسة المعدودة وجب عليه الحج والمسير اليه وإلا فلا. نعم يحصل الشك هنا
في ان المتكلف للحج بالمشقة الموضوعة عنه في عدم إمكان المسير ، هل هو من قبيل
المتسكع الذي لم يملك زادا ولا راحلة فلا يجزئ عنه ، كما هو المفهوم من كلام
الأصحاب ، أو من قبيل تكلف تحصيل الزاد والراحلة وان لم يجب عليه تحصيلهما ، فحجة
يكون صحيحا مجزئا عن حجة الإسلام ، كما هو ظاهر شيخنا الشهيد؟ اشكال.
المقام الثاني ـ لا خلاف ـ نصا وفتوى ـ في ان أمن الطريق
من الخوف على النفس والبضع والمال شرط في وجوب الحج ، فلو خاف على نفسه من سبع أو
لص أو عدو لم يلزمه الحج في ذلك العام. ولهذا جاز التحلل من الإحرام بمثل ذلك ،
كما يأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ في باب الإحصار والصد. وقد تقدم في الاخبار ما يدل
على هذا الحكم كما في صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي المتقدمة (1) وغيرها
والكلام في المقام يقع في مواضع الأول ـ لو كان في
الطريق عدو لا يندفع الا بالمال فهل يسقط الحج وان أمكن تحمله أم يجب بذل المال مع
المكنة؟ قولان : أولهما للشيخ وجماعة ، وثانيهما للمحقق والعلامة ومن تأخر عنهما.
ونقل عن الشيخ الاحتجاج على ذلك بوجوه : منها ـ ان تخلية
السرب شرط في الوجوب ، وهو هنا منتف فينتفي المشروط.
__________________
(1) ص 80 و 129.
ومنها ـ ان المأخوذ على هذا الوجه ظلم فلا ينبغي الإعانة
عليه ، لتحريم الإعانة على الإثم.
ومنها ـ ان من خاف من أخذ المال قهرا لا يجب عليه الحج
وان قل المال ، وهذا في معناه.
والجواب عن الأول بمنع توقف الحج على تخلية السرب بهذا
المعنى ، بل القدر المعلوم من ظاهر الأخبار اشتراط تخليته بحيث يتمكن من المسير
بوجه لا يفضي الى شدة ومشقة شديدة عادة ، وهو حاصل هنا إذ المفروض اندفاع العدو
بالمال المقدور عليه ، وبعد تحقق الشرط يصير الوجوب مطلقا فتجب مقدماته كلها.
وعن الثاني انا لا نسلم ان المدفوع على هذا الوجه يصدق
عليه الإعانة على الإثم ، إذ لم يقصد بذلك سوى التوصل إلى الطاعة والتخلص من
العدو. ولانتقاضه بدفع المال الى الظالم لاستنقاذ المسلم من الهلكة. ولو تم ذلك
لاستلزم القول بتحريم الأسفار إلى التجارات وجملة الطاعات في كثير من الأعصار
والأمصار ، والجلوس في الأسواق ، والصناعات ، والزراعات ، ونحوها من ما جرت عادة
حكام الجور بأخذ شيء من المال على ذلك بدون استحقاق شرعي كالعشار ونحوه ، واللازم
باطل اتفاقا نصا وفتوى ، فالملزوم مثله.
وعن الثالث بمنع سقوط الحج (أولا) لعدم الدليل عليه.
ومنع المساواة (ثانيا) لوجود الفرق بين الأمرين ، فإن بذل المال بالاختيار على هذا
الوجه ليس فيه غضاضة ولا مشقة على النفس ، بخلاف أخذه قهرا فان فيه غضاضة زائدة
على أهل المروة.
وربما فرق بينهما بان الثابت في بذل المال اختيارا
الثواب الدائم وفي الأخذ قهرا العوض المنقطع. وفيه ان هذا لا يطرد كليا ، فان ترك
المال للص
وتعريضه له طلبا للتوصل الى فعل
الواجب يقتضي الثواب ايضا.
وبذلك يظهر ان الأظهر ما عليه جمهور أصحابنا المتأخرين
من وجوب دفع المال مع المكنة.
ولو بذل المال باذل فكشف العدو فلا إشكال في الوجوب
لتحقق الاستطاعة ، اما لو دفع المال اليه ليدفعه الى العدو فظاهر الأصحاب انه لا
يجب عليه القبول ، لان فيه تحصيلا لشرط الواجب المشروط ، وقد تقرر ان تحصيل شرط
الواجب المشروط غير واجب.
واستشكله في المدارك بان الشرط التمكن من الحج وهو حاصل
بمجرد البذل. وبان قوله عليهالسلام ـ (1) ـ : «من عرض
عليه ما يحج به فاستحى فهو ممن يستطيع الحج» ـ يتناول من عرض عليه ذلك ، قال : فلو
قيل بوجوب القبول والدفع لم يكن بعيدا. انتهى. وهو جيد.
الثاني ـ طريق البحر كطريق البر فيعتبر فيه ما يعتبر في
طريق البر من ظن السلامة ، فلو استويا في ذلك تخير أيهما شاء ، وان اختص أحدهما
بظن السلامة دون الآخر تعين السفر فيه ، ولو تساويا في رجحان العطب وظن عدم
السلامة سقط الحج في ذلك العام. وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ومثله سبطه
في المدارك الاكتفاء بمجرد عدم ترجيح العطب.
وبما قدمنا صرح المحقق في المعتبر والشرائع فقال : طريق
البحر كطريق البر يجب مع غلبة ظن السلامة. وبنحو ذلك عبر العلامة في المنتهى ، وهو
ظاهر كلام جملة من الأصحاب ، حيث انهم يشترطون أمن الطريق ، ومرجعه الى ظن الأمن.
وظاهر النص يساعده ، فان مرجع تخلية السرب المذكور في الاخبار
__________________
(1) هذا مضمون ما ورد في الوسائل
الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه.
إلى ظن ذلك ، وإلا فلو علم أو ظن عدم
التخلية فإنه لا يجب عليه الحج. ويظهر الخلاف في صورة الاشتباه وتساوى الأمرين ،
فيجب الحج على القول الثاني دون الأول.
قالوا : وإنما يسقط الحج مع الخوف إذا حصل في ابتداء
السير أو في أثنائه وكان الرجوع غير مخوف ، اما لو تساويا مع المقام في الخوف ،
احتمل ترجيح الذهاب لحصول المرجح فيه بالحج ، والسقوط كما لو حصل ابتداء لفقد
الشرط. قال السيد (قدسسره) في المدارك
بعد ذكر ذلك : ولعل الأول أقرب.
الثالث ـ لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في ان
المرأة كالرجل متى خافت على النفس أو البضع سقط الفرض عنها. ولو احتاجت الى محرم
وتعذر سقط الفرض ايضا ، لعدم حصول الاستطاعة بدونه.
وليس هو شرطا في وجوب الحج عليها مع الاستغناء عنه ،
اتفاقا نصا وفتوى
ومن الاخبار في ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح
عن صفوان الجمال (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : قد عرفتني
بعملي ، تأتيني المرأة أعرفها بإسلامها وحبها إياكم وولايتها لكم ليس لها محرم؟
قال : إذا جاءت المرأة المسلمة فاحملها ، فإن المؤمن محرم المؤمنة. ثم تلا هذه
الآية (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ) (2)».
وما رواه ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح عن سليمان بن
خالد عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) «في المرأة
تريد الحج ليس معها محرم هل يصلح لها الحج؟
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 58 من وجوب
الحج وشرائطه.
(2) سورة التوبة الآية 71.
فقال : نعم إذا كانت مأمونة».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن المرأة تحج
بغير ولي؟ فقال : لا بأس تخرج مع قوم ثقات».
وعن معاوية بن عمار بالسند المتقدم (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن المرأة تحج
بغير ولي؟ قال : لا بأس ، وان كان لها زوج أو أخ أو ابن أخ فأبوا أن يحجوا بها
وليس لهم سعة فلا ينبغي لها ان تقعد ، ولا ينبغي لهم ان يمنعوها». والمراد هنا ب «لا
ينبغي» أي لا يجوز ، كما هو شائع في الاخبار
الى غير ذلك من الاخبار.
ثم انه لو توقف حجها على المحرم اعتبر في استطاعتها ملك
الزاد والراحلة لها ولمحرمها إذا أجابها الى ذلك ، ولا تجب عليه الإجابة عندنا (3).
والمراد بالمحرم هنا الزوج ومن يحرم نكاحه مؤبدا بنسب أو
رضاع أو مصاهرة.
__________________
(1) الوسائل الباب 58 من وجوب الحج
وشرائطه. إلا انا لم نجده في التهذيب ، نعم رواه في الكافي ج 4 ص 282 ، والفقيه ج
2 ص 268 ، وفي الوافي باب (حج المرأة بدون اذن زوجها أو ذي محرم) نقله منهما فقط.
(2) الوسائل الباب 58 من وجوب الحج
وشرائطه عن التهذيب ج 5 ص 401 ، والكافي ج 4 ص 282. وما أورده (قدسسره) موافق لما في
الوسائل عن التهذيب في اللفظ ، إلا انه يختلف قليلا عن لفظ التهذيب كما انه يختلف
عن لفظ الكافي.
(3) قال في المغني ج 3 ص 240 : وهل
يلزمه إجابتها الى ذلك؟ فيه روايتان نص عليهما ، والصحيح انه لا يلزمه الحج معها ،
لان فيه مشقة. وفي بدائع الصنائع ج 2 ص 123 : فان امتنع الزوج أو المحرم عن الخروج
لا يجبران.
ولو طلب الأجرة والحال هذه وجب دفعها مع القدرة ، لكونها
جزء من الاستطاعة.
وليس لزوجها المنع من ذلك في الواجب ، لما تقدم في صحيحة
معاوية ابن عمار. ولما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن امرأة لم تحج ، ولها زوج وابى ان يأذن لها في الحج ، فغاب زوجها ، فهل لها ان
تحج؟ فقال : لا طاعة له عليها في حجة الإسلام».
ونحوها ما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن وهب (2) وفيها : «لا
طاعة له عليها في حجة الإسلام ولا كرامة ، لتحج ان شاءت».
نعم له المنع في المستحب ، لما رواه الشيخ في الموثق عن
إسحاق بن عمار عن ابي الحسن عليهالسلام (3) قال : «سألته
عن المرأة الموسرة قد حجت حجة الإسلام ، تقول لزوجها : أحجني من مالي. إله أن
يمنعها من ذلك؟ قال : نعم ، ويقول لها : حقي عليك أعظم من حقك علي في هذا».
ولو ادعى الزوج الخوف عليها أو عدم أمانتها وأنكرت ذلك ،
قالوا : عمل بشاهد الحال مع انتفاء البينة ، ومع فقدهما يقدم قولها.
وفي اعتبار اليمين وجهان ، من أصالة عدم سلطنته عليها في
ذلك ، ومن انها لو اعترفت لنفعه اعترافها. وقرب الشهيد في الدروس انتفاء اليمين ،
قال في
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 59 من وجوب
الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 59 من وجوب الحج
وشرائطه. والرواية للشيخ في التهذيب ج 5 ص 474 ، ولم يروها الصدوق ، وروى نحوها في
الكافي ج 4 ص 282 عن علي بن أبي حمزة ، كما في الوسائل في نفس الباب.
المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو أقرب.
وهل يملك الزوج والحال هذه منعها باطنا؟ قيل : نعم ،
لانه محق عند نفسه. واختاره في المسالك. وقيل : لا ، لتوجه الوجوب إليها ومخاطبتها
بالسفر شرعا لظنها السلامة. وقربه في المدارك.
أقول : لا إشكال في العمل بالبينة ان وجدت ، وكذا العمل
بشاهد الحال ، وتقديم قولها مع فقدهما ، لتوجه الخطاب إليها وظنها السلامة وهي
أعرف بحال نفسها ، وارتفاع سلطنة الزوج عنها. ومن هنا يظهر عدم توجه اليمين إليها.
واما ما احتج به على توجه اليمين عليها ـ من انها لو
اعترفت لنفعه اعترافها ـ فتقريره انه لو اعترفت بالخوف على البضع لنفع هذا
الاعتراف الزوج ، وكل ما لو اعترف به المنكر نفع المدعى تجب اليمين على عدمه على
تقدير الإنكار. هكذا قالوا. وفيه منع الكلية وان ذلك إنما هو في الحقوق المالية لا
في مطلق الدعاوي.
ويؤيد أيضا وجه عدم اليمين عليها انه لا يدعي عليها هنا
حقا حتى تتوجه اليمين عليها ، ومورد نصوص اليمين إنما هو ذلك.
واما الخلاف في انه هل له منعها باطنا أم لا؟ فالظاهر هو
ما اختاره في المدارك لما تقدم.
والمعتدة عدة رجعية في حكم الزوجة ، لأن للزوج الرجوع في
طلاقها والاستمتاع بها والحج يمنعه من ذلك ، وحينئذ فيجري فيها التفصيل المتقدم في
الزوجة.
ويدل على ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن
منصور بن حازم (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن المطلقة
تحج في عدتها؟ قال : ان كانت صرورة حجت في عدتها ، وان كانت قد حجت فلا تحج حتى
تقضى عدتها».
واما ما رواه في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد
الله عليهالسلام (2) ـ قال : «لا
تحج المطلقة في عدتها». ـ فهو محمول على الحج المندوب إلا بإذن الزوج.
واما المعتدة عدة بائنة فإنها في حكم الأجنبية ، فتحج
ندبا متى شاءت بغير خلاف في ما اعلم ، ولم أقف على رواية في ذلك ، إلا ان الظاهر
انه لا إشكال في الحكم المذكور ، لانقطاع سلطنته عليها وانقطاع العصمة بينهما
وصيرورته أجنبيا منها ، فيكون كسائر الأجانب.
وقد ورد في جواز الحج في عدة الوفاة روايات :
منها ـ موثقة داود بن الحصين عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) قال : «سألته
عن المتوفى عنها زوجها؟ قال : تحج وان كانت في عدتها».
وموثقة زرارة (4) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المرأة التي
يتوفى عنها زوجها أتحج؟ فقال : نعم».
المقام الثالث ـ لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم)
في اشتراط
__________________
(1) الوسائل الباب 60 من وجوب الحج
وشرائطه. والرواية للشيخ في التهذيب ج 5 ص 402 ، ولم يروها الصدوق.
(2) الوسائل الباب 60 من وجوب الحج
وشرائطه. والرواية للشيخ في التهذيب ج 5 ص 401.
(3 و 4) الوسائل الباب 61 من وجوب
الحج وشرائطه.
سعة الوقت في الوجوب ، وهو ان يتسع
لتحصيل الشروط والخروج ولحوق المناسك فلو حصلت الشرائط وقد ضاق الوقت عن لحوق
المناسك ـ بحيث لو شرع في المسير إلى مكة بالسير المعتاد الذي لا ضرر فيه ولا مشقة
لم يصل الى مكة ولم يدرك فيها المناسك ـ سقط الحج في ذلك العام وكان الوجوب مراعى
ببقاء الاستطاعة إلى العام القابل.
تنبيه
هل الاختتان شرط في صحة الحج؟ ظاهر بعض الأصحاب ذلك ،
قال الشيخ المفيد على ما نقله في المختلف : ومن أسلم فأراد الحج فلا يجوز له ذلك
حتى يختتن.
وقال أبو الصلاح على ما نقله عنه في الكتاب المذكور :
صحة الحج موقوفة على ثبوت الإسلام ، والعلم بتفصيل أحكام الحج وشروطه ، وتأديته
لوجهه الذي شرع له مخلصا لربه ، مع كون مؤدية مطهرا بالختانة. ثم بين الاشتراط. الى
ان قال : وكون الحاج أغلف لا يصح حجه بإجماع آل محمد صلىاللهعليهوآله.
وقال في المختلف بعد نقل ذلك عنه : وفي هذا الكلام إشكال
، فإن المروي انه لا يجوز ان يطوف الرجل وهو غير مختتن (1) فإن أخذه من
هذه الرواية من حيث ان بطلان طوافه يستلزم بطلان حجه أمكن ، لكن كلامه يوهم بطلان
حجه مطلقا ، ونحن نمنع ذلك ، فإنه لو لم يتمكن من التطهير صح حجه وطوافه ، فقوله
على الإطلاق ليس بجيد. مع ان ابن إدريس قال : لا يجوز للرجل ان يطوف بالبيت وهو
غير مختتن ، على ما روى أصحابنا في الاخبار. وهو يعطي توقفه في ذلك. انتهى.
__________________
(1) الوسائل الباب 33 من مقدمات
الطواف ، والباب 39 من الطواف.
أقول : قد روى المشايخ الثلاثة في الصحيح عن إبراهيم بن
ميمون ـ وهو غير موثق ـ عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) «في رجل يسلم
فيريد ان يختتن وقد حضر الحج ، أيحج أم يختتن؟ قال : لا يحج حتى يختتن».
وهي صريحة في ما تقدم نقله عن الشيخ المفيد وابي الصلاح
من عدم صحة الحج بدون الاختتان وان ضاق وقت الحج ، والظاهر ان شيخنا العلامة لم
يقف عليها وظن انحصار الدليل في روايات المنع من الطواف بدون الاختتان
ومثل هذه الرواية ما رواه في قرب الاسناد عن محمد بن عبد
الحميد وعبد الصمد بن محمد جميعا عن حنان بن سدير (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن نصراني
أسلم وحضر الحج ولم يكن اختتن ، أيحج قبل ان يختتن؟ قال : لا ولكن يبدأ بالسنة».
وينبغي ان يلحق بما تقدم من أبحاث هذا المقصد مسائل :
الاولى ـ لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في ما
أعلم في ان من مات بعد الإحرام ودخول الحرم برئت ذمته.
ويدل عليه ما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن بريد
العجلي (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل خرج
حاجا ومعه جمل له ونفقة وزاد فمات في الطريق؟ قال : ان كان صرورة ثم مات في الحرم
فقد أجزأت عنه
__________________
(1) الكافي ج 4 ص 281 ، والتهذيب ج 5
ص 125 و 469 ، والفقيه ج 2 ص 251 ، وفي الوسائل الباب 33 من مقدمات الطواف.
(2) الوسائل الباب 33 من مقدمات
الطواف.
(3) الكافي ج 4 ص 276 ، والتهذيب ج 5
ص 407 ، والفقيه ج 2 ص 269 ، وفي الوسائل الباب 26 من وجوب الحج وشرائطه. والمروي
عنه في الكافي والفقيه أبو جعفر عليهالسلام.
حجة الإسلام ، وان كان مات وهو صرورة
قبل ان يحرم جعل جملة وزاده ونفقته في حجة الإسلام ، فإن فضل من ذلك شيء فهو
للوراثة ان لم يكن عليه دين. قلت : أرأيت ان كانت الحجة تطوعا ثم مات في الطريق
قبل ان يحرم لمن يكون جمله ونفقته وما معه؟ قال : يكون جميع ما معه وما ترك للورثة
، إلا ان يكون عليه دين فيقضى عنه ، أو يكون أوصى بوصية فينفذ ذلك لمن اوصى له
ويجعل ذلك من ثلثه».
وفي الصحيح عن ضريس عن ابي جعفر عليهالسلام (1) «في رجل خرج حاجا
حجة الإسلام فمات في الطريق؟ فقال : ان مات في الحرم فقد أجزأت عنه حجة الإسلام ،
وان كان مات دون الحرم فليقض عنه وليه حجة الإسلام».
وصحيحة زرارة الآتية ان شاء الله تعالى في المحصور عن
ابي جعفر عليهالسلام (2) قال فيها : «قلت
: فان مات وهو محرم قبل ان ينتهي إلى مكة؟ قال : يحج عنه ان كانت حجة الإسلام
ويعتمر ، وإنما هو شيء عليه».
وروى الشيخ المفيد (قدسسره) في المقنعة
مرسلا (3) قال : قال
الصادق عليهالسلام : من خرج حاجا
فمات في الطريق ، فان كان مات في الحرم فقد سقطت عنه الحجة ، وان مات قبل دخول
الحرم لم يسقط عنه الحج ، وليقض عنه وليه.
وإطلاق الأخبار وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في ذلك
بين ان يقع التلبس بإحرام الحج أو العمرة ، ولا بين ان يموت في الحل أو الحرم ،
محرما أو محلا كما لو مات بين الإحرامين.
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 26 من وجوب
الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 26 من وجوب الحج
وشرائطه ، والباب 3 من الإحصار والصد.
اما لو مات بعد الإحرام وقبل دخول الحرم فالمشهور بين
الأصحاب وجوب القضاء عنه ، ونقل عن الشيخ في الخلاف وابن إدريس الاجتزاء به لمجرد
الإحرام. ولا اعرف لهذا القول دليلا.
قال في المختلف : احتج بان القصد التلبس وقد حصل
بالإحرام. ثم أجاب عنه بالمنع ، قال : بل المطلوب قصد البيت الحرام وإنما يحصل
بالدخول في الحرم.
وقال في المدارك : وربما أشعر به مفهوم قوله عليهالسلام في صحيحة بريد
(1) : «وان كان
مات وهو صرورة قبل ان يحرم جعل جمله وزاده ونفقته في حجة الإسلام». لكنه معارض
بمنطوق قوله عليهالسلام (2) : «وان كان
مات دون الحرم فليقض عنه وليه حجة الإسلام». انتهى.
أقول : وتعارضه أيضا صحيحة زرارة المذكورة والمرسلة
المنقولة من المقنعة.
واما ما احتمله في الذخيرة ـ من الجمع بين المفهوم
المذكور وبين منطوق صحيحة ضريس بالحمل على استحباب القضاء في الصورة المذكورة ،
حتى انه حمل الأمر بالحج عنه في صحيحة زرارة على الاستحباب ايضا ـ فبعيد لا يلتفت
اليه وهو من جملة تخريجاته البيعدة. والظاهر انه مبنى على ما يذهب اليه من عدم
صراحة الأوامر في الاخبار في الوجوب. وهو توهم ساقط.
وبالجملة فإن الأصح هو القول المشهور ، لان الواجب هو
الحج الذي هو عبارة عن جميع تلك المناسك ، فلا يخرج المكلف عن العهدة إلا بالإتيان
به كذلك ، قام الدليل على خروج هذه الصورة المتفق عليها بين الأصحاب للأخبار
المذكورة ، بقي ما عداها على حكم الأصل.
والعجب من ابن إدريس في اجتزائه بالإحرام هنا خاصة ، فإن
القول
__________________
(1) ص 149 و 150.
(2) في صحيح ضريس ص 150.
بالاجتزاء بالإحرام ودخول الحرم انما
ثبت من طريق الآحاد فهو غير جار على أصوله ، فكيف ما لم يرد به دليل بالكلية ، ولم
يقل به إلا الشيخ خاصة في الخلاف دون غيره من كتبه.
الثانية ـ لا خلاف بين الأصحاب في ان من استقر الحج في
ذمته فإنه يجب القضاء عنه لو مات ولم يحج.
والاخبار بذلك متكاثرة ، ومنها ـ صحيحة معاوية بن عمار (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يموت ولم يحج حجة الإسلام ويترك مالا؟ قال : عليه ان يحج من ماله رجلا صرورة لا
مال له».
وصحيحة محمد بن مسلم (2) قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن رجل مات
ولم يحج حجة الإسلام ، يحج عنه؟ قال : نعم».
وصحيحة رفاعة (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل يموت
ولم يحج حجة الإسلام ولم يوص بها ، أيقضى عنه؟ قال : نعم».
وموثقة سماعة بن مهران (4) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يموت
ولم يحج حجة الإسلام ولم يوص بها ، وهو موسر؟ فقال : يحج عنه من صلب ماله ، لا
يجوز غير ذلك».
الى غير ذلك من الاخبار التي من هذا القبيل.
وإنما وقع الخلاف في هذه المسألة في مقامين الأول ـ ما
به يتحقق الاستقرار ، فالأكثر على انه يتحقق بمضي زمان يمكن فيه الإتيان بجميع
أفعال الحج مستجمعا للشرائط.
قال العلامة في التذكرة : استقرار الحج في الذمة يحصل
بالإهمال بعد حصول الشرائط بأسرها ومضى زمان جميع أفعال الحج ، ويحتمل مضى زمان
يتمكن فيه من الإحرام ودخول الحرم.
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 28 من
وجوب الحج وشرائطه.
وأطلق المحقق في المعتبر والشرائع القول بتحققها
بالإهمال مع تحقق الشرائط. واعترضه في المسالك بأنه لا بد من تقييد الإهمال بكونه
واقعا في جميع المدة التي يمكن فيها استيفاء جميع أفعال الحج بأقل الواجب فلم
يفعل. وظاهر كلام الأكثر اعتبار مضى زمان يسع جميع الأفعال وان لم يكن ركنا
كالمبيت بمنى والرمي.
قال شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في المسالك :
ويمكن اعتبار زمان يمكن فيه تأدي الأركان خاصة ، وهو مضى جزء من يوم النحر يمكن
فيه الطوافان والسعي. واختاره في التذكرة والمهذب. ولو قلنا باستحباب أفعال منى
المتأخرة لم يعتبر قطعا. انتهى.
أقول : قد نقل هذا القول عن التذكرة أيضا سبطه في
المدارك ومثله الفاضل الخراساني في الذخيرة ، والظاهر انه وهم من شيخنا المذكور
وتبعه عليه من تبعه من غير مراجعة الكتاب المشار إليه ، فإن الموجود فيه ما حكيناه
أولا من ما هو موافق للقول المشهور. نعم هو ظاهر المهذب.
قال السيد السند في المدارك : وما وقفت عليه في هذه
المسألة من الاخبار خال من لفظ الاستقرار فضلا عن ما يتحقق به ، وإنما اعتبر
الأصحاب ذلك بناء على ان وجوب القضاء تابع لوجوب الأداء ، وإنما يتحقق وجوبه بمضي
زمان يمكن فيه الحج مستجمعا للشرائط. ويشكل بما بيناه مرارا من ان وجوب القضاء ليس
تابعا لوجوب الأداء. وبان المستفاد من كثير من الاخبار ترتب القضاء على عدم
الإتيان بالأداء مع توجه الخطاب به ظاهرا ، كما في صحيحتي بريد وضريس المتقدمتين (1) انتهى.
أقول : قد روى ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في كتابيه
في الموثق عن ابي بصير (2) قال : «سألته
عن امرأة مرضت في شهر رمضان وماتت في شوال
__________________
(1) ص 149 و 150.
(2) الوسائل الباب 23 من أحكام شهر
رمضان.
فأوصتني أن أقضي عنها؟ قال : هل برئت
من مرضها؟ قلت : لا ، ماتت فيه. فقال : لا تقض عنها فان الله لم يجعله عليها. قلت
: فإني اشتهي ان أقضي عنها وقد أوصتني بذلك؟ قال : كيف تقضي عنها شيئا لم يجعله
الله تعالى عليها؟. الحديث».
والمستفاد من هذا الخبر انه لا يجب القضاء إلا مع
استقرار الأداء واشتغال الذمة به. وفيه تأييد لما ذكره الأصحاب هنا من عدم وجوب
قضاء الحج إذا لم يمض زمان يمكن فيه الحج مستجمعا للشرائط.
ولا يلزم منه كون القضاء تابعا لوجوب الأداء ، بمعنى انه
غير متوقف على أمر جديد ، كما ذكره (قدسسره) لان مجرد
الأمر بالأداء لا يستلزم الأمر بالقضاء.
بل الوجه فيه إنما هو متى ورد الأمر بالقضاء ـ كالاحاديث
المتقدمة في وجوب قضاء الحج ، والأحاديث الواردة في وجوب قضاء الصلاة ، وهكذا في
قضاء الصوم ـ يجب ان يعتبر فيها حال فوات الأداء ، فإن فات على وجه استقر في الذمة
واشتغلت به وجب قضاؤه وإلا فلا ، فان هذه المرأة لما فاتها الصوم ولكن على وجه لم
يستقر في ذمتها لم يوجب (عليهالسلام) القضاء عنها.
وهكذا من فاتته الصلاة بإغماء أو جنون. وبعين ذلك يقال في الحج ، فإنه إذا فات على
وجه لم تشتغل الذمة به فإنه لا يجب قضاؤه ، ولا ريب ان من بادر الى الحج في عام
الاستطاعة ثم مات قبل الإحرام أو ذهبت استطاعته أو نحو ذلك ، فإنه لم تشتغل ذمته
بالحج وإلا للزم مثل ذلك في من مات في بلده قبل الخروج أيضا في أشهر الحج في عام
الاستطاعة.
وما ذكره ـ من ان المستفاد من الاخبار ترتب القضاء بمجرد
توجه
الخطاب كالروايتين المذكورتين ـ ففيه
انه عين النزاع في المسألة ، ولهذا ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) تأولوهما ، وقد
عرفت معارضة رواية أبي بصير لهما في ذلك. اللهم إلا ان يدعى اشتغال الذمة بالحج في
تلك الحال ليدخل تحت موثقة أبي بصير. ولا أظنه يلتزمه.
وبالجملة فإن القضاء عندنا مرتب على اشتغال الذمة
بالأداء ، فمتى لم تشتغل ذمته به لم يجب قضاؤه ، لقوله (عليهالسلام) في هذا الخبر
: «لا تقض عنها فان الله لم يجعله عليها» وقوله ثانيا : «كيف تقضي عنها شيئا لم
يجعله الله عليها؟» وهو صريح في ان القضاء لا يكون إلا عن شيء استقر في الذمة. وحينئذ
فيجب تخصيص إطلاق الأخبار المتقدمة ـ وكذا خبري بريد وضريس ـ بهذا الخبر.
ثم قال في المدارك : وقد قطع الأصحاب (رضوان الله عليهم)
بان من حصل له الشرائط فتخلف عن الرفقة ثم مات قبل حج الناس لا يجب القضاء عنه ،
لتبين عدم استقرار الحج في ذمته بظهور عدم الاستطاعة. وهو جيد ان ثبت ان وجوب
القضاء تابع لوجوب الأداء.
أقول : هذا موضع شك حيث ان ترك الحج لم يقع بعذر شرعي ،
فيمكن ان يكون بتعمده التأخير مع وجوب ذلك عليه يستقر الحج في ذمته وان لم يمض
الزمان الذي تقع فيه المناسك ، كما لو أفطر عمدا في شهر رمضان ثم سافر لإسقاط
الكفارة ورفع الإثم ، فإنه لا يوجب رفع الإثم ولا سقوط الكفارة.
وبالجملة فقياس هذه المسألة على مسائل حصول العذر الشرعي
ـ كالموت وفوات الاستطاعة بمجرد الاشتراك في انه ظهر بذلك عدم الاستطاعة واقعا ـ قياس
مع الفارق. والمسألة خالية من النص بجميع شقوقها فيجب الاحتياط فيها
الثاني ـ قد قطع المتأخرون بسقوط القضاء إذا لم تكن
الحجة مستقرة في
ذمته ، كما إذا كان خروجه في عام
الاستطاعة. وأطلق المفيد في المقنعة والشيخ في جملة من كتبه وجوب القضاء إذا مات قبل
دخول الحرم.
ولم أقف على من قال بهذا القول من المتأخرين سوى المحدث
الشيخ علي ابن سليمان البحراني (نور الله تعالى مرقده) فإنه قال في حاشيته على
النافع : ولا يحتاج في الاستقرار الذي يجب معه القضاء الى مضى زمان يمكن إتيان
أفعال الحج فيه كامل الشروط كما اعتبره بعضهم ، أو قدر ما يحرم فيه ويدخل الحرم
كما اعتبره بعض أصحابنا ، بناء منهم على ان القضاء فرع الأداء. ونحن لا نقول به بل
القضاء واجب على حده. والروايات ليس فيها أكثر من وجوبه على من مات ولم يحج حج
الإسلام. هذا إذا تيسر الحج للرفقة تلك السنة ، اما إذا لم يتيسر لهم بل صدهم
العدو أو ضاق الوقت ففات الحج فيحتمل ما قلناه أيضا ، لأنه مات وهو مخاطب بحج
ظاهر. ولدخوله في إطلاق الروايات. ويحتمل عدم الاستقرار ، لظهور ان هذه السنة لم
تكن سنة حج. والأول لا يخلو من قوة ، والذي قطع به الأصحاب الثاني. والله اعلم.
انتهى كلامه (زيد إكرامه).
أقول : وهو جيد لولا ورود موثقة أبي بصير التي قدمنا
ذكرها في المقام الأول (1) بالتقريب الذي
ذكرناه ذيلها.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عن الشيخين (طاب ثراهما) :
ولعلهما نظرا إلى إطلاق الأمر بالقضاء في الروايتين المتقدمتين. وأجيب عنهما
بالحمل على من استقر الحج في ذمته ، لان من خرج في عام الاستطاعة ثم مات في الطريق
تبين بموته عدم وجوب الحج عليه ، ومتى انتفى وجوب الأداء انتفى القضاء.
__________________
(1) ص 153.
وهو غير بعيد وان كان الإطلاق متجها
ايضا ، لما بيناه مرارا من ان القضاء قد يجب مع سقوط الأداء ، لأنه فرض مستأنف
فيتوقف على الدلالة خاصة. انتهى.
أقول : ظاهر كلامه هنا التردد في المسألة المذكورة ، مع
انه في الكلام الذي قدمنا نقله عنه في المقام الأول استشكل في كلام الأصحاب ،
وقولهم : ان وجوب القضاء تابع لوجوب الأداء. ورده بما ذكره من ان وجوب القضاء ليس
تابعا لوجوب الأداء.
وبالجملة فالتحقيق عندي في المسألة هو ما قدمنا بيانه.
المسألة الثالثة ـ المشهور بين الأصحاب انه لو حج المسلم
ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم تجب عليه الإعادة. وكذا المخالف إذا استبصر لا تجب
عليه الإعادة.
وقد وقع الخلاف هنا في الموضعين ، اما في المرتد فنقل عن
الشيخ القول بوجوب الإعادة بعد التردد في المسألة ، مستندا الى ان ارتداده يدل على
ان إسلامه أولا لم يكن إسلاما فلا يصح حجه.
قال في المعتبر بعد نقل ذلك عنه : وما ذكره (رحمهالله) بناء على
قاعدة باطلة قد بينا فسادها في الأصول.
ويدفعه صريحا قوله (عزوجل) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا) (1) حيث اثبت
الكفر بعد الايمان.
وربما استدل على وجوب الإعادة أيضا بقوله تعالى (وَمَنْ
يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (2).
ورد بأن الإحباط مشروط بالموافاة على الكفر ، كما يدل
عليه قوله (عز
__________________
(1) سورة النساء الآية 137.
(2) سورة المائدة الآية 5.
وجل) (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ
كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) (1).
وبالجملة فإنه قد اتى بالحج على الوجه المأمور به فيكون
مجزئا ، والقول بالإبطال والإعادة يحتاج الى دليل ، وليس فليس.
ويزيد ذلك بيانا ما رواه ثقة الإسلام في الكافي في
الصحيح عن محمد ابن مسلم عن ابي جعفر عليهالسلام (2) انه قال : «من
كان مؤمنا فعمل خيرا في إيمانه ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب بعد كفره ، كتب له
وحوسب بكل شيء كان عمله في إيمانه ، ولا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره».
وما رواه الشيخ في التهذيب عن زرارة عن ابي جعفر عليهالسلام (3) قال : «من كان
مؤمنا فحج وعمل في إيمانه ثم اصابته في إيمانه فتنة فكفر ثم تاب وآمن؟ قال : يحسب
له كل عمل صالح عمله في إيمانه ولا يبطل منه شيء».
ثم ان الشيخ في المبسوط فرع على ما ذكره مسألة أخرى أيضا
، فقال : وان أحرم ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام جاز ان يبنى عليه ، إلا على ما
استخرجناه في المسألة المتقدمة في قضاء الحج. وأشار بذلك الى ما قدمه من ان
ارتداده كاشف عن عدم الإسلام وان إسلامه ليس إسلاما. والذي عليه الأصحاب (رضوان
الله عليهم) هو صحة الإحرام هنا.
ثم انه (قدسسره) أورد على
نفسه انه يلزم على هذا القول ان المرتد لا يلزمه قضاء العبادات التي فاتته في حال
الارتداد ، لأنا إذا لم نحكم بإسلامه يكون كفره أصليا ، والكافر الأصلي لا يلزمه
قضاء ما فاته في الكفر.
__________________
(1) سورة البقرة الآية 216.
(2) الوسائل الباب 99 من جهاد النفس.
(3) الوسائل الباب 30 من مقدمة
العبادات.
أقول : جزاه الله (تعالى) عن المنازع له في هذه المسألة
أفضل الأجر والثواب حيث كفاه مؤنة الجواب في هذا الباب.
واما في المخالف فنقل عن ابن الجنيد وابن البراج انهما
حكما بوجوب الإعادة وان لم يخل بشيء ، والمشهور عند أصحابنا عدم الإعادة إلا ان
يخل بركن من أركان الحج.
والروايات بذلك متظافرة ، ومنها ـ صحيحة بريد بن معاوية
العجلي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل حج وهو
لا يعرف هذا الأمر ثم من الله (تعالى) عليه بمعرفته والدينونة به ، عليه حجة
الإسلام أو قد قضى فريضته؟ فقال : قد قضى فريضته ولو حج لكان أحب الي. قال :
وسألته عن رجل حج وهو في بعض هذه الأصناف من أهل القبلة ناصب متدين ثم من الله
عليه فعرف هذا الأمر ، يقضى حجة الإسلام؟ فقال : يقضي أحب الي. وقال : كل عمل عمله
وهو في حال نصبه وضلالته ثم من الله عليه وعرفه الولاية فإنه يؤجر عليه ، إلا
الزكاة فإنه يعيدها. لانه وضعها في غير مواضعها ، لأنها لأهل الولاية. واما الصلاة
والحج والصيام فليس عليه قضاء».
وصحيحة الفضلاء ـ أو حسنتهم على المشهور ـ عن ابي جعفر
وابي عبد الله (عليهماالسلام) (2) انهما قالا «في
الرجل يكون في بعض هذه الأهواء : الحرورية والمرجئة والعثمانية والقدرية ، ثم يتوب
ويعرف هذا الأمر ويحسن رأيه ، أيعيد كل صلاة صلاها أو صوم صامه أو زكاة أو حج ، أو
ليس عليه إعادة شيء من ذلك؟ قال : ليس عليه إعادة شيء من ذلك غير الزكاة لا بد
أن يؤديها. الحديث».
__________________
(1) الوسائل الباب 23 من وجوب الحج
وشرائطه ، والباب 31 من مقدمة العبادات ، والباب 3 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 3 من المستحقين
للزكاة.
وصحيحة ابن أذينة أو حسنته (1) قال : «كتبت
الي أبو عبد الله عليهالسلام :
ان كل عمل عمله الناصب في حال ضلاله أو حال نصبه ثم من
الله عليه وعرفه هذا الأمر فإنه يؤجر عليه ويكتب له إلا الزكاة. الحديث».
وصحيحة الأخرى أو حسنته (2) قال : «كتبت
الى ابي عبد الله عليهالسلام اسأله عن رجل
حج ولا يدري ولا يعرف هذا الأمر ثم من الله عليه بمعرفته والدينونة به ، أعليه حجة
الإسلام أو قد قضى فريضة الله؟ قال : قد قضى فريضة الله والحج أحب الي. وعن رجل
وهو في بعض هذه الأصناف من أهل القبلة ناصب متدين ثم من الله عليه فعرف هذا الأمر
، أيقضى عنه حجة الإسلام ، أو عليه ان يحج من قابل؟ قال : يحج أحب الي». هكذا رواه
ثقة الإسلام في الكافي (3) ورواه الصدوق (4) الى قوله : «والحج
أحب الي».
ورواية ابي عبد الله الخراساني عن ابي جعفر الثاني (عليهالسلام) (5) : قال : «قلت
له : اني حججت وانا مخالف ، وحججت حجتي هذه وقد من الله (تعالى) على بمعرفتكم
وعلمت ان الذي كنت فيه كان باطلا ، فما ترى في حجتي؟ قال : اجعل هذه حجة الإسلام
وتلك نافلة».
ووجه استثناء الزكاة في هذه الاخبار ان الزكاة حق مالي
للفقراء ، ومثلها
__________________
(1) الوسائل الباب 31 من مقدمة
العبادات ، والباب 3 من المستحقين للزكاة.
(2) التهذيب ج 5 ص 10 ، وفي الوسائل
الباب 23 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) ج 4 ص 275.
(4) في الفقيه ج 2 ص 263.
(5) الوسائل الباب 23 من وجوب الحج
وشرائطه.
الخمس ، فلا يحصل
العفو به ، بخلاف غيرهما من العبادات فإنه حق لله (عزوجل) وقد تفضل الله به عليهم
لما دانوا بالولاية.
قيل : وربما كان مستند ابن الجنيد وابن البراج الأخبار
الدالة على بطلان عبادة المخالف (1) كما سيأتي بعض منها في المقام ان شاء
الله تعالى.
وما رواه الشيخ عن ابي بصير عن ابي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «لو ان
رجلا معسرا أحجه رجل كانت له حجة ، فان أيسر بعد ذلك كان عليه الحج. وكذلك الناصب
إذا عرف فعليه الحج وان كان قد حج».
أقول : ومثلها رواية علي بن مهزيار (3) قال : «كتب
إبراهيم بن محمد ابن عمران الهمداني الى ابي جعفر عليهالسلام : اني حججت
وانا مخالف وكنت صرورة فدخلت متمتعا بالعمرة إلى الحج؟ قال : فكتب إليه : أعد حجك».
والجواب عن ذلك ظاهر من الاخبار المتقدمة ، اما الاخبار
الدالة على بطلان عبادة المخالف فهي مسلمة ، ولكن هذه الأخبار قد دلت على تفضل
الله (تعالى) عليه بقبول ذلك كالصلاة والصيام ، لدخوله في الايمان. واما الروايتان
المذكورتان فإنك قد عرفت تكرر الأمر بالإعادة في تلك الاخبار وانه الأحب إليهم (عليهمالسلام) حتى انه عليهالسلام في الرواية
الأخيرة أمر بأن يجعل الأخيرة حجة الإسلام والأولى نافلة ، تأكيدا لاستحبابها
والحث عليها.
وينبغي التنبيه في هذه المسألة على أمور :
الأول ـ قال السيد السند (قدسسره) في المدارك :
اعتبر الشيخ وأكثر
__________________
(1) الوسائل الباب 29 من مقدمة
العبادات.
(2) الوسائل الباب 31 من مقدمة
العبادات ، والباب 21 و 23 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 31 من مقدمة
العبادات ، والباب 23 من وجوب الحج وشرائطه.
الأصحاب في عدم اعادة المخالف الحج ان
لا يكون قد أخل بركن منه ، والنصوص خالية من هذا القيد ، ونص المصنف في المعتبر ـ والعلامة
في المنتهى والشهيد في الدروس ـ على ان المراد بالركن ما يعتقده أهل الحق ركنا لا
ما يعتقده الضال تدينا ، مع انهم صرحوا في قضاء الصلاة بأن المخالف يسقط عنه قضاء
ما صلاه صحيحا عنده وان كان فاسدا عندنا. وفي الجمع بين الحكمين اشكال. ولو فسر
الركن بما كان ركنا عندهم كان أقرب الى الصواب ، لان مقتضى النصوص ان من حج من أهل
الخلاف لا تجب عليه الإعادة ، ومن اتى منهم بحج فاسد عندهم كان كمن لم يأت بالحج.
ومن هنا يظهر انه لا فرق في الاجزاء بين ان يوافق فعله النوع الواجب عندنا كالتمتع
وقسيميه أولا. انتهى. وهو جيد.
إلا ان مقتضى صدر كلامه ان تقييد الشيخ وأكثر الأصحاب ـ عدم
الإعادة بان لا يكون قد أخل بركن ـ ليس في محله ، بل الأظهر العمل بإطلاق الاخبار
وهو عدم الإعادة وان أخل بركن. وهو باطل كما صرح به في آخر كلامه من ان من اتى بحج
فاسد عندهم كان كمن لم يأت بالحج. وحينئذ فلا بد من تقييد الأخبار المذكورة كما
ذكره الشيخ والأكثر. نعم ما نقله عن المعتبر والمنتهى والدروس ـ من ان المراد
بالركن ما يعتقده أهل الحق ركنا ـ ليس بجيد لما ذكره ، وإطلاق الاخبار المذكورة
أعم منه.
الثاني ـ قال (قدسسره) : إطلاق
العبارة وغيرها يقتضي عدم الفرق في المخالف بين من حكم بكفره ـ كالناصب ـ وغيره.
وهو كذلك ، وقد وقع التصريح في صحيحة بريد (1) بعدم اعادة الناصب ، وفي صحيحة
الفضلاء (2) بعدم إعادة
الحرورية ، وهم كفار لأنهم خوارج. انتهى.
أقول : لما كان الناصب عند متأخري أصحابنا (رضوان الله
عليهم) عبارة عن من أظهر العداوة لأهل البيت (عليهمالسلام) وهو محكوم
بكفره
__________________
(1 و 2) ص 159.
عندهم ـ فهو أخص من مطلق المخالف ،
والمخالف الغير الناصب عندهم من المسلمين المحكوم بإجراء أحكام الإسلام عليهم ـ أشار
(قدسسره) الى ان
الاخبار الواردة بعدم الإعادة شاملة للفردين المذكورين ، وان المراد بالناصب في
رواية بريد هو هذا الفرد المذكور.
أقول : والتحقيق المستفاد من اخبار أهل البيت (عليهمالسلام) ـ كما
أوضحناه بما لا مزيد عليه في كتاب الشهاب الثاقب ـ ان جميع المخالفين العارفين
بالإمامة والمنكرين القول بها كلهم نصاب وكفار ومشركون ليس لهم في الإسلام ولا في
أحكامه حظ ولا نصيب ، وإنما المسلم منهم هو الغير العارف بالإمامة ، وهم في الصدر
الأول من زمان الأئمة (عليهمالسلام) أكثر كثير ،
ويعبر عنهم في الاخبار بأهل الضلال وغير العارف والمستضعف. ومن الاخبار الواردة
بهذا الفرد توهم متأخرو أصحابنا الحكم بإسلام المخالف الغير المعلن بالعداوة.
والحكم بعدم الإعادة هنا شامل لهذين الفردين ، والى الفرد الأول يشير في صحيحة
بريد السؤال الأول وهو قوله : «رجل حج وهو لا يعرف هذا الأمر» والى الفرد الثاني
السؤال الثاني وهو قوله : «قال : وسألته عن رجل وهو في بعض هذه الأصناف. الى آخره»
ومثلها صحيحة ابن أذينة الثانية برواية الكليني (1) ومن أحب
الوقوف على صحة ما ذكرناه فليرجع الى كتابنا المذكور.
ويأتي على ما ذكروه خلو الاخبار عن المخالف الغير الناصب
، لأنها ـ كما قدمناها ـ إنما اشتملت على فردين : الناصب ومن لا يعرف ، والمراد
بمن لا يعرف إنما هو المعبر عنه بالمستضعف في الاخبار وأهل الضلال ، وهو غير مراد
في كلامهم ، وحينئذ فلو حمل الناصب على المخالف المظهر للعداوة ـ كما يدعونه ـ للزم
ما ذكرناه.
وبالجملة فإن المستفاد من الأخبار ـ كما أوضحناه في
الكتاب المتقدم ـ ان
__________________
(1) ص 160.
الناس في زمانهم (عليهمالسلام) ثلاثة أقسام
: مؤمن وهو من أقر بالإمامة ، وناصب كافر وهو من أنكرها ، ومن لم يعرف ولم ينكر
وهم أكثر الناس في ذلك الزمان ، ويعبر عنه بالمستضعف والضال.
الثالث ـ الظاهر ـ كما استظهره في المدارك ـ ان الحكم
بعدم وجوب الإعادة في الروايات المتقدمة إنما وقع تفضلا من الله تعالى ، لقيام
الأخبار الصحيحة الصريحة على بطلان اعمال المخالفين وان كانت مستكملة لشرائط الصحة
واقعا فضلا عن شرائط مذهبهم.
ومن الاخبار في ذلك صحيحة أبي حمزة (1) قال : «قال
لنا على بن الحسين عليهالسلام : اي البقاع
أفضل؟ فقلنا : الله ورسوله وابن رسوله اعلم فقال لنا : ان أفضل البقاع ما بين
الركن والمقام ، ولو ان رجلا عمر ما عمر نوح عليهالسلام في قومه ألف
سنة إلا خمسين عاما ، يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ثم لقي الله (تعالى)
بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا».
وصحيحة محمد بن مسلم (2) قال : «سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : كل من
دان الله (عزوجل) بعبادة يجهد فيها نفسه ولا امام له من الله فسعيه غير مقبول ،
وهو ضال متحير ، والله شانئ لأعماله ، ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها فهجمت
ذاهبة وجائية يومها ، فلما جنها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها فحنت إليها واغترت
بها فباتت معها في مربضها ، فلما ان ساق الراعي قطيعة أنكرت راعيها وقطيعها ،
فهجمت متحيرة تطلب راعيها وقطيعها ، فبصرت بغنم مع راعيها فحنت إليها واغترت بها ،
فصاح بها الراعي الحقي
__________________
(1) الوسائل الباب 29 من مقدمة
العبادات.
(2) الكافي ج 1 ص 183 ، وفي الوسائل
الباب 29 من مقدمة العبادات.
براعيك وقطيعك فإنك تائهة متحيرة عن
راعيك وقطيعك ، فهجمت ذعرة متحيرة تائهة لا راعي لها يرشدها الى مرعاها أو يردها ،
فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها. وكذلك ـ والله يا محمد ـ من أصبح من
هذه الأمة لا امام له من الله (تعالى) ظاهر عادل أصبح ضالا تائها ، وان مات على
هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق. واعلم يا محمد ان أئمة الجور واتباعهم لمعزولون عن
دين الله قد ضلوا وأضلوا ، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم
عاصف لا يقدرون من ما كسبوا على شيء ، ذلك هو الضلال البعيد (1)».
ورواية أبي إسحاق الليثي المروية في أمالي الشيخ وفي
كتاب العلل عن الباقر عليهالسلام (2) وفيها : «قد
سألتني عن المؤمنين من شيعة مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام وعن زهاد
الناصبة وعبادهم. من ههنا قال الله (عزوجل) (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً
مَنْثُوراً) (3) ومن هنا قال
الله (عزوجل) (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ، تَصْلى ناراً حامِيَةً ، تُسْقى مِنْ
عَيْنٍ آنِيَةٍ) (4) ثم ساق الكلام
الى ان قال
__________________
(1) اقتباس من الآية 18 في سورة
إبراهيم : «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ ...».
(2) لم أجده في أمالي الشيخ ، وأورده
في العلل ص 606 الطبع الحديث ، إلا ان اللفظ يوافق ما أورده في البحار كتاب
الايمان والكفر ج 1 ص 28 من الطبع القديم وج 67 ص 102 الى 108 من الطبع الحديث ،
حيث قال : وجدت في بعض الكتب مرويا. ثم أورد الحديث بتمامه ، ثم قال : بيان ـ قد
مر هذا الخبر نقلا من العلل مع اختلاف ما وزيادة ونقص.
(3) سورة الفرقان الآية 23.
(4) سورة الغاشية الآية 3 و 4 و 5.
عليهالسلام : قال الله (تعالى)
(إِنْ هُمْ إِلّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (1) ما رضى الله
ان يشبههم بالحمير والبقر والكلاب والدواب حتى زادهم فقال «بَلْ
هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» يا إبراهيم قال الله (عزوجل) في
أعدائنا الناصبة (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً
مَنْثُوراً) (2) وقال (عزوجل) (يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (3) وقال (عزوجل) (يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (4) وقال (عزوجل) (أَعْمالُهُمْ
كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئاً) (5). الحديث» وهو
صريح في ان جميع المخالفين نصاب كفار مبغضون لأهل البيت (عليهمالسلام).
وروى في الكافي عن الصادق عليهالسلام (6) قال : «لا
يبالي الناصب صلى أم زنى».
وروى النجاشي في كتاب الرجال (7) في ترجمة محمد
بن الحسن بن شمون بسنده اليه قال : ورد داود الرقي البصرة بعقب اجتياز ابي الحسن
موسى عليهالسلام في سنة تسع
وسبعين ومائة فصار بي أبي اليه وسأله عنهما فقال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : سواء
على الناصب صلى أم زنى.
وقد نظم ذلك جملة من أصحابنا : منهم ـ شيخنا أبو الحسن
الشيخ سليمان ابن عبد الله البحراني (قدس الله تعالى سره) فقال :
خلع النواصب ربقة الإيمان |
|
فصلاتهم وزناؤهم سيان |
قد جاء ذا في واضح الآثار عن |
|
آل النبي الصفوة الأعيان |
__________________
(1) سورة الفرقان الآية 44.
(2) سورة الفرقان الآية 23.
(3) سورة الكهف الآية 104.
(4) سورة المجادلة الآية 18.
(5) سورة النور الآية 39.
(6) الروضة ص 160.
(7) ص 258 و 259 طبع مطبعة المصطفوي.
وقال الخليفة الناصر العباسي (1) :
قسما ببكة والحطيم وزمزم |
|
والراقصات وسعيهن إلى منى |
بغض الوصي علامة مكتوبة |
|
كتبت على جبهات أولاد الزنى |
من لم يوال في البرية حيدرا |
|
سيان عند الله صلى أو زنى |
الى غير ذلك من الاخبار التي يطول بنقلها الكلام.
وبذلك يظهر ضعف ما ذكره العلامة في المختلف على ما نقله
عنه في المدارك حيث قال : وقال العلامة في المختلف : ان سقوط الإعادة إنما هو
لتحقق الامتثال بالفعل المتقدم ، إذ المفروض عدم الإخلال بركن منه ، والايمان ليس
شرطا في صحة العبادة. ثم اعترض عليه بأنه فاسد ، ورده بالأخبار التي قدمناها.
__________________
(1) نسب الأبيات ـ في النصائح الكافية ص 99 طبع النجف ـ اليه
بنحو القطع كما في المتن ، وفي أعيان الشيعة ج 8 ص 33 والكنى والألقاب ج 3 ص 202
هكذا : ومن ما ينسب الى الناصر. الى آخره. وذكر ابن شهرآشوب في المناقب ج 3 ص 11
البيتين الأخيرين بتغيير يسير ولم ينسبهما الى أحد. ومن المعلوم ان ابن شهرآشوب
كان من معاصري الناصر فإنه توفي سنة 588 وقد بويع للناصر سنه 575 ودامت خلافته
سبعا وأربعين سنة وتوفي 622. وقد نسب إليه ـ في النصائح الكافية عقيب هذه الأبيات
ـ الأبيات التالية :
لو ان عبدا اتى بالصالحات غدا |
|
وود كل نبي مرسل وولي |
وعاش ما عاش آلافا مؤلفة |
|
خلوا من الذنب معصوما من الزلل |
وقام ما قام قواما بلا كسل |
|
وصام ما صام صواما بلا ملل |
وطار في الجو لا يأوي إلى حلل |
|
وغاص في البحر لا يخشى من البلل |
فليس ذلك يوم البعث ينفعه |
|
إلا بحب أمير المؤمنين علي |
أقول : لم أقف على هذه العبارة التي نقلها في المدارك في
المختلف في هذه المسألة ، نعم ـ بعد ان نقل احتجاج ابن الجنيد وابن البراج بان
الايمان شرط العبادة ولم يحصل ـ : أجاب عن ذلك بالمنع من كون الايمان شرطا في
العبادة. فلعل السيد نظر الى ما يلزم من هذه العبارة وهو ما ذكره. وفيه بعد ويحتمل
ان يكون في موضع آخر غير موضع المسألة.
وكيف كان فينبغي ان يعلم ان القول بصحة اعمال المخالفين
ليس مختصا بالعلامة في هذا الكتاب ، كما ربما يوهمه ظاهر تخصيص النقل عنه بذلك. بل
هذا القول هو المشهور بين المتأخرين ، كما صرح به الشهيد في الدروس حيث قال : واختلف
في اشتراط الايمان في الصحة والمشهور عدم اشتراطه.
ويرد عليه ـ زيادة على ما ذكرنا ـ ان الواجب عليهم ان
يحكموا بدخول المخالفين الجنة ، لأنهم متفقون على وجوب الجزاء على الله (تعالى)
كما دلت عليه ظواهر الآيات القرآنية ، وحينئذ فمتى كانت أعمالهم صحيحة وجب الجزاء
عليها في الآخرة ، فيلزم دخولهم الجنة. مع ان جملة منهم صرحوا بان الحكم بإسلامهم
إنما هو باعتبار إجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا من الطهارة والمناكحة
والموارثة وحقن المال والدم ، واما في الآخرة فإنهم من المخلدين في النار.
وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام لا يخلو عن مجازفة
ناشئة عن عدم تتبع الأدلة والتأمل فيها كما هو حقها.
الرابع ـ قال شيخنا الشهيد (قدسسره) في الدروس :
ولو حج المحق حج غيره ففي الإجزاء تردد ، من التفريط ، وامتناع تكليف الغافل. مع
مساواته المخالف في الشبهة.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : أقول : لا يخفى ضعف
الوجه
الثاني من وجهي التردد ، لأن إيجاب
الإعادة بعد العلم لا يستلزم تكليف الغافل. والحاقه بالمخالف قياس مع الفارق.
والأصح اختصاص الحكم بالمخالف ، واعتبار استجماع الشرائط المعتبرة في غيره ، لعدم
تحقق الامتثال بدونه. انتهى.
أقول : لا يخفى ان مراد شيخنا المذكور (قدسسره) من هذا
الكلام إنما هو بالنسبة إلى أصل الحج الواقع من المكلف ، بان يكون من أهل الحق وقد
حج حج المخالفين جاهلا بحج الشيعة وكيفيته ، فهل يحكم ببطلانه بناء على عدم
معذورية الجاهل ، لتفريطه بالإخلال بعدم تعلم الأحكام الشرعية ، أو يحكم بصحته
بناء على انه غافل ويمتنع تكليف الغافل ، لأن الأوامر والنواهي الشرعية إنما تتوجه
الى العالم؟ ومرجع ذلك الى معذورية الجاهل ـ كما وقع الحكم به في جملة من أحكام
الحج ـ وعدمها. وحينئذ فقول السيد (قدسسره) ـ انه لا
يخفى ضعف الوجه الثاني. ثم ذكر في بيان ضعفه : ان إيجاب الإعادة بعد العلم لا
يستلزم تكليف الغافل ـ خروج عن محل المسألة ، إذ الكلام إنما هو بالنسبة إلى أصل
الحج لا الإعادة ، ولا ريب انه متى كان الفعل صحيحا ـ بناء على معذورية الجاهل كما
ذكره شيخنا المذكور ـ فإنه لا إعادة البتة.
نعم يبقى الكلام في انه لو كان حج المخالفين مستلزما
لترك شيء من الأركان عند أهل الحق ـ وهذا المحق قد حج حجهم وترك بعض الأركان ،
والحال انه لا عذر في ترك الركن ، كما هو ظاهر الأصحاب من الحكم ببطلان الحج بترك
بعض أركانه عمدا وجهلا ـ فالحكم بالصحة مشكل.
وكيف كان فتفريع هذه المسألة على ما نحن فيه ـ بناء على
ما عرفت من بطلان عبادة المخالف ، وان عدم الإعادة عليه بعد دخوله في الايمان إنما
هو تفضل من الله (عزوجل) لا لصحة عبادته ، وان المحق يجب عليه الإتيان بالعبادة
على وجهها فمتى أخل بذلك عمدا وجب عليه الإعادة ـ ليس في محله.
نعم يفرق بين ما يعذر فيه وبين ما لا
يعذر فيه.
واما ما أشار إليه شيخنا المتقدم في آخر كلامه ـ من مساواته
للمخالف في الشبهة ، إشارة إلى الوجه في صحة إعمال المخالفين كما قدمنا نقله عنه ،
وبيانا للعذر لهم في الخروج عن الدين المبين ، وبذلك ايضا صرح المحدث الكاشاني في
المفاتيح في مسألة العدالة تبعا لشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ـ فقد أشبعنا
الكلام في رده وإبطاله في باب صلاة الجمعة من شرحنا على كتاب المدارك.
وليت شعري إذا كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
قد اتفقت على وجوب الرجوع الى أهل البيت (عليهمالسلام) وأخذ الأحكام
منهم ـ ولا سيما قوله صلىاللهعليهوآله (1) : «اني تارك
فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي. ـ وفي بعض طرق هذا الخبر (2) خليفتين ـ لن
تضلوا ما ان تمسكتم بهما ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض». وقوله صلىاللهعليهوآله (3) : «أهل بيتي
كسفينة نوح عليهالسلام من ركبها نجا
ومن تخلف عنها غرق». وهما مرويان من طريق الجمهور بطرق عديدة وقد اعترف جملة من
علمائهم بمضمونهما ، كما أوضحنا ذلك في سلاسل الحديد في تقييد ابن ابي الحديد ،
وحديث الغدير المروي متواترا من طرق القوم (4) وأمثال ذلك ـ فأي شبهة بعد هذه
الاخبار وأمثالها؟
__________________
(1 و 2) ارجع الى كتاب فضائل الخمسة
من الصحاح الستة ج 2 ص 43 الى 52 فإنه ذكر الحديث بألفاظه ومصادره.
(3) ارجع الى كتاب فضائل الخمسة من
الصحاح الستة ج 2 ص 56 الى 58 فإنه ذكر الحديث بألفاظه ومصادره.
(4) ارجع الى كتاب الغدير ج 1 ص 14
الى 151 وص 294 الى 313 الطبعة الثانية.
ولكن القوم إنما قابلوا بالعناد وتمسكوا بالعصبية
واللداد ، كما يوضحه تصريح جملة من أساطين علمائهم ـ منهم الغزالي والزمخشري
وغيرهما ـ بمخالفتهم السنن النبوية لكون الشيعة يعملون بها ، كمسألة تسنيم القبور
ـ قال الغزالي (1) : «ان السنة
هو التسطيح ولكن عدلنا عنه الى التسنيم مراغمة للرافضة» ـ والتختم باليمين ،
واضافة آل النبي صلىاللهعليهوآله إليه في
الصلاة عليه (صلى الله عليه وعليهم) والتكبير على الجنازة ، ونحو ذلك من ما
أوضحناه في كتابنا المشار اليه ، فإذا كان هذا اعتراف علمائهم فأي شبهة لهم في
الخروج عن الدين حتى يعتذر به أصحابنا عنهم وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام وقع
غفلة عن تدبر الاخبار والنظر فيها بعين الاعتبار ، كما أوضحناه في شرحنا على
المدارك في البحث مع المحدث الكاشاني.
المسألة الرابعة ـ قد اختلفت الاخبار في أفضلية المشي
على الركوب وبالعكس. فمن ما يدل على الأول
صحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «ما عبد
الله (تعالى) بشيء أشد من المشي ولا أفضل».
وصحيحة الحلبي (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن فضل المشي
فقال :
__________________
(1) الوجيز ج 1 ص 47 باختلاف في اللفظ
، ومثله في كتاب رحمة الأمة على هامش الميزان للشعراني ج 1 ص 88 ، وقد قدمنا
كلامهم في ذلك في التعليقة (1) ص 124 ج 4 من الحدائق. وقد ذكر الحجة المقرم في
مقتل الحسين عليهالسلام ص 443 من
الطبعة الثانية الموارد التي صرح القوم بمخالفة السنة فيها لأنها أصبحت شعارا
للرافضة.
(2) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج
وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 52 من الصدقة ،
والباب 32 من وجوب الحج وشرائطه.
ان الحسن بن علي (عليهماالسلام) قاسم ربه
ثلاث مرات ، حتى نعلا ونعلا وثوبا وثوبا ودينارا ودينارا ، وحج عشرين حجة
ماشيا على قدميه».
وعن محمد بن إسماعيل بن رجاء الزبيدي عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «ما عبد
الله بشيء أفضل من المشي».
وقال في الفقيه (2) : روى انه ما تقرب العبد الى الله (عزوجل)
بشيء أحب إليه من المشي إلى بيته الحرام على المتقدمين ، وان الحجة الواحدة تعدل
سبعين حجة. الحديث.
وروى في ثواب الأعمال (3) بسنده عن الربيع
بن محمد المسلي عن رجل عن ابي عبد الله عليهالسلام قال : «ما عبد
الله بشيء مثل الصمت والمشي إلى بيته». ومثله في الخصال (4) عن ابي الربيع
الشامي عنه عليهالسلام.
وروى في الكافي عن أبي أسامة عن ابي عبد الله عليهالسلام (5) قال : «خرج
الحسن بن علي (عليهماالسلام) الى مكة سنة
ماشيا فورمت قدماه ، فقال له بعض مواليه : لو ركبت لسكن عنك هذا الورم. فقال : كلا
إذا أتينا هذا المنزل فإنه يستقبلك اسود ومعه دهن فاشتر منه ولا تماكسه. الحديث». وفيه
: انه وجد الأسود واشترى منه.
وروى البرقي في المحاسن (6) عن ابي المنكدر
عن ابى جعفر عليهالسلام قال : قال ابن
عباس : ما ندمت على شيء صنعت ندمي على ان لم أحج ماشيا ، لأني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : من حج
بيت الله ماشيا كتب الله له سبعة آلاف حسنة من حسنات الحرم. قيل : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله وما حسنات الحرم؟
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6) الوسائل
الباب 32 من وجوب الحج وشرائطه.
قال : الحسنة بألف ألف حسنة. وقال :
فضل المشاة في الحج كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم. وكان الحسين بن علي (عليهماالسلام) يمشي إلى
الحج ودابته تقاد وراءه.
واما ما يدل على الثاني فصحيحة رفاعة وابن بكير عن ابى
عبد الله عليهالسلام (1) «انه سئل عن
الحج ماشيا أفضل أو راكبا؟ قال : بل راكبا ، فان رسول الله صلىاللهعليهوآله حج راكبا».
وروى الكليني عن رفاعة في الصحيح (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن مشي الحسن عليهالسلام من مكة أو من
المدينة؟ قال : من مكة. وسألته : إذا زرت البيت أركب أو أمشي؟ فقال : كان الحسن عليهالسلام يزور راكبا. وسألته
عن الركوب أفضل أو المشي؟ فقال : الركوب. قلت : الركوب أفضل من المشي؟ فقال : نعم
، لان رسول الله صلىاللهعليهوآله ركب».
وظاهر هذا الخبر ان مشي الحسن (عليهالسلام) المذكور في
الاخبار انما كان من مكة إلى منى وعرفات ، فان معنى سؤال السائل : ان مشيه (عليهالسلام) هل كان من
خروجه من المدينة قاصدا إلى مكة ، أو من مكة في قصده الى عرفات ومنى؟ فأجاب بان
ذلك انما هو من مكة. إلا ان حديث أبي أسامة المتقدم ظاهر المنافاة لذلك ، ومثله موثقة
عبد الله بن بكير الآتية (3). وقوله : «إذا
زرت البيت أركب أو أمشي؟». يعنى : من منى الى مكة لطواف الزيارة.
وروى الشيخ في الموثق أو الحسن عن رفاعة (4) قال : «سأل
أبا عبد الله
__________________
(1 و 4) الوسائل الباب 33 من وجوب
الحج وشرائطه.
(2) الكافي ج 4 ص 456 ، وفي الوسائل
الباب 33 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) ص 174.
(عليهالسلام) رجل : الركوب
أفضل أم المشي؟ فقال : الركوب أفضل من المشي لأن رسول الله صلىاللهعليهوآله ركب».
وروى في الكافي في الموثق عن عبد الله بن بكير (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : انا نريد ان
نخرج إلى مكة مشاة؟ فقال لنا : لا تمشوا واخرجوا ركبانا. قلت : أصلحك الله (تعالى)
انه بلغنا عن الحسن بن علي (صلوات الله عليهما) انه كان يحج ماشيا؟ فقال : كان
الحسن بن علي (عليهماالسلام) يحج ماشيا
وتساق معه المحامل والرحال».
أقول : ظاهر قول السائل : ـ «بلغنا عن الحسن بن علي (عليهماالسلام)» بعد سؤاله
عن الخروج إلى مكة مشاة ، ونهيه عليهالسلام عن المشي ـ ان
مشى الحسن عليهالسلام كان الى مكة ،
ومثله رواية أبي أسامة المتقدمة. والجمع بينهما وبين ظاهر صحيحة رفاعة لا يخلو عن
اشكال.
وروى الكليني والشيخ في الصحيح عن سيف التمار (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : انا كنا نحج
مشاة فبلغنا عنك شيء فما ترى؟ قال : ان الناس ليحجون مشاة ويركبون. قلت : ليس عن
هذا أسألك. قال : فعن أي شيء سألت؟ قلت : أيهما أحب إليك ان نصنع؟ قال : تركبون
أحب الي ، فان ذلك أقوى لكم على الدعاء والعبادة».
وللأصحاب في الجمع بين هذه الاخبار طرق : أحدها ـ وهو
المشهور ـ ان المشي أفضل ان لم يضعفه عن الدعاء وإلا فالركوب أفضل. ويشهد لهذا
الجمع صحيحة سيف المذكورة.
وثانيها ـ ان المشي أفضل لمن ساق معه ما إذا أعيا ركبه.
ذكره الشيخ
__________________
(1 و 2) الكافي ج 4 ص 455 و 456 ،
والتهذيب ج 5 ص 12 ، وفي الوسائل الباب 33 من وجوب الحج وشرائطه.
في كتابي الاخبار ، واستدل عليه
بموثقة عبد الله بن بكير المتقدمة.
وثالثها ـ ان الركوب أفضل لمن كان الحامل له على المشي
توفير المال مع استغنائه عنه ، دون ما إذا كان الحامل له على المشي كسر النفس
ومشقة العبادة.
وهذا الوجه نقله شيخنا الشهيد الثاني في المسالك وسبطه
في المدارك عن العالم الرباني الشيخ ميثم البحراني في شرح النهج ، قال في المدارك
: وهو جيد لان الشح جامع لمساوئ العيوب ، كما ورد في الخبر (1) فيكون دفعه
اولى من العبادة بالمشي.
ويدل على هذا الوجه ما رواه ثقة الإسلام (عطر الله تعالى
مرقده) عن ابى بصير (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المشي
أفضل أو الركوب؟ فقال : إذا كان الرجل موسرا فمشى ليكون أقل لنفقته فالركوب أفضل».
ورابعها ـ ان الركوب أفضل لمن يضعف بالمشي عن التقدم
للعبادة. احتمله الشيخ في كتابي الاخبار ، واختاره شيخنا الشهيد في الدروس.
واحتج عليه الشيخ بما رواه عن هشام بن سالم في الحسن أو
الموثق (3) قال : «دخلنا
على ابى عبد الله (عليهالسلام) انا وعنبسة
بن مصعب وبضعة عشر رجلا من أصحابنا ، فقلنا : جعلنا الله فداك أيهما أفضل المشي أو
الركوب؟
فقال : ما عبد الله بشيء أفضل من المشي. فقلنا : أيما
أفضل نركب إلى مكة فنعجل فنقيم بها الى ان يقدم الماشي أو نمشي؟ فقال : الركوب
أفضل».
__________________
(1) نهج البلاغة ج 3 ص 245 مطبعة
الاستقامة بمصر في الكلمات القصار «البخيل جامع المساوئ العيوب».
(2) الكافي ج 4 ص 456 ، وفي الوسائل
الباب 33 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) التهذيب ج 5 ص 13 ، وفي الوسائل
الباب 32 و 33 من وجوب الحج وشرائطه.
وسيأتي إتمام الكلام في ذلك ـ ان شاء الله تعالى ـ في حج
النذر.
المسألة الخامسة ـ لا خلاف بين الأصحاب في انه إذا استقر
الحج في ذمته ثم مات فإنه يقضى عنه من أصل تركته. نقل الإجماع على ذلك العلامة في
المنتهى والتذكرة. وقد تقدمت جملة من الاخبار الدالة على ذلك في صدر المسألة الثانية.
انما الخلاف في المكان الذي يجب الاستئجار منه ،
والمتداول في كتب أكثر الأصحاب ان الخلاف هنا منحصر في قولين :
أحدهما ـ انه من أقرب الأماكن إلى مكة ، وهو الذي عليه
الأكثر. قالوا : والمراد بأقرب الأماكن أقرب المواقيت إلى مكة ان أمكن الاستئجار
منه وإلا فمن غيره مراعيا الأقرب فالأقرب ، فإن تعذر الاستئجار من أحد المواقيت
وجب الاستئجار من أقرب ما يمكن الحج منه الى الميقات.
وثانيهما ـ انه من بلده ، وهو قول الشيخ في النهاية ،
وبه قال ابن إدريس
والمفهوم من عبارة المحقق في الشرائع ان في المسألة قولا
ثالثا ، وهو التفضيل بين ما إذا وسع المال فمن بلده وإلا فمن حيث يمكن.
وهذا القول وان لم نظفر به في كلام المتقدمين إلا انه
صريح الشهيد في الدروس ، حيث قال : يقضى من أصل تركته من منزله ، ولو ضاق المال
فمن حيث يمكن ولو من الميقات على الأقوى. انتهى.
استدل أصحاب القول المشهور على ذلك بان الواجب قضاء الحج
وهو عبارة عن المناسك المخصوصة ، وقطع المسافة ليس جزء منه ولا واجبا لذاته ،
وانما وجب لتوقف الواجب عليه ، فإذا انتفى التوقف انتفى الوجوب. على انا لو سلمنا
وجوبه لم يلزم من ذلك وجوب قضائه ، لأن القضاء إنما يجب بدليل من خارج ، وهو انما
قام على وجوب قضاء الحج خاصة. كذا في المدارك.
واستدل المحقق في المعتبر على هذا القول أيضا بأن الواجب
في الذمة
ليس إلا الحج فلا يكون قطع المسافة
معتبرا. وبان الميت لو اتفق حضوره بعض المواقيت لا بقصد الحج أجزأه الحج من
الميقات ، فكذا لو قضى عنه.
وزاد العلامة في المختلف : ان المسافر لو اتفق قربه من
الميقات فحصلت له الشرائط وجب عليه ان يحج من ذلك الموضع ، وكذا لو استطاع من غير
بلده لم يجب عليه قصد بلده وإنشاء الحج منه بلا خلاف ، فعلم ان قطع المسافة ليس
واجبا هنا ، فلا يجب الاستئجار منه.
أقول : وهذه الوجوه بحسب ما يتراءى منها في بادئ الرأي
مؤيدة لما ادعوه ، إلا ان في صلاحها لتأسيس الأحكام الشرعية وبنائها عليها اشكالا
، كما سيظهر لك ان شاء الله (تعالى) فإنه من الجائز ان يكون حكم القضاء عن الميت
غير مترتب على هذه الوجوه التي ذكروها ، فلا بد فيه من دليل صريح يدل على ما
ادعوه.
احتج ابن إدريس ـ على ما نقلوا عنه ـ بتواتر الأخبار
بذلك. وبان المحجوج عنه كان يجب عليه الحج من بلده ونفقة طريقه ، فمع الموت لا
تسقط النفقة.
ورده المحقق في المعتبر بالمنع من تواتر الأخبار بذلك ،
قال : ودعوى المتأخر تواتر الأخبار غلط ، فانا لم نقف في ذلك على خبر شاذ فكيف
يدعى التواتر؟ وبانا لا نسلم وجوب الحج من البلد ، بل لو أفاق المجنون عند بعض
المواقيت أو استغنى الفقير وجب ان يحج من موضعه. على انه لم يذهب محصل الى ان
الإنسان يجب عليه ان ينشئ حجة من بلده. فدعواه هذه غلط وما رتبه عليها أشد غلطا.
انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان المسألة خالية من النصوص كما سمعت
من كلام المحقق ، والنصوص الواردة باعتبار الميقات أو البلد أو ما بينهما إنما
وردت في الوصية بالحج ، مع انها بحسب ظاهرها لا تخلو من تدافع وتعارض. والأصحاب
قد تعلقوا بجملة منها في الدلالة على
ما ادعوه في هذه المسألة من تخصيص الوجوب بالميقات ، وأجابوا عن ما دل بظاهره على
خلاف ذلك. وظاهرهم ان المسألتين في التحقيق من باب واحد. وهو كذلك. إلا ان في
دلالة ما أورده من الاخبار على ما ادعوه منها تأملا.
وها أنا أسوق إليك جملة ما وقفت عليه من الاخبار المذكورة
، مذيلا كلا منها بما ادى اليه فهمي القاصر وذهني الفاتر ، واسأل الله (عزوجل)
العصمة من طغيان القلم وزلة القدم ، فأقول :
من الاخبار المشار إليها صحيحة حريز عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل اعطى
رجلا حجة يحج بها عنه من الكوفة فحج عنه من البصرة؟ قال : لا بأس ، إذا قضى جميع
المناسك فقد تم حجه».
أقول : وهذه الرواية وان لم تكن من عداد الروايات المشار
إليها إلا انها من جملة ما اعتضد به أصحاب القول المشهور فذكرناها أولا لذلك.
والتقريب فيها انها دلت بظاهرها على ان المخالفة في الحج
من الكوفة إلى الحج من البصرة غير موجب لفساد الحج ، وما ذاك إلا من حيث ان الغرض
من إعطاء الحجة الإتيان بالمناسك المذكورة وان الطريق لا مدخل لها في الحج. وفيه
ما سيأتي ان شاء الله (تعالى) في مسألة من استؤجر على طريق فحج على غيره من الخلاف
في ذلك.
وصاحب المدارك الذي هو ممن اعتضد بهذه الرواية في هذه
المسألة ، حيث اختار في تلك المسألة عدم صحة الحج كذلك أجاب عن هذه الرواية ـ حيث
ان الشيخين استدلا بها على الجواز ـ فقال بأنها لا تدل صريحا على جواز المخالفة ،
__________________
(1) الوسائل الباب 11 من النيابة في
الحج.
لاحتمال ان يكون قوله : «من الكوفة»
صفة ل «رجل» لا صلة ل «يحج». انتهى. ولا يخفى انه بناء على هذا الاحتمال الذي ذكره
يبطل تعلقه بها هنا فكيف يحتج بها؟
ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن رئاب (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل اوصى
ان يحج عنه حجة الإسلام فلم يبلغ جميع ما ترك إلا خمسين درهما؟ قال : يحج عنه من
بعض المواقيت التي وقت رسول الله صلىاللهعليهوآله من قرب».
قالوا : وهذه الرواية مؤيدة للقول المشهور باعتبار انه عليهالسلام أطلق الحج عنه
من بعض المواقيت ولم يستفصل عن إمكان الحج بذلك من البلد أو غيره من ما هو أبعد من
الميقات ، فدل على عدم وجوبه.
وفيه بعد ، فإنه من المحتمل قريبا ـ بل الظاهر انه
الأقرب ـ انه عليهالسلام إنما أمر من
بعض المواقيت لعلمه ان الخمسين بحسب العادة والعرف ليس فيها وفور لما يسع من ما
قبل الميقات من نفقة الحج وكراية الدابة تلك المدة كما هو ظاهر. وما ذكرناه ان لم
يكن أظهر فلا أقل ان يكون مساويا لما ذكروه من الاحتمال ، وبذلك يبطل الاستدلال.
ومنها ـ رواية زكريا بن آدم (2) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن رجل مات
واوصى بحجة له ، أيجوز ان يحج عنه من غير البلد الذي مات فيه؟ فقال : ما كان دون
الميقات فلا بأس».
أقول : ان ظاهر هذه الرواية انه لا يتعين الحج من البلد
، بل الواجب ان يستأجر عنه من قبل الميقات كائنا ما كان بما تسعه الأجرة ، والأظهر
حملها على
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 2 من النيابة
في الحج.
عدم سعة المال للحج من البلد.
ومفهومها انه لا يصار الى الميقات مع سعة المال لما زاد على ذلك. وهي بالتقريب
المذكور منافية للقول المشهور ، والاعتضاد بها ـ كما ذكره في المدارك ـ لا يخلو من
القصور.
ومنها ـ ما رواه الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه عن
ابي سعيد عن من سأل أبا عبد الله عليهالسلام (1) عن رجل اوصى
بعشرين درهما في حجة؟ قال : يحج بها عنه رجل من حيث يبلغه.
أقول : ظاهر هذا الخبر ان العشرين لو لم تبلغ الحج من
أحد المواقيت المشهورة يحج من ما بعد الميقات إلى مكة ، كادني الحل والحديبية
والجعرانة.
ويصير هذا من قبيل من لم يتمكن من وصول الميقات والخروج
إليه ، فإنه يحرم من هذه الأماكن ولو من مكة. هذا ما يفهم من الخبر.
ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم
عن معاوية بن عمار (2) قال : «قلت له
: رجل يموت وعليه خمسمائة درهم من الزكاة وعليه حجة الإسلام ، وترك ثلاثمائة درهم
، واوصى بحجة الإسلام وان يقضى عنه دين الزكاة؟ قال : يحج عنه من أقرب ما يكون
ويخرج البقية في الزكاة».
أقول : ظاهر الخبر هنا ان الحج من مكة لأنها أقرب ما
يكون بالتقريب الذي ذكرناه.
ومنها ـ ما رواه في الكافي عن عمر بن يزيد (3) قال : «قال
أبو عبد الله
__________________
(1) رواه في التهذيب ج 9 ص 229 ، وفي
الفقيه ج 2 ص 272 ، إلا انه عن ابي بصير مضمرا ، ورواه في الكافي ج 4 ص 308 ، وفي
الوسائل الباب 2 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 21 من المستحقين
للزكاة.
(3) الوسائل الباب 2 من النيابة في
الحج.
(عليهالسلام) في رجل اوصى
بحجة فلم تكفه من الكوفة إنها تجزئ حجته من دون الوقت».
وما رواه فيه ايضا عن عمر بن يزيد (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : رجل اوصى
بحجة فلم تكفه؟ قال : فيقدمها حتى يحج دون الوقت».
وظاهر الخبرين المذكورين ان الرجل اوصى بمال للحج فلم
يكف للاستئجار عنه من البلد ، كما هو صريح الأول وظاهر الثاني. وأجاب (عليهالسلام) بأنه يستأجر
بها من اي موضع يسعه المال بعد البلد. وفيه إيماء إلى انه لو كفى من البلد لوجب
وان لم يعين البلد في الوصية.
ومنها ـ ما رواه في الكافي عن احمد بن محمد بن ابي نصر
عن محمد بن عبد الله (2) قال : «سألت
أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن الرجل
يموت فيوصي بالحج ، من اين يحج عنه؟ قال : على قدر ماله ، ان وسعه ماله فمن منزله
وان لم يسعه ماله من منزله فمن الكوفة ، فان لم يسعه من الكوفة فمن المدينة».
أقول : ظاهر الخبر المذكور انه ان كان في مال الموصى سعة
الحج من المنزل فهو الواجب أولا ، وإلا فيبني على ما يسعه من البلدان المتوسطة.
وظاهر الخبر ان السؤال عن رجل من خراسان. وبهذا التقريب ينطبق على ما قدمناه من
الاخبار.
ومنها ـ صحيحة الحلبي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (3) انه قال : «وان
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 2 من النيابة
في الحج.
(3) لم أقف على هذه الصحيحة في
الوسائل في مظانها ، ولم يذكرها في الوافي باب (الوصية بالحج) من كتاب الوصية. نعم
ذكرها صاحب المدارك في نفس المسألة ، وهي المسألة الثانية من المسائل الأربع في
المقدمة الثانية
اوصى ان يحج عنه حجة الإسلام ولم يبلغ
ماله ذلك فليحج عنه من بعض المواقيت». والتقريب فيها ما تقدم.
والسيد السند في المدارك لما اعتضد بروايتي علي بن رئاب
وزكريا بن آدم المتقدمتين على ما اختاره من القول المشهور ـ وهو وجوب الحج من
الميقات مطلقا ، وكان هذان الخبران ظاهري المنافاة لذلك ـ أجاب عنهما بعد ذكرهما
بأنهما إنما تضمنا الحج من البلد مع الوصية ، ولعل القرائن الحالية كانت دالة على
ارادة الحج من البلد ، كما هو الظاهر من الوصية عند الإطلاق في زماننا ، فلا يلزم
مثله مع انتفاء الوصية. انتهى.
وفيه : ان بعده ظاهر ، وما ذكره تكلف لا ضرورة تلجئ إليه
، فإن ما ذكرناه هو المعنى الذي تنطبق جملة أخبار المسألة عليه. وتوهم الدلالة على
__________________
ونسبها الى الشيخ (قدسسره) وكذا نسبها
صاحب الذخيرة إلى الشيخ في نفس المسألة ، ومن قبلهما العلامة في المنتهى ج 2 ص
871. ولم أجدها في التهذيب في مظانها. إلا ان الشيخ (قدسسره) ـ بعد ان
أورد في التهذيب ج 5 ص 405 من الطبع الحديث صحيح الحلبي المتضمن للوصية بالحج وان
حجة الإسلام تخرج من أصل المال والحج مستحب يخرج من الثلث ، وان النائب يتعين
بتعيين الموصي ، وأورده في الوسائل في الباب 25 من وجوب الحج وشرائطه برقم 2 ـ قال
: «فإن اوصى ان يحج عنه حجة الإسلام ولم يبلغ ماله ذلك فليحج عنه من بعض المواقيت
، وروى ذلك ...» ثم ذكر صحيح علي بن رئاب المتقدم. وهذه العبارة بقرينة قوله : «روى
ذلك» من كلام الشيخ (قدسسره) لا من لفظ
الحديث. وعدم نقل صاحبي الوسائل والوافي لهذه الصحيحة شاهد قطعي على ذلك.
اعتبار الميقات من الخبرين اللذين
اعتضد بهما قد بينا ضعفه.
وزاد بعضهم في الجواب عن الخبر المذكور : ان يراد بماله
ما عينه اجرة للحج بالوصية ، قال : فإنه يتعين الوفاء به مع خروج ما زاد عن أجرته
من الميقات من الثلث اتفاقا. وهو أبعد وأبعد.
وبالجملة فإن الظاهر عندي من هذه الروايات ـ باعتبار ضم
بعضها الى بعض وحمل مجملها على مفصلها ومطلقها على مقيدها ـ هو انه متى اوصى بالحج
فإنه ينظر في ماله ، فان وسع الحج من بلده ومنزله وجب ، وإلا فيترتب باعتبار ما
يسع المال ولو من مكة. وهذا هو قول شيخنا الشهيد في الدروس. مثلا : لو كان الموصى
في بلد خراسان ، فان وسع ماله للحج من خراسان وجب ، وإلا فينظر في البلدان
والأماكن المتوسطة من خراسان إلى مكة فأيها وسع الحج منه وجب. وعلى هذا فلا حجة في
شيء من هذه الاخبار للقول المشهور ، بل هي ظاهرة في خلافه.
نعم يبقى الكلام في ان مورد هذه الروايات الوصية فحمل ما
نحن فيه عليها يحتاج الى دليل. إلا ان لقائل أن يقول : انه إذا دلت هذه الاخبار ـ كما
أوضحناه ـ على ان الواجب مع الوصية هو النظر إلى سعة المال ، فان وسع من بلده وجب
الحج من البلد وإلا فمن حيث يسع ، فينبغي القول بذلك في من لم يوص مع معلومية
اشتغال ذمته ، لان الواجب الإخراج عنه أوصى أو لم يوص. ولهذا تكلف الأصحاب إرجاع
بعض هذه الروايات الى ما ذهبوا اليه واستدلوا بها عليه وان كان خلاف ما يستفاد
منها كما عرفت.
وان ارتد مزيد تحقيق للمقام بتوفيق الملك العلام وبكرة
أهل الذكر (عليهمالسلام) فاستمع لما
يتلى عليك من الكلام :
فنقول : لا يخفى ان هذه الأخبار بالتقريب الذي ذكرناه
فيها دافعة لما ذكروه من الدليل المتقدم على القول المشهور ، لان مرجع كلامهم ـ وان
أكثروا
من العبارات ـ الى ان اخبار القضاء
الواردة بقضاء الحج لم تشتمل على الطريق بل على قضاء الحج خاصة ، والحج إنما هو
عبارة عن المناسك المخصوصة ، ووجوب قطع الطريق على الحي انما هو من حيث عدم تمكنه
من الحج إلا بذلك ، ومتى مات سقط هذا التكليف عنه ووجب الحج خاصة.
وفيه أولا ـ انه لو كانت الطريق لا مدخل لها في القضاء
عنه ، وان الواجب انما هو الحج من الميقات مطلقا ، فكيف تخرج هذه الاخبار مصرحة
بالترتيب مع الوصية بالقضاء من البلد وإلا فمن حيث وسعه المال كما أوضحناه آنفا؟
لان قاعدتهم هذه جارية في المقامين وكلامهم شامل للمسألتين.
وثانيا ـ الأخبار الدالة على وجوب استنابة الممنوع من
الحج بمرض أو شيخوخة أو عضب ، وانه يجهز رجلا من ماله ليحج عنه (1) ومن الظاهر ان
التجهيز انما هو من البلد ، فإنه لا يقال لمن كان في بغداد ـ مثلا ـ ثم أمر رجلا
ان يستأجر له رجلا من الميقات انه جهز رجلا يحج عنه ، فان التجهيز انما هو ان
يعطيه أسباب السفر وما يتوقف عليه الى ذلك المكان بل ورجوعه. وهو ظاهر الأصحاب
أيضا حيث انه لم يطعن أحد في دلالة هذه الاخبار مع انها ظاهرة في ما ذكرناه.
ومقتضى ما ذكروه ـ من الدليل المتقدم الذي اعتمدوا عليه في هذه المسألة ـ ان
الواجب إنما هو الحج من الميقات والطريق لا مدخل لها. وبعين ذلك نلزمهم في المسألة
المذكورة ، فإن هذا الممنوع بسبب العذر قد سقط عنه وجوب السعي ببدنه وتعلق الحج
بماله ، والحج انما هو عبارة عن المناسك المخصوصة والطريق لا مدخل لها ، فمن اين يجب
عليه ان يجهز رجلا من بلده؟ مع ان الاخبار قد دلت على خلاف ذلك. وهو مؤذن ببطلان
قاعدتهم التي اعتمدوها.
__________________
(1) الوسائل الباب 24 من وجوب الحج
وشرائطه.
وثالثا ـ ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب
مسائل الرجال (1) رواية عبد
الله بن جعفر الحميري واحمد بن محمد الجوهري عن احمد بن محمد عن عدة من أصحابنا
قالوا : «قلنا لأبي الحسن ـ يعني علي بن محمد (عليهماالسلام) ـ : ان رجلا
مات في الطريق واوصى بحجة وما بقي فهو لك ، فاختلف أصحابنا ، فقال بعضهم : يحج عنه
من الوقت فهو أوفر للشيء ان يبقى عليه. وقال بعضهم : يحج عنه من حيث مات؟ فقال عليهالسلام : يحج عنه من
حيث مات».
والتقريب فيها انه لو كان الطريق لا مدخل له في الحج عن
الميت بالتقريب الذي ذكروه لأمر عليهالسلام بالحج من
الميقات ولم يأمر بالحج من الموضع الذي مات فيه ولعل الرجل كان من خراسان ـ مثلا ـ
فمات بعد خروجه بفرسخين أو ثلاثة ، وانه عليهالسلام أوجب الحج من
ذلك الموضع.
فأي دليل في بطلان ما اعتمدوه أظهر من هذه الأدلة؟
(فإن قيل) : ان الاخبار قد وردت في هذه المواضع بما
ذكرتم فوجب المصير إليها ، ولا يلزم من ذلك المصير الى ما ذكرتم في هذه المسألة.
(قلنا) : نعم الأمر كما ذكرت ولكن الغرض من إيراد هذه
الاخبار انما هو بيان بطلان هذا الدليل الذي اعتمدوه ، وفساد هذه القاعدة التي
اتفقوا عليها ، فإنه لو كان ذلك حكما كليا وضابطا جليا ـ كما ظنوه ـ لم تخرج هذه
الاخبار بخلافها مع ان ما تضمنته من جزئياتها ، فهو دليل على فسادها.
ورابعا ـ انا نقول : ان ظاهر الاخبار الدالة على شرطية
الاستطاعة في وجوب الحج شمولها بإطلاقها للحي والميت ، بمعنى ان الواجب عليه في
حال الحياة الحج متى استطاع الإتيان به بزاد وراحلة وغيرهما من ما يتوقف عليه الحج
__________________
(1) الوسائل الباب 2 من النيابة في
الحج.
أولا وان قل في بعض الفروض ، كما إذا
حصلت الاستطاعة في الميقات مثلا ، لأن الاستطاعة عندنا ـ كما
حققناه آنفا ـ عبارة عن القدرة على الإتيان بالحج كيف اتفق من غير مشقة ، وكذلك
بعد الموت يجب الحج عنه على الوجه الذي استقر في الذمة. والتمسك بإطلاق قولهم (عليهمالسلام) في اخبار
القضاء : «من مات مستطيعا يقضى عنه الحج» (1) يراد به على الوجه الذي فات عليه.
وتشهد بذلك الأخبار التي ذكرناها في الوجوه الثلاثة المتقدمة. على ان اللازم من ما
ذكروه ـ من عدم شرطية الاستطاعة في القضاء عن الميت ـ انه لو مات مستطيعا للحج من
الميقات وجب ان يقضى عنه من الميقات. وهو باطل إجماعا. وقولهم ـ : انه لو أفاق
المجنون عند الميقات ، أو استطاع في ذلك المكان ، أو اتفق حضوره الميقات ، لم يجب
عليه قصد البلد ـ صحيح ، لأنا لا نوجب في القضاء عنه الحج من البلد مطلقا ، وانما
ترتبه على انه بعد حصول الاستطاعة كائنا ما كان لو مات وجب القضاء عنه من محل
الموت ، فلو مات أحد من هذه الأفراد المعدودة ـ اعني المجنون وما بعده ـ لم نوجب
القضاء عنه إلا من ذلك المكان ، كما سمعت من حديث السرائر. والأخبار الخارجة
بالبلد في الوصية ـ كما قدمناها ـ انما خرجت مخرج الغالب والأكثر من حصول ذلك في
بلد الاستيطان ، فلا ينافي ذلك ما اتفق على غير هذا الوجه.
فعليك بالفكر الدقيق في هذا التحقيق الرشيق ، فإنه حقيق
ان يكتب بالتبر على الأحداق لا بالحبر على الأوراق ، إلا ان الالف بالمشهورات ـ سيما
إذا زخرفت بالإجماعات ـ شنشنة اخزمية وطريقة لا تخلو من عصبية.
وكيف كان فانا في المسألة من المتوقفين لعدم النص الصريح
، والاحتياط
__________________
(1) هذا مضمون ما أورده في الوسائل
الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه.
عندي واجب بنحو ما ذكره شيخنا في
الدروس ، فان كلامه هو الأظهر لصوقا بالأخبار كما عرفت. والله العالم بحقائق
أحكامه ، وحملة شريعته القوامون بمعالم حلاله وحرامه.
ويجب ان يلحق بهذه المسألة فوائد الأولى ـ قد صرح
الأصحاب بأنه انما يقضي الحج من أصل التركة متى استقر في الذمة بشرط ان لا يكون
عليه دين وتضيق التركة عن قسمتها على الدين واجرة المثل.
قال في المدارك بعد ذكر المصنف ذلك : واما انه مع ضيق
التركة يجب قسمتها على الدين واجرة المثل بالحصص فواضح ، لاشتراك الجميع في الثبوت
وانتفاء الأولوية. ثم ان قامت حصة الحج من التوزيع أو من جميع التركة مع انتفاء
الدين بأجرة الحج فواضح ، ولو قصرت عن الحج والعمرة من أقرب المواقيت ووسعت
لأحدهما فقد أطلق جمع من الأصحاب وجوبه. ولو تعارضا احتمل التخيير لعدم الأولوية ،
وتقديم الحج لأنه أهم في نظر الشرع. ويحتمل قويا سقوط الفرض مع القصور عن الحج
والعمرة ان كان الفرض التمتع ، لدخول العمرة في الحج على ما سيجيء بيانه. ولو قصر
نصيب الحج عن أحد الأمرين وجب صرفه في الدين ان كان معه وإلا عاد ميراثا. انتهى.
أقول : لا يخفى انه قد تقدمت (1) صحيحة معاوية
بن عمار أو حسنته دالة على ان من عليه خمسمائة درهم من الزكاة وعليه حجة الإسلام
ولم يترك إلا ثلاثمائة درهم ، فإنه يقدم الحج أولا من أقرب الأماكن ويصرف الباقي
في الزكاة.
ومثلها ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عنه ايضا عن ابي عبد
الله عليهالسلام (2) «في رجل مات
وترك ثلاثمائة درهم ، وعليه من الزكاة سبعمائة درهم ، واوصى ان
__________________
(1) ص 180.
(2) الوسائل الباب 42 من الوصايا.
يحج عنه؟ قال : يحج عنه من أقرب
المواضع ويجعل ما بقي في الزكاة».
وظاهر الخبرين المذكورين بل صريحهما انه يجب أولا الحج
عنه من أقرب الأماكن ثم يصرف الباقي في الزكاة كائنا ما كان ، وانه لا تحاص
بينهما.
ولا يخفى ما في ذلك من الدلالة على بطلان ما ذكروه من
التفصيل.
وبيان ذلك من وجوه : منها ـ انهم اعتبروا توزيع التركة
بالحصص كما في الديون المجتمعة ، وجعلوا حصة الحج اجرة المثل ، والنص (1) يدل على وجوب
البدأة بالحج وانه لا يصرف في الزكاة شيء إلا بعد الحج ، فيصرف فيها ما فضل.
ومنها ـ ان ظاهرهم ان اجرة المثل باعتبار الميقات ،
والنص (2) يدل على انه
من أقرب الأماكن ، والمراد مكة بالتقريب الذي أوضحناه آنفا.
ومنها ـ ان ظاهر النص (3) تقديم الحج
مطلقا تمتعا كان فرضه أو غيره.
ومنها ـ قوله : «ثم ان قامت حصة الحج من التوزيع. الى
آخره» فان ظاهر النص (4) انه لا توزيع
بل يقدم الحج أولا ويصرف الفاضل في الزكاة.
ومن ذلك ايضا يظهر بطلان قوله : «ويحتمل قويا سقوط الفرض
مع القصور» وقوله : «لو قصر نصيب الحج عن أحد الأمرين».
وبالجملة فإن جميع هذه الأحكام وقعت تفريعا على وجوب
التوزيع بالحصص كما في سائر الديون ، والنص (5) ، قد دل على وجوب تقديم الحج ـ كما
عرفت ـ واختصاص الفاضل بالزكاة.
ولا ريب انهم بنوا في هذه المسألة على مسألة تزاحم
الديون وان الحكم فيها التوزيع بالحصص والحج دين ، والنص (6) ظاهر في إخراج
دين الحج من
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6) وهما خبرا
معاوية بن عمار المذكوران.
هذه القاعدة التي بنوا عليها.
وهذا من ما يؤيد ما قدمناه في أصل المسألة من انه لا
يكفي في إثبات الحكم الشرعي مثل هذه الأدلة ، لجواز خروج موضع البحث عنها. وهو
مؤيد لما حققناه في غير موضع من توقف الفتوى في المسألة والحكم على النص الصريح
الواضح الدلالة ، فإن الناظر في كلامهم هنا في الموضعين لا يكاد يختلجه الريب في
صحة ما ذكروه بناء على القاعدتين المذكورتين ، والنصوص ـ كما ترى ـ في الموضعين
على خلاف ذلك.
الثانية ـ هل المراد بالبلد على تقدير القول بالاستئجار
من البلد بلد موته أو بلد استيطانه ، أو بلد يساره التي حصل وجوب الحج عليه فيها؟
أوجه :
اختار في المدارك الأول ، حيث قال : الظاهر ان المراد
بالبلد الذي يجب الحج منه على القول به محل الموت حيث كان ، كما صرح به ابن إدريس
ودل عليه دليله. انتهى.
أقول : في استفادة ذلك من دليل ابن إدريس ـ وهو ما قدمنا
نقله عنه ـ إشكال ، لأنه احتج بأنه كان يجب عليه الحج من بلده. وظاهر ذلك إنما هو
بلد استيطانه ، وإذ لا يصدق عرفا على من كان من أهل الكوفة فاتفق موته في البصرة
ان البصرة بلده وإنما يصدق على الكوفة. بل دعواه (قدسسره) : ان ابن
إدريس صرح ببلد الموت ايضا غريب ، فانا لم نقف عليه في كلامه ولا نقله عنه غيره
ومن تبع أثره كالفاضل الخراساني وغيره.
وهذه صورة عبارته في كتاب السرائر من أولها إلى آخرها ،
قال (قدسسره) : فان كان
متمكنا من الحج والخروج فلم يخرج وأدركه الموت وكان الحج قد استقر عليه ، وجب ان يخرج
عنه من صلب ماله ما يحج به من بلده ، وما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا ، فان لم يخلف
إلا قدر ما يحج به من بلده
وكانت الحجة قد وجبت عليه قبل ذلك
واستقرت ، وجب ان يحج به عنه من بلده وقال بعض أصحابنا بل من بعض المواقيت ، ولا
يلزم الورثة الإجارة من بلده بل من بعض المواقيت. والصحيح الأول ، لأنه كان يجب
عليه نفقة الطريق من بلده فلما مات سقط الحج عن بدنه وبقي في ماله بقدر ما كان يجب
عليه لو كان حيا من مؤنة الطريق من بلده ، فإذا لم يخلف إلا قدر ما يحج به من بعض
المواقيت وجب ايضا ان يحج عنه من ذلك الموضع. وما اخترناه مذهب شيخنا ابي جعفر في
نهايته ، وبه تواترت أخبارنا ورواية أصحابنا. والمقالة الأخرى ذكرها في مبسوطه ،
وأظنها مذهب المخالفين (1) انتهى.
وهذه العبارة على طولها وتكرار لفظ «بلده» فيها ليس فيها
تعرض لذكر بلد الموت ، فأين التصريح الذي ذكره (قدسسره)؟ والمتبادر ـ
كما عرفت ـ من بلده انما هو بلد الاستيطان والإقامة مدى الزمان لا بلد الموت ، كان
يموت عابر سبيل في بلد من البلدان. وبذلك يظهر عدم الاعتماد على المنقول وان كان
من أجلاء الفحول.
ثم انه في المدارك لم يذكر لما استظهره دليلا يدل عليه
ولا مستندا يرجع اليه.
ثم قال في المدارك على اثر العبارة التي قدمناها عنه :
وقال في التذكرة : ولو كان له موطنا قال الموجبون للاستنابة من البلد : يستناب من
أقربهما. وهو غير واضح ، لان دليل الموجبين انما يدل على ما ذكرناه. انتهى.
أقول : أشار بدليل الموجبين الى ما تقدم في صدر عبارته
من دعوى كون دليل ابن إدريس الذي هو القائل بهذا القول دل على محل الموت. وقد عرفت
ما فيه.
__________________
(1) نسبه في المغني ج 3 ص 243 الى
الشافعي.
بقي الكلام في ما نقله هنا عن التذكرة ، فإنه وان كان
كذلك إلا انه لا يخلو من نوع مدافعة لما قدمه في التذكرة في صدر المسألة ، حيث قال
: مسألة : وفي وجوب الاستئجار من البلد الذي وجب على الميت الحج فيه ـ اما من بلده
أو من الموضع الذي أيسر فيه ـ قولان : أحدهما هذا ، وبه قال الحسن البصري وإسحاق
ومالك في النذر (1) والثاني انه
يجب من أقرب الأماكن إلى مكة وهو الميقات ، وبه قال الشافعي (2) وهو الأقوى
عندي. ثم استدل بنحو ما قدمنا نقله عنهم ، ونقل رواية حريز ورواية علي بن رئاب
بالتقريب الذي قدمنا نقله عنهم في ذيلها. الى ان قال : احتج الآخرون بأن الحج وجب
على الميت من بلده فوجب ان ينوب عنه منه ، لان القضاء يكون على وفق الأداء كقضاء
الصلاة والصيام. ثم قال : ونحن نمنع الوجوب من البلد وإنما ثبت اتفاقا ، ولهذا لو
اتفق له اليسار في الميقات لم يجب عليه الرجوع الى بلده لإنشاء الإحرام منه ، فدل
على ان قطع المسافة ليس مرادا للشارع. ثم قال : تذنيبات : لو كان له موطنان قال
الموجبون للاستنابة من بلده : يستناب من أقربهما ، فإن وجب عليه الحج بخراسان ومات
ببغداد ، أو وجب عليه ببغداد فمات بخراسان قال احمد يحج عنه من حيث وجب عليه لا من
حيث موته (3) ويحتمل ان يحج
عنه من أقرب المكانين ، لانه لو كان حيا في أقرب المكانين لم يجب عليه من أبعد منه
، فكذا نائبه. انتهى.
أقول : لا يخفى ان ظاهر كلامه في صدر المسألة ان الخلاف
في المسألة على قولين ، أحدهما وجوب الاستئجار من البلد الذي وجب على الميت الحج
فيه
__________________
(1 و 2 و 3) نسبه في المغني ج 3 ص
243.
سواء كان بلده أو غيره من الموضع الذي
أيسر فيه ، والثاني من الميقات. وهذا الكلام يشعر بان مراد القائلين بالبلد انما
هو بلد الاستطاعة ، كما هو أحد الوجوه التي قدمنا نقلها عنهم. وهو ظاهر الحجة التي
نقلها عن أصحاب هذا القول. وحينئذ فقوله في التهذيب الأول ـ : لو كان له موطنان
قال الموجبون للاستنابة من بلده : يستناب من أقربهما ـ لا ينطبق على القول الأول
وإنما ينطبق على القول ببلد الاستيطان مطلقا استطاع فيها أو لا ، كما هو أحد
الوجوه المتقدمة ، لأنه لا معنى لحصول الاستطاعة في بلدين متعددين. وهذا القول لم
يذكره ولم يتعرض له كما عرفت من عبارته ، فكيف يفرع عليه هذا الفرع؟ ويؤيد ما
ذكرناه تمثيله بمن وجب عليه الحج بخراسان فمات ببغداد وبالعكس ، فان هذا انما يجري
على ما ذكرناه من البلد مطلقا. وما نقله عن احمد هنا هو الموافق لما نقله آنفا عن
الحسن البصري وإسحاق ومالك ، وان خصه بعضهم بالنذر كما أشار اليه.
وكيف كان فظاهر بحثه هنا انما هو مع المخالفين ، بل
الظاهر ان الاحتمالات الثلاثة في البلد ـ كما قدمنا نقله عنهم ـ انما هو عند
المخالفين (1) لأن القائلين
بالبلد من أصحابنا ظاهر كلامهم انما هو بلد الاستيطان ، كما عرفت من كلام ابن
إدريس.
الثالثة ـ قال في المدارك : الموجود في ما وقفت عليه من
كتب الأصحاب حتى في كلام المصنف في المعتبر ان في المسألة قولين كما نقلناه ، وقد
جعل
__________________
(1) قال في المغني : ويستناب من يحج
عنه من حيث وجب عليه ، اما من بلده أو من الموضع الذي أحصر فيه. الى ان قال : وقال
الشافعي : يستأجر من يحج عنه من الميقات.
المصنف هنا الأقوال ثلاثة ، ولا يتحقق
الفرق بين القولين الأخيرين إلا على تقدير القول بسقوط الحج مع عدم سعة المال للحج
من البلد على القول الثاني. ولا نعرف بذلك قائلا ، مع انه مخالف للروايات كلها.
انتهى.
أقول : هذا القول وان لم ينقل صريحا عن أحد من المتقدمين
كما ذكره إلا انه صريح شيخنا الشهيد في الدروس ، كما عرفت من عبارته التي قدمناها
في صدر المسألة.
والتحقيق في ذلك ان يقال : ان أصل مطرح الخلاف في
المسألة بين الخاصة والعامة ـ كما سمعته من كلام التذكرة ـ إنما هو بالنسبة الى من
في ماله سعة الحج من البلد ، هل يجب عليه ان يحج عنه من بلده بالتقريب الذي ذكره
أصحاب هذا القول كما تقدم ، أو انما يجب الحج عنه من الميقات خاصة بالتقريب
المتقدم في كلامهم؟ ومقتضى ذلك ان من لم يخلف سعة من المال يحج به من البلد يسقط
الحج عنه على تقدير القول بالبلد ، كما ذكره (قدسسره) وهو ظاهر
المنقول عن العامة القائلين بهذا القول ، كما يشعر به كلام التذكرة المتقدم ،
والخلاف في هذه المسألة ليس مختصا بالخاصة حتى يدعي انه لم يعرف بذلك قائلا. إلا
ان ابن إدريس الذي هو القائل بالبلد من أصحابنا وافق الأصحاب في الاستئجار من الميقات
في ما إذا لم يخلف إلا قدر ما يحج به من الميقات ، كما تقدم في عبارته. واما مع
وجود السعة للحج من الأماكن المتوسطة بين البلد وبين الميقات فلم يتعرض له في
كلامه بالمرة ، وهذا القائل قد تعرض له وأوجب الاستئجار من كل مكان وسعه المال من
البلد فصاعدا الى الميقات. وحينئذ فالظاهر تخصيص كلام ابن إدريس ، اما بحمل كلامه
على ما يرجع به الى القول الثالث ، وهذا هو ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ،
حيث قال بعد نقل القولين ـ الوجوب من الميقات والثاني من البلد ـ : «ومراد صاحب
هذا القول ان ذلك مع سعة المال وإلا فمن
حيث يمكن» والظاهر بعده عن ظاهر
عبارته المتقدمة ، واما بان يحمل المراد من قوله : «لم يخلف إلا قدر ما يحج به من
الميقات» على ما إذا لم يخلف من المال ما فيه سعة الحج من البلد تجوزا ، فعلى هذا
ليس عنده إلا الحج من البلد ان وسعه المال أو الميقات ان لم يسعه ، فعلى هذا لو
وسع من الأماكن المتوسطة فالحج من الميقات. وأمثال هذا التجوز في عبارات المتقدمين
كثير. ومرجع ذلك الى ما عرفت آنفا من ان محل الخلاف في المسألة إنما هو الاستطاعة
من البلد ، فالأصحاب الغوا ذلك وأوجبوا من الميقات خاصة ، وابن إدريس أوجب الحج من
البلد في الصورة المذكورة ووافق الأصحاب في ما عدا ذلك.
وكيف كان فقول الدروس هو الأوفق بالأخبار التي قدمناها
بالتقريب الذي ذكرناه في ذيلها.
والظاهر ان مراد السيد السند (قدسسره) بقوله : «مع
انه مخالف للروايات كلها» إنما هي روايات الوصية ، لما عرفت من ان أصل هذه المسألة
خالية من الروايات بالكلية.
الرابعة ـ قال في المدارك : لو اوصى بالحج من البلد ،
فان قلنا بوجوبه كذلك بدون الوصية كانت اجرة المثل لذلك خارجة من أصل المال ، وان
قلنا الواجب الحج من الميقات كان ما زاد على اجرة ذلك محسوبا من الثلث ان أمكن
الاستئجار من الميقات ، وإلا وجب الإخراج من حيث يمكن وكانت اجرة الجميع خارجة من
الأصل ، كما هو واضح. انتهى.
أقول : اما ما ذكره من كون الأجرة من الأصل على القول
الأول فواضح ، وكذا كون ما زاد على اجرة الميقات من الثلث على القول الثاني فهو
ظاهر. واما تقييد ذلك بناء على القول الثاني بإمكان الاستئجار من الميقات ـ وإلا
وجب الإخراج من حيث يمكن وكانت اجرة الجميع من الأصل ـ فلا اعرف له
معنى مستقيما ، فإنه متى كان الواجب
عليه انما هو الحج من الميقات فالذي يتعلق بالذمة من المال انما هو مثل اجرة هذه
المسافة ، وهذا لا يتفاوت بين إمكان الاستئجار منه وعدمه ، بل فرض الحج هنا من
الميقات أو ما أمكن غير ممكن ، لأن الوصية تعلقت بالحج من البلد ، فالواجب حينئذ
هو الاستئجار من البلد ولا يجزئ غيره.
وإنما الكلام في قدر الأجرة التي يجب إخراجها ، فعلى هذا
القول يجب ان يخرج اجرة الميقات من الأصل وما زاد عليه من الثلث. وحينئذ فقوله ـ :
«وإلا فمن حيث أمكن وكانت اجرة الجميع خارجة من الأصل» ـ لا اعرف له معنى مع فرضه
أصل المسألة في من اوصى بالحج من البلد ، إذ لا معنى للحج من البلد إلا الاستئجار
للسعي منه.
ويشير الى ما ذكرناه ما هو المصرح به في كلام أكثر الأصحاب
في فرض هذه المسألة ، فإنهم يجعلون ما قابل اجرة المثل من الأصل والزائد من الثلث.
قال العلامة (قدسسره) في المنتهى :
إذا اوصى بحجة الإسلام ولم يعين المقدار انصرف الى أجرة المثل من جميع المال. ثم
استدل على كل من الأمرين الى ان قال : اما لو عين المقدار ، فان كان بقدر اجرة
المثل فلا بحث يخرج من صلب المال ، وان كان أكثر من اجرة المثل اخرج مقدار اجرة
المثل من صلب المال والزائد من الثلث ، لانه ضمن وصيته شيئين أحدهما واجب والآخر
تطوع ، فيخرج الواجب من الأصل والتطوع من الثلث ، انتهى.
وكلامه (قدسسره) مبني على ما
هو المشهور عندهم من الحج من الميقات فلو اوصى للحج من الميقات بما يسع الحج من
البلد فإنه يخرج الزائد عن اجرة المثل من الثلث. وهو صحيح بناء على هذا القول. ولم
يتعرض لشيء من هذا التفصيل الذي ذكره ، وهو آت في ما نحن فيه ، فإنه متى اوصى
بالحج من البلد فهو
في قوة الوصية بمال من البلد ، فيجب
إنفاذه ، ويخرج اجرة ما زاد على الميقات من الثلث ، لما ذكره من التعليل.
وبالجملة فإني لا اعرف لكلامه (قدسسره) معنى صحيحا يحمل عليه ، ولعله لقصور فهمي العليل وجمود ذهني الكليل.