ج22 - كتاب الوقوف والصدقات

كتاب الوقوف والصدقات

وما يتبعها من الحبس والسكنى والهبات

وتفصيل البحث في هذه المذكورات يقع في مقاصد أربعة :

المقصد الأول في الوقف:

وهو ثابت بالنص والإجماع ، وستأتي النصوص بذلك في محلها ، وقد ورد الترغيب فيه وفي جملة من الأخبار وان عبر فيها بلفظ الصدقة ، فإن هذا الإطلاق كان شائعا في الصدر الأول كما دلت عليه جملة من الأخبار.

ومن الأخبار المشار إليها ما رواه في الكافي والتهذيب عن هشام بن سالم (1) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وسنة هدى سنها ، فهي يعمل بها بعد موته ، أو ولد صالح يدعو له».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (2) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال ، صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وصدقة مبتولة لا تورث ، أو سنة هدى فهي يعمل بها بعده ، أو ولد صالح يدعو له».

وعن معاوية بن عمار (3) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما يلحق الرجل بعد موته؟ قال : سنة يسنها يعمل بها بعد موته ، فيكون له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شي‌ء ، والصدقة الجارية تجري من بعده والولد الطيب يدعو لوالديه بعد موتهما ، ويحج ويتصدق ويعتق عنهما ، ويصلي ويصوم عنهما ، فقلت : أشركهما في حجي؟ قال : نعم».

وعن أبي كهمس (4) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ستة تلحق المؤمن بعد وفاته ولد يستغفر له ، ومصحف يخلفه ، وغرس يغرسه ، وقليب يحفره ، وصدقة يجريها ، وسنة يؤخذ بها من بعده».

وعن إسحاق بن عمار (5) عن أبى عبد الله عليه‌السلام يتبع الرجل بعد موته ثلاث خصال ، صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري له بعد وفاته ، وسنة هدى سنها ، فهي يعمل بها بعد موته ، وولد صالح يدعو له».

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 56 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 232 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 292 ح 1.

(2 و 3) الكافي ج 7 ص 56 وص 57 ح 2 و 4 ، الوسائل ج 13 ص 292 ح 2 وص 293 ح 4.

(4 و 5) الكافي ج 7 ص 57 و 56 ح 5 و 3، الوسائل ج 13 ص 293 ح 5 و 3.


قال في المسالك : قال العلماء الصدقة الجارية الوقف ، وهو تعريف ببعض الخواص ، وكيف كان فاللفظ الصريح في عقده وقفت ، لأنه الموضوع له لغة وشرعا وقد صرح جملة من الأصحاب بأن أوقفت بالهمزة لغة شاذة فيه ، قال في المسالك والظاهر أن الصيغة بها صحيحة ، وان كانت غير فصيحة ، وأما غير هذا اللفظ من الألفاظ مثل حبست ، وسبلت فقيل : أنه يصير وقفا من غير توقف على القرينة ، للحديث النبوي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المتقدم. وقيل : لا يكون الا مع القرينة.

وأما أبدت وحرمت وتصدقت فلا يحمل على ذلك الا مع القرينة ، كقيد التأبيد ، ونفي البيع ، والهبة والإرث ونحوها.

والوجه في ذلك أن الوقف لما كان من العقود الناقلة للملك على وجه اللزوم ، افتقر الى اللفظ الصريح الدال على ذلك ، وهذه الألفاظ لما كانت مشتركة بين هذا المعنى وغيره ، ولم تكن صريحة فيه امتنع الحكم بدلالتها على ذلك ، فإنه يصح إطلاقها على التمليك المحض وإخراج الزكاة والصدقات المطلقة ، والهبات ونحوها ، فلا بد في الحكم بالوقف فيها من ضم قرينة تدل على ارادة ذلك ، كقوله صدقة موقوفة ، أو دائمة أو مؤبدة وأن لاتباع ، ولا توهب ، ونحو ذلك.

وقد ظهر مما ذكرناه أن الألفاظ المعبر بها في عقد الوقف منها ما هو صريح فيه ، لا يتوقف على قرينة إجماعا ، وهو لفظ وقفت.

ومنها ما هو متوقف على القرينة إجماعا كحرمت وتصدقت وأبدت.

ومنها ما هو مختلف فيه كحبست وسبلت ، فذهب جمع منهم العلامة في التذكرة والقواعد إلى أنهما صريحان ، كوقفت ، ومثلهما أحبست بزيادة الهمزة بغير اشكال ، نظرا إلى الاستعمال العرفي لهما فيه مجردين ، كما ورد في الخبر النبوي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المتقدم فإنه أطلق عليه تحبيس الأصل ، ورد بأن مجرد الاستعمال أعم من المطلوب ، والظاهر وجود القرينة في هذا الاستعمال ومعها لا اشكال فيه.


والمراد بالصدقة الجارية في هذه الأخبار هي الوقف كما أشار إليه الشهيد في الدروس ، وقال ابن فهد في موجزه : قال العلماء : المراد بالصدقة الجارية الوقف فان قيل : المعدود في الحديث الثاني أربع خصال ، مع أنه صرح في صدر الخبر بأنها ثلاث خصال ، قلنا : المعدود فيه إنما هو ثلاث ، ولكنه قسم الصدقة التي هي إحدى الثلاث إلى قسمين ، صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وهي الوقف كما ذكرناه ، وصدقة مبتولة لا تورث ، ولعله مثل بناء المساجد والرباطات وحفر الآبار ، وبناء القناطر ، ونحو ذلك ، ولعل المراد بكونها مبتولة كونها مرادا بها وجه الله عزوجل والتقرب إليه.

وذكر الشيخ في المبسوط أن أوقاف الجاهلية كانت أربعة ، السائبة والبحيرة والوصيلة والحام ، ثم بين معانيها الى أن قال : وجاء الشرع بإبطالها ، قال الله تعالى (1) «ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ» الآية.

والبحث في هذا المقصد يقع في مطالب الأول ـ في العقد وما يلحق به ، والكلام فيه يقع في موضعين الأول ـ قالوا : الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة قيل : وهذا التعريف تبعا للحديث النبوي (2) «عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : حبس الأصل وسبل الثمرة». والمراد بتحبيس الأصل المنع من التصرف فيه ، كالتصرف في الأملاك بالبيع والهبة ، والصدقة ونحوها ، بحيث يكون ناقلا للملك ، وتسبيل الثمرة إباحتها للموقوف عليه ، بحيث يتصرف فيها كتصرفه في أملاكه.

وجملة من الأصحاب عبروا بإطلاق المنفعة عوض لفظ التسبيل ، وهو أظهر في مقابلة التحبيس ، وعرفه في الدروس بأنه الصدقة الجارية ، قال : وثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة ، قيل هذا التعريف تبعا لما ورد في الأخبار المتقدمة.

__________________

(1) سورة المائدة ـ الاية 103.

(2) المستدرك ج 2 ص 511 الباب 2 ح 1.


وذهب جمع ومنهم المحقق والعلامة في غير الكتابين المذكورين إلى افتقارهما إلى القرينة ، لاشتراكهما في الاستعمال بينه وبين غيره ، والمشترك لا يدل على شي‌ء من الخصوصيات من حيث هو ، ولأصالة بقاء الملك إلى أن يحصل الناقل الشرعي ، وهو غير معلوم.

وأما أقوال المتقدمين من الأصحاب في المقام فمنها قول الشيخ في الخلاف ، قال : إذا تلفظ بالوقف فقال : وقفت أو حبست أو تصدقت ، أو سبلت وقبض الموقوف عليه أو من يتولى عنه لزم الوقف.

وهذا الكلام كما ترى يعطي صحة الوقف بأي هذه الألفاظ من غير توقف على قرينة ، مع أنه قد ادعي الإجماع على الاختصاص بلفظ الوقف ، والإجماع على العدم مع عدم القرينة في لفظ تصدقت وحرمت ، كما قدمنا ذكره ، وقال في الخلاف أيضا : ألفاظ الوقف التي يحكم بصريحها قوله ، وقفت وحبست وسبلت وما عداها يعلم بدليل ، وبإقراره أنه أراد به الوقف ، وذلك كقوله تصدقت وحرمت وأبدت وبذلك قال ابن زهرة ، وقطب الدين الكيدري.

وقال في المبسوط : الذي يقوى في نفسي أن صريح الوقف قوله واحد ، وهو وقفت لا غير ، وبه يحكم بالوقف فأما غيره من الألفاظ فلا يحكم به الا بدليل ، وهو قول ابن إدريس قال : لأن الإجماع منعقد على أن ذلك الصريح في الوقف ، وليس كذلك ما عداه.

قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال : والوجه ما قاله الشيخ في المبسوط ، لنا أصالة بقاء الملك على صاحبه ، وعدم خروجه عنه الا بوجه شرعي ولا عرف شرعي هنا سوى صريح الوقف ، لاشتراك البواقي بينه وبين غيره ، والموضوع للقدر المشترك لا دلالة له على شي‌ء من الخصوصيات بشي‌ء من الدلالات نعم إذا انضم القرائن صار كالصريح في صحة الوقف به.

بقي الكلام هنا في أمور الأول : لو نوى الوقف فيما يفتقر إلى القرينة


وقع الوقف باطنا ، ودين بنيته ، ولو اعترف بذلك أخذ باعترافه ، كما أنه لو لم ينو بالصريح الوقف لم يكن وقفا باطنا ، وان حكم به بظاهر اللفظ ، لأن المدار في الصحة واقعا إنما هو على القصود والنيات.

والفرق بين الصريح وغيره مع اشتراكهما في اعتبار القصد والنية أن الصريح يحمل عليه ظاهرا ، قصد أو لم يقصد ، بخلاف غيره ، فإنه لا يحكم عليه الا مع القرينة ، أو الاعتراف بقصد الوقف ونيته ، وهو معنى كونه يدان بنيته.

الثاني : نقل عن العلامة في التذكرة الفرق بين اضافة لفظ الصدقة إلى جهة عامة كقوله تصدقت بهذا على المساكين ، وإضافته إلى جهة خاصة ، كقوله لمعين تصدقت به عليك أو عليكم فجعل الأول ملحقا بالصريح ، فيكون وقفا بخلاف الثاني ، فإنه يرجع فيه إلى نيته كما أطلقه غيره ، ورد بان الفرق غير واضح.

الثالث : ظاهر عبارات أكثر الأصحاب وهو صريح العلامة في التذكرة والقواعد أن كل واحد من الألفاظ الثلاثة التي هي غير صريحة في الوقف إجماعا يقع الوقف بكل منها مع نيته ، أو انضمام غيره اليه ، وقال الشهيد في الدروس :

ان ظاهر الأصحاب يدل على أن تصدقت وحرمت صيغة واحدة ، فلا تغني الثانية عن الأول ، وتغني الأولى مع القرينة ، قال في المسالك : وما ادعاه من الظاهرية غير ظاهر.

الرابع : لا يخفى على من له أنس بالاخبار ومن جاس خلال تلك الديار أن الوقف في الصدر الأول أعني زمن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وزمن الأئمة عليهم‌السلام إنما يعبر عنه بالصدقة ، لكن هذا التعبير محفوف بقرائن عديدة ، وألفاظ كثيرة تدل على ارادة الوقف ، ومن ذلك الأخبار المتقدمة في صدر المقصد المعبر في بعضها بصدقة جارية ، وفي آخر لا تورث ، والمراد بالجارية المستمرة بعده ، وهو كناية عن التأبيد.


ومن ذلك خبر صدقة علي عليه‌السلام (1) بداره التي في بني زريق ، قال : هذا ما تصدق به علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو حي سوي تصدق بداره التي في بني زريق صدقة لاتباع ولا توهب حتى يرثها الله تعالى الذي يرث السموات والأرض ، وأسكن هذه الصدقة خالاته ما عشن وعاش عقبهن ، فان انقرضوا فهي لذوي الحاجة من المسلمين».

وأخبار صدقة فاطمة عليها‌السلام (2) وأنها جعلتها لبني هاشم ، وبنى عبد المطلب.

وصدقة أمير المؤمنين (3) عليه‌السلام لما جائته البشير بالعين التي خرجت في ينبع فقال : عليه‌السلام بشر ، الوارث هي صدقة بتة بتلا في حجيج بيت الله وعابري سبيل الله ، لاتباع ولا توهب ، ولا تورث».

وصدقة الكاظم عليه‌السلام (4) بأرض له ، «وفيها تصدق موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح صدقة حبسا بتلا بتا لا مشوبة فيها ولا رد أبدا ابتغاء وجه الله عزوجل والدار الآخرة ، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها أو شيئا منها ، ولا يهبها ولا ينحلها» الحديث.

الى غير ذلك من الأخبار ، وبذلك علم اشتراك هذا اللفظ بين الوقف وبين الصدقة بالمعنى الآتي في المقصد الثاني.

وأما اللفظان الآخران فالاشتراك فيهما من حيث مفهوم اللفظ ، فإنه أعم من الوقف وغيره ولم أقف في شي‌ء من الأخبار لغير هذين اللفظين أعنى لفظي الوقف والصدقة على أثر ، فالأحوط أن يجعل العقد أحدهما خاصة ، وان صح بغيرهما من الكنايات المحفوفة بالقرائن بناء على المشهور ، الا أنه لا يبعد الانحصار في هذين اللفظين وقوفا على ما خالف الأصل على مورد النص بمعنى أن الأصل بقاء الملك لمالكه والذي ورد من الصيغة المخرجة منحصر في هذين اللفظين وليس

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 131 ح 7 ، الفقيه ج 4 ص 183 ح 23 ، الوسائل ج 13 ص 304 ح 4.

(2 و 3) الكافي ج 7 ص 48 وص 54 ح 4 و 9، التهذيب ج 9 ص 148 ح 56 ، الوسائل ج 13 ص 294 ح 8 وص 303 ح 2.

(4) الكافي ج 7 ص 53 ح 8 ، الوسائل ج 13 ص 314 ح 5.


الحكم هنا كسائر العقود المبنية على مجرد الرضا ، فكل لفظ دل عليه كفى في المراد وحصل به النقل ، ولهذا ان روايات سائر العقود غاية ما تدل عليه ، هو الأنعقاد بمجرد الألفاظ الجارية في مقام المحاورة بين المتعاوضين دالة على الرضا ، وفيما نحن فيه انما دلت على هذين اللفظين خاصة ، إلا أنه ربما انقدح الاشكال هنا من وجه آخر ، وهو انهم قد صرحوا باستعمال لفظ الوقف في مجرد الحبس الذي هو معناه لغة ، ويرجع الى ما يأتي من السكنى والعمرى والرقبى ، وعليه دلت الأخبار أيضا كما سيأتي إنشاء الله ، وبه ينقدح الاشكال فيما ادعوه من أن لفظ الوقف صريح في هذا المعنى المدعي الذي هو مشروط بالتأبيد ، وكيف يكون صريحا فيه مع استعماله نصا وفتوى فيما قلناه.

وكيف كان فالأحوط هو ضم القرائن الدالة على الوقف المدعى ، سوآء وقع التعبير بلفظ الوقف أو الصدقة ، والاقتصار على هذين اللفظين من حيث ورود النصوص بهما والله العالم.

الموضع الثاني : اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اشتراط القبول في الوقف بعد الاتفاق على الإيجاب فظاهر الأكثر حيث ذكروا الإيجاب ولم يتعرضوا لذكر القبول هو عدم اشتراطه مطلقا ، وهو أحد الأقوال في المسئلة ، وعلل بأن الأصل عدم الاشتراط ، ويؤيده أنه ليس في النصوص ما يدل عليه ، ولأن الوقف كالإباحة ، خصوصا إذا قلنا أن الملك فيه ينتقل الى الله عزوجل ، ولأنه فك ملك فيكفي فيه الإيجاب كالعتق ، واستحقاق الموقوف عليه النفقة كاستحقاق العتق منافع نفسه.

وقيل ، باعتباره مطلقا ، ونقل عن التذكرة ، لإطباقهم على أنه عقد ، فيعتبر فيه الإيجاب والقبول كسائر العقود ، ولأن إدخاله في ملك الغير بغير رضاه بعيد ، ولأصالة بقاء الملك على مالكه بدونه.

وقيل : بالتفصيل وهو اعتباره ان كان على جهة خاصة ، كشخص معين ،


أو جماعة معينين ، لما تقدم في سابق هذا القول ، ولإمكان القبول ، وان كان على جهة عامة كالفقراء والمساجد ونحوهما لم يعتبر ، لأنه حينئذ فك ملك ، ولأن الملك فيه ينتقل إلى الله عزوجل ، بخلاف الأول ، فإنه ينتقل فيه إلى الموقوف عليه.

أقول : وإلى هذا القول ذهب الشهيد في الدروس ، ويظهر من المحقق في الشرائع والشارح في المسالك الميل إليه ، وأنت خبير بأن الذي يظهر لي من تتبع الأخبار هو القول الأول لخلوها من ذكر ذلك في الوقوف الخاصة والعامة.

وقد تقدم صورة وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام داره التي في بني زريق على خالاته ، والخبر مروي في الفقيه في الصحيح عن ربعي (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «تصدق أمير المؤمنين عليه‌السلام بدار له في المدينة في بني زريق فكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدق به على بن أبي طالب عليه‌السلام الحديث». كما تقدم.

والتقريب فيه أنه لو كان القبول شرطا لنقله عليه‌السلام في حكاية الصدقة المذكورة ، لأنه ليس الغرض من حكاية ذلك إلا بيان الأحكام في المقام ، وظاهره لزوم الوقف وصحته بهذا اللفظ الذي كتبه عليه‌السلام في ذلك ، وإثبات شي‌ء يزيد على ذلك يتوقف على الدليل ، وأصالة العدم أقوى مستمسك ، في المقام.

ونحو هذا الخبر ما رواه الشيخ في التهذيب عن عجلان أبي صالح (2) «قال أملى علي أبو عبد الله عليه‌السلام بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدق به فلان بن فلان وهو حي سوي بداره التي في بنى فلان بحدودها صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث حتى يرثها وارث السموات والأرض وأنه قد أسكن صدقته هذه فلانا وعقبه فإذا انقرضوا فهي على ذي الحاجة من المسلمين».

ومن الظاهر أن ما ذكره عليه‌السلام إنما هو تعليم للناقل كيفية الوقف المترتبة

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 183 ح 23 ، الوسائل ج 13 ص 104 ح 4.

(2) التهذيب ج 9 ص 131 ح 5 ، الوسائل ج 13 ص 303 ح 3.


عليه أحكامه ، ولو كان القبول من شروط الصحة فيه كما ادعوه لذكره عليه‌السلام.

ومن ذلك أيضا حديث صدقة الكاظم عليه‌السلام (1) بأرض له على أولاده المروي في الكافي ، وفيه هذا ما تصدق به موسى بن جعفر عليه‌السلام بأرض بمكان كذا وكذا وحد الأرض كذا وكذا كلها ونخلها وأرضها وبياضها ومائها وأرجائها وحقوقها وشربها من الماء إلى أن قال : تصدق بجميع حقه من ذلك على ولده من صلبه الرجال والنساء ، ثم ذكر قسمة الغلة بعد عمارة الأرض وما يحتاج اليه عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، وذكر شروطا في البنات إلى أن قال : صدقة حبسا بتلا بتا لا مشوبة فيها ، ولا رد أبدا ابتغاء وجه الله تعالى سبحانه والدار الآخرة ، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها ولا شيئا منها ، ولا يهبها ولا ينحلها ولا يغير شيئا منها مما وصفته حتى يرث الله الأرض ومن عليها» : ثم ذكر الناظر في الوقت من أولاده على ترتيب ذكره عليه‌السلام ولم يتعرض فيها لذكر القبول ، فلو أنه شرط في الصحة كما ادعوه لأخبر بأنهم قد قبلوا ذلك ، وهذا الكتاب حجة على منكر الوقف من أولاده ، ولو كان القبول شرطا في الوقف والحال أنه لم يذكره في الكتاب لكان للمنازع أن يبطل الوقف لهذه الدعوى فلا يكون كتابه عليه‌السلام حجة في ذلك ، وهذا خلف ، وهذه جملة من أخبار الوقوف الخاصة.

ومن الأخبار في الوقوف العامة خبر وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام العين التي في ينبع ، والخبر مروي في التهذيب عن أيوب بن عطية الحذاء (2) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قسم نبي الله الفي‌ء فأصاب عليا عليه‌السلام أرض فاحتفر فيها عينا فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير فسماها ينبع فجاء البشير يبشره فقال : عليه‌السلام بشر الوارث هي صدقة» الحديث. كما تقدم ومعلومية عدم الاشتراط فيه أظهر.

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 53 ح 8 ، الوسائل ج 13 ص 314 ح 5.

(2) التهذيب ج 9 ص 148 ح 56 ، الوسائل ج 13 ص 303 ح 2.


وبالجملة فإنه لا أثر لهذا الشرط في الأخبار ، ولا دليل بالكلية غير هذه الوجوه الاعتبارية ، وأصالة العدم أقوى دليل ، والله الهادي إلى سواء السبيل ، قال في المسالك بعد الكلام في ذلك : وحيث يعتبر القبول مطلقا أو على بعض الوجوه يعتبر فيه ما يعتبر في غيره من العقود اللازمة من اللفظ العربي المطابق للإيجاب المتعقب له بغير فصل يعتد به ، الى غير ذلك من الشروط ، ويتولاه في المصالح العامة على القول باعتباره الناظر عليها كالحاكم ومنصوبه كما يتولى غيره من المصالح ، وعلى القولين لا يعتبر قبول البطن الثاني ولا رضاه ، لتمامية الوقف قبله فلا ينقطع ، ولأن قبوله لا يتصل بالإيجاب ، فلو اعتبر لم يقع له كغيره من العقود اللازمة ، انتهى.

وأنت خبير بما في أكثر هذا الكلام ، وان جمد عليه جملة ممن تأخر عنه من الأعلام ، فإنه نفخ في غير ضرام كما تقدمت الإشارة إليه في غير مقام ، مضافا الى ما عرفت من أنه لا دليل هنا على هذا القبول ، وما ذكره من الاشتراطات المذكورة في العقود اللازمة كله محض دعا ولا دليل عليها إلا مجرد أمور اعتبارية عللوها بها ، مع ردها بالأخبار الظاهرة في خلافها.

ثم ان قوله وعلى القولين لا يعتبر قبول البطن الثاني ولا رضاه لتمامية الوقف قبله لا يخلو من المناقشة ، فإن هذا انما يتم لو قام الدليل على اشتراط الرضا في البطن الأول ، فيقال : حينئذ ان شرط صحة الوقف قد حصل ، وانعقد الوقف ، والحكم ببطلانه بعد ذلك يحتاج الى دليل ، ولم يثبت ان عدم رضا البطن الثاني موجب للبطلان. أما على ما قلناه من أنه لا دليل على القبول ، ولا على اعتبار الرضا في البطن الأول بل ظاهر الأدلة انما هو الأعم كما سمعت من أوقاف الأئمة عليهم‌السلام فإنه ليس فيها اشارة ، فضلا عن صريح الدلالة باعتبار رضا الموقوف عليه ولا قبوله ، فإنه يكون ذلك في البطن الثاني بطريق أولى ، واللازم لهم باعتبار اشتراطهم ذلك في البطن الأول بهذه التعليلات الاعتبارية ، هو كونه


كذلك في البطن الثاني ، إذ العلة مشتركة ، والتعليل بتمامية الوقف قبله معلوم فإنه يمكن أن يقال : ان تمامية الوقف مراعاة برضا البطن الثاني والثالث وهكذا فان حصل استمر الوقف ، والا بطل ، والتعليل بأن قبوله لا يتصل بالإيجاب أظهر بطلانا ، فإنه انما يتم لو قام دليل على ما يدعونه من هذا الشرط ، وقد عرفت أنه لا دليل عليه ان لم تكن الأدلة واضحة في خلافه ، بل هي كذلك كما لا يخفى على من راجع أخبار العقود والله العالم.

المطلب الثاني في شرائط الوقف :

قالوا : وهي أربعة : الدوام والتنجيز والإقباض وإخراجه عن نفسه ، فهنا مسائل الاولى : الظاهر من كلام الأكثر هو اشتراط الدوام في الوقف ، وقد تقدم في أخبار وقوف الأئمة عليهم‌السلام ما يدل عليه ، وظاهره في المسالك المناقشة في ذلك حيث ذكر أنه متنازع مشكوك فيه ، واقتفاه صاحب المفاتيح في ذلك فقال : ان اشتراط التأبيد لا دليل عليه ، بل الأصل والعمومات تنفيه.

أقول : لا يخفى ان العقود الشرعية الموجبة لنقل الأملاك يجب الوقوف فيها على ما رسمه صاحب الشريعة من الكيفية والشروط فعلا أو أمرا بذلك ، والأوقاف التي صدرت منهم عليهم‌السلام كما قدمنا لك جملة منها ، قد اشتملت على التأبيد ، لقولهم حتى يرثها الله الذي يرث السموات والأرض ، وهو كناية عن دوامها الى يوم القيامة ، والخروج عنها بغير معارض سفسطة ، وبه يظهر ما في تمسكه بالأصل والعموم ، فإنه ناش عن الغفلة عن ملاحظة الأخبار المذكورة كما لا يخفى ، وحينئذ فلو قرنه بمدة معينة كسنة مثلا أو وقف على من ينقرض غالبا فإنه يبطل الوقف بغير خلاف.

وانما الخلاف هنا في مواضع ثلاثة الأول ـ فيما لو قرنه بمدة معينة ، فإنه هل يصح أن يكون حبسا فلا يبطل بالكلية أم لا؟ قولان : وبالثاني منهما صرح المحقق في الشرائع ، لأن شرط الوقف الدوام ، فيبطل ، لعدم حصول الشرط ،


وبالأول صرح الشهيد في الدروس ، واختاره في المسالك ، قال : لوجود المقتضي وهو الصيغة الصالحة للحبس ، لاشتراك الوقف والحبس في المعنى ، فيمكن اقامة كل منهما مقام الآخر ، فإذا قرن الوقف بعدم التأبيد كان قرينة لإرادة الحبس ، كما لو قرن الحبس بالتأبيد فإنه يكون وقفا كما مر ، وهذا هو الأقوى ، لكن انما يتم مع قصد الحبس ، فلو قصد الوقف الحقيقي وجب القطع بالبطلان لفقد الشرط ، انتهى.

أقول : من الظاهر أنه يمكن إرجاع القول الأول الى ما ذكره من هذا التفصيل ، فان تعليل القول المذكور بما تقدم من قوله ان الدوام شرط فيبطل الوقف بعدم الشرط ، يشير الى ذلك ، حيث أن غاية ما يعطيه هو بطلان الوقف لا بطلان الحبس ، والا لاحتياج في بطلان الحبس إلى أمر زائد على ما ذكر مع أنه غير مذكور في كلامه القول بالصحة ، وكونه حبسا صرح ابن إدريس أيضا فقال والوقف لا يصح إلا أن يكون مؤبدا على ما قدمناه ، فلا يصح أن يكون موقتا. فان جعله كذلك لم يصح الا أن يجعله سكنى أو عمري أو رقبى على ما سنبينه عند المصير اليه.

والأظهر في الاستدلال على الصحة في الصورة هو ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الصحيح عن علي بن مهزيار (1) قال : «قلت : روى بعض مواليك عن آبائك عليهم‌السلام أن كل وقف الى وقت معلوم فهو واجب على الورثة وكل وقف الى غير وقت معلوم جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة ، وأنت أعلم بقول آبائك عليهم‌السلام فكتب عليه‌السلام : هو عندي كذا».

والظاهر أن معنى الخبر المذكور هو أن الوقف إذا كان مقيدا بوقت معلوم كما هو محل البحث فهو صحيح واجب على الورثة إنفاذه في تلك المدة ، ويكون حبسا ، وان لم يذكر له وقت ، أو كان وقتا مجهولا كأن يقول : الى وقت ما ، فإنه يكون باطلا.

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 132 ح 8 ، الفقيه ج 4 ص 176 ح 3 ، الكافي ج 7 ص 36 ح 31 ، الوسائل ج 13 ص 307 ح 1.


والشيخ (رحمة الله عليه) في الكتابين حمل الوقت هنا على الموقوف عليه دون المدة.

استنادا إلى صحيحة الصفار (1) قال : كتبت الى أبى محمد عليه‌السلام أسأله عن الوقف الذي يصح كيف هو؟ فقد روى أن الوقف إذا كان غير موقت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقتا فهو صحيح ممضى ، قال قوم : ان الموقت هو الذي يذكر فيه أنه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين الى أن يرث الله الأرض ومن عليها : وقال آخرون : هذا موقت إذا ذكر أنه لفلان وعقبه ما بقوا ، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين الى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والذي هو غير موقت أن يقول : هذا وقف ، ولم يذكر أحدا فما الذي يصح من ذلك ، وما الذي يبطل؟ فوقع عليه‌السلام الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها.

أقول : لا يخفى أن المتبادر من لفظ الوقت انما هو الزمان ومجرد تفسير هؤلاء المذكورين بالموقوف عليه مجازا لا يقتضي تقييد ذلك الخبر بذلك ، بل يحمل كل منهما على ما دل عليه كما هو المقرر في كلام الأصحاب ومع تسليم التقييد ، فإنه يكفي في الاستدلال على ما نحن فيه بهذا الخبر إطلاق قوله عليه‌السلام «الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها» ويدل على أنه إذا وقفه مقيدا بمدة معينة كان صحيحا في تلك المدة ، ويخرج من هذا الإطلاق ما قام الدليل على بطلانه كما لو وقف بغير مدة ، ولا ذكر الموقوف عليه ، ونحوه من الوقوف التي قام الدليل على بطلانها ، وفي هذين الخبرين دلالة على ما قدمنا ذكره من صحة إطلاق الوقف على التحبيس وبه يظهر أن ما قدمنا نقله عنهم من أن لفظ وقف صريح في الوقف المؤبد ليس في محله.

الثاني : لو وقف على من ينقرض غالبا ولم يذكر المصرف بعده ، كأن وقف على أولاده واقتصر على بطن أو بطون ، فهل يصح وقفا أو حبسا أو يبطل؟ أقوال

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 132 ح 9 ، الفقيه ج 4 ص 176 ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 307 ح 2.


ثلاثة : وبالأول قال الشيخان ، وابن الجنيد ، وسلار ، وابن البراج ، وابن إدريس على ما نقله في المختلف ، والظاهر أنه المشهور.

وبالثاني قال العلامة في القواعد والإرشاد ، وبه قال ابن حمزة ، فإنه قال على ما نقله في المختلف : فان علق على وجه يصح انقراضه كان عمري ، أو رقبى أو سكنى أو حبسا بلفظ الوقف.

والثالث غير معلوم قائله ، وقال الشيخ في المبسوط والخلاف : إذا وقف على على من يصح انقراضه في العادة مثل أن يقف على ولده وولد ولده وسكت ، فمن أصحابنا من قال : لا يصح الوقف ، ومنهم من قال يصح.

أقول : والى القول بالصحة قال العلامة في المختلف ، واحتج عليه قال : لنا أنه نوع تمليك وصدقة ، فيتبع اختيار المالك في التخصيص وغيره ، كغير صورة النزاع ، وللأصل ، ولأن تمليك الأخير ليس شرطا في تمليك الأول ، وإلا لزم تقدم المعلول علي العلة.

وما رواه أبو بصير (1) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : ألا أحدثك بوصية فاطمة عليها‌السلام؟ قلت : بلى فأخرج حقا أو سفطا فأخرج منه كتابا فقرأه «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أوصت بحوائطها السبعة العواف والدلال والبرقة والميثب والحسنى والصافية وما لأم إبراهيم الى علي بن أبي طالب عليه‌السلام فان قضى علي فإلى الحسن فان مضى فإلى الحسين فان مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي شهد الله على ذلك ، والمقداد بن الأسود والزبير بن العوام ، وكتب علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ثم قال (قدس‌سره) : ويمكن أن يتعرض على الحديث بأنها عليها‌السلام علمت عدم انقراض أولادها من النص على الأئمة عليهم‌السلام وأن الدنيا تقبض مع انقراضهم ، ومن

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 144 ح 50 ، الفقيه ج 4 ص 180 ح 13 ، الوسائل ج 13 ص 311 ح 1.


قوله (1) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حبلان متصلان لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كتاب الله وعترتي أهل بيتي ،». قال (قدس‌سره) : احتج المانعون بأن الوقف مقتضاه التأبيد ، فإذا كان منقطعا صار وقفا على مجهول ، فلم يصح كما لو وقف على مجهول في الابتداء.

والجواب المنع من الصغرى ، والفرق بينه وبين مجهول الابتداء ظاهر ، فان المصرف غير معلوم هناك ، وأما هنا فالمصرف معلوم ، انتهى.

وأنت خبير بما فيه مما يكشف عن ضعف باطنه وخافية فإن لقائل أن يقول ان ما ذكره من انه نوع تمليك مردود بأنه لم يعقل في التمليك كونه موقتا بمدة وكذا الصدقة وما ذكره من الأصل بمعنى أصالة الصحة متوقف على اجتماع شرائط الصحة ، وهو عين المتنازع ، لان الخصم يجعل من تلك الشرائط التأبيد ، فالاستدلال بذلك لا يخرج عن المصادرة ، وهكذا ما ذكره غيره من الاستناد الى الأمر بالوفاء بالعقود ، فإنه موقوف على تحقق العقد ، ومع عدم جمعه الشرائط لا يصير عقدا يمكن الاستدلال به ، فهو لا يخرج عن محل النزاع.

وأما قوله ولأن تملك الأخير ليس شرطا ففيه أنا لا ندعي كونه شرطا وانما الشرط بيان المصرف الأخير ليتحقق معنى الوقف ، وهو هنا غير حاصل ، فلا يتم صحة الوقف.

وأما الخبر الذي أورده ففيه أولا أنه لم يصرح فيه بالوقف ، وانما هو وصيته والظاهر أن المراد انما هو الوصية بالولاية على الوقف ، لما دل عليه غيره من أن صدقتها كانت لبني هاشم ، وبنى المطلب ، وسيأتي الخبر المذكور إنشاء الله تعالى ، فهو خارج عن محل البحث.

وثانيا أنه مع تسليم ارادة الوقف من هذا اللفظ فالجواب عنه ما ذكره من علمها عليها‌السلام ببقاء الموقوف عليه الى تمام الدنيا ، فلا يكون ايضا من محل البحث.

__________________

(1) الوسائل ج 18 ص 19 ح 9 الباب 5 من أبواب صفات القاضي.


وبالجملة فإن القول بكونه وقفا والحال هذه انما يتم بمنع اشتراط التأبيد في الوقف ، وهم لا يقولون به ، فإن جملة من نقلنا خلافه في هذه المسئلة وقوله بكونه وقفا قد صرح باشتراط الدوام في الوقف ، وهو مناقضة ظاهرة ، وممن صرح بذلك ابن إدريس في سرائره ، والشيخ في النهاية والمبسوط ، والعلامة في القواعد والإرشاد ، والمحقق وغيرهم.

نعم ظاهر المفيد في المقنعة حيث لم يصرح بهذا الشرط هو عدم شرطيته وحينئذ فالمناقضة غير لازمة له ، وأما غيره فالأمر فيه كما ترى.

وبالجملة فإن مقتضى القول بشرطيته هو ما قلناه من عدم القول بصحته وقفا هنا ، سيما مع دلالة ظاهر النصوص على شرطيته كما عرفت ، وحينئذ فيجب انتفاء القول بالوقف ، والظاهر حينئذ من القولين الباقيين هو القول بالتحبيس وعلى تقدير النزاع في شرطية التأبيد كما يظهر من المسالك ، أنه لا يظهر الفرق هنا بين كونه وقفا وحبسا الا بالقصد ، والواجب هو الرجوع في ذلك اليه ، إلا أن فائدة الفرق بين الأمرين على هذا الوجه نادرة ، والأقرب عندي هو القول بالتحبيس لما عرفت من ثبوت شرطية الدوام في الوقف ، فلا يمكن الحكم بكونه وقفا ، وليس القول بالتحبيس إلا لزوم استعمال لفظ الوقف في الحبس مجازا ، وقد عرفت أنه شائع في الأخبار.

وتدل على الصحة وكونه حبسا هنا صحيحة الصفار المتقدمة ، والتقريب فيها أن السائل سأله أنه قد روى أنه ان كان موقتا فهو صحيح ممضى ، ولكن اختلف الأصحاب في هذا الفرد الصحيح هل هو المؤبد أو منقطع الأخر؟ فأجاب عليه‌السلام بأن الوقف على حسب ما يذكره الواقف ، بمعنى أنه ان ذكره الوقف مؤبدا فهو وقف مؤبد ، وان ذكره منقطع الآخر فهو وقف ما دام الموقوف عليه موجودا.

الثالث : قد عرفت الخلاف في الوقف المنقطع الآخر وأن الأشهر هو الصحة ، أما وقفا كما هو أحد الأقوال ، أو حبسا ، ثم انه لو لم ينقرض الموقوف عليه بل


استمر كما لو وقف على أولاده ، ثم أولاد أولاده ، وهكذا واستمر الانتساب ، فالظاهر أنه لا خلاف في صحة الوقف

أما لو انقرضوا فقد اختلف الأصحاب فيمن يرجع اليه ، فقيل : برجوعه إلى ورثة الواقف ، وقيل : ورثة الموقوف عليهم ، وقيل : انه يصرف في وجوه البر ، وبالأول قال الشيخ وسلار وابن البراج ، واختاره العلامة في المختلف بل في أكثر كتبه ، والمحقق في الشرائع ، وأسنده في المسالك إلى الأكثر ورجحه.

وبالثاني قال الشيخ المفيد وابن إدريس وقواه العلامة في التحرير.

وبالثالث قال ابن زهرة ، قال : وقد روي أنه يرجع الى ورثة الواقف ، والأول أحوط ، ونفى عنه البأس العلامة في المختلف ، وظاهر الشهيد في الدروس التوقف في الحكم المذكور ، حيث اقتصر على نقل الأقوال في المسئلة ، ولم يرجح منها شيئا ، وهذا الخلاف هنا متفرع على القول بكونه وقفا كما هو المشهور بينهم ، وإلا فإنه على تقدير كونه حبسا لا إشكال في أنه انما يرجع الى الواقف أو ورثته ، كما هو قضية التحبيس المختص بمن حبس عليه ، وأظهر منه في ذلك القول بالبطلان ، واستدل للقول الأول بأنه بالوقف لم يخرج عن ملك المالك بالكلية ، وانما تناول أشخاصا فلا يتعدى الى غيرهم ، ولظاهر قول العسكري عليه‌السلام (1) الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها إنشاء الله تعالى. والواقف إنما وقفه هنا على من ذكره ، فلا يتعدى الى غيرهم ، ويبقى أصل الملك لمالكه.

واستدل للقول الثاني بانتقال الملك الى الموقوف عليه قبل الانقراض ، فيستصحب ، ولأن عوده الى الواقف بعد خروجه يفتقر الى سبب ولم يوجد ، ولأنه نوع صدقة ، فلا يرجع اليه.

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 129 ح 2 ، الفقيه ج 4 ص 176 ح 1 ، الكافي ج 7 ص 37 ح 34 ، الوسائل ج 13 ص 307 ح 2.


وللثالث بما ذكره العلامة في المختلف ، ونفى عنه البأس حيث قال : ولا بأس بقول ابن زهرة ، لانتقال الوقف من الواقف ، وزوال ملكه عنه ، والعجب ان هذه الحجة التي احتج بها لابن زهرة ترجع الى ما استدل به على القول الثاني ، وهو في المختلف قد أجاب عن ذلك بالمنع من كون الوقف مطلقا ناقلا بل المؤبد ، قال : ونمنع من كون الموقوف عليه مالكا إلا مع التأبيد ، وما أجاب به عن ذلك الدليل لازم له في رد دليله المذكور.

وبذلك يظهر لك ما في القولين الآخرين من القصور ، وأن الظاهر هو القول المشهور ، إلا أن كلامهم هنا غير خال من الإجمال ، بل تطرق الاشكال ، لما عرفت من أن هذا الخلاف متفرع على القول بصحة الوقف كما هو المشهور والذي هو أحد الأقوال الثلاثة في المسئلة المتقدمة في الموضع الثاني ، وإلا فعلى القول بكونه حبسا فإنه يرجع الى الواقف أو ورثته بغير خلاف ولا اشكال ، وعلى القول بالبطلان فالأمر أظهر مع أنك قد عرفت فيما تقدم أن هذا القول وان كان هو المشهور إلا أن ذكرهم التأبيد في شروط الوقف ـ كما صرح به من وقفت على كلامه منهم عدا المفيد في المقنعة ـ لا يجامع القول بصحة الوقف في الصورة المذكورة ، لأن الوقف هنا منقطع غير مؤبد والوقف الصحيح إنما هو المؤبد.

نعم بناء على ما اخترناه في المسئلة الأولى من كونه حبسا يتجه القول برجوع ذلك الى ورثة الواقف ، ويصير الخلاف في هذه المسئلة ساقطا لا معنى له ، وهذا غاية ما تدل عليه الصحيحة المنقولة عن العسكري عليه‌السلام (1) من «أن الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». والمراد فيها بالوقف ما هو أعم من الوقف المبحوث عنه والتحبيس ، فهو ان كان مؤبدا وقف ، وان كان مقطعا تحبيس ، وأما قول ابن زهرة وقد روى أنه يرجع الى ورثة الواقف ، وكذا قول الشيخ في المبسوط في هذه المسئلة ، وقال قوم : يرجع اليه ان كان حيا والى ورثته ان كان ميتا

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 129 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 307 ح 2.


وبه تشهد روايات أصحابنا ، فإن أريد به كما هو ظاهر كلامه أن هنا أخبارا دالة على موضع البحث ، وأنه مع كون الوقف منقطعا قد صرحت الأخبار بالرجوع الى الواقف أو ورثته بعد انقراض الموقوف عليه فإنه لم يصل إلينا في الأخبار ما يدل على ذلك ، وإلا لزال إشكال في هذا المجال ، وان أريد هذه الصحيحة المذكورة وقريب منها الصحيحة الأخرى المتقدمة معها ، فإن غاية ما تدلان هو أن الوقف يتبع فيه ما رسمه الواقف ، والوقف فيهما أعم من التحبيس والوقف بالمعنى المبحوث عنه وغاية ما تدلان عليه الاقتصار في الوقف على الجماعة الموقوف عليهم ، واللازم من ذلك هو الرجوع بعد انقراض الموقوف عليه الى الواقف أو ورثته ، وهذا هو معنى التحبيس وان سمي وقفا ، هذا ما أدى اليه الفكر الكليل والذهن العليل من الكلام في المقام ، حسب ما رزق الله تعالى فهمه من أخبارهم عليهم‌السلام.

ثم انه بناء على القول المشهور من الرجوع الى ورثة الواقف بعد انقراض الموقوف عليه ، فله المراد وارثه حين الانقراض ، أو وارثه بعد موته مسترسلا الى أن يصادف الانقراض؟ وجهان قالوا : وتظهر الفائدة فيما لو مات الواقف عن ولدين ، ثم مات أحدهما عن ولد قبل الانقراض : فعلى الأول يرجع الى ولد الباقي خاصة ، وعلى الثاني يشترك هو وابن أخيه لتلقيه من أبيه ، كما لو كان معينا.

المسئلة الثانية : المشهور في كلام المتأخرين أن من جملة شروط الوقف التنجيز وهذا الشرط لم أقف عليه في جملة من كتب المتقدمين ، منها كتاب النهاية للشيخ والمبسوط ، وكتاب السرائر لابن إدريس ، وكذا المقنعة للشيخ المفيد ، فإنه لم يتعرض أحد منهم لذكره في الكتب المذكورة ، مع أنه لا نص عليه فيما أعلم.

وبذلك اعترف في المسالك أيضا فقال ، وليس عليه دليل بخصوصه وأرادوا بالتنجيز ما تقدم في كتاب الوكالة ، من أن لا يكون معلقا بوصف لا بد من وقوعه كطلوع الشمس ، ومجي‌ء رأس الشهر ، وهو باصطلاحهم تعليق على الصفة ، وأن لا يكون معلقا على ما يحتمل الوقوع وعدمه ، كمجي‌ء زيد مثلا ، ويسمى


بالمعلق علي شرط ، أما لو كان الشرط واقعا والواقف عالم به كقوله وقفت ان كان اليوم الجمعة مع علمه بذلك ، فإنه يصح عندهم ، وقد تقدم البحث معهم في ذلك في الكتاب المشار اليه ، وحيث قد عرفت ان الحكم المذكور غير منصوص نفيا ولا إثباتا.

فلو وقع الوقف على هذه الكيفية ، فيمكن القول بعدم الصحة استنادا الى أن العقود الناقلة متلقاة من الشارع ، ولم يثبت كون هذا منها ، والأصل بقاء الملك لمالكه ، ولا يقال : انه يمكن القول بالصحة نظرا الى قوله عليه‌السلام «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». لأنا نقول : المتبادر من الخبر المذكور انما هو باعتبار العموم والخصوص ، والتشريك والانفراد ، والتساوي والتفضيل في الموقوف عليه والتأبيد والتحبيس ونحو ذلك لا باعتبار ما ذكر هنا.

المسئلة الثالثة : لا خلاف في اشتراط القبض في صحة الوقف وتمامه بحيث أنه بعده لا رجوع في الوقف ، وأما قبله فله الرجوع ولو مات قبله رجع ميراثا ، بمعنى أن الانتقال عن المالك مشروط بالعقد والقبض فيكون العقد جزء السبب الناقل ، وتمامه القبض ، وعلى هذا فالعقد في نفسه صحيح ، الا أنه غير ناقل إلا بالقبض ، ولهذا جاز فسخه قبل القبض ، وبطل بالموت قبله.

ومن ذلك يعلم أن النماء المتخلل بين العقد والقبض للواقف ، وربما عبر بعضهم بأنه شرط في اللزوم ، والظاهر أن مراده ما ذكر لا ما يتبادر من ظاهر هذه العبارة ، وقد صرح في المسالك بذلك.

وبالجملة فالظاهر أن أصل الحكم لا اشكال فيه ولا خلاف نصا وفتوى ، والذي وقفت عليه من النصوص المتعلقة بهذا الحكم ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن صفوان بن يحيى (1) «عن أبى الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 37 ح 36 ، التهذيب ج 9 ص 134 ح 13 ، الوسائل ج 13 ص 298 ح 4.


يوقف الضيعة ثم يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا ، فقال : ان كان أوقفها لولده ولغيرهم ، ثم جعل لها قيما لم يكن له أن يرجع وان كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتى يبلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها ، وان كانوا كبارا لم يسلمها إليهم ولم يخاصموا حتى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها ، لأنهم لا يحوزونها وقد بلغوا».

وما رواه الصدوق في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بسنده إلى محمد بن جعفر الأسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله من محمد بن عثمان (1) العمري (رضي‌الله‌عنه) عن صاحب الزمان (صلوات الله عليه) ، ورواه الطبرسي في الاحتجاج (2) عن أبى الحسين محمد بن جعفر الأسدي عن محمد بن عثمان عن صاحب الزمان عليه‌السلام قال : وأما ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يحل لنا ثم يحتاج اليه صاحبه فكل ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار ، وكل ما سلم فلا خيار فيه لصاحبه احتاج أو لم يحتج افتقر اليه أو استغنى عنه ، الى أن قال : وأما ما سألت من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة يسلمها لمن يقوم فيها ويعمرها ، ويؤدي من دخلها خراجها ومؤنتها ، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا فان ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها ، انما لا يجوز ذلك لغيره».

واستدل الأصحاب (رضوان الله عليهم) هنا بجملة من الأخبار التي بلفظ الصدقة بناء على ما فهموه منها من حمل الصدقة فيها على الوقف ، وسيأتي نقلها إنشاء الله تعالى في محلها.

ومنها ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة (3) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال في رجل تصدق على ولد له قد أدركوا : قال : إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث

__________________

(1) الوسائل ج 13 ص 300 ح 8 الباب 4 من أبواب أحكام الوقوف ، كمال الدين ص 520 ح 49.

(2) الاحتجاج ج 2 ص 298 ط النجف.

(3) التهذيب ج 9 ص 137 ح 24 ، الوسائل ج 13 ص 299 ح 5.


فان تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأن الوالد هو الذي يلي أمره وقال : لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله.

وبهذه الرواية استدل الأصحاب (رضوان الله عليهم) على أن موت الواقف قبل الإقباض مبطل للوقف ، وموجب لرجوعه ميراثا حيث أنهم فهموا من الصدقة هنا الوقف.

واعترضهم في المسالك فقال : وقد فهم الأصحاب من الحديث أن المراد بالصدقة الوقف ، واستدلوا به على ما ذكرناه ، مع احتمال أن يريد بالصدقة معناه الخاص ، فلا يكون دليلا ، ويؤيده قوله في آخر الحديث ، «وقال : لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله تعالى» فان الحكم من خواص الصدقة الخاصة ، لا الوقف.

أقول : قوله فان الحكم من خواص الصدقة الى آخره محل بحث سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى ، وقال في المسالك : والظاهر أن موت الموقوف عليه قبل القبض كموت الواقف ، لأن ذلك هو شأن العقد الجائز فضلا عن الذي لم يتم ملكه ولكنهم اقتصروا على المروي ، ويحتمل هنا قيام البطن الثاني مقامه في القبض ويفرق بينهما بأن يموت الواقف ينتقل ماله الى وارثه وذلك يقتضي البطلان كما لو نقله في حياته ، بخلاف موت الموقوف عليه ، فان المال بحاله ولم ينتقل الى غيره ، لعدم تمامية الملك ، وفي التحرير توقف في صحته إذا قبض البطن الثاني ولم يذكره في غيره ولا غيره ، انتهى.

وفيه أن المفهوم من الأخبار المتقدمة والمتبادر من إطلاق القبض انما هو بالنسبة إلى البطن الأول ، وهو الموقوف عليه أولا ، فإن قوله في صحيحة صفوان المذكورة «وان كان لم يسلمها إليهم فله أن يرجع» وقوله في الرواية الثانية «وكلما لم يسلم فصاحبه بالخيار» ظاهر في أن القبض الموجب للزوم إنما هو بالنسبة إلى الموقوف عليه أولا ، وإلا فإنه متى لم يقبض فالواقف بالخيار ، ان شاء


سلمه ولزم الوقف ، وان شاء لم يسلمه فيبطل الوقف ، على أنه لو صح ما احتمله بالنسبة إلى البطن الثاني لجرى أيضا فيما بعده.

وبالجملة فإن الانتقال إلى البطن الثاني فرع صحة الوقف ولزومه بالنسبة إلى البطن الأول ، وإلا لصح الوقف لو وقف أولا على من لا يصح الوقف عليه ثم على غيره ممن يصح ، وهم لا يقولون به ، ثم انه يجب أن يعلم أن القبض المعتبر هنا هو القبض المتقدم تحقيقه في كتاب البيع.

وتمام تحقيق الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور الأول : الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في أن قبض الولي لمن هو ولي عليه كقبضه وان كان الواقف الولي ، كما لو وقف على أولاده الأصاغر ، فإن قبضه قبل الوقف كاف في قبضه لهم بعده ، وعليه تدل صحيحة صفوان المتقدمة ، وكذا رواية عبيد بن زرارة ، ومثلهما روايات أخر أيضا ، ولا يجب تجديد النية والقصد في كونه قبضا عن المولى عليه ، لعدم الدليل عليه ، وإطلاق النصوص يقتضي العدم ، واحتمل بعضهم اعتبار قصده قبضا عن المولى عليه بعد العقد ، لأن القصد هو الفارق بين القبض السابق الذي كان على جهة الملك ، واللاحق الذي للموقوف عليه.

وإطلاق النصوص المذكورة يرده ، إلا أن ظاهر صحيحة صفوان ربما أشعر به ، لقوله «وان كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتى يبلغوا فيحوزها لهم» فان الظاهر أن المراد قصد ولايتها لهم ، إلى أن يبلغوا ، فلا بد حينئذ من تجديد النية ، على أن التحقيق أن التجديد أمر لا بدئ لا ينفك عنه الواقف كذلك بحسب الطبيعة والجبلة ، لأن من كان له ملك وأزال ذلك الملك عن نفسه بنقله الى غيره ممن له الولاية عليه ، فإنه لا بد من تغير قصده ، ونيته في وضع اليد عليه من أنه بالملك في الأول ، وبالولاية في الثاني ، فاختلاف القصد بين الحال الأولى والثانية أمر جبلي طبيعي كما لا يخفى ، والظاهر كما استظهره جملة من الأصحاب ان ما كان في يد الولي بطريق الوديعة أو العارية ، ووقفه صاحبه على المولى عليه


فان قبضه بإحدى الطريقتين المذكورتين كاف ، كما لو كان هو الواقف.

الثاني : الظاهر أنه لا فرق في الاكتفاء بقبض الولي بين كون الولي أبا أو جدا أو وصيهما أو حاكما شرعيا ، وان كان مورد الأخبار المتقدمة الأب ، فإنها إنما خرجت مخرج التمثيل ، لا الاختصاص ، إذا العلة مشتركة بين الجميع ، وتردد بعض الأصحاب في إلحاق الوصي بالمذكورين ، نظرا إلى ضعف يده وولايته بالنسبة إلى غيره.

قال في المسالك ونعم ما قال في رد هذا المقال : ولا وجه للتردد ، فإن أصل الولاية كاف في ذلك ، والمعتبر هو تحقق كونه تحت يدي الواقف ، مضافا إلى ولايته على الموقوف عليه ، فتكون يده كيده ، ولا يظهر لضعف اليد وقوتها أثر في ذلك ، انتهى وهو جيد.

الثالث : الظاهر أن المشهور هو كون القبض باذن الواقف ، فلو وقع بدونه لغى وتوقف فيه صاحب الكفاية ، قال : وحجته غير واضحة ، وعلله في الروضة بامتناع التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، والحال أنه لم ينتقل إلى الموقوف عليه بدونه.

وفيه أنه وان لم ينتقل إليه قبل القبض الا أنه ينتقل إليه بالقبض بلا خلاف ولا اشكال فلو قبضه الموقوف عليه وان لم يكن باذن الواقف صدق حصول القبض الذي هو الناقل ، واشتراط الأذن يحتاج إلى دليل.

ويمكن الاستدلال على ما ذكروه بقوله عليه‌السلام في صحيحة صفوان «وان كانوا كبارا لم يسلمها إليهم فله أن يرجع» وكذا قوله عليه‌السلام في التوقيع «فكل ما لم يسلم فصاحبه بالخيار وكلما سلم فلا خيار فيه» ، فان ظاهره أن القبض إنما يتحقق بتسليم الواقف ، ودفعه بالفعل أو الأذن ، إلا أن رواية عبيد بن زرارة قد وقع التعبير فيها هنا بلفظ القبض المنسوب إلى الموقوف عليه ، فقال : إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث ، ومفهومه أنه لو قبضوا أعم من أن يكون بإذن أو غيره


كان صحيحا لازما ، ومثلها في هذه العبارة قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث ونحوها ، روايات آخر الا أنها وردت بلفظ الصدقة ، لكن الأصحاب استدلوا بها على أحكام الوقف ، بناء على فهمهم منها أن المراد بالصدقة منها الوقف كما تقدمت الإشارة إليه.

ويمكن تقييد إطلاق هذه الروايات بالخبرين الأولين بمعنى تخصيص القبض المذكور فيها بما إذا اقترن بالإقباض من الواقف ، فلا بد من تسليم الواقف ، ودفعه ليحصل القبض المعتبر شرعا ، وكيف كان فالاحتياط يقتضي الوقوف على القول المشهور.

الرابع : هل يكتفى بالقبض السابق وان كان على غير وجه شرعي كالمقبوض بالغصب ، والشراء الفاسد إشكال ، ينشأ من أن المتبادر من القبض في أخبار المسئلة هو القبض الشرعي ، وهذا القبض منهي عنه ، فلا يؤثر في الصحة ، ولهذا لو قبضه الموقوف عليه بغير إذن بطل كما تقدم ، ومن حصول القبض في الجملة ، وأن النهي عنه غير موجب للبطلان ، لأن ذلك في العبادات ، وإنما غايته الإثم مع أنه لقائل أن يقول : إن النهي عن هذا القبض وان وقع باعتبار أول الأمر من حيث الغصب ونحوه ، الا أنه بعد وقف الواقف ذلك المغصوب على من هو في يده وارادة تمليكه إياه ، يعلم اختلاف الحالين ، فإنه قرينة ظاهرة في الرضا بقبضه ويصير اختلاف حالي القبض هنا كما في صورة قبض الولي لأولاده الصغار ما وقفه عليهم ، فان القبض أمر واحد مستصحب في كلتي المسئلتين وان كان في الأول ملكا للواقف ، وبعد الوقف يصير ملكا للموقوف عليهم بالنسبة إلى تلك المسئلة ، وغصبا منهيا عنه قبل الوقف ، وشرعيا بعد الوقف ، لإفادته الرضا به بالنسبة إلى هذه المسئلة ، وقد تقدم نظير ذلك في الرهن.

واضطرب كلام العلامة (رحمه‌الله عليه) في التذكرة في هذه المسئلة ، ففي كتاب الرهن كما قدمنا نقله عنه ثمة قطع باشتراط الأذن ، ومضي زمان يمكن


تجدد القبض فيه ، ولم يكتف بقبض الغاصب ونحوه ، وفي هذا الكتاب قطع بالاكتفاء بقبض الغاصب كما اخترناه ، وظاهر كلام المحقق في الشرائع يؤذن بالاكتفاء بقبض الغاصب ، قال في المسالك : ولعله أجود.

أقول : وجه قوته يعلم مما ذكرناه وان لم يتنبه له أحد من أصحابنا ، (رضوان الله عليهم) ، قال في المسالك : وحيث لا يعتبر تجديد القبض ، لا يعتبر مضي زمان يمكن فيه احداثه ، وان اعتبر اعتبر ، لأن الإذن فيه يستدعي تحصيله ، ومن ضروراته مضي زمان يمكن فيه ، بخلاف ما لا يعتبر فيه التجديد ، وقد تقدم مزيد تحقيق له في الرهن.

أقول : قد أشرنا في الكتاب المذكور إلى أن ما ذكره من التحقيق غير جدير بالنظر إليه ، ولا حقيق.

الخامس : قد صرح جملة من الأصحاب (رحمهم‌الله) بأنه لا يشترط في القبض الفورية بعد العقد ، بالأصل وعدم الدليل على ذلك.

أقول : ويشير إلى عدم ذلك قوله عليه‌السلام في رواية عبيد بن زرارة ، وصحيحة محمد بن مسلم «إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث» فإنه ظاهر فيما قلناه ، حيث علق البطلان بعدم القبض حتى يموت ، المؤذن بعدم البطلان متى تحقق القبض وان تراخى عن العقد الا أن يموت ، أو يفسخ العقد.

السادس : ينبغي أن يعلم أن القبض المعتبر شرعا في الوقف إنما هو بالنسبة إلى البطن الأول بغير خلاف يعرف ، فيسقط اعتبار ذلك في بقية البطون ، لأنهم يتلقون الملك عن البطن الأول ، وقد تحقق أولا ، ولزم بالقبض أولا ، وهذا هو مقتضى الأخبار المتقدمة ، فإن غاية ما يدل عليه هو القبض ممن وقف عليه أولا دون غيره ممن تأخر من البطون ، والأصل العدم حتى يقوم دليل على خلافه.

السابع : لو كان الوقف على الفقراء أو الفقهاء فلا بد من نصب قيم للقبض ، لما عرفت من أن القبض معتبر شرعا في صحة الوقف ، والموقوف على هؤلاء


المذكورين في الحقيقة إنما هو وقف على الجهة ، كما سيأتي بيانه إنشاء الله تعالى قريبا ، لا وقف على الأشخاص ، فلا يكفى قبض بعضهم ، لأنه ليس هو الموقوف عليه ، وإنما الوقف على جهة من جهات مصلحته ، فلا بد من نصب قيم للقبض من الواقف أو الحاكم ، أو قبض الحاكم بنفسه ، الا أن ظاهر خبر صدقة أمير المؤمنين عليه‌السلام بالعين التي في ينبع كما تقدم ليس فيه أزيد من قوله ذلك اللفظ المحكي في الخبر ، وبه ثبت الوقف وتم ، الا أنه يمكن أن يقال : ان قبضه عليه‌السلام لذلك لما كان بطريق الولاية لتلك الجهة ، وهو الحاكم الشرعي كان ذلك كافيا.

نعم لو كان الواقف ليس حاكما شرعيا فان الواجب نصب القيم من جهته ، أو جهة الحاكم أو الحاكم بنفسه كما ذكرناه ، وقد تقدم في صحيحة صفوان قوله عليه‌السلام ان كان أوقفها لولده أو لغيرهم ثم جعل لها قيما لم يكن له أن يرجع ، والظاهر أن المراد أنه أوقفها على أولاده البالغين مع غيرهم من الجهات العامة ، وجعل قيما للوقف ، فإنه لا يجوز له الرجوع لحصول القبض من القيم ، فيكون الخبر دليلا في المسئلة ، وحمل الأولاد على البالغين ، لأن حكم الصغار مذكور بعدهم في الرواية ، وأن الأب يقبض عنهم بالولاية ، ولو كان على مصلحة محضة ، كالمساجد والقناطر ونحوها ، فان القبض في ذلك إلى الناظر المعين لتلك المصلحة من الواقف أو الحاكم ، والحكم عندي في هذا المقام لا يخلو من شوب التردد والأشكال لعدم معلومية اشتراط القبض من الأدلة كما لو كان الوقف على موجود مخصوص ، ولا يشترط القبول هنا ، ولا في السابق لما تقدم من أن القبول إنما هو من الموقوف عليه في هذين الموضعين إنما هو الجهة ، ولا يعقل اعتبار قبولها على أنك قد عرفت ما في ذلك من البحث والمناقشة.

الثامن : أطلق بعضهم تحقق القبض في وقف المسجد والمقبرة بصلاة واحد فيه ودفن واحد فيها ، وقيده آخر بوقوع ذلك بأذن الواقف ، ليتحقق الإقباض الذي هو شرط صحة القبض ، وقيده ثالث بأن يوقع الصلاة والدفن بنية القبض أيضا فلو


أوقعا ذلك لا بنيته كما لو وقع قبل العلم بالوقف أو بعده قبل الاذن في الصلاة أو بعده ، لا بقصد القبض ، إما لذهوله عنه أو لغير ذلك لم يلزم ، ومثله الدفن قالوا : هذا إذا لم يقبضه الحاكم الشرعي أو منصوبه والا فالأقوى الاكتفاء به إذا وقع باذن الواقف لأنه نائب المسلمين.

أقول : لم أقف في هذا المقام على نص يتضمن شيئا من هذه الأحكام ، وهو مبني على ما تقرر عندهم من عدم ثبوت المسجدية الا بالوقف ، وقد تقدم منا تحقيق في ذلك في كتاب الصلاة في التتمة الملحقة بالمقدمة السادسة في المكان (1) واستوفينا الكلام معهم رضوان الله عليهم في ذلك فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه.

التاسع : المفهوم من كلام أكثر الأصحاب وهو صريح جملة منهم أنه بعد القبض ليس للواقف فيه رجوع بوجه وقال الشيخ المفيد (رحمة الله عليه) في المقنعة : الوقوف في الأصل صدقات ، لا يجوز الرجوع فيها الا أن يحدث الموقوف عليه ما يمنع الشرع من معونتهم ، والقربة إلى الله بصلتهم ، أو يكون تغير الشرط في الوقف إلى غيره أرد عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله.

قال ابن إدريس بعد نقل ذلك عنه : والذي يقتضيه مذهبنا أنه بعد وقفه وتقضيه لا يجوز الرجوع فيه ، ولا تغييره عن وجوهه وسبيله ولا بيعه ، سوآء كان بيعه أرد عليهم أم لا ، إلى أن قال : فمن ادعي غير ذلك فقد ادعي حكما شرعيا يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، انتهى.

وأجاب العلامة في المختلف عن ذلك : بما يؤذن بالجمع بين الكلامين ، من حمل كلام الشيخ المفيد على أن الواقف له قد شرط شرطا يمتنع بدونه اجراء الوقف على حاله ، قال : فههنا يخرج الوقف عن اللزوم ، وأن يكون الواقف قد قصد معونة الموقوف عليهم لصلاحهم ودينهم ، فيخرج أربابه عن هذا

__________________

(1) ج 7 ص 301.


الوصف إلى حد الكفر ، فلقائل أن يقول يخرج أربابه عن الاستحقاق ، لأن الوقف صدقة ، ومن شرط الصدقة التقرب إلى الله تعالى ، فمن لا يصح التقرب بالمعاونة عليه يبطل الوقف عليه ، انتهى.

والذي يقرب عندي أن كلام الشيخ المشار اليه (قدس الله روحه) مبنى على مسئلة أخرى ، وهو أنه هل يشترط في صحة الوقف القربة الى الله تعالى به ، فلو خلا منها لم يكن وقفا صحيحا أم لا؟ فعلى الأول لو تجدد من الموقوف عليه بعد الوقف ما ينافي التقرب الى الله تعالى بصلته كاتصافه بالكفر بطل الوقف ، كما أنه يبطل ابتداء لو كان كافرا ، فإنه لا يجوز الوقف عليه ، الا أن يكون الكافر أحد الأبوين على ما سيأتي تفصيله ـ ان شاء الله تعالى ـ في تلك المسئلة ، وقد صرح بما قلناه ابن إدريس في تلك المسئلة ، فقال : لا يجوز الوقف على الكفرة الا أن يكون الكافر أحد الأبوين ، لان من صحة الوقف وشرطه نية القربة فيه ، انتهى.

والشيخ المفيد (قدس‌سره) قد صرح في كتابه المذكور باشتراط القربة في صحة الوقف ، كما يشير اليه كلامه هنا ، فقال في موضع آخر : ولا بد في ذكر الوقف من شرط الصدقة به ، والقربة الى الله تعالى بذلك ، وحينئذ فاعتراض ابن إدريس عليه ليس في محله ، لأنه من القائلين بهذا القول كما سمعت من عبارته المذكورة ، ومثلها ما صرح به في موضع آخر أيضا حيث قال : وجملة القول أنه يفتقر صحة الوقف إلى شروط ، إلى أن قال : ومنها أن يكون متلفظا بصريحه قاصدا اليه ، والتقرب به الى الله تعالى ، والمراد بقوله متلفظا بصريحه ، يعنى الإتيان بالعبارة الصريحة في عقد الوقف ، وحينئذ فإذا كان مذهبه أن التقرب شرط في صحة الوقف فيبطل بدونه ، لفوات الشرط المذكور ، فإنه لا فرق بين البطلان بفواته في الابتداء ، وفي الأثناء ، فإن شرطيته ثابتة ابتداء واستمرارا ، فكلام الشيخ المذكور بناء على ما ذكرناه لا يعتريه نقص ولا قصور ، بقي الكلام في تحقيق هذه المسئلة ، وهو أنه هل يشترط في صحة


الوقف القربة أم لا؟ قد عرفت من كلام الشيخ المفيد وابن إدريس القول بذلك ، ونحوهما الشيخ في النهاية ، حيث قال : والوقف والصدقة شي‌ء واحد ، ولا يصح شي‌ء منهما إلا بعد ما يتقرب به الى الله تعالى ، وان لم يقصد بذلك وجه الله لم يصح الوقف.

وأما في المبسوط فلم يتعرض لذلك بنفي ولا إثبات ، وظاهر كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك العدم ، كما يشير اليه كلامه المتقدم في هذه المسئلة وقال في المفاتيح وفي اشتراط نية القربة قولان ، والأصح العدم ، لعدم دليل عليه بل العمومات تنفيه ، نعم حصول الثواب يتوقف عليه.

أقول : ويدل على ما ذكره المتقدمون من الاشتراط ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (1) قال : بعث الي أبو الحسن موسى عليه‌السلام بوصية أمير المؤمنين عليه‌السلام وهي : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبد الله علي ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنة ، ويصرفني به عن النار ، ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه أن ما كان لي من مال ينبع من مال يعرف لي فيها وما حولها صدقة ، وما كان لي بوادي القرى صدقة ، وما كان لي بديمة وأهلها صدقة ، وما كان لي بأذنية وأهلها صدقة ، في سبيل الله ، الى أن قال : هذه صدقة واجبة بتلة حيا أنا أو ميتا ينفق في كل نفقة يبتغي بها وجه الله في سبيل الله ، وذوي الرحم من بنى هاشم وبنى المطلب الى أن قال : ولا يباع منه شي‌ء ولا يوهب ولا يورث». الحديث وما نقلناه ملخص الخبر فإنه طويل ، وهو كما ترى وقف مشتمل على التقرب.

ومثله ما روى من وقف الكاظم عليه‌السلام (2) وقد تقدم ذكرها في الموضع الثاني

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 49 ح 7 ، التهذيب ج 9 ص 146 ح 55 ، الوسائل ج 13 ص 312 ح 4.

(2) الكافي ج 7 ص 53 ح 8 ، التهذيب ج 9 ص 149 ح 57 ، الوسائل ج 13 ص 314 ح 5.


من المطلب الأول ، وفيها تصدق موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح ، صدقة حبسا بتلا بتا لا مشوبة فيها ولا ردا أبدا ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة» إلى آخر ما تقدم.

الا أن الخبرين المذكورين ليسا في الاشتراط ، فيجوز أن يكون ذكر ذلك لترتب الثواب الأخروي على ذلك الوقف ، إذ بدون التقرب لا يترتب عليه ثواب وان صح ولزم ، كما صرحوا به.

ويمكن أن يكون مستند الشيخ المفيد ومن تبعه في ذلك انما هو الأخبار الدالة على أن الصدقة لا تصح ولا تلزم إلا بالقربة ، بحمل الصدقة على الوقف ، مثل قول أبي عبد الله عليه‌السلام في موثقة حماد وهشام وابن أذينة وابن بكير (1) «لا صدقة ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله تعالى». وموثقة عبيد بن زرارة (2) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدق بصدقة إله أن يرجع في صدقته ، فقال : ان الصدقة محدثة ، انما كان النحل والهبة ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز ، ولا ينبغي لمن أعطى شيئا لله أن يرجع فيه».

ورواية زرارة (3) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال. إنما الصدقة محدثة ، انما كان الناس علي عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ينحلون ويهبون ، ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع فيه ، قال. وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تحز» الحديث.

والتقريب فيها أن المفهوم من كلام الشيخ المفيد أن الوقوف لا تخرج عن الصدقات بل هما أمر واحد في قصد التقرب الى الله عزوجل ، وهو صريح كلام الشيخ في النهاية لقوله والوقف والصدقة شي‌ء واحد ، لا يصح شي‌ء منهما إلا بعد التقرب ، واليه يشير

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 30 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 159 ح 67 ، الوسائل ج 13 ص 320 ح 3.

(2) التهذيب ج 9 ص 153 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 342 ح 1.

(3) الكافي ج 7 ص 30 ح 3 ، التهذيب ح 9 ص 152 ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 334 ح 1.


قوله في المقنعة ان الوقوف في الأصل صدقات ، بمعنى أنه إنما يطلق في الأصل والصدر السابق على الوقف لفظ الصدقة ، وهو حق كما سمعته من الأخبار المتقدمة ، سيما أخبار وقوف الأئمة عليهم‌السلام واليه يشير قوله عليه‌السلام في هذين الخبرين «إنما الصدقة محدثة ، يعني إطلاق هذا اللفظ على ما يعطى بقصد التقرب محدث ، وانما الذي كان يستعمل في زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النحلة والهبة أعم من أن يكون مقترنة بالتقرب لله سبحانه ، فتدخل فيه الصدقة بالمعنى المتأخر أو لم يكن كذلك ، وهذا المعنى الذي استعمل فيه لفظ الصدقة انما هو الوقف ، والمستعمل من لفظ الصدقة في الصدر الأول انما هو الزكاة كما دلت عليه الآية ، وحينئذ فإذا كان الأصل في إطلاق الصدقة انما هو المعنى المترتب علي لفظ الوقف ، فلا بد من اشتراط التقرب فيه لاشتراط الصدقة بالقربة ، وان جرى ذلك أيضا في الصدقة بالمعنى المتأخر فيجب اشتراط القربة في الصدقة بكل من المعنيين بالتقريب المذكور.

ومجملة أن إطلاق لفظ الصدقة على الوقف كما عرفت في الأخبار إنما هو من حيث أن الوقوف إنما تكون لله سبحانه ، وما كان لله سبحانه فلا رجعة من هذه الجهة لأنه قد استحق الأجر ، وكتب له الثواب ، فلا يجمع بين العوض والمعوض ، وبهذا التقريب يتم المدعى من شرطية التقرب في الوقف ، كما هو قول أولئك الفضلاء المتقدمين ، ولم يحضرني الآن من كتب المتقدمين غير من قدمت ذكره.

المسئلة الرابعة : قد عرفت أن من شرائط الوقف إخراجه عن نفسه ، ولا خلاف في بطلانه لو وقف على نفسه ، سواء اقتصر على ذلك أو جعله بعد نفسه لغيره ، إنما الخلاف فيما إذا جعله لغيره بعد ذكر نفسه وهو الوقف المنقطع الأول فقيل : بالصحة فيه ، وهو قول الشيخ في المبسوط والخلاف ، ولا فرق في ذلك بين أن يقفه أولا على نفسه أو على غيره ممن لا يجوز الوقف عليه ، ومرجعه الى منقطع الأول ، والمشهور في كلام الأصحاب بطلان الوقف من أصله.


وقال الشيخ في الخلاف : إذا وقف على من لا يصح الوقف عليه مثل العبد ، أو حمل لم يوجد ، أو رجل مجهول وما أشبه ذلك ، ثم بعد ذلك على أولاده الموجودين في الحال ، وبعدهم في الفقراء والمساكين بطل الوقف فيما بدأ بذكره لأنه لا يصح الوقف عليهم ، وصح في حيز الباقين ، لأنه يصح الوقف عليهم ، واستدل بأنه ذكر نوعين ، أحدهما لا يصح الوقف عليه ، والآخر يصح ، فإذا بطل في حيز من لا يصح الوقف عليه ، صح في حيز من يصح الوقف عليه ، لأنه لا دليل على إبطاله ولا مانع منه.

وقال في المبسوط : إذا كان الوقف منقطع الابتداء ، ومتصل الانتهاء ، بأن يقف أولا على من لا يصح الوقف عليه ، ثم على من يصح ، كمن يقف على نفسه أو عبده أو المجهول أو المعدوم أو الميت ، ثم على الفقراء والمساكين ، الذي يقتضيه مذهبنا أنه لا يصح الوقف ، لأنه لا دليل عليه ، وفي الناس من قال : يصح تفريق الصفقة ، وإذا قال : لا يصح تفريق الصفقة بطل الوقف في الجميع ، وبقي الوقف على ملك الواقف لم يزل عنه ، ومن قال : يصح تفريق الصفقة أبطله في حق من لا يصح الوقف عليه ، وصححه في حق الباقين ، وهذا قوي يجوز أن يعتمد عليه ، لأنا نقول بتفريق الصفقة ، انتهى.

واستدل العلامة في المختلف والشهيد الثاني في المسالك على البطلان كما هو المشهور بما ملخصه أن اللازم من القول بالصحة أحد أمور ثلاثة : إما صحة الوقف مع انتفاء الموقوف عليه ، أو وقوع الوقف المشروط ، أو عدم جريان الوقف على حسب ما شرطه الواقف ، واللوازم كلها باطلة ، وليرجع في توجيه الملازمة الى ما ذكروه ثمة.

والأظهر في الاستدلال على ذلك هو ما رواه في الكافي عن علي بن سليمان (1) قال : «كتبت إليه يعني أبا الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك ليس لي ولد

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 37 ح 33 ، التهذيب ج 9 ص 129 ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 296 ح 1 ، الفقيه ج 4 ص 177 ح 623.


ولي ضياع ورثتها من أبي وبعضها استفدتها ولا آمن الحدثان ، فان لم يكن لي ولد وحدث بي حدث فما ترى جعلت فداك؟ لي أن أوقف بعضها على فقراء إخواني والمستضعفين أو أبيعها وأتصدق بثمنها في حياتي عليهم؟ فإني أتخوف أن لا ينفذ الوقف بعد موتي ، فإن أوقفتها في حياتي فلي أن آكل منها أيام حياتي أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : فهمت كتابك في أمر ضياعك ، وليس لك أن تأكل منها ، ولا من الصدقة ، فإن أنت أكلت منها لم تنفذ» الحديث.

وهو ظاهر في أنه لو وقف على نفسه بطل الوقف ، والتقريب فيه أن مقتضى الوقف على نفسه جواز الأكل منه ، مع أنه ليس له ذلك بالخبر المذكور ، فلا ثمرة لهذا الوقف لو قيل به ، ومنه يعلم أن عدم جواز الأكل مستلزم لبطلان الوقف على نفسه ، والمراد من عدم النفوذ إنما هو البطلان.

ومما يدل على إخراجه نفسه مما يقفه على غيره ما رواه الشيخ في الصحيح عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدق ببعض ماله في حياته في كل وجه من وجوه الخير ، وقال : ان احتجت إلى شي‌ء من مالي أو من غلة فأنا أحق به ، إله ذلك وقد جعله لله؟ وكيف يكون حاله إذا هلك الرجل؟ أيرجع ميراثا أو يمضي صدقة؟ قال : يرجع ميراثا على أهله».

وما رواه عنه (2) في الصحيح أيضا «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من أوقف أرضا ثم قال : ان احتجت إليها فأنا أحق بها ثم مات الرجل فإنها ترجع الى الميراث».

وهذه الروايات ، وان لم تدل على خصوص البطلان في وقفه على نفسه كما هو المدعى ، إلا أنك قد عرفت من التقريب المتقدم ما يدل على ذلك ، ومع الإغماض عن ذلك ، فإنها ظاهرة بل صريحة في أنه يجب إخراج نفسه مما أوقفه

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 146 ح 54 ، الوسائل ج 13 ص 297 ح 3.

(2) التهذيب ج 9 ص 150 ح 59.


على غيره من جميع الجهات ، أعم من أن يقف على نفسه أو يشترط الرجوع اليه كلا أو بعضا أو نحو ذلك مما يخرج عن الوقف على غيره ، ونحوها أيضا رواية طلحة بن زيد (1) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه أن رجلا تصدق بدار له ، وهو ساكن فيها ، فقال : الحين اخرج منها».

والأظهر عندي في الاستدلال على بطلان الوقف المنقطع الأول هو أن يقال : لا ريب أن الأصل عصمة المال من الانتقال الا بدليل شرعي ، ولم نعلم من الشرع صحة الوقف بهذه الكيفية ، فإن الأخبار الواردة في الوقف عنهم عليه‌السلام فعلا أو أمرا أو تقريرا إنما اشتملت على الوقف أولا على من يصح الوقف عليه ، ثم على من عقبه به ، فلو صدره بمن لا يصح الوقف عليه من نفسه ، أو غيره من الافراد المشار إليها آنفا فالحكم بالصحة يتوقف على دليل ، وليس فليس ، وتخرج الروايات المذكورة شاهدة على ذلك ، وان كان موردها أخص ، والمفهوم من عبارة المبسوط أن القائل بالصحة إنما هو من المخالفين ، لأن مرمى لفظ الناس ذلك ، ويعضده ما ذكره من التعليل العليل ، فإنه الأربط بمذاهب العامة ، وان استحسنه هنا وتبعهم فيه ، كما أن قوله الذي يقتضيه مذهبنا ، فيه إشارة إلى الاتفاق عليه عندنا وتعليله المذكور جيد ، كما ذكرنا.

تنبيهات :

الأول ـ اعلم أنهم قد صرحوا بأنه على تقدير القول بالصحة كما هو مذهب الشيخ في الكتابين المذكورين فهل ثبتت هذه الصحة لغيره من حين الوقف؟ أم بعد موت الواقف؟ وجهان : ثم نقلوا عن الشيخ اختيار الأول ، وهو أن الوقف ينتقل لذلك الغير من حين الوقف كما هو ظاهر كلامه المتقدم.

ثم انهم اعترضوه بأنه خلاف مقصود الواقف. وقد قال العسكري عليه‌السلام (2)

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 138 ح 29 ، الوسائل ج 13 ص 297 ح 4.

(2) التهذيب ج 9 ص 129 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 295 ح 1.


«ان الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». وأهلها لم يقصدوا ذلك الغير ابتداء فكيف تصرف إليه.

وهذا الاعتراض عندي لا يخلو من خدش ، لأنه لا خلاف في بطلان الوقف على نفسه في هذه الصورة ، ولا خلاف في أن الخبر على إطلاقه غير معول عليه ، والا لدخل تحته جملة الوقوف الباطلة التي لا خلاف في بطلانها ، فلا بد من تخصيصه بما كان صحيحا شرعا ، والشيخ يدعي أن الوقف على ذلك الغير مع تقدم الوقف على نفسه صحيح ، وإن بطل وقفه على نفسه ، لأن وقفه على نفسه قد خرج من إطلاق الخبر المذكور ، فيكون شاملا لما ادعاه بناء على دعواه ، فإلزامهم له بأن مقتضى ما ذكره خلاف ما دل عليه الخبر ، مردود بأنه وان دل بإطلاقه على ذلك ، الا أنه يجب تخصيصه ، وإخراج هذه الصورة ونحوها من إطلاقه ، كما عرفت.

وبالجملة فإن الظاهر ان اعتراضهم عليه غير موجه ولا ظاهر ، ومن ثم أعرضنا عن نقل دليلهم المتقدم ذكره إلى ما قدمناه من الدليل الواضح السبيل.

ثم انهم ذكروا بعد رد قول الشيخ بما قدمنا نقله عنهم بأن الأقوى تفريعا على الصحة انصرافه إليه بعد موت الموقوف عليه ، قالوا : وبهذا يسمى منقطع الأول.

أقول : لا أعرف لقوة ما ذكروها وجها ، الا أن يكون باعتبار صدق هذه التسمية على هذا التقدير ، دون الأول ، وهو لا يجدي نفعا ، على أن هذه التسمية إنما هي في كلامهم ، ومجرد اصطلاح منهم ، بل الأقوى إنما هو الأول بالتقريب الذي ذكرناه ، واندفاع ما أوردوه على الشيخ (رحمه‌الله).

الثاني : قالوا : لو وقف على نفسه وغيره بأن وقع العطف بالواو ففي صحة الوقف على الغير بأن يكون في النصف ، ويبطل في النصف الآخر ، أو في الكل بأن يكون الكل وقفا عليه ، أو يبطل في حقه كما في قرينة أوجه ، : وظاهره في المسالك ترجيح الأول والميل إليه ، قال : ولو عطف الغير في الأول على نفسه بالواو ، فليس بمنقطع الأول ، لبقاء الموقوف عليه ابتداء وهو الغير ، فان الموقوف عليه


ليس هو المجموع منه ومن الغير ، من حيث هو مجموع ، بل كل واحد منهما ، والأقوى حينئذ صحة الوقف على الغير في نصفه ، وبطلان النصف في حقه ، لعدم المانع من نفوذ الوقف في النصف ، مع وجود المقتضي للصحة وهو الصيغة مع ما يعتبر معها.

ويحتمل ضعيفا أن يكون الكل للغير ، خصوصا لو جعلناه للغير في السابق كما مر ، نظرا إلى أن الموقوف بالنسبة إليهما هو المجموع من حيث هو مجموع ، فالحكم بالتنصيف إنما نشأ من امتناع كون المجموع وقفا على كل منهما كمنقطع الأول ، فإذا امتنع الوقف على أحدهما خاصة ، انصرف وقف المجموع إلى الآخر.

ويضعف بأنه إنما وقف عليهما بحيث يكون لكل منهما حصة ، فإذا بطل في أحدهما لم ينصرف الموقوف كله إلى الآخر ، لان ذلك خلاف مدلول الصيغة ، وخلاف مراد الواقف ، والعقد تابع للقصد ، انتهى ، وكأن من احتمل البطلان كما قدمنا نقله نظر إلى أنه منقطع الأول ولو في الجملة.

أقول : المسئلة كغيرها لخلوها من النص لا تخلو من الأشكال ، وان كان ما اختاره في المسالك قوي الاحتمال.

الثالث : قد صرحوا بأنه لو وقف على غيره وشرط قضاء ديونه أو أدار مؤنته بطل الوقف ، وهو كذلك لما تقدم من الأخبار في المسئلة ، فإنها وان لم تتضمن ما ذكروه هنا بخصوصه ، الا أن ظاهرها نقل الملك والمنافع عن نفسه ، وإذا شرط الواقف قضاء ديونه أو أدار مؤنته أو نحو ذلك فقد شرط ما ينافي مقتضاه ، فيبطل الشرط والوقف ، والأولى أن يجعل هذا الكلام توجيها للنص ، والعلة الحقيقية إنما هي النص ، وهذا الكلام مما يصلح توجيها له وبيانا للحكمة في ذلك ، ومقتضى الأخبار المذكورة بطلان الوقف بهذا الشرط ، كما هو المشهور ، وقد تقدم الخلاف في ذلك ، والقول في المسئلة بأن الباطل إنما هو الشرط خاصة مع صحة أصل العقد ، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذه المسئلة في مواضع


أولها مقدمات الكتاب أعنى المقدمات الواقعة في أول جلد كتاب الطهارة (1) وبينا ثمة أن الأولى في ذلك هو الوقوف على الأخبار فيما ترد به من الأحكام ، وأن ذلك لا تتخذ قاعدة كلية في بطلان الشرط خاصة ، أو أصل العقد ، كما يفهم من كلام الأصحاب ، بل يجب الوقوف فيه على موارد النصوص ، حيث أن بعضها تضمن بطلان الشرط خاصة ، مع صحة أصل العقد في بعض الأحكام ، وبعضها تضمن بطلان أصل العقد في بعض آخر ، كما في هذا الموضع وغيره ، ثم انه لا فرق في البطلان بما يشترط بين أن لا يكون قليلا أو كثيرا ، لوجود المقتضي في الجميع ، قال في المسالك : ومن جوز الوقف على نفسه جوز اشتراط هذه الأشياء مطلقا.

أقول : ظاهر هذا الكلام وجود قول في المسئلة بجواز الوقف على نفسه ، مع أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على العدم وهو نفسه ممن صرح بذلك أيضا ، فقال في شرح قول المصنف ومن وقف على نفسه لم يصح ، لا خلاف بين أصحابنا في بطلان وقف الإنسان على نفسه الى آخره ، والظاهر أن منع الاشتراط المذكور انما هو بالنسبة إلى نفسه ، وإلا فلو اشترط لغيره من أقاربه أو غيرهم صح الوقف والشرط ، ويدل على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن جعفر بن حيان (2) وهو مجهول أو واقفي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوقف غلة له على قرابته من أبيه ، وقرابته من أمه ، وأوصى لرجل ولعقبه عن تلك الغلة ليس بينه وبينه قرابة بثلاثمائة درهم في كل سنة ويقسم الباقي على قرابته من أبيه ، وقرابته من أمه؟ قال : جائز للذي أوصى له بذلك ، قلت : أرأيت ان لم يخرج من غلة الأرض التي وقفها إلا خمسمائة درهم ، فقال : أليس في وصيته ان يعطى الذي أوصى له من الغلة ثلاثمائة درهم ويقسم الباقي على قرابته من أمه وقرابته من أبيه ، قلت : نعم ، قال : ليس لقرابته أن يأخذوا من الغلة شيئا حتى يوفي الموصى له بثلاثمائة درهم ، ثم لهم ما بقي من

__________________

(1) ج 1 ص 164.

(2) الكافي ج 7 ص 35 ح 29 ، التهذيب ج 9 ص 133 ح 12 ، الوسائل ج 13 ص 306 ح 8.


بعد ذلك ، قلت : أرأيت ان مات الذي أوصى له؟ قال : ان مات كانت الثلاثمائة درهم لورثته يتوارثونها ما بقي أحد منهم فإذا انقطع ورثته ، ولم يبق منهم كانت الثلاثمائة درهم لقرابة الميت ، ترد الى ما يخرج من الوقف ، ثم يقسم بينهم يتوارثون ذلك ما بقوا وبقيت الغلة ، قلت : فللورثة من قرابة الميت بأن يبيعوا الأرض إذا احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلة؟ قال : نعم إذا رضوا كلهم وكان البيع خيرا لهم باعوا».

وفي هذا الخبر دلالة علي تفسير العقب بالورثة ، والأكثر على أن المراد به إنما هو الولد ، وولد الولد ، وقيل بتفسيره بالورثة ، وهذا الخبر صريح فيه كما ترى ، وأما ما ذكره آخر الخبر من جواز بيع الوقف ، فقد تقدم الكلام فيه مستوفى في فصل البيع من كتاب التجارة (1).

وما رواه في الكافي عن أحمد بن محمد (2) والظاهر أنه البزنطي في الصحيح «عن أبي الحسن الثاني عليه‌السلام قال : سألته عن الحيطان السبعة التي كانت ميراث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لفاطمة عليها‌السلام فقال : لا انما كانت وقفا ، وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يأخذ إليه منها ما ينفق على أضيافه ، والتابعة تلزمه فيها فلما قبض جاء العباس يخاصم فاطمة عليها‌السلام فيها فشهد علي عليه‌السلام وغيره أنها وقف على فاطمة عليها‌السلام وهي الدلال ، والعواف ، والحسنى ، والصافية ، وما لأم إبراهيم والميثب ، والبرقة».

ورواه الصدوق والشيخ مرسلا (3) وفيه بدل والتابعة تلزمه فيها ومن يمر به ، وظاهر الخبر المذكور أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقف هذه الحوائط في حياته على فاطمة عليها‌السلام ، وشرط الإنفاق منها على أضيافه ، وما ينوبه وهو المشار اليه

__________________

(1) ج 18 ص 444.

(2) الكافي ج 7 ص 47 ح 1.

(3) التهذيب ج 9 ص 145 ح 51 ، الفقيه ج 4 ص 180 ح 14 ، الوسائل ج 13 ص 311 ح 3.


بالتابعة أي ما يتبع الإنسان مما يهمه ويعينه.

الرابع : المشهور بين الأصحاب أنه لو وقف على الفقراء فصار فقيرا أو على الفقهاء فصار فقيها فإنه يصح له الأخذ منه ، ومشاركة المذكورين ، وخالف في ذلك ابن إدريس ، فمنع من ذلك لخروجه عنه ، فلا يعود اليه.

وفصل العلامة في المختلف تفصيلا حسنا ، فقال : والوجه عندي أن الوقف ان انتقل الى الله تعالى كالمساجد ، فإنه للواقف الانتفاع به ، كغيره من الصلاة فيه ، وغيرها من منافع المسجد ، وان انتقل الى الخلق لم يدخل ، سواء كان مندرجا فيهم وقت الوقف ، كما لو وقف على المسلمين أو على الفقهاء وهو منهم ، أو لم يكن ، كما لو لم يكن فقيها وقت الوقف ثم صار منهم ، لنا أنه مع الانتقال الى الله تعالى يكون كغيره ، لتساوي النسبة مع جميع الخلق ، فلا معنى لإخراجه عنه مع ثبوت المقتضى وهو الإباحة السالمة عن معارضة وقفه على نفسه ، ومع الانتقال إلى من يندرج فيهم ، أو دخل لمكان دخوله تحت اللفظ العام ، فيكون قد وقف على نفسه وغيره ، فيبطل في حق نفسه ، فان العام يتساوى نسبة أفراده اليه ، انتهى.

أقول : ومما يؤيد أن الوقف في هذه الصورة انما ينتقل الى الله عزوجل دون الموقوف عليه ، أن الوقف على هذه الكيفية ليس وقفا على الأشخاص المتصفين بهذا الوصف ، فليس وقفا على نفسه ، ولا على جماعة هو منهم ، وانما هو وقف على جهة مخصوصة ، وهي جهة الفقر والمسكنة مثلا ، وقصد نفع الموصوف بهذه الصفة لا أشخاص بعينهم ، ولهذا انه لا يشترط قبولهم ولا قبول بعضهم وإن كان ممكنا لأنه لم ينتفل إليهم ، ولا يجب صرف النماء على جميعهم ، بل يجوز أن يخص به بعضهم ولو واحد منهم ، ولو كان وقفا عليهم لوجب إيصاله إلى كل فرد فرد منهم ، مثل ما لو وقف على أولاده ونحوهم.

والى هذا التفصيل مال في المسالك أيضا احتج القائلون بالعموم بأنه وقف


صحيح فيتناول كل من يدخل تحت اللفظ عملا بإطلاقه ، وهو كغيره والفرق ظاهر بين الوقف عليه بالتنصيص ، والاندراج تحت العموم ، ومع الفرق لا يتم القياس ، وأجيب بالمنع من كونه كغيره فان الفرق واضح ، إذ يصح الوقف على غيره دونه ، ولا فرق بين التنصيص والاندراج في الإرادة من اللفظ ، والمطلق ممنوع منه ، ويتساوى جزئياته في المنع.

وأنت خبير بأن المسئلة لعدم النص لا تخلو من شوب الأشكال وان كان ما ذكره العلامة (أجزل الله تعالى إكرامه) لا يخلو من قرب.

ونقل عن الشهيد في بعض فتاويه أنه يشارك ما لم يقصد منع نفسه أو إدخالها واستحسنه في المسالك ، قال : فإنه إذا قصد إدخال نفسه فقد وقف على نفسه ، ولم يقصد الجهة ، وإن قصد منع نفسه فقد خصص العام بالنية ، وهو جائز فيجب اتباع شرطه السابق وانما يبقى الكلام عند الإطلاق ، انتهى وهو جيد.

الخامس : اختلف الأصحاب فيما لو شرط الواقف في عقد الوقف عوده اليه عند الحاجة ، والخلاف هنا وقع في موضعين : أحدهما في صحة هذا الشرط وبطلانه ، والمشهور الأول ، بل ادعى المرتضى (رضي‌الله‌عنه) الإجماع عليه ، قال : ومما انفردت به الإمامية القول بأن من وقف وقفا جاز أن يشترط أنه ان احتاج اليه في حال حياته كان له بيعه ، والانتفاع بثمنه ، وبه قال الشيخ المفيد والشيخ في النهاية ، وابن البراج ، وسلار ، والمحقق في الشرائع ، والعلامة والشهيد الثاني في المسالك وغيرهم.

وقيل : بالثاني وهو مذهب ابن إدريس ، مدعيا عليه الإجماع ، والشيخ في المبسوط ، وابن حمزة ، وابن الجنيد ، والمحقق في النافع ، احتج الأولون على ما ذكره في المسالك ، وقبله العلامة في المختلف بالإجماع المنقول في كلام المرتضى وعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1) «والمؤمنون عند شروطهم» (2). وقول العسكري عليه‌السلام

__________________

(1) سورة المائدة ـ الاية 1.

(2) التهذيب ج 7 ص 371 ح 66 ، الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.


«الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (1).

وخصوص رواية إسماعيل بن الفضل (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدق ببعض ماله في حياته في كل وجه من وجوه الخير؟ وقال : ان احتجت إلى شي‌ء من مالي أو من غلة فأنا أحق به أله ذلك وقد جعله لله؟ وكيف يكون حاله إذا هلك الرجل أيرجع ميراثا أم يمضي صدقة؟ قال : يرجع ميراثا على أهله».

هكذا نقله في المسالك ، قال : والمراد بالصدقة في الرواية الوقف لقرينة الباقي ، ولأن الوقف تمليك المنافع ، فجاز شرط الخيار فيه كالإجارة ، انتهى.

وعندي ان هذا الاستدلال لا يخلو من تطرق الإشكال ، أما الإجماع فمعلوم مما سبق في غير مقام ، ولا سيما مع مقابلته هنا بالإجماع الذي ادعاه ابن إدريس ، وإجماعات المرتضى (رضى الله عنه) فيما انفرد به من الأقوال كثيرة ، وبه يظهر ضعف الاستناد إليه في جميع الأحكام كما تقدم تحقيقه ، وأما عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «والمؤمنون عند شروطهم» ففيه أنه لا ريب أن العقد كما يطلق على الصحيح ، يطلق على الفاسد ، وكذلك الشرط ، فيقال : عقد صحيح ، وعقد فاسد ، وشرط صحيح وشرط فاسد ، ولا جائز أن يأمر الشارع بالوفاء بالعقد الفاسد ، ولا بالشرط الفاسد ، فالأمر بالوفاء بالعقد والشرط إنما يتوجه إلى العقد الصحيح ، والشرط الصحيح ، ودعوى كون ذلك صحيحا هنا محل النزاع كما ذكرنا ، فلا يتم الاستدلال.

وبذلك يظهر أن الاستدلال بهذين الدليلين لا يخرج عن المصادرة ، وأما حديث العسكري عليه‌السلام فقد قدمنا سابقا أنه لا يجوز الاستدلال به على إطلاقه ، لتناوله للوقوف الباطلة اتفاقا كالوقف على نفسه ، أو على عبد أو حمل أو نحو ذلك

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 129 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 295 ح 2.

(2) التهذيب ج 9 ص 146 ح 54 ، الوسائل ج 13 ص 297 ح 3.


مما اتفقوا على بطلانه ، فلا بد من تخصيصه بالوقف الصحيح المستكمل لشرائط الصحة ، ودعوى كونه هنا كذلك محل البحث والنزاع ، فيرجع ذلك إلى المصادرة أيضا.

وأما حديث إسماعيل بن الفضل فلا أعرف له دلالة على ما ادعوه ان لم يكن بالدلالة على البطلان أشبه ، وذلك فان كلام السائل قد تضمن السؤال عن شيئين : أحدهما أن هذا الشرط هل يصح أم لا؟ وإليه أشار قوله في الخبر المذكور «إله ذلك وقد جعله لله» والثاني أنه ما حكمه بعد موت الرجل ، والحال هذه أيرجع ميراثا أم يبقي وقفا ، والجواب في الخبر إنما وقع عن الثاني خاصة ، ولا ريب أن رجوعه ميراثا كما أجاب به عليه‌السلام كما أنه يصح مع صحة الوقف ، كما ادعوه كذلك يكون صحيحا مع البطلان ، كما يقوله الخصم ، بل هو أولى بالبطلان ، بل هو الظاهر ، فإن الأظهر أن الامام عليه‌السلام جعل هذا الجواب جوابا عن السؤالين معا ، والا فسكوته عن جواب السؤال الأول من غير وجه يدعوه إليه مشكل ، وحينئذ فحكمه عليه‌السلام برجوعه ميراثا متضمن للجواب صريحا عن السؤال الثاني ، وضمنا عن الأول ، بمعنى أن رجوعه ميراثا كناية عن كونه لم يخرج عن ملكه في حال حياته ، ويؤيده قوله وقد جعله لله.

وقد تقدم في جملة من الأخبار أن ما جعله لله لا رجعة فيه ، وحاصله أنه ليس له الرجوع بما ذكره لكونه قد جعله لله سبحانه ، بل هو باطل في حال حياته وموته ، ورجوعه ميراثا إنما هو لذلك ، لأن الحكم بصحته في حال الحياة باطل ، بما ستعرفه في حجة القول الثاني.

ونحو هذه الرواية صحيحة إسماعيل الثانية (1) المتقدمة عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : من أوقف أرضا ثم قال : ان احتجت إليها فأنا أحق بها ، ثم مات الرجل فإنها ترجع ميراثا». فان الظاهر أن رجوعها كاشف عن بطلان الوقف في حياته ، وأن

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 150 ح 59.


رجوعها ميراثا إنما هو لذلك ، وأما ما ذكره والعلامة (رحمه‌الله عليه) قبله من قوله ولأن الوقف تمليك للمنافع إلى آخره ، فهو في البطلان أظهر من أن يحتاج إلى مزيد بيان ، مضافا إلى أن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة مجازفة محضة.

استدل القائلون بالقول الثاني على ما نقله في المسالك ، بأن هذا الشرط خلاف مقتضى الوقف ، لأن الوقف إذا تم لم يعد إلى المالك على حال ، فيكون فاسدا ويفسد به العقد.

والعجب أنه في المسالك مع تصديه للانتصار للقول المشهور ، والجواب عما أورد على أدلته ظاهرة القصور لم يتعرض للجواب عن استدلال الخصم المذكور ، وكيف يمكنه الجواب عنه ، وهو قد اعترف بذلك في مسئلة ما لو وقف على غيره ، وشرط قضاء ديونه ، أو أدار مؤنته ، حيث قال : ثمة وإذا شرط الواقف قضاء ديونه أو أدار مؤنته أو نحو ذلك ، فقد شرط ما ينافي مقتضاه ، فبطل الشرط والوقف ، انتهى.

ولا ريب أن مقتضى الوقف الذي ذكره هو عدم العود إلى الواقف بوجه ، وحينئذ فكما أنه يبطله شرط قضاء الديون وأدار المؤنة ، كذلك يبطله اشتراط الرجوع إليه لحاجته وفقره.

وبالجملة فإن الظاهر من الأخبار المتقدمة هو البطلان باشتراط الرجوع بأحد الوجوه المذكورة في مواضع هذه المسئلة ، لبطلان هذه الشروط من الأكل من الوقف ، أو شرط قضاء ديونه ، أو الرجوع عند الحاجة ، لاشتراك الجميع في العلة المقتضية للمنع ، وهو الخروج عن مقتضى الوقف.

قال في المختلف : احتج المانعون بأنه شرط ينافي عقد الوقف ، فيبطل لتضمنه شرطا فاسدا ، والجواب المنع من منافاة الشرط العقد ، وإنما يكون منافيا لو لم يكن الوقف قابلا لمثل هذا الشرط ، انتهى.


وفيه ما عرفت من ثبوت المنافاة ، قوله وإنما يكون منافيا لو لم يكن الوقف قابلا لمثل هذا الشرط محض مصادرة ، فان الخصم يدعى أنه غير قابل ، وبما حققناه في المقام يظهر لك أن جميع أجوبتهم عن حجج القول الثاني لا يخرج عن المصادرة ، وأن الأظهر هو بطلان العقد لبطلان الشرط المذكور ، كسابقه من الشروط المتقدمة.

وثانيهما أنه على تقدير القول بصحة العقد كما هو المشهور ، فإنه إن حصلت الحاجة ورجع في الوقف ، فإنه يجوز الرجوع ، ويبطل الوقف بلا خلاف بينهم ، وانما الخلاف فيما إذا لم يرجع حتى مات ، فهل يبطل الوقف بالموت؟ لصيرورته قبله بالشرط المذكور حبسا ، فيرجع بعد الموت إلى ورثة الواقف ، أم يستمر الوقف على حاله؟ قولان : نقل عن الشيخ وجماعة منهم المحقق والعلامة الأول ، عملا بالرواية المتقدمة وهي صحيحة إسماعيل بن الفضل الأولى ، بناء منهم على دعوى دلالتها على صحة الوقف وعدم بطلانه بمجرد هذا الشرط ، ولكن هذا الشرط حيث كان منافيا للدوام الذي هو من شروط الوقف كان من قبيل الحبس فيبطل بالموت ، وقد عرفت ما فيه ، وأنه لا دلالة في الرواية على ما ادعوه.

وقيل : بالثاني وبه صرح المرتضى : (رضي‌الله‌عنه) واختاره في المختلف ، قال المرتضى (رضي‌الله‌عنه) معترضا على نفسه في تتمة كلامه الأول بأن هذا شرط يناقض كونه وقفا وحبسا بخلاف غيره من الشروط ، وأجاب بأنه غير مناقض ، لأنه متى لم يختر الرجوع فهو ماض على سبيله ، ومتى مات قبل العود نفذ أيضا نفوذا تاما ، وهذا الحكم ما كان مستفادا قبل الوقف ، فكيف يكون ذلك نقضا لحكمه ، وقد بينا أن الحكم باق ، انتهى وهو ظاهر في استمرار صحة الوقف بعد الموت ، قال في المختلف : وهو الوجه عندي وتحمل الرواية على ما إذا رجع.

والتحقيق بالنظر الى ما قدمناه حيث أنه لا دليل على الصحة هو بطلان الوقف وأن عوده ميراثا انما هو من هذه الحيثية ، فلا أثر لهذا الخلاف ، لبطلان الأساس


المبني عليه ، وهو ثبوت الصحة.

وأما جواب المرتضى (رضي‌الله‌عنه) عن الاعتراض الذي أورده على نفسه بأنه متى لم يختر الرجوع فهو ماض على سبيله الى آخر ما ذكره ، ففيه أن المناقضة لا تترتب على اختياره الرجوع ، ووقوع الرجوع بالفعل بل المناقضة حاصلة بمجرد هذا الشرط ، وذكره في العقد ، حيث أن مقتضى العقد هو عدم الرجوع في الموقوف عليه بعد الوقف ، ومقتضى الشرط هو الجواز فالمناقضة حاصلة ، وبها يجب الحكم ببطلان الشرط ، وببطلانه يبطل العقد ، وهذا هو دليلهم على بطلان العقد فيما لو شرط قضاء ديونه ، أو أدار مؤنته ، كما عرفت من عبارة المسالك المتقدمة وبه يظهر لك ما في جوابه (قدس‌سره) من الضعف ، وان جمد عليه العلامة في المختلف حيث أنه موافق لما اختاره والله العالم.

المسئلة الخامسة : في جملة من الشروط زيادة على ما تقدم : منها ما لو شرط إدخال من يريد مع الموقوف عليهم ، وقد صرحوا بالجواز ، سواء كان الوقف على أولاده أو غيرهم ، وعللوا ذلك بأن هذا الشرط لا ينافي مقتضى الوقف ، فإن بنائه على إدخال من سيوجد ، ومن سيولد من الموجودين وقت الوقف ، واشتراط إدخال من يريد إدخاله في معناه بل أضعف ، لأنه قد يريد ، فيكون في معنى اشتراط دخوله ، وقد لا يريد فيبقى الوقف على أصله ، فإذا جاز الأول اتفاقا جاز الآخر كذلك أو بطريق أولى.

قالوا : وما يقال ـ من أن إدخال من يريد يقتضي نقصان حصة الموقوف عليهم فيكون إبطالا للوقف في ذلك البعض ـ غير قادح ، لأن ذلك وارد في شرط إدخال المولود ونحوه ، ولأن العقد لما تضمن الشرط لم يكن للموقوف عليه حق إلا مطابقا له ، فلا يتغير ، ولأن الوقف لازم في حق الموقوف عليه في الجملة ، وانما المختلف الحصة ، وذلك غير قادح ، كما لو وقف على بطون فزادت تارة ، ونقصت أخرى.

أقول : ويمكن الاستدلال على أصل المسئلة بالأخبار الآتية في المقام الدالة


على جواز الإدخال من غير شرط ، كصحيحة علي بن يقطين (1) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله ، ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده قال : لا بأس بذلك». ونحوها غيرها مما سيأتي ان شاء الله تعالى في المسئلة.

والتقريب فيها أنه إذا جاز الإدخال من غير شرط كما هو مدلول الأخبار المذكورة فمع الشرط بطريق أولى.

وكيف كان فالمسئلة لا تخلو من شوب الاشكال ، لعدم النص الواضح في هذا المجال ، وما ذكروه من التعليل لا يصلح لتأسيس حكم شرعي كما عرفت في غير موضع ، وما ذكرنا من الأخبار غير خال من الأشكال كما سيأتي ان شاء الله تعالى بيانه والله العالم.

ومنها ـ ما لو شرط إخراج من يريد ، وقد صرحوا هنا ببطلان الوقف ، قال في المسالك : وهو عندنا موضع وفاق ، ثم علله زيادة على ذلك بأن وضع الوقف على اللزوم ، وإذا شرط إخراج من يريد من الموقوف عليهم كان منافيا لمقتضى الوقف ، إذ هو بمنزلة الخيار ، وهو باطل ، انتهى.

وهو جيد إلا أن فيه ردا عليه فيما اختاره من صحة الوقف مع اشتراط عوده إليه ، عند الحاجة ، فإنه لا يخفى أن اللزوم الذي هو وضع الوقف عليه كما يعتبر من جهة الموقوف عليه ، بحيث لا يجوز إخراج بعضهم ، كذلك يعتبر من حيث حبس الوقف عليهم ، فلا يجوز للواقف الرجوع إليه بوجه ، خصوصا مع اقترانه بالقربة ، كما قدمنا بيانه من اشتراط الوقف بذلك ، وقد تكاثرت الأخبار بأن ما كان لله تعالى فلا رجعة فيه.

ومنها ما لو شرط نقله عن الموقوف عليهم إلى من سيوجد ، والمشهور هنا البطلان ، بل ادعى عليه الشيخ الإجماع ، وذهب العلامة في التذكرة إلى صحة

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 137 ح 22 ، الوسائل ج 13 ص 300 ح 1.


الشرط المذكور ، مدعيا عليه الإجماع ، وفي القواعد استشكل الحكم بالبطلان ، ومنشأ الاستشكال المذكور كما ذكره في المسالك من بناء الوقوف على اللزوم ، فإذا شرط نقله عن الموقوف عليهم إلى غيره فقد شرط خلاف مقتضاه ، فيبطل الشرط والعقد ، ومن عموم (1) «المؤمنون عند شروطهم». وقول العسكري عليه‌السلام (2) المتقدم ذكره «من أن الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». وأنه يجوز الوقف على أولاده سنة ، ثم على المساكين.

أقول : قد عرفت ضعف الوجه الثاني من الاستدلال بالخبرين المذكورين وأما جواز الوقف على أولاده سنة ثم على المساكين ، فصحته متوقفة على قيام دليل عليه ، ومع تسليم صحته ، فوجه الفرق ظاهر ، لأن مقتضى ما نحن فيه هو أنه بالوقف عليهم يلزم بقاؤه ما وجدوا كما هو مقتضى الوقف ، وشرط النقل مناف له ، وأما الوقف على أولاده سنة فليس كذلك ، لأنه إنما وقف عليهم مدة معينة ، فلا ينافيه التعقيب بالوقف على المساكين

وبما ذكرنا يظهر لك ما في دعواه في التذكرة الإجماع على الصحة ، مع استشكاله في القواعد ، وأما ما قيل في تعليل الصحة ـ زيادة على ما ذكر ـ من أنه يصح الوقف باعتبار صفة للموقوف عليه كالفقر ، فإذا زالت انتقل عنه إلى غيره ان شرط ، وهو في معنى النقل بالشرط ، ونقل عن الدروس انه استقر به.

ففيه أولا ما عرفت في غير موضع من أن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه الاعتبارات الوهمية ـ والتخريجات العقلية ، مع استفاضة الآيات والاخبار بالمنع من القول بغير علم ودليل واضح من كتاب أو سنة ـ مجازفة محضة في الأحكام الشرعية ، نسئل الله سبحانه المسامحة لنا ولهم من زلل الأقدام ، وهفوات الأقلام.

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 371 ح 66 ، الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.

(2) الكافي ج 7 ص 37 ح 34 ، الوسائل ج 13 ص 295 ح 2.


وثانيا أنه مع الإغماض عن ذلك فوجه الفرق بين الموضعين ظاهر مما قدمناه في التنبيه الرابع من المسئلة السابقة (1) ، وملخصه أن الوقف على الفقراء إنما هو وقف على الجهة كالوقف على المساجد ، والوقف هنا ينتقل إلى الله تعالى ، ويشترك فيه كل من اتصف بذلك العنوان حتى الواقف نفسه ، فلا يحصل هنا نقل عن الموقوف عليه ، لأنه ليس ثمة موقوفا عليه ، وإنما يصير مراعى ببقاء الصفة المذكورة من الفقر ونحوه ، فإذا زالت كان في حكم موت الموقوف عليه ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنه بالوقف عليه يصير ملكا له ، ونقله عنه بالاختيار مناف لتمليكه له بالوقف ، وبذلك يظهر لك أن الحق هو بطلان الوقف بهذا الشرط والله العالم.

ومنها ما لو وقف على أولاده الأصاغر ، فإنه يجوز أن يشرك معهم غيرهم بالشرط في العقد ، والظاهر أنه لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف في أنه هل يجوز مع عدم الشرط أم لا؟ المشهور الثاني ، وقال الشيخ في النهاية بالأول ، قال : إذا وقف على ولده الموجودين وكانوا صغارا ثم رزق بعد ذلك أولاد جاز أن يدخلهم معهم فيه ، ولا يجوز أن ينقله عنهم بالكلية إليهم ، ووافقه ابن البراج ، إلا أنه قيده بعدم قصره على السابقين ، قال : الوقف يجب أن يجري على ما يقفه الواقف ، ويشترط فيه ، وإذا وقف على ولد موجود وهو صغير ، ثم ولد له بعده غيره ، وأراد أن يدخله في الوقف مع الأول كان جائزا ، إلا أن يكون قد خص الولد الموجود بذلك ، وقصره عليه ، وشرط أنه له دون غيره ممن عسى أن يرزقه من الأولاد ، فإنه لا يجوز له أن يدخل غيره في ذلك.

والاختلاف في هذه المسئلة ناش من اختلاف الأخبار فيها ، فمما تدل على القول المشهور صحيحة علي بن يقطين (2) «عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته

__________________

(1) ص 163.

(2) التهذيب ج 9 ص 137 ح 22 ، الوسائل ج 13 ص 300 ح 1.


عن الرجل يتصدق ببعض ماله على بعض ولده ويبينه لهم ، إله أن يدخل معهم من ولده غيرهم بعد أن أبانهم بصدقته؟ قال : ليس له ذلك الا أن يشترط أنه من ولد له فهو مثل من تصدق عليه فذلك له».

ويؤيدها رواية جميل (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يتصدق على ولده بصدقة وهم صغار ، إله أن يرجع فيها قال : لا ، الصدقة لله». والتقريب فيها أن إدخال الغير نوع من الرجوع فيها ، وفيه ما فيه.

ومما تدل على القول الآخر صحيحة علي بن يقطين الأخرى (2) قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله ، ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده ، قال : لا بأس بذلك».

ورواية محمد بن سهل عن أبيه (3) قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده؟ قال : لا بأس به».

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (4) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يجعل لولده شيئا وهم صغار ثم يبدو له أن يجعل معهم غيرهم من ولده؟ قال : لا بأس».

وما رواه في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن (5) عن علي بن جعفر «عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن رجل تصدق على ولده بصدقة ثم بدا له أن يدخل غيره فيه مع ولده أيصلح ذلك؟ قال : نعم ، يصنع الوالد بمال ولده ما أحب».

وأنت خبير بأن إيراد الأصحاب هذه الأخبار في هذا المقام دليل على فهمهم

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 137 ح 25 ، الوسائل ج 13 ص 298 ح 2.

(2) التهذيب ج 9 ص 137 ح 22.

(3 و 4) التهذيب ج 9 ص 136 ح 21 وص 135 ح 19.

(5) قرب الاسناد ص 119 ، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 301 ح 1 و 2 و 3 ص 302 ح 5.


الوقف من إطلاق الصدقة ، ويؤيده ما قدمناه من الأخبار الظاهرة في أن الصدقة في الصدر الأول إنما هي بمعنى الوقف ، واستعمالها في هذا المعنى المشهور بين الفقهاء إنما هو محدث ، وهي بهذا المعنى إنما تدخل في النحل والهبة ، كما في زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

بقي الكلام في الجمع بين هذه الأخبار ، وهو لا يخلو من الإشكال ، الا أنه يمكن أن يقال : ان رواية جميل فالظاهر أنه لا دلالة فيها على ما نحن فيه ، ولا تعلق لها به ، إذ المتبادر من الرجوع في الصدقة إنما إخراجها عما فعله ، وجعلها ملكا ، كما كان أولا ، فلا يكون من محل البحث في شي‌ء ، وكذا صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، فإنها غير صريحة بل ولا ظاهرة في محل البحث ، لأن جعله لولده أعم من أن يكون بطريق لازم ، أم لا كالوصية به ، أو الصدقة مع عدم القربة ، فيمكن حمله على أحد الوجهين المذكورين ، ولا يكون من محل البحث في شي‌ء.

وأما صحيحة علي بن يقطين الأولى ، فهي معارضة بصحيحة الثانية ، وجمع بينهما في المسالك بأمرين أحدهما حمل الصحيحة الأولى على ما إذا قصر الوقف على الأولين ، كما ذكره القاضي ابن البراج فيما قدمنا من نقل عبارته ، ويشعر به قوله بعد أن أبانهم ، فتحمل الثانية على ما لو لم يشترط ذلك كما يدل عليه إطلاقه ، وثانيهما حمل النفي في الأولى على الكراهة ، ثم قال : وكلاهما متجه ، الا أن الأول من التأويلين أوجه.

أقول : الذي يخطر ببالي العليل ويختلج بفكري الكليل إن ما ذكره من التأويل الأول الذي استوجهه وجعل عليه المعول لا يخلو من خدش ، وذلك فإنه متى حمل الخبر على ما ذكره من قصر الوقف على الأولين ، مع أنه عليه‌السلام قال : في الجواب ليس له ذلك الا أن يشترط أن من ولد له فهو مثل من تصدق عليه ، فاللازم من ذلك هو عدم التعرض لحكم الإطلاق في الرواية ، مع أنه محل البحث ،


وموضع الخلاف المحتاج إلى الدليل ، لأن حاصل معنى الخبر على ما ذكره أنه متى قصر الوقف على الأولين فليس له أن يدخل معهم غيرهم إلا أن يشترط الإدخال ، يعني بأن لا يقصره عليهم ويشترط ، فيكون الاستثناء منقطعا ، فالمعلوم منه إنما هو حكم ما لو قصره عليهم ، فإنه لا يجوز الإدخال ، وحكم ما لو اشترط فإنه يجوز الإدخال ، والحكمان مما لا خلاف فيهما ولا اشكال ، وأما لو لم يقصر الحكم عليهم ولا اشترط الإدخال فحكمه غير معلوم من الخبر ، وهو محل البحث كما عرفت ، ومحتاج إلى الاستدلال.

وما ذكره (قدس‌سره) معنى قريب في الخبر ، الا أنه يخرج به عن محل البحث كما عرفت ، وتبقى صحيحته الأخرى خالية من المعارض ، فان ظاهرها الإطلاق ، بمعنى أنه تصدق ولم يقصر ولم يشترط وقد أجاب عليه‌السلام بأنه لا بأس بالإدخال ، والحال هذه ونحوها الروايات الأخر ، وعلى هذا يبقى القول المشهور عاريا عن الدليل ، لأن دليله كما عرفت منحصر في الروايتين المذكورتين ، وهما صحيحة علي بن يقطين الاولى ، ورواية جميل ، وقد عرفت ما فيهما.

ومنه يظهر قوة قول الشيخ في النهاية ، لدلالة الروايات الباقية عليه ، الا أنه يبقي الإشكال في هذا القول ، ورواياته ، فان مقتضى الوقف اللزوم ، حيث أنه من العقود اللازمة متى تمت شرائطه ، وقضية اللزوم تمنع جواز الإدخال ، ولهذا حمل الشيخ وغيره خبر محمد بن سهل عن أبيه على عدم القبض ، وهذا الحمل يجري أيضا في صحيحة علي بن يقطين الثانية ، ورواية قرب الاسناد ، وأما رواية عبد الرحمن بن الحجاج المذكورة في عداد هذه الأخبار فقد عرفت ما فيها ، وعلى هذا فيمكن حمل صحيحة علي بن يقطين الاولى على ما إذا أقبضهم ، ولعل المراد بالإبانة في الخبر المذكور ذلك ، بمعنى أنه متى أبانهم بالوقف وأقبضهم إياه فليس له الإدخال إلا مع الشرط في أصل العقد ، وعلى هذا تجتمع الأخبار المذكورة.


وبالجملة فالمسئلة غير خالية من الاشكال ، وان كان القول المشهور هو الأوفق بالقواعد الشرعية ، من حيث اقتضائها لزوم الوقف بالعقد ، وأما الاستدلال على ذلك بشي‌ء من هذه الأخبار ففيه ما عرفت من تعدد الاحتمال في الصحيحة التي هي أظهر ما استدل به على القول المذكور ، وأما غيرها فقد عرفت ما فيه ، وغاية ما استدل به العلامة في المختلف لذلك قول العسكري عليه‌السلام المتقدم ، وقد تقدم ما فيه : ورواية جميل المتقدمة ، وقد عرفت ما فيها ، والله العالم.

المطلب الثالث في شرائط الموقوف :

يشترط فيه أن يكون عينا مملوكة ، يصح الانتفاع بها مع بقائها ، ويصح إقباضها ، والكلام هنا في مواضع :

الأول : أن يكون عينا ، والمراد بالعين ما لم يكن دينا ولا منفعة ولا مبهما ، لأن العين تطلق في مقابلة كل من هذه الثلاثة ، فأما الوجه في عدم صحة وقف الدين ، فلأن الوقف كما تقدم عبارة عن تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ، وذلك يقتضي أمرا موجودا في الخارج يحكم عليه بذلك والدين في الذمة أمر كلي لا وجود له في الخارج ، فيكون وقفه قبل التعيين من قبيل وقف المعدوم ، ومن ثم منعوا من جواز هبة الدين لغير من هو عليه لذلك ، كذا قالوا والأظهر في تعليل ذلك انما هو ما تقدمت الإشارة إليه سابقا من أن الوقف يقتضي نقل الوقف الى الموقوف عليه ، فيجب الوقوف فيه على ما علم من الشارع كونه ناقلا ، وما علم كونه قابلا للانتقال بذلك ، ولم يعلم من الأخبار تعلق الوقف بالديون ونقلها به ، والأصل العدم الى أن يثبت الدليل على ذلك ، وإنما علم منه العين خاصة ، وأما الوجه في عدم جواز وقف المنفعة فعلل بأن وقفها مناف للغاية المطلوبة من الموقوف ، وهي الانتفاع بها مع بقاء عينها ، والانتفاع بالمنفعة يستلزم استهلاكها شيئا فشيئا ، ولجواز التصرف في العين ، لأنها لم يتعلق


بها الوقف ، فتتبعها المنفعة فيفوت الغرض من الوقف ، والأظهر عندي في الاستدلال هو ما تقدم ذكره ،

وأما الوجه في عدم الجواز في وقف المبهم سواء استند الى معين كفرس من هذه الأفراس ، أم الى غير معين كفرس بقول مطلق فلأن مرجع ذلك الى أمر كلي غير موجود في الخارج كما تقدم في الدين ، وانما يتعين بالتعيين ، والأظهر هنا أيضا هو الرجوع الى الدليل المتقدم ، وانما صرنا الى مخالفة الأصحاب في هذه الأبواب فيما هنا وما سلف في غير باب ، لما عرفت من أن الأحكام الشرعية لا تبنى على مثل هذه التعليلات العقلية ، وانما تبنى على الأدلة الشرعية وأصالة العدم قاعدة كلية واضحة جلية ، لا نزاع فيها ولا شبهة تعتريها ، إذ لا تكليف إلا بعد البيان ، ولا مؤاخذة إلا بعد اقامة البرهان كما هو مسلم بين جملة العلماء الأعيان ، فالعلة في الجميع انما هو ما ذكرناه ، ويخرج ما ذكروه من التعليلات شاهدا ووجها لما ذكرناه.

الثاني : أن تكون مملوكة وهو اما بمعنى صحة تملكها بالنظر الى الواقف فما لا يصح تملكه لا يصح وقفه ، فلا يصح وقف الحر ولو رضى بذلك ، ولا يصح وقف الخمر والخنزير من المسلم على مسلم أو كافر ، ويصح من الكافر على مثله كما صرحوا به ، ويصح وقف الكلب المملوك ، قال في المسالك : والمراد بالمملوك أحد الكلاب السبعة.

أقول : لا أعرف من الكلاب المذكورة سوى كلب الصيد ، وكلب الماشية وكلب الزرع ، وكلب الحائط ، وكلب الدار ، هذا هو المصرح به في كلامهم ، وقد تقدم في المقدمة الثالثة من المقدمات المذكورة في صدر كتاب التجارة (1) تحقيق ما يملك وما لا يملك منها ، وبينا هنا أن المستفاد من الأخبار هو بيع كلب الصيد خاصة ، ولهم فيما عداه اختلاف وأقوال قد قدمنا نقلها ثمة.

__________________

(1) ج 18 ص 79.


وبما ذكرنا يظهر أنه لا يجوز وقف شي‌ء من الكلاب إلا كلب الصيد لأنها غير مملوكة ، والذي ثبت تملكه منها انما هو هذا الفرد خاصة ، ومجرد أن لها منفعة لا يكفي في صحة وقفها مع كونها غير مملوكة ، ولو صح تملكها لصح بيعها فكما امتنع البيع لعدم دخولها في الملك امتنع الوقف لذلك ، وقد عرفت أن المعلوم من الأخبار هو بيع الصيد بخصوصه.

وأما بمعنى كونه ملكا للواقف بالفعل فلو لم يكن كذلك لم يصح وقفه ، وعلى هذا لا يصح الوقف فضولا وان أجاز المالك كما هو أحد القولين في المسئلة وقيل : يصح بإجازة المالك ، وتوقف في التذكرة والدروس.

وكلماتهم في هذا المقام عليلة لا تصلح لتأسيس الأحكام ، وقد عرفت في كتاب البيع (1) بطلان التصرف الفضولي بيعا كان أو وقفا أو غيرهما ، لأنه تصرف في مال الغير بغير اذنه وهو قبيح عقلا ونقلا ، وقد مرت الروايات المصرحة بذلك.

وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة : ان أريد بالمملوكية صلاحيتها بالنظر الى الواقف ، فهو شرط الصحة ، وان أريد به المالك الفعلي فهو شرط اللزوم ، والأولى أن يراد به الأعم ، انتهى ملخصا.

أقول : هذا التفصيل مبني على مذهبه ، وقوله بصحة العقد الفضولي ، وأما على ما اخترناه من القول ببطلانه فالأمر واحد ، وهو أنه شرط في الصحة في كلا الاحتمالين وما ذكره من أن الأولى أن يكون المراد به الأعم جيد ، إذ كما لا يصح بالنسبة الى ما لا يصح تملكه ، كذا لا يصح بالنسبة الى ما لا يملكه بالفعل.

الثالث : أن يصح الانتفاع بها مع بقائها ، ولا ريب أنه يجب أن يكون لذلك العين نفع محلل مع بقائها فلو وقف مالا نفع فيه بالكلية ، أو كان الانتقاع به محرما ، أو كان الانتفاع موجبا لذهاب عينه كالخبز والفاكهة والطعام بطل ، ولا يشترط في الانتفاع كونه في الحال : فيصح وقف العبد الصغير والدابة الصغيرة ،

__________________

(1) ج 18 ص 377.


ولا يشترط كون العين مما تبقى مؤبدا فيصح وقف العبد والثوب وأثاث البيت والقفار ، وضابطه ما عرفت من أنه ما يصح الانتفاع به منفعة محللة مع بقائه ، والتأبيد المشترط في الوقف إنما هو بمعنى دوامه بدوام وجود العين الموقوفة.

الرابع : أنه لا بد من إقباضها لما تقدم من أن شرط صحة الوقف القبض ، فلو لم يحصل القبض بطل ، فلا يجوز وقف الآبق ، ونحوه البعير الشارد ، قيل : ويشكل بأن القبض المعتبر في صحة الوقف ليس بفوري ، وحينئذ فلا مانع من وقوع الصيغة صحيحة ، وصحة الوقف مراعاة بقبضه بعد ذلك وان طال الزمان ، فان تعذر بطل ، وهذا بخلاف البيع ، فإنه معارضة من الجانبين ، وشرطه إمكان تسليم العوضين في الحال بالنص ، فلا يتعدى الى غيره ، للأصل ، ولو قدر الموقوف عليه على تحصيله فالأولى الصحة ، لزوال المانع ولا عبرة بالضميمة هنا ، لأن شرط الوقف القبض ، ولا يكفي قبض بعض الموقوف ، وهو هنا الضميمة عن الباقي ، وعلى هذا فبين حكم البيع والوقف بالنسبة إلى الآبق عموم وخصوص من وجه ، انتهى وهو جيد.

الخامس : هل يجوز وقف الدنانير والدراهم أم لا؟ قولان : مبنيان على وجود المنفعة لهما مع بقاء عينهما وعدمه ، ونقل في المبسوط الإجماع على المنع من وقفهما إلا من شذ ، وقد تقدم تحقيق البحث في ذلك في كتاب العارية (1) وأوضحنا فيه بالأخبار الواردة عنهم عليه‌السلام حصول المنافع منهما مع بقاء عينهما ، فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه والله العالم.

إلحاق :

الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في صحة وقف المشاع كغيره مما كان متميزا ، والقبض موقوف على اذن الواقف والشريك ، وتدل على ذلك جملة من

__________________

(1) ج 21 ص 507.


الأخبار وان كانت بلفظ الصدقة ، لما عرفت آنفا من التعبير بهذا اللفظ عن الوقف وأن أكثر استعماله قديما انما هو في هذا المعنى.

ومنها صحيحة الحلبي (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دار لم تقسم فتصدق بعض أهل الدار بنصيبه من الدار؟ قال : يجوز ، قلت : أرأيت ان كان هبة؟ قال : يجوز».

ورواية أبي بصير (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صدقة ما لم تقسم ولم تقبض؟ فقال : جائزة إنما أراد الناس النحل فأخطأوا».

قوله صدقة ما لم تقسم ولم تقبض» يعنى ما كان مشتركا قبل القسمة ، أو اشتراه مثلا ولم يقبضه ، أو لم يقبضه بعد القسمة ، وأما قوله «وانما أراد الناس الى آخره» فهو لا يخلو من خفاء وغموض ، واحتمل فيه بعض الأصحاب احتمالات بعيدة ، الا أنه من المحتمل قريبا بمعونة ما قدمناه في الأمر التاسع من المسئلة الثالثة أن المراد انما أراد الناس من لفظ الصدقة في مثل صدقة الدار النحلة والهبة أخطأوا في ذلك ، بل المراد به الوقف ، كما يشير اليه قوله عليه‌السلام فيما قدمنا أن الصدقة محدثة ، انما كانت النحلة والهبة وتسمية بعض أفرادها ، هو ما كان مقرونا بالقربة صدقة ، محدث من العامة ، وانما الصدقة معنى الوقف.

ومنه يعلم أن التقسيم الذي ذكره أصحابنا هنا من الوقف والصدقة والهبة ، انما هو من العامة تبعهم فيه الأصحاب ، والا فليس الا الوقف المعبر عنه بالصدقة في أخبار هذا الباب والنحلة والهبة ، وهذه الصدقة التي جعلوها قسيما هنا انما هي من جملة أفراد النحل والهبات.

وما ذكرناه وان لم يوافق كلامهم (رضوان الله عليهم) إلا أنه ظاهر الأخبار المذكورة ، وعسى يأتي له مزيد تحقيق إنشاء الله تعالى في باب الهبة والنحلة.

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 34 ح 24 وص 31 ح 6 ، التهذيب ج 9 ص 133 ح 11 وص 135 ح 18، الوسائل ج 13 ص 309 ح 1 و 2.


ومنها رواية زرارة (1) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : في الرجل يتصدق بالصدقة المشتركة قال : جائز». ورواية الفضل بن عبد الملك (2) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل تصدق بنصيب له في دار على رجل قال : جائز وان لم يعلم ما هو ، والله العالم.

المطلب الرابع في شرائط الواقف :

والمشهور أنه يعتبر فيه البلوغ والعقل ، وجواز التصرف ، والكلام هنا يقع في موضعين أحدهما ـ في وقف من بلغ عشرا ، وفيه قولان : استدل على الصحة برواية زرارة (3) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إذا أتي على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له في ماله ما أعتق ، وتصدق وأوصى على حد معروف وحق فهو جائز».

والظاهر أن معنى آخر للحديث أن كل ما صنع على وجه المعروف ، فهو جائز.

والرواية وان كان موردها الصدقة ، الا أن الشيخ وجماعة عدوه إلى الوقف نظرا إلى أنه بعض أفراد الصدقة بالمعنى الأعم.

أقول : ظاهر الخبر كما عرفت أن كل ما صنع على وجه المعروف فهو جائز ، وحينئذ فيدخل فيه الوقف كما عرفت ، ويؤيد الرواية المذكورة موثقة جميل بن دراج (4) عن أحدهما عليه‌السلام قال يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ، ووصيته وان لم يحتلم.

وموثقة الحلبي ومحمد بن مسلم (5) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم قال : نعم إذا وضعها في موضع الصدقة».

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 34 ح 26 ، التهذيب ج 9 ص 137 ح 23 ، الوسائل ج 13 ص 309 ح 4.

(2) التهذيب ج 9 ص 152 ح 68 ، الوسائل ج 13 ص 309 ح 3.

(3) الكافي ج 7 ص 28 ح 1 ، الفقيه ج 4 ص 145 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 321 ح 1.

(4) التهذيب ج 9 ص 182 ح 8 ، الوسائل ج 13 ص 321 ح 2.

(5) التهذيب ج 9 ص 182 ح 9 ، الوسائل ج 13 ص 321 ح 3.


قال المحقق في الشرائع وفي وقف من بلغ عشرا تردد ، والمروي جواز صدقته ، والاولى المنع ، لتوقف رفع الحجر على البلوغ والرشد ، وقال في المسالك بعد إيراد رواية زرارة وقريب منها رواية سماعة : ومثل هذه الأخبار الشاذة المخالفة لأصول المذهب ، بل وإجماع المسلمين ، لا تصلح لتأسيس هذا الحكم.

أقول : يمكن أن يقال : ان ما دل على الحجر قبل البلوغ والرشد وهو المشار إليه في كلامه في المسالك بأصول المذهب مخصص بهذه الأخبار التي ذكرناها ، ونحوها غيرها مما ورد في الوصية ، كرواية عبد الرحمن بن أبى عبد الله (1) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيته». وفي معناها روايات عديدة في الوصية ، ونسبة جميع هذه الروايات إلى الشذوذ بعيد جدا.

نعم لو كانت المخالفة منحصرة فيما نقله من الروايات لأمكن ما ذكره ، إلا أنك قد عرفت كثرة الأخبار بما يوجب الخروج عن تلك الأصول المذكورة ، فيجب التخصيص ، ولو أنه ناقش بعدم صراحة الرواية في الوقف كما هو المدعى كان كلامه أقرب إلى القبول ، إلا أنك قد عرفت أن إطلاق الصدقة على الوقف شائع ، ذائع في الأخبار ، بل هو الأصل في الإطلاق ، وانما الإطلاق على ما ذكروه مستحدث وبما ذكرنا تظهر قوة ما ذهب إليه الشيخ وأتباعه في هذه المسئلة ، والله العالم.

وثانيهما ـ أنه صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه يجوز للواقف أن يجعل النظر لنفسه في الوقف ولغيره أيضا ، ولو لم يعين كان النظر إلى الواقف ، أو الموقوف عليه ان قلنا بانتقال الملك إليه ، والا فإلى الحاكم الشرعي ، والذي تدل على الأول الأخبار الدالة على وجوب الوفاء بالشروط الا ما حلل حراما أو حرم حلالا (2) «وعلى الثاني ـ مضافا إلى عموم ما دل على وجوب الوفاء

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 181 ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 429 ح 3.

(2) الكافي ج 5 ص 169 ح 1 وص 404 ح 9 ، التهذيب ج 7 ص 22 ح 10 وص 467 ح 80 ، الوسائل ج 12 ص 353 ح 5.


بالشروط ـ خصوص التوقيع الخارج من الناحية المقدسة (1) كما تقدم ، «وفيه وأما ما سألت من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة يسلمها من قد يقوم بها ويعمرها ويؤدى من دخلها خراجها ومؤنتها ويجعل ما يبقي من الدخل لناحيتنا فإن ذلك لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها إنما لا يجوز ذلك لغيره». الحديث.

ويدل على ذلك خبر صدقة فاطمة عليها‌السلام بحوائطها حيث جعلت النظر فيه لعلي عليه‌السلام ثم الحسن ثم الحسين عليهما‌السلام ثم الأكبر من ولدها روى في الكافي والفقيه والتهذيب عن أبى بصير (2) وهو ليث المرادي بقرينة عاصم بن حميد عنه ، فيكون الخبر صحيحا.

قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : ألا أقرؤك وصية فاطمة عليها‌السلام؟ قال : قلت : بلى ، قال : فأخرج حقا أو سفطا فاخرج منه كتابا فقرأه : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصت بحوائطها السبعة : العواف ، والدلال ، والبرقة ، والميثب ، والحسنى ، والصافية ، وما لأم إبراهيم إلى علي بن ابى طالب عليه‌السلام فإن مضى علي فإلى الحسن فان مضى الحسن فإلى الحسين فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي ـ شهد الله على ذلك ، والمقداد بن الأسود ، والزبير بن العوام وكتب علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وقد تقدم ما يدل أن هذه الحوائط كانت وقفا (3) ، وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يأخذ منها ما ينفق على أضيافه ، وأن العباس خاصم فاطمة عليها‌السلام فيها بعد موته ، فشهد علي عليه‌السلام وغيره أنها كانت وقفا على فاطمة.

ومنها حديث وقف علي عليه‌السلام أمواله التي له في ينبع (4) وقد تقدم شطر منه

__________________

(1) الوسائل ج 13 ص 300 ح 8.

(2) الكافي ج 7 ص 48 ح 5 وص 49 ح 6 ، التهذيب ج 9 ص 144 ح 50 الفقيه ج 4 ص 180 ح 13 ، الوسائل ج 13 ص 311 ح 1.

(3 و 4) الكافي ج 7 ص 47 ح 1 وص 48 ح 7 التهذيب ج 9 ص 145 ح 51 وص 146 ح 55 ، وهما في الوسائل ج 13 ص 311 ح 2 وص 312 ح 4.


«وفيه أنه يقوم على ذلك الحسن عليه‌السلام يأكل منه بالمعروف ، ثم ذكر بعده الحسين عليه‌السلام ثم من بعده الى من يختاره الحسين عليه‌السلام ويثق به. الحديث ملخصا».

ومنها صدقة الكاظم (1) عليه‌السلام بأرضه ، وقد جعل الولاية فيها الى الرضا عليه‌السلام وابنه إبراهيم ثم على من بعدهم على الترتيب المذكور في الخبر ، هذا كله مع الشرط لنفسه أو لغيره.

وأما لو لم يعين فإنه يبنى القول في ذلك هنا على أنه هل ينتقل الوقف عن الواقف بالوقف أم لا؟ وعلى الأول فهل ينتقل الى الموقوف عليه مطلقا ، أو لله سبحانه مطلقا ، أو للموقوف عليه ان كان على جهة عامة؟ وعلى الأول والثالث فالنظر لكل منهما ، وعلى الثاني والرابع فالنظر للحاكم ، حيث لا يوجد الخاص ويصير الواقف في ذلك كالأجنبي ، وسيأتي الكلام في تحقيق المسئلة المذكورة ان شاء الله تعالى.

بقي في المسئلة أمور يجب التنبيه عليها ، الأول ـ متى قلنا ان النظر للواقف ابتداء أو مع شرطه ، فهل تشترط عدالته أم لا؟ ظاهر الأصحاب الثاني ، وبه قطع في التذكرة مع احتمال اشتراطها ، لخروجه بالوقف عن الملك ، ومساواته لغيره ، فلا بد من اعتبار العدالة في التولية ، كما تعتبر في غيره.

وعلل العدم بأنه انما نقل ملكه عن نفسه على هذا الوجه ، فيتبع شرطه والمسئلة محل توقف لعدم النص ، أما بالنسبة إلى غيره ممن شرطه في العقد أم لم يشترطه فلا بد من العدالة فيه ، لا أعرف خلافا فيه ، ويدل عليه ما في خبر صدقة أمير المؤمنين (2) عليه‌السلام بماله الذي في ينبع حيث قال في آخره بعد ذكر الحسن والحسين عليهما‌السلام كما قدمنا الإشارة إليه ، قال فان حدث بحسن وحسين حدث فإن

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 53 ح 8 ، التهذيب ج 9 ص 149 ح 57 ، الوسائل ج 13 ص 314 ح 5.

(2) الكافي ج 7 ص 49 ح 7 ، التهذيب ج 9 ص 146 ح 55 ، الوسائل ج 13 ص 312 ح 4.


الآخر منهما ينظر في بنى علي ، فان وجد فيهم من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته ، فإنه يجعله اليه ان شاء ، وان لم ير فيهم بعض الذي يريد فإنه يجعله الى رجل من آل أبي طالب يرضي به ، فان وجد آل أبى طالب قد ذهب كبرائهم ، وذوو آرائهم فإنه يجعله الى رجل يرضاه من بنى هاشم». الحديث.

قالوا : فان لم يكن عدلا أو خرج عنها خرج عن النظر ، وكان الحكم كما لو أطلق ، ولو عادت العدالة عاد الى النظران كان مشروطا من الواقف ، وإلا فلا ، قالوا : ويشترط فيه مضافا الى ذلك الاهتداء إلى كيفية التصرف كما يعتبر ذلك في الوصي.

الثاني ـ قد عرفت أنه متى صرح بالنظر للغير صح إلا أنه لا يجب على ذلك الغير القبول ، ولو قبل لم يجب عليه الاستمرار ، لأنه في معنى التوكيل ، كذا صرح به في الدروس.

أقول : كما يحتمل أنه في معنى الوكالة فيترتب عليه ما ذكره ، كذلك يحتمل أنه في معنى الوصية فيجب عليه الاعلام بعدم القبول ، وإلا لزمه القيام بذلك ويمكن ترجيح الأول بأن الأصل عدم الوجوب ، وإذا كان الأصل عدم وجوب القبول عليه ابتداء استصحب الحكم في عدم الاستدامة ، فلا يجب عليه الاستمرار استصحابا للأصل المذكور ، فإذا رد صار كما لا ناظر له ابتداء فيتولاه الحاكم أو الموقوف عليه ان قلنا بالانتقال اليه ، وكيف كان فالحكم لا يخلو من شوب التردد.

الثالث ـ الناظر من قبل الواقف على قسمين أحدهما ـ أن يكون مشروطا في العقد ، وإذا كان كذلك فإنه لا يجوز للواقف عزله ، عملا بوجوب الوفاء بالشروط الا أن يظهر ما يوجب عزله.

وثانيهما ـ ما لم يكن كذلك ، بأن نصبه بعد العقد بالنظر المتناول فإنه يجوز عزله متى شاء ، لأنه حينئذ في حكم الوكيل الذي يجوز عزله بعد الوكالة متى أراد.


الرابع ـ لو شرط للناظر شيئا من الريع صح وكان ذلك اجرة عمله ليس له أزيد منه وان كان أقل من الأجرة وان أطلق فله مثل أجرة عمله.

أقول : ان أريد بالإطلاق هو عدم ذكر شي‌ء معين ، مع ذكر ما يوجب ان له أجرة ، فما ذكروه جيد ، وان أريد وقوع العقد خاليا من التعرض لذلك نفيا ولا إثباتا فما ذكروه مشكل ، لأن الوقف قد انتقل بالعقد إلى من عينه الواقف من الموقوف عليه ، وإخراج شي‌ء منه يحتاج الى دليل ، وليس في العقد ما يدل على ذلك كما هو المفروض ، والنصوص الدالة على جواز جعل الواقف ناظرا للوقف خالية من ذلك ، والظاهر أن الناظر إنما رضي بذلك مجانا فلا يستحق أجرة.

الخامس ـ قد صرحوا بأن وظيفة الناظر في الوقف العمارة له أولا ، وتحصيل الريع وقسمته على المستحق ، وحفظ الأصل والغلة ، ونحو ذلك من مصالحه.

أقول : وقد صرح بذلك في التوقيع المتقدم ذكره وهو المفهوم من إطلاق باقي الأخبار ، ومقتضاه انه لا يجوز التصرف في شي‌ء من الأعمال المذكورة ، ولا في الغلة إلا باذنه ، ولو كان التصرف من الموقوف عليه وهو مقتضى إطلاق كلام الأصحاب أيضا.

قال في المسالك : وفيه اشكال ، من وجهين : أحدهما ـ ما لو كان الموقوف عليه متحدا ، اما ابتداء أو لاتفاق ذلك في بعض الطبقات ، فإنه مختص بالغلة ، فتوقف تصرفه على اذن الناظر بعيد ، لعدم الفائدة خصوصا مع تحقق صرفها إليه بأن تكون فاضلة عن العمارة وغيرها مما يقدم على القسمة يقينا ، نعم لو أشكل الحال توقف على اذنه قطعا ، لاحتمال أن يحتاج إليها أو الى بعضها في الأمور المتقدمة على اختصاص الموقوف عليه.

أقول : يمكن الجواب عن ذلك بأنه لا عموم في الأمرين المتقدمين على وجه يشمل ما ذكره من هذه الصورة ، فإن الظاهر من نصب الناظر انما هو فيما يحتاج الى النظر والعمل ، مثل التعمير ودفع الخراج ، وقسمة الحاصل بين أربابه


ونحو ذلك ، لا مطلقا بحيث يشمل مطلق التصرف ، وإلا لأدى ذلك الى انه لا يجوز لأحد من الموقوف عليه بعد القسمة وتميز حصته ، التصرف فيها إلا بإذنه ، مع أنه ليس كذلك اتفاقا.

وبالجملة فإن حكم الغلة فيما فرضه ، حكمها فيما لو قسمها الناظر وميزه فكما أنها اختصت بصاحبها في صورة القسمة ، كذلك في صورة الاتحاد ، ثم قال (قدس‌سره) : وثانيهما ـ الأوقاف العامة على المسلمين ، ونحوهم التي يريد الواقف انتفاع كل من الموقوف عليه بالثمرة إذا مر بها ، كأشجار الثمار ، فان مقتضى القاعدة أيضا عدم جواز تصرف أحد منهم في شي‌ء منه ، الا بإذن الحاكم ، ولا يخلو من اشكال وتفويت لكثير من أغراض الواقف ، بل ربما دلت القرينة هنا على عدم ارادة الواقف النظر على هذا الوجه ، بل يريد تفويض الانتفاع إلى كل واحد من أفراد تلك الجهة العامة ، فكأنه في قوة جعل النظر إليه ، لكن هذا كله لا يدفع الاشكال ، لما تقدم من أنه بعد الوقف حيث لا يشترط النظر لأحد يصير كالأجنبي ، وينتقل الحكم إلى الحاكم ، فلا عبرة بقصده خلاف ذلك حيث لا يوافق القواعد الشرعية ، وجعل مثل هذا الإطلاق نظرا لكل واحد في حيز المنع.

وبالجملة فهذه القواعد الشرعية المتفق عليها لا تدفع. بمثل هذا الخيال ، وينبغي أن يقال : ان المتصرف على هذا الوجه يأثم خاصة ، ويملك حيث لا يجب صرف الثمرة في الأمور المتقدمة على صرفها إلى الموقوف عليه ، وكذا القول في تصرف الموقوف عليه المتحد.

أما المتعدد فلا ، لأن قسمتها وتميز حق كل واحد من الشركاء يتوقف على الناظر ، وحينئذ فيكون كالتصرف في المال المشترك بغير إذن الشريك ، فيستقر في ذمته حصة الشريك من ذلك ، ولم أقف في هذه الأحكام للأصحاب على شي‌ء ، فينبغي تحرير النظر فيه ، انتهى.

أقول : ويمكن الجواب أيضا بما قدمنا في سابقه ، فإنه متى كان الأمر


كما ذكره من أن الغرض من وقفه على المسلمين انتفاع كل من الموقوف عليه بالثمرة إذا مر بها ، فانا لا نسلم دخوله تحت القاعدة المذكورة ، لأن ذلك في قوة قوله من شاء أن يأكل من هذه الثمرة ، فهو مأذون ، ومع تسليم التوقف على إذن الحاكم ، فالواجب على الحاكم أيضا أن يأذن إذنا عاما على حسب ارادة الواقف ومطلوبه ، فلا يتوقف كل فرد فرد من أفراد تلك الجهة الموقوف عليها إلى إذن خاص ، كما ظنه (قدس‌سره).

ويؤيد ما قلناه قوله «بل ربما دلت القرينة على عدم ارادة الواقف النظر على هذا الوجه إلى آخره» وجوابه عن ذلك بأنه لا عبرة بقصد الواقف ذلك بعد رجوع الأمر إلى الحاكم ، حيث انه يصير مع عدم الاشتراط كالأجنبي فلا عبرة بقصده خلاف ما يقتضيه نظر الحاكم ، مردود ، بأنا نجعل هذا القصد من الواقف قرينة على عدم دخول هذا الفرد في الإطلاق ، بمعنى استثنائه من ذلك ، فلا يرجع إليه في هذه الصورة ، على أن ما ذكره من أنه بعد الوقف حيث لا يشترط النظر لأحد كالأجنبي ، وينتقل الحكم إلى الحاكم ، فلا عبرة بقصده خلاف ذلك ، محل منع وكيف لا ، والعقود تابعة للقصود ، ومقتضى القواعد الشرعية هو الوقوف على ما علم منه من القصد صريحا أو بقرينة أو نحو ذلك وكونه أجنبيا بعد العقد لا يوجب الخروج عما عينه وقصده ، وإنما المراد منه ليس له بعد العقد إحداث شي‌ء على خلاف ما دل عليه العقد ، والنظر الذي انتقل إلى الحاكم الشرعي إنما هو على حسب ما دلى عليه العقد ، ولا يجوز له الخروج عن مقتضاه ، وهو قد فرض في صورة الاشكال أنه وبما دلت القرينة هنا على عدم ارادة الواقف النظر على هذا الوجه ، بل يريد تفويض الانتفاع إلى كل واحد من أفراد تلك الجهة العامة إلى آخره.

وحينئذ فإنه متى كان الأمر كذلك فلا ريب أنه في قوة التقييد للوقف بما ذكر ، والتصريح به ، فكيف تجوز مخالفته والخروج عنه ، ويكون الخروج عنه موافقا للقواعد الشرعية ، بل الوقوف عليه هو مقتضى القواعد الشرعية ،


والخروج عنه على خلافها ، فتأمله بعين البصيرة ، وتناوله بيد غير قصيرة ليظهر لك ما في الزوايا من الخبايا ، وكم ترك الأول للآخر كما هو المثل السائر ، وبذلك يظهر أنه لا اثم على الأخذ في الصورتين المذكورتين كما ظنه (قدس‌سره) ، والله العالم.

المطلب الخامس في شرائط الموقوف عليه :

ويشترط فيه أن يكون موجودا وله أهلية التملك ، أو تابعا لموجود كذلك ، وأمكن وجوده عادة ، وكان قابلا للوقف.

فهنا مسائل الأولى : الظاهر أنه لا خلاف في بطلان الوقف على المعدوم ابتداء ، ولم أقف على نص في المقام ، الا أنه يمكن أن يقال : مضافا إلى ظاهر الاتفاق أن الوقف نقل للمنفعة البتة أو العين على أحد الأقوال إلى الموقوف عليه ، والمعدوم لا يصلح لذلك.

قالوا : وفي معناه الحمل أيضا ، لأنه وان كان موجودا الا أنه غير صالح للتملك ما دام حملا ، فان قيل : انه تصح الوصية له ، وهو نوع تمليك فالجواب الفرق بين الأمرين ، فإن الوقف تمليك في الحال ، فلا بد من قابلية الموقوف عليه للتملك ، والوصية تمليك في المستقبل ، فالتملك فيها مراعى بوضعه حيا ، فلو مات قبل خروجه حيا بطلت ، ولم يرثها وارثه ، بخلاف ما لو خرج حيا ولو لحظة ثم مات ، فإنها يكون ميراثا.

نعم لو ذكر المعدوم تبعا لموجود كما لو وقف على أولاده الموجودين ، ومن سيوجد منهم صح بلا خلاف يعرف ، وكذا لو وقف على أولاده ومن سيتجدد منهم ، وهكذا ، أما لو كان التابع ممن لا يمكن وجوده ، كالميت أو لا يقبل الملك كالعبد بطل فيما يخصه ، ولو ذكر المعدوم أولا ثم الموجود كان منقطع الأول ، وكذا نفسه أو الميت أو العبد ، ثم بعده الموجود ، وقد تقدم الكلام ، في ذلك في المسئلة الرابعة


من المطلب الثاني في شرائط الوقف (1) ونقل ما فيها من الخلاف محررا محققا ، فلا حاجة إلى إعادته ، ثم انه ينبغي أن يعلم أن عدم صحة الوقف على العبد إنما هو بناء على القول بأنه لا يملك ، أولا يملك الا فاضل الضريبة مما لا يدخله الوقف ، أما على القول بكونه يملك ، وان كان محجورا عليه في التصرف ، فإنه لا مانع من الوقف عليه ، وبه صرح الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) أيضا قيل : ولا ينصرف الوقف إلى مولاه ، لأنه غير مقصود في العقد ، والعقود بالقصود.

أقول : الظاهر أن هذا الكلام خرج في معرض الرد على بعض العامة ، حيث جوز الوقف على العبد ، وجعله مصروفا إلى مولاه ، ولا ريب في ضعفه ، لما عرفت من أن العقود تابعة للقصود ، ومولاه لم يقصد بالوقف عليه ، فمن أين ينصرف إليه.

تنبيه :

قد عرفت أن من جملة الشروط في الموقوف عليه أن يكون له أهلية التملك ، ويشكل ذلك بالوقف على المساجد والقناطر ونحوهما ، فإنه مما لا خلاف فيه ، مع أن شيئا منها غير قابل للتملك كما لا يخفى ، والجواب ما صرح به الأصحاب من أن الوقف المذكور في التحقيق إنما هو وقف على المسلمين ، باعتبار بعض مصالحهم ، ولا ريب أنهم قابلون للتملك ، وغايته أنه وقف عليهم باعتبار مصلحة خاصة من مصالحهم ، فكأنه وقف عليهم بشرط صرفه في مصرف خاص ، ومصلحة خاصة ، ولا منافاة فيه.

وربما ظهر من الصدوق من المنع من الوقف على المساجد ، لما روى في كتابه مرسلا (2) قال : «وسئل عليه‌السلام عن الوقوف على المساجد ، فقال : لا يجوز ، فان المجوس أوقفوا على بيوت النار» ، وروى فيه وفي التهذيب عن أبي الصحاري (3)

__________________

(1) ص 155.

(2) الفقيه ج 1 ص 154 ح 42.

(3) التهذيب ج 9 ص 150 ح 58 ، الفقيه ج 4 ص 185 ح 2. وهما في الوسائل ج 3 ص 552 ح 1 و 2.


«عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : رجل اشترى دارا فبقيت عرصة فبناها بيت غلة أيوقفه على المسجد؟ فقال : ان المجوس أوقفوا على بيت النار».

والمستفاد من الخبرين تعليل المنع بالتشبه بالمجوس ، ولم يتعرض لنقل الخبرين المذكورين أحد من الأصحاب في هذا المقام ، فضلا عن الجواب عنها ، ويمكن حملهما على الكراهة ، بناء على أن المفهوم من الأخبار خفة المؤنة في المساجد ، لا كما هو المتعارف في هذه الأزمان من التكلفات الزائدة فيها ، كما لا يخفى ، والله العالم.

المسئلة الثانية : قد اختلف الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في الوقف على الكافر وقد اضطرب كلامهم في هذا المقام ، فقيل : بالجواز مطلقا ، والمنقول عن الشيخين (عطر الله مرقديهما) أنهما منعا من وقف المسلم على الكافر ، إلا أن يكون من الأقارب سواء كان الأبوين أو غيرهما من ذوي الأرحام ، وبه قال أبو الصلاح وابن حمزة ، وعن سلار وابن البراج الحكم بالبطلان مطلقا وان كان من الأبوين.

واضطرب كلام ابن إدريس فقال : يصح وقف المسلم على والديه الكافرين دون غيرهما من الأهل والقرابات وغيرهم ، لقوله تعالى (1) «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» وأما غيرهما فلا يجوز وان كان قريبا ، لأن شرط الوقف القربة ، ولا يصح التقرب إلى الله تعالى بالوقف على الكافر ، ونسب كلام الشيخ في النهاية من صحة الوقف على الأقارب ، إلى أنه خبر واحد أورده بلفظه إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد غيره ، إلى أن قال : والأولى عندي أن جميع ذوي أرحامه من الكفار يجرون مجرى أبويه الكافرين في جواز الوقف عليهم ، لحثه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بصلة الأرحام (2) قال : وبهذا أفتى ، ثم أمر بلحظة وتأمله ، ثم نقل بعد ذلك بكلام طويل عن الشيخ في الخلاف أنه يجوز الوقف على أهل الذمة إذا كانوا

__________________

(1) سورة لقمان ـ الاية 15.

(2) الكافي ج 4 ص 10 ح 3 ، الوسائل ج 6 ص 286 ح 2.


أقاربه ، ثم قال : وقد قلنا ما عندنا في هذه المسئلة أنه لا يجوز الوقف على الكفرة الا أن يكون الكافر أحد الأبوين ، لأن من صحة الوقف وشرطه نية القربة ، انتهى.

واضطرابه ظاهر ، وحينئذ ففي المسئلة أقوال أربعة : الأول ـ الجواز مطلقا ، واستدل عليه بالعمومات ، مثل «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها (1)». «ولكل كبد حرى أجر (2) ، وقوله تعالى «لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ (3)».

الثاني ـ المنع ، واستدل عليه بقوله عزوجل «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ (4)» الآية.

الثالث ـ تخصيص الجواز بالأرحام ، ومستنده الجمع بين ما ذكر وبين الأخبار الدالة على وجوب صلة الأرحام (5).

والرابع ـ التخصيص بالأبوين ، ووجهه ما ذكر مضافا إلى قوله تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً (6)» وقوله «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً (7)» فيجب الجمع بين الأدلة مما دل على المنع ، ومما دلت عليه هذه الأدلة بالتخصيص بالأبوين.

والمفهوم من كلام المتأخرين كالمحقق وغيره تقسيم الكافر إلى حربي وذمي ،

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 176 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 129 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 307 ح 2.

(2) الكافي ج 4 ص 57 ح 2 وص 58 ح 6 وفيه «أفضل الصدقة إبراد كبد حرى» الوسائل ج 6 ص 330 ح 2 و 5 وص 284 ح 2.

(3) سورة الممتحنة ـ الآية 8.

(4) سورة المجادلة ـ الاية 22.

(5) الكافي ج 4 ص 10 باب الصدقة على القرابة ، الوسائل ج 6 ص 286 الباب 20.

(6) سورة الأحقاف ـ الاية 15.

(7) سورة لقمان ـ الاية 15.


والقول في الأول بالمنع مطلقا ، والخلاف في الثاني بهذه الأقوال الأربعة ، فمحل هذه الأقوال عندهم إنما هو الذمي.

ويشير إلى ما ذكرنا أن المحقق في الشرائع قال : ولا يقف المسلم على الحربي وان كان رحما ، ويقف على الذمي وان كان أجنبيا ، وشيخنا الشهيد الثاني في الشرح نقل الأقوال الأربعة في الذمي ، ثم قال : واعلم أنه لم يرد في عبارات المتقدمين الا الوقف على الكافر غير المبسوط ، فإنه صرح بالذمي ، ولعل مرادهم ذلك يعنى لعل مراد الأصحاب بالكافر الذي أطلقوه وجعلوه محل البحث والخلاف في المسئلة هو الذمي ، دون الحربي.

واختار في المسالك المنع في الحربي مطلقا ، كما هو مذهب المصنف ، وظاهره أيضا الميل إلى قوله في الذمي ، حيث قال بعد نقل الأقوال الأربعة المتقدمة : وكيف كان فالقول بالمنع مطلقا ضعيف ، وقول المصنف لا يخلو من وجه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أني لم أقف في النصوص على ما يدل على حكم الوقف على الكافر ذميا كان أو غيره ، ونسبة ابن إدريس في رده على الشيخ في النهاية ما ذكره في النهاية إلى أنه خبر واحد أورده الشيخ إيرادا لا اعتقادا ، ربما أشعر بوجود خبر بذلك ، الا أنه لم يصل إلينا كما عرفت.

نعم يبقى الكلام فيما ذكر من العمومات التي ذيلت بها الأقوال المتقدمة وهي أيضا غير خالية من الاشكال ، سيما الآيات المذكورة ، فإن الآية التي استدل بها على الجواز مطلقا ، ظاهرة في ذلك حتى قال أمين الإسلام الطبرسي ـ في تفسيرها من كتابه مجمع البيان على ما نقله عنه بعض الأعيان بعد كلام في البين ـ : والذي عليه الإجماع أن بر الرجل من يشاء من أهل الحرب قرابة كان أو غير قرابة ليس بمحرم ، وإنما الخلاف في إعطائهم مال الزكاة والفطرة والكفارات ، فلم يجوزه أصحابنا ، وفيه خلاف بين الفقهاء ، وهو كما ترى صريح في دعوى الإجماع على جواز برهم ، والوقف من جملة ذلك ، فالآية كما ترى دليل ظاهر


على القول المذكور.

وأما الاستدلال بحديث «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». فقد عرفت آنفا ما فيه ، والحديث الذي بعده ، وان لم يكن ظاهرا في الدلالة ، الا انه صالح للتأييد.

وأما الآية التي استدل بها على المنع مطلقا فهي ظاهرة الدلالة أيضا على القول المذكور ، وفي معناها قوله عزوجل (1) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» الآية وهما صريحتان في النهي عن مودة الكافر ، ولا ريب أن الوقف عليه إنما ينشئ من المحبة والمودة ، وهو مؤكد لها ، والحال أنه منهي عن المودة التي نشأ منها الوقف ، وتأكد بها ، فيكون منهيا عنه أيضا بالطريق الأولى.

نعم لا يخفى أن الآية الأولى وان دلت على الجواز مطلقا الا أنه يدفعها بالنسبة إلى الحربي أولا للقول باشتراط القربة في الوقف ، وقد عرفت أنه مذهب جملة من الأصحاب (رحمهم‌الله) فإنه مقتضى الأدلة ، والتقرب إلى الله تعالى بصلته مع نهيه سبحانه عن مودته لا يجتمعان.

وثانيا حل أمواله للمسلمين ، فان مال الحربي في‌ء للمسلمين يصح أخذه وبيعه ، وهو ينافي صحة الوقف عليه ، والمعارضة كما ترى حاصلة بين الآية المستدل بها على الجواز ، وبين ما ذكرناه ، ولم يظهر لي وجه يجمع به بينهما ، وبذلك يزيد الاشكال.

ومن ثم أنه في المسالك رجح القول بالمنع في الحربي ، والجواز في الذمي ، لكن الواجب عليه كان أن يجيب عن الآية الدالة على الجواز مطلقا ، مع أنه لم يتعرض لذلك ، إلا أنه خص آية الجواز بالذمي كما أشرنا إليه آنفا ، من أنه جعل الأقوال الأربعة في الذمي خاصة ، والآية كما ترى أعم ، بل صريح أمين الإسلام

__________________

(1) سورة الممتحنة ـ الاية 1.


الطبرسي كما عرفت هو كونها في الحربي ، وربما قيل : بأن النهي عن الموادة في تلك الآية إنما هو من حيث المحادة ، فلا ينافيه الوقوع على غير تلك الحيثية ، وهو محتمل ، وبه يقوى الاعتماد على الآية الأخرى مع ما عرفت من المعارض لها وبالجملة فالمسئلة عندي لما عرفت محل اشكال وإعضال ، والله العالم بحقيقة الحال.

إلحاق :

قد عرفت الكلام في وقف المسلمين على الكفار ، بقي الكلام في وقف الكافر على مثله مطلقا ، أو وقف الحربي على الذمي أو الذمي على الذمي خاصة ، فظاهر الأصحاب الصحة ، وكذا الوقف على البيع والكنائس ، وعلل الصحة باعتقادهم شرعيته ، مضافا إلى إقرارهم على دينهم.

والثاني : إنما يتم بالنسبة إلى الذمي ، والمسئلة محل توقف لعدم الظفر فيها بنص ، ويشكل أيضا باشتراط القربة في الوقف على القول به ، حيث أن ذلك معصية في الحقيقة والواقع ، فلا يعقل التقرب والحال ذلك ، الا أن يحمل قصد القربة على قصدها في الجملة ، وان لم يحصل حقيقة ، أو يخصص قصدها ممن يعتقد حصولها ، والأول بعيد غاية البعد ، فإنه لغو محض ، والثاني أيضا لا يخلو من بعد ، وان استظهره في المسالك ، ولهذا ان الأصحاب منعوا من تولى الكافر الأفعال المشروطة بالقربة ، مثل غسل الأموات ونحوه ، وأبطلوا ذلك من حيث عدم تأتي ذلك من الكافر.

المسئلة الثالثة : قد صرح الأصحاب (رضى الله عنهم) ببطلان الوقف على البيع والكنائس ، وكذا لو وقف في معونة الزناة وقطاع الطريق ، وشاربي الخمر وأمثالهم ، وكذا على الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل من غير خلاف يعرف.

أما الأول فالوجه فيه على ما قالوه وان قلنا بجواز الوقف على أهل الذمة كما أحد الأقوال المتقدمة ، هو الفرق بين الأمرين ، فإن الوقف على أهل الذمة


أنفسهم لا يستلزم معصية ، حيث أن نفعهم من حيث الحاجة ، وأنهم عباد الله ، ومن جملة بنى آدم ، وممن يجوز أن يتولد منهم المسلمون ، ولا معصية فيه ، وما ربما يترتب عليه من الإعانة على شرب الخمر ، وسائر المحرمات التي يستحلونها فهي غير مقصودة للواقف ، ولو فرض قصدها حكمنا ببطلان الوقف ، وكذا لو وقف عليهم لكونهم كفارا بل على فسقة المسلمين ، كما سيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى.

وبالجملة فالمدار في البطلان والصحة على الغاية المترتبة على الوقف ، ولما كانت الغاية المترتبة عليه بالنظر إلى ما قلنا صحيحة سائغة ، صح الوقف ، وهذا بخلاف الوقف على البيع والكنائس ، حيث أنه وان كان وقفا على جهة خاصة من مصالح أهل الذمة ، إلا أنه معصية محضة ، لما يتضمن من الإعانة لهم على الاجتماع لتلك العبادات المحرمة ، ورسوخهم في الكفر ، فالغرض والغاية من الوقف هنا ليس على حسب باقي الغايات المترتبة على الوقف عليهم أنفسهم ، فلذا صح الوقف هناك ، وبطل هنا.

وأما الثاني فالوجه فيه ظاهر ، لانه متى كان الغرض المترتب على الوقف والغاية المقصودة منه إنما هو معونة هؤلاء من هذه الحيثيات المذكورة التي لا ريب في تحريمها ، وأنها معينة ، فلا ريب أن الوقف معصية ، فإن الإعانة على المعصية معصية.

واما لو وقف على من هو متصف بذلك من المسلمين ، لكنه لا من هذه الحيثية فلا إشكال في صحته ، سواء أطلق أم قصد جهة محللة.

واما الثالث فعلله الأصحاب بأن الكتابين المذكورين محرفان عما كانا عليه أولا ، ومع ذلك فهما منسوخان ، ولهذا حكموا بعدم جواز حفظهما ، كما تقدم في مقدمات كتاب التجارة من عدم جواز حفظ كتب الضلال.

نعم جوزوا الحفظ للنقض والحجة بها ، وقد نقل الأصحاب في هذا المقام


حديثا من طرق العامة وهو أنه قد روى عن النبي (1) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «أنه قد خرج إلى المسجد فرأى في يد عمر صحيفة ، وفيها شي‌ء من التورية ، فغضب (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما رأى الصحيفة في يده ، وقال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية حتى لو كان أخي موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي». قال : في المسالك بعد نقل الخبر المذكور ، وهذا يدل على أن النظر إليها معصية ، وإلا لما غضب منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لذلك.

أقول : وقد نقل ابن أبى الحديد في شرح نهج البلاغة مثل هذا الخبر عن عمر أيضا بوجه المنع ، وقد ذكرناه في كتابنا سلاسل الحديد في تقييد ابن أبى الحديد ، وبينا ما فيه من نفاق ذلك الطاغي العنيد.

قال في المسالك : وينبغي جواز الوقف عليها على الوجه الذي يجوز إمساكها لأجله وهو النقض والحجة ، لأن الحجة طاعة ، الا أن الغرض لما كان نادرا أطلقوا المنع عليها ، انتهى.

أقول : ومقتضي ما ذكروه هنا جواز الوقف على كتب الشريعة ، والظاهر أنه لا اشكال فيه ، وهل يدخل في ذلك كتب أهل الخلاف أم لا؟ وجهان مبنيان على أنه هل تدخل تلك الكتب تحت كتب أهل الضلال أم لا وقد تقدم الكلام في ذلك في الموضع المشار إليه آنفا ، فعلى الأول كما هو الأظهر لا يجوز ، وعلى الثاني كما اختاره بعض محققي متأخري المتأخرين يجوز ، والله العالم.

المسئلة الرابعة : إذا وصف الموقوف عليه بصفة أو نسبة ، دخل فيه كل من تناوله الإطلاق عرفا مع اتفاق العرف أو الاصطلاح على ذلك ، والا فالمتعارف عند الواقف ، اعتبارا بشاهد الحال ، ولو كان ثمة قرائن وجب العمل بمقتضاها.

وفي هذا الباب صور منها ـ ما لو وقف على الفقراء ، فان كان الواقف مسلما انصرف إلى فقراء المسلمين ، وان كان كافرا وقلنا بصحة وقف الكافر انصرف

__________________

(1) المسالك ج 1 ص 349.


إلى فقراء نحلته ، والوجه فيه ، أن صفة الفقر وان شملت لغة لكل من المسلم والكافر ، ومقتضاه العموم للجميع في كل من الصورتين المذكورتين ، الا أن العرف وشاهد الحال يدل على ارادة المسلمين في الأولى ، وأهل نحلة الواقف في الثانية ، والعرف عندهم مقدم على اللغة ، وهذا يتم مع تحقق دلالة العرف وشهادة الحال عليه ، والا فاللغة مقدمة ، الا أنه لما كان تحقق الدلالة العرفية هنا وشهادة الحال بذلك ظاهرا جزموا بالحكم المذكور من غير تردد.

بقي أنه لو وقف على الفقراء فهل يجب تتبع من خرج عن بلد الوقف أو يكفي الدفع إلى فقراء البلد؟ صرح جملة من الأصحاب بالثاني ، وعلل بأن الوقف على غير منحصر إنما هو وقف على الجهة ، لا على أشخاصها ، ومصرف الجهة من اتصف بوصفها من فقر أو فقه لو كان الوقف على الفقهاء ، فلا يجب الدفع إلى جميع الأشخاص الداخلين في الوصف ، ويدل عليه ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن على بن محمد بن سليمان النوفلي (1) قال : «كتبت إلى أبى جعفر الثاني عليه‌السلام أسأله عن أرض وقفها جدي على المحتاجين من ولد فلان بن فلان وهم كثير متفرقون في البلاد فأجاب عليه‌السلام ذكرت الأرض التي أوقفها جدك على فقراء ولد فلان بن فلان وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف ، وليس لك أن تتبع من كان غائبا».

وظاهر الخبر الاختصاص بمن حضر البلد لظاهر اللام ، المؤذن بالملك أو الاختصاص ، والأصحاب صرحوا بأنه لو تتبع جاز ، لأن المنفي إنما هو وجوب التتبع ، والظاهر من الخبر خلافه ، وان أمكن احتماله.

وظاهر الخبر وجوب استيعاب من في البلد ، وبه صرح بعضهم ، وقيل : يجزى الاقتصار على ثلاثة مراعاة للجمع ، مع ما علم من أن الجهة لا يقتضي الأشخاص ، وقيل : يكفى اثنين ، بناء على أنه أقل الجمع.

قال في المسالك : ويحتمل جواز الاقتصار على واحد ، نظرا الى أن الأشخاص

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 38 ح 37 ، الوسائل ج 13 ص 308 ح 1.


مصرف الوقف ، لا مستحقوه إذ لو حمل على الاستحقاق وعمل بظاهر اللفظ لوجب الاستيعاب ، لأنه جمع معرف مفيد للعموم ، فيجب التتبع ما أمكن ، انتهى.

وفيه أن الظاهر من الخبر المذكور هو وجوب استيعاب من في البلد ، فلا ينبغي الالتفات الى هذه الأقوال ، ولا الى ما عللت به.

ومنها ما لو وقف على المسلمين ، والظاهر صدقه على من أقر بالشهادتين مع عدم إنكاره ما علم من الدين ضرورة ، فيدخل فيه جملة الشكاك والمستضعفين ويخرج منه من حكم بكفره من أفراد المسلمين ، كالخوارج ، والنواصب ، والمجسمة والغلاة ، ولفظ المسلمين وان شمل هؤلاء المذكورين عرفا ، إلا أنه شرعا لا يشملهم والعرف الشرعي مقدم على العرف العام اتفاقا.

وبذلك يظهر ما في قوله في المسالك بعد أن ذكر المعنى الأول وهو حمل المسلمين على من أقر بالشهادتين ولم ينكر شيئا من ضروريات الدين فيخرج عنه هؤلاء المذكورون ما لفظه : مع احتمال العموم نظرا الى المفهوم عرفا.

فان فيه أنه وان صدق ذلك عرفا إلا أن المفهوم من هذا اللفظ بالنظر الى الأخبار إنما هو الأول ، ولهذا أنهم صرحوا في تسميتهم مسلمين إنما هو بمعنى منتحلي الإسلام ، وإذا ثبت أن عرفهم عليه‌السلام إنما هو المعنى الأول وجب تقديمه وبطل ما ذكره من الاحتمال.

وفي دخول المخالفين وعدمه قولان مبنيان على الحكم بإسلامهم كما هو المشهور بين المتأخرين ، أو كفرهم كما هو مذهب جملة من محققي متقدمي الأصحاب ، وهو المختار ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في جملة من زبرنا ، ولا سيما كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب ، وقد تقدم في الجلد الثاني من كتاب الطهارة نبذ من القول في ذلك (1) «قال في المسالك : ولا فرق بين كون الواقف من المسلمين محقا وغيره ، عملا بالمفهوم ، وقيل : إن كان الواقف

__________________

(1) ج 5 ص 181.


محقا يختص الوقف بقبيلة بشهادة الحال ، كما لو وقف على الفقراء ، ورد بأن تخصيص عام لا يقتضي تخصيص آخر ، وشهادة الحال ممنوعة ، والفرق بين المسلمين والفقراء قائم ، فان ارادة الوقف على جميع الفقراء على اختلاف آرائهم وتباين مقالاتهم ومعتقداتهم بعيد ، بخلاف ارادة فرق المسلمين من إطلاقهم ، فإنه أمر راجح شرعي مطلوب عرفا ، والأقوى المشهور.

نعم لو كان الواقف من أحد الفرق المحكوم بكفرها لم يخرج قبيلته من وقفه ولا غيره ممن يحكم بكفره أيضا ، حيث لا يشهد حاله بإخراجه ، ويحتمل اختصاص عدم الحرمان بقبيلة خاصة اقتصارا في التخصيص على محل اليقين ، وهو حسن إلا مع شهادة الحال بخلافه ، انتهى.

أقول : ما نقله من القول الذي نقضه هو قول ابن إدريس حيث قال : وإذا وقف المسلم المحق شيئا على المسلمين كان ذلك للمحقين من المسلمين ، واستدل بأن فحوى الخطاب وشاهد الحال يدل عليه ، كما لو وقف الكافر وقفا على الفقراء كان ماضيا في فقراء أهل نحلته خاصة ، بشهادة دلالة الحال عليه ، قال : وما أورده الشيخ خبر واحد أورد ، إيرادا لا اعتقادا ، لأنا وإياه نراعي في صحة الوقف التقرب به الى الله ، وببعض هؤلاء لا يتقرب الإنسان المحق بوقفه عليه ، انتهى.

وأنت خبير بأن كلام ابن إدريس جيد بناء على مذهبه ، وبيان ذلك أن الخارج عن هذا العنوان أعنى المسلم المحق منحصر في أفراد ثلاثة : أحدها ـ من أنكر شيئا من ضروريات الدين كالإفراد المتقدم ذكرها ، وهم موافقون على خروجها عن هذا العنوان بل عن عنوان المسلمين ، لأنهم كفار عندهم بلا اشكال.

وثانيها ـ أفراد المخالفين من العامة ، ومن يتبعهم من فرق الزيدية وغيرهم وهؤلاء وإن كانوا عندهم من المسلمين ، إلا أنهم عند ابن إدريس وجملة من محققي المتقدمين من الكفار باليقين ، وهو الحق كما تقدمت الإشارة اليه ، ومحل اعتراضهم هنا نشأ من هذا الفرد ، مع أن مذهبه فيه ما عرفت من القول بالكفر


فخروجهم بناء على ذلك ظاهر.

وثالثها ـ أفراد المستضعفين من الشكاك وغيرهم ، وهؤلاء على ما يفهم من الأخبار الكثيرة تجري عليهم أحكام الإسلام في الدنيا وأما في الآخرة فهم من المرجئين لأمر الله ، وان دل بعض الأخبار على أن عاقبة أمرهم الجنة أيضا ، كما أوضحناه في كتابنا المتقدم ذكره وهؤلاء لا ريب في دخولهم لوجوب إجراء أحكام الإسلام عليهم ، وهذا منها.

ويعضد ما ذهب اليه ابن إدريس هنا أيضا ما ألزم به الشيخ حيث أن مذهبه في النهاية كما قدمنا نقله عنه القول باشتراط القربة في الوقف ، كما هو مذهب ابن إدريس ، وبموجب ذلك أنه لا يصح التقرب الى الله بالوقف على أحد من المخالفين ، الذين قد عرفت أنهم محل البحث ، سيما على القول بالكفر الذي هو مذهب هذا القائل ، وبذلك يتبين لك قوة ما ذهب اليه.

وأما بحثه معه في المسالك بما قدمنا نقله عنه من المناقشة في الوقف على هؤلاء ، كوقف الكافر الذي ينصرف الى فقراء نحلته ، فهي مناقشة لفظية ، لا يوجب بطلان ما ذهب إليه ، لأنه إنما قصد بذلك التنظير والتمثيل لدفع الاستبعاد ، وإلا فدليله المعتمد انما هو ما ذكرناه ، وهو كما ترى واضح الظهور ، لا تعتريه شائبة القصور والله العالم.

ومنها الوقف على المؤمنين ، وقد اختلف الأصحاب في ذلك ، فقال الشيخ في النهاية : إذا وقف على المؤمنين كان ذلك لمجتنبي الكبائر من أهل المعرفة بالإمامة دون غيرهم ، ولا يكون للفساق منهم معهم شي‌ء على حال ، وكذا قال الشيخ المفيد وابن البراج وابن حمزة ، وقال ابن إدريس : لا يختص ذلك بالعدل بل هو عام لجميع المؤمنين ، العدل منهم والفاسق ، وعلى هذا القول جرى المتأخرون.

أقول : والتحقيق في ذلك أن الكلام هنا يتوقف على بيان معنى الايمان ، والمشهور بين الأصحاب أنه عبارة عن الإقرار باللسان ، والتصديق بالجنان يعني


الإقرار بالشهادتين ، وجميع ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مقرونا بالتصديق والإذعان ، وقيل : انه كذلك مع انضمام العمل بالأركان إلى ذلك ، والمراد بالعمل الذي يكون جزء من الايمان هو الإتيان بكبائر الطاعات ، واجتناب كبائر المعاصي ، وهو مذهب الصدوق ، والشيخ المفيد (رحمة الله عليهما) وجملة من المتقدمين ، وهو المستفاد من الأخبار المتكاثرة ، ولا فرق في أخذ العمل جزء من الايمان بين أن يكون من الاثني عشرية ، وغيرهم ، وان كان الايمان عندنا لا يثبت لغير الاثني عشرية.

فما ذكره في المسالك من أن الايمان الخاص قسمان : أحدهما المأخوذ فيه العمل الصالح ، والثاني اعتقاد إمامة الاثني عشر اماما عليهم‌السلام مما يؤذن بعدم اعتبار أخذ الأعمال جزء بالنسبة إلى المعتقد بهذا الاعتقاد ، فليس في محله.

وبالجملة فإن المستفاد من الأخبار على وجه لا يعتريه الشبهة للمتتبع ، ولا يقبل الإنكار ، هو أن الايمان عبارة عن المركب من هذه الثلاثة ، وهي الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان ، والعمل بالأركان ، وبهذا المضمون جملة من الأخبار أوردها الصدوق في عيون الأخبار (1).

وعلى هذا فهيهنا ثلاثة أقسام : مؤمن ، وهو من كان كذلك ، وكافر وهو من لم يتصف بشي‌ء من هذه الثلاثة ، وهؤلاء أهل الوعدين ، الجنة والنار ، فالأولون يساقون من قبورهم إلى الجنة ، والآخرون إلى النار ، لا حساب عليهم ولا كتاب ، والقسم الثالث المسلم ، وهو من خرج من الكفر ، لعدم إنكاره ، ولم يدخل في الايمان لعدم اعماله ، وهؤلاء أكثر الناس ، وهم أصحاب الحساب وأهل المحشر ، ولتحقيق هذا المقام محل آخر.

وبالجملة فإن ما ذهب إليه المتقدمون في هذه المسئلة مبني على مختارهم

__________________

(1) عيون اخبار الرضا (عليه‌السلام) ج 1 ص 177 ط النجف الأشرف سنة 1390 الكافي ج 2 ص 25 باب ان الايمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الايمان.


في معنى الايمان ، وما ذكره المتأخرون مبني أيضا على ما اختاروه ، فالنزاع هنا لفظي ، ومحل البحث في تحقيق معنى الايمان ، والحق عندي فيه هو مذهب المتقدمين ، لأنه المستفاد من الأخبار المستفيضة ، وان حملها متأخرو الأصحاب على الفرد الأكمل منه ، إلا أن الحمل فرع وجود المعارض ، ثم الظاهر أنه على تقدير تفسير الايمان بالمعنى المشهور ، فمظهر الفرق بينه وبين التفسير بالمعنى الثاني وهو اضافة العمل إلى ما ذكر ، إنما هو في اتصاف الفساق بالايمان وعدمه ، فيتصفون به على القول المشهور ، لا على القول الآخر ، ولكن مع عدم اتصافهم به لا يكونون كفارا ، بل مسلمين ، لأنها المنزلة الوسطى بين الكفر والايمان ، وكيف كان فإن محل الجميع الإمامية الاثني عشرية.

وما يظهر من المسالك من أن الايمان بمعنى اعتقاد إمامة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) أخص من الايمان بالمعنى المشهور ، ان أريد به الخصوص والعموم بحسب المفهوم فهو كذلك ، وان أريد مصداقا بمعنى أنه يصدق الايمان بالمعنى المشهور على ما هو أعم من الاعتقاد بإمامة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) كما هو ظاهر كلامه فهو باطل ، لأنا نمنع صدق الايمان بأي معنى فسر على غير القائلين بإمامة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) ، لما علم من الأخبار على وجه لا يقبل الإنكار من شرف المؤمن وحرمته ، وحرمته ، ووجوب قضاء حقوقه ونحو ذلك من الأخبار المروية في الكافي في كتاب الايمان والكفر (1) ، وتفصيل حقوق المؤمن مضافا إلى ما دل على أنه الموجب لدخول الجنة ، وهذا كله لا يصح إجراؤه على غير الاثني عشرية ، فإنهم المرادون بذلك على الخصوص.

نعم يجب التفصيل فيهم بالفسق والعدالة ، بناء على القول الآخر في معنى الايمان ، وحينئذ فلو وقف على المؤمنين وأطلق فإن كان الواقف من الإمامية وهم الاثني عشرية فلا ريب في أن المراد بهم الإمامية ، لكن يبقى الكلام في الاختصاص

__________________

(1) الكافي ج 2 ص 192 باب قضاء حاجة المؤمن.


بالعدول ، وشمول الفساق المبني على القول المشهور في الايمان ، من عدم أخذ الأعمال في معناه فيشمل ، أو أخذها فيختص ، وان كان الواقف من غيرهم ، فالظاهر أن الحكم كالأول ، وهو المفهوم من كلام الأصحاب أيضا ، قال في المسالك ـ بعد أن اعترف بأنه في هذه الصورة ظاهر المصنف والأكثر كونه كالصورة الأولى ـ ما لفظه : وهو مشكل ، لأن ذلك غير معروف عنده ، ولا قصده متوجه إليه ، فكيف يحمل عليه ، وليس الحكم فيه كالمسلمين في أن لفظه عام فينصرف إلى ما دل عليه اللفظ وان خالف معتقد الواقف كما تقدم ، لأن الإيمان لغة هو مطلق التصديق ، وليس بمراد هنا ، واصطلاحا يختلف بحسب المصطلحين ، والمعنى الذي اعتبره أكثر المسلمين هو المعنى العام ، فلو قيل بحمله عليه إذا كان الواقف غير امامي كان حسنا ، أو يقال : ان كان من الوعيدية يحمل على معتقده ، أو من الإمامية فعلى معتقده ، أو من غيره فعلى معتقده عملا بشاهد الحال في دلالة العرف الخاص ، والقرائن الحالية ، انتهى.

ووجه الدخل في كلامه أن ما ادعاه من الاختلاف في معنى الايمان بحسب اختلاف المصطلحين ، وانما اعتبره أكثر المسلمين هو المعنى العام ، بمعنى أنه عبارة عن مجرد الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان مردود ، بأن الكلام في ذلك ينبغي الرجوع فيه إلى المعنى الشرعي الذي دلت عليه الأخبار ، فإنه هو الأولى بالرجوع إليه والاعتبار ، وعليه تبنى الأحكام في الإيراد والإصدار ، ولا عبرة بعد ذلك باصطلاح المصطلحين ، ولا باختلافهم في اصطلاحهم ولا اتفاقهم ، والذي دلت عليه الأخبار كما تقدمت الإشارة إليه أن الايمان لا يصدق على غير الإمامية ، وإلا لزم دخول غيرهم الجنة ، ولا قائل به.

ثم انه قال في المسالك : إذا تقرر ذلك فهل يشترط مع الاعتقاد المذكور في المعنى المشهور اجتناب الكبائر؟ قال الشيخ : نعم ، فلا يجوز للفساق من الإمامية أخذ شي‌ء منه ، وتبعه جماعة ، ولعل مبناه على أن العمل جزء من الايمان


كما هو مأثور عن السلف ، وورد في كثير من الأخبار أنه مركب من ثلاثة أشياء : اعتقاد بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان ، فيكون العمل ثلث الايمان ، والمشهور وهو الأصح عدم اعتباره ، وإليه ذهب الشهيد في البيان أيضا لما تحقق في الكلام من أن الايمان هو التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان على الوجه السابق ، وأن العمل ليس بجزء منه ، ولا شرط ، انتهى.

وفيه أنه لا يخفى على من راجع الأخبار التي هي العمدة في الإيراد والإصدار أنها دائرة بين قسمين ، فقسم منها اشتمل على أن الايمان عبارة عن التصديق والإقرار ، وهذه الأخبار وردت في مقام الفرق بين الايمان والإسلام ، وأن الايمان أخص مطلقا.

وقسم منها ورد بأنه عبارة عما ذكر مع اشتماله على العمل ، وصرحت بأنه إقرار باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان ، ولهذه الأخبار مؤيدات من الأخبار أيضا ، مثل الأخبار الدالة على تقسيم الناس إلى ثلاث فرق ، الراجعة إلى ست فرق ، مثل حديث الطيار المروي في الكافي (1) قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الناس على ست فرق ، يؤولون (2) كلهم إلى ثلاث فرق : الايمان والكفر والضلال : وهم أهل الوعدين الذين وعدهم الله تعالى الجنة والنار ، المؤمنون والكافرون ، والمستضعفون والمرجون لأمر الله ، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، والمعترفون بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وأهل الأعراف» ، ومرجع ذلك إلى إثبات منزلة بين الكفر والايمان ، وهو مبني على أخذ الأفعال في الأعمال ، وهؤلاء بمقتضى النصوص من المسلمين ، لا بالمعنى المشهور الذي يدخل فيه المنافقون ، بل أخص منه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا منافاة بين هذه الأخبار ، إذ غاية الأخبار الأول

__________________

(1) الكافي ج 2 ص 381 ح 2.

(2) أى : يرجعون.


أنها مطلقة والثانية مقيدة ، وطريق الجمع حمل الإطلاق في تلك الأخبار على ما دلت عليه هذه من أخذ الأعمال ، وإلا فإن اطراحها من غير موجب لا معنى له سيما مع ما عرفت من تأيدها بغيرها.

وبذلك يظهر لك أن ما اختاروه في علم الكلام من أن الايمان عبارة عما ذكروه ، لا أعرف له وجها وجيها ، بل المفهوم من الأخبار بعد ضم بعضها إلى بعض هو ما ذكرناه ، من أنه مركب من الثلاثة المذكورة ، ثم ان في كلامه اشارة ظاهرة إلى أن مذهب السلف أعنى متقدمي الأصحاب هو القول بما اخترناه ، والترجيح لما رجحناه ، والعجب أنه مع اعترافه بذلك وأنه قد ورد في كثير من الأخبار كيف خالفه ، وخرج عنه من غير حجة واضحة ، سوى ما أحاله على علم الكلام.

وفيه أن ما تحقق في علم الكلام ان كان مستفادا من الأخبار فقد عرفت أنه ليس كذلك لما ذكرناه ، وان كان من غيرها فلا عبرة به ، ولا عمل عليه ، والله العالم.

ومنها الوقف على الشيعة قال الشيخان : لو وقفه على الشيعة ولم يميز كان ذلك ماضيا في الإمامية ، والجارودية من الزيدية ، دون التبرية ، وبه قال سلار وابن البراج وابن حمزة ، وقال المحقق في الشرائع والمراد بهم الإمامية والجارودية دون غيرهم من فرق الزيدية.

قال في المسالك : اسم الشيعة يطلق على من قدم عليا عليه‌السلام في الإمامة على غيره بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولا شبهة في كون الإمامية منهم ، وكذا الجارودية ، وكذا الإسماعيلية ، حيث لا يكونون ملاحدة ، وأما باقي الشيعة كالكيسانية والواقفية والفطحية فداخلة لكن لانقراضهم استغنى عن ذكرهم.

أقول ويؤيد ما ذكره من إطلاق الشيعة على هذه الفرق ما رواه الكشي في


كتاب الرجال بسنده عن عمر بن يزيد (1) قال : «دخلت على أبى عبد الله عليه‌السلام فحدثني مليا في فضائل الشيعة ، ثم قال : ان من الشيعة بعدنا من هو شر من النصاب ، قلت : جعلت فداك أليس ينتحلون حبكم ويتولونكم ويبرءون من عدوكم؟ قال : نعم ، قلت : جعلت فداك بين لنا لنعرفهم ، فلسنا منهم؟ قال : كلا يا عمر لست منهم ، إنما هم قوم يفتنون بزيد ، ويفتنون بموسى» ،.

إلا أن المستفاد من الأخبار الكثيرة المستفيضة بل المتواترة معنى ، من طرق الخاصة والعامة في فضائل الشيعة هو التخصيص بالإمامية بحيث يقطع بعدم دخول غيرهم في هذا الإطلاق ويؤيده ما صرح به في النهاية الأثيرية (2) حيث قال بعد ذكر بعض معاني لفظ الشيعة ما لفظه : وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا وأهل بيته ، حتى صار لهم اسما خاصا فإذا قيل : فلان من الشيعة ، عرف أنه منهم ، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم ، انتهى.

ويؤيده أنه وان كان لفظ الشيعة مما يطلق على هؤلاء في تلك الأعصار السابعة ، الا أنه في الأعصار المتأخرة لا يتبادر من لفظ الشيعة إلا الإمامية ، حتى اشتهر المقابلة له بأهل السنة ، فيقال : شيعي ، وسني.

وبالجملة فإن المتبادر عنه في هذه الأزمان إنما هو ما ذكرناه ، ومنه يعلم أن ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) من الخلاف والكلام في هذه المسئلة على إطلاقه غير متجه ، فان المشهور بينهم أنه لو وقف على الشيعة انصرف إلى من ذكر مما قدمنا نقله عن المسالك.

وفصل ابن إدريس ، فقال : ان كان الواقف من احدى فرق الشيعة كالجارودية والكيسانية والناووسية والفطحية والواقفية والاثني عشرية حمل كلامه العام على شاهد حاله ، وقوى قوله ، وخصص به ، وصرف في أهل نحلته دون من عداهم من سائر المنطوق به ، عملا بشاهد الحال ، انتهى.

__________________

(1) رجال الكشي ص 454 الرقم 869.

(2) النهاية الأثيرية ج 2 ص 520.


وبمقتضى ما قلناه ينبغي أن يخص هذا الخلاف بما لو وقع الوقف في تلك الأعصار ، أما في مثل أوقاتنا هذه ونحوها مما تقدمها وتأخر عنها ، فإنه لا ينبغي الريب في انصرافه إلى الإمامية لو كان الواقف منهم ، وانما يبقى الشك فيما لو كان الواقف من أحد تلك الفرق الموجودة الآن ، فإنه لا يبعد القول فيه بما ذهب اليه ابن إدريس عملا بشاهد الحال ، وهكذا لو كان في الصدر السابق من أي واقف كان ، ونقل عن التذكرة أنه نفى البأس عن قول ابن إدريس ؛ وقال في المسالك :

وهو حسن مع قيام القرينة على إرادته لفريقه ، ومع اشتباه الحال فالحكم العموم لعموم اللفظ كالمسلمين. انتهى.

وإنما خص الأصحاب الجارودية من فرق الزيدية بالذكر ، لأنهم هم القائلون بإمامة علي عليه‌السلام بعده (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأما غيرهم من الصالحية والسليمانية والتبرية فإنهم يقولون بإمامة الشيخين ، وان اختلفوا في غيرهما ، والجارودية نسبة إلى أبى الجارود زياد بن المنذر ، والله العالم.

ومنها الوقف على الإمامية ، والظاهر أنه لا خلاف في أن المراد بهم الاثني عشرية القائلون بإمامة الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) ، وفي الدروس صرح باشتراط اعتقاد عصمتهم ، بناء على أنه لازم المذهب.

قال في المسالك : وفي اشتراطه نظر وان كان أولى ، قال : ويلزمه اشتراط اعتقاد أفضليتهم على غيرهم ، وغيره من معتقدات الشيعة المجمع عليها عندهم ، والفتاوى خالية عنه ، والظاهر يشهد بخلافه ، انتهى.

أقول : لا يظهر لي وجه في هذا الخلاف ولا أثر يترتب عليه ، فإنه لا ريب أن القول بإمامة الإمام عليه‌السلام مستلزم للقول بما يستتبع ذلك من عصمته وأفضليته ونحوهما ، إذ المراد من الإمامية هو من قال بإمامتهم واعتقدها مع جميع ما يتبعها ، فتصريح الدروس باشتراط اعتقاد عصمتهم دون غيرها لا وجه له ، لأن هذا حاصل من غير اشتراط ، والتخصيص بالعصمة دون غيرها لا يظهر له وجه ، ونزاعه


له في المسالك جيد إلا أن قوله «وان كان أولى» لا أعرف له وجها وجيها.

وبالجملة فالحق أن هذه الأشياء كلها لازمة للقول بالإمامة ، فاشتراطها لا يزيد على أصل حصولها ، وتخصيص بعضها دون بعض ترجيح من غير مرجح ، مع ما عرفت من أنه لا معنى لهذا الاشتراط بالكلية.

ويظهر من الدروس أيضا أن الخلاف في اشتراط اجتناب الكبائر آت هنا ورده في المسالك بأنه ليس كذلك ، قال : والفرق يظهر من دليل القائل باشتراطه ، فان مفهوم الإمامية لا مدخل له في العمل مطلقا ، بخلاف المؤمنين ، انتهى وهو جيد.

ومنها الوقف على الزيدية فمن وقف عليهم كان ذلك للقائلين بإمامة زيد بن علي بن الحسين عليهما‌السلام فإنهم يجعلون الإمامة بعده لكل من خرج بالسيف من ولد فاطمة عليها‌السلام من ذوي الرأي والعلم والصلاح ، ولا فرق بين أن يكون الواقف منهم ، أو من غيرهم هذا هو المشهور ، وبه قال الشيخان والأكثر.

وقال ابن إدريس : هذا الإطلاق غير جيد ، بل إذا كان الواقف زيديا ، وان كان الواقف إماميا لم يصح الوقف ، بناء على أن وقف المحق على غيره باطل قال في المسالك بعد نقل ذلك عنه : وهو باطل.

أقول : وقد تقدم الكلام في ذلك في هذه المسئلة في صورة ما لو وقف على المسلمين ، وقد بينا ثمة قوة ما ذهب اليه ابن إدريس ، ومرجعه إلى أنه يحكم بكفر هؤلاء ، وهم يقولون بإسلامهم ، وهو يشترط القربة في الوقف ، وهي هنا متعذرة ، وهم لا يشترطونها ، فيكون قول ابن إدريس جيدا على أصوله ، وهو الحق في كل من الحكمين كما سلف بيانه ، والله العالم.

ومنها الوقف على الجيران وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الجوار ، فقيل أنه يرجع إلى العرف ، وهو اختيار العلامة في المختلف ، قال : والمعتمد العرف ، لأن ألفاظ الشرع يحمل عليه في غير الحقيقة الشرعية ، ونحوه في


المسالك ، قال : ووجهه واضح حيث لا يكون للفظه حقيقة شرعية

وقيل : لمن يلي داره إلى أربعين ذراعا ، وبه قال الشيخان وأبو الصلاح وسلار وابن البراج وابن إدريس وابن زهرة وابن حمزة والقطب الكيدري ، قال في الشرائع : وهو حسن ، وبه قال الشهيد ، وإليه مال العلامة في التحرير.

قال في المسالك : ولم نقف لهم على مستند خصوصا لمثل ابن إدريس الذي لا يعول في مثل ذلك على الأخبار الصحيحة ونحوها ، والعرف لا يدل عليه ، فكيف فيما لا مستند له ، ولعله عول على ما تخيله من الإجماع عليه ، كما اتفق له ذلك مرارا.

وقيل : إلى أربعين دارا من كل جانب ، قال في الشرائع وهو مطرح ، وفي المسالك : لم أعلم قائله ، وجماعة من باحثى مسائل الخلاف كالإمام فخر الدين في الشرح والمقداد في التنقيح والشيخ علي ، أسندوا دليله إلى رواية العامة عن عائشة (1) «عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سئل عن حد الجوار؟ فقال : أربعين دارا.

أقول : والعجب كل العجب منهم (رضوان الله عليهم) في هذه المسئلة حيث اختلفوا فيها كما عرفت ، وقالوا ما قالوا ، مع أنه قد روى ثقة الإسلام في الكافي هنا روايات تدل على القول الثالث الذي حكم المحقق في الشرائع بإطراحه ، وجملة منهم كما عرفت إنما استندوا فيه إلى الرواية العامة ، مع ان الكتاب المذكور في أيديهم ، عاكفون على درسه وشرحه ومطالعته ، فمن الأخبار المشار إليها ما رواه في الحسن عن معاوية بن عمار عن عمرو بن عكرمة (2) وهو مجهول عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كل أربعين دارا جيران من بين يديه ، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله.

__________________

(1) الجامع الصغير ج 1 ص 147.

(2) الكافي ج 2 ص 669 ح 1 ، الوسائل ج 8 ص 491 ح 2 الباب 90.


وعن جميل بن دراج (1) في الصحيح أو الحسن عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «حد الجوار أربعون دارا من كل جانب من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله».

وعن عمرو بن عكرمة (2) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أتاه رجل من الأنصار فقال : انى اشتريت دارا في بني فلان وان أقرب جيراني مني جوارا من لا أرجو خيره ، ولا آمن شره قال :

فأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا وسلمان وأبا ذر ونسيت آخر وأظنه قال : والمقداد أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنه لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه فنادوا بها ثلاثا ، ثم أومي بيده الى كل أربعين دارا بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله».

وهذه الأخبار كما ترى واضحة الدلالة في القول المذكور ، وبه يظهر أنه هو المختار المنصور ، وأن ما عداه بمحل من القصور ، ولم أعثر على من تنبه لهذه الروايات وذكرها في هذا المقام منهم سوى شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، والعجب قوله بعد ذكرها ولولا شذوذ القول به بين أصحابنا لكان القول به حسنا لكثرة رواياته من الطرفين ، وكثيرا ما يثبت الأصحاب قولا بدون هذا المستند ، والعامة عاملون برواياتهم في ذلك ، انتهى.

فان فيه أن الواجب على الفقيه والمأمور به من الله سبحانه ورسوله وأوصيائه هو القول بالدليل الوارد عنهم عليهم‌السلام والنهي عن القول بغير دليل ، فضلا عن مخالفة الدليل الوارد ، ومن الظاهر أن هذا الاختلاف في هذه المسئلة إنما نشأ من حيث عدم الوقوف على هذه الأخبار ، والا فمع الوقوف عليها والعدول عنها الى ما لا دليل عليه بالكلية أمر لا تجوز نسبتهم إليه ، لأنه موجب لحملهم على مخالفة الله سبحانه ورسوله تعمدا من دليل ، وأي طعن أعظم منه ، على أنه قد صرح هو

__________________

(1) الكافي ج 2 ص 669 ح 2 ، الوسائل ج 8 ص 491 ح 1 الباب 90.

(2) الكافي ج 2 ص 666 ذيل الحديث 1 ، الوسائل ج 8 ص 487 ح 1.


نفسه بنحو ما قلناه من وجوب عمل الفقيه بما قام له الدليل عليه ، وان ادعى الإجماع على خلافه في مسئلة ما لو أوصى له بأبيه فقبل الوصية ، حيث قال ما صورته : والأقوى ما اختاره المصنف ، ولا يقدح دعواه الإجماع في فتوى العلامة ، لأن الحق أن الإجماع عند أصحابنا انما يكون حجة مع تحقق دخول المعصوم في جملة قولهم ، فان حجيته انما هي باعتبار قوله عندهم ، ودخول قوله في قولهم في مثل هذه المسئلة النظرية غير معلوم ، وقد نبه المصنف في أوائل المعتبر على ذلك ، ثم نقل عبارته الى أن قال : وهذا الإنصاف عين الحق ، فإن إدخال قول شخص غائب لا يعرف قوله في قول جماعة معروفين بمجرد اتفاقهم على ذلك القول بدون العلم بموافقته لهم ، تحكم بارد ، وبهذا يظهر جواز مخالفه الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا فيها الإجماع إذا قام عنده الدليل على ما يقتضي خلافهم ، وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ، لكن زلة المتقدم متسامحة عند الناس دون المتأخر ، انتهى وهو جيد نفيس.

ومنه يعلم أيضا ان ما يقول به هو وغيره من هذه الإجماعات المتناقلة في كلامهم والجارية على رؤس أقلامهم مما لا اعتماد عليها ولا التفات إليها ، كما حققه أيضا في رسالته التي في وجوب صلاة الجمعة ، وحققناه بما لا مزيد عليه في باب صلاة الجمعة من كتاب الصلاة (1).

بقي في المقام فوائد ينبغي التنبيه عليها الأولى ـ أنه على تقدير القول المختار من اعتبار الجوار بعدد الدور من الجوانب الأربعة ، فالظاهر أنه لا فرق في ذلك بين الدار الصغيرة والكبيرة ، ولا بين قرب المسافة بين الدور وبعدها ، عملا بالإطلاق وحصول مسمى العدد ، ويحتمل اعتبار قرب المسافة نظرا إلى العادة والعرف في البلدان ، وأن دورها في الغالب متصلة بعضها ببعض ، أو يكون بينها مسافة يسيرة ولعله الأقرب ، وهل يصدق هذا الحكم في سكان البادية؟ ظاهره في المسالك ذلك

__________________

(1) ج 9 ص 361 الى ص 376.


حيث قال : ولو كان في أهل البادية اعتبر من ينزل حوله ، ويسمى جاره عرفا أو مساحة أو عددا بالنسبة إلى البيوت المخصوصة ، انتهى.

وفيه اشكال بناء على القول المختار ، وأما على القولين الآخرين فيمكن ذلك وان كان لا يخلو من بعد ، ووجه الأشكال أن مورد النصوص تفسير الجوار بالدور والعدد المخصوص منها ، ومن المحتمل قريبا أن استمرار السكنى مما له مدخل في ذلك ، بخلاف البادية التي ينتقل ويتحول من مكان الى آخر.

الثانية ـ الظاهر أنه لا فرق في صدق الجوار بين أن يكون الدار ملكا للساكن أو إجارة أو عارية ، وفي التحرير توقف في استحقاق المستأجر والمستعير وربما قيل : باحتمال التخصيص بالمملوكة ، وعلى هذا فان كان مستعارا أو مستأجرا لم يستحق أحد منهما من الوقف شيئا.

أما المالك فلعدم حصول الجوار بالنسبة اليه ، وأما الساكن فلعدم كونه مالكا ، وعلى ما استظهرناه فهل يكون الغاصب كذلك؟ اشكال من صدق الجوار عرفا ، ومن أنه عدوان فلا يترتب عليه أثر ، وتنظر فيه في المسالك ، قال : لعدم المنافاة ، ورجح في التحرير العدم.

الثالثة ـ لو باع الدار التي يسكنها زال حقه من الجوار ، وانتقل إلى المشتري ان سكنها ، ولو عاد إليها عاد إليه الحق ، وكذا المستأجر بعد انقضاء المدة يعود إلى كل منهما الحق متى حصل السكنى.

الرابعة ـ لو غاب عن الدار بسفر مع ارادة الرجوع فأطلق بعضهم أنه لا يخرج بذلك عن الاستحقاق ، والأقرب التفصيل بأنه ان كانت الغيبة بعد السكنى وله فيها أهل وعيال ، وأسباب ، وإنما سافر لأمر من الأمور التي جرت العادة بالسفر لها ، فلا ريب في صحة ما ذكروه من أنه لا يخرج عن الاستحقاق ، سواء كان الوقف متقدما على سفره أم وقع في حال غيبته ، وان كانت غيبته عن الدار وليس له فيها أهل ولا أسباب بالكلية ، فما ذكروه محل اشكال ، لعدم صدق


السكنى على هذه الحال على حال الغيبة ، والفرق بين الصورتين أنه باعتبار أنه في الدار من الأهل والعيال والأسباب في الصورة الأولى في حكم الساكن ، بل هو ساكن ، وان كان غائبا بنية الرجوع ، بخلاف الثانية.

الخامسة ـ قالوا : لو كان له داران يتردد إليهما في السكنى فهو جار لأهلهما فيستحق بسببهما معا لصدق الاسم مع وجود القدر المعتبر عند معتبرة ، ولو كان يسكنهما على التناوب أو بحسب الفصول استحق زمن السكنى.

أقول : وفي تخصيص الاستحقاق بزمن السكنى في الصورة الأخيرة تأييد لما قدمنا ذكره في الغائب عن داره ، وليس له فيها عيال ولا مال ولا أسباب وان كان بنية الرجوع ، فإنه لا يستحق زمن الغيبة شيئا.

السادسة ـ ان قلنا ببناء الجوار على العرف كما هو أحد الأقوال المتقدمة ، وجب قسمة الموقوف على رؤس الجيران مطلقا ، وكذا ان قلنا بالأذرع ، ويستوي فيه الصغير والكبير والذكر والاثني ، وان قلنا بالبناء على عدد الدور ، والظاهر قسمته على عددها صغيرة كانت أو كبيرة ثم يقسم رصد كل دار على عدد أهلها ، وقيل : بأنه يقسم من أول الأمر على عدد أهل الدور ، والله العالم.

ومنها ما لو وقف على قومه ، قال الشيخان : يكون على جماعة أهل لغلته من الذكور دون الإناث ، وتبعهما ابن البراج وابن حمزة ، وقال أبو الصلاح : يعمل بالمعلوم من قصده ، فان لم يعرف ما قصده عمل بعرف قومه في ذلك الإطلاق ، وقال سلار : يكون لجماعة أهل لغته ولم يخص الذكور بالذكر.

وقال ابن إدريس : الذي يقتضيه أصول المذهب وتشهد بصحته الأدلة الظاهرة أنه يكون مصروفا إلى الرجال من قبيلته ممن ينطلق العرف بأنهم أهله وعشيرته ، دون من سواهم ، هذا الذي يشهد به اللغة وعرف العادة وفحوى الخطاب ، قال الشاعر :

«قومي هم قتلوا أميم أخي
 

 

فإذا رميت يصيبني سهمي»
 

قال : وإنما قلنا انه يختص بالذكر لقوله تعالى «لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ. وَلا نِساءٌ


مِنْ نِساءٍ» (1) وقول زهير : «فما أدرى وسوف أخال أدري أقوم أهل حصن أم نساء» قال : وأما الرواية التي وردت بأن ذلك على جميع أهل لغته فهي خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا من غير دليل يعضدها من إجماع أو كتاب أو سنة أو دليل أصل ، فإذا عدم جميع ذلك وورد خطاب مطلق حمل على العرف ، والعرف ما اخترناه.

وقال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك عنه ، والجواب المنع من ذلك ، فان الشيخين أعرف باللغة ، ومقاصد العرب ، والمرجع في ذلك إليهم ، انتهى.

أقول : الظاهر أن الأقرب من هذه الأقوال هو ما ذهب إليه ابن إدريس (رحمه‌الله عليه) لشهادة ما استند إليه من البيت بذلك ، فإنه ظاهر فيما ادعاه من أن المراد بقومه هم الأهل والعشيرة ، وجواب العلامة له بما ذكره مجرد تحامل عليه ، كما هو عادته غالبا ، وأما ما يشير إليه كلام ابن إدريس من ورود رواية بتفسير القول بما ذكره الشيخان وأتباعهما فلم تصل إلينا ، ولا نقلها غيره ولو ثبتت لما كان عنها معدل ، وكلام ابن إدريس هنا في المنع من العمل بها على قاعدته غير مسموع ولا موجه ، ومن المحتمل قريبا ان ابن إدريس ظن أن الشيخين إنما ذكرا ذلك لرواية وصلت إليهما ، فطعن فيها بما ذكره ، ومثل ذلك كثير في كلامه مع الشيخ من نسبة كلام الشيخ إلى أخبار الآحاد ، مع أنه ليس ثمة خبر.

ومنها ما لو وقف على عشيرته ، فقال الشيخان : إنه على الخاص من قومه الذين هم أقرب إليه في نسبه ، وبه قال سلار وابن البراج وابن إدريس ، وقال : أبو الصلاح بعمل بالمعلوم من قصده ، فان لم يعرف عمل بعرف قومه في ذلك الإطلاق ، قال : وروى أنه إذا وقف على عشيرته كان على الخاص من قومه الذين هم أقرب الناس إليه في نسبه ، مع أنه قال عقيب ذلك : إذا وقف على قومه كان ذلك على جميع أهل لغته من الذكور دون الإناث.

__________________

(1) سورة الحجرات ـ الاية 11.


أقول : ما ذكره هنا من الرواية أيضا فإنا لم نقف عليها ولم تصل إلينا ، ومن المحتمل قريبا ان هذه الرواية وكذا المذكورة في سابق هذا الموضع إنما هي من روايات العامة ، فإن أصحابنا كثيرا ما يستسلفون رواياتهم في أمثال هذه المقامات سيما مع عدم ورود نص من طرقهم ، والله العالم.

المسئلة الخامسة : إذا قال : وقفت على أولادي ثم على الفقراء ، فإن أضاف إلى ذلك ما يدل على الاختصاص بأولاد الصلب كقوله أولادي لصلبي ونحوه أو ما يدل على العموم لكل من تناسل منه ، بان يقول : على أولادي والحال أنه لا ولد له لصلبه ، أو يقول : إلا ولد البنات ، أو إلا ولد فلان ، أو قال : يفضل البطن الأعلى على التالي أو نحو ذلك ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في التخصيص في الأول ، والعموم في الثاني ، إنما الخلاف فيما لو أطلق ، فالمشهور بين المتأخرين هو الاختصاص بأولاد الصلب ، وهو قول الشيخ في المبسوط وابن الجنيد ، لأنهم الأولاد ، إذ هم المتولدون من نطفته ، وإطلاقه على أولاد الأولاد مجاز ، والمشهور بين المتقدمين العموم لكل من تناسل منه ذكورا وإناثا حقيقة ، وهو قول الشيخ المفيد وابن البراج وأبو الصلاح وابن إدريس وغيرهم.

وقال الشيخ المفيد في المقنعة : وإذا وقف الإنسان ملكا على ولده ولم يخص بعضا من بعض بالذكر والتعيين كان لولده الذكور والإناث وولد ولدهم ، وقال ابن إدريس في السرائر : وإذا وقف على أولاده فحسب ، ولم يقل لصلبه دخل فيهم أولاد أولاده ، ولد البنين والبنات ، بدليل إجماع أصحابنا ، ولان اسم الولد يقع عليه لغة وشرعا ، وقد أجمع المسلمون على أن عيسى عليه‌السلام ولد آدم ، وهو ولد ابنته ، وقال النبي (1) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الحسن والحسين عليهما‌السلام «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا».

ولا خلاف بين المسلمين في أن الإنسان لا يحل له نكاح بنت

__________________

(1) البحار ج 43 ص 278.


بنته ، مع قوله تعالى (1) «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ» وبنت البنت بنت بغير خلاف ، فاما استشهاد المخالف على خلاف ما ذكرناه بقول الشاعر :

بنونا بنوا أبنائنا ، وبناتنا
 

 

بنوهن أبناء الرجال الأباعد
 

فإنه مخالف لقول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقول الأمة والمعقول فوجب رده ولا يقضى بهذا البيت من الشعر على القرآن والإجماع ، إلى آخر كلامه زيد في إكرامه.

والعجب من أصحابنا المتأخرين حيث خصوا الخلاف في كون المتولد من البنت ابنا حقيقة أم لا؟ بالمرتضى (رضى الله عنه) وكلام هؤلاء المذكورين مما نقل هنا وما لم ينقل صريح في أنه ابن حقيقة ، ونحو ذلك كلام الشيخ في الخلاف في هذا الكتاب ، فإنه قال : إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده دخل أولاد البنات فيه ، ويشتركون فيه مع أولاد البنين الذكر والأنثى فيه سواء ، ثم نقل أقوال العامة واختلافهم إلى أن قال : دليلنا إجماع المسلمين على أن عيسى بن مريم من ولد آدم ، وهو ولد ابنته ، لأنه ولد من غير أب ، وأيضا دعاء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الحسن ابنا وهو ابن بنته (2) ، فقال : لا تزرموا على ابني أو لا تقطعوا عليه بوله ، وكان قد بال في حجره فهموا بأخذه ، فقال : ذلك». فاما استشهادهم بقول الشاعر بنونا ثم ذكر البيت ثم قال فإنه مخالف لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وإجماع الأمة والمعقول ، فوجب رده ، على أنه إنما أراد بذلك الشاعر الانتساب ، لأن أولاد البنت لا ينسبون إلى أمهم وإنما ينسبون إلى أبيهم ، وكلامنا في غير الانتساب ، انتهى وهو الحق الحقيق بالاتباع ، وقد حققنا المسئلة بما لا مزيد عليه ، ولا سبق سابق ولا لحق لا حق من علمائنا إليه في كتاب الخمس (3) ، والله العالم.

__________________

(1) سورة النساء ـ الاية 23.

(2) معاني الأخبار ص 211 ط إيران سنة 1379.

(3) ج 12 ص 390 الى 416.


المسئلة السادسة : المشهور أنه لو وقف على مصلحة فبطل رسمها ، فإنه يصرف في وجوه البر ذكره الشيخ ، وتبعه الجماعة من غير نقل خلاف ، ويظهر من المحقق في النافع التوقف في ذلك ، حيث أنه نسب الحكم بذلك الى قول ، مؤذنا بالتردد فيه ، وعلل القول المشهور بأن الملك خرج عن ملك الواقف بالوقف الصحيح أولا ، فلا يعود اليه ، والقربة الخاصة قد تعذرت ، فإنه يصرف الى غيرها من القرب ، لاشتراك الجميع في أصل القربة ، ولأنه أقرب شي‌ء إلى مراد الواقف ، ولا أولوية لما أشبه تلك المصلحة التي بطل رسمها ، لاستواء القرب في عدم تناول عقد الوقف لها ، وعدم قصد الواقف لها بخصوصها ، ومجرد المشابهة لا دخل له في تعلقه بها ، فيبطل القيد ، ويبقى أصل الوقف من حيث القربة.

واعترضه في المسالك قال : وفيه نظر ، فإنه لا يلزم من قصد القربة الخاصة وارادتها قصد القربة المطلقة ، فإن خصوصيات العبادات مقصودة ، ولا تلزم ارادة بعضها من ارادة بعض ، انتهى.

وعلل ما ذهب اليه المحقق في النافع بأنه حيث لا دليل على القول المذكور فالأصل بقاء الملك ، خرج عنه ما نص الواقف عليه ، فمع تعذره يرجع الوقف اليه مع وجوده ، ومع فقده الى ورثته ، كذا ذكره ابن فهد في شرحه على الكتاب.

أقول : لا يخفى أن المسئلة المذكورة وان كانت غير منصوصة على الخصوص ، الا أن لها نظائر في الشرع عديدة قد ورد الحكم فيها بما ذكره الأصحاب ، ويرجع الجميع إلى أنه مع تعذر ما عينه المالك من وصية أو نذر أو نحو ذلك ، مما يجب إنفاذه شرعا ، فإنه مع تعذر المصرف المخصوص يصرف في وجوه البر ، ولا يرجع الى الورثة ، وان خالف فيه بعض الأصحاب كما هنا ، فأوجب رده الى الورثة مع تعذر المصرف ، الا أنه محجوج بالأخبار الدالة على ما ذكرناه ، فمن ذلك ما لو أوصى بأبواب عديدة من الوصايا فنسي بابا أو أبوابا ، فإنه يصرف في وجوه


البر كما رواه المشايخ الثلاثة عن محمد بن الريان (1) «أنه كتب الى أبى الحسن محمد بن علي عليهما‌السلام يسأله عن إنسان أوصى بوصية ، فلم يحفظ الوصي إلا بابا واحدا منها كيف يصنع في الباقي؟ فوقع عليه‌السلام الأبواب الباقية يجعلها في البر».

وذهب ابن إدريس هنا والشيخ في المسائل الحائريات إلى أنه يرجع ميراثا حيث أن الوصية بطلت ، لامتناع القيام بها ، والنص كما ترى بخلافه ، ومن ذلك ما رووه (عطر الله تعالى مراقدهم) عن علي بن يزيد صاحب السابري (2) عن أبى عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل يتضمن أنه أوصى رجل بتركته إلى على المذكور ، وأمره أن يحج بها عنه ، قال : «فنظرت فإذا هو شي‌ء يسير لا يكفى للحج ، فسألت الفقهاء من أهل الكوفة فقالوا : تصدق بها عنه ، فتصدق به ثم لقي بعد ذلك أبا عبد الله عليه‌السلام فسأله وأخبره بما فعل ، فقال : ان كان لا يبلغ أن يحج به من مكة فليس عليك ضمان وان كان يبلغ ما يحج به فأنت ضامن». والتقريب فيه أنه قرره على الصدقة إذا لم يبلغ الحج به من مكة ، ولم يحكم بكونه ميراثا.

وفي جملة وافرة من الأخبار (3) ما يدل على أن ما أوصى به بالكعبة أو كان هديا لها أو نذرا فإنه يباع ان كان جارية ونحوها ، وان كان دراهم فإنه يصرف في المنقطعين من زوارها ، معللين عليهم‌السلام ذلك بأن الكعبة لا تأكل ولا تشرب ، فيصرف ذلك الى المحتاجين من زوارها ، وهو مؤيد لذلك.

وقد تقدمت الأخبار المشار إليها في آخر جلد كتاب الحج (4) وهذه الأخبار

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 58 ح 7 ، التهذيب ج 9 ص 214 ح 21 ، الفقيه ج 4 ص 162 الباب 110.

(2) الكافي ج 7 ص 21 ح 1 بعنوان على بن فرقد ، التهذيب ج 9 ص 228 ح 46 بعنوان على بن مزيد.

وهما في الوسائل ج 13 ص 453 ح 1 وص 473 ح 1.

(3) الكافي ج 4 ص 242 ح 2 و 3 ، التهذيب ج 5 ص 440 ح 175 ، الوسائل ج 9 ص 352 الباب 22.

(4) ج 17 ص 360.


وان كان موردها الوصية كما في بعض ، والهدي كما في آخر ، والنذر كما في ثالث ولم يتضمن شي‌ء منها حكم الوقف إلا أنها مما يتبادر منها الى الفهم السليم والذهن القويم كون الوقف كذلك ، فان الجميع مشترك في الخروج عن المالك بما وقع من وقف أو وصية أو نذر أو نحوها ، فعوده اليه عند تعذر المصرف المخصوص يتوقف على الدليل ، ولا دليل ، بقي الأمر في أنه متى لم يرجع اليه فلا بد من مصرف ، وهذه الأخبار قد عينت مصرف ما اشتملت عليه بأنه أبواب البر ، وان كان مخصوصا في بعضها بنوع خاص ، كما في أخبار الكعبة ، فلا بد أن يكون مصرف الوقف كذلك للاشتراك في العلة ، وإلا بقي بغير مصرف وهو باطل إجماعا.

وما ذكره في المسالك في الاعتراض على دليل القول المشهور من أنه لا يلزم من قصده القربة الخاصة وارادتها قصد القربة المطلقة الى آخره ، وارد في هذه الأفراد التي ذكرناها ، مع أن الأخبار قد صرحت بخلافه ، وحينئذ فلا اعتماد عليه ، إذ لو كان صحيحا في حد ذاته لكان كليا في جميع هذه الموارد ، مع أن الأخبار كما دريت على خلافه.

وأما ما ذكره في المسالك على أثر الكلام المتقدم حيث قال : والتحقيق أن المصلحة المذكورة الموقوف عليها لا يخلو من أن يكون مما ينقرض غالبا أو يدوم غالبا أو يشتبه الحال ، والأول كما لو وقف على شجر مخصوص كالتين والعنب ، وهذا الوقف يكون كمنقطع الأخر إذ هو بعض أفراده ، فيرجع بعد انقضائه إلى الواقف ، أو ورثته على الخلاف ، حيث لا يجعله بعده لمصلحة أخرى تقتضي التأبيد.

والثاني كالوقف على مصلحة عين من ماء مخصوص ونحوه مما تقضى العادة بدوامه ، فيتفق عوزه أو على قنطرة على نهر يتفق انقطاعها ، وانتقاله عن ذلك المكان حيث لا تكون العادة قاضية بذلك ، والمتجه فيه ما ذكره الأصحاب لخروج الملك عن الواقف بالوقف ، فعوده يحتاج الى دليل ، وهو منتف ، وصرفه في وجوه البر أنسب بمراعاة غرضه الأصلي ان لم يجز صرفه فيما هو أعم منه.


والثالث كالوقف على مسجد في قرية صغيرة أو على مدرسة كذلك بحيث يحتمل انقطاع مصلحته كما يحتمل دوامها ، وفي حملها على أي الجهتين نظر ، من أصالة البقاء فيكون كالمؤبد ، والشك في حصول شرط انتقال الملك عن مالكه مطلقا الذي هو التأبيد ، فيحصل الشك في المشروط ، فلا نحكم إلا بالمتيقن منه ، وهو خروجه عن ملكه مدة تلك المصلحة ، ويبقى الباقي على أصلية البقاء على ملك مالكه ، انتهى.

ففيه أنه لا يخفى على المتأمل في هذا الباب أن أصل هذا الحكم لا نص عليه ، ولا دليل في الوقف على المصالح ، بل هو بمقتضى قواعدهم باطل غير صحيح ، لما تقدم أن من جملة شروط الموقوف عليه عندهم أن يكون موجودا له أهلية التملك والحكم بصحة الوقف على هذه الكيفية إنما استندوا فيه الى ان الوقف هنا في الحقيقة وقف على المسلمين ، وان كان باعتبار مصلحة خاصة ، وحينئذ فإذا كان الموقوف عليه انما هو المسلمون ، فإنه لا يلزم من بطلان تلك المصلحة بطلان الوقف ، بل يجري في غيرها من مصالحهم بأي نحو كانت تلك المصلحة الموقوف عليها أولا من الأنحاء التي ذكرها.

بقي الكلام في أنه هل يتعين الأقرب فالأقرب إلى تلك المصلحة أم لا؟ وجهان أحوطهما الأول ، هذا وعندي في أصل الحكم أعنى الوقف على المصالح اشكال ، حيث لم أقف على خبر دال على شي‌ء من أفراد هذا النوع ، فضلا عن أن يدل عليه بأمر كلي ، وغاية ما يتعلقون به ويدور في كلامهم الوقف على المساجد ، وقد عرفت أن ظاهر الصدوق المنع منه ، للخبرين المتقدمين ، وظاهر الخبرين المذكورين ذلك أيضا ، وبذلك يظهر أن تعميم الكلام في المصلحة المذكورة إلى شمول مثل شجر العنب والتين وعين الماء كما تقدم في كلام شيخنا المشار اليه مشكل ، والله العالم.

بقي فيما يتعلق بهذا المطلب أمور يجب التنبيه عليها ، أحدها : لو وقف على


بنى تميم أو بنى هاشم ، فالمشهور الصحة ، ويصرف إلى من يوجد منهم ، وقال ابن حمزة : لا يصح الوقف على بنى فلان ، وهم غير محصورين ، وما ذهب اليه ابن حمزة هو قول الشافعي ، معللا بالجهل في المصرف ، حيث انه متعذر استيعابهم وحصرهم وفي التذكرة أسند القول بالصحة إلى علمائنا ، مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، ورد ما ذكره ابن حمزة والشافعي بالأخبار والإجماع الدالين على صحة الوقف على الفقراء والمساكين والمؤمنين مع انتشارهم وعدم حصرهم.

أقول : ويدل عليه ما رواه في الكافي عن على بن محمد بن سليمان النوفلي (1) قال : «كتبت الى أبى جعفر الثاني عليه‌السلام أسأله عن أرض وقفها جدي على المحتاجين من ولد فلان ابن فلان ، وهم كثير متفرقون في البلاد ، فأجاب : ذكرت الأرض التي وقفها جدك على فقراء ولد فلان بن فلان وهي لمن حصر البلد الذي فيه الوقف وليس لك أن تتبع من كان غائبا».

ورواه الشيخ مثله ، (2) إلا أنه قال : من ولد فلان بن فلان الرجل يجمع القبيلة ، وهم كثير متفرقون في البلاد وفي ولد الواقف حاجة شديدة فسألوني أن أخصهم بهذا دون سائر ولد الرجل الذي يجمع القبيلة ، فأجاب عليه‌السلام كما تقدم.

وثانيها المشهور بينهم جواز الوقف على الذمي ، لأن الوقف تمليك فهو كإباحة المنفعة وقيل : لا يصح ، لأنه تشترط فيه نية القربة.

أقول : مرجع هذا الخلاف الى ما تقدم في الوقف على الكافر ، فان اشترط التقرب في الوقف بطل هذا الوقف ، وإلا فلا ، وقد مر تحقيق الكلام في هذا المقام.

وثالثها ـ المشهور أنه لو وقف ولم يذكر المصرف بطل الوقف ، لأن الوقف تمليك فلا بد من ذكر المالك ، كالبيع والهبة ونحوهما ، فلو قال : بعت داري

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 38 ح 37.

(2) التهذيب ج 9 ص 133 ح 10 ، الوسائل ج 13 ص 308 ح 1.


بكذا أو وهبتها ولم يذكر المشتري ولا الموهوب بطل إجماعا.

أقول : ويؤيده ما تقدم ذكره من أن الوقف من العقود الناقلة للملك ، فلا بد فيه من دليل يدل على ما يحصل به النقل ، والعقد بهذه الكيفية لم يقم دليل على كونه ناقلا ، وبالجملة بقاء الملك حتى يقوم دليل شرعي على نقله أقوى دليل في المقام.

ونقل عن ابن الجنيد الصحة ، قال : ولو قال : صدقة لله ولم يذكر من تصدق بها عليه جاز ذلك ، وكان ذلك في أهل الصدقات الذين سماهم الله لأن الغرض من الوقف الصدقة والقربة ، وهو متحقق ، وأورد عليه بأن الغرض من الوقف ليس مطلق القربة بل القربة المخصوصة ، أقول : والأظهر في رده هو ما قدمنا ذكره.

ورابعها ـ المشهور أنه إذا وقف على أولاده أو اخوته أو ذوي قرابته ولم يفضل بعضا على بعض ، فان مقتضى الإطلاق الاشتراك والتساوي بين الذكور والإناث ، والأقرب والأبعد ، والوجه في ذلك هو أن كل من تناوله أحد هذه الألفاظ ونحوها دخل في الحكم المذكور ، والاشتراك يقتضي التسوية ، وبعض هذه الألفاظ وان كان مخصوصا بالذكور كالأخوة مثلا إلا أنه لا خلاف في دخول الإناث تبعا ، كما في سائر الأحكام الشرعية التي مورد الاخبار فيها الذكور ، الا مع قيام دليل على التخصيص ، ونقل عن ابن الجنيد هنا أنه مع الإطلاق يكون للذكر مثل حظ الأنثيين ، حملا على الميراث ، وكذا لو قال : لورثتي وفيه أنه قياس مع الفارق.

المطلب السادس في اللواحق :

وفيه مسائل الأولى ـ اختلف الأصحاب (رحمهم‌الله) في أن الوقف هل ينتقل عن ملك الواقف أم لا؟ وعلى الأول فهل ينتقل إلى الموقوف عليه أم إلى الله تعالى؟ أم يفصل في ذلك بين ما كان الوقف لمصلحة أو جهة عامة؟ فإنه ينتقل الى الله عزوجل ، وما كان الموقوف عليه ممن يصح تملكه ، فإنه ينتقل إليه ، فالكلام هنا يقع في مقامين الأول ـ أنه هل ينتقل الموقوف بالوقف عن ملك الواقف أم لا؟ المشهور الأول ، ونقل عن ظاهر أبى الصلاح وأسنده في المسالك


أيضا إلى اختيار جمع من العامة أنه يبقى على ملك الواقف ، احتج الأولون بأن الواقف يزيل التصرف في العين والمنفعة ، فيزيل الملك كالعتق ، ولأنه لو كان باقيا على ملكه لرجعت إليه قيمته.

احتج الآخرون بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (1) «حبس الأصل وسبل الثمرة». وسيأتي أن التحبيس على الآدمي لا يخرج عن الملك ، ولجواز إدخال من يريد مع صغر الأولاد ، ولو انتقل لم يجز ذلك ودليل الصغرى قد تقدم ، والكبرى ظاهرة ، وأجيب عن الأول بأن المراد بتحبيس الأصل أن يكون محبوسا على ملك الموقوف عليه ، وما في معناه لا يباع ولا يوهب ولا يورث ، والملك إنما زال على هذا الحد من الشرائط ومطلق الحبس لا يدل على عدم الخروج ، فان منه ما يخرج عن الملك ، مع أن هذا الحبس ليس هو ذلك ، لأنه قسيمه ، فلا يكون قسما منه ، بل هذا حبس أقوى.

وعن الثاني بأن إدخال من يريد من أولاده ان سلم ، فبدليل من خارج.

أقول : لا يخفى على من لاحظ الأخبار المتقدمة سيما أخبار صدقاتهم (2) عليهم‌السلام ووقوفهم أنه لا يرتاب في دلالتها على خروج الوقف عن ملك الواقف ، وصيرورته كالأجنبي خصوصا ما دل على نصب القيم بذلك الوقف ، وان مورد الصدقة فيها التي هي عبارة عن الوقف كما عرفت هو العين بأن قصد المتصدق بها ابتغاء وجه الله سبحانه ، بمعنى أنه أخرج هذه العين عن ملكه الى ملك أولئك الموقوف عليهم ابتغاء وجه الله ، ويؤكده قوله (3) عليه‌السلام في بعضها صدقة بتلا بتا. أي منقطعة عن صاحبها الأول ، ومبانة عنه ، فان البتل لغة القطع ، والبت أيضا بمعناه ، وفي حديث صدقة الكاظم (4) عليه‌السلام وفي حديث صدقة أمير المؤمنين عليه‌السلام بأمواله هذه

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 511 الباب 2 ح 1.

(2) الكافي ج 7 ص 47 باب صدقات النبي (ص) وفاطمة والأئمة (عليهم‌السلام) ووصاياهم. الوسائل ج 13 ص 311 الباب 10.

(3 و 4) الكافي ج 7 ص 54 ذيل ح 8 وص 49 ح 7 ، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 311 الباب 10.


صدقة واجبة بتلة حيا أنا أو ميتا ينفق في كل نفقة يبتغى بها وجه الله الى آخره ، وبتلة منقطة عن صاحبها.

وفي صحيح محمد بن مسلم والحلبي (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قالا سألناه عن صدقة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وصدقة فاطمة عليها‌السلام قال : صدقتها لبني هاشم وبنى المطلب». واللام للملك ، ونحوه رواية أبي مريم ، وبالجملة فالظاهر أنه لا خلاف في ضعف القول المذكور ، والله العالم.

الثاني ـ أنه على تقدير الانتقال هل ينتقل الى الموقوف عليه أم الى الله سبحانه ، أم التفصيل؟ أقوال : أشهرها الأول ـ قال الشيخ في المبسوط : إذا وقف وقبض زال ملكه عنه على الصحيح ، وملكه الموقوف عليه ، واختاره ابن إدريس وغيره ، ونقل ابن إدريس عن بعضهم أنه ينتقل الى الله ، وحكاه الشيخ في المبسوط عن قوم ، والقول بالتفصيل اختيار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك.

استدل للقول الأول ، بأنه مال لثبوت أحكام المال فيه ولهذا يضمن بالقيمة ، فكان ملكا كأم الولد ، وبهذا النحو وان كان مجملا استدل المحقق في الشرائع ، وأوضحه في المسالك بأنه مال مملوك لوجود فائدة الملك فيه ، وهي ضمانه بالمثل والقيمة ، وليس الضمان للواقف ولا لغيره ، فيكون للموقوف عليه.

وأورد عليه بأنه ينتقض ذلك ببواري المسجد والأمة ، فإنها تضمن بالقيمة ، وملكها لله تعالى لا للناس.

واحتج القائل بالقول الثاني بأن الوقف ازالة ملك عن العين والمنفعة على وجه القربة ، فانتقل الملك الى الله تعالى كالعتق ، ولأنه ممنوع من بيعها فلو ملكها لكان له سبيل إلى إخراجها عنه ، لأن «الناس مسلطون على أموالهم» (2). وأجاب في المختلف بظهور الفرق بين العتق والوقف ، قال : لأن العتق إخراج عن المالية

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 48 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 294 ح 8.

(2) البحار ج 2 ص 272 ح 7.


بالكلية ، وازالة التسلط عن العبد بالنسبة الى كل أحد والمنع من البيع ، لا يقتضي الخروج عن الملك ، كأم الولد.

وأما القول بالتفصيل فاستدل عليه في المسالك قال : بعد ان اختار القول بالانتقال عن الواقف لكن هذا إنما يتم في الموقوف عليه المعين المنحصر ، أما لو كان على جهة عامة أو مسجد أو نحوه فالأقوى أن الملك فيه لله تعالى لتساوى نسبة كل واحد من المستحقين إليه ، واستحالة ملك كل واحد ، أو واحد معين ، أو غير معين للإجماع ، واستحالة الترجيح ، ولا المجموع من حيث هو مجموع ، لاختصاص الحاضر به ، انتهى.

أقول : لا يخفى على من راجع الاخبار وقطع النظر عن كلامهم فان المستفاد منها أنه متى كان الموقوف عليه موجودا منحصرا فإنه ينتقل الملك إليه ، ولهذا دلت على اشتراط قبضه ، أو قبض وليه ، ليتم بذلك الملك ، ويمتنع الرجوع فيه كما تقدمت الأخبار به ، ومتى كان الموقوف عليه جهة عامة كالفقراء أو مصلحة كالمساجد فإن غاية ما يفهم منها هو أنه بالوقف يخرج من ملك الواقف ، وأما أنه يصير إلى الله سبحانه أو غيره ، فلا دلالة في شي‌ء من الأخبار عليه ، وإنما يدل على أنه بعد الوقف وخروجه عن ملك الواقف يجب إبقاء العين ، ولا يجوز التصرف فيها ببيع ولا هبة ولا ميراث ولا نحو ذلك من الأمور الموجبة لإخراجها عما صارت إليه وصرف حاصلها في تلك الجهة ، أو المصلحة المعينة.

وأما أنه يشترط القبض فيها كما هو المشهور من أن القبض شرط في صحة الوقف مطلقا ، فيجب القبض هنا من القيم الذي ينصبه الواقف ، أو الحاكم الشرعي أو غير ذلك ، فلا دليل عليه في الأخبار ، ومورد القبض فيها إنما هو فيما إذا كان الموقوف عليه موجودا معينا محصورا ، على أن المراد من كونه في هذه الصورة ملكا لله كما صرح به في المسالك إنما هو الكناية عن عدم انتقاله الى أحد من الآدميين.


قال : والمراد بكون الملك لله تعالى انفكاك الموقوف عن ملك الآدميين واختصاصهم ، لا كونه مباحا كغيره مما يملكه الله تعالى ، انتهى وهو يرجع الى ما ذكرناه.

وفي حديث وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام أمواله (1) على جهة الطاعات والقربات وصلة الرحم بعد أن جعل الولي القيم بذلك الحسن ثم الحسين عليهما‌السلام ثم من يختاره الحسين عليه‌السلام ما صورته «وأن يشترط على الذي يجعله إليه ان يجعل المال على أصوله ، وينفق الثمرة حيث يأمره به من سبيل الله ، وذوي الرحم من بنى هاشم وبنى المطلب القريب والبعيد لا يباع منه شي‌ء ، ولا يوهب ، ولا يورث» الحديث ، وليس فيه كما ترى أزيد من أنه بعد الوقف يجب إبقاء أصوله على ما هي ، ولا يتصرف فيها بشي‌ء من هذه التصرفات ونحوها ، ويصرف الحاصل في الوجه الذي عينه ، ولا دلالة فيه على الانتقال لأحد ، وهو ظاهر في الرد على القول المشهور من أنه ينتقل في هذه الصورة إلى الموقوف عليه ، وليس في الخبر أيضا على طوله ما يشعر بأنه أقبضه أحدا ، بل ظاهره أنه مدة حياته عليه‌السلام كان في يده يصرفه في الوجوه المذكورة ، وبعد موته فوض الأمر فيه الى الحسن ثم الى الحسين عليهما‌السلام ثم من ذكره في الخبر ، ولو كان القبض في هذه الصورة شرطا في صحة الوقف لوقعت الإشارة إليه في الخبر ، واحتمال أنه قبضه بالولاية العامة وان أمكن ، إلا أن الظاهر بعده ، إذ هو فرع وجود الدليل على اشتراط القبض في هذه الصورة ونحوها ، وقد عرفت أنه لا دليل على ذلك فيها سوى الصورة المتقدمة.

فروع :

الأول : قال في المختلف : ان قلنا بأن الوقف ينتقل الى الموقوف عليه ثبت بشاهد ويمين ، لأن المقصود منه المال ، وان قلنا انه ينتقل الى الله تعالى لم يثبت

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 49 ح 7 ، الوسائل ج 13 ص 312 ح 4.


بالشاهد واليمين ، كالعبد لو ادعى العتق ويحتمل عندي ثبوته بالشاهد واليمين ، وان لم ينتقل إليه ، لأنه يحلف لتحصيل غلته ومنفعته ، فلما كان المقصود من الوقف المنفعة ، وهي مال يثبت بالشاهد واليمين ، بخلاف حرية العبد ، لان المقصود منها تكميل الأحكام ، انتهى.

أقول : ما ذكره جيد فيما إذا كان الموقوف عليه معينا محصورا ، أما لو كان الموقوف عليه الجهة أو المصلحة كما هو مقتضى القول بالتفصيل الذي شرحناه ، فإشكال لما عرفت من أن غلة الوقف هنا لا مالك لها معينا ، ليقيم الشاهد ، ويحلف معه ، سيما إذا كان الوقف لمسجد ونحوه ، والقيم لا تعلق له بذلك الا من حيث صرف الغلة وحفظ الأصول ونحو ذلك ، ولأنه غير مالك للغلة ، إذ هو غير داخل في الموقوف عليه ، والله العالم.

الثاني : قالوا : لو أعتق العبد الموقوف عليه لم يصح ، لتعلق حق البطون به قيل : في توجيهه لما كان الحكم بانتقال الملك الى الموقوف عليه ربما أوهم جواز تصرفه في العين بالعتق وغيره ، والأمر ليس كذلك ، نبهوا على منعه أيضا ، وعللوا بأنه وان كان مالكا الا أن الحق غير منحصر فيه ، بل مشتركا بينه وبين ما بعده من البطون ، وان لم تكن موجودة بالفعل ، فتصرفه فيه بالعتق يبطل حقهم.

أقول : لا يخفى أن الأخبار قد تكاثرت بأن الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث بعد أنه عقد صيغة الوقف ، والانتقال عن الواقف يجب إبقاؤه على حاله ، لا يتصرف فيه بما يوجب النقل بأي وجه كان ، وهذه الألفاظ إنما خرجت مخرج التمثيل ، والمراد إنما هو ما ذكرناه كما يشير اليه قول أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما تقدم قريبا «وأن يجعل المال على أصوله ، وينفق الثمرة حيث أمره ، الى أن قال : لا يباع منه شي‌ء ولا يوهب ، ولا يورث وفي آخر لاتباع ولا تورث ، ولا توهب ، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

وفي ثالث لاتباع ولا توهب حتى يرثها وارث السموات والأرض.


وفي رابع حتى يرثها الله الذي يرث السموات والأرض» والمراد بجعل المال على أصوله يعني جعله على الوجه الذي عينه الواقف من كونه لا يتصرف فيه بشي‌ء من الوجوه الناقلة ، الى أن يرثه وارث السموات والأرض ، ولا ريب أن العتق تصرف ناقل ، ومخرج عما عينه الواقف ، سواء كان الوقف ـ بعد الموقوف عليه ـ راجعا الى البطون أو أحد الجهات العامة والمصالح ، وبه يظهر ما في العبارة المتقدمة من الحزازة ،

الثالث : لو كان العبد مشتركا بين اثنين بالمناصفة ، فوقف أحدهما نصفه ، ثم أعتق الآخر نصفه فهل يسرى عليه ويعتق أجمع ، أم لا؟ قالوا : يبنى على أن الملك في الوقف هل بقي للواقف ، أم انتقل الى الله تعالى ، أم إلى الموقوف عليه؟ فعلى الأولين لا سراية لأنه على تقدير عدم انتقاله عن الواقف في معنى إعتاقه ، وهو ممتنع أيضا لما يستلزم من إبطال حق الموقوف عليه ، وعلى تقدير انتقاله الى الله تعالى يكون في معنى التحرير الذي لا يقبل التحرير ثانيا.

وأما على تقدير انتقاله الى الموقوف عليه فان الأكثر على عدم السراية أيضا ، قيل : بل كاد أن يكون إجماعا ، وعلل بأن العتق لا ينفذ في الحصة الموقوفة مباشرة ، كما تقدم ، فبالأولى أن لا ينفذ فيها سراية.

وقيل : بالسراية والفرق بين المباشرة والسراية بما هو مذكور في كلامهم ، ولهم في المقام كلام لا فائدة في التعرض لذكره ، فإنه لا يخفى على من لا حظ أخبارهم عليهم‌السلام في المقام ، أن جميع ما أطالوا به من الكلام والنقض والإبرام كله نفخ في غير ضرام لأنها قد صرحت كما تقدم ذكره بأنه بعد عقد الوقف الجامع لشرائط الصحة يجب إبقاء العين الموقوفة ، بمعنى أنه لا يتصرف فيها بنقل ، وانما المتصرف في حاصلها بصرفه على من وقف عليه من بطون أو جهة أو مصلحة ، وأنه يجب إبقاء العين على الوجه المذكور الى أن يرثها الله تعالى وارث السموات والأرض ، وهو


كناية الى التأبيد إلى يوم القيمة ، وهو معنى الخبر النبوي (1) «حبس الأصل وسبل الثمرة». ولا معنى لحبسه إلا عدم التصرف فيه بوجه ناقل عما هو عليه بعد الوقف ، ونحوه قول أمير المؤمنين عليه‌السلام المتقدم ، ويجعل المال على أصوله وينفق الثمرة» وبذلك يظهر لك أن هذا الخلاف والتفريع على ما ذكروه من تلك الأقوال التي قد عرفت خروج أكثرها عن جادة الاعتدال كله تطويل بغير طائل والله العالم.

الرابع : قالوا : مما يتفرع على الخلاف المتقدم نفقة العبد الموقوف ، فان جعلناه للموقوف عليه ، كما هو أحد الأقوال ، ففي نفقته وجهان : بل قولان : أحدهما للشيخ في المبسوط ، وهو أنها في كسبه ، لأن نفقته من شروط بقائه ، كعمارة العقار وهي مقدمة على حق الموقوف عليه ، ولأن الغرض بالوقف انتفاع الموقوف عليه ، وهو موقوف على بقاء عينه ، وانما يبقى بالنفقة فيصر كأن قد شرطها من كسبه.

والثاني ـ والظاهر أنه الأقرب وقواه في المسالك وهو اختيار العلامة في المختلف وغيره أيضا ، وجوب النفقة على الموقوف عليه ، لأنه ملكه ، والنفقة تابعة للملك.

أقول : ويؤيده أن منافعه مستحقة للموقوف عليه بالوقف ، وربما أوجب سعيه في كسب النفقة وتحصيلها تفويت المنافع المذكورة ، فلا ثمرة للوقف حينئذ وما تقدم من الاستدلال على كونها في كسبه بأن النفقة من شروط بقائه مسلم ، ولكن لا يستلزم ذلك أن يكون من كسبه ، بل الواجب على الموقوف عليه ذلك للغرض المذكور.

وان قلنا بكونه لله عزوجل فإنهم بنوه على أن نفقة مستحق المنافع كالأجير الخاص والموصى بخدمته على مستحقها ، أم لا؟ فان جعلناها عليه ، فهي هنا على الموقوف عليه أيضا ، وإلا ففي كسبه ، فان تعذر ففي بيت المال ، وان قلنا بكونه للواقف فإشكال.

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 511 الباب 2 ح 1.


قال في المسالك : وعلى القول بكون المالك هو الواقف ، فالنفقة على الموقوف عليه على الأول ، وعلى الواقف على الثاني ، انتهى.

وهو غير ظاهر المراد ، ولعل ذلك لغلط في العبارة المذكورة وبالجملة حيث كانت المسئلة خالية من النص فللتوقف فيها مجال ، إلا أنه يمكن الكلام في ذلك جريا على قواعدهم بأن يقال : انك قد عرفت آنفا أن الأظهر هو انتقال الوقف الى الموقوف عليه ان كان معينا ، وان كان جهة أو مصلحة فهو غير مملوك لأحد ، وهو الذي عبروا عنه بأنه ملك لله سبحانه ، وعلى الأول فإن مقتضى القول بالملك وجوب النفقة على المالك كما هو أحد القولين المتقدمين ، وأشهرهما وأظهرهما.

وعلى الثاني فإن الظاهر أن النفقة تكون في كسبه مقدمة على حق الموقوف عليه ، فان قصر كسبه ففي بيت المال ان كان ، وإلا وجبت كفاية على المكلفين كغيره من المضطرين ، وأما البناء على أن نفقته على مستحق المنافع كما تقدم ، فالظاهر بعده ، لان مستحق المنافع قد لا يكون له مال ، من أجل ذلك كان أحد الأقوال فيه أن نفقته على نفسه ، وليست على المستأجر كما تقدم تحقيق القول فيه في كتاب الإجارة على أن البناء على نقل ذلك لا يخرج عن القياس الخارج عن أصول الشريعة.

ولو مات العبد فمؤنة تجهيزه كنفقته حال حياته ، ولو كان الوقف عقارا فإنهم صرحوا بأن نفقته حيث شرط الواقف ، فان انتفى الشرط ففي غلته مقدمة على الحق الموقوف عليه ، فان قصرت لم يجب الإكمال.

أقول : ويدل على الإخراج من الغلة مقدما على حق الموقوف عليه قول الكاظم عليه‌السلام (1) في حديث وقف أرضه المتقدم ذكره ، «يقسم وإليها ما أخرج الله من غلتها بعد الذي يكفيها من عمارتها ، ومرافقها بين ولد موسى الى آخره». ولو عدمت الغلة لخراب الوقف واضمحلاله لم تجب عمارته ، بخلاف الحيوان لوجوب صيانة روحه.

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 53 ح 8 ، الوسائل ج 13 ص 314 ح 5.


ولو صار العبد الموقوف مقعدا أو عمى أو جذم انعتق ، وبطل الوقف وسقطت عنه الخدمة ، وقضية ذلك سقوط النفقة عن مولاه ، لأن وجوب النفقة عليه من حيث أنه مملوك له ، والآن قد صار حرا ، وعلى هذا فنفقته مع عدم وجود باذل من الواجبات الكفائية على المسلمين كغيره من المضطرين ، والموقوف عليه من الجملة ، فالوجوب شامل له ، وان تغاير الوجه والله العالم.

المسئلة الثانية : لو جنى العبد الموقوف على غيره عمدا أو خطأ أو جني عليه فهنا مقامات ثلاثة الأول ـ أن يجني عمدا ولا خلاف في أنه يلزمه القصاص وان استلزم إبطال الوقف عمدا ، بما دل على وجوب القصاص من الجاني.

قال في المسالك : وهو موضع وفاق ، ثم انه ان كانت الجناية دون النفس قالوا : يبقى الباقي وقفا لوجود المقتضي ، فإن الوقف لا يبطل بتلف بعض الموقوف وهو ظاهر لا اشكال فيه ولا خلاف ، وان كانت الجناية النفس ، فان اختار الولي القصاص كان ذلك له ، ولا إشكال أيضا ، وان اختار الولي الاسترقاق الذي هو أحد فردي الحقين المخير فيهما الولي فيما إذا كان الجاني عمدا عبدا ، فهل له ذلك أم لا؟ قولان : فقيل : بالأول ، لأن المجني عليه له إبطال الوقف وإخراجه عن ملك الموقوف عليه بالقتل قطعا ، والعفو عنه أمر مطلوب شرعا ، وراجح قطعا ، وفي استرقاقه جمع بين حق المجني عليه ، وفضيلة العفو ، فيكون أولى من القتل ، والى هذا القول مال في المسالك فقال : انه الأقوى.

وقيل : بالثاني وبه جزم المحقق في الشرائع والعلامة في الإرشاد والتحرير وفي القواعد بعد أن أفتى بذلك قال : على اشكال ، وعلل القول المذكور بأن الوقف يقتضي التأبيد ما دامت العين باقية ، وهو ينافي استرقاقه ، لاستلزام بطلان الوقف مع بقاء عينه وخروجه عن الوقف في بعض الموارد لدليل خارج ، لا يقتضي التعدي بحيث لا دليل.

أقول : ومن تعارض هذين التعليلين استشكل في القواعد ، إلا أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث اختار القول الأول أجاب عن هذا التعليل ، بأن


التأبيد الواجب في الوقف إنما هو من حيث لا يطرء عليه ما ينافيه ، وهو موجود هنا فيما هو أقوى من الاسترقاق ، انتهى.

وبالجملة فالمسئلة لخلوها من النص محل اشكال ، لما عرفت من عدم الركون الى أمثال هذه التعليلات ، في تأسيس الأحكام الشرعية ، فكيف مع تعارضها ، الا أنه يمكن أن يؤيد ما ذكره شيخنا المتقدم بإطلاق الأخبار الواردة في المسئلة.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبان بن تغلب (1) عمن رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا قتل العبد الحر دفع الى أولياء المقتول ، فان شاؤا قتلوه ، وان شاؤا حبسوه ، وان شاؤا استرقوه يكون عبدا لهم». وبهذا المضمون أخبار آخر هي المستند في أصل المسئلة ، والتقريب فيها هو أن العبد المذكور في هذه الأخبار شامل للموقوف والمطلق ، فإنه بالوقفية لم يخرج عن العبودية ، وقد دلت على أن الحكم في العبد القاتل عمدا التخيير بين القتل والاسترقاق.

نعم ظاهر كلامهم يدعون الخروج عما دلت عليه هذه الأخبار بالنسبة إلى جواز اختيار الاسترقاق بالمعارضة ، بأن الوقف يقتضي التأبيد ما دامت العين موجودة ، فلا يجوز الاسترقاق وإلا للزم بطلان الوقف مع بقاء عينه ، وغاية ما يلزم من هذه المعارضة ، أنه قد تعارض هنا عموم الأخبار الدالة على جواز استرقاق العبد القاتل عمدا أعم من أن يكون وقفا أو طلقا ، وعموم الأخبار الدالة على أن الوقف يقتضي التأبيد ما دام الموقوف موجودا أعم من أن يكون عبدا قاتلا أو غيره ، وتخصيص أحد العمومين بالآخر يحتاج الى دليل ، فمن أين يرجح ما ادعوه من تخصيص العموم الأول بالثاني دون العكس ، بل يمكن ترجيح العكس ، باتفاقهم على الخروج عن العموم الثاني باختيار جواز القتل لهذه الأخبار ، وهي كما دلت على ذلك دلت على جواز اختيار الاسترقاق ، فالواجب تخصيص العموم الثاني بالأول ، والله العالم.

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 304 ح 6 ، التهذيب ج 10 ص 194 ح 63 ، الوسائل ج 19 ص 73 ح 2.


الثاني ـ أن تكون الجناية خطأ وقد اختلف كلامهم في هذا المقام فقال الشيخ وجماعة : بأنها تتعلق بمال الموقوف عليه ، لتعذر استيفائها من رقبته ، إذ لا يتعلق الأرش إلا برقبة من يباع ، والبيع هنا ممتنع من حيث الوقف ، وحق الموقوف عليه ، فالواجب عليه أن يفديه بالأرش.

قال في المبسوط : إذا جنى العبد الموقوف جناية توجب المال لم يتعلق إلا برقبة من يباع فيه ، فأما رقبة من لا يباع فالأرش لا يتعلق بها ، إذا ثبت هذا فمن قال : أن الملك ينتقل اليه ، فهو في ماله ، ومن قال : ينتقل الى الله قيل : من مال الواقف ، لأنه الذي منع الرقبة من تعلق الأرش بها ، وقيل : يكون في بيت المال كالحر ، انتهى.

وذهب المحقق في الشرائع إلى أنه يتعلق بكسبه ، قال : لأن المولى لا يعقل عبدا ، ولا يجوز إهدار الجناية ، ولا طريق إلى عتقه ، فيتوقع ، وبهذا القول صرح العلامة في التحرير والمختلف.

قال في المسالك : وهو الأقوى ، وهو اختيار الشهيد في الدروس ، معللا بما ذكره المحقق بأن كسبه أقرب الأشياء الى رقبته ، فإذا تعذر تعلقه برقبته تعلق بما هو أقرب إليه ، واحتمل في المختلف تعلقها برقبته ، فيباع فيها كما يقتل في العمد ، والبيع أدون من القتل ، وهذا كله مبني على انتقال الملك الى الموقوف عليه.

أما على القول بانتقاله الى الله ، أو القول ببقائه على ملك الواقف كما تقدم نقله عن أبى الصلاح وبعض العامة ، فإنهم قالوا : يحتمل تعلق أرش الجناية بالوقف ، لأنه بوقفه منع من تعلق الأرش برقبته ، ويحتمل أن تكون في بيت المال كالحر المعسر.

أقول : قد عرفت من كلام الشيخ المتقدم أنه حكى هذين الاحتمالين قولين في المسئلة ، وزاد بعضهم على هذا التقدير احتمال التعلق بكسبه أيضا ، والظاهر


أن احتمال تعلقها ببيت المال أو الكسب إنما هو بناء على القول بالانتقال الى الله ، وإلا فعلى القول بالبقاء على ملك الواقف ، فالمناسب هو كون ذلك على الواقف ، للتعليل المتقدم ، ثم انه على تقدير القول بتعلقها بكسبه فلو لم يكن كسوبا قال في المسالك : اتجه تعلق الجناية برقبته ، وجواز بيعه كما يقتل في العمد ، والبيع أدون من القتل.

أقول : قد تقدم في كلام العلامة احتمال التعلق بالرقبة ، وجواز البيع مطلقا ، ومن هنا أورد الشهيد (رحمة الله عليه) في شرح الإرشاد ، وعلى عبارة الشيخ المتقدم الدالة على تعذر استيفاء الجناية من رقبته ، لعدم صحة بيعه ، بأن هذا إنما يتم لو لم يكن على منحصر ، وكان المنحصر موسرا ، وقد تلخص من ذلك احتمال التعلق بالرقبة مطلقا ومع العجز عن الكسب ، ومع كون الموقوف عليه منحصرا معسرا ، هذا حاصل كلامهم في المقام ، والمسئلة محل توقف واشكال ، والله العالم.

الثالث ـ لو جنى عليه فان كانت جناية توجب القصاص كأن يقتله عبد مثله ، فظاهر كلامهم تفريع ذلك على الخلاف المتقدم ، فان قلنا بأن الملك ينتقل الى الموقوف عليه ، فإنه يصير القصاص اليه كما لو كان المقتول عبده ، ولو قلنا بانتقاله الى الله تعالى مطلقا أو على التفصيل المتقدم ، فإنه يكون ذلك الى الحاكم الشرعي ، لأنه ولي هذه المصالح المتعلقة به سبحانه ، ولو قلنا ببقائه على ملك الواقف كان حق القصاص إليه ، وقد عرفت فيما تقدم أن الأصح هو التفصيل ، بأنه ان كان الموقوف عليه منحصرا ، فإنه للموقوف عليه ، وان كان على جهة عامة أو مصلحة عامة فإنه لله سبحانه ، وعلى هذا يترتب القصاص هنا ، فيقال : بكونه للموقوف عليه على الأول والحاكم على الثاني ، وأما إذا أوجب القتل الدية كأن يقتل خطأ أو أخذت صلحا أو يكون القاتل حرا ، أو فيه شي‌ء من الحرية ، أو أوجبت الجناية أرشا كقطع يده مثلا ، وملخصه أن تكون الجناية موجبة للمال ، فهل يكون ذلك


للموجودين من الموقوف عليهم وقت الجناية ، أو أنه يشترى به عبد أو بعض عبد يكون وقفا؟ قولان.

قال في المبسوط : لو جني على العبد الموقوف عليه ، ووجبت قيمته ، قال قوم : يشترى بها عبد آخر يقوم مقامه ، سواء قيل : انتقل ملكه الى الله ، أو إليه ، لأن حق البطون الأخر تعلق برقبة العبد ، فإذا مات أقيم غيرها بقيمتها مقامها ، وفيهم من قال : انتقل القيمة إليه ، وهو الأقوى ، لأنا قد بينا أن ملكه له ، والوقف لم يتناول القيمة ، والأول قول من قال : ينتقل الى الله ، انتهى.

وظاهره أنه على تقدير القول بانتقال الملك الى الموقوف عليه كما هو مذهبه فإنه يصير المال اليه ، وعلى تقدير القول بأنه ينتقل الى الله ، فإنه يشتري به عبد آخر يقوم مقامه ، ويكون وقفا.

وقال العلامة في المختلف : والمعتمد اقامة غيره مقامه ، لعدم اختصاص البطن الأول بملكه ، ولهذا يملك البطن الثاني عن الواقف عن البطن الأول ، والوقف ان لم يتناول القيمة لكنها بدل عن العين ، انتهى.

وهو صريح في اختيار القول الثاني ، كما أن كلام الشيخ صريح في اختيار الأول ، وهو اختيار المحقق في الشرائع أيضا ، والعلامة في التحرير ، وجعل الثاني احتمالا ، وظاهر الشهيد في الدروس ، وشرح الإرشاد التوقف في المسئلة ، حيث اقتصر على نقل القولين ، ولم يرجح شيئا منهما في البين ، وهو في محله.

وتوضيح أدلة القولين زيادة على ما تقدم ، أما القول الأول فلأن الدية عوض رقبته ، والرقبة ليست ملكا تاما للموجودين ، بل للبطون اللاحقة منها حق وان لم يكن بالفعل ، لكنه بالقوة القريبة منه ، لحصول السبب والمعدات للملك ، ولم يتخلف منها سوى وجودهم ، وحينئذ فلا سبيل إلى إبطال حقهم ، فيجب أن يشترى به عبدا ، وبعض عبد يكون وقفا ، إبقاء للوقف بحسب الإمكان ، وصيانة له عن الابطال ، وتوصلا الى غرض الواقف ، ولأن الوقف تابع لبقاء المالية ، ولهذا


يجب الشراء بقيمته ـ حيث يجوز بيعه ـ يكون وقفا.

وأما الثاني فوجهه أن الوقف ابتداء متعلق بالعين ، لأن موضوعه العين الشخصية لا غير وقد بطلت بإتلافه ، فامتنع أن يكون لمن سيوجد من البطون فيه حق ، لأنهم حال الحياة غير مستحقين ، ووقت صيرورتهم مستحقين قد خرج التالف عن كونه وقفا ، هكذا قرره في المسالك.

ثم أنه أورد على الدليل الثاني حيث أنه اختار القول الأول ما لفظه : ويضعف بأن القيمة بدل عن العين ، فيملكها على حد ما يملكها ، ويتعلق بها حق من يتعلق حقه بها والوقف وان لم يتناول القيمة مطابقة ، لكنه يتناولها اقتضاء ، من حيث أنها قائمة مقام العين ، ولأن الوقف أقوى من حق الرهن ، وهو يتعلق بالقيمة ، والوقف أقوى ، وحينئذ فالأقوى الأول.

أقول : لو صح بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العقلية ، لاتجه قوة ما قواه (قدس‌سره) سيما أنه الأوفق بالاحتياط المطلوب في أمثال هذه المقامات الخالية من النصوص ، إلا أنك قد عرفت ما فيه في غير مقام مما تقدم.

بقي في المقام فوائد يحسن التنبيه عليها :

الاولى : ظاهر الأكثر أن محل الخلاف ما قدمنا ذكره من الجناية الموجبة للمال دية أو غيرها ، والظاهر من كلام المحقق في الشرائع أن محل الخلاف الدية خاصة ، وأما ما كان أرشا فإنه للموجودين من غير خلاف ، ومقتضى الدليل المتقدم يؤيد ما ذكره الأكثر.

الثانية : أنه على تقدير شراء عبد أو بعض عبد يكون وقفا ، فمن الذي يتولى ذلك؟ قال شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد : والأجود تفويضه الى الناظر الخاص ، فان تعذر فالناظر العام ، وان تعذر فالموقوف عليه ، قضية للشرط في النظر عموم حكم الحاكم على البطون ، وأولوية الموقوف عليه ، وفي المسالك


أنه يبنى على الخلاف المتقدم ، فان حكمنا بالملك للموقوف عليه ، فان حق الشراء راجع إليه ، لأنه المالك لذلك ، والبطون اللاحقة تابعة لهم ويحتمل الحاكم نظرا الى حق البطون اللاحقة ، وأن للحاكم حق الولاية عليهم دون البطون المتقدمة وان حكمنا بكونه لله سبحانه فللحاكم لا غير ، وان حكمنا للواقف فالوجهان الأولان.

أقول : ولو تعذر الحاكم فالظاهر قيام عدول المؤمنين بذلك ، كما في غير هذا الموضع من الأمور الحسبية ، وقيل : بتقديم الموقوف عليه ، والأظهر الأول.

الثالثة : انه هل يصير وقفا بمجرد الشراء أم يفتقر إلى الصيغة؟ قال في المسالك : كل محتمل ، وان كان الأول أقوى ، لأنه بالشراء يصير بدلا عن العين كالرهن وعلى الثاني يباشره من يباشر الشراء أقول : وبالأول صرح شيخنا الشهيد (رحمة الله عليه) في الإرشاد.

الرابعة : قال في المسالك : لو لم تف القيمة بعبد كامل اشترى شقص بها امتثالا للأمر بحسب الإمكان ، ولو فضل منه فضل عن قيمة عبد اشترى معه ولو شقص آخر.

أقول : قوله امتثالا للأمر بحسب الإمكان لا أعرف له معنى في هذا المكان ، إذ لا نص كما عرفت ، إلا أن يكون المراد بناء على ما يدعونه قصد الواقف.

الخامسة : قال شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد : والأقرب أن البدل يجب كونه من جنس الموقوف ، لأنه أقرب الى الوقف ، وكلام المصنف هنا يشمل الجنس وغيره ، وحينئذ تجب المساواة في الذكورة والأنوثة ، وان أمكن المساواة في باقي الصفات أو معظمها فهو أولى ، ولو قيل : في القيمي بضمانه بالمثل وأمكن له مثل ، كان هو الوقف ، واستغنى عن الشراء ، وان قيل : بالقيمة وأتى بعبد بالصفات أمكن وجوب قبوله ، لأن غاية القيمة صرفها في مثلة ، انتهى.

السادسة : هل للموقوف عليهم العفو عن القصاص أو عن الأرش أو الدية؟


قال في المسالك : يبنى على أن البطون اللاحقة هل تشاركهم فيه أم لا؟ فعلى الأول ليس لهم العفو ، وعلى الثاني لهم ، لانحصار الحق فيهم.

السابعة : قال : في المسالك : على تقدير المشاركة لو عفى الأول فللثاني أن يستوفي ، لوجود سبب الاستحقاق من حين الجناية وان لم يثبت بالفعل ، مع احتمال العدم ، لتجدد استحقاقهم بعد سقوط الحق بالعفو ، وعلى تقدير جواز استيفاء الثاني هل له القصاص كالأول ان كانت الجناية توجبه أم يختص بالدية؟ وجهان : من مساواته للأول في الاستحقاق ، ومن تغليب جانب العفو بحصوله من الأول ، والأقوى الأول.

أقول : لا يخفى أن قضية المشاركة ـ وان كان أخذ حق أحد الشريكين موقوفا على وجوده ـ هو أن حكم الثاني كالأول في كل من الأمرين المذكورين ، قوله في الاحتمال المذكور «لتجدد استحقاقهم بعد سقوط الحق بالعفو» مدفوع بأن الساقط انما هو حق أولئك العافين ، لا حق هؤلاء المتأخرين ونحوه قوله في الثاني لتغليب جانب العفو بحصوله من الأول ، فإن الحاصل من الأول انما هو بالنسبة إليه ، لا الى شريكه ، وهو ظاهر والله العالم.

المسئلة الثالثة : المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه إذا وقف في سبيل الله انصرف الى كل ما يكون وصلة الى الثواب ، لأن السبيل بمعني الطريق فيكون المراد كلما يكون طريقا الى حصول الثواب منه سبحانه ، ويكون وسيلة إلى رضوانه ، وكذا لو قال : في سبيل الله وسبيل الثواب وسبيل الخير ، فان مرجع الثلاثة إلى أمر واحد ، وهو سبيل الله بالمعنى المتقدم.

وخالف الشيخ في أحد قوليه في الموضعين ، فقال. في الأول ان سبيل الله الغزاة المقطوعة ، دون العسكر المقاتل على باب السلطان ، والحج والعمرة يقسم أثلاثا فخص السبيل بهذه الثلاثة ، وعن ابن حمزة أن سبيل الله ، المجاهدون.

وقال في الثاني : بقسمته أثلاثا فثلث للغزاة والحج والعمرة ، وهو سبيل الله ، وثلث الى الفقراء والمساكين ، ويبدأ بأقاربه ، وهو سبيل الثواب ، وثلث إلى خمسة


أصناف من الذين ذكرهم الله في آية الصدقة ، وهم الفقراء ، والمساكين ، وابن السبيل ، والغارمون ، والرقاب ، ولا يخلو من تحكم ، فإنا لم نقف له على دليل على هذا التفصيل.

أقول : وقد تقدم في كتاب الزكاة (1) في معنى سبيل الله فمما تدل على القول المشهور رواية علي بن إبراهيم (2) في تفسيره عن العالم عليه‌السلام قال : وفي سبيل الله قوم يخرجون الي الجهاد ، وليس عندهم ما يتقوون به ، أو قوم مؤمنون ليس عندهم ما يحجون به ، أو في جميع سبيل الخير ، فعلى الامام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج والجهاد ،. وأشرنا ثمة أيضا الى ان الظاهر من بعض الروايات أن تفسير السبيل بالجهاد ، انما كان تقية ، حيث أن مذهب العامة ذلك ، والله العالم.

المسئلة الرابعة : إذا وقف على مواليه ، فان انحصرت الموالي في الأعلى أو الأسفل فلا اشكال ، والمراد بالأعلى هم المعتقون له ، بأن باشروا العتق أو انتهى إليهم ولاية العتق ، والأسفل هم من أعتقهم بعد عتقه كذلك ، فان اجتمعوا فان كانت ثمة قرينة تدل على إرادة أحد الصنفين أو كليهما فلا إشكال أيضا ، وان انتفت القرائن وجب الرجوع إليه في تفسير ذلك وما أراد به ، فان تعذر الرجوع اليه أو أخبر بأنه لم يقصد شيئا بخصوصه ، وانما بنى على مدلول اللفظ ، فهل يبطل الوقف أو يصح ويصرف إليهما أو إلى أحدهما أو يفرق بين المفرد والجمع؟ أقوال.

فنقل عن الشيخ في المبسوط والخلاف القول بالصحة ، قال في الخلاف : إذا وقف على مولاه ، وله موليان مولى من فوق ، ومولى من أسفل ، ولم يبين انصرف إليهما ، لأن الاسم يتناولهما ، فيجب صرفه إليهما ، كما لو أطلق الوقف على الاخوة انصرف إليهم وان كانوا متفرقين ، وليس ذلك بمجهول ، كما أن الوقف

__________________

(1) ج 12 ص 199.

(2) تفسير القمي ج 1 ص 298 ، الوسائل ج 6 ص 145 ح 7.


على الأخوة ليس بمجهول ، وبذلك قال ابن إدريس أيضا ، معللا بتناول الاسم ، إلا أن الشيخ فرضه في المفرد ، وابن إدريس فرضه في الجمع ونحوه المحقق في الشرائع ، فإنه تبع الشيخ في الحكم بالصحة ، الا أنه فرضه في الجمع.

وقال ابن حمزة : إذا وقف على مولاه اختص بمولى نفسه ، دون مولى أبيه وبمولاة الذي أعتقه ، دون مولى نعمته ، إلا إذا لم يكن له مولى عتق ، وكان له مولا نعمة ، وإن قال : على موالي دخل فيه مولى العتاقة ، ومولى النعمة.

وقال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال : والوجه أن نقول : ان عرف بقرينة حالية أو مقالية قصده فيهما حمل لفظه عليه ، عملا بالقرينة ، وان انتفت القرائن فإن كان اللفظ مفردا ليس بجمع بطل الوقف ، وان كان جمعا وقلنا بجواز ارادة معنى المشترك من لفظ الجمع حمل عليهما ، وان قلنا إن حكمه حكم الواحد بطل ، لنا أنا قد بينا في أصول الفقه أنه لا تجوز ارادة معنى المشترك منه بلفظ واحد ولا شك أن لفظة مولى من الألفاظ المشتركة بين المعالي المتضادة ، وهي المعتق والمعتق ، وقول الشيخ أن الاسم يتناولهما ، قلنا : ان أراد ذلك على سبيل الجمع ، فهو ممنوع لأن الواضع لم يضعه لكلا المعنيين ، فيكون استعماله فيهما استعمالا للفظ في غير موضوعه والقياس على الاخوة ضعيف ، لأن الإخوة موضوع لمعنى واحد ، يتناول المتقرب بالأبوين وأحدهما على سبيل التواطؤ ، بخلاف المولى ، وقول ابن إدريس يشعر بمتابعته للشيخ ، وقول ابن حمزة في الجمع جيد ، أما في المفرد فحمله على المعتق ضعيف ، وكونه أقوى من المولى من أسفل لأنه يرث لا يخرج اللفظ عن كونه مشتركا ، ولا يوجب ترجيحا في التناول ، انتهى.

وظاهر شيخنا الشهيد (رحمة الله عليه) في شرح الإرشاد الميل الى ما ذكره العلامة هنا من الفرق بين المفرد والجمع ، والبطلان في الأول دون الثاني ، قال بعد الكلام في المسئلة : واعلم أن الصحة وتناول الجميع يقوى إذا كان اللفظ بصيغة الجمع ، كالمسئلة المفروضة ، فإن بعض من منع استعمال المشترك المفرد في كلا معنييه


أجازه في الجمع ، ولأنه يكون جمعا مضافا وهو للعموم ، كما قرر في الأصول ، وان كان اللفظ مفردا كما لو وقف على مولاه ، يقوى البطلان ، ونصر شيخنا المرتضى عميد الدين الصحة في المجموع ، وهو ظاهر المصنف في المختلف لأنه لفظ مستغرق لجميع ما يصلح له ، انتهى.

أقول : قد تقدم في مواضع من كتب العبادات الإشارة الى أن ما اشتهر بينهم في الأصول من عدم جواز استعمال المشترك في معينة مما يظهر من الأخبار خلافه ، وبذلك اعترف في الذكرى أيضا ، ومنه تظهر قوة ما ذهب اليه الشيخ ، وكيف كان فالمسئلة لما عرفت محل اشكال ، والله العالم.

المسئلة الخامسة : في الوقف على الأولاد ، وله صور أحدها ـ الوقف على أولاد الأولاد ، والظاهر أنه لا خلاف في أنه إذا وقف على أولاد أولاده فإنه يشترك أولاد البنين والبنات ذكورهم وإناثهم من غير تفصيل.

أما الحكم الأول ، فلان إطلاق الولد شامل للذكور والإناث بلا اشكال لقوله سبحانه (1) «يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» ونحوها فيصدق على أولادهم مطلقا أنهم أولاد أولاد ، وان اختلف في صدق الأولاد على أولاد الأولاد ، كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى.

وأما الحكم الثاني فلاقتضاء الإطلاق ذلك ، واقتضاء الاشتراك التسوية حتى يقوم الدليل على خلافها ، وكما يدخل الذكور والإناث في لفظ الولد تدخل الخناثي أيضا ، أما لو كان بلفظ البنين خاصة أو البنات خاصة ، وأولادهم ، فالظاهر عدم صدق ذلك عليهم ، وأما لو جمعهما بأن قال : على البنين والبنات وأولادهم فهل يدخلون في ذلك أم لا؟ قولان للعلامة في القواعد والتحرير منشأ الثاني منهما أنهم ليسوا بذكور ولا إناث ، والأول أنهم لا يخرجون عن الصنفين في نفس الأمر ، ولهذا يستخرج أحدهما بالعلامات ، ومع فقدها ترث نصف النصيبين.

__________________

(1) سورة النساء ـ الاية 11.


ورد بأنه لا كلام مع وجود العلامة ، ولا دلالة لنصف النصيبين على حصره فيهما ، بل يمكن دلالته على عدمه ، وجاز أن تكون طبقة ثالثة متوسطة النصيب كما أنها متوسطة الحقيقة.

الثانية ـ ما لو قال : على من انتسب إلي ، قال في الشرائع لم يدخل أولاد البنات ، وقال بعد ذكر العبارة هذا هو المشهور ، وقد تقدم خلاف المرتضى في ذلك ، فإنه حكم بدخولهم في الأولاد حقيقة ، وهو يقتضي انتسابهم بطريق أولى.

أقول : ونحن قد استوفينا الكلام بما لا يحوم حوله نقض ولا إبرام في هذا المقام ، وأوضحنا ضعف هذه الأوهام في كتاب الخمس (1) ولكن ربما تعذر على الناظر هنا الرجوع إلى ذلك ، فلا علاج ان ارتكبنا مرارة التكرار في بيان ضعف هذا الكلام ، دفعا لثقل المراجعة على النظار :

فنقول : أما ما ذكره من أن أولاد البنات لا يدخلون في النسبة إلى أب الأم ، فقد علله العلامة في المختلف في كتاب الخمس في مقام الرد على المرتضى (رضى الله عنه) فقال : لنا أنه إنما يصدق الانتساب حقيقة إذا كان من جهة الأب عرفا ، فلا يقال : تميمي إلا إذا انتسب إليهم بالأب ، ولا حارثي إلا إذا انتسب الى حارث بالأب ، ويؤيده قول الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
 

 

بنوهن أبناء الرجال الأباعد
 

وما رواه حماد بن عيسى (2) قال : «رواه لي بعض أصحابنا عن العبد الصالح أبى الحسن الأول عليه‌السلام ومن كانت أمه من بنى هاشم وأبوه من سائر قريش ، فإن الصدقة تحل له ، وليس له من الخمس شي‌ء لأن الله تعالى (3) «يقول ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ». ولأنه أحوط ، انتهى.

__________________

(1) ج 12 ص 390 الى ص 416.

(2) أصول الكافي ج 1 ص 539 ح 4 ، الوسائل ج 6 ص 358 ح 8.

(3) سورة الأحزاب ـ الاية 6.


وفيه نظر من وجوه ، أحدها ـ ما ادعاه من أنه لا يصدق الانتساب حقيقة إلا إذا كان من جهة الأب ، فإن الأخبار عموما وخصوصا متظافرة بخلافه ، فمن الأول ما رواه في الكافي في كتاب الروضة والثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي الجارود (1) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن والحسين عليهما‌السلام قلت : ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : فأي شي‌ء احتججتم عليهم؟ قلت : احتججنا عليهم بقول الله تعالى في عيسى ابن مريم (2) (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ)» ثم ساق الآية قال : فأي شي‌ء قالوا لكم؟ قلت : قالوا : قد يكون ولد الابنة من الولد ، ولا يكون من الصلب ، قال : فأي شي‌ء احتججتم عليهم قلت : بقول الله تعالى لرسوله «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ» (3) قال : فأي شي‌ء قالوا؟ قلت : قالوا : قد يكون في كلام العرب أبناء رجل ، ويقول آخر أبناؤنا قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام : يا أبا الجارود لأعطينكها من كتاب الله عزوجل أنهما من صلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يردها إلا الكافر قلت : فأين ذلك جعلت فداك؟ قال : من حيث قال الله عزوجل «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ» (4) الآية الى أن انتهى الى قوله «وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم» فسلهم يا أبا الجارود هل كان يحل لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نكاح حليلتيهما؟ فان قالوا : نعم كذبوا وفجروا ، وان قالوا : لا فهما ابناه لصلبه» الحديث.

أقول : لا يخفى أن تأويل المخالفين للآيتين الأولتين مرجعه الى التجوز ، كما يدعيه أصحابنا هنا مع ما في الخبر من التشنيع الفضيع على من قال من أصحابنا بالقول المشهور ، تبعا للعامة العمياء في هذا الباب ، نعوذ بالله من طغيان

__________________

(1) الكافي ج 8 ص 263 ح 501 ، تفسير القمي ج 1 ص 209 ، الوسائل ج 14 ص 316 ح 12.

(2) سورة الانعام ـ الآية 84 و 85.

(3) سورة آل عمران ـ الاية 61.

(4) سورة النساء ـ الاية 23.


الأقلام ، وزيغ الأفهام ، ولكن العذر لهم (رضوان الله عليهم) بقصور التتبع للأخبار ، وبمضمون هذا الخبر أخبار عديدة ، قد تقدمت في الكتاب المشار إليه آنفا.

ومن الثاني ما رواه في الكافي في باب ما نص الله ورسوله على الأئمة عليهم‌السلام واحدا فواحد بسند صحيح عن عبد الرحيم بن روح القصير (1) «عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزوجل «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (2) ثم ساق الحديث الأول على اختصاص الإمامة بهم الى أن قال : فقلت : هل لولد الحسن فيها نصيب ، فقال : لا والله يا عبد الرحيم ما لمحمدي فيها نصيب غيرنا».

وما رواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار عن حمزة ومحمد ابني حمران (3) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال عليه‌السلام فيه بعد ذكر حمران لعقيدته في الإمامة ما صورته : يا حمران مد المطمر بينك وبين العالم ، قلت : يا سيدي وما المطمر؟ قال : أنتم تسمونه خيط البناء فمن خالفك على هذا الأمر فهو زنديق ، قلت : وان كان علويا فاطميا فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وان كان محمديا علويا فاطميا».

وهما كما ترى صريحان في صحة النسبة إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، مع أن ذلك انما من جهة الأم ، وأن كل من كان من ذريته في أبناء ابنته ، فهو محمدي ، وبه يظهر أن ما ادعاه (قدس‌سره) من أنه لا تصح النسبة ، ولا يقال : تميمي ولا حارثي إلا لمن انتسب بالأب كلام شعري ، لا تعويل عليه ، والظاهر أنه مأخوذ من كلام العامة العمياء المنكرين لكون ابن البنت ابنا حقيقيا ، للتوصل بذلك الى الطعن على الأئمة عليهم‌السلام كما هو المفهوم من جملة من الأخبار التي ابتنا عليها في الكتاب المتقدم ذكره.

ومن ذلك أيضا ما رواه في الكافي في حديث طويل في باب ما يفصل به بين

__________________

(1) الكافي ج 1 ص 288 ح 2.

(2) سورة الأحزاب ـ الاية 6.

(3) معاني الأخبار ص 212 ط تهران سنة 1379.


دعوى المحق والمبطل في الإمامة (1) «عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : في آخره الله بيننا وبين من هتك سترنا وجحدنا حقنا وأفشى سرنا ونسبنا الى غير جدنا» الحديث.

وما رواه العياشي في تفسيره والبرقي في محاسنه (2) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم من قبل النساء ، ثم تلا (ومن ذريته). الآية.

وثانيها ـ أن الاستناد الى هذا البيت ، في مقابلة الآيات المتظافرة والروايات المتكاثرة الدالة على كون ولد البنت ولدا حقيقيا ، مما لا يلتفت اليه ، ولا يعول عليه ، كما صرح بذلك الشيخ في الخلاف في كلامه المتقدم في المسئلة الخامسة من سابق هذا المطلب ، وقد فسر معنى البيت المراد منه بأن الشاعر أراد الانتساب بمعنى أن أولاد البنات لا ينسبون إلى أمهم ، وإنما ينسبون إلى أبيهم.

وثالثها ـ ما ذكره من مرسلة حماد ، فان فيه أولا أنه بمقتضى اصطلاحهم ، فان الخبر ضعيف ، لا تقوم به حجة كما ذكروه في أمثاله.

وثانيا أنه معارض بالآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة الدالة على خلافه عموما وخصوصا ومن الثاني ما رواه الشيخ المفيد (رحمة الله عليه) في كتاب الاختصاص (3) في حديث طويل عن الكاظم عليه‌السلام مع الرشيد ، وفيه قال الرشيد له عليه‌السلام لم لا تنهون شيعتكم عن قولهم لكم يا ابن رسول الله ، وأنتم ولد علي ، وفاطمة إنما هي وعاء ، والولد ينسب إلى الأب لا إلى الأم ، فقال عليه‌السلام بعد أن طلب منه الأمان وآمنه : أعوذ بالله السميع العليم ، ثم أورد عليه‌السلام آية عيسى (4) عليه‌السلام ، ثم أورد آية المباهلة (5). وما رواه في كتاب الاحتجاج (6) عن الكاظم عليه‌السلام في حديث طويل لما

__________________

(1) أصول الكافي ج 1 ص 356 ح 16.

(2) المحاسن ج 1 ص 156 ط تهران ح 88 ، تفسير العياشي ج 1 ص 367 ح 52.

(3) الاختصاص ص 54 ط إيران سنة 1379.

(4) سورة الانعام ـ الاية 84 و 85.

(5) سورة آل عمران ـ الاية 61.

(6) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 83 في ضمن الحديث 9 ، الاحتجاج ج 2 ص 163.


أدخل على الرشيد وموضع الحاجة منه أنه قال له الرشيد : لم جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويقولون يا ابن رسول الله وإنما ينسب المرء إلى أبيه ، وفاطمة ، إنما هي وعاء ، والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جدكم من قبل أمكم فقال : يا أمير المؤمنين لو أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟ فقال : سبحان الله ولم لا أجيبه بل أفتخر على العرب وقريش بذلك ، فقال : لكنه لا يخطب الي ، ولا أزوجه ، فقال : ولم فقلت لأنه ولدني ولم يلدك ، فقال : أحسنت يا موسى» ، ونحوهما غيرهما والتقريب في هذين الخبرين ونحوهما أن الرشيد لما أنكر عليه نسبتهم عليهم‌السلام إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بواسطة الأم وانما ينسب المرء إلى أبيه ، كما ذكره عليه‌السلام في مرسلة حماد المذكورة واحتج بقوله (1) «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ» احتج عليه بالآيات المذكورة ، وما ذكره الرشيد في هذه الأخبار في إنكاره عليه هو عين ما ذكره عليه‌السلام في مرسلة حماد التي استند إليها الخصم ، مع أنه عليه‌السلام في هذه الأخبار قد رد ذلك بالآيات المذكورة الدالة على البنوة حقيقة ، ولو كانت البنوة في هذه المواضع إنما هي على جهة المجاز كما يدعيه العامة ومن قال بقولهم من أصحابنا ، (سامحهم الله بغفرانه) فكيف يحتاج الى الاستدلال بهذه الآيات ، بل كيف يعترض الرشيد وغيره عليهم بهذه التسمية ، وباب المجاز واسع ، وهو لا يوجب فخرا ولا يخد ذكرا فلو لا أن المخالفين من الرشيد وغيره عالمون بان دعواهم البنوة إنما هو على الحقيقة لما اعترضوا عليهم بذلك ، ولما احتاجوا عليهم‌السلام إلى الاستدلال بهذه الآيات ونحوها ، لما عرفت ، وهذه الآيات لا تصلح للاستدلال الا بناء على دعوى البنوة الحقيقية ، وهذا بحمد الله ظاهر تمام الظهور لمن اطلع على الأخبار والآيات الظاهرة ، كالنور على الطور ، ولم يعتر بصر بصيرته قصور ولا فتور.

وأما ما ذكره في المسالك ومثله غيره من نسبة هذا الخلاف إلى المرتضى

__________________

(1) سورة الأحزاب ـ الاية 5.


(رضي‌الله‌عنه) خاصة فهو عجب وأي عجب ، فان هذا القول مذهب جملة من متقدمي الأصحاب ، بل ربما كان هو المشهور بينهم كما تقدمت الإشارة إليه في المسئلة الخامسة من مسائل المطلب المتقدم ، وقد ذكرنا في كتاب الخمس (1) من ذهب إلى ذلك من علمائنا المتقدمين والمتأخرين ، بما ربما يزيد على عدد من صرح بالخلاف المشهور بين المتأخرين ، والله العالم.

الثالثة ـ ما لو وقف على أولاده ، المشهور بينهم أنه يختص بالأولاد لصلبه ، دون أولاد الأولاد ، إلا أن يكون هناك قرينة تدل على دخولهم ، كقوله الأعلى فالأعلى ، أو بطنا بعد بطن ، أو يقف على أولاد فلان ، وهو يعلم أن لا ولد له لصلبه ، ونحو ذلك ، وقيل : يشترك الجميع إلا مع القرينة ، وهو الأظهر ، احتج القائلون بالقول الأول بأن المتبادر من الولد هو ما كان لصلب ، ولا يفهم منه ولد الولد إلا بالقرينة.

قالوا : ولهذا يصح سلبه عنه ، فيقال ، ليس ولدي ، بل ولد ولدي.

أقول : فيه أن المفهوم من الآيات الكثيرة في باب الميراث ، والنكاح ، والأخبار المستفيضة هو أن الولد حقيقة أعم من أن يكون من صلب بلا فاصلة أو بفاصلة سواء كان الفاصلة ذكرا أم أنثى ، وقد اعترف بدلالة الآيات على ذلك في المسالك في باب الميراث في مسئلة أن أولاد الأولاد هل يقومون مقام آبائهم في الميراث؟ فلكل نصيب من يتقرب به ، أو يقتسمون اقتسام أولاد الصلب ، حيث ذكر أن القول الثاني مذهب المرتضى ، وجماعة من الأصحاب ، ثم استدل لهم بآيات تحريم حلائل الأبناء ، وتحريم بنات الابن والابنة ، والحجب بهم للأبوين ، والزوجين.

ثم قال : وهذه توجيهات حسنة ، الا أن الدليل قد قام أيضا على ان أولاد البنات ليسوا أولادا حقيقة لثبوت ذلك في اللغة وصحة السلب الذي هو علامة المجاز ، وفيه أنه مع تسليم دلالة اللغة على ما ذكره فعرف الشرع مقدم على عرف

__________________

(1) ج 12 ص 391.


اللغة ، وهو قد اعترف بدلالة الآيات على ذلك ، ومثلها الأخبار كما ستعرفه ان شاء الله تعالى وحينئذ يلتفت الى ما دل عليه كلام أهل اللغة لو كان كما يدعونه وأما الاستناد الى ما ذكروه من صحة السلب في قول القائل هذا ليس ولدي ، بل ولد ولدي ، وهو عمدة أدلتهم فهو على إطلاقه ممنوع ، فانا لا نسلم سلب الولدية حقيقة ، فإن حاصل المعنى بقرينة الإضراب أن مراد القائل المذكور انما هو أنه ليس بولدي بلا واسطة ، بل ولدي بالواسطة ، فالمنفي حينئذ انما هو كونه ولده بلا واسطة ، والولد الحقيقي عندنا أعم منها ، ولو قال ذلك القائل : ليس ولدي من غير الإضراب منعنا صحة السلب.

وأما الأخبار الواردة في المقام فمنها رواية أبي الجارود المتقدمة : وهي صريحة في كون ولد البنت ولدا للصلب ، كما عرفت ، ونحوها الروايات الأخر.

ومنها ما رواه في الكافي في أبواب الزيارات بسنده عن بعض أصحابنا (1) قال حضرت أبا الحسن الأول عليه‌السلام وهارون الخليفة وعيسى بن جعفر وجعفر بن يحيى بالمدينة قد جاؤا الى قبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال هارون لأبي الحسن عليه‌السلام تقدم ، فأبى فتقدم هارون فسلم وقام ناحية ، وقال عيسى بن جعفر : لأبي الحسن عليه‌السلام تقدم فأبى ، فتقدم عيسى فسلم ووقف مع هارون ثم ساق الخبر الى أن قال : وتقدم أبو الحسن عليه‌السلام فقال : السلام عليك يا أبت أسأل الله الذي اصطفاك واجتباك وهداك وهدى بك أن يصلى عليك ، فقال هارون لعيسى : سمعت ما قال؟ قال : نعم ، فقال هارون : أشهد أنه أبوه حقا».

أقول : لو كان لفظ الأب هنا انما هو مجاز كما يدعيه أصحابنا تبعا للعامة العمياء فأي فخر فيه ، حتى أنه عليه‌السلام يعبر به ، ثم انظر الى شهادة هارون بأنه أبوه حقا ، وأي محل للحمل على المجاز في ذلك ، لو لا عدم التدبر في الأخبار ، والوقوف عليها.

__________________

(1) فروع الكافي ج 4 ص 553 ح 8 ، الوسائل ج 10 ص 268 ح 4.


ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) بطرق عديدة ، ومتون متقاربة عن عائذ الأحمسي (1) قال : دخلت على أبى عبد الله عليه‌السلام فقلت : السلام عليك يا بن رسول الله فقال : وعليك السلام أي والله أنا لولده ، وما نحن بذوي قرابته.

أقول : انظر الى صراحة كلامه عليه‌السلام في أنهم ولد حقيقة له (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ـ لا أنهم من ذوي قرابته وأن إطلاق الولد عليهم انما هو مجاز ـ كما يدعيه من لم يعض على التطلع في الأخبار ـ بضرس قاطع ، وأكد ذلك بقسمة بالله سبحانه ، الى غير ذلك من الأخبار التي ذكرناها في كتاب الخمس (2) ومجمل القول فيها أنها قد دلت على دعواهم عليه‌السلام البنوة له (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وافتخارهم بذلك ، وأن شيعتهم كانوا عاكفين على تسميتهم بذلك ، وان المخالفين أنكروا ذلك عليهم ، وهم عليهم‌السلام قد استدلوا بالآيات القرآنية كما عرفت ، فلو لا أن المراد البنوة الحقيقية ، لما كان لما ذكر من هذه الأمور وجه بالكلية ، لأن المجاز لا يوجب الافتخار ، ولا يتوقف على الاستدلال ، ولا يكون محلا للمخاصمة والجدال بل هذه الأشياء إنما تترتب على المعنى الحقيقي ، كما لا يخفى على الناقد البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.

ولكن أصحابنا (سامحهم الله برضوانه) لما لم تصل هذه الأخبار الى نظرهم ، ولم يطلعوا عليها بالكلية جروا على ما جرت عليه العامة العمياء في المباحث الأصولية ، إلا أن الآيات حجة ظاهرة عليهم ، وهي مكشوفة لديهم فخروجهم عنها الى التمسك بهذه التخريجات الضعيفة من قول أعرابي بوال على عقبيه ، وما ذكروه من صحة السلب ونحو ذلك كله رمي في الظلام ، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

__________________

(1) فروع الكافي ج 3 ص 487 ح 3 ، الوسائل ج 3 ص 50 ح 10.

(2) ج 12 ص 391.


ولذلك ملل إلى هذا القول زيادة على من ذكرنا من المتقدمين جملة من من متأخري علمائنا الأعلام ، والله العالم.

الرابعة ـ ما لو قال : على أولادي وأولاد أولادي ، فإنه على المشهور بين المتأخرين يختص بالبطنين المذكورين من البطون المتجددة ، لأنهم أولاد عندنا حقيقة كما عرفت ، والله العالم.

الخامسة ـ لو قال : على أولادي فإن انقرضوا وانقرض أولاد أولادي فعلى الفقراء ، فإنه لا شك في صحة الوقف على أولاده ، لكن بعد انقراضهم فهل يرجع الوقف إلى أولاد الأولاد؟ ثم بعد انقراضهم الى الفقراء؟ أو يرجع الى الفقراء بعد انقراض أولاده ، ولا يرجع الى أولاد الأولاد ، قولان : قال في المبسوط : إذا قال : وقفت على أولادي فإذا انقرضوا أولادي وأولاد أولادي فعلى الفقراء ، فإنه صرح بالوقف على أولاده أولا ، وعلى الفقراء والمساكين ، فعلى هذا إذا انقرض أولاده وبقي أولاد أولاده صرف انتفاعه إلى أقرب الناس إليه ، الى أن ينقرضوا ، فإذا انقرضوا صرف الى الفقراء ، ومنهم من يقول : يكون وقفا على أولاد أولاده بعد انقراض أولاده ، لأنه شرط انقراضهم ، وذلك بظاهره يقتضي أنه وقف عليهم ، كما لو صرح به ، فعلى هذا يصرف إليهم بعد الأولاد ، فإذا انقرضوا صرف الى الفقراء ، وهذا أقوى.

قال العلامة في المختلف ـ بعد نقل كلام الشيخ المذكور : والوجه عندي الأول ، لأن الوقف بصريحه دل على صيرورته إلى أولاده ، ثم بعدهم وبعد أولاد أولاده يصرف الى الفقراء ولا دلالة صريحة على صيرورته بعد أولاده إلى أولاد أولاده ، وأما الدلالة الالتزامية فهي منفية هنا أيضا ، لإمكان اقتران كلا النقيضين بهذا اللفظ ، ويكون اللفظ معه صادقا ، فصدقه أعم من اقترانه بالصيرورة إلى أولاد أولاده ، ومن اقترانه بعدم ذلك ، ولا دلالة للعام على الخاص ، قوله شرط انقراضهم يقتضي مشاركتهم ، فأي وجه لترتبهم على أولاد ، فهلا شاركوهم ، فإنه لم يوجد ما يدل على الترتيب فكأنه قال : وقفت على أولادي وأولاد أولادي ، فإذا انقرضوا


جميعا فعلى الفقراء ، انتهى.

والظاهر أن هذا القول هو المشهور بين المتأخرين وقوته بالنظر الى تعليلاتهم ظاهرة ، فإن أولاد الأولاد لم يتعرض للوقف عليهم بالكلية ، فكيف يدخلون في الوقف ، ومجرد اشتراط انقراضهم في الوقف على الفقراء لا يستلزم كونه وقفا عليهم ، لانتفاء وجه التلازم ، ولأنه لو دل ذلك على الوقف عليهم أوجب التشريك بينهم وبين الأولاد ، لانتفاء ما يدل على الترتيب كما ذكره العلامة مع أنه لا يقول به.

هذا كله بناء على ما هو المشهور بين المتأخرين من عدم دخول أولاد الأولاد في إطلاق الأولاد ، وأما على القول بدخولهم كما هو المختار ، وبه صرح الشيخ المفيد وابن إدريس وغيرهم ممن تقدم ذكره ، فإنه لا شك في صحة الوقف المذكور ، وأنه إنما ينتقل إلى الفقراء بعد انقراض أولاد الواقف من أولاد الصلب ومن بعدهم من الأولاد ، وان تعددت الطبقات وتكاثرت.

بقي الكلام في أنه على تقدير عدم دخول أولاد الأولاد في الوقف وصحته على الفقراء بعد انقراض الجميع فالنماء المتخلل في تلك المدة بعد موت الأولاد وقبل انقراض أولاد الأولاد لمن هو؟ قد عرفت من عبارة الشيخ المتقدمة أنه يصرف إلى أقرب الناس إليه الى أن ينقرض أولاد الأولاد ، فإذا انقرضوا صرف الى الفقراء.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك احتمال تفريع ذلك على انتقال الوقف وعدمه ، قال : فان قلنا ببقائه على ملك الواقف ، فلا شبهة في كونه لورثته ، وان قلنا بانتقاله الى الله ، فالمتجه صرفه في وجوه البر ، وعلى القول بانتقاله الى الموقوف عليه ، يكون لورثة البطن الأول.

أقول : قد تقدم في المطلب الثاني ذكر الخلاف في المنقطع الآخر ، ومثله يأتي في منقطع الوسط ، من أنه هل يصح ، ويكون وقفا أو حبسا أو يبطل من أصله ، وقد رجحنا أنه يصير حبسا لاشتراط الوقف بالدوام ، وعلى هذا فإنه يكون


النماء هنا لورثة الواقف ، ولا يعود الى الفقراء بالكلية.

وبهذا أيضا صرح شيخنا المذكور في آخر البحث في هذه المسئلة فقال : نعم إذا قلنا حبسا لبطلانه بانقطاع وسطه اتضح عوده إلى ورثة الواقف على وجه الملك ، ثم لا ينتقل عنهم الى الفقراء ، وهذا هو الأقوى ، انتهى.

وهو جيد بناء على مذهبهم في المسئلة ، والا فقد عرفت أن الأظهر صحة الوقف بغير اشكال كما قدمنا ذكره ، والله العالم ، أقول : وقد تقدم بعض صور المسئلة أيضا في المباحث السابقة.

تتمة :

يجب اتباع الشروط المذكورة في عقد الوقف من الترتيب والتشريك ، والتفصيل ، فلو وقف على أولاده وأولاد أولاده اقتضى ذلك تشريك البطن الأخير مع البطن الأول ، ويأتي على ما اخترناه من دخول أولاد الأولاد في إطلاق الأولاد اشتراك جميع البطون من غير تفصيل كما هو مقتضى الإطلاق.

ولو قال : على أولادي ثم أولاد أولادي أو قال : الأعلى فالأعلى ترتبوا ، ولا يستحق البطن الثاني شيئا ما بقي من الأول واحد ، وكل من مات من البطن الأول فنصيبه يرجع الى الباقين ، الا أن يقول : فنصيبه لولده ، فإنه يجب اتباع الشرط المذكور ، فلو مات أحدهم ممن ولد كان نصيبه لولده ، ولو مات بعضهم عن غير ولد كان نصيبه للباقين من البطن ، دون الولد الذي أخذ نصيب أبيه ، والمراد بأولادي هنا هم الذين من الصلب ، فلا يدخل فيه أولاد الأولاد لقرينة العطف.

لكن يبقى الكلام في أولاد الأولاد ، فإن المشهور تخصيصهم بالبطن الثاني ، وعلى ما اخترناه فإنه يدخل فيه جميع البطون المتأخرة عن البطن الأول ، لدخولهم في إطلاق أولاد الأولاد كما عرفت ، فالترتيب حينئذ إنما هو بين البطن الأول ، وهم أولاد الصلب ، وبين من عداهم من الطبقات المتأخرة ، وأما الطبقات


المتأخرة من أولاد الأولاد وما بعدهم من البطون ، فإنه لا ترتيب بينهم.

ولو قال : بطنا بعد بطن ، فالمشهور أنه يفيد الترتيب بين البطون ، وقال في التذكرة : انه لا يفيد ، والأقرب الأول ، ولو قال : على أولادي ثم أولاد أولادي على أن من مات منهم عن ولد فنصيبه لولده ، ومن مات عن غير ولد فنصيبه لأهل الوقف ، ثم لو مات أحدهم عن ابنين فان نصيبه لأبنية ثم ان مات الثاني عن غير ولد ، فان نصيبه لباقي طبقته مع الابنين المذكورين بالسوية ، لأن الجميع أهل الوقف فيشتركون فيه ، ولو مات أحد الابنين المذكورين كان نصيبه لأخيه وعمه ، لأنهم أهل الوقف ، والله العالم.

السادسة ـ لو خرب المسجد الموقوف ، أو خربت القرية أو المحلة لم يخرج المسجد عن الوقف ، لما عرفت من أن الوقف مقتضى للتأبيد ، ولأن المسجد حقيقة إنما هو العرصة التي هي الأرض ، وهي باقية ، ولأن الغرض المقصود منه وهو الصلاة فيه باق ، فإنه يصلي فيه من يمر به ، وربما تعود القرية أو يحصل من يعمره.

وبالجملة فإن الخراب غير موجب للخروج عن الوقفية إذ لا منافاة ، نعم هذا إنما يتم في غير المساجد المبنية في الأرض المفتوحة عنوة ، حيث يجوز وقفها تبعا لآثار التصرف ، وقد تقدم في مقدمات صدر كتاب التجارة (1) أنه متى زالت الآثار سواء كانت آثار التملك أو الوقف فإن الأرض تعود الى ما كانت عليه ، لزوال المقتضى للاختصاص ، الا أن تبقى فيه رسوم أصل الحيطان كما هو الغالب ، بحيث يصدق وجود الآثار في الجملة ، فإنه يكفي في بقاء حكم المسجدية ، بل هذا هو المفهوم من النصوص ، فان ما صار الآن معمولا من البناء وتشييد الجدران ووضع السقف عليها أمر مخترع ، والمفهوم من النصوص إنما هو مجرد التحجير والعلامات الدالة على المسجدية ، ونقل عن بعض العامة خروجه عن المسجدية بالخراب قياسا عن عود الكفن الى الوارث عند اليأس من الميت بأن أخذه السيل

__________________

(1) ج 18 ص 438.


قياس منه بجامع استغناء المسجد عن المصلين كاستغناء الميت عن الكفن ، ورده الأصحاب بأنه قياس مع الفارق ، فان الكفن ملك للورثة ، فإن التركة تنتقل الى الوارث بالموت وان وجب صرفه في التكفين ، فإذا زال الموجب عاد الى ما كان عليه ، بخلاف المسجد ، فإنه قد خرج بالوقف عن ملك الواقف ، والمسجد حقيقة إنما هي العرصة كما عرفت ، وهي باقية ، وأيضا فإن القياس من الميت الذي أوجب رجوع الكفن إلى الورثة غير مسلم هنا ، لجواز عمارة القرية كما عرفت ، وصلاة المارة فيه ، واليأس عن المسجدية غير حاصل ، وما ذكر في الكفن عن العود الى الوارث إنما يتم فيما لو كان الكفن من التركة ، أما لو كان من الزكاة أو الوقف أو من باذل فإنه يرجع الى أصله ، وما ذكر من الكلام هنا في المسجد يجري في الدار الموقوفة ، فإنه بانهدام الدار لا يخرج العرصة عن الوقف ، ولا يجوز التصرف فيها ببيع ونحوه ، والكلام في الفرق بين الأرض الخراجية وغيرها كما تقدم في المسجد ، والله العالم.

السابعة ـ المشهور بين الأصحاب جواز بيع الوقف إذا وقع بين الموقوف عليهم خلف ، بحيث يخشى خرابه ، وقد تقدم تحقيق هذه المسئلة وما فيها من الكلام بما لا يحوم حوله للناظر نقض ولا إبرام في كتاب البيع (1) ولو انقلعت نخلة من أرض الوقف قال الشيخ : يجوز بيعها ، لتعذر الانتفاع إلا بالبيع ، وقال ابن إدريس : وتبعه أكثر المتأخرين انه يمكن الانتفاع بهذه النخلة من غير بيعها كالإجارة للتسقيف ، أو جعلها جسرا ونحو ذلك.

قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : وهذه المنازعة تجري مجرى النزاع اللفظي ، لأن الشيخ فرض سلب منافعها على ما ذكره في دليله ، وابن إدريس فرض لها منافع غير الثمرة ، قال في المسالك ـ بعد أن ذكر أن كلام ابن إدريس جيد ، حيث يمكن الانتفاع ، والا فكلام الشيخ جيد ـ ما صورته : وأما ما ادعاه

__________________

(1) ج 18 ص 439.


العلامة من أنه لا نزاع بينهما إلا في اللفظ حيث أن الشيخ (رحمة الله عليه) فرض سلب منافعها كما يقتضيه دليله ، وابن إدريس فرض وجودها غير الثمرة ، فلا يخلو من حيف على ابن إدريس ، لأن دليل الشيخ اقتضى ادعاءه عدم المنافع حينئذ ، لا على تقدير عدم المنافع ، ففيه قصور بين ، وحينئذ فالتفصيل أجود ، انتهى. والظاهر أن ما ذهب اليه ابن إدريس هو المشهور بين المتأخرين ، استنادا الى عدم جواز بيع الوقف ، أما على مذهب ابن إدريس فإنه يمنع منه مطلقا ، وأما على المشهور فإنهم إنما يجوزونه في الصورة المتقدمة ، وهذا ليس منها ، والشيخ إنما جوزه بدعوى عدم حصول النفع الذي هو الغرض من الوقف ، فيجوز البيع حينئذ ، لبطلان الوقف ، ومتى ثبت وجود النفع كما ادعاه ابن إدريس فلا يصح البيع ، بل يبقى وقفا على حاله ، وما ذكر من الكلام في المقام يجري أيضا في حصير المسجد إذا خلق ، وجذعه إذا انكسر ، وتعذر الانتفاع به فيه أو في غيره.

قال في المسالك : ومتى جاز البيع وجب أن يشتري بقيمته ما يكون وقفا على الأقوى ، مراعيا للأقرب الى صفة الأول فالأقرب ، ونقل في المختلف عن ابن الجنيد أنه قال : والوقف رقيقا أو ما يبلغ حاله الى زوال ما سبله من منفعته ، فلا بأس ببيعه ، وابدال مكانه بثمنه ان أمكن ذلك ، أو صرفه فيما كان يصرف فيه منفعته ، أورد ثمنه على منافع ما بقي من أصل ما حبس معه ، إذا كان في ذلك الصلاح ، ثم قال : وهو الأقوى عندي.

أقول : قد تقدم في مسئلة بيع الوقف المشار إليها آنفا من كتاب البيع (1) ما يؤذن بالمناقشة في ذلك ، فليراجع ، والله العالم.

الثامنة ـ قالوا : إذا آجر البطن الأول مدة ، ثم انقرضوا في أثنائها ، فإن قلنا الموت يبطل الإجارة فلا كلام ، وان لم نقل فهل يبطل هنا فيه تردد ، أظهره البطلان ، لأنا بينا أن هذه المدة ليست للموجودين ، فيكون للبطن الثاني الخيار

__________________

(1) ج 18 ص 447.


بين الإجازة في الباقي ، وبين الفسخ فيه ، ويرجع المستأجر على تركة الأولين بما قابل المتخلف ، انتهى.

أقول : الكلام هنا يقع في موضعين الأول ـ في بطلان الإجارة وعدمه بموت البطن الأول ، بناء على عدم بطلان الإجارة بموت الموجر ، كما هو الأظهر ، وظاهر المشهور القول بالبطلان هنا ، وجعلوه من جملة المستثنيات من قاعدة عدم بطلان الإجارة بموت الموجر ، وعلل البطلان بما أشير إليه من قوله : ان هذه المدة ليست للموجودين ، وتوضيحه أن ملك الموجر هنا لما آجره غير تام ، لمشاركة باقي البطون له في ذلك بأصل العقد ، والموجر إنما يملك مدة حياته ، وبعدها ينتقل الملك الى غيره ، فبموته يتعين انتهاء حقه ، فتكون إجارته بالنسبة إلى بقية المدة تصرفا في غير حقه ، متوقفا على اجازة البطن الذي بعده ، ومن ذلك يظهر أن صحة الإجارة في هذه المدة التي اشتمل عليها العقد مراعاة ببقاء الموجر ، فلو مات في أثنائها تبين بطلان الإجارة في المدة الباقية ، ومما ذكر يظهر وجه الفرق بين اجارة البطن الأول من الموقوف عليهم بالنسبة الى من بعده ، واجارة المالك بالنسبة إلى الورثة ، فإن اجارة المالك تصرف في ملكه المستقل به حال حياته ، حتى لو أراد إتلافه بالكلية لم يكن للوارث اعتراض في ذلك ، والوارث انما يتلقى الملك بعد موته ، بخلاف الوقف فان البطن الأول غير مستقل بالملك كما عرفت ، بل البطون الأخيرة مشاركون له في الاستحقاق بأصل العقد ، لا أنهم انما يتلقونه بعد موته كما في الورثة ، ووجه التردد في المسئلة مما ذكر ، ومن أن المتصرف حينئذ كالمالك ، فكان تصرفه ماضيا.

وأنت خبير بأنه بالنظر الى هذه التعليلات ، لا خفاء في قوة القول المشهور ، إلا أنك قد عرفت عدم صلوحها لتأسيس الأحكام الشرعية ، وانما العمل على النصوص حيث لا نص هنا فالمسئلة لا تخلو من الاشكال ، وقد تقدم نظير هذه المسئلة في المسئلة السابعة والعشرين فيما آجر الأب أو الوصي الصبي من مسائل المطلب


الثالث في الأحكام من كتاب الإجارة ، وينبغي أن يستثني من محل الاشكال ما لو كان الموجر للوقف ناظرا سواء كان أجنبيا أو من الموقوف عليه ، فإنه في حكم النائب عن الجميع ، فلا تبطل الإجارة بموته.

الثاني ما ذكره من قوله ويرجع المستأجر على تركة الأولين ، وهو محمول على ما لو دفع الأجرة للبطن الأول ، والا فلا رجوع ، والمراد بمقابل المتخلف الذي يرجع به على ما ذكره في المسالك ، هو أن ينسب أجرة مثله إلى أجرة مثل مجموع المدة ، ويرجع من المسمى بمثل تلك النسبة ، فلو كان قد آجره سنة بمائة ومات بعد انقضاء نصفها وفرض أن أجرة مثل النصف المختلف تساوى الستين ، وأجرة مثل النصف الماضي تساوى ثلاثين ، رجع بثلثي المائة ، وعلى هذا القياس ، والله العالم.

التاسعة ـ في جملة من أحكام الأمة الموقوفة ، منها ـ أنهم قد صرحوا بأنه لا يجوز للموقوفة عليه وطئ الأمة الموقوفة لأنه لا يختص بملكها ، فان كان له شريك في ذلك البطن ، فان عليه ما عدا نصيبه من العقر للشركاء ، وكذا من قيمة الولد لو أولدها وعليه الحد بنسبة ما عدا حصته وان انحصر أهل تلك الطبقة فيه كان الولد حرا ، ولا قيمة عليه ولا حد.

أقول : أما الأول فيعلم وجهه مما تقدم في كتاب البيع في مسئلة وطئ الأمة المشتركة بغير اذن الشركاء (1) ولكن قل من تنبه لذلك ، ونبه عليه في هذا المقام.

وأما الثاني فإن الوجه في تحريم ذلك عليه ، مع أن منافع الوقف له خاصة وان شاركته في الملك البطون المتأخرة ، والوطي من جملة المنافع ، هو الفرق بين الانتفاع بالوطء وغيره من المنافع ، من حيث ان الوطي معرض للحمل الموجب لصيرورتها أم ولد المانع من دوام الوقف على باقي البطون ، لانعتاقها بموته.

وأما الوجه في حرمة الولد إذا أولدها ، فلأن وطأه غير معدود من الزنا ،

__________________

(1) ج 19 ص 474.


لأنه مالك في الجملة ، ولا تجب عليه القيمة ، لمن بعده من البطون ، لأنه مخصوص بالاستحقاق الآن ، إذ المفروض انحصار تلك الطبقة فيه ، فلا شريك له الآن ، لا من البطن الذي هو فيه ، ولا من البطون المتأخرة ، والولد بمنزلة كسبها ، وثمرة البستان ، فيملكه زمان ملكه ، لأمه ، إلا أن هذا مبني على أحد القولين الآتيين في المسئلة ، والقول الآخر أنه يكون وقفا كأمه ، وأما عدم وجوب الحد عليه ، فلما عرفت من أنه غير زان وان فعل حراما كنظائره من وطئ الحليلة محرما ، ويحتمل وجوب الحد إذا لم تكن له شبهة يدرأ بها ، بناء على القول بعدم انتقال الملك اليه ، إلا أنه قال في التذكرة : انه لأحد أيضا هنا ، لأن شبهة الملك فيه ثابتة ، والمراد أن شبهة كونه مالكا فتحققه ، وان رجحنا عدم ملكه لأنها مسئلة اجتهادية ، لا يرفع ترجيح أحد جانبيها أصل الشبهة عن الجانب الآخر وهو كاف في درأ الحد ، وهو كما ذكره (قدس‌سره).

بقي الكلام هنا في موضعين أحدهما أنه هل تصير بالاستيلاد أم ولد ، أم لا؟ قولان : وعلل الأول بتحقق العلوق منه في ملكه على القول بانتقال الملك إليه ، لأن مبنى الكلام على ذلك ، وهذا هو السبب في صيرورتها أم ولد بالنص والإجماع وعلل الثاني بأن السبب إنما هو العلوق في الملك التام المختص بالمالك المعين ، والملك هنا غير مختص به ، لأن باقي البطون حقهم متعلق بها الآن ، وهو يرجع الى منع ما ادعى من سببيته السبب الأول ، لأنها يقوم عليه كلها بالاستيلاد ، ولا شي‌ء من أم الولد كذلك بالاستقراء ، ولمنافاة الوقف الاستيلاد.

وأنت خبير بأن مرجع ما ذكر من التعليلين المذكورين الى تعارض عموم النهي من إبطال الوقف وتغييره ، والحكم بدوامه ولزومه ، وعموم ما دل على ثبوت الاستيلاد ، وترتب أحكامه ، والقائل الأول اعتمد على العموم الثاني وخصص به الأول ، والقائل الآخر عكس ، والحق هو تعارض العمومين ، وتخصيص أحدهما بالآخر يحتاج الى مرجح ، وليس فليس ، فتبقى المسئلة في قالب الاشكال ، مضافا الى عدم النص في أصل المسئلة ، فيتعاظم الاشكال.


وثانيهما أنه على تقدير صيرورتها أم ولد كما هو أحد القولين المتقدمين فهل تؤخذ القيمة من تركته للبطون المتأخرة بعد موته ، وانعتاقها بموته؟ قيل فيه وجهان : أطال الكلام فيهما في المسالك ، وحيث أن أصل المسئلة كما عرفت عارية عن النص ، والركون في إثبات أحكامها وما يتفرع عليها الى مجرد هذه التعليلات المتداولة في كلامهم مشكل ، أغمضنا النظر عن الكلام فيها.

ومنها ـ أنه يجوز تزويجها ، والمتولي لذلك هو الموقوف عليه ان قلنا بانتقال الملك اليه ، وان قلنا بالانتقال الى الله فالحاكم الشرعي ، لأنه المتولي لنحو ذلك ونقل عن الشيخ أنها تزوج نفسها ، ورده من تأخر عنه بأنه ضعيف.

وان قلنا ببقاء الوقف على ملك ذلك الواقف ، كان التزويج اليه ، ومهرها للموجودين من الموقوف عليهم ، أو الجهة الموقوف عليها ، لأنه فائدة من فوائدها وعوض من منفعتها المختصة بهم ، فيكون عوضها كذلك.

ومنها ـ أنه لو أتت بولد ، وكان من مملوك أو زنا ، فقيل : انه يختص به البطن الذي يولد معهم ، لأنهم من جملة النماء ، فأشبه الكسب ، وثمرة البستان ، وولد الدابة ، والظاهر أن هذا هو المشهور ، وذهب الشيخ وابن الجنيد وجماعة إلى أنه يكون وقفا كأمه ، لأن كل ولد ذات رحم حكمه حكم أمه كالمدبرة والمرهونة على قول ، ورد بأن الكلية ممنوعة وان كان الولد من حر بعقد صحيح فلا اشكال فيه ، إلا مع اشتراط الرقية في العقد ، على خلاف فيه يأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى ـ في محله اللائق به ، وان كان من حر بوطى‌ء شبهة قالوا : فهو حر ، وعليه القيمة للموقوف عليه ، فلأنه فوت عليهم ولد أمة بغير استحقاق ، وأرادوا بكون القيمة للموقوف عليه أنها تكون لهم على جهة الملك ، لا على جهة الوقف على أصح القولين.

ومنها ـ أنه لا يجوز للواقف وطؤها على القول بالانتقال الى الموقوف عليه ، أو الانتقال الى الله سبحانه ، لخروج الملك عنه ، فيكون كالأجنبي يترتب على وطئه ما يترتب على الأجنبي ، وأما على القول ببقاء ملكه قالوا : فإنه لأحد عليه لشبهة الملك


وفي نفوذ الاستيلاد الخلاف في استيلاد الراهن ، لتعلق حق الموقوف عليه وأولى بالمنع هنا ، والله العالم.

المقصد الثاني في الصدقة :

قد عرفت مما قدمنا في سابق هذا المطلب أن الصدقة في الصدر الأول إنما تطلق بمعنى الوقف ، ولهذا ان الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) قد استندوا في كثير من أحكام الوقف الى الأخبار الواردة بلفظ الصدقة كما تقدم ذكره ، وحينئذ فالصدقة في الأخبار أعم من هذا المعنى المبحوث عنه من الوقف ، وقد يوجد فيها من القرائن ما يتعين به أحدهما ، وقد لا يوجد فيبقى محتملا لكل من الأمرين كما سيظهر لك ـ ان شاء الله تعالى ـ في البين.

وقد ذكر الأصحاب بأنه لا بد في الصدقة من العقد المشتمل على الإيجاب والقبول ، كما يعتبر في غيرها من العقود اللازمة.

أقول : إذا أريد بالقبول هو القبول القولي ففي فهمه من الأخبار إشكال ، لعدم ما يدل عليه فيها ، وان أريد الفعلي فهو المفهوم منها خاصة كما لا يخفى على المتدبر ، وستمر بك شطر منها ان شاء الله تعالى.

ومن شروطها القبض ، لكن باذن المالك عند الأصحاب ، فلو قبضها بغير اذنه لم ينتقل اليه ، قالوا : لان القبض المترتب عليه أثره ، هو المأذون فيه شرعا والمنهي عنه غير منظور اليه ، ونحوها غيرها من العقود المفتقرة إلى القبض ، كالوقف والهبة.

ومن شروطها أيضا القربة ، والظاهر أنه إجماعي ، وعليه تدل جملة من الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى ، حتى إذا حصل القبض بعد العقد المشتمل على التقرب بها امتنع الرجوع فيها على الأشهر الأظهر ، ونقل عن الشيخ أنه قال : ان صدقة التطوع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الأحكام ، ومن شروطها الإيجاب والقبول


ولا يلزم إلا بالقبض ، وكل من له الرجوع في الهبة له الرجوع في الصدقة عليه.

ورد بأن المقصود بالصدقة الأجر والثواب كما يدل عليه اشتراط القربة فيها ، وقد حصل فلا يجمع بين العوض والمعوض عنه ، ولو سلم مساواتها للهبة ، فإنها يمتنع أيضا الرجوع في الهبة مع التعويض فيها مطلقا بقربة أو غيرها.

وبالجملة فإن قول الشيخ ضعيف ، لدلالة الأخبار الآتية ـ ان شاء الله تعالى ـ على امتناع الرجوع مع القربة ، والواجب نقل ما وصل إلينا من الأخبار المتعلقة بالمقام ، والكلام فيها بما رزق الله تعالى فهمه منها ببركة أهل الذكر (عليهم الصلاة والسلام).

فمنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن أو الصحيح في الأول ، والموثق في الثاني ، عن حماد وهشام وابن أذينة وابن بكير وغيرهم (1) كلهم قالوا «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا صدقه ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله تعالى».

وعن زرارة (2) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان الصدقة محدثة ، إنما كان الناس على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ينحلون ويهبون ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع فيه ، قال : وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه ، نحلة كانت أو هبة ، حيزت أو لم تحز ، ولا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته» الحديث ،. ويأتي تمامه ـ ان شاء الله تعالى في مقصد الهبة.

قال المحدث الكاشاني في الوافي في ذيل هذا الخبر : الصدقة ما يعطى لله سبحانه ، والهبة والنحلة ما يعطى لأغراض أخر ، وأكثر ما يطلق النحلة فيما لا عوض له ، بخلاف الهبة ، فإنها عامة ، وقد تكون لله تعالى ، وكثيرا ما تطلق الصدقة على الوقف كما سيتبين فيما بعد ذلك ، لأن الوقوف انما تكون لله سبحانه وأكثر ما نسب الى نحو الدار والمضيفة على غير محصور ، فالمراد بها الوقف

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 30 ح 2 و 3، التهذيب ج 9 ص 151 ح 67 وص 152 ح 624 ، الوسائل ج 13 ص 320 ح 3 وص 320 ح 1 من باب 3.


لله سبحانه ، ولعل المراد بالحديث أن الناس كانوا على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يتصدق بعضهم على بعض إذا أرادوا معروفا فيما بينهم سوى الزكاة وما يعطى لأهل المسكنة ، بل كانوا يهبون وينحلون ، إما لإرادة تحصيل ملكة الجود أو إرادة سرور الموهوب له أو الإثابة منه أو غير ذلك ، وانما صدقة بعضهم على بعض في غير الزكاة والرحم المسكين أمر محدث ، يعني إطلاق هذه اللفظة في موضع الهبة والنحلة محدث ، لا يدرى ما يعنى به من يتفوه بها ، أيجعلها لله أم لا؟ ثم ان الصدقة حيث لا تكون إلا لله عزوجل فلا يجوز الرجوع فيها ، لأن ما يعطى لله وفي الله فلا رجعة فيه ، وذلك لأنه بمجرد إلا بأنه استحق الأجر وكتب له وما لم يعط لله وفي الله جاز الرجعة فيه إلا في مواضع مشتثناة كما يأتي ، انتهى.

أقول : الظاهر ان المراد بقوله عليه‌السلام إنما الصدقة محدثة إنما هو بمعنى أن إطلاق الصدقة على هذا المعنى المشهور الآن ، المشروط بالشروط المتقدمة أمر محدث لم يكن في زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانما الذي في زمنه النحل والهبات والصدقة يومئذ إنما تستعمل بمعنى الوقف ، كما في صدقات علي عليه‌السلام وفاطمة والكاظم (صلوات الله عليهما) المتقدم جميع ذلك ، الا أن المراد ما ذكره من أن إطلاق هذه اللفظة في موضع الهبة والنحلة محدث ، ويشير الى ما قلناه ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبيدين زرارة (1) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدق بصدقة؟ إله أن يرجع في صدقته؟ فقال : ان الصدقة محدثة انما كان النحل والهبة ، ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز ، ولا ينبغي لمن اعطى شيئا لله أن يرجع فيه».

فان الخبر كما ترى ظاهر في أن السؤال انما هو عن الصدقة المعهودة ، وقد أجاب عليه‌السلام بأن الصدقة بهذا المعنى أمر محدث ، وانما المستعمل يومئذ النحل والهبة ، ثم أجاب بأن من من أعطى لله يعنى قرن عطيته بالقربة صدقة كانت أو هبة

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 30 ح 4 ، التهذيب ج 9 ص 153 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 342 ح 1.


أو نحلة فإنه لا ينبغي الرجوع فيه ، أي لا يجوز ، فان لفظ لا ينبغي ، في هذه الأخبار بمعنى التحريم كما سيظهر لك ـ ان شاء الله تعالى ـ وأما قوله عليه‌السلام «أنه يجوز الرجوع لمن وهب أو نحل حيز أو لم يحز» فالمراد به مع عدم القربة كما ينبه عليه قوله في الخبر الذي قبله «وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تحز» ونحو هذا الخبر ، فيما ذكرنا ما تقدم في سابقه من قوله عليه‌السلام : «ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع فيه.»

وكيف كان فالخبر الأول صريح في اشتراط الصدقة بالقربة ، الا أنه أعم من الصدقة بالمعني المذكور ، أو الوقف ، والأخيران ظاهران في عدم جواز الرجوع مع القربة.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم (1) في الصحيح «عن أحدهما عليهما‌السلام ورواه الشيخ بسند آخر عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه سئل عن رجل كانت له جارية فآذته امرأته فيها فقال : هي عليك صدقة ، فقال : ان كان قال ذلك لله فليمضها ، وان لم يقل : فله أن يرجع ان شاء فيها». وهذا الخبر ظاهر فيما ذكره الأصحاب مع أنه مع القربة فلا يجوز له الرجوع.

وفيه رد لما تقدم نقله عن الشيخ (رحمه‌الله) ولكن يجب تقييده بحصول القبض الذي هو شرط لزوم الصدقة كما ستعرف ان شاء الله تعالى ، والصدقة في هذا الخبر ظاهرة في المعنى المعهود ، ولا مجال لحملها على الوقف ، وعن جميل في الحسن (2) أو الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل يتصدق على ولده بصدقة وهم صغار إله أن يرجع فيها؟ قال : لا الصدقة لله عزوجل».

والتقريب فيه ما تقدم في سابقه إلا أن لفظ الصدقة هنا محتمل للحمل على المعنى المعهود والحمل على الوقف ، لكن الأصحاب يخصونه بالأول حيث أن القربة عندهم غير مشترطة في الوقف على المشهور.

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 32 ح 12 ، التهذيب ج 9 ص 151 ح 64.

(2) الكافي ج 7 ص 31 ح 5 ، التهذيب ج 9 ص 135 ح 15.

وهما في الوسائل ج 13 ص 319 ح 1 وص 298 ح 2.


ومنها ما رواه الشيخان المتقدمان عن السكوني (1) عن أبي جعفر عليه‌السلام ورواه الصدوق والشيخ أيضا عن عبيد بن زرارة (2) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال في رجل تصدق على ولد له قد أدركوا فقال : إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث ، فان تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأن والده هو الذي يلي أمرهم ، وقال عليه‌السلام : لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله عزوجل».

أقول : وهذا الخبر أيضا محتمل للحمل على المعنيين المتقدمين ، ولهذا ان الأصحاب قد إ به على اشتراط القبض في الوقف ، وأنه مع عدم القبض يبطل ويرجع ميراثا ، واللازم من ذلك اشتراط القربة في الوقف كما صرح به في آخر الخبر ، مع أن المشهور بينهم عدمه ، ومن ثم ناقشهم في الاستدلال به صاحب المسالك ، كما تقدم في مقصد الوقف ، والظاهر هو الاشتراط في الموضعين ، والمراد من الجواز في قوله «فهو جائز» يعنى واقع صحيح.

ومنها ما روياه عن الحكم بن أبي عقيلة (3) قال : «تصدق علي أبي بدار وقبضتها ثم ولد له بعد ذلك أولاد فأراد أن يأخذها مني ويتصدق بها عليهم ، فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك فأخبرته بالقصة فقال : لا تعطها إياه ، قلت : فإنه إذا يخاصمني قال : فخاصمه ولا ترفع صوتك على صوته».

وما رواه في الفقيه عن موسى بن بكر عن الحكم (4) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان والدي تصدق علي بدار ثم بدا له أن يرجع فيها ، وان قضاتنا يقضون لي بها فقال : نعم ما قضت به قضاتكم ولبئس ما صنع والدك إنما الصدقة لله عزوجل ، فما جعل لله فلا رجعة فيه له ، وان أنت خاصمته فلا ترفع عليه

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 31 عن محمد بن مسلم ح 7 التهذيب ج 9 ص 145 ح 52 ، الوسائل ج 13 ص 297 ح 1.

(2) الكافي ج 7 ص 299 ح 5 ، الفقيه ج 4 ص 182 ح 20. الوسائل ج 13 ص 299 ح 5.

(3) الكافي ج 7 ص 33 ح 18 ، التهذيب ج 9 ص 136 ح 20 الوسائل ج 18 ص 224 ح 1.

(4) الفقيه ج 4 ص 183 ح 22. الوسائل ج 13 ص 316 ح 1.


صوتك ، وان رفع صوته فاخفض أنت صوتك قلت له : فإنه قد توفي قال : فأطب بها».

أقول : وهذان الخبران بضم أحدهما إلى الآخر صريحان في أنها بالقبض والقربة لا يصح الرجوع فيها حسب ما صرح به الأصحاب ، والخبر الأول وان كان مجملا بالنسبة إلى القربة ، إلا أن الثاني صريح في أن العلة في عدم صحة الرجوع بعد القبض هو التقرب الى الله سبحانه ، وأن الصدقة لا تكون الا مع القربة ، وهي ظاهرة في اشتراط القبض والقربة كما قدمنا ذكره ، والظاهر أن الصدقة فيهما بالمعنى المبحوث عنه.

بقي الكلام فيما اشترطه الأصحاب (رحمهم‌الله) في اذن المالك في صحة القبض ، فان الروايات خالية منه ، وما ذكروه من التعليل المتقدم ذكره مع كونه لا يصلح لتأسيس حكم شرعي لا يخلو من مناقشة أيضا ، قوله «ان القبض المترتب عليه أثره يعني لزوم العقد هو المأذون فيه شرعا» مدخول بأنه بعد العقد وقصد التقرب فيه لله سبحانه ، فإنه يحصل به الانتقال الى من تصدق به عليه ، فإذا قبضه فقد قبض حقا شرعيا انتقل اليه بالعقد الشرعي ، والأذن الشرعي حاصل على هذا التقدير كما لا يخفى ، لأنه لم يتعد في قبضه ، ويؤيده قوله في الرواية الأولى تصدق علي بدار وقبضتها ، فإنه أعم من أن يكون المالك أقبضه أو قبض بنفسه ، وبالجملة فالأصل العدم حتى يقوم دليل على هذا الشرط.

ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (1) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): إنما مثل الذي يرجع في صدقته كالذي يرجع في قيئه». وعن جراح المدائني (2) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه قال : في الرجل يرتد في الصدقة قال : كالذي يرتد في قيئه». وعن عبد الله بن سنان (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدق بالصدقة ثم يعود في صدقته فقال :

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 155 ح 12. الوسائل ج 13 ص 316 ح 4.

(2 و 3) التهذيب ج 9 ص 155 ح 11 وص 151 ح 65.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 316 ح 4 و 2 وص 317 ح 5.


قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : إنما مثل الذي يتصدق بالصدقة ثم يعود فيها مثل الذي يقي ثم يعود في قيئه».

أقول : وهذه الأخبار كما ترى صريحة في عدم جواز الرجوع في الصدقة بعد حصول الشروط المتقدمة ، وفيها مع ما تقدم من أخبار الدار رد على ما تقدم نقله عن الشيخ من جواز الرجوع ، وقد تقدمت جملة من الأخبار بلفظ الصدقة في أحكام الوقف ، واستدل به على تلك الأحكام ، ومنها ما هو صريح في الوقف ، ومنها ما هو محتمل لذلك ، ولكن الأصحاب فهموا منها الحمل على الوقف ، والذي يتلخص من النظر في الأخبار والجمع بينها وان لم يذهب إليه أحد من علمائنا الأبرار هو أن الصدقة أعم من المعنى المبحوث عنه هنا ، ومن الوقف ، وكل من الأمرين مشترط بالقبض والقربة ، وعدم جواز الرجوع بعد استكمال الشروط ، لكن متى قرنت بالدوام تمحضت المحمل على الوقف ، أو كانت الصدقة على جهة من الجهات أو مصلحة من المصالح المتقدمة ، فإنها يختص بالوقف أيضا ، وما عدا هما فهو قد تشتمل على ما تختص بالصدقة بالمعنى المبحوث عنه ، وقد يكون محتملا للأمرين كما عرفت ، والله العالم.

تنبيهات :

الأول ـ قال الشيخ في النهاية : ما تصدق به الإنسان لوجه الله تعالى لا يجوز أن يعود إليه بالبيع والهبة والشراء ، فان رجع إليه بالميراث كان جائزا ، وبنحو ذلك صرح الشيخ المفيد (عطر الله تعالى مرقده) ومنع ابن إدريس من تحريم العود لعدم الدلالة عليه ، فان المتصدق عليه قد ملك العين فله بيعها على من شاء من المتصدق وغيره ، قال : وقد رجع في الخلاف فقال في كتاب الزكاة : يكره للإنسان أن يشتري ما أخرجه في الصدقة ، ثم تعجب من كلام الشيخ في الموضعين ، وظاهر المشهور بين الأصحاب الجواز على كراهة ، وعليه حمل في المختلف كلام الشيخ ، قال : لأنه يطلق لفظ لا يجوز على المكروه كثيرا.


أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بما ذكر ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن منصور بن حازم (1) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان تصدقت بصدقة لم ترجع إليك ولم تشترها الا أن تورث».

وما رواه الشيخ عن منصور بن حازم (2) (قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام) إذا تصدق الرجل بصدقة لم يحل له أن يشتريها ولا يستوهبها ولا يستردها إلا في الميراث». وما رواه الشيخ عن علي بن إسماعيل عمن ذكره (3) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يخرج الصدقة يريد أن يعطيها السائل فلا يجده قال : فليعطها غيره ولا يردها في ماله».

وعن محمد بن مسلم (4) في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إذا تصدق الرجل على ولده بصدقة فإنه يرثها ، وإذا تصدق بها على وجه يجعله لله فإنه لا ينبغي له.

وعن طلحة (5) «عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : من تصدق بصدقة ثم ردت عليه فلا يأكلها ، فإنه لا شريك لله عزوجل في شي‌ء فيما جعل له ، انما هو بمنزلة العتاقة لا يصلح ردها بعد ما يعتق».

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن إسماعيل الجعفي (6) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام من تصدق بصدقة فردها عليه الميراث فهي له».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح في الثاني عن محمد بن مسلم (7) «عن أحدهما عليهما‌السلام في الرجل يتصدق بصدقة أيحل له أن يرثها؟ قال : نعم».

وعن أبى الجارود (8) قال : «أبو جعفر عليه‌السلام لا يشترى الرجل ما تصدق به» الحديث.

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 31 ح 8 ، التهذيب ج 9 ص 150 ح 61.

(3) التهذيب ج 9 ص 157 ح 24.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 319 ح 5 وص 318 ح 1 وص 317 ح 6.

(4 و 5) التهذيب ج 9 ص 151 ح 63 وص 152 ح 69.

(6) التهذيب ج 9 ص 150 ح 60 ، الفقيه ج 4 ص 184 ح 26.

(7) الكافي ج 7 ص 32 ح 15 ، التهذيب ج 9 ص 151 ح 62.

(8) التهذيب ج 9 ص 134 ح 14 ، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 319 ح 5 وص 318 ح 1 و 4 و 2 وص 316 ح 3.


وأنت خبير بأن ما هو المشهور من الجواز في غير الميراث وان كان على كراهية هو الأوفق بمقتضى الأدلة العقلية ، لأنه بانتقاله الى ملك المتصدق عليه تصير كسائر أمواله في بيعه أو هبته أو نحو ذلك على المتصدق أو غيره ، لكن هذه الأخبار كما عرفت قد اتفقت من غير معارض على المنع من ذلك.

ومنها ما هو صريح في التحريم مثل قوله لا يحل في الرواية الثانية معللا ذلك في رواية طلحة بأنه لا شريك لله فيما جعل له ، بمعنى أنه بعد ان أخرجها عن نفسه لله سبحانه فتصرفه فيها بعد الانتقال اليه ببيع أو هبة أو نحوهما مستلزم لذلك ، وأن الصدقة بمنزلة العتق لله سبحانه ، لا تصلح رده لمن أعتقه بوجه من الوجوه ، وينبغي تخصيصه بغير الرد بالميراث كما دلت عليه الأخبار الباقية ، وبالجملة فالمسئلة غير خالية من شوب الأشكال.

وظاهر كلام الشيخين انما هو التحريم ، والروايات كما ترى ظاهرة فيه ، ولا معارض لها الا ما عرفت من الدليل العقلي ، والخروج عنها بمجرد ذلك مشكل وكم مثل ذلك في الأخبار ، ثم لا يخفى على من جاس خلال الديار.

بقي هنا اشكال آخر أيضا وهو أن أكثر هذه الأخبار قد صرحت باستثناء الميراث من الكراهة والتحريم على القول به ، وظاهر صحيحة محمد بن مسلم تخصيص الإرث بما إذا لم يكن تلك الصدقة على وجه يجعله لله ، فلو كانت الصدقة لله سبحانه فإنه لا ينبغي له أن يتصرف فيها بالإرث أيضا ، وتقييد تلك الروايات الكثيرة بهذه الرواية بأن تحمل تلك الروايات على أن الصدقة خالية من التقرب كما احتمله في الوافي وجعله وجها للجمع بين الأخبار في غاية البعد.

وكيف لا والصدقة بدون شرط القربة غير لازمة فله الرجوع فيها شرعا فضلا أن يشتريها ويتهبها ، ورواية طلحة قد عللت عدم الجواز بالتقرب في الصدقة بمعنى أن العلة في عدم جواز اتباعها واتهابها من حيث انه أخرجها لله سبحانه.

وبالجملة فبعده أظهر من أن يخفى على الناظر المتأمل في هذه الأخبار فهي مرجوعة إلى قائليها (صلوات الله عليهم) ، والله العالم.


الثاني : لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تحريم الصدقة أعني الزكاة المفروضة على بنى هاشم إلا في حال الاضطرار ، وانما الخلاف هنا في مقامين أحدهما ـ في الصدقة الواجبة غير الزكاة كالمنذورة والكفارة ونحوهما ، فظاهر إطلاق جملة من الأصحاب التحريم.

وقال في المسالك : لا خلاف في تحريم الصدقة الواجبة على بنى هاشم في الجملة عدا ما استثنى ، ولكن اختلفوا في عمومها وتخصيصها بالزكاة ، والأكثر أطلقوا كالمصنف ، وكذلك ورد تحريم الصدقة من غير تفصيل ، فيعم ، ولكن ظاهر جملة من الأخبار أن الحكم مختص بالزكاة ، فيكون ذلك تقييدا لما أطلق منها ، انتهى وهو جيد.

ومن الروايات التي أشار إليها بأنها دالة على الاختصاص بالزكاة صحيحة زرارة وأبى بصير ومحمد بن مسلم (1) «عن أبى جعفر عليه‌السلام وأبى عبد الله عليه‌السلام قالا : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ان الصدقة أو ساخ أيدي الناس ، وأن الله حرم علي منها ومن غيرها ما قد حرمه ، فإن الصدقة لا تحل لبني عبد المطلب» الحديث. فان التعليل بالأوساخ ظاهر في الزكاة لأنها مطهرة للمال.

وأصرح منها في ذلك صحيحة إسماعيل بن الفضل الهاشمي (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصدقة التي حرمت على بنى هاشم ما هي؟ فقال : هي الزكاة قلت : فتحل صدقة بعضهم على بعض ، قال : نعم».

ورواية زيد الشحام (3) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الصدقة التي حرمت عليهم ما هي؟ فقال : الزكاة المفروضة».

وأما ما أشار إليه من الروايات التي وردت بتحريم الصدقة من غير تفصيل

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 58 ح 58 ، الوسائل ج 6 ص 186 ح 2.

(2) الكافي ج 4 ص 59 ح 5 ، الوسائل ج 6 ص 190 ح 5.

(3) الوسائل ج 6 ص 190 ح 4.


فمنها صحيحة جعفر بن إبراهيم الهاشمي (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : أتحل الصدقة لبني هاشم؟ فقال : انما تلك الصدقة الواجبة على الناس لا تحل لنا ، فأما غير ذلك فليس به بأس ، ولو كان كذلك ما استطاعوا أن يخرجوا إلى مكة هذه المياه عامتها صدقة».

ونحوها غيرها وطريق الجمع حمل إطلاق هذه الأخبار على ما دلت عليه تلك الأخبار من التقييد بالزكاة صراحتها في ذلك ، وبه يظهر ضعف قول من ذهب الى العموم ، وان نسب إلى الأكثر.

وثانيها في الصدقة المستحبة والمشهور بين الأصحاب (رحمهم‌الله الجواز) ونسبه في المنتهى الى علمائنا ، وأكثر العامة ، وخالف في التذكرة فذهب الى التحريم ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في كتاب الزكاة (2).

الثالث : قد صرح جملة من الأصحاب بأنه تجوز الصدقة على الذمي وان كان أجنبيا ، لقوله (3) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «على كل كبد حرى أجر». ولقوله تعالى (4) «لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ».

وهذا هو المشهور ونقل في الدروس عن الحسن بن أبى عقيل المنع من الصدقة على غير المؤمن مطلقا ، وظاهر بعض الأصحاب أن الخلاف في الصدقة على الذمي كالخلاف في الوقف عليه ، وقد تقدم الكلام في الوقف عليه ، والخلاف في ذلك.

والذي وقفت عليه من الروايات المتعلقة بهذا المقام ما رواه في الكافي عن سدير الصيرفي (5) في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أطعم سائلا لا أعرفه

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 59 ح 3 ، الوسائل ص 189 الباب 31 ح 3.

(2) ج 12 ص 217.

(3) هامش الجامع الصغير ج 2 ص 66 ، المستدرك ج 2 ص 546 ، الكافي ج 4 ص 58 وفيه ان الله يحب إبراد الكبد الحريّ ومن سقى كبدا حرى من بهيمة أو غيرها أظله الله يوم لا ظل الا ظله ، الوسائل ج 6 ص 284 ح 1.

(4) سورة الممتحنة ـ الاية 8.

(5) الكافي ج 4 ص 13 ح 1 ، الوسائل ج 6 ص 288 ح 3.


مسلما؟ فقال : نعم أعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة للحق ان الله تعالى يقول : «وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً» ولا تطعم من نصب لشي‌ء من الحق ، أو دعا إلى شي‌ء من الباطل ،. وهذه الرواية ظاهرة في جواز إعطاء المستضعفين الذين هم أحد أفراد المسلمين ، وهم أكثر الناس في الصدر الأول ، وقوله في الخبر لا أعرفه مسلما أي مؤمنا ، وقد حققنا في جملة من زبرنا وكتبنا سيما كتاب الشهاب الثاقب ، ان الناس في زمنهم عليهم‌السلام كانوا على أصناف ثلاثة مؤمن وكافر ومسلم ، والأول من عرف الإمامة ودان بها ، والثاني من جحدها وأنكرها ، والثالث من جهلها ويعبر عنه في الاخبار بمن لا يعرف ولا ينصب ، كما يشير اليه هذا الخبر ، ويؤيد ما قلناه ما رواه في الكافي عن المعلى بن خنيس (1) «قال خرج أبو عبد الله عليه‌السلام في ليلة قد رشت ، وهو يريد ظلة بنى ساعدة ما تبعته فإذا هو قد سقط منه شي‌ء فقال : بسم الله ، اللهم رد علينا قال فأتيته وسلمت عليه ، فقال : معلى قلت : نعم جعلت فداك فقال : التمس بيدك ، فما وجدت من شي‌ء فادفعه إلي فإذا أنا بخبز منتشر كثير فجعلت ادفع اليه ما وجدت ، الى ان قال فأتينا بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام فجعل يدس الرغيف والرغيفين حتى اتى على آخرهم ، ثم انصرف ، فقلت : جعلت فداك ، يعرف هؤلاء الحق؟ فقال : لو عرفوا لواسيناهم بالدقة والدقة هي الملح» الحديث ،. فان هؤلاء المذكورين ممن أشرنا إليهم بأنهم من المسلمين الذين لا يعرفون ولا ينصبون ، وفي هذين الخبرين رد لما تقدم نقله ، عن ابن أبى عقيل من منع الصدقة على غير المؤمن.

ومنها ما رواه في الكافي (2) عن عمرو بن ابى نصر ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ان أهل السواد يقتحمون علينا وفيهم اليهود والنصارى والمجوس ، فنتصدق عليهم قال : نعم. وهذا الخبر دال على ما هو المشهور بين الأصحاب عليه‌السلام مما قدمنا ذكره ، وفيه رد على ابن أبى عقيل أيضا.

__________________

(1) الوسائل ج 6 ص 284 ح 1. الكافي ج 4 ص 8 ح 3.

(2) الكافي ج 4 ص 14 ح 3.


وما رواه في الكافي عن عبد الله بن الفضل النوفلي (1) عن أبيه عن ابى عبد الله عليه‌السلام ورواه الصدوق مرسلا عن ابى عبد الله عليه‌السلام «انه سئل عن السائل يسأل ولا يدرى ما هو ، فقال : أعط من وقعت له الرحمة في قلبك ، وقال : أعط دون الدرهم ، قلت أكثر ما يعطى؟ قال أربعة دوانيق ، وفيه رد لما ذهب اليه ابن ابى عقيل ايضا.

وما رواه في الكافي ، عن منهال القصاب (2) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام أعط الكبير والكبيرة والصغير والصغيرة ومن وقعت له في قلبك رحمة وإياك وكل وقال بيده وهزها».

والمستفاد من هذه الأخبار هو جواز الصدقة على غير المؤمن من ذمي وغيره ، ولكن يعطى كما يعطى المؤمن وانما يعطى بقدر دفع الضرورة ، وقوله في هذا الخبر : وإياك وكل يعنى وكل ما تعطيه غيره من المؤمنين ، فهو في معنى الخبر الذي قبله ، والله العالم.

الرابع : قد استفاضت الأخبار بالحث على التصدق وما فيه من عظيم الأجر ودفع البلاء وجلب الرزق فروى في الكافي في الصحيح (3) «عن زرارة عن سالم بن أبي حفصة عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : ان الله تعالى يقول ما من شي‌ء إلا وقد وكلت به من يقبضه غيري إلا الصدقة فإني أتلقفها بيدي تلقفا حتى ان الرجل يتصدق بالتمرة أو بشق التمرة ، قال : فأربيها له كما يربى الرجل فلوه وفصيله فيأتي يوم القيامة وهو مثل أحد أو أعظم من أحد».

وروى في الكافي والفقيه مسندا في الأول عن إسحاق بن غالب (4) عمن حدثه عن ابي جعفر عليه‌السلام ومرسلا في الثاني عن ابي جعفر عليه‌السلام قال البر والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة السوء. قال في الكافي وفي

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 14 ح 2 ، الفقيه ج 2 ص 39 ح 16.

(2) الكافي ج 14 ص 2 باب الصدقة على أهل البوادي.

(3) الكافي ج 4 ص 47 ح 6.

(4) الكافي ج 4 ص 2 ح 2 ، الفقيه ج 2 ص 37 ح 2 وهذه الروايات في الوسائل ج 6 ص 289 ح 6 وص 288 ح 4 وص 283 ح 3 وص 255 ح 4.


خبر آخر ويدفعان عن شيعتي ميتة السوء. الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة المذكورة في الكتب الأربعة وغيرها.

الخامس : الأفضل في الصدقة ان تكون سرا وهل هو مخصوص بالمندوبة أو يشمل الواجبة؟ المشهور الأول ، واستثنى بعضهم من أفضلية الأسرار بها ان لا يكون منهما بترك المواساة فان إظهارها أفضل دفعا للتهمة ، والذي يدل على أفضلية السر قوله سبحانه «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» (1).

وما رواه في الكافي عن القداح (2) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليهما‌السلام قالا : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وعن عمار الساباطي (3) قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا عمار الصدقة والله في السر أفضل من الصدقة في العلانية ، وكذلك والله العبادة في السر أفضل منها في العلانية.

وظاهر الآية مع هذه الاخبار هو أفضلية السر مطلقا وإليها استند من قال بالعموم ، إلا انه روى في الكافي أيضا عن ابن بكير في الموثق (4) عن رجل عن ابى جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ» قال يعني الزكاة المفروضة قال : قلت «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» قال : يعني النافلة انهم كانوا يستحبون إظهار الفرائض وكتمان النوافل ، وعن إسحاق بن عمار (5) في الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» فقال هي سوى الزكاة فإن الزكاة علانية غير سر. وعن ابي بصير (6) في الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : وكل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره ،

__________________

(1) سورة البقرة ـ الاية 271.

(2) الكافي ج 4 ص 7 ح 1. الوسائل ج 6 ص 275 ح 2.

(3) الكافي ج 4 ص 8 ح 2 من باب فضل صدقة السر. الوسائل ج 6 ص 275 ح 3.

(4 و 5 و 6) الكافي ج 4 ص 60 ح 1 وص 502 ح 17 وص 499 ح 9. وهذه الروايات في الوسائل ج 6 ص 215 ح 3 و 2 وص 215 ح 1.


وما كان تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه ، ولو ان رجلا حمل زكاة ماله على عاتقه فقسمها علانية كان ذلك حسنا جميلا.

وما رواه العياشي في تفسيره (1) «عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئلته عن قول الله : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ، قال ليس تلك الزكاة ولكنه الرجل يتصدق لنفسه الزكاة علانية ليس بسر».

ومن هذه الأخبار يظهر تخصيص الآية وما في معناها من الأخبار بالصدقة المندوبة ، ويظهر ضعف القول بالعموم ، واما ما ذكروه من استحباب الإظهار في المندوبة لدفع التهمة عن نفسه بترك المواساة ، وكذا ما ذكره في المسالك من استحباب الإظهار أيضا لمتابعة الناس له في ذلك واقتدائهم به لما فيه من التحريص على نفع الفقراء فلم أقف فيه على دليل ، وإطلاق هذه الأخبار يدفعه ، وتخصيصها بهذه التعليلات العقلية غير مقول ، وعلل الإخفاء والاستتار في المندوبة بأنه أبعد من تطرق الرياء ، ولا بأس به بان يجعل وجها لما دلت عليه النصوص ، نعم ما ذكروه من استحباب الإعلان في الصورتين المذكورتين جيد في الواجبة التي يستحب الإعلان بها ، ويكون ذلك وجها للنصوص الدالة على الإعلان فيها ، والله العالم.

__________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 151 ح 499 ، الوسائل ج 6 ص 216 ح 9.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *