ج16 - الإحصار والصد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقصد الخامس

في الإحصار والصد

قال في القاموس : الحصر ـ كالضرب والنصر ـ : التضييق والحبس عن السفر وغيره. وقال : صد فلانا عن كذا : منعه. ونحوه نقل عن الجوهري. وقال في كتاب المصباح المنير : حصره العدو حصرا ـ من باب قتل ـ : أحاطوا به ومنعوه من المضي لأمره. وقال ابن السكيت وثعلب : حصره العدو في منزله : حبسه ، وأحصره المرض بالألف : منعه من السفر. وقال الفراء : هذا هو كلام العرب ، وعليه أهل اللغة. وقال ابن القوطية وأبو عمرو الشيباني : حصره العدو والمرض وأحصره ، كلاهما بمعنى حبسه. انتهى كلامه في المصباح. وقال في مادة «صد» : صددته عن كذا صدا ـ من باب قتل ـ : منعته وصرفته.

أقول : ظاهر كلام أهل اللغة مختلف في ترادف «حصر» و «أحصر» أو تغايرهما ، فظاهر ما نقله في المصباح ـ عن ابن القوطية وابي عمرو ـ الأول ، وما نقله عن ابن السكيت وثعلب والفراء ـ الثاني.



قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : المحصر اسم مفعول من «أحصر» إذا منعه المرض من التصرف ، ويقال للمحبوس : «حصر» بغير همز فهو محصور. وقال الفراء : يجوز ان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر. وخالفه أبو العباس المبرد والزجاج ، قال المبرد : نظيره «حبسه» جعله في الحبس ، و «احبسه» عرضه للحبس ، و «اقتله» عرضه للقتل ، وكذا «حصره» حبسه و «أحصره» عرضه للحصر. والفقهاء يستعملون اللفظين ـ اعني المحصر والمحصور ـ ههنا ، وهو جائز على رأي الفراء. انتهى.

والذي يظهر من ما قدمنا من كلامهم اتحاد الحصر والصد ، وانهما بمعنى المنع ، من عدو كان أو مرض. وهذا هو الذي عليه عامة فقهاء الجمهور (1) واما عند الإمامية ـ وهو الذي دلت عليه اخبارهم ـ فهو ان اللفظين متغايران ، وان الحصر هو المنع من تتمة أفعال الحج أو العمرة بالمرض ، والصد هو المنع بالعدو. قال العلامة في المنتهى : الحصر عندنا هو المنع من تتمة أفعال الحج ـ على ما يأتي ـ بالمرض خاصة ، والصد بالعدو ، وعند فقهاء المخالفين الحصر والصد واحد ، وهما من جهة العدو. انتهى. ونقل النيشابوري وغيره اتفاق المفسرين على ان قوله تعالى «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» (2) نزلت في حصر الحديبية (3). ويفترقان أيضا في ان المصدود يحل له بالمحلل جميع ما حرمه الإحرام حتى النساء ، دون المحصور فإنه يحل له ما عدا النساء. وفي مكان الذبح ، فالمصدود يذبحه في محل الصد ، والمحصور

__________________

(1 و 3) المغني ج 3 ص 321 الى 328 طبع مطبعة العاصمة.

(2) سورة البقرة الآية 195.


يبعث به الى مكة فيذبح بها ان كان الصد في العمرة ، أو الى منى ان كان في الحج. وسيجي‌ء تفصيل الكلام في ذلك ان شاء الله تعالى.

ومن الاخبار الدالة على تغايرهما ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (1) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : المحصور غير المصدود ، وقال : المحصور هو المريض ، والمصدود هو الذي رده المشركون ، كما ردوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ليس من مرض. والمصدود تحل له النساء ، والمحصور لا تحل له النساء». ورواه الكليني بطريقين صحيحين عن معاوية بن عمار مثله (2) ورواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار مثله (3).

ورواه في المقنع مرسلا (4) ثم قال : والمحصور والمضطر يذبحان بدنتيهما في المكان الذي يضطران فيه ، وقد فعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذلك يوم الحديبية حين رد المشركون بدنته وأبوا ان تبلغ المنحر ، فأمر بها فنحرت مكانه.

وما رواه في الكافي في الموثق عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (5) قال : «المصدود يذبح حيث صد ، ويرجع صاحبه فيأتي النساء. والمحصور يبعث بهديه فيعدهم يوما ، فإذا بلغ الهدي أحل هذا في مكانه. قلت : أرأيت ان ردوا عليه دراهمه ولم يذبحوا عنه وقد أحل فأتى النساء؟ قال : فليعد وليس عليه شي‌ء ، وليمسك الآن عن النساء إذا بعث».

__________________

(1) التهذيب ج 5 ص 423 و 464 ، والوسائل الباب 1 من الإحصار والصد.

(2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 1 من الإحصار والصد.


وما رواه في الكافي (1) في الصحيح عن احمد بن محمد بن ابي نصر قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن محرم انكسرت ساقه ، أي شي‌ء يكون حاله؟ وأي شي‌ء عليه؟ قال : هو حلال من كل شي‌ء. قلت : من النساء والثياب والطيب؟ فقال : نعم من جميع ما يحرم على المحرم. ثم قال : اما بلغك قول ابي عبد الله (عليه‌السلام) : حلني حيث حبستني لقدرك الذي قدرت علي؟. قلت : أخبرني عن المحصور والمصدود هما سواء؟ فقال : لا. قلت : فأخبرني عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حين صده المشركون ، قضى عمرته؟ قال : لا ولكنه اعتمر بعد ذلك».

وما رواه في الكافي (2) في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن رجل أحصر فبعث بالهدي. قال : يواعد أصحابه ميعادا ، ان كان في الحج فمحل الهدي يوم النحر ، فإذا كان يوم النحر فليقص من رأسه ، ولا يجب عليه الحلق حتى يقضي المناسك ، وان كان في عمرة فلينظر مقدار دخول أصحابه مكة والساعة التي يعدهم فيها ، فإذا كان تلك الساعة قصر وأحل. وان كان مرض في الطريق بعد ما أحرم فأراد الرجوع رجع الى اهله ونحر بدنة ، أو أقام مكانه حتى يبرأ إذا كان في عمرة ، وإذا بري‌ء فعليه العمرة واجبة ، وان كان عليه الحج رجع أو أقام ففاته الحج ، فان عليه الحج من قابل ، فان الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) خرج معتمرا فمرض في الطريق ، فبلغ عليا (عليه‌السلام) ذلك

__________________

(1) ج 4 ص 369 ، والوسائل الباب 1 و 8 من الإحصار والصد.

(2) ج 4 ص 369 ، والوسائل الباب 2 من الإحصار والصد.


وهو في المدينة فخرج في طلبه ، فأدركه بالسقيا وهو مريض بها ، فقال : يا بني ما تشتكي؟ فقال : اشتكي رأسي. فدعا علي (عليه‌السلام) ببدنة فنحرها ، وحلق رأسه ، ورده إلى المدينة ، فلما بري‌ء من وجعه اعتمر قلت : أرأيت حين بري‌ء من وجعه قبل ان يخرج إلى العمرة حلت له النساء؟ قال : لا تحل له النساء حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة. قلت : فما بال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حين رجع من الحديبية حلت له النساء ولم يطف بالبيت؟ قال : ليسا سواء ، كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مصدودا والحسين (عليه‌السلام) محصورا». ورواه الشيخ في التهذيب (1) في الصحيح عن معاوية بن عمار عنه (عليه‌السلام) مثله على اختلاف في ألفاظه. وزاد بعد قوله : «فان عليه الحج من قابل» «فان ردوا الدراهم عليه ولم يجدوا هديا ينحرونه وقد أحل لم يكن عليه شي‌ء ولكن يبعث من قابل ويمسك ايضا».

الى غير ذلك من الاخبار الآتي جملة منها ان شاء الله تعالى.

إذا عرفت ذلك فتفصيل الكلام في هذا المقام يقتضي بسطه في مطلبين :

الأول ـ في المصدود ، من صد بالعدو بعد تلبسه بالإحرام ولا طريق له غيره ، أو كان وقصرت نفقته عنه ، تحلل بالإجماع.

وتفصيل هذه الجملة انه إذا تلبس بالإحرام ـ لحج كان أو لعمرة ـ تعلق به وجوب الإتمام إجماعا ، لقوله (عزوجل) (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) (2). ولو صد في إحرامه ذلك عن الوصول إلى مكة أو الموقفين

__________________

(1) ج 5 ص 421 و 422 ، والوسائل الباب 2 من الإحصار والصد.

(2) سورة البقرة ، الآية 195.


ولا طريق غير موضع العدو ، أو كان ولا نفقة لسلوكه ، ذبح هديه أو نحره بمكان الصد بنية التحلل ، فيحل على الإطلاق سواء كان في الحرم أو خارجه ، ولا ينتظر في إحلاله بلوغ الهدي محله ، ولا يراعى زمانا ولا مكانا في إحلاله. وانما اعتبرنا نية التحلل لان الذبح يقع على وجوه متعددة ، والفعل متى كان كذلك فلا ينصرف إلى أحدها إلا بقصده ونيته ، كما تقدم تحقيق ذلك بما لا مزيد عليه في كتاب الطهارة في بحث نية الوضوء. هذا هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله ـ تعالى ـ عليهم).

قال في المختلف : واليه ذهب الشيخان ، وابن البراج ، وابن حمزة ، وسلار ، وابن إدريس ، وهو الظاهر من كلام علي بن بابويه ، حيث قال : وإذا صد رجل عن الحج وقد أحرم ، فعليه الحج من قابل ولا بأس بمواقعة النساء ، لانه مصدود ، وليس كالمحصور. وقال أبو الصلاح : وإذا صد المحرم بالعدو أو أحصر بالمرض عن تأدية المناسك ، فلينفذ القارن هديه ، والمتمتع والمفرد ما يبتاع به شاة فما فوقها ، فإذا بلغ الهدي محله ـ وهو يوم النحر ـ فليحلق رأسه ، ويحل المصدود بالعدو من كل شي‌ء أحرم منه. وقال ابن الجنيد : وإذا كان المصدود سائقا فصدت بدنته ايضا ، نحوها حيث صدت ، ورجع حلالا من النساء ومن كل شي‌ء أحرم منه ، فان منع هو ولم يمنع وصول بدنته إلى الكعبة ، أنفذ هديه مع من ينحره واقام على إحرامه إلى الوقت الذي يواعد فيه نحرها. وقال الشيخ في الخلاف! إذا أحصر بالعدو جاز ان يذبح هديه مكانه ، والأفضل ان ينفذ به الى منى أو مكة.


أقول : ما نقله في المختلف عن ابن إدريس ـ من قوله بالقول المشهور ـ صحيح بالنظر الى صدر عبارته في السرائر ، إلا ان كلامه في آخرها يشعر بالعدول عنه ، حيث قال : قال محمد بن إدريس : واما المصدود فهو الذي يصده العدو عن الدخول إلى مكة والوقوف بالموقفين فإذا كان ذلك ذبح هديه في المكان الذي صد فيه سواء كان في الحرم أو خارجه ، لان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صده المشركون بالحديبية ـ اسم بئر ـ وهو خارج الحرم ، يقال : الحديبية بالتخفيف والتثقيل وسألت ابن العصار الفوهي (1) فقال : أهل اللغة يقولونها بالتخفيف وأصحاب الحديث يقولونها بالتشديد. وخطه عندي بذلك ، وكان إمام اللغة ببغداد. ولا ينتظر في إحلاله بلوغ الهدي محله ، ولا يراعي زمانا ولا مكانا في إحلاله. فإذا كان قد ساق هديا ذبحه ، وان كان لم يسق هديا ، فإذا كان اشترط في إحرامه ان عرض له عارض يحله حيث حبسه ، فليحل ولا هدي عليه ، وان لم يشترط فلا بد من الهدي وبعضهم يخص وجوب الهدي بالمحصور لا بالمصدود. وهو الأظهر ، لأن الأصل براءة الذمة. ولقوله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (2) أراد به المرض ، لانه يقال : «أحصره المرض وحصره العدو» ويحل من كل شي‌ء أحرم منه ، من النساء وغيره ، اعني : المصدود بالعدو. انتهى. وعلى هذا فالأولى نقل ما اختاره في جملة

__________________

(1) كذا في السرائر المطبوع باب حكم المحصور والمصدود ، وفي هامشه هكذا : (اللغوي خ ل) ، وفي كتب التراجم هكذا : (ابن العصار الرقي اللغوي) كما في إنباء الرواة ج 2 ص 291 وبغية الوعاة ج 2 ص 175.

(2) سورة البقرة ، الآية 195.


الأقوال المخالفة للقول المشهور.

والظاهر هو القول المشهور. ويدل على ذلك ما تقدم في موثقة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) من قوله : «المصدود يذبح حيث صد ويرجع صاحبه فيأتي النساء ، والمحصور يبعث بهديه. الى آخره».

وما رواه الصدوق (قدس‌سره) مرسلا (2) قال! «قال الصادق (عليه‌السلام) : المحصور والمضطر ينحران بدنتهما في المكان الذي يضطران فيه».

وما رواه في الكافي (3) عن حمران عن ابي جعفر (عليه‌السلام) قال : «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حين صد بالحديبية قصر وأحل ونحر ثم انصرف منها ، ولم يجب عليه الحلق حتى يقضي النسك فاما المحصور فإنما يكون عليه التقصير».

وروى الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (4) قال : «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث صده المشركون يوم الحديبية نحر بدنة ورجع الى المدينة».

وهذه الاخبار ـ كما ترى ـ صريحة في كون الحكم الشرعي في المصدود هو التحلل بذبح أو نحر نسكه في محل الصد ، ثم الرجوع محلا.

وقال في المدارك! وهذا الحكم ـ اعني : توقف التحلل على ذبح

__________________

(1) الوسائل الباب 1 من الإحصار والصد.

(2) الفقيه ج 2 ص 305 ، والوسائل الباب 6 من الإحصار والصد.

(3) ج 4 ص 368 ، والوسائل الباب 6 من الإحصار والصد.

(4) التهذيب ج 5 ص 424 ، والوسائل الباب 9 من الإحصار والصد رقم 5.


الهدي ناويا به التحلل ـ مذهب الأكثر. واستدل عليه في المنتهى بقوله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (1). وبان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث صده المشركون يوم الحديبية نحر بدنة ثم رجع الى المدينة (2). قال : وفعله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بيان للواجب ، فيكون واجبا. وقد يقال : ان مورد الآية الشريفة الحصر ، وهو خلاف الصد على ما ثبت بالنص الصحيح. وفعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يثبت كونه بيانا للواجب ، وبدون ذلك يحتمل الندب. وقال ابن إدريس : يتحلل المصدود بغير هدي ، لأصالة البراءة. ولأن الآية الشريفة إنما تضمنت الهدي في المحصور وهو خلاف المصدود. وقال في الدروس : ويدفعه صحيحة معاوية بن عمار (3) : «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حين صده المشركون يوم الحديبية نحر وأحل». ويتوجه عليه ما سبق. وبالجملة فالمسألة محل اشكال ، وان كان المشهور لا يخلو من رجحان ، تمسكا باستصحاب حكم الإحرام الى ان يعلم حصول المحلل. وتؤيده رواية زرارة. ثم أورد موثقته التي قدمناها ، ثم أورد مرسلة ابن بابويه التي قدمناها أيضا.

أقول : الظاهر ان هذه المناقشة من المناقشات الواهية ، فإن الظاهر من كلام العلامة في المنتهى ان الحكم بذلك مجمع عليه بين الخاصة والعامة ، حيث لم ينقل فيه الخلاف إلا عن مالك ، قال (قدس‌سره) : وإنما يتحلل المصدود بالهدي ونية التحلل معا ، اما الهدي فقد أجمع

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 195.

(2 و 3) التهذيب ج 5 ص 424 ، والوسائل الباب 9 من الإحصار والصد رقم 5.


عليه أكثر العلماء ، وحكى عن مالك انه لا هدي عليه (1) لنا : قوله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (2) قال الشافعي : لا خلاف بين أهل التفسير ان هذه الآية نزلت في حصر الحديبية (3) ولأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث صده المشركون. الى آخر ما نقله. وبذلك يظهر انه لا مخالف إلا ما يظهر من كلام ابن إدريس ونقله ذلك عن بعضهم.

واما قوله ـ : ان مورد الآية الشريفة الحصر ، وهو خلاف الصد على ما ثبت بالنص الصحيح ـ ففيه ان التحقيق ان يقال : ان المراد من الحصر في الآية الشريفة انما هو المعنى اللغوي الذي قدمنا نقله عن جملة أهل اللغة الشامل للحصر والصد ، وهو عبارة عن مطلق المنع بعد وكان أو مرض أو نحوهما. والفرق بين المصدود والمحصر انما هو عرف خاص عندهم (صلوات الله عليهم) كما نطقت به اخبارهم.

ويعضد ما ذكرناه من معنى الآية ما صرح به أمين الإسلام الطبرسي في كتاب مجمع البيان ، حيث قال : وقوله «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ» فيه قولان : أحدهما ان معناه : وان منعكم خوف أو عدو أو مرض فامتنعتم لذلك. عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء ، وهو المروي عن أئمتنا (عليهم‌السلام). والثاني ان معناه : ان منعكم حابس قاهر. عن مالك «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» : فعليكم ما سهل من الهدي أو فاهدوا ما تيسر من الهدي إذا أردتم الإحلال. انتهى كلامه (قدس‌سره). وبه يزول الإشكال في هذا المجال.

__________________

(1 و 3) المغني ج 3 ص 321 طبع مطبعة العاصمة.

(2) سورة البقرة ، الآية 195.


ويعضد ذلك ما نقله في المنتهى عن الشافعي ـ ونقله الشارح نفسه في صدر البحث عن النيشابوري ـ من إجماع المفسرين على ان نزول الآية المذكورة في حصر الحديبية (1).

وحينئذ فإذا ثبت ان المراد بالحصر في الآية المذكورة ما يشمل الصد بالمعنى المذكور فالله ـ سبحانه ـ قد أوجب فيه الهدي ، لقوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (2) أي فعليكم ، كما ذكره في المجمع. فالآية ظاهرة في المراد عارية عن وصمة الإيراد. وتعضدها الأخبار المتقدمة.

واما قوله ـ : وفعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يثبت كونه بيانا للواجب ـ فهو مردود بما تقدم تحقيقه في كتاب الطهارة ، في مسألة وجوب الابتداء في غسل الوجه بالأعلى ، من الوجوه التي ذكرناها ثمة حيث ان الآية دلت على الغسل بقول مطلق ، والوضوءات البيانية دلت على الابتداء بالأعلى. ومثله ما نحن فيه ، فان الآية قد دلت على ما تيسر من الهدي في مرض كان أو عدو كما عرفت ، والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قد فعله بيانا ، وهو الحافظ للشريعة والمبلغ لأحكامها.

هذا ما اراده العلامة (قدس‌سره) من وجه الاستدلال ، فإنه بني الكلام في الخبر على ما ذكره من معنى الآية ، لا ان المراد ما توهمه من ان مجرد فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أعم من الوجوب والندب.

ومع قطع النظر عن ما ذكرناه فان للمستدل ان يتمسك بما ذكره من استصحاب حال الإحرام ، والاستصحاب هنا دليل شرعي باتفاق الأصحاب ـ كما تقدم في مقدمات الكتاب ـ فان مرجعه الى عموم الدليل

__________________

(1) المغني ج 3 ص 321 طبع مطبعة العاصمة.

(2) سورة البقرة الآية 195.


وشموله لجميع الحالات إلا ما يخرج بدليل ، مثل قولهم : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر» (1). ونحوه ، فان الدليل هنا دل على عموم التحريم بعد انعقاد الإحرام لجميع ما علم تحريمه على المحرم حتى يثبت المحلل ، فالواجب عليه وعلى من يقول بقوله إثبات التحليل بمجرد الصد من غير هدي بالكلية ليتم له المراد ، ودونه خرط القتاد. وبالجملة فإن التمسك بذلك أقوى دليل في المقام ، وتخرج الاخبار شاهدة على الحكم المذكور ، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

ومع قطع النظر عن جميع ذلك فان لك ان تقول : ان الأحكام الشرعية أمور متلقاة من الشارع ، والذي ورد في الاخبار ـ سيما وقد اعتضد بالاتفاق عليه والإجماع ـ هو وجوب الهدي وتوقف التحليل عليه. وهذه المناقشة من ابن إدريس بناء على أصله الغير الأصيل وان أمكنت إلا انها من مثله (قدس‌سره) غير جيدة.

وقد أشار الى هذه المناقشة شيخه المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد حيث قال : ودليل التحلل بالذبح أو النحر الإجماع المنقول في المنتهى. ثم ذكر كلام المنتهى والاخبار ، الى ان قال في آخر الكلام : ومع ذلك يحتمل الرخصة. انتهى.

واما ما ذكره العلامة من الأقوال المخالفة للمشهور في المسألة فإنه لم ينقل عليه دليلا من طرف أحد من أولئك القائلين. ولم أقف في الاخبار على ما يدل على شي‌ء منها إلا على ما نقله عن الشيخ علي بن بابويه ، فإنه مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي ، ومنه يعلم انه مستنده

__________________

(1) ارجع الى الحدائق ج 1 ص 42 وج 5 ص 255.


حيث قال (عليه‌السلام) (1) : وان صد رجل عن الحج وقد أحرم فعليه الحج من قابل ، ولا بأس بمواقعة النساء ، لان هذا مصدود ، وليس كالمحصور. وظاهر هذا الكلام ربما أشعر بعدم وجوب الهدي وان التحلل يحصل بدونه ، كما ذهب اليه ابن إدريس ، الا ان غايته انه مطلق بالنسبة الى ذلك ، فيجب تقييده بما ذكرناه من الآية والروايات.

واما ما ذكره أبو الصلاح ـ من إنفاذ المصدود هديه كالمحصور ، وانه يبقى على إحرامه الى ان يبلغ الهدي محله ـ فترده الأخبار المتقدمة بالفرق بينهما في ذلك ، وان المصدود ينحر هديه في موضع الصد ويتحلل. ويأتي ما يؤيدها أيضا.

واما تفصيل ابن الجنيد في البدنة ـ بين إمكان إرسالها فيجب أو عدمه فينحرها في مكان الصد ـ ففيه انه ـ مع عدم الدليل على هذا التفصيل ـ مخالف لإطلاق الأخبار المتقدمة.

وتنقيح البحث في المسألة يتوقف على رسم مقالات الاولى ـ لو اتفق له طريق غير موضع الصد ، وكانت له نفقة تقوم به ، فظاهر الأصحاب الاتفاق على وجوب المضي عليه ولا يتحلل ، وان علم انه لا يدرك الحج. قالوا : اما وجوب المضي عليه في الصورة المذكورة فلعدم تحقق الصد يومئذ ، واما عدم جواز التحلل على هذا التقدير وان خشي الفوت فلأن التحلل بالهدي إنما يسوغ مع الصد والمفروض انه ليس بمصدود. وحينئذ فيجب عليه سلوك تلك الطريق الى ان يتحقق الفوات ، فيتحلل بعمرة كما هو شأن من فاته الحج. ويقضيه في السنة الأخرى ان كان واجبا من حجة الإسلام أو نذر غير معين.

__________________

(1) ص 29.


والا تخير ان كان مستحبا. وبالجملة فإنه بالتمكن من سلوك طريق غير الطريق التي صد عنها يكون خارجا عن افراد المصدود ، فان فاته الحج ترتبت عليه أحكام الفوات في غير هذه الصورة ، والا فلا.

الثانية ـ هل يشترط في جواز التحلل بالصد عدم رجاء زوال العذر؟ ظاهر كلام الأصحاب العدم ، حيث صرحوا بجواز التحلل مع ظن انكشاف العدو قبل الفوات.

قال المحقق (قدس‌سره) في الشرائع : إذا غلب على ظنه انكشاف العدو قبل الفوات جاز له التحلل لكن الأفضل البقاء على إحرامه.

قال شيخنا في المسالك! وجه الجواز تحقق الصد حينئذ فيلحقه حكمه ، وان كان الأفضل الصبر مع الرجاء فضلا عن غلبة الظن ، عملا بظاهر الأمر بالإتمام.

قال في المدارك بعد نقل ذلك : ولا ريب في أفضلية الصبر كما ذكره ، وانما الكلام في جواز التحلل مع غلبة الظن بانكشاف العدو قبل فوات الحج ، فان ما وصل إلينا من الروايات لا عموم فيه بحيث يتناول هذه الصورة ، ومع انتفاء العموم يشكل الحكم بالجواز.

أقول : لا ريب في ان إطلاق الاخبار المتقدمة شامل لما ذكره الأصحاب ، فإن التحلل فيها بذبح الهدي وقع معلقا على حصول الصد الشامل بإطلاقه لما لو ظن انكشاف العدو قبل الفوات وعدمه. وهذا هو الذي أشار إليه جده بقوله : «وجه الجواز تحقق الصد فيلحقه حكمه» بمعنى ان هذه الأحكام ترتبت على مطلق الصد وهو هنا مصدود فيلحقه حكمه.

قال في المدارك بناء على ما ذكره من المناقشة : ولو قيل بالاكتفاء


في جواز التحلل بظن عدم انكشاف العدو قبل الفوات كان حسنا.

أقول : قد بينا ان إطلاق النصوص أعم من ما ذكره ، فلا سبيل الى تقييدها من غير دليل.

الثالثة ـ قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه يجوز للمصدود في إحرام الحج وعمرة التمتع البقاء على إحرامه الى ان يتحقق الفوات فيتحلل بالعمرة ، كما هو شأن من فاته الحج. بل تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني انه الأفضل ، وان جاز التحلل ، للأمر بالإتمام في الآية (1). ويجب عليه إكمال أفعال العمرة ان تمكن ، وإلا تحلل بالهدي. ولو كان إحرامه بعمرة مفردة لم يتحقق الفوات بل يتحلل منها عند تعذر إكمالها ، ولو أخر التحلل كان جائزا ، فإن يئس من زوال العذر تحلل بالهدي حينئذ.

الرابعة ـ اختلف الأصحاب في انه هل يجب على المصدود الحلق أو التقصير ويتوقف تحلله عليه بعد الذبح أم لا؟ قولان.

قال في المختلف : قال سلار : واما المصدود بالعدو فإنه ينحر الهدي حيث انتهى اليه ، ويقصر من شعره ، وقد أحل من كل شي‌ء أحرم منه. وهو يشعر باشتراط التقصير في الحل. وكذا يفهم من كلام ابي الصلاح ، الا انه قال : فليحلق رأسه. ولم يشترط الشيخ ذلك. انتهى.

وقوى الشهيدان في الدروس والمسالك وجوب الحلق أو التقصير. وهو خيرة العلامة في المنتهى على تردد ، من حيث انه ـ تعالى ـ ذكر الهدي وحده (2) ولم يشترط سواه ، ومن انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حلق يوم الحديبية (3).

__________________

(1 و 2) سورة البقرة ، الآية 195.

(3) المغني ج 3 ص 325 طبع مطبعة العاصمة.


قال في المدارك بعد نقل ذلك عن المنتهى : وضعف الوجه الثاني من وجهي التردد معلوم من ما سبق.

أقول : أشار بما سبق الى ما قدمنا نقله عنه من حمل فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على الندب دون الوجوب. وقد عرفت ما فيه. إلا ان الحلق الذي ذكره العلامة هنا في الوجه الثاني من وجهي التردد إنما استند فيه الى الرواية العامية ، حيث قال : إذا ثبت هذا فهل يجب عليه الحلق أو التقصير مع ذبح الهدي أم لا؟ فيه تردد ، لأنه ـ تعالى ـ ذكر الهدي وحده (1) ولم يشترط سواه. وقال أحمد في إحدى الروايتين لا بد منه ، لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حلق يوم الحديبية (2) وهو أقوى. هذه عبارته في المنتهى ، فكان الاولى لصاحب المدارك رد الوجه الثاني بعدم ثبوته في أخبارنا.

أقول : والذي وقفت عليه في أخبارنا بالنسبة الى ذلك هو رواية حمران المتقدمة (3) الدالة على ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حين صد بالحديبية قصر وأحل ونحر ثم انصرف. وظاهر قوله (عليه‌السلام) فيها : «ولم يجب عليه الحلق حتى يقضي النسك» هو انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يحلق الى ان حج في فتح مكة وقضى المناسك.

ويدل على هذا المعنى صريحا وان لم يتنبه له أحد من أصحابنا (رضوان الله ـ تعالى ـ عليهم) ما رواه في الكافي (4) في الصحيح عن

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 195.

(2) المغني ج 3 ص 325 طبع مطبعة العاصمة.

(3) ص 9.

(4) ج 6 ص 486 ، والوسائل الباب 62 من آداب الحمام.


البزنطي عن علي بن أبي حمزة عن ابي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الفرق من السنة؟ قال : لا. قلت : فهل فرق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟ قال : نعم. قلت : كيف فرق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وليس من السنة؟ قال. من اصابه ما أصاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وفرق كما فرق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقد أصاب سنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإلا فلا. قلت له : كيف ذلك؟ قال : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حين صد عن البيت وقد كان ساق الهدي وأحرم أراه الله ـ تعالى ـ الرؤيا التي أخبرك الله بها في كتابه ، إذ يقول (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) (1) فعلم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان الله (تعالى) سيفي له بما أراه ، فمن ثم وفر ذلك الشعر الذي كان على رأسه حين أحرم انتظارا لحلقه في الحرم حيث وعده الله (تعالى) ، فلما حلقه لم يعد في توفير الشعر ولا كان ذلك من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله». وربما ظهر من قوله (عليه‌السلام) : «من اصابه ما أصاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). الى آخره» تأخير الحلق الى ان يحج متى كان الحج واجبا.

وبالجملة فالظاهر عندي ـ بناء على ما عرفت ـ هو توقف الحل على التقصير خاصة ، كما دلت عليه الرواية المذكورة ، ومثلها قوله (عليه‌السلام) في المرسلة التي نقلها شيخنا المفيد في المقنعة ، وسيأتي نقلها ـ ان شاء الله تعالى ـ في المطلب الثاني (2) : «والمصدود بالعد وينحر هديه

__________________

(1) سورة الفتح ، الآية 27.

(2) ص 43.


الذي ساقه بمكانه ويقصر من شعر رأسه ويحل» (1). ولا معارض لهما سوى إطلاق غيرهما من الاخبار. وبه يقيد الإطلاق المذكور.

الخامسة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في سقوط الهدي عن المصدود والمحصور مع الشرط في إحرامه بأن يحله حيث حبسه ، فنقل في المختلف عن السيد المرتضى (رحمه‌الله) انه يسقط ، وعن الشيخ في الخلاف انه لا يسقط ، ونقل عن ابن حمزة ان في سقوط الدم بالشرط قولين ، ثم أحال البحث في ذلك على ما قدمه في المحصور.

أقول : والخلاف في الموضعين واحد ، ونحن قد قدمنا البحث في هذه المسألة في مندوبات الإحرام ، وأحطنا بأطراف الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام ، فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه.

السادسة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله ـ تعالى ـ عليهم) في المصدود والمحصور لو ساق معه الهدي ، فهل يكفي في التحلل ما ساقه أو يجب عليه للتحلل هدي آخر غير هدي السياق؟ قولان ، أولهما للشيخ وسلار وابي الصلاح وابن البراج ، وثانيهما للصدوقين. والمحقق في الشرائع في حكم المصدود وأفق الأول وفي النافع وأفق الثاني.

قال في المختلف : قال علي بن بابويه : وإذا قرن الحج والعمرة وأحصر بعث هديا مع هديه ، ولا يحل حتى يبلغ الهدي محله. وكذا قال ابنه في كتاب من لا يحضره الفقيه. وقال ابن الجنيد ـ ونعم ما قال ـ فإذا أحصر ومعه هدي قد أوجبه الله بعث بهدي آخر عن إحصاره ، فان لم يكن أوجبه بحال من اشعار ولا غيره أجزأه عن إحصاره. انتهى. وظاهره اختيار قول ابن الجنيد ، وهو يرجع الى قول الصدوقين ، مع انه في

__________________

(1) الوسائل الباب 1 من الإحصار والصد رقم 6.


المنتهى وافق القول الأول.

وقال في الدروس بعد نقل قول الصدوقين وابن الجنيد : والظاهر ان مرادهما انه قبل الاشعار والتقليد لا يدخل في حكم المسوق إلا ان يكون منذورا بعينه أو معينا عن نذره. وقيل : يتداخلان إذا لم يكن السوق واجبا بنذر أو كفارة وشبههما. وأطلق المعظم التداخل.

وقال ابن إدريس بعد نقل عبارة الشيخ علي بن بابويه المتقدمة عن رسالته : قال محمد بن إدريس : اما قوله (رحمه‌الله تعالى) : «وإذا قرن الرجل الحج والعمرة» فمراده كل واحد منهما على الانفراد ويقرن إلى إحرامه بواحد من الحج أو العمرة هديا يشعره أو يقلده فيخرج من ملكه بذلك ، وان لم يكن ذلك واجبا عليه ابتداء ، وما مقصوده ومراده ان يحرم بهما جميعا ويقرن بينهما ، لان هذا مذهب من خالفنا في حد القران ، ومذهبنا ان يقرن إلى إحرامه سياق هدي. فليلحظ ذلك ويتأمل. فأما قوله : «بعث هديا مع هديه إذا أحصر» يريد ان هديه الأول الذي قرنه إلى إحرامه ما يجزئه في تحليله من إحرامه ، لأن هذا كان واجبا عليه قبل حصره ، فإذا أراد التحلل من إحرامه بالمرض الذي هو الحصر عندنا ـ على ما فسرناه ـ فيجب عليه هدي آخر لذلك ، لقوله (تعالى) (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (1) وما قاله قوي معتمد ، غير ان باقي أصحابنا قالوا : يبعث بهديه الذي ساقه. ولم يقولوا : يبعث بهدي آخر. فإذا بلغ محله أحل إلا من النساء. فهذا فائدة قوله (رحمه‌الله تعالى).

واستدل في المختلف على ما اختاره من التفصيل المتقدم ، فقال : لنا

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 195.


مع إيجاب الهدى : انه قد تعين نحر هذا الهدي أو ذبحه بسبب غير الإحصار ، فلا يكون مجزئا عن هدي الإحصار ، لأن مع تعدد السبب يتعدد المسبب. ومع عدم إيجابه : قوله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (1).

وقال في المدارك بعد نقل قول الصدوقين ومن تبعهما : ولم نقف لهم في ذلك على مستند سوى ما ذكروه من ان اختلاف الأسباب يقتضي اختلاف المسببات. وهو استدلال ضعيف ، لأن هذا الاختلاف إنما يتم في الأسباب الحقيقية دون المعرفات الشرعية كما بيناه غير مرة. والأصح ما اختاره المصنف والأكثر من الاكتفاء بهدي السياق ، لصدق الامتثال بذبحه ، وأصالة البراءة من وجوب الزائد عنه.

أقول : لا يخفى ان عبارة الشيخ علي بن بابويه المذكورة مأخوذة من الفقه الرضوي على العادة الجارية التي قد عرفتها في غير موضع ، حيث قال (عليه‌السلام) في الكتاب المذكور (2) : فإذا قرن الرجل الحج والعمرة وأحصر بعث هديا مع هديه ، ولا يحل حتى يبلغ الهدي محله ، فإذا بلغ محله أحل وانصرف الى منزله ، وعليه الحج من قابل. ولا يقرب النساء حتى يحج من قابل. وان صد رجل عن الحج. الى آخر العبارة المتقدمة في صدر المطلب نقلا عن الشيخ علي بن بابويه ايضا.

ومن ذلك يعلم ان مستند الشيخ المذكور وابنه في كتاب من لا يحضره الفقيه انما هو الكتاب المذكور ، فلا يحتاج الى ما تكلفه العلامة

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 195.

(2) ص 29.


في المختلف من الاستدلال بتعدد الأسباب ، ولا يرد ما أورده في المدارك عليه ، حيث ان المعتمد انما هو كلامه (عليه‌السلام) ، ولكنهم (رضوان الله ـ تعالى ـ عليهم) معذورون ، لعدم ظهور الكتاب المذكور عندهم ووصوله إليهم ، فوقعوا في ما ذكروا وتكلفوا ما تكلفوا.

هذا ما يدل على قول الصدوقين في المسألة المذكورة.

واما ما يدل على ما هو المشهور بينهم فلم أقف لهم فيه على دليل إلا ما تقدم نقله عن صاحب المدارك من صدق الامتثال بذبحه ، وأصالة البراءة من الزائد. وغاية ما استدل به في المنتهى هو ان الآية دلت على وجوب ما استيسر من الهدي ، وهو صادق على هدي السياق. ولا يخفى ما في هذه الأدلة من تطرق المناقشات إليها.

والأظهر الاستدلال على ذلك بما رواه في الكافي (1) عن رفاعة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) في حديث قال : «قلت : رجل ساق الهدي ثم أحصر؟ قال : يبعث بهديه. قلت : هل يستمتع من قابل؟ فقال : لا ، ولكن يدخل في مثل ما خرج منه».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن رفاعة أيضا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ومحمد بن مسلم في الصحيح عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (2) انهما قالا : «القارن يحصر وقد قال واشترط : فحلني حيث حبستني. قال : يبعث بهديه. قلنا : هل يتمتع في قابل؟ قال : لا ولكن يدخل في مثل ما خرج منه».

فإنه لا يخفى ان المتبادر من «هديه» في الروايتين هو هدي السياق

__________________

(1) ج 4 ص 371 ، والوسائل الباب 4 و 7 من الإحصار والصد.

(2) الوسائل الباب 4 من الإحصار والصد.


والإضافة كاللام العهدية في إفادة العهد كما صرحوا به في محله ، فالمعنى هديه الذي ساقه. وبذلك يعظم الإشكال في المسألة.

بقي الكلام في ان مورد الاخبار في المسألة انما هو المحصر ، وانه يبعث هديا مع هدي السياق كما في كتاب الفقه ، أو هدي السياق كما هو ظاهر الاخبار التي ذكرناها ، والأصحاب لم يفرقوا في هذا الحكم بين المحصر والمصدود. ولا يخلو من اشكال. والحاقة بالمحصور في الحكم المذكور يتوقف على الدليل ، وليس إلا هذه الاخبار المذكورة.

السابعة ـ المعروف من مذهب الأصحاب انه لو لم يكن مع المصدود أو المحصور هدي وعجز عن ثمنه بقي على إحرامه ولم يتحلل ، لان النص الدال على التحلل انما تعلق بالهدي ، ولم يثبت له بدل ، ومتى انتفت البدلية وجب البقاء على الإحرام الى ان يحصل المحلل الشرعي. وبه صرح الشيخ وابن البراج وأبو الصلاح وابن حمزة وسلار وعامة المتأخرين. قال ابن الجنيد : ومن لم يكن عليه ولا معه هدي أحل إذا صد ، ولم يكن عليه دم. وظاهره انه يتحلل بمجرد النية.

قال في المختلف : قال الشيخ : إذا لم يجد المحصر الهدي ولا يقدر على ثمنه لا يجوز له ان يتحلل حتى يهدي ، ولا يجوز له ان ينتقل الى بدل من الصوم أو الإطعام ، لأنه لا دليل على ذلك. وقال ابن الجنيد : إذا لم يكن للهدي مستطيعا أحل ، لأنه ممن لم يتيسر له الهدي. وكلا القولين محتمل. انتهى.

وقد تقدم مذهب ابن إدريس وتخصيصه الهدي بالمحصور دون المصدود اختيارا.

أقول : وقد وقفت في المسألة على بعض الاخبار التي لم يتعرض لنقلها


أحد من أصحابنا :

منها : ما رواه في كتاب من لا يحضره الفقيه في الصحيح عن معاوية ابن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) انه قال : «في المحصور ولم يسق الهدي؟ قال : ينسك ويرجع. قيل : فان لم يجد هديا؟ قال : يصوم».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) انه قال : «في المحصور ولم يسق الهدي؟ قال : ينسك ويرجع ، فان لم يجد ثمن هدي صام».

إلا ان مورد الأخبار المذكورة المحصر ، وإلحاق المصدود به من غير دليل مشكل. والواجب الوقوف في الحكم بها على موردها ، وان لم يقل بذلك أحد منهم. والظاهر ان ذلك من حيث عدم الوقوف على الروايات المذكورة ، كما يشعر به كلام الشيخ المتقدم ، وإلا فإطراحها ـ مع صراحتها ولا معارض لها ـ ليس من قواعدهم سيما مع صحتها.

وحينئذ فيختص البقاء على الإحرام بالمصدود خاصة ، لحصول البدل في هدي المحصور فينتقل اليه. وحيث قلنا ببقاء المصدود مع العجز عن الهدي على إحرامه فليستمر عليه الى ان يتحقق الفوات ، فيتحلل حينئذ بعمرة إن أمكن ، وإلا بقي على إحرامه الى ان يجد الهدي أو يقدر على العمرة ، لأن التحلل منحصر فيهما كما لا يخفى.

الثامنة ـ يتحقق الصد في إحرام العمرة بالمنع عن مكة ، وفي إحرام الحج بالمنع عن الموقفين أو أحدهما مع فوات الآخر ، ولا يتحقق بالمنع

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 7 من الإحصار والصد.


من مناسك منى ، وفي تحققه بالمنع عن مكة بعد الموقفين والتحلل أو قبله اشكال.

وتفصيل هذه الجملة انه لا خلاف في تحقق الصد بالمنع عن الموقفين في الحج ، وكذا عن أحدهما إذا كان من ما يفوت بفواته الحج ، كما سيأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ في تحرير اقسامه الثمانية في موضعه اللائق به.

واما إذا أدرك الموقفين أو ما به يدرك ثم صد ، فان كان عن مناسك منى خاصة ، فإن له ان يستنيب في الرمي والذبح ـ كما في المريض ـ ثم يحلق ويتحلل. اما لو لم يمكن الاستنابة فإشكال ، لاحتمال البقاء على إحرامه تمسكا بالأصل ، وجواز التحلل لصدق الصد ، فيتناوله عموم ما دل على جواز التحلل مع الصد. ولعله الأقرب. وكذا الوجهان لو كان المنع عن مكة ومنى. وجزم العلامة في المنتهى والتذكرة بالجواز ، نظرا الى ان الصد يفيد التحلل من الجميع فمن بعضه اولى. وهو قريب.

ولو صد عن مكة خاصة بعد التحلل في منى فقد صرح جماعة ـ منهم : الشهيد في الدروس ـ بعدم تحقق الصد ، فيبقى على إحرامه بالنسبة إلى الطيب والنساء والصيد الى ان يأتي ببقية الأفعال.

ونقل ذلك عن المحقق الشيخ علي في حواشي القواعد ، قال : لان المحلل من الإحرام إما الهدي للمصدود والمحصور أو الإتيان بأفعال يوم النحر والطوافين والسعي ، فإذا شرع في الثاني واتى بمناسك منى يوم النحر تعين عليه الإكمال ، لعدم الدليل على جواز التحلل بالهدي ، وحينئذ فيبقى على إحرامه الى أن يأتي بباقي المناسك. انتهى.

والحق ان الاشكال المتقدم جار هنا أيضا ، فإنه من المحتمل قريبا


ـ بل لعله الأقرب ـ ان النصوص الدالة على التحلل بالهدي في صورة الصد شاملة بعمومها لهذه الصورة ، ومتى صدق عليه انه مصدود وجب اجراء حكم المصدود عليه من التحلل بالهدي ونحوه.

بقي الكلام في انه ينبغي ان يقيد ذلك بعدم خروج ذي الحجة وإلا اتجه التحلل البتة ، لما في بقائه على ذلك الى العام القابل من الحرج المنفي بالآية والرواية (1).

ولا يتحقق الصد بالمنع من العود إلى منى لرمي الجمار والمبيت إجماعا ، على ما نقله جمع من الأصحاب ، بل يحكم بصحة حجه ، ويستنيب في الرمي إن أمكن ، وإلا قضاه في القابل.

واما لو كان الصد في عمرة التمتع فلا ريب في انه يتحقق بالمنع من دخول مكة ، وبالمنع بعد الدخول من الإتيان بالأفعال.

قال في المسالك : وفي تحققه بالمنع من السعي بعد الطواف خاصة وجهان ، من إطلاق النص ، وعدم مدخلية السعي (2) في التحلل ، وعدم التصريح بذلك في النصوص والفتوى. ثم قال : والوجهان آتيان في عمرة الافراد مع زيادة إشكال في ما لو صد بعد التقصير عن طواف النساء ، فيمكن ان لا يتحقق حينئذ الصد بل يبقى على إحرامه بالنسبة إليهن. ثم قال : وأكثر هذه الفروع لم يتعرض لها الجماعة بنفي ولا إثبات ، فينبغي تحقيق الحال فيها.

وظاهر المدارك وقوع الإشكال أيضا في طواف العمرة ، حيث قال :

__________________

(1) ارجع الى الحدائق ج 1 ص 151.

(2) هكذا وردت العبارة المحكية عن المسالك في نسخ الحدائق. والوارد في المسالك في شرح قول المحقق : «ويتحقق الصد بالمنع من الموقفين.» هكذا : «وعدم مدخلية الطواف في التحلل». وهو الصحيح.


ومن منع من الطواف خاصة استناب فيه مع الإمكان ، ومع التعذر يبقى على إحرامه الى ان يقدر عليه أو على الاستنابة. ويحتمل قويا جواز التحلل مع خوف الفوات ، للعموم ، ونفي الحرج اللازم من بقائه على الإحرام. وكذا الكلام في السعي وطواف النساء في المفردة. انتهى.

أقول : لا يخفى ـ على من اعطى التأمل حقه في روايات الحصر والصد الواردة في هذا الباب ـ ان المستفاد منها على وجه لا يكاد يداخله الارتياب انما هو حصول أحد الأمرين بعد الإحرام وقبل التلبس بشي‌ء من أفعال الحج أو العمرة ، وقرائن ألفاظها ومقتضى أحوالها شاهدة بما قلناه لمن تأملها بعين الإنصاف ، فكثير من ما ذكر هنا من هذه الفروع لا يخلو من الاشكال ، سيما مع ما عرفت من ان الصد المذكور في الاخبار له أحكام تترتب عليه ، من وجوب الهدي ، ووجوب الحج من قابل متى كان الحج واجبا ، وحل النساء له ، ونحو ذلك. والله العالم.

التاسعة ـ قد صرح جملة من الأصحاب بأنه إذا حبس بدين ، فان كان قادرا عليه لم يتحلل ، لانه بالقدرة على ذلك يكون متمكنا من السير فلا يتحقق الصد في حقه ، اما لو عجز فإنه يتحلل. وعلله في المنتهى يتحقق الصد الذي هو المنع ، لعجزه من الوصول بإعساره.

واستشكل بعض المتأخرين هذا الحكم بان المصدود ليس هو الممنوع مطلقا بل الممنوع بالعدو ، وطالب الحق لا تتحقق عداوته.

وأجيب عنه بان العاجز عن أداء الحق لا يجوز حبسه ، فيكون الحابس ظالما. وبالمنع من اختصاص الصد بالمنع من العدو لأنهم عدوا من أسبابه فناء النفقة وفوات الوقت ونحو ذلك.


قال في المدارك بعد نقل ذلك : وفيهما معا نظر. ثم قال : وكيف كان فالأجود ما أطلقه المصنف وغيره من جواز التحلل مع العجز ، لان المصدود هو الممنوع لغة ، إلا ان مقتضى الروايات اختصاصه بما إذا كان المنع بغير المرض ، وذكر العدو في بعض الاخبار انما وقع على سبيل التمثيل لا لحصر الحكم فيه. انتهى.

أقول : لا يخفى ان صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة في أول المقصد (1) قد دلت على ان المحصور هو المريض ، والمصدود هو الذي رده المشركون كما ردوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ومرسلة الصدوق المتقدمة (2) عن الصادق (عليه‌السلام) قد دلت على ان المحصور والمضطر ينحران بدنتهما في المكان الذي يضطران فيه ، ورواية الفضل بن يونس الآتية (3) عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) قد دلت على ان الرجل الذي أخذه سلطان فحبسه ظالما له يوم عرفة ، قال : هذا مصدود عن الحج. ويحصل من مجموع هذه الروايات وضم بعضها الى بعض ان المصدود هو الممنوع بعد وكان أو بظالم أو بقلة نفقة أو خوف في طريقه. وبه يظهر قوة ما استجوده في المدارك وضعف تنظره في ما نقله من الوجهين المتقدمين.

قال العلامة في المنتهى : ولا فرق بين الحصر العام وهو ان يصده المشركون ويصدوا أصحابه وبين الحصر الخاص في حق شخص واحد ، مثل ان يحبسه ظالم بغير حق أو يأخذه اللصوص وحده ، لعموم النص ، ووجود المعنى المقتضى لجواز التحلل في الصورتين. وكما انه لا فرق بينهما في جواز التحلل فلا فرق بينهما في وجوب القضاء وعدم وجوبه فكل موضع حكمنا فيه بوجوب القضاء في الصد العام فهو ثابت في

__________________

(1) ص 4.

(2) ص 9.

(3) ص 30.


الصد الخاص ، وما لا يجب فيه هناك فهو لا يجب فيه هنا. انتهى. وهو جيد ، لما عرفت.

العاشرة ـ اعلم ان جملة من المتقدمين ومتقدمي المتأخرين صرحوا بالمسألة التي قدمنا ذكرها ، من انه لو حبس بدين فان كان قادرا على أدائه لم يكن مصدودا ومع العجز يكون مصدودا. ثم قالوا : وكذا لو حبس ظلما. ومن جملة المصرحين بذلك المحقق في الشرائع.

وشراح كلامهم في هذا المقام قد اضطربوا في هذا التشبيه وان المشبه به ما هو؟ وقد أطال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في توجيه ذلك. ولنقتصر على نقل ما ذكره سبطه في المدارك ، فإنه ملخص ما ذكره جده (رحمه‌الله).

قال (قدس‌سره) ـ بعد قول المصنف : «وكذا لو حبس ظلما» : يمكن ان يكون المشبه به المشار اليه ب «ذا» ثبوت التحلل مع العجز والمراد انه يجوز تحلل المحبوس ظلما. وهو بإطلاقه يقتضي عدم الفرق بين ان يكون المطلوب منه قليلا أو كثيرا ، ولا بين القادر على دفع المطلوب منه وغيره. ويمكن ان يكون مجموع حكم المحبوس بدين بتفصيله ، بمعنى ان المحبوس ظلما على مال ان كان قادرا عليه لم يتحلل وان كان عاجزا تحلل. إلا ان المتبادر من العبارة هو الأول وهو الذي صرح به العلامة في جملة من كتبه. وأورد عليه ان الممنوع بالعدو إذا طلب منه مال يجب بذله مع المكنة كما صرح به المصنف وغيره ، فلم لا يجب البذل على المحبوس ظلما إذا كان حبسه يندفع بالمال وكان قادرا عليه؟ وأجيب عن ذلك بالفرق بين المسألتين ، فإن الحبس ليس بخصوص المنع من الحج ولهذا لا يندفع الحبس لو اعرض عن الحج ، بخلاف منع العدو فإنه للمنع من المسير حتى لو اعرض عن


الحج خلى سبيله. وحينئذ فيجب بذل المال في الثاني لأنه بسبب الحج دون الأول. وهذا الفرق ليس بشي‌ء ، لأن بذل المال للعدو المانع من المسير إنما وجب لتوقف الواجب عليه ، وهذا بعينه آت في صورة الحبس إذا كان يندفع بالمال. وبالجملة فالمتجه تساوي المسألتين في وجوب بذل المال المقدور ، لتوقف الواجب عليه سواء كان ذلك قبل التلبس بالإحرام أو بعده. انتهى.

أقول : الظاهر ان الأصل في هذا الحكم الذي ذكره المتقدمون إنما هو ما رواه الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب في الموثق عن الفضل بن يونس عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن رجل عرض له سلطان فأخذه ظالما له يوم عرفة قبل ان يعرف ، فبعث به الى مكة فحبسه ، فلما كان يوم النحر خلى سبيله ، كيف يصنع؟ قال : يلحق فيقف بجمع ، ثم ينصرف إلى منى فيرمي ويذبح ويحلق ، ولا شي‌ء عليه. قلت : فان خلى عنه يوم النفر كيف يصنع؟ قال : هذا مصدود عن الحج ، ان كان دخل مكة متمتعا بالعمرة إلى الحج ، فليطف بالبيت أسبوعا ، ثم يسعى أسبوعا ، ويحلق رأسه ، ويذبح شاة ، وان كان دخل مكة مفردا للحج فليس عليه ذبح ولا حلق». وفي الكافي «ولا شي‌ء عليه» بين قوله : «فليس عليه ذبح» وقوله : «ولا حلق».

والى هذا الفرد أشار العلامة في ما قدمنا نقله عنه في آخر المقالة السابقة. وبه يظهر ان المشبه به في كلامهم إنما هو المحبوس بالدين

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 371 ، والتهذيب ج 5 ص 465 ، والوسائل الباب 3 من الإحصار.


العاجز عن أدائه فإنه يتحلل. وكذا المحبوس ظلما. واما ان حبسه لأجل المال أم لا ، ويمكن دفعه بالمال أم لا ، فهو غير مراد ولا ملحوظ كما عرفت من الرواية المذكورة. واما ما ذكروه من التوجيهات والإشكالات فتكلفات لا ضرورة لها مع ظهور المعنى وصحته.

وبنحو هذه الرواية صرح في كتاب الفقه الرضوي (1) حيث قال (عليه‌السلام): ولو ان جلا حبسه سلطان جائر بمكة وهو متمتع بالعمرة إلى الحج ثم أطلق عنه ليلة النحر ، فعليه ان يلحق الناس بجمع ثم ينصرف إلى منى فيذبح ويحلق ولا شي‌ء عليه ، وان خلى يوم النحر بعد الزوال فهو مصدود عن الحج ان كان دخل مكة متمتعا بالعمرة إلى الحج ، فليطف بالبيت أسبوعا ويسعى أسبوعا ويحلق رأسه ويذبح شاة ، وان كان دخل مكة مفردا للحج ، فليس عليه ذبح ، ولا شي‌ء عليه.

وهذه العبارة قد نقلها في المختلف عن علي بن الحسين بن بابويه ، قال : ولو ان رجلا. الى قوله : وان كان مفردا للحج فليس عليه ذبح ، ولا شي‌ء عليه. ثم زاد : بل يطوف بالبيت ، ويصلي عند مقام إبراهيم (عليه‌السلام) ويسعى بين الصفا والمروة ، ويجعلها عمرة ، ويلحق بأهله. انتهى. ولا ادري هذه الزيادة هل سقطت من نسخة الكتاب التي عندي؟ فإنها كثيرة الغلط ، أو انها زيادة من علي بن الحسين على العبارة المذكورة لمزيد الإيضاح فيها.

ثم ان العلامة ـ بعد نقل ذلك عن علي بن الحسين (رحمه‌الله) ـ قال : وقد اشتمل هذا الكلام على حكمين : أحدهما ـ ان إدراك الحج

__________________

(1) ص 29.


يحصل بإدراك جمع قبل الزوال ، وهو مفهوم من كلامه. وفيه نظر. الثاني ـ إيجاب الدم على المتمتع مع الفوات. وفيه نظر ، فإنه يتحلل بالعمرة. والأقرب انه لا دم عليه ، ولا فرق بينه وبين المفرد. انتهى.

أقول : قد عرفت ان هذه العبارة انما هي كلام الرضا (عليه‌السلام) في الكتاب المذكور. ومثلها في الدلالة على الحكمين المذكورين موثقة الفضل بن يونس المذكورة. وسيجي‌ء (ان شاء الله تعالى) تحقيق كل من المسألتين المذكورتين في المحل اللائق به.

الحادية عشرة ـ قد تقدم ان المصدود يجوز له التحلل بذبح الهدي وان كان الأفضل له التأخير والانتظار لزوال المانع ، فلو صابر ولم يتحلل حتى فات الحج ، فان تمكن من دخول مكة بعد الفوات أو كان فيها ، فإنه يتحلل بالعمرة ، لإمكانها وانتفاء الصد عنها. ويسقط الهدي لحصول التحلل بالعمرة. وان لم يتمكن من دخول مكة ، تحلل من العمرة بالهدي ، وان استحب الصبر مع رجاء زوال العذر.

قال في المسالك : ولا فرق في ذلك بين رجاء زوال العذر قبل خروج الوقت مع المصابرة وعدمه ، بل يجوز الصبر الى ان يفوت الوقت مطلقا.

وقال في الدروس : وعلى هذا فلو صار الى بلده ولما يتحلل وتعذر العود في عامه لخوف الطريق فهو مصدود ، فله التحلل بالذبح والتقصير في بلده.

ويأتي تحقيق الكلام في المسألة (ان شاء الله تعالى) عند الكلام في مسألة من فاته الحج.

وكيف كان فان عليه القضاء بعد ذلك لو كان الحج واجبا مستقرا في ذمته ، فلا يجب قضاء المندوب بالأصل وان كان قد وجب


بالشروع فيه ، ولا ما وجب في عامه ولم يتحقق التقصير في التأخير ، كما تقدم بيانه في محله.

بقي الكلام في ما إذا غلب على ظنه انكشاف العدو قبل الفوات ، فان ظاهر الجماعة جواز التحلل ، كما صرح به غير واحد منهم ، وظاهر المدارك المناقشة في الحكم المذكور ، مستندا الى ان ما وصل اليه من الروايات لا عموم فيه بحيث يتناول هذه الصورة ، ومع انتفاء العموم يشكل الحكم بالجواز ، قال : ويلوح من كلام الشارح في الروضة وموضع من الشرح : ان التحلل انما يسوغ إذا لم يرج المصدود زوال العذر قبل خروج الوقت. ولا ريب انه اولى. انتهى. أقول : فيه ما تقدم في المقالة الثانية.

ثم انه لو انكشف العدو قبل التحلل والوقت باق ، وجب عليه الإتمام ، لأنه محرم ولم يأت بالمناسك. ولروايتي الفضل بن يونس وكتاب الفقه. واما لو كان انكشافه بعد فوات الوقت ، فإنه يتحلل بعمرة مفردة ، كما في الروايتين المشار إليهما أيضا.

الثانية عشرة ـ قد تقدم انه لو أفسد المحرم حجه بالوطء قبل الموقفين أو أحدهما ، وجب عليه بدنة ، وإتمام حجه ، والقضاء من قابل ، فلو صد بعد الإفساد ، وجب عليه مع ذلك الهدي للتحلل ، ان أراد التحلل ولم يصابر ، فالصد أوجب الهدي ، والإفساد أوجب الثلاثة المذكورة ، إلا ان وجوب الإتمام سقط هنا بالصد.

ثم انه قد اختلف الأصحاب ـ كما تقدم ـ في انه هل الأولى هي الفريضة ، والثانية عقوبة ، أو الفريضة هي الثانية وإتمام الأولى عقوبة؟ وقد قدمنا ان المختار هو الأول.


ثم انه قد تقدم ايضا ان وجوب القضاء على المصدود انما هو في صورة ما إذا كان الحج واجبا مستقرا في الذمة.

وعلى هذا ففي المسألة صور : الاولى ـ ان يقال ان حجة الإسلام هي الاولى والثانية عقوبة. وقد صرح جملة من الأصحاب بأن الواجب على تقدير هذا القول الإتيان بحجتين بعد الصد والتحلل مع وجوب الحج واستقراره ، وبيانه انه لا إشكال في وجوب الحج ثانيا بالإفساد ، سواء قلنا ان الاولى هي حجة الإسلام والثانية عقوبة أو بالعكس. وحينئذ فمتى قلنا بأن الأولى هي الفرض ـ وقد عرفت ان الحج الواجب المستقر متى صد عنه وتحلل منه وجب قضاؤه ـ وجب القضاء في هذه الصورة ، لأنها أحد جزئيات هذه الكلية. وعلى هذا فيجب عليه أولا حجة القضاء ثم حج العقوبة للإفساد السابق.

الثانية ـ ان الحج ليس بمستقر والواجب حج العقوبة خاصة ، ويسقط القضاء ، لان القضاء مراعى بفوته مع الاستقرار في الذمة ، كما تقدم تحقيقه في محله ، وهنا ليس كذلك كما هو المفروض.

الثالثة ـ ان يكون الحج مستحبا ، وهو وان وجب بالشروع فيه كما تقدم ، ووجب قضاؤه بالإفساد أيضا ، وإتمامه ، كما تقدم في محله ، إلا انه لا يجب قضاؤه بالصد عنه اتفاقا نصا وفتوى في ما اعلم. وحينئذ فمتى صد عنه وتحلل منه سقط أداء وقضاء وبقي حج الإفساد خاصة.

الرابعة ـ ان يقال : ان الاولى عقوبة والثانية حجة الإسلام. ولا ريب ولا اشكال ـ كما عرفت ـ في وجوب الحج ثانيا ، وهو على هذا القول يكون قضاء لحج الإسلام.

بقي الكلام في الحج الأول الذي أفسده وهو عقوبة على هذا القول


هل يجب قضاؤه أم لا؟ قولان : قيل بالأول ، لأنه حج واجب قد صد عنه ، وكل حج واجب صد عنه يجب قضاؤه. وعلى هذا فيجب حجان. وقيل بالثاني ، لأن الصد والتحليل مسقط لوجوب الأولى ، والقضاء يتوقف على الدليل ، ولا دليل في المقام ، إذ المستفاد من اخبار القضاء إنما هو بالنسبة إلى حج الإسلام. ومن هنا يظهر منع كلية الكبرى. وحينئذ فالواجب هنا حج واحد لا غير.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ظاهر المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) المناقشة في الصورة الأولى ، حيث احتج ـ بعد ان قال أولا : ثم الظاهر عدم وجوب غير حج واجب واحد في الصور كلها ، سواء قلنا ان الإتمام عقوبة أو الحج من قابل عقوبة ـ بأنه بعد الصد عن الإتمام إذا تحلل عنه بالهدي أو بالعمرة لم يعلم وجوب القضاء لهذا الفاسد مطلقا ، سواء قلنا انه عقوبة أو الذي شرع فيه أولا ، إذ لا يعلم دليل عليه ، وانما الدليل في الحج الصحيح الذي صد عنه وتحلل عنه مع عدم وجوب شي‌ء آخر.

ومرجع كلامه (طاب ثراه) الى ان الدليل الدال على وجوب القضاء على المصدود مخصوص بالحج الصحيح ، ولا عموم فيه على وجه يتناول الحج الفاسد.

وهو مشكل ، فانا لم نقف في روايات الصد على ما يوجب القضاء على المصدود حتى انه يختص ذلك بالصد عن الحج الصحيح دون الفاسد وانما المستند في ذلك الروايات الدالة على وجوب الحج على المستطيع مطلقا (1) والقضاء في كلام الأصحاب ليس مرادا به معناه المعروف ،

__________________

(1) الوسائل الأبواب المتفرقة من وجوب الحج وشرائطه.


وهو الإتيان بالفعل في خارج وقته ، لان الحج لا وقت له وان وجب فورا بل المراد به مجرد الفعل. وحينئذ فإذا كانت الأدلة الدالة على وجوب الحج على المصدود الذي تحلل انما هي الأخبار الدالة على وجوب الحج على المستطيع مطلقا ـ حيث انه من جملة من يدخل تحت هذا الخطاب ـ فلا فرق في ذلك بين ما إذا كان الصد عن حج صحيح أو فاسد في تناول الخطاب ، فإنه لما علم تعلق الخطاب بكل منهما من حيث الاستطاعة واستقراره في الذمة ، فلا تبرأ الذمة إلا بالإتيان به من المكلف نفسه أو نائبه في حياته أو بعد موته. وهذا ـ بحمد الله تعالى ـ ظاهر لا سترة عليه.

هذا كله إذا تحلل قبل انكشاف العدو وضاق الوقت بعد انكشافه.

اما لو تحلل ثم انكشف العدو والوقت يسع الإتيان بالحج ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في وجوب الإتيان بالحج.

قال في المنتهى : وهو حج يقضى لسنته ، وليس يتصور القضاء في العام الذي أفسد فيه في غير هذه المسألة. ولو ضاق الوقت قضى من قابل.

والظاهر ان مبنى كلامه (قدس‌سره) على ما هو المختار عنده من ان حج الإسلام هو الثاني والأول عقوبة ، فإنه بعد التحلل من ذلك الحج الفاسد سقطت العقوبة ، وحج العقوبة لا يقضى كما تقدم ، فيستأنف عند زوال العذر حج الإسلام. والقضاء هنا بمعنى الاستئناف والتدارك. ولا يجب عليه سواه ، لما عرفت من عدم وجوب قضاء حج العقوبة. فهو حج يقضى لسنته في هذه الصورة خاصة من حيث اتساع الوقت له ، لأنه في غير صورة الصد يجب عليه المضي في الفاسدة التي ذكرنا أن إتمامها عقوبة ، فيتأخر القضاء الى العام القابل. وفي صورة


الصد مع القول بكون الأولى حجة الإسلام والثانية عقوبة لم يكن حجا يقضى لسنته ، لان الواقع بعد التحلل في السنة الأولى حج الإسلام ولا يصح وصفها بكونها قضاء ، لانه ليس محلها العام الثاني وقدمت هنا عليه ـ كما في الصورة الأولى ـ حتى يقال ، انه حج يقضى لسنته ، وانما محلها العام الأول.

ولهم في معنى هذه العبارة أعني قولهم : «حج يقضى لسنته» اختلاف ليس في التعرض له كثير فائدة ، والمعتمد عندهم ما ذكرناه.

واما لو لم يتحلل بالكلية بل صابر الى ان ينكشف العدو ، فان انكشف والوقت يسع الإتيان بالحج وجب المضي في الحج الفاسد وان كان مندوبا ، ووجب القضاء في القابل بالإفساد ، وان ضاق الوقت تحلل بعمرة ، ويلزمه بدنة للإفساد ، ولا شي‌ء عليه للفوات ، وعليه الحج من قابل سواء كان الحج واجبا أو ندبا. لأن التطوع يكون واجبا بالإفساد.

الثالثة عشرة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو لم يندفع العدو إلا بالقتال ، فإنه لا يجب عليه القتال ، سواء غلب على ظنه السلامة أو العطب.

واستدل عليه في المنتهى بان في التكليف به مشقة زائدة وخطرا عظيما ، لاشتماله على المخاطرة بالنفس والمال ، فكان منفيا بقوله (عزوجل) (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (1) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (2) : «لا ضرر ولا ضرار». وهو جيد متى بلغ الأمر الى ذلك

__________________

(1) سورة الحج ، الآية 78.

(2) الوسائل الباب 5 من الشفعة ، والباب 12 من احياء الموات.


والحكم بذلك مقطوع به في كلامهم.

نعم بقي الكلام في الجواز ، فقال الشيخ في المبسوط : إذا أحرموا فصدهم العدو ، فان كان مسلما كالأعراب والأكراد ، فالأولى ترك قتالهم وينصرفون إلا ان يدعوهم الإمام أو من نصبه الى قتالهم ، وان كان مشركا لم يجب على الحاج قتالهم ، لان قتال المشركين لا يجب إلا بإذن الإمام أو الدفع عن النفس أو الإسلام ، وليس هنا واحد منهما ، وإذا لم يجب فلا يجوز ايضا ، سواء كانوا قليلين أو كثيرين. انتهى. وهو ظاهر في عدم جواز قتال المشركين.

وصرح جملة من الأصحاب ـ منهم : العلامة والشهيد ـ بالجواز لمشرك كان أو غيره ، مع ظن الظفر ، لانه نهى عن منكر فلا يتوقف على اذن الامام (عليه‌السلام).

قال في الدروس : ومنعه الشيخ التفاتا إلى اذن الامام في الجهاد. ويندفع بأنه نهى عن منكر. واستجوده في المدارك ، وأيده بأن لمانع ان يمنع توقف الجهاد على الاذن إذا كان لغير الدعوة الى الإسلام ، قال : فانا لم نقف في ذلك على دليل يعتد به.

وقال في المسالك ـ بعد نقل الجواز عن العلامة والشهيد ، واحتجاجهما بأنه نهى عن منكر ، فلا يتوقف على اذن الامام ـ ما صورته : ويشكل بمنع عدم توقف النهي المؤدي إلى القتال أو الجرح على اذن الامام ، وهما قد اعترفا به في بابه. وبان ذلك لو تم لم يتوقف الجواز على ظن الظفر ، بل متى جوزه كما هو الشرط فيه. وأيضا إلحاقه بباب النهي عن المنكر يفضي الى وجوبه لا الى جوازه بالمعنى الأخص ، وهم قد اتفقوا على عدم الوجوب مطلقا. انتهى.


ونقل في المختلف عن ابن الجنيد انه قال : لو طمع المحرم في دفع من صده إذا كان ظالما له بقتال أو غيره كان ذلك مباحا له ، ولو اتى على نفس الذي صده ، سواء كان كافرا أو ذميا أو ظالما.

قال في المختلف بعد نقله ذلك : وقول ابن الجنيد لا بأس به. انتهى. ولا بأس به.

ولو توقف زوال العدو على دفع مال ، فقيل بعدم وجوب بذله ، وقيل بالوجوب إذا لم يجحف. وقد تقدم تحقيق المسألة في شرائط وجوب الحج.

المطلب الثاني ـ في الإحصار ، وهو ـ كما عرفت ـ المنع بالمرض من مكة أو من الموقفين. والكلام في ما يتحقق به الحصر جار على نحو ما تقدم في ما يتحقق به الصد.

والكلام في هذا المطلب يقع أيضا في مواضع :

الأول ـ لا خلاف بين الأصحاب في ان تحلل المحصر يتوقف على الهدي ، وانما الخلاف في البعث وعدمه ، فالمشهور بينهم انه يجب بعث الهدي الى منى ان كان حاجا ، والى مكة ان كان معتمرا ، ولا يحل حتى يبلغ الهدي محله ، فإذا بلغ الهدي محله قصر وأحل من كل شي‌ء إلا النساء. قاله الشيخ وابنا بابويه وأبو الصلاح وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس. وقال ابن الجنيد بالتخيير بين البعث وبين الذبح حيث أحصر فيه. وقال سلار : المحصور بالمرض اثنان : أحدهما في حجة الإسلام والآخر في حجة التطوع ، فالأول يجب بقاؤه على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ، ثم يحل من كل شي‌ء أحرم منه إلا النساء ، فإنه لا يقربهن حتى يقضى مناسكه من قابل ، والثاني ينحر


هديه وقد أحل من كل شي‌ء أحرم منه. وعن الجعفي أنه يذبح مكان الإحصار ما لم يكن ساق.

ويدل على القول المشهور ظاهر الآية ، وهي قوله تعالى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (1).

قال في المدارك : وهي غير صريحة في ذلك ، لاحتمال ان يكون معناه : «حتى تنحروا هديكم حيث حبستم» كما هو المنقول من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (2).

وفيه : ان الظاهر من الاخبار ان المراد بمحل الهدي وبلوغه محله انما هو مكة أو منى ، كما سنشير اليه ان شاء الله تعالى.

ومن أظهر الاخبار في ذلك ما تقدم في حديث حج الوداع الطويل المتقدم في المقدمة الرابعة من الباب الأول (3) من احتجاجه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على عدم الإحلال بسياق الهدي ، وانه لا يجوز لسائق الهدي الإحلال حتى يبلغ محله ، يعني : منى ، كما لا يخفى.

وما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام!) (4) قال : «سألته عن رجل أحصر فبعث بالهدي. قال : يواعد أصحابه ميعادا ، ان كان في الحج فمحل الهدي يوم النحر فإذا كان يوم النحر فليقص من رأسه ، ولا يجب عليه الحلق حتى يقضي

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 195.

(2) وقد تقدم نقله ص 9 و 10.

(3) ج 14 ص 315 الى 319.

(4) التهذيب ج 5 ص 421 و 422 ، والكافي ج 4 ص 369 ، والوسائل الباب 2 من الإحصار والصد.


المناسك. وان كان في عمرة فلينظر مقدار دخول أصحابه مكة والساعة التي يعدهم فيها ، فإذا كان تلك الساعة قصر وأحل. الحديث». وفي قوله : «ان كان في الحج فمحل الهدي يوم النحر» ما يشير الى تفسير محل الهدي في الآية بأنه هذا المكان في الحج ومكة في العمرة.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «إذا أحصر الرجل بعث بهديه ، فإذا أفاق ووجد من نفسه خفة. الحديث». وسيأتي قريبا (2) (ان شاء الله تعالى).

وما رواه في الكافي (3) عن زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إذا أحصر الرجل فبعث بهديه فآذاه رأسه. الحديث».

وما رواه في الكافي (4) عن رفاعة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قلت : رجل ساق الهدي ثم أحصر؟ قال : يبعث بهديه. قلت : هل يستمتع من قابل؟ قال : لا ولكن يدخل في مثل ما خرج منه».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) وعن رفاعة في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (5) انهما قالا : «القارن يحصر وقد قال واشترط : فحلني حيث حبستني؟

قال : يبعث بهديه. قلت : هل يتمتع في قابل؟ قال : «لا ولكن يدخل في مثل ما خرج منه».

__________________

(1) الوسائل الباب 3 من الإحصار والصد.

(2) ص 55.

(3) ج 4 ص 370 و 371 ، والتهذيب ج 5 ص 334 و 423 بطريقين ، والوسائل الباب 5 من الإحصار والصد.

(4) ج 4 ص 371 ، والوسائل الباب 4 من الإحصار والصد.

(5) الوسائل الباب 4 من الإحصار والصد.


وما رواه في التهذيب (1) في الموثق عن زرعة قال : «سألته عن رجل أحصر في الحج. قال : فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه ، ومحله ان يبلغ الهدي محله ، ومحله منى يوم النحر إذا كان في الحج ، وإذا كان في عمرة نحر بمكة. وإنما عليه ان يعدهم لذلك يوما ، فإذا كان ذلك اليوم فقد وفي ، وان اختلفوا في الميعاد لم يضره ان شاء الله تعالى». وفيه إشارة الى ما قدمنا ذكره من معنى بلوغ الهدي محله.

إلا ان بإزاء هذه الاخبار ما يدل على خلافها ، ومنها قوله (عليه‌السلام) في تتمة صحيحة معاوية بن عمار المذكورة صدر هذه الروايات بعد ما ذكر ما قدمناه منها : «وان كان مرض في الطريق بعد ما أحرم فأراد الرجوع رجع الى اهله ونحر بدنة. الى آخره» وقد تقدم بكماله في صدر هذا المقصد (2) وذكر فيه حديث الحسين (عليه‌السلام) وانه لما بلغ عليا (عليه‌السلام) خبره فاتى اليه حلق رأسه ونحر بدنة عنه ورجع به الى المدينة.

ومنها : ما رواه الصدوق في الصحيح عن رفاعة بن موسى عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «خرج الحسين (عليه‌السلام) معتمرا ـ وقد ساق بدنة ـ حتى انتهى الى السقيا ، فبرسم ، فحلق شعر رأسه ونحوها مكانه ثم اقبل حتى جاء فضرب الباب ، فقال علي (عليه‌السلام) : ابني ورب الكعبة ، افتحوا له الباب. وكانوا قد حموه الماء ، فأكب عليه فشرب ثم اعتمر بعد».

__________________

(1) ج 5 ص 423 ، والوسائل الباب 2 من الإحصار والصد.

(2) ص 5 و 6.

(3) الفقيه ج 2 ص 305 ، والوسائل الباب 6 من الإحصار والصد.


ومنها : ما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) انه قال «في المحصور ولم يسق الهدي؟ قال : ينسك ويرجع ، فان لم يجد ثمن هدي صام».

ومنها : مرسلة الفقيه (2) عن الصادق (عليه‌السلام) «المحصور والمضطر ينحران بدنتهما في المكان الذي يضطران فيه».

ويمكن الجمع بين هذه الاخبار بالتخيير كما ذهب اليه ابن الجنيد.

ويحتمل ايضا حمل الأخبار الأخيرة على عدم إمكان البعث ، فيجوز له ذلك في مكان الحصر. ولعل في مرسلة الصدوق ما يشير الى ذلك.

ويحتمل ايضا حمل اخبار البعث على السياق الواجب والنحر في محل الحصر على ما لم يكن كذلك.

وبالجملة فالمسألة لا تخلو من الاشكال. والاحتياط في الوقوف على القول المشهور.

واما ما نقل عن سلار من التفصيل بين الحج الواجب والمندوب فيدل عليه ما رواه شيخنا المفيد في المقنعة (3) مرسلا قال : قال (عليه‌السلام): المحصور بالمرض ان كان ساق هديا اقام على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ثم يحل ، ولا يقرب النساء حتى يقضي المناسك من قابل. هذا إذا كان حجة الإسلام ، فأما حجة التطوع فإنه ينحر هديه وقد أحل من ما كان أحرم منه ، فان شاء حج من قابل وان شاء لا يجب عليه الحج. والمصدود بالعدو ينحر هديه الذي ساقه بمكانه ويقصر

__________________

(1) الوسائل الباب 7 من الإحصار والصد رقم 2 و 1.

(2) ج 2 ص 305 ، والوسائل الباب 6 من الإحصار والصد.

(3) ص 71 ، والوسائل الباب 1 من الإحصار والصد.


من شعر رأسه ويحل ، وليس عليه اجتناب النساء ، سواء كانت حجته فريضة أو سنة. انتهى.

الثاني ـ قد عرفت سابقا انه على تقدير وجوب البعث فإنه يجب عليه البقاء على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ، والمراد ببلوغه محله يعني : حضور الوقت الذي وأعد أصحابه للذبح أو النحر في المكان المعين ، كما تقدم في صحيحة معاوية بن عمار وموثقة زرعة ، فإذا حضر ذلك الوقت أحل من كل شي‌ء إلا من النساء ، حتى يحج من القابل ان كان الحج واجبا ، أو يطاف عنه ان كان الحج مستحبا.

هكذا ذكره الأصحاب ، بل قال في المنتهى : انه قول علمائنا. مؤذنا بدعوى الإجماع عليه. والروايات قاصرة عن هذه التفصيل.

اما انه لا تحل له النساء بمجرد الذبح أو النحر في عام الحصر فلا اشكال فيه ، لقوله (عليه‌السلام) في صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة في صدر المقصد (1) : «والمصدود تحل له النساء والمحصور لا تحل له النساء». وقوله في صحيحته الثانية (2) المتضمنة لحصر الحسين (عليه‌السلام). «أرأيت حين بري‌ء من وجعه قبل ان يخرج إلى العمرة حلت له النساء؟ قال : لا تحل له النساء حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة».

واما انه تحل له بعد الطواف فهو صريح صحيحة معاوية المذكورة ثانيا. ومثلها قوله (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (3) في المحصور كما تقدم نقل عبارته : ولا يحل حتى يبلغ الهدي محله ، فإذا بلغ الهدي محله أحل وانصرف الى منزله ، وعليه الحج من قابل ولا يقرب النساء حتى يحج من قابل.

__________________

(1) ص 4.

(2) ص 5 و 6.

(3) ص 29.


وإطلاق هذه الاخبار شامل لما لو كان الحج واجبا أو مستحبا بمعنى ان توقف الإحلال على الحج ثانيا والإتيان بطواف النساء أعم من ان يكون الحج واجبا أو مندوبا.

ولم نقف على دليل يدل على ما ذكروه من الاستنابة في طواف النساء متى كان الحج مندوبا ، بل هذه روايات المسألة كما سمعت. والعلامة بعد ذكر هذا الحكم في المنتهى لم يستدل عليه بشي‌ء سوى ما يفهم من كلامه وإسناده ذلك الى علمائنا ، المؤذن بدعوى الإجماع عليه كما قدمنا ذكره.

ونقل عن جمع من المتأخرين الاستدلال عليه بان الحج المندوب لا يجب العود لاستدراكه ، والبقاء على تحريم النساء ضرر عظيم ، فاكتفى في الحل بالاستنابة في طواف النساء.

وفيه : ما عرفت من ان إطلاق الروايات المتقدمة دال على انه لا تحل له النساء حتى يطوف بالبيت ـ كما في صحيحة معاوية بن عمار ـ أو حتى يحج من قابل ، كما في عبارة كتاب الفقه. واللازم اما العمل بإطلاق هذه الاخبار ، فلا يتحلل إلا بالإتيان به واجبا كان الحج أو مستحبا. وفيه : ما تقدم من الإشكال الذي ذكره جمع من المتأخرين. واما حمل هذه الاخبار على الحج الواجب خاصة والقول بالسقوط في المستحب ، وعدم وجوب الإتيان بطواف النساء لا بنفسه ولا بالاستنابة. ولعله الأقرب. وتؤيده المرسلة التي تقدم نقلها عن شيخنا المفيد في المقنعة. ويؤيده قوله في كتاب الفقه : «حتى يحج من قابل» بعد قوله أولا : «وعليه الحج من قابل» فإنه ظاهر في كون الحج واجبا مستقرا.

وقد ألحق شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بالمستحب الواجب الغير


المستقر ، فيجوز النيابة فيه دون العود له ، قال : لما في تركه من الضرر العظيم ، مع كونه من الأفعال القابلة للنيابة. ونقل عن العلامة في القواعد الجزم به. ثم قال : وقيل يبقى على إحرامه الى ان يطوف لهن ، لإطلاق النص.

وألحق العلامة في القواعد بالحج المندوب الحج الواجب مع العجز عنه. وحكاه في الدروس بلفظ «قيل» فقال : قيل : أو مع عجزه في الواجب. وهو مؤذن بتمريضه. قال في المدارك : والقول بالجواز غير بعيد ، دفعا للحرج والضرر اللازم من البقاء على التحريم.

وأنت خبير بما في هذه الإلحاقات بعد ما عرفت من عدم الدليل على الملحق به.

وبالجملة فالذي يقرب عندي من اخبار المسألة هو وجوب طواف النساء ـ وعدم حل النساء إلا بالإتيان به ـ على من وجب عليه الحج في العام الثاني ، واما من لم يجب عليه فالتمسك بأصالة البراءة أقوى دليل في المقام. وتؤيده مرسلة المقنعة المتقدمة ، وان كان ما ذهبوا اليه هو الأحوط في الدين وتحصل به البراءة بيقين.

قال في الدروس : ولو أحصر في عمرة التمتع فالظاهر حل النساء له ، إذ لا طواف لأجل النساء فيها.

قال في المدارك ـ بعد ان نقل عن المحقق الشيخ علي انه قواه وعن جده انه مال اليه ـ ما لفظه : وهو غير واضح ، إذ ليس في ما وصل إلينا من الروايات تعرض لذكر طواف النساء ، وانما المستفاد من صحيحة معاوية بن عمار (1) توقف حل النساء في المحصور على

__________________

(1) تقدمت ص 5 و 6.


الطواف والسعي وهو متناول للحج والعمرتين. ومن هنا يظهر ان ما ذكره المحقق الشيخ علي ايضا ـ من ان الاخبار مطلقة بعدم حل النساء إلا بطوافهن ـ غير جيد. انتهى.

أقول : قال في المسالك : وتوقف تحريم النساء على طوافهن يتم مع وجوب طواف النساء في النسك ، فلو كان عمرة التمتع فالذي ينبغي الإحلال من النساء أيضا ، إذ ليس فيها طواف النساء. واختاره في الدروس. ولكن الأخبار مطلقة بعدم حل النساء إلا بطوافهن من غير تفصيل. انتهى. وكلامه ـ كما ترى ـ يؤذن بالتردد لا بالميل الى ذلك القول كما نقله عنه سبطه.

واما المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) فإنه قال : وفي الدروس : لو كانت عمرة التمتع أحل من النساء أيضا ، إذ ليس فيها طواف النساء. وهو قوي متين. لكن الأخبار مطلقة بعدم حل النساء إلا بطوافهن من غير تفصيل. ويمكن ان يحتج لذلك بأن عمرة التمتع دخلت في الحج فالشروع فيها شروع فيه ، فيتوقف انقطاع الارتباط به على طواف النساء. وفيه نظر ، لان الارتباط لا يقتضي منع إحرامه الذي هو فيه من النساء بعد التقصير الى ان يطوف لهن. انتهى. وهو ـ كما ترى ـ كسابقه يؤذن بالتردد لا التقوية كما ذكره.

وحاصل كلامهما ان عدم طواف النساء في صورة الحصر عن عمرة التمتع قوي ، بالنظر الى ان عمرة التمتع ليس فيها طواف النساء ، إلا انه بالنظر الى إطلاق الاخبار لا يتم ذلك. ويؤيد ما قلناه استدلال المحقق المذكور بما ذكره للقول المذكور ثم رده. ومنه يظهر ان النقل عنهما بما ذكره لا يخلو من مسامحة. نعم كلام الشهيد في الدروس ظاهر في الجزم به. ثم ما نقله


عن الشيخ علي (قدس‌سره) من ان الاخبار مطلقة بعدم حل النساء إلا بطوافهن مذكور ايضا ـ كما عرفت ـ في كلام جده ، فلا وجه لتخصيصه الشيخ علي بذلك.

وكيف كان فان ما ذكراه من ان الاخبار مطلقة بعدم حل النساء إلا بطوافهن ، ان أريد به في باب المحصور فليس في الباب ما يتعلق بذلك إلا صحيحة معاوية بن عمار المذكورة (1) وظاهرها انما هو التوقف على الطواف والسعي ، وليس فيها تعرض لطواف النساء بخصوصه. والظاهر ان هذه العبارة خرجت مخرج التجوز ، بمعنى انه لا تحل له النساء حتى يأتي بأفعال العمرة من الطواف والسعي ونحوهما ، فان سياق الخبر في اعتمار الحسين (عليه‌السلام) والظاهر انها عمرة مفردة. وان أريد الأخبار الدالة على وجوب طواف النساء على الحاج والمعتمر مطلقا (2) وان هذه الصورة تدخل تحت إطلاق تلك الاخبار ، فهو ايضا غير متجه ، لأن الأخبار هناك غير مطلقة بل جملة من الاخبار دلت على وجوب طواف النساء في الحج ولا خلاف فيه ، واختلفت في العمرة المفردة ، وان كان المشهور وجوبه فيها كما سيأتي بيانه في موضعه. واما عمرة التمتع فالأخبار مستفيضة بعدم وجوب طواف النساء فيها (3) والأصحاب إلا من شذ على ذلك. وبالجملة فكلامهما (عطر الله مرقديهما) لا يخلو من غفلة.

نعم لقائل أن يقول في الانتصار لما ذكره شيخنا في الدروس بان ظاهر

__________________

(1) ص 5 و 6.

(2) الوسائل الباب 2 من أقسام الحج ، والباب 10 من كفارات الاستمتاع والباب 2 و 82 من الطواف.

(3) الوسائل الباب 82 من الطواف.


سياق صحيحة معاوية المتضمنة لتلك العبارة انما هو اعتماد الحسين (عليه‌السلام) عمرة مفردة ، فلا عموم فيها لما ادعاه في المدارك من دخول الحج وعمرة التمتع ، غاية الأمر ان وجوب طواف النساء لما كان متفقا عليه في الحج نصا (1) وفتوى فلا بد من اجراء الحكم فيه من أدلة خارجة لا من هذه الرواية ، وعمرة التمتع لما لم يكن فيها طواف النساء ـ كما استفاضت به الاخبار (2) ـ بقيت خارجة من الحكم ، وإثباته فيها في هذه الصورة يحتاج الى دليل ، وليس إلا صحيحة معاوية المذكورة (3) وظاهرها الاختصاص بالعمرة المفردة كما ذكرنا ، وسياق الخبر حكاية حاله (عليه‌السلام) فلا عموم فيه كما هو ظاهر. وبذلك يندفع الإشكال في المقام. والله العالم.

الثالث ـ لو ظهر ان هديه الذي بعثه لم يذبح وقد تحلل في يوم الوعد ، لم يبطل تحلله. وكذا لو لم يبعث هديا وأرسل دراهم يشترى بها هدي وواعد بناء على ذلك ، فتحلل في يوم الوعد ، ثم ردت عليه الدراهم ، فان تحلله صحيح أيضا ، لأن التحلل في الموضعين وقع باذن الشارع كما سيظهر لك ، فلا يتعقبه مؤاخذة ولا بطلان. نعم الواجب عليه بعد العلم بذلك بعث الهدي من قابل ، والإمساك عن ما يجب على المحرم الإمساك عنه الى يوم الوعد.

ويدل على ما ذكرناه صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة وقوله (عليه

__________________

(1) الوسائل الباب 2 من أقسام الحج ، والباب 10 من كفارات الاستمتاع والباب 2 و 82 من الطواف.

(2) الوسائل الباب 82 من الطواف.

(3) ص 5 و 6.


السلام) في آخرها على رواية الشيخ في التهذيب كما تقدم (1) : «وان ردوا الدراهم عليه ولم يجدوا هديا ينحرونه وقد أحل ، لم يكن عليه شي‌ء ، ولكن يبعث من قابل ويمسك ايضا».

وقوله (عليه‌السلام) في موثقة زرارة المتقدمة (2) بعد قول زرارة : «قلت : أرأيت ان ردوا عليه دراهمه ولم يذبحوا عنه وقد أحل فأتى النساء؟ قال : «فليعد وليس عليه شي‌ء ، وليمسك الآن عن النساء إذا بعث».

والمستفاد من الروايتين المذكورتين وجوب الإمساك إذا بعث هديه في القابل أو قيمة يشترى بها. وهو المشهور بين الأصحاب.

وقال ابن إدريس : لا يجب عليه الإمساك عن ما يمسك عنه المحرم لانه ليس بمحرم.

واستوجهه العلامة في المختلف ، وقال : ان الأقرب عندي حمل الرواية على الاستحباب ، جمعا بين النقل وما قاله ابن إدريس. وأشار بالرواية إلى صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة حيث لم ينقل سواها.

واعترضه في المدارك بان ما ذكره ابن إدريس لا يصلح معارضا للنقل.

وفيه : ان الظاهر ان مراد شيخنا المذكور ان ما ذكره ابن إدريس هو الأوفق بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية ، حيث ان الأصل في الأشياء الإباحة ، والاخبار الدالة على تحريم تلك الأشياء إنما دلت بالإحرام أو في الحرم ، ومتى لم يكن محرما ولا في الحرم فلا يحرم عليه شي‌ء. وهذا جيد على قواعد ابن إدريس. إلا ان الجواب عنه انه

__________________

(1) ص 5 و 6.

(2) ص 4.


بعد ان دل النص الصحيح على ذلك فلا مجال للتوقف فيه. والعلامة (رحمه‌الله) انما لحظ ذلك لا مجرد قول ابن إدريس. وباعتبار ما ذكرناه يكون من قبيل تعارض الدليلين ، وهو في غير موضع قد جمع بينهما في مثل ذلك بالاستحباب ، وتكلمنا عليه بإمكان الجمع بتخصيص الإطلاق كما هنا ، وهو اولى من الجمع بالاستحباب. وما ذكره العلامة من توجيه كلام ابن إدريس ليس مخصوصا به بل هو ظاهر جماعة من الأصحاب ، كما ذكره في المسالك ، بل ظاهره في المسالك الميل اليه. وهو من ما يؤذن بقوة قوله عندهم ، وليس إلا باعتبار ما وجهناه به.

ثم انه قال في المدارك : واعلم انه ليس في الرواية ولا في كلام من وقفت على كلامه من الأصحاب تعيين لوقت الإمساك صريحا ، وان ظهر من بعضها انه من حين البعث. وهو مشكل. ولعل المراد انه يمسك من حين إحرام المبعوث معه الهدي. انتهى.

أقول : لا يخفى ان ظاهر موثقة زرارة (1) وجوب الإمساك إذا بعث. ثم انه اي إشكال في القول بوجوب الإمساك من حين البعث حتى انه يرتكب التخصيص بحين إحرام المبعوث معه الهدي؟ واي دليل دل على ذلك حتى يفر اليه من هذا الاشكال. بل الإشكال في ما ذكره أعظم ، حيث انه لا دليل عليه بالمرة ولا قائل به بالكلية والقول بوجوب الإمساك من حين البعث هو ظاهر الأصحاب والاخبار اما موثقة زرارة (2) فهي ظاهرة في ذلك. واما صحيحة معاوية بن عمار (3)

__________________

(1 و 2) تقدمت ص 4.

(3) تقدمت ص 5 و 6.


فان قوله : «يبعث من قابل ويمسك أيضا» ـ يعني : من قابل ـ فهو ظاهر في كون وقت الإمساك ووقت البعث واحدا.

بقي هنا شي‌ء وهو ان ظاهر موثقة زرارة أنه بالمواعدة وإتيان وقت الوعد يحل حتى من النساء. وهو مشكل ، حيث ان ظاهر الأصحاب ان الحل من النساء متوقف على الطواف كما تقدم ، بنفسه ان كان الحج واجبا ، لوجوب المضي عليه ، أو نائبه ان كان مستحبا. وهو ظاهر الاخبار المتقدمة أيضا.

قال في الوافي بعد نقل الخبر المذكور : لعل المراد بإتيانه النساء إتيانه إياهن بعد الطواف والسعي (1).

أقول : لا يخفى ما فيه ، فان سياق الخبر ان المحصور يبعث بهديه ويواعدهم يوما ، فإذا بلغ الهدي أحل هذا في مكانه ، فقال له الراوي :

أرأيت ان ردوا عليه دراهمه ولم يذبحوا عنه وقد أحل فأتى النساء؟ قال : فليعد وليس عليه شي‌ء ، وليمسك الآن عن النساء. هذا صورة الخبر ، فكيف يتم إن إتيانه بعد الطواف والسعي وهو في مكانه؟ مع ان التكليف بالطواف بنفسه أو بنائبه انما هو في العام القابل كما في الاخبار وكلام الأصحاب. اللهم إلا ان يحمل إتيانه النساء على الخطأ والجهل بتوهم حلهن له بالمواعدة كما في سائر محرمات الإحرام ويكون قوله (عليه‌السلام) : «ليس عليه شي‌ء» يعنى من حيث الجهل ، فإنه معذور ، كما في غير موضع من أحكام الحج ، وانه بعد العلم بذلك فليمسك الآن عن النساء إذا بعث.

قال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد ـ بعد نقل

__________________

(1) لم نجد هذه العبارة في الوافي.


الخلاف بين المشهور وابن إدريس ، واحتجاج ابن إدريس بالأصل ، وانه ليس بمحرم ولا في حرم ، فكيف يمنع من الصيد ونحوه؟ والجواب عن ذلك بأنه لا استبعاد بعد وجود النص ، ويضمحل الأصل به. ويؤيده ما يدل على بعث الهدى من الآفاق والإمساك كما سيجي‌ء ـ : على انه قد يقال : وجوب الإمساك عن الصيد ونحوه غير معلوم ، وانما دل الدليل على وجوب الإمساك عن النساء ، ولا استبعاد في ذلك ، كما إذا قصر المحصر لا تحل له النساء حتى يطوف ، فان معنى قولهم : «لا يبطل إحلاله» انه لا تجب عليه الكفارة بالتحلل بل لما وقع التحلل باعتقاد انه محل فلا شي‌ء عليه. ولا ينافيه ان يكون باقيا على إحرامه الى ان يبعث في القابل. ولكن يلزم كونه باقيا على الإحرام من حين العلم لا من حين البعث ، ولا شك انه أحوط. بل الظاهر ان ذلك هو الواجب ، لان المحلل ما حصل في نفس الأمر ، وكفاية زعمه غير ظاهر بعد العلم بفساد زعمه وظنه. فتأمل. انتهى.

أقول : وفيه : ان ظاهره موافقة ابن إدريس في عدم تحريم الصيد ونحوه من محرمات الإحرام إلا النساء. ولعله اعتمد في ذلك على موثقة زرارة المتقدمة ، حيث نقلها سابقا في كلامه ، إلا انها غير صريحة بل ولا ظاهرة في ذلك وان أوهمته في بادي الرأي. والظاهر من كلام الأصحاب وصحيحة معاوية بن عمار المتقدمة هو تحريم جميع محرمات الإحرام عليه من حين البعث لا خصوص النساء. وبالجملة فإنا نقول : ان هذا المحرم بعد إحرامه قد حرم عليه جميع محرمات الإحرام ، ولما أحصر واذن له الشارع ببعث الهدي أو ثمنه ، وانه يعدهم بوقت ، وجوز له الإحلال في ذلك الوقت إلا من النساء ، ثم قصر وأحل في وقت الوعد باذن الشارع


له في ذلك لا باعتبار زعمه وظنه كما ذكره (قدس‌سره) فقد وقع إحلاله في محله ، ولا يتعقبه نقص ولا كفارة. وقوله (قدس‌سره) ـ : ولا ينافيه ان يكون باقيا على إحرامه الى ان يبعث في القابل ـ ممنوع فإنه بناء على كون التحلل انما وقع في الظاهر باعتبار ظنه وزعمه باعتقاده الذبح عنه ، وهو غلط منه ، بل التحلل عندنا انما استند إلى أمر الشارع له بذلك وتجويزه ، كما دل عليه الخبران المتقدمان. ويؤيده أيضا قوله (عليه‌السلام) في موثقة زرعة (1) : «وانما عليه ان يعدهم لذلك يوما ، فإذا كان ذلك اليوم فقد وفى ، وان اختلفوا في الميعاد لم يضره ان شاء الله تعالى». وحينئذ إذا كان إحلاله مستندا إلى اذن الشارع فهو محل ظاهرا وواقعا ، غاية الأمر ان الشارع أوجب عليه لتدارك ما فات ان يرسل الهدي وان يجتنب ما يجتنبه المحرم وقت الإرسال ، كما في الآفاقي الآتي ذكره ان شاء الله تعالى. وهذا غاية ما يفهم من اخبار المسألة. وبذلك يظهر ان ما ذكره ـ من ان الأحوط بل الظاهر انه الواجب كونه باقيا على الإحرام من حين العلم ـ غير جيد ، بل مجرد وهم نشأ من بنائه تجويز الإحلال على زعمه وظنه التحلل بالمواعدة وانهم وفوا بوعده ، وقد انكشف خلف الوعد فكان باقيا على إحرامه. وقد عرفت ما فيه ، وان تجويز الإحلال إنما استند إلى أمر الشارع واذنه. وليت شعري كيف الجمع ، بين حكمه أولا بأن وجوب الإمساك عن الصيد ونحوه غير معلوم وإنما دل الدليل على وجوب الإمساك عن النساء ، وبين قوله ان يكون باقيا على إحرامه من حين العلم بفساد المواعدة وانهم لم يذبحوا عنه ، لظهور بقائه على

__________________

(1) تقدمت ص 42.


الإحرام الأول؟ ما هو إلا عجب عجيب من هذا المحقق الأريب ، وبالجملة فإني لا اعرف لكلامه (رحمه‌الله تعالى) هنا وجه صحة. والله العالم.

الرابع ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو وجد المحصور من نفسه خفة ـ بعد ان بعث هديه ـ وامكنه المسير إلى مكة فالواجب عليه اللحوق بأصحابه ، لأنه محرم بأحد النسكين فيجب عليه الإتيان به وإتمامه ، للآية (1) والفرض انه متمكن. ثم انه ان أدرك أحد الموقفين الموجب لصحة الحج فقد أدرك الحج وليس عليه الحج من قابل ، وان لم يدرك ما يوجب صحة الحج فقد فاته الحج وكان عليه الحج من قابل ان كان واجبا ، ويتحلل بعمرة. وسيأتي ان شاء الله (تعالى) تفصيل ما به يدرك الحج في محله.

ويدل على أصل الحكم ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (2) قال : «إذا أحصر الرجل بعث بهديه ، فإذا أفاق ووجد من نفسه خفة فليعض ان ظن انه يدرك الناس ، فان قدم مكة قبل ان ينحر الهدي فليقم على إحرامه حتى يفرغ من جميع المناسك ولينحر هديه ولا شي‌ء عليه ، وان قدم مكة وقد نحر هديه فان عليه الحج من قابل أو العمرة. قلت : فان مات وهو محرم قبل ان ينتهي إلى مكة؟ قال : يحج عنه ان كانت حجة الإسلام ويعتمر ، انما هو شي‌ء عليه». قوله : «ان ظن انه يدرك الناس»

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 195.

(2) الوسائل الباب 3 من الإحصار والصد.


في الكافي (1) ، وفي التهذيب (2) «ان ظن انه يدرك هديه قبل ان ينحر».

قال في الوافي (3) : قوله : «من قابل» قيد للحج خاصة دون العمرة ، وانما الحج من قابل إذا نحر هديه وفات وقت مناسكه. وقوله : «أو العمرة» يعني : إذا كان إحرامه للعمرة. انتهى.

وهو كذلك بناء على عطف العمرة ب «أو» ، واما على العطف بالواو ـ كما في بعض النسخ ، وكذلك نقله في الوسائل والمنتهى في ما حضرني من نسختهما ـ فالظاهر ان المراد عمرة التحلل. فان قيل : ان التحلل قد حصل بذبح الهدي عنه. قلنا : ظاهر كلام الأصحاب وإطلاق عباراتهم في هذا المقام يعطي وجوب التحلل بالعمرة وان تحقق الذبح عنه بعد وصوله.

قال في المدارك ـ بعد قول المصنف : ولو بعث هديه ثم زال العارض لحق بأصحابه ، فإن أدرك أحد الموقفين في وقته فقد أدرك الحج ، وإلا تحلل بعمرة ـ ما صورته : واعلم ان إطلاق العبارة وغيرها يقتضي عدم الفرق في وجوب التحلل بالعمرة مع الفوات بين ان يتبين وقوع الذبح عنه وعدمه. وبهذا التعميم صرح الشهيدان ، نظرا الى ان التحلل بالهدي انما يحصل مع عدم التمكن من العمرة أما معها فلا ، لعدم الدليل. ويحتمل عدم الاحتياج إلى العمرة إذا تبين وقوع الذبح عنه لحصول التحلل به. انتهى.

وبالجملة فإنه على تقدير نسخة الواو لا معنى للعمرة إلا عمرة التحلل وعلى تقديره تكون الرواية واضحة الدلالة على ما ذكره الأصحاب والمعنى حينئذ انه ينتقل إحرامه الذي دخل به للحج إلى العمرة المفردة

__________________

(1) ج 4 ص 370.

(2) ج 5 ص 422.

(3) باب (المحصور والمصدود).


ويتحلل بها. وبذلك صرح الأصحاب أيضا.

قال العلامة في المنتهى : إذا فاته الحج جعل حجه عمرة مفردة ، فيطوف ويسعى ويحلق. قاله علماؤنا أجمع. ثم نقل خلاف العامة (1).

والعجب من السيد السند في المدارك حيث ذكر الحكم المذكور ولم يورد الرواية دليلا لذلك ، مع صحتها وصراحتها ، وتهالكه على ذكر الأدلة ، ولا سيما مع صحة أسانيدها. ولعله غفل عنها. والله العالم.

الخامس ـ الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في ان حكم المعتمر في أحكام الحصر حكم الحاج ، فمتى أحصر فعل ما ذكر في أحكام الحج ، وكان عليه العمرة واجبة ان كانت عمرة الإسلام أو غيرها من الواجبات وان كانت نفلا كان الإعادة نفلا أيضا.

بقي الكلام في انه هل يشترط مضى الشهر هنا أم يقضي عند زوال العذر مطلقا؟ ظاهر الأصحاب ان الخلاف هنا كالخلاف في أصل المسألة في الزمان الذي يجب كونه بين العمرتين. قال في الدروس : المعتمر افرادا يقضي عمرته في زمان يصح فيه الاعتمار ثانيا ، فيبني على الخلاف. أقول : وسيأتي تحقيق الكلام فيه في محله ان شاء الله (تعالى).

قال في المدارك : ويمكن المناقشة فيه بعدم تحقق العمرة ، لتحلله منها ، فلا يعتبر في جواز الثانية تخلل الزمان الذي يجب كونه بين العمرتين. الا ان يقال باعتبار مضى الزمان بين الإحرامين. وهو جيد.

وكيف كان فإنما يجب قضاء العمرة مع استقرار وجوبها قبل ذلك أو مع التفريط ، كما تقدم في الحج. والله العالم.

السادس ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله ـ تعالى ـ عليهم) في المحصور

__________________

(1) المغني ج 3 ص 327 و 328 طبع مطبعة العاصمة.


إذا كان قارنا ثم تحلل ، فهل يجب عليه القضاء بمثل ما خرج منه فلا يجوز له التمتع أم لا؟ المشهور الأول ، وهو قول الشيخ ومن تبعه. وظاهر هذا القول عدم الفرق بين الواجب والندب ، وان كان الندب لا يجب قضاؤه ، الا انه ان قضاه قضاه كذلك. ومنع ابن إدريس من ذلك وجعل له ان يحرم بما شاء. وقال في المختلف : والأقرب ان نقول ان تعين عليه نوع وجب عليه الإتيان به وإلا تخير ، غير ان الأفضل الإتيان بمثل ما خرج منه. ونحوه في المنتهى.

والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة صحيحة رفاعة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) ومحمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) انهما قالا : «القارن يحصر ، وقد قال واشترط : فحلني حيث حبستني؟ قال : يبعث بهديه. قلنا : هل يتمتع في قابل؟ قال : لا ولكن يدخل في مثل ما خرج منه».

ورواية رفاعة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «قلت : رجل ساق الهدي ثم أحصر؟ قال : يبعث بهديه. قلت : هل يستمتع من قابل؟ فقال : لا ولكن يدخل في مثل ما خرج منه».

وبهذه الروايات أخذ الشيخ ومن تبعه من الأصحاب.

قال في المنتهى بعد نقل صحيحة محمد بن مسلم ورفاعة دليلا للشيخ : ونحن نقول بحمل هذه الرواية على الاستحباب ، أو على انه قد كان القران متعينا في حقه ، لانه إذا لم يكن واجبا لم يجب القضاء ، فعدم وجوب الكيفية أولى. انتهى. وهو جيد.

__________________

(1) التهذيب ج 5 ص 423 ، والوسائل الباب 4 من الإحصار والصد.

(2) الكافي ج 4 ص 371 ، والوسائل الباب 4 و 7 من الإحصار والصد.


قال في المدارك : والقول بوجوب الإتيان بما كان واجبا والتخيير في المندوب لابن إدريس وجماعة ، وقوته ظاهرة. انتهى.

أقول : لا يخفى ان مقتضى كلام العلامة في المختلف ان في المسألة أقوالا ثلاثة : أحدها ـ ما نقله عن الشيخ ، وهو المشهور كما قدمنا ذكره. الثاني ـ ما نقله عن ابن إدريس ، وهو ما ذكرناه من انه يحرم بما شاء. وكذلك نقله في المنتهى بهذه العبارة. الثالث ـ ما اختاره هو (قدس‌سره) في المنتهى والمختلف كما قدمنا ذكره عن المختلف. وقال في المنتهى بعد نقل قولي الشيخ وابن إدريس : والوجه عندي انه يأتي بما كان واجبا ، وان كان ندبا حج بما شاء من أنواعه ، وان كان الإتيان بمثل ما خرج منه أفضل. وهو يرجع الى ما اختاره في المختلف.

والمحقق في الشرائع نقل قول الشيخ والقول الذي حكيناه عن العلامة فقال : والقارن إذا أحصر فتحلل لم يحج في القابل الا قارنا. وقيل : يأتي بما كان واجبا ، وان كان ندبا حج بما شاء من أنواعه ، وان كان الإتيان بمثل ما خرج منه أفضل. هذه عبارته.

والسيد السند (قدس‌سره) نسب هذا القول الثاني لابن إدريس وجماعة ، كما سمعت من عبارته ، وهو وهم منه (قدس‌سره) فان قول ابن إدريس المحكي عنه في المختلف والمنتهى كما سمعت انما هو الإحرام بما شاء ، واين هو من هذا التفصيل الذي في العبارة؟ وانما هذا قول ثالث في المسألة غير قول ابن إدريس.

وهذه عبارة ابن إدريس في سرائره ننقلها لتكون على يقين من ما قلناه ، قال : قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : والمحصور ان كان قد أحصر وقد أحرم بالحج قارنا فليس له ان يحج في المستقبل متمتعا ،


بل يدخل بمثل ما خرج منه. قال محمد بن إدريس : وليس على ما قاله (رحمه‌الله) دليل من كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع ، بل الأصل براءة الذمة. وبما شاء يحرم في المستقبل. انتهى. وبذلك يظهر لك ان ما ذكره في المدارك ناشى‌ء عن الغفلة وعدم مراجعة مذهب ابن إدريس في المسألة.

أقول : وكلام ابن إدريس جيد على أصوله الغير الاصيلة ، والا فالسنة قد دلت على ما ذكره الشيخ ، غير ان الشيخ لما كان من عادته في النهاية الإفتاء بمتون الاخبار غالبا ذكر فتواه بصورة الرواية ، والرواية على إطلاقها غير معمول عليها. وبعين ما تؤول به الرواية يؤول كلامه. والوجه فيه ما ذكره العلامة وغيره من ان الحج الأول ، ان كان واجبا فالقضاء قرانا واجب ، وان كان مستحبا فهو مخير ، وان كان الأفضل جعله قرانا. واما كلام ابن إدريس فهو ساقط رأي العين ، لانه مبني على اطراح الروايات من البين.

السابع ـ المحصور قبل بلوغ الهدي محله ، ان احتاج الى حلق رأسه لأذى ، ساغ له ذلك ، ووجب عليه الفداء. صرح به في المنتهى.

واستدل عليه برواية زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «إذا أحصر الرجل فبعث بهديه ، وآذاه رأسه قبل ان ينحر فحلق رأسه ، فإنه يذبح في المكان الذي أحصر فيه ، أو يصوم ، أو يطعم ستة مساكين».

أقول : وهذه الرواية قد رواها الشيخ في موضع من التهذيب (2)

__________________

(1) الوسائل الباب 5 من الإحصار والصد رقم 1.

(2) ج 5 ص 423.


بهذه ، الصورة ، وعليها اقتصر في الوافي (1) ورواها أيضا في موضع آخر (2) عن زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إذا أحصر الرجل فبعث بهديه ، فآذاه رأسه قبل ان ينحر هديه ، فإنه يذبح شاة في المكان الذي أحصر فيه ، أو يصوم ، أو يتصدق على ستة مساكين. والصوم ثلاثة أيام. والصدقة نصف صاع لكل مسكين». والظاهر ان لفظ حلق الرأس سقط من هذه الرواية. ولعله لذلك اقتصر في الوافي على نقل الرواية بالنحو الأول.

وكيف كان فالظاهر ان وجوب الشاة أو بدلها إنما هو من حيث كفارة الحلق لا للتحلل بل التحلل موقوف على حلول وقت المواعدة.

تذنيب

قال الشيخ في النهاية : ومن أراد ان يبعث بهدي تطوعا فليبعثه ويواعد أصحابه يوما بعينه ، ثم ليجتنب جميع ما يجتنبه المحرم من الثياب والنساء والطيب وغيره. الا انه لا يلبي. فإن فعل شيئا من ما يحرم عليه كانت عليه الكفارة كما تجب على المحرم سواء. فإذا كان اليوم الذي واعدهم أحل. وان بعث الهدي من أفق من الآفاق يواعدهم يوما بعينه بإشعاره وتقليده ، فإذا كان ذلك اليوم اجتنب ما يجتنبه المحرم الى ان يبلغ الهدي محله ، ثم انه أحل من كل شي‌ء أحرم منه. انتهى.

قال ابن إدريس بعد نقل ذلك : قال محمد بن إدريس : هذا غير

__________________

(1) باب (المحصور والمصدود).

(2) ج 5 ص 334 ، والوسائل الباب 5 من الإحصار والصد رقم 2.


واضح ، وهذه اخبار آحاد لا يلتفت إليها ولا يعرج عليها ، وهذه أمور شرعية يحتاج مثبتها ومدعيها إلى أدلة شرعية ، ولا دلالة من كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع ، وأصحابنا لا يوردون هذا في كتبهم ولا يودعونه في تصانيفهم ، وإنما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، لان الكتاب المذكور كتاب خبر لا كتاب بحث ونظر وكثيرا ما يورد فيه أشياء غير معمول عليها. والأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية.

وقال العلامة في المختلف بعد نقل كلام ابن إدريس ـ ونعم ما قال ـ : وهذا الإنكار من ابن إدريس خطأ ، فإن الشيخ قد ذكره في غير كتاب النهاية ، وابن البراج ايضا ذكره ، والصدوق ـ وهو شيخ الجماعة وكبيرهم ـ قد روى في كتاب من لا يحضره الفقيه (1) في الصحيح عن معاوية بن عمار. ثم ساق الرواية كما سيأتي ان شاء الله (تعالى) ونقل عنه أيضا المرسلة الآتية ، وساق جملة من روايات المسألة الآتية ان شاء الله (تعالى) ، وقال بعدها : وهذه الاخبار متظاهرة مشهورة صحيحة السند ، عمل بها أكثر العلماء ، فكيف يجعل ذلك شاذا من غير دليل؟ وهل هذا إلا جهل منه بمواقع الأدلة ومدارك أحكام الشرع؟ انتهى.

أقول : وها أنا أسوق إليك ما وقفت عليه من الاخبار في المسألة :

فمنها : صحيحة معاوية بن عمار المشار إليها آنفا المروية في من لا يحضره الفقيه (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يبعث بالهدي تطوعا وليس بواجب. فقال : يواعد أصحابه يوما فيقلدونه ، فإذا

__________________

(1 و 2) ج 2 ص 306 ، والوسائل الباب 9 من الإحصار والصد.


كان تلك الساعة اجتنب ما يجتنبه المحرم الى يوم النحر ، فإذا كان يوم النحر أجزأ عنه. فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حين صده المشركون يوم الحديبية نحر وأحل ، ورجع الى المدينة».

وصحيحة الحلبي (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل بعث بهديه مع قوم سياق ، وواعدهم يوما يقلدون فيه هديهم ويحرمون. فقال : يحرم عليه ما يحرم على المحرم في اليوم الذي واعدهم فيه حتى يبلغ الهدي محله. قلت : أرأيت ان اختلفوا في الميعاد وابطأوا في المسير عليه ، وهو يحتاج ان يحل هو في اليوم الذي واعدهم فيه؟ قال : ليس عليه جناح ان يحل في اليوم الذي واعدهم فيه».

وصحيحة هارون بن خارجة (2) قال : «ان أبا مراد بعث ببدنة وأمر الذي بعث بها معه ان يقلد ويشعر في يوم كذا وكذا ، فقلت له : انه لا ينبغي لك ان تلبس الثياب. فبعثني الى ابي عبد الله (عليه‌السلام) وهو بالحيرة ، فقلت له : ان أبا مراد فعل كذا وكذا ، وانه لا يستطيع ان يدع الثياب لمكان ابي جعفر. فقال : مره فليلبس الثياب ولينحر بقرة يوم النحر عن لبسه الثياب».

وصحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «ان ابن عباس وعليا (عليه‌السلام) كانا يبعثان بهديهما من المدينة

__________________

(1) التهذيب ج 5 ص 424 ، والوسائل الباب 9 من الإحصار والصد.

(2) التهذيب ج 5 ص 425 ، والوسائل الباب 10 من الإحصار والصد.

(3) التهذيب ج 5 ص 424 ، والوسائل الباب 9 من الإحصار والصد والراوي في نسخ الحدائق «عبد الله بن مسكان» وفي كتب الحديث «عبد الله ابن سنان» كما أوردناه.


ثم يتجردان ، وان بعثا بهما من أفق من الآفاق وأعدا أصحابهما بتقليدهما وإشعارهما يوما معلوما ، ثم يمسكان يومئذ إلى يوم النحر عن كل ما يمسك عنه المحرم ويجتنبان كل ما يجتنب المحرم ، إلا انه لا يلبي إلا من كان حاجا أو معتمرا».

ورواية أبي الصباح الكناني (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل بعث بهدي مع قوم ، وواعدهم يوما يقلدون فيه هديهم ويحرمون فيه. فقال : يحرم عليه ما يحرم على المحرم في اليوم الذي واعدهم حتى يبلغ الهدي محله. فقلت : أرأيت إن أخلفوا في ميعادهم وابطأوا في السير ، عليه جناح في اليوم الذي واعدهم؟ قال : لا ، ويحل في اليوم الذي واعدهم». ورواه الشيخ في التهذيب (2) في الصحيح عن الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام). الحديث كما قدمناه».

ورواية سلمة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) «ان عليا (عليه‌السلام) كان يبعث بهديه ثم يمسك عن ما يمسك عنه المحرم ، غير انه لا يلبي ، ويواعدهم يوم ينحر بدنة فيحل».

وروى في من لا يحضره الفقيه (4) مرسلا قال : «قال الصادق (عليه‌السلام) : ما يمنع أحدكم ان يحج كل سنة؟ فقيل له : لا يبلغ ذلك أموالنا. فقال : اما يقدر أحدكم إذا خرج أخوه أن

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 539 ، والوسائل الباب 9 من الإحصار والصد.

(2) ج 5 ص 424 ، والوسائل الباب 9 من الإحصار والصد.

(3) الكافي ج 4 ص 540 ، والوسائل الباب 9 من الإحصار والصد.

(4) ج 2 ص 306 ، والوسائل الباب 9 من الإحصار والصد.


يبعث معه بثمن أضحية ، ويأمره أن يطوف عنه أسبوعا بالبيت ، ويذبح عنه فإذا كان يوم عرفة لبس ثيابه وتهيأ واتى المسجد ، فلا يزال في الدعاء حتى تغرب الشمس».

أقول : والكلام في هذه الاخبار يقع في مواضع الأول ـ لا يخفى ان هذه الروايات قد رواها المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في أصولهم المشهورة ، فما بين ما اشتركوا في روايته ، وما بين ما انفرد كل منهم ببعض منها ، وهو دليل واضح على صحتها عندهم والعمل بها. وبذلك يظهر ان كلام ابن إدريس وطعنه فيها من ما لا ينبغي ان يصغى اليه ، وهل الطعن فيها مع رواية أساطين الطائفة المحقة لها ووجودها في الأصول المأثورة عنهم (عليهم‌السلام) إلا طعن في اخبار الشريعة كملا؟

قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : واعلم ان هذه العبارة قد وردت في النصوص الصحيحة المتكثرة ، وذكرها أكثر الأصحاب في كتبهم ، وأفتوا بمضمونها ، وإثبات الأحكام الشرعية يحصل بدون ذلك. وحينئذ فلا يلتفت الى إنكار ابن إدريس لها ، زاعما ان مستندها اخبار آحاد لا تكفي في تأسيس مثل ذلك ، فان ذلك منه في حين المنع. انتهى.

الثاني ـ ظاهر الاخبار المذكورة المطابقة لما ادعاه الشيخ من وجوب اجتناب ما يحرم على المحرم في مدة المواعدة ، والتكفير لو تلبس بشي‌ء من المحرمات ، وظاهر جملة من أصحابنا ـ منهم : شيخنا الشهيد الثاني ـ ان محرمات الإحرام في المدة المضروبة مكروهة لا محرمة.

قال في المسالك : يكره له بعد النية ملابسة تروك المحرم كراهة شديدة ، وفي رواية أبي الصباح عن الصادق (عليه‌السلام) «يحرم عليه ما يحرم على المحرم في اليوم الذي واعدهم حتى يبلغ الهدي محله»


والظاهر انه أراد به تأكد الكراهة. انتهى.

أقول : والتصريح بالتحريم كما وقع في رواية أبي الصباح المروية بطريق آخر في الصحيح عن الحلبي (1) فكذا في صحيحة الحلبي (2) ، وصرح بالتكفير على لبس المخيط المؤذن بالتحريم في صحيحة هارون بن خارجة (3) مع اتفاق الروايات الباقية عدا المرسلة الأخيرة (4) في انه يجتنب ما يجتنبه المحرم الى يوم النحر. ولا وجه لاطراح هذه الاخبار كملا والخروج عن ظاهرها إلا مجرد الاستبعاد الذي ذكره ابن إدريس في المسألة المتقدمة وهو من ردت عليه قيمة الهدي ، وانه يرسل هديا في العام القابل ، ويمسك عن المحرمات وقت الإرسال. وهم قد ردوه سابقا ، وإلا فما الموجب لتأويلها بما ذكره؟

ومن أجل ذلك اعترضه سبطه في المدارك ايضا ، فقال بعد نقل ذلك عنه : ويشكل بان مقتضى روايتي الحلبي وابي الصباح الكناني التحريم ، ولا معارض لهما يقتضي حملهما على الكراهة.

أقول : وظاهر المحقق في الشرائع أيضا يشعر بذلك حيث صرح باستحباب الكفارة لو اتى بما يحرم على المحرم. بل يشعر بنوع توقف في أصل الحكم حيث نسبه الى الرواية ، فقال : وروى ان باعث الهدي تطوعا يواعد أصحابه وقت ذبحه أو نحره ، ثم يجتنب ما يجتنبه المحرم فإذا كان وقت المواعدة أحل ، لكن هذا لا يلبي. ولو اتى بما يحرم على المحرم كفر استحبابا. انتهى.

والظاهر ان منشأ جميع ذلك هو الاستبعاد الذي ذكره ابن إدريس في تلك المسألة ورد لأجله أخبار هذه المسألة. وهو مردود بأن الأحكام

__________________

(1 و 4) ص 64.

(2 و 3) 63.


الشرعية أمور متلقاة من الشارع ، فمتى ثبت الحكم عنه ولا معارض له فالخروج عنه بمجرد التشهي غير جيد. واستفاضة الاخبار في باب الإحرام ودخول الحرم بتحريم تلك الأشياء لا يقتضي التخصيص بهما وانه لا يحرم في صورة غيرهما ، بل كما ثبت ذلك الحكم بالاخبار ثبت هذا ، وان كان ذلك أشد اشتهارا ، لاعتضاده بالكتاب (1) والإجماع من الخاصة والعامة (2). على ان نظير هذه المسألة غير عزيز في الاخبار وفي كلامهم ، فان الآيات (3) والروايات (4) قد استفاضت واتفقت على ان ما يخلفه الميت من الأموال فهو للورثة إلا مع الوصية أو الدين ، مع انه قد ورد في الحبوة بعض الاخبار (5) التي هي أقل من هذه الاخبار ، فخصصوا بها إطلاقات الكتاب والسنة ، واستثنوا تلك الأشياء المذكورة فيها وجعلوها للولد الأكبر. ومثله في قولهم بانعقاد الإحرام قبل الميقات بنذره ، مع استفاضة الروايات بأن الإحرام لا يكون إلا من الميقات (6) ، وقولهم بان النذر لا ينعقد إلا إذا

__________________

(1) يرجع في ذلك الى كنز العرفان في فقه القرآن ج 1 ص 321 الى 336 طبع طهران.

(2) يرجع في ذلك الى المغني لابن قدامة الحنبلي ج 3 ص 267 الى ص 320 وص 441 الى ص 469 طبع مطبعة العاصمة.

(3) يرجع في ذلك الى كنز العرفان في فقه القرآن ج 2 ص 323 الى 337 طبع طهران.

(4) الوسائل الباب 13 من الدين ، والباب 28 من الوصايا ، وكتاب الفرائض والمواريث.

(5) الوسائل الباب 3 من ميراث الأبوين والأولاد.

(6) الوسائل الباب 1 و 9 و 11 من المواقيت في الحج.


كان مشروعا قبل ذلك ، فخرجوا عن جميع ذلك بحديث أو حديثين ضعيفين (1) كما تقدم ، الى غير ذلك من ما يقف عليه المتتبع.

وبالجملة فالظاهر هو قول الشيخ المتقدم لاعتضاده بالنصوص المذكورة

الثالث ـ ان الظاهر ان ما اشتملت عليه مرسلة الصدوق ، وهي الأخيرة من الروايات المتقدمة ، من إرسال ثمن أضحية وأمر الرسول بذبحها ، وان يطوف عنه أسبوعا ، ثم يأتي يوم عرفة المسجد بعد ان يلبس ثيابه ـ والظاهر ان المراد الثياب الحسنة المأمور بها في الجمعة والعيدين ـ ويشتغل بالدعاء ، صورة أخرى غير ما اشتملت عليه الاخبار المتقدمة ، لعدم تضمنها المواعدة لإشعار الهدي ، والاجتناب عن ما يجتنبه المحرم.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك إدراجها في تلك الأخبار المتقدمة ، وتقييد إطلاقها بما في تلك الاخبار وحملها عليها ، فقال بعد ذكر المرسلة المذكورة : وحاصل هذه العبارة ـ على ما اجتمع من الاخبار ـ ان من أراد ذلك وهو في أفق من الآفاق ، يبعث هديا أو ثمنه مع بعض أصحابه ، ويواعده يوما لإشعاره أو تقليده ، فإذا حضر ذلك الوقت اجتنب ما يجتنبه المحرم ، فيكون ذلك بمنزلة إحرامه ، لكن لا يلبي ، فإذا كان يوم عرفة اشتغل بالدعاء من الزوال الى الغروب استحبابا ، كما يفعله من حضرها ، ويبقى على إحرامه إلى يوم النحر. ثم قال تفريعا على ما ذكره : أكثر الأخبار وردت ببعث الهدي ، وتبعها المصنف وغيره من أصحاب الفتاوى ، ولا شك انه أفضل ، لكنه غير متعين ، فيجوز بعث الثمن خصوصا في من لا يقدر على بعث

__________________

(1) الوسائل الباب 13 من المواقيت في الحج.


بدنة ، فان باقي الأنعام لا يصلح للبعث إلا من قرب. وقد ورد بعث الثمن في الخبر الذي ذكرناه (1) وذكره الصدوق في الفقيه (2). انتهى.

والظاهر بعده ، وان ما اشتملت عليه المرسلة المذكورة صورة أخرى خارجة عن مورد تلك الاخبار ، وتقييدها بتلك الاخبار ـ مع اتفاقها كلها على نوع واحد وتعدد القيود فيها ـ تعسف محض. والى ما ذكرناه مال سبطه السيد السند (قدس‌سره) في المدارك.

الرابع ـ ظاهر الاخبار المتقدمة انه لا فرق في يوم المواعدة لاسعار الهدي أو تقليده بين اليوم الذي يحرمون فيه أو قبله أو بعده ، وان اشتمل بعضها على انه واعدهم يوم يقلدون فيه هديهم ويحرمون ، فإنما هو حكاية حال من حيث الاتفاق على المواعدة بذلك الوقت لا من حيث تعينه ، ولا بين كونه بعد تلبسهم بالحج أو قبله ، ولا بين كون الزمان الذي بينه وبين يوم النحر طويلا أو قصيرا ، كل ذلك لإطلاق النصوص. وبنحو ذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك.

الا ان الظاهر انه لا بد ان يكون قبل الزوال يوم عرفة ليكون شريكا بالتشبه في إحرامه بالمعرفين لهم في ذلك الموقف ، ولو كان بعده فإشكال.

واستظهر في المسالك الاجزاء ، قال : ويمكن استفادته من قوله (عليه‌السلام) في الخبر السالف (3) : «فإذا كان يوم عرفة لبس ثيابه». فان الثياب عرفا شاملة للمخيط. ويمكن ان يريد بها ثياب الإحرام. وهو الاولى.

__________________

(1 و 3) تقدم ص 64 و 65.

(2) ج 2 ص 306 ، والوسائل الباب 9 من الإحصار والصد الرقم 6.


أقول : وهذا انما يتجه بناء على ما قدمنا نقله من ضم تلك المرسلة إلى الروايات المتقدمة وتقييدها بها ، وجعل ما اشتمل عليه الجميع حكما في المسألة. وقد أشرنا إلى بعده. ويحتمل ـ ولعله الأقرب ـ حمل مطلق الروايات على مقيدها ، وتخصيص يوم المواعدة بالميقات ، وهو اليوم الذي يعقدون فيه الإحرام بالتقليد ، وانه يشاركهم في الإحرام من ذلك الوقت.

وبالجملة فالظاهر ان الغرض من هذا الفعل هو مشاركة هذا المرسل للحاج في أفعال الحج التي أولها الإحرام من الميقات. والله العالم.

الخامس ـ قال شيخنا في المسالك : المراد بالهدي هنا المجزئ في الحج ، فيتخير من النعم الثلاثة ، ويشترط فيه شرائطها السابقة من السن والسلامة من العيوب والسمن وغيرها ، وأفضله البدنة ، وقد صرح بها في بعض الاخبار (1) ، وبعث البعيد منبه عليه ايضا. انتهى. وهو جيد.

بقي هنا شي‌ء ، وهو ان ما ذكره من التخيير بين الأنعام الثلاثة وان تم من حيث صدق الهدي على كل منهما ، إلا ان الإرسال من الآفاق انما يتم في البدن خاصة دون غيرها من البقر والغنم ، لضعفها عن الوصول كما لا يخفى ، فلو خص الهدي في الاخبار وكلام الأصحاب بالبدن لكان جيدا. والقول ـ بأنه يمكن السياق من الأماكن القريبة ويتم سياق البقر والغنم ـ فيه : انه وان أمكن ذلك إلا ان ظواهر الأخبار المتقدمة ان السياق انما هو من الأماكن البعيدة. والله العالم.

السادس ـ قال في المسالك : يفتقر اجتنابه لما يجتنبه المحرم الى

__________________

(1) الوسائل الباب 10 من الإحصار والصد.


النية كغيره من العبادات ، فينوي اجتناب كذا وكذا من تروك الإحرام أو ما يجتنبه المحرم لندبه قربة الى الله تعالى ، ويلبس ثوبي الإحرام إلى وقت المواعدة بالذبح. ويمكن الاجتزاء باجتناب تروك الإحرام من غير ان يلبس ثوبيه ، لان ذلك هو مدلول النصوص. وتظهر الفائدة في ما لو اقتصر على ستر العورة وجلس في بيته عاريا ، ونحو ذلك. اما الثياب المخيطة فلا بد من نزعها. وكذلك كشف الرأس ، ونحوه.

أقول : الظاهر من قوله (عليه‌السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان (1) في حكاية حال علي (عليه‌السلام) وابن عباس : «يبعثان بهديهما من المدينة ثم يتجردان». هو لبس ثوبي الإحرام في ذلك الوقت إذ لا يمكن حمله على ما فرضه من ستر العورة والجلوس في بيته ، بل المراد انما هو نزع المخيط ولبس ثوبي الإحرام ، كما وقع التعبير بذلك في بعض روايات الإحرام (2) ويؤيده قوله في تتمة الرواية : «ويجتنبان كل ما يجتنب المحرم إلا انه لا يلبي» وكذا قوله في رواية سلمة «غير انه لا يلبي» فإن تخصيص هذا الفرد بالاستثناء ـ من ما يجب على المحرم فعلا وتركا ـ يشعر بان ما عداه من لبس ثوبي الإحرام وغيره لا بد منه. وبالجملة فالظاهر ان استثناء لبس ثوبي الإحرام غير ظاهر. ويؤيده ان الغرض من ذلك التشبه بالحاج كما يشير اليه قوله (عليه‌السلام) في المرسلة التي أدرجها في اخبار المسألة : «ما يمنع أحدكم ان يحج كل سنة».

السابع ـ قال في المسالك : وقت ذبح هذا الهدي يوم النحر على

__________________

(1) ص 63 و 64.

(2) الوسائل الباب 7 من أقسام الحج الرقم 15.


ما ورد في رواية معاوية بن عمار (1) وباقي الأخبار مطلقة ، وانما فيها انه يحل في اليوم الذي واعدهم. ويمكن حمل المطلق على المقيد ، والتخيير مع أفضلية يوم النحر.

أقول : فيه أولا : انه مع تسليم وجود ما ذكره في الروايات فلا معنى لما جمع به بينهما ، فان مقتضى رواية معاوية بن عمار انه يجب عليه الاجتناب إلى يوم النحر ، ومقتضى روايات يوم الوعد انه يجب عليه الاجتناب الى يوم الوعد ، فطريق حمل المطلق على المقيدان يحمل يوم الوعد على ان يكون يوم النحر. وهو ظاهر. اما إذا حمل يوم الوعد على ما هو أعم وأخذ على عمومه ، فلو فرض انه واعدهم قبل يوم النحر أو بعده فكيف يتخير؟ فإنه ان كان النحر أو الذبح سائغا وجائزا قبل يوم النحر أو بعده فالواجب الوقوف على يوم الوعد والا فلا معنى للمواعدة.

وثانيا : ان ما ذكره (قدس‌سره) ـ من ان ما عدا رواية معاوية ابن عمار مطلقة ، وان فيها انه يحل في اليوم الذي واعدهم ـ ليس كذلك بل يوم المواعدة في تلك الروايات انما هو بالنسبة إلى مبدإ الاجتناب وهو يوم إشعار الهدي أو تقليده لا يوم نحره أو ذبحه. والموجود في صحيحة معاوية بن عمار وكذا صحيحة عبد الله بن سنان هو ان غاية الاجتناب الى يوم النحر ، وفي صحيحة الحلبي ورواية أبي الصباح «حتى يبلغ الهدى محله» وهذا الإطلاق يجب حمله على يوم النحر ، لما علم من ان محل الهدي في الحج منى يوم النحر ، وفي رواية سلمة «ويواعدهم يوم ينحر بدنة» وهذا الإطلاق أيضا يحمل على ان ذلك اليوم

__________________

(1) ص 62 و 63.


الذي حصلت فيه المواعدة هو يوم النحر. فلا منافاة بين هذه الروايات بوجه.

بقي الكلام في قوله في صحيحة الحلبي (1) بعد ان ذكر (عليه‌السلام) ان غاية الاجتناب بلوغ الهدي محله : «قلت : أرأيت ان اختلفوا في الميعاد وابطأوا في المسير عليه ، وهو يحتاج ان يحل هو في اليوم الذي وأعدهم فيه؟ قال : ليس عليه جناح ان يحل في اليوم الذي وأعدهم فيه» ومثلها رواية أبي الصباح الكناني. والظاهر ان المعنى فيهما. انه لو فرض انهم ابطأوا في السير ولم يدركوا الحج ، فلم يتفق ذبح هديه في يوم النحر ، وهو قد أحل في يوم النحر ، وهو يوم بلوغ الهدي محله ، فأجاب (عليه‌السلام) بأنه لا شي‌ء عليه. حسبما تقدم في المحصور الذي كان الحج فيه واجبا ، ففي هذه الصورة بطريق اولى لو لم يكن نص في الباب. لا ان المراد ما ربما يتوهم من ان المراد المواعدة بيوم غير يوم النحر. والله العالم.

الثامن ـ قال في المسالك أيضا : أكثر الأخبار اقتصر فيها على هذه المواعدة والاجتناب ، ولكن زاد في الرواية المتقدمة : «أنه يأمر نائبه ان يطوف عنه أسبوعا وانه يتهيأ للدعاء يوم عرفة الى الغروب» وهو حسن. والزيادة غير المنافية مقبولة. ولو ترك ذلك أمكن تأدي الوظيفة ، كما لو ترك التقليد الذي تضمنته تلك الروايات.

أقول أشار (قدس‌سره) بالرواية المتقدمة إلى مرسلة الفقيه. وهذا الكلام بناء منه على ما قدمنا نقله عنه من جعله هذه الرواية من جملة روايات هذا الحكم ، وقد قدمنا ان الظاهر بعده ، بل ما اشتملت

__________________

(1) ص 63.


عليه هذه المرسلة صورة أخرى. واما ما ذكره ـ من تأدي الوظيفة المذكورة في هذه المرسلة بترك الطواف والدعاء يوم عرفة الذي تضمنته الرواية ـ فهو بعيد. نعم تتأدى به الوظيفة المذكورة في تلك الاخبار حيث اتى بما هو مذكور في اخبارها. واما قوله ـ : كما لو ترك التقليد الذي تضمنته تلك الروايات ـ ففيه ان تلك الروايات لم تتفق على التقليد وان كان أكثرها قد تضمن ذلك ، والسنة حاصلة بالتقليد كما تقدم في عبارة الشيخ. وظاهر صحيحة عبد الله بن سنان ورواية سلمة في إرسال علي (عليه‌السلام) هديه من المدينة عدم التقليد وانه يتجرد. والظاهر ان هاتين الروايتين هي مستنده في ما ذكره من الصورة الأولى ، لكنه (قدس‌سره) ذكر المواعدة أيضا في هذه الصورة ، والروايتان خاليتان من ذلك ، بل ظاهرهما انه يمسك من حين الإرسال كما هو ظاهر رواية سلمة ، ويتجرد من حين البعث كما في صحيحة عبد الله بن سنان. ويؤيده ايضا ان المواعدة هنا لا معنى لها ، لان ذلك انما يستقيم إذا توقف إحرامه على التقليد أو الإشعار فيواعد يوما يقلدون فيه ويحرم في ذلك اليوم. وربما أشعرت الروايتان ولا سيما الاولى باختصاص هذه الصورة بمثل المدينة ، لقرب موضع الإحرام منها ، وانه يلبس ثوبي الإحرام من حين البعث منها ، ويتشبه بالمحرم من ذلك الوقت. ويعضده ما تقدم في بعض روايات الإحرام (1) من الأمر بالغسل في المدينة ، ولبس ثوبي الإحرام فيها ، ثم الخروج الى الميقات. فكما ان ذلك جائز في الحج الحقيقي فهو في التشبه به اولى. ويؤيده ما دل عليه الخبر الأول من تخصيص المواعدة بما إذا كان البعث من أفق من الآفاق ، يعني : الأماكن البعيدة عن الميقات فإنه يواعد يوما يقلد فيه الهدي ويحرم في ذلك اليوم. والله العالم.

__________________

(1) الوسائل الباب 8 من الإحرام الرقم 1.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *