ج14 - حج التمتع وأحكامه
المقدمة الرابعة
ولا خلاف بين العلماء في أنها ثلاثة : تمتع وقران وافراد
، وعلى ذلك تدل الاخبار :
ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن
عمار (1) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : الحج
ثلاثة أصناف : حج مفرد ، وقران ، وتمتع بالعمرة إلى الحج. وبها أمر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) والفضل فيها.
ولا نأمر الناس إلا بها».
وما رواه في الكافي والفقيه عن منصور الصيقل (2) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام : الحج عندنا
على ثلاثة أوجه : حاج متمتع ، وحاج مقرن سائق الهدي ، وحاج مفرد للحج».
وروي الصدوق (رحمهالله) في الصحيح عن
احمد بن محمد بن ابي نصر البزنطي عن علي بن أبي حمزة عن ابي بصير وزرارة بن أعين
عن ابي جعفر عليهالسلام (3) قال : «الحاج
على ثلاثة وجوه : رجل أفرد الحج وساق الهدي ورجل أفرد الحج ولم يسق الهدي ، ورجل
تمتع بالعمرة إلى الحج».
وينبغي ان يعلم ان حج التمتع انما نزل في حجة الوداع وان
الحج قبل ذلك انما هو حج قران أو افراد لحاضري مكة والبعيد عنها ، وتخصيص هذين
__________________
(1) الوسائل الباب 1 من أقسام الحج.
والشيخ يرويه عن الكليني.
(2) الوسائل الباب 1 من أقسام الحج.
(3) الخصال ج 1 ص 71 ، وفي الوسائل
الباب 1 من أقسام الحج.
الفردين بحاضري مكة والتمتع بالبعيد ـ
كما دلت عليه الآية (1) والرواية (2) ـ انما وقع
بعد نزول حج التمتع يومئذ :
روى الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله
عن آبائه (عليهمالسلام) (3) قال : «لما
فرغ رسول الله صلىاللهعليهوآله من سعيه بين
الصفا والمروة أتاه جبرئيل عليهالسلام عند فراغه من
السعي وهو على المروة ، فقال : ان الله (تعالى) يأمرك أن تأمر الناس ان يحلوا إلا
من ساق الهدي. فأقبل رسول الله صلىاللهعليهوآله على الناس
بوجهه ، فقال : يا ايها الناس هذا جبرئيل ـ وأشار بيده الى خلفه ـ يأمرني عن الله (عزوجل)
ان آمر الناس ان يحلوا إلا من ساق الهدي فآمرهم بما أمر الله به. فقام اليه رجل
فقال : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله نخرج إلى منى
ورؤسنا تقطر من النساء ، وقال آخرون : يأمرنا بشيء ويصنع هو غيره. فقال : يا ايها
الناس لو استقبلت من امري ما استدبرت صنعت كما صنع الناس ولكني سقت الهدي ولا يحل
من ساق الهدي حتى يبلغ الهدي محله. فقصر الناس وأحلوا وجعلوها عمرة. فقام إليه
سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي فقال يا رسول الله صلىاللهعليهوآله : هذا الذي
أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال : بل لا بد الى يوم القيامة وشبك بين أصابعه.
وانزل الله تعالى في ذلك قرآنا (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)» (4).
وقد استفاضت الاخبار بان أفضل الثلاثة للبعيد بعد
الإتيان بالفرض هو
__________________
(1) وهي قوله تعالى في سورة البقرة
الآية 196 «ذلِكَ لِمَنْ
لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ».
(2) الوسائل الباب 3 من أقسام الحج.
(3) التهذيب ج 5 ص 25 ، وفي الوسائل
الباب 3 من أقسام الحج.
(4) سورة البقرة ، الآية 196.
حج التمتع وان جاز له القران والافراد
إلا انه خلاف الأفضل ، وربما ورد في بعض الاخبار تعيينه وانه لا يجوز غيره. وهو
محمول على الفرض دون النافلة. ومن ذلك ما تقدم في صحيحة معاوية بن عمار.
ومن ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن ابي عبد
الله عليهالسلام (1) قال : «دخلت
العمرة في الحج الى يوم القيامة ، لأن الله (تعالى) يقول (فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (2) فليس لأحد إلا
ان يتمتع ، لان الله (تعالى) انزل ذلك في كتابه وجرت به السنة من رسول الله صلىاللهعليهوآله». وهذا الخبر
محمول على الفرض.
وما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) في الصحيح
عن إبراهيم بن أيوب الخزاز (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام اي أنواع الحج
أفضل؟ فقال : التمتع ، وكيف يكون شيء أفضل منه ورسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : لو
استقبلت من امري ما استدبرت لفعلت مثل ما فعل الناس».
وما رواه في الكافي عن احمد بن محمد بن ابي نصر البزنطي
عن ابى جعفر الثاني (عليهالسلام) (4) قال : «كان
أبو جعفر (عليهالسلام) يقول :
المتمتع
__________________
(1) الوسائل الباب 3 من أقسام الحج.
(2) سورة البقرة الآية 195.
(3) الكافي ج 4 ص 291 ، والتهذيب ج 5
ص 29 ، والفقيه ج 2 ص 204 وفي الوسائل الباب 3 من أقسام الحج. واسم الراوي في
الكافي «أبو أيوب الخزاز» وفي التهذيب «أبو أيوب إبراهيم بن عيسى» وفي الفقيه «أبو
أيوب إبراهيم بن عثمان الخزاز».
(4) الوسائل الباب 4 من أقسام الحج.
بالعمرة إلى الحج أفضل من المفرد
السائق للهدي».
وصحيحة زرارة عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «المتعة
والله أفضل ، وبها نزل القرآن وجرت السنة».
وصحيحة عبد الله بن سنان (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام): انى قرنت
العام وسقت الهدي؟ فقال : ولم فعلت ذلك؟ التمتع والله أفضل لا تعودن».
الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة.
قيل : ووجه التسمية ، اما في الافراد فلانفصاله عن
العمرة وعدم ارتباطه بها ، واما القران فلاقتران الإحرام بسياق الهدي ، واما
التمتع فهو لغة : التلذذ والانتفاع ، وانما سمي هذا النوع بذلك لما يتخلل بين
عمرته وحجه من التحلل المقتضى لجواز الانتفاع والتلذذ بما كان حرمه الإحرام قبله ،
مع الارتباط بينهما وكونهما كالشيء الواحد ، فيكون التمتع الواقع بينهما كأنه
حاصل في أثناء الحج أو لأنه يربح ميقاتا ، لانه لو أحرم بالحج من ميقات بلده لكان
يحتاج بعد فراغه من الحج الى ان يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة منه ، وإذا تمتع
استغنى عن الخروج ، لانه يحرم بالحج من جوف مكة ، قال الله تعالى (فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (3) ومعنى التمتع
بها الى الحج الانتفاع بثوابها والتقرب بها الى الله (تعالى) قبل الانتفاع بالحج
الى وقت الحج ، فيجتمع حينئذ التقربان أو المنتفع بها إذا فرغ منها باستباحة ما
كان محرما الى وقت التلبس بالحج ، فالباء سببية. وهذان المعنيان ذكرهما الزمخشري
في الكشاف والنيشابوري في تفسيره على ما نقله في المدارك.
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 4 من أقسام
الحج.
(3) سورة البقرة الآية 195.
وكيف كان فالكلام هنا يقع في مطلبين :
المطلب الأول في حج التمتع
وصورته : ان يحرم من الميقات بالعمرة التمتع بها ثم يدخل
مكة فيطوف بالبيت سبعا ويصلي ركعتين بالمقام ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعا ويقصر
، ومتى فعل ذلك أحل ، ثم ينشئ إحراما آخر للحج من مكة يوم التروية على الأفضل وإلا
فبقدر ما يعلم انه يدرك الموقف بعرفات ، ثم يأتي عرفات فيقف بها الى غروب الشمس ثم
يفيض الى المشعر ويبيت ليلة العاشر به ويقف به بعد طلوع الفجر ثم يفيض إلى منى
فيحلق بها يوم النحر ويذبح هديه ويأكل منه ويرمي جمرة العقبة ، ثم يأتي مكة في
يومه لطواف الحج وصلاة ركعتيه والسعي بين الصفا والمروة وطواف النساء ، ثم يعود
إلى منى ليرمي بها ما تخلف من الجمار وان شاء اقام بمنى حتى يرمي جماره الثلاث يوم
الحادي عشر ، ومثله يوم الثاني عشر ، ثم ينفر بعد الزوال ، وان أقام إلى النفر
الثاني جاز.
وتفاصيل هذه المسائل كما هو حقها يأتي ـ ان شاء الله
تعالى ـ عند ذكرها مفصلة.
وان أحببت الوقوف على صورة حج النبي صلىاللهعليهوآله في ذلك العام
الذي نزل فيه حج التمتع فهو ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار ـ ورواه في
الكافي عنه ايضا ـ عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) «ان رسول الله صلىاللهعليهوآله أقام بالمدينة
عشر سنين لم يحج ، ثم انزل الله (تعالى) عليه (وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى
كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (2) فأمر المؤذنين
أن يؤذنوا بأعلى
__________________
(1) التهذيب ج 5 ص 454 ، والكافي ج 4
ص 245 ، وفي الوسائل الباب 2 من أقسام الحج.
(2) سورة الحج الآية 27.
أصواتهم بأن رسول الله صلىاللهعليهوآله يحج في عامه
هذا ، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والاعراب فاجتمعوا لحج رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وانما كانوا
تابعين ينظرون ما يؤمرون به فيتبعونه أو يصنع شيئا فيصنعونه ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوآله في أربع بقين
من ذي القعدة فلما انتهى الى ذي الحليفة فزالت الشمس اغتسل ثم خرج حتى اتى المسجد
الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر وعزم بالحج مفردا ، وخرج حتى انتهى الى البيداء
عند الميل الأول فصف الناس له سماطين ، قلبي بالحج مفردا وساق الهدي ستا وستين أو
أربعا وستين حتى انتهى الى مكة في سلخ اربع من ذي الحجة ، فطاف بالبيت سبعة أشواط
ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليهالسلام ثم عاد الى
الحجر فاستلمه وقد كان استلمه في أول طوافه ، ثم قال (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (1) فابدأوا بما
بدأ الله (تعالى) به. وان المسلمين كانوا يظنون ان السعي بين الصفا والمروة شيء
صنعه المشركون فانزل الله (عزوجل) (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (2) ثم اتى الصفا
فصعد عليه واستقبل الركن اليماني فحمد الله واثنى عليه ودعا مقدار ما يقرأ سورة
البقرة مترسلا ثم انحدر إلى المروة فوقف عليها كما وقف على الصفا ثم انحدر وعاد
الى الصفا فوقف عليها ثم انحدر إلى المروة حتى فرغ من سعيه ، فلما فرغ من سعيه وهو
على المروة اقبل على الناس بوجهه فحمد الله (تعالى) واثنى عليه ثم قال : ان هذا
جبرئيل ـ وأومأ بيده الى خلفه ـ يأمرني أن آمر من لم يسق هديا ان يحل ولو استقبلت
من امري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم ولكني سقت الهدي ولا ينبغي لسائق الهدي ان
يحل حتى يبلغ الهدي محله. قال : فقال له رجل من
__________________
(1 و 2) سورة البقرة الآية 158.
القوم : لنخرجن حجاجا وشعورنا تقطر؟
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : اما انك لن
تؤمن بهذا ابدا. فقال له سراقة بن مالك بن جشعم الكناني : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله علمنا ديننا
كأننا خلقنا اليوم ، فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل؟ فقال له رسول
الله صلىاللهعليهوآله : بل هو للأبد
إلى يوم القيامة ، ثم شبك أصابعه ، وقال : دخلت العمرة في الحج هكذا (1) الى يوم
القيامة. قال : وقدم على من اليمن على رسول الله صلىاللهعليهوآله : وهو بمكة
فدخل عليهالسلام على فاطمة (عليهاالسلام) وهي قد أحلت
، فوجد ريحا طيبة ووجد عليها ثيابا مصبوغة ، فقال : ما هذا يا فاطمة؟ فقالت :
أمرنا بهذا رسول الله صلىاللهعليهوآله فخرج علي عليهالسلام الى رسول الله
صلىاللهعليهوآله مستفتيا فقال
يا رسول الله صلىاللهعليهوآله : اني رأيت
فاطمة قد أحلت وعليها ثياب مصبوغة؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اني أمرت
الناس بذلك فأنت يا على بما أهللت قال : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله إهلالا كإهلال
النبي صلىاللهعليهوآله. فقال له رسول
الله صلىاللهعليهوآله : قر على
إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي. قال : ونزل رسول الله صلىاللهعليهوآله بمكة بالبطحاء
هو وأصحابه ولم ينزل الدور ، فلما كان يوم التورية عند زوال الشمس أمر الناس ان
يغتسلوا ويهلوا بالحج ، وهو قول الله (عزوجل) الذي أنزله على نبيه صلىاللهعليهوآله : فاتبعوا ملة
أبيكم إبراهيم (2) فخرج النبي صلىاللهعليهوآله وأصحابه مهلين
بالحج حتى اتى منى فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخر والفجر ، ثم غدا
والناس معه ، وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع ويمنعون الناس ان يفيضوا منها ،
فاقبل رسول الله صلىاللهعليهوآله وقريش ترجو ان
تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون ، فانزل الله (عزوجل) عليه : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ
__________________
(1) لفظ «هكذا» في الوافي باب (حج
نبينا صلىاللهعليهوآله).
(2) سورة آل عمران الآية 95 «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً».
وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) (1) يعني :
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم ، فلما رأت قريش أن قبة
رسول الله صلىاللهعليهوآله قد مضت كأنه
دخل في أنفسهم شيء للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم ، حتى انتهى الى نمرة
وهي بطن عرنة بحيال الأراك ، فضربت قبته وضرب الناس أخبيتهم عندها ، فلما زالت
الشمس خرج رسول الله صلىاللهعليهوآله ومعه قريش وقد
اغتسل وقطع التلبية حتى وقف بالمسجد فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم ، ثم صلى الظهر
والعصر بأذان وإقامتين ، ثم مضى الى الموقف فوقف به ، فجعل الناس يبتدرون أخفاف
ناقته يقفون الى جانبها فنحاها ففعلوا مثل ذلك ، فقال : ايها الناس ليس موضع أخفاف
ناقتي بالموقف ولكن هذا كله ، وأومأ بيده الى الموقف ، فتفرق الناس ، وفعل مثل ذلك
بالمزدلفة ، فوقف الناس حتى وقع القرص قرص الشمس ، ثم أفاض وأمر الناس بالدعة حتى
انتهى الى المزدلفة ـ وهو المشعر الحرام ـ فصلى المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد
وإقامتين ثم اقام حتى صلى فيها الفجر ، وعجل ضعفاء بني هاشم بليل ، وأمرهم ان لا
يرموا الجمرة جمرة العقبة حتى تطلع الشمس ، فلما أضاء له النهار أفاض حتى انتهى
الى منى فرمى جمرة العقبة ، وكان الهدي الذي جاء به رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أربعا وستين
، أو ستا وستين ، وجاء علي عليهالسلام بأربع وثلاثين
، أو ست وثلاثين فنحر رسول الله صلىاللهعليهوآله ستا وستين ،
ونحر علي عليهالسلام أربعا وثلاثين
بدنة ، وأمر رسول الله صلىاللهعليهوآله ان يؤخذ من كل
بدنة منها حذوة من لحم ثم تطرح في برمة ثم تطبخ ، فأكل رسول الله صلىاللهعليهوآله وعلي عليهالسلام وحسيا من
مرقها ، ولم يعطيا الجزارين جلودها ولا جلالها ولا قلائدها وتصدق به ، وحلق وزار
البيت ورجع الى منى واقام بها حتى كان اليوم الثالث من آخر أيام التشريق ، ثم رمى
__________________
(1) سورة البقرة الآية 198.
الجمار ونفر حتى انتهى الى الأبطح ،
فقالت له عائشة : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله ترجع نساؤك
بحجة وعمرة معا وارجع بحجة؟ فأقام بالأبطح وبعث معها عبد الرحمن بن ابى بكر الى
التنعيم فأهلت بعمرة ، ثم جاءت فطافت بالبيت وصلت ركعتين عند مقام إبراهيم وسعت
بين الصفا والمروة ، ثم أتت النبي صلىاللهعليهوآله فارتحل من
يومه ، ولم يدخل المسجد الحرام ولم يطف بالبيت. ودخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين
وخرج من أسفل مكة من ذي طوى».
أقول : عندي في هذا الخبر إشكال ، لأنه تضمن ان عليا عليهالسلام لم يعين في
إهلاله حجا ولا عمرة ، وانما قال : «إهلالا كإهلال النبي صلىاللهعليهوآله» فأقره النبي صلىاللهعليهوآله على ذلك وجعله
شريكه في هديه الذي ساقه فكان حجه حينئذ حج قران مثله. ثم ان الخبر تضمن ان الهدي
الذي جاء به رسول الله صلىاللهعليهوآله أربعة وستون
أو ستة وستون وجاء علي عليهالسلام بأربعة
وثلاثين أو ستة وثلاثين. وهذا لا يخلو من نوع مدافعة لما تقدم ، لأن عليا عليهالسلام لم يهل
بالقران الذي يقتضي سياق هذه البدن المذكورة وانما قال : «إهلالا كإهلال النبي صلىاللهعليهوآله» مع انه قال
له : «أنت شريكي في هديي» فكيف يتم ان عليا عليهالسلام اتى بهذه
البدن معه وعقد بها إحرامه.؟
والصدوق ابن بابويه في الفقيه (1) قد نقل مضمون
الخبر وان لم يسنده بما هو أوضح من هذا النقل وأسلم من هذا الاشكال ، حيث انه ذكر
بعد قوله صلىاللهعليهوآله : «وأنت شريكي
في هديي» قال : وكان النبي صلىاللهعليهوآله ساق معه مائة
بدنة ، فجعل لعلي عليهالسلام منها أربعا
وثلاثين ولنفسه ستا وستين ونحرها كلها بيده. الى ان قال : وكان علي عليهالسلام يفتخر على
الصحابة ويقول : من فيكم مثلي وانا شريك رسول الله صلىاللهعليهوآله في هديه؟ من
فيكم مثلي وانا الذي ذبح رسول الله صلىاللهعليهوآله هديي بيده؟. انتهى.
__________________
(1) ج 2 ص 153 ، وفي الوسائل الباب 2
من أقسام الحج.
ومن الظاهر ان الصدوق لا يذكره إلا بعد وصول الخبر له به
، وان لم يسنده في الكتاب المذكور. وهذا هو الصواب الذي لا يعتريه الاشكال
والارتياب. ويشير الى بعض ما ذكرناه ما في صحيحة الحلبي أو حسنته المروية في
الكافي. (1) والله العالم.
وتحقيق البحث في هذا المطلب ينتظم في مسائل
الأولى ـ اجمع العلماء (رضوان الله عليهم) على ان فرض من
نأى عن مكة هو التمتع لا يجوز لهم غيره إلا مع الضرورة. قاله في التذكرة.
وفي المنتهى : قال علماؤنا أجمع : فرض الله على المكلفين
ـ ممن نأى عن المسجد الحرام وليس من حاضريه ـ التمتع مع الاختيار لا يجزئهم غيره ،
وهو مذهب فقهاء أهل البيت (عليهمالسلام) قال : وأطبق
الجمهور كافة على جواز النسك بأي الأنواع الثلاثة شاء وانما اختلفوا في الأفضل. ثم
نقل اختلافهم في ذلك (2).
قيل : والأصل في وجوب التمتع على النائي قوله تعالى (فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). الى قوله (ذلِكَ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (3) والظاهر عود
الإشارة الى جميع ما تقدم. وحكى المحقق في المعتبر عن بعض فضلاء العربية انهم
قالوا : تقديره ذلك التمتع. وهو جيد لما نص عليه أهل العربية من ان «ذلك» للبعيد.
واستدل على ذلك بصحيحة معاوية بن عمار المتقدمة (4) في صدر
المقدمة وصحيحة الحلبي المتقدمة ثمة (5).
__________________
(1) الوسائل الباب 2 من أقسام الحج.
(2) المغني ج 3 ص 276.
(3) سورة البقرة الآية 195.
(4) ص 312.
(5) ص 313.
وصحيحته الأخرى عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الحج ،
فقال : تمتع. ثم قال : انا إذا وقفنا بين يدي الله (تعالى) قلنا : يا ربنا أخذنا
بكتابك. وقال الناس : رأينا رأينا. ويفعل الله بنا وبهم ما أراد».
ورواية معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «من حج
فليتمتع ، انا لا نعدل بكتاب الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله».
وروايته (3) قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : ما نعلم حجا
لله غير المتعة ، انا إذا لقينا ربنا قلنا : ربنا عملنا بكتابك وسنة نبيك صلىاللهعليهوآله ويقوم القوم :
عملنا برأينا. فيجعلنا الله وإياهم حيث يشاء».
والظاهر ان التقريب فيها من جهة ان الخطاب فيها مع أهل
الآفاق الخارجين عن حاضري مكة ، وإلا فإن غاية ما تدل عليه هو أفضلية التمتع أو
تعينه ، ولا تعرض فيها لذكر النائي ولا غيره ، والأظهر هو الاستدلال بالأخبار
الآتية كما سنشير اليه ان شاء الله تعالى.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الأصحاب قد اختلفوا في حد البعد
المقتضي لتعين التمتع على البعيد على قولين :
أحدهما ـ وهو المشهور ـ انه عبارة عن ثمانية وأربعين
ميلا من كل ناحية ، ذهب اليه الشيخ في النهاية والتهذيب ، وابنا بابويه وأكثر
الأصحاب (رضوان الله عليهم) وربما ظهر من كلام الشيخ ان البعد انما يتحقق بالزيادة
عن الثمانية والأربعين. والظاهر ان الأمر في ذلك هين ، لأن الحصول على رأس المسافة
المذكورة من غير زيادة ولا نقصان نادر.
وثانيهما ـ انه عبارة عن اثنى عشر ميلا فما زاد من كل
جانب ، ذهب إليه
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 3 من أقسام
الحج.
الشيخ في المبسوط ، وابن إدريس ،
والمحقق في الشرائع ، مع انه رجع عنه في المعتبر وقال : انه قول نادر لا عبرة به.
وبه قال العلامة في الإرشاد.
ومن أصحاب هذا القول من اعتبر هذا التقدير بالنسبة إلى
مكة ، ومنهم من اعتبره بالنسبة الى المسجد الحرام ، وهو قول الشيخ في بعض كتبه كما
نقله العلامة في التذكرة.
ولم نقف للقائلين بهذا القول على دليل ، وقد اعترف بذلك
جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق في المعتبر والشهيد في الدروس وغيرهما ، وقال في
المختلف : وكأن الشيخ نظر الى توزيع الثمانية والأربعين من الأربع جوانب فكان قسط
كل جانب ما ذكرناه. ثم قال : وليس بجيد. قال في المدارك : لان دخول ذات عرق وعسفان
في حاضري مكة ينافي ذلك.
والمعتمد هو القول الأول ، ويدل عليه ما رواه الشيخ في
الصحيح عن زرارة عن ابي جعفر عليهالسلام (1) قال : «قلت
لأبي جعفر عليهالسلام : قول الله (تعالى)
في كتابه (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) (2)؟ قال : يعني
أهل مكة ليس عليهم متعة كل من كان اهله دون ثمانية وأربعين ميلا ، ذات عرق وعسفان
، كما يدور حول مكة فهو ممن دخل في هذه الآية ، وكل من كان اهله وراء ذلك فعليه المتعة».
وذكر في القاموس : ان عسفان كعثمان : موضع على مرحلتين
من مكة. وذات عرق بالبادية ميقات أهل العراق.
ومن ما يعضد ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبيد الله
الحلبي وسليمان ابن خالد وابي بصير عن ابي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «ليس
لأهل مكة ـ ولا لأهل مر ، ولا لأهل سرف ـ متعة ، وذلك لقول الله عزوجل : (ذلِكَ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 6 من أقسام
الحج.
(2) سورة البقرة ، الآية 195.
حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» (1).
وبهذا المضمون رواية سعيد الأعرج (2). قال في المعتبر
: ومعلوم ان هذه المواضع أكثر من اثني عشر ميلا. ويؤيده ما ذكره في القاموس : ان
بطن «مر» موضع من مكة على مرحلة ، و «سرف» ككتف موضع قرب التنعيم.
وروى في الكافي عن ابي بصير عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «قلت :
لأهل مكة متعة؟ قال : لا ، ولا لأهل البستان ، ولا لأهل ذات عرق ولا لأهل عسفان
ونحوها».
قال في الوافي : البستان بستان ابن عامر قرب مكة مجتمع
النخلتين : اليمانية والشامية.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر (عليهالسلام) (4) قال : «سألته
عن قول الله عزوجل (ذلِكَ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (5)؟ قال : ذلك
أهل مكة ليس لهم متعة ولا عليهم عمرة ، قال : قلت : فما حد ذلك؟ قال : ثمانية
وأربعون ميلا من جميع نواحي مكة دون عسفان وذات عرق».
وعن علي بن جعفر (6) قال : «قلت لأخي موسى بن جعفر (عليهالسلام) : لأهل مكة ان
يتمتعوا بالعمرة إلى الحج؟ فقال : لا يصلح ان يتمتعوا لقول الله عزوجل (ذلِكَ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)» (7).
أقول وبهذه الأخبار ينبغي ان يستدل على تعين التمتع على
النائي والفردين الآخرين على الحاضر ، لا بتلك الأخبار المتقدمة ، فإنها مجملة كما
عرفت وان كان ما وقفت عليه في كلام أصحابنا إنما اشتمل على الاستدلال بتلك الأخبار
__________________
(1 و 5 و 7) سورة البقرة ، الآية 195.
(2 و 3 و 4 و 6) الوسائل الباب 6 من
أقسام الحج.
بقي الكلام في انه قد روى ثقة الإسلام
في الكافي في الحسن عن حريز عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) : «في قول
الله عزوجل (ذلِكَ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (2)؟ قال : من كان
منزله على ثمانية عشر ميلا من بين يديها وثمانية عشر ميلا من خلفها وثمانية عشر
ميلا عن يمينها وثمانية عشر ميلا عن يسارها فلا متعة له ، مثل «مر» وأشباهه».
قال في المدارك بعد ذكر الخبر المذكور : ويمكن الجمع
بينه وبين صحيحة زرارة المتقدمة بالحمل على ان من بعد ثمانية عشر ميلا كان مخيرا
بين الافراد والتمتع ، ومن بعد الثمانية والأربعين تعين عليه التمتع.
وروى الشيخ في الصحيح عن حماد بن عثمان عن ابي عبد الله عليهالسلام (3) «في (حاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)؟ قال : ما دون
الأوقات إلى مكة».
وعن الحلبي عن ابي عبد الله عليهالسلام (4) قال : «في (حاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)؟ قال : ما دون
المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد وليس لهم متعة».
وهذان الخبران بحسب ظاهرهما لا يخلوان من الإشكال ، لأن
ما دون الأوقات أعم من ان يكون ثمانية وأربعين ميلا أو أزيد. ولا قائل بذلك. مع
ظهور مخالفتهما لصحيحة زرارة المتقدمة وروايته الأخرى. وحينئذ فيجب تقييدهما بعدم
الزيادة على الثمانية وأربعين ميلا.
واما ما ذكره في الذخيرة بعد ذكر الاحتمال الذي ذكرناه ـ
من انه يحتمل الحمل على التقية لموافقته المحكي عن أبي حنيفة ـ فلا اعرف له وجها ،
لأن المحكي عن أبي حنيفة ـ كما نقله في التذكرة ، قال : وقال أبو حنيفة : وحاضر
والمسجد الحرام
__________________
(1 و 3 و 4) الوسائل الباب 6 من أقسام
الحج.
(2) سورة البقرة ، الآية 195.
أهل المواقيت والحرم وما بينهما (1) ـ مخالف لما
دل عليه ظاهر الخبرين المذكورين من تفسير الحاضرين بمن دون المواقيت ، المؤذن
بخروج أصحاب المواقيت ، فكيف يمكن حمل الخبرين على مذهبه؟
نعم يمكن ان يقال : ان أقرب المواقيت إلى مكة ـ كما ذكره
في التذكرة ـ ذات عرق ، وهي مرحلتان من مكة ، والمرحلتان ـ كما سيأتي بيانه ان شاء
الله (تعالى) ـ عبارة عن مسافة يومين. وقال في موضع آخر من التذكرة ايضا : ان قرن
المنازل ويلملم والعتيق على مسافة واحدة ، بينها وبين مكة ليلتان قاصدتان.
وعلى هذا فتكون هذه المواقيت من مكة على مسافة ثمانية
وأربعين ميلا التي هي الحد الشرعي في ان من كان دونها إلى مكة فهو من حاضري المسجد
الحرام ، وإلا فلا.
وتوضيح ذلك انهم قد ذكروا في مسافة التقصير انها عبارة
عن أربعة وعشرين ميلا ، وهو بياض يوم باتفاق الاخبار والأصحاب ، وثمانية وأربعون
ميلا عبارة عن يومين ، وإذا ثبت ان هذه المواقيت على مسافة ثمانية وأربعين ميلا
فكل من كان دونها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام. وبه يصح معنى الخبرين من
غير اشكال.
ويظهر هذا المعنى ايضا من رواية زرارة ، حيث انه جعل
فيها الحد لحاضري مكة هو ما دخل في مسافة ثمانية وأربعين ميلا من جميع نواحي مكة ،
ثم قال : دون عسفان وذات عرق. فإنه ظاهر في كونهما على مسافة ثمانية وأربعين ميلا
من مكة.
إلا انه ينقدح هنا اشكال آخر في المقام ، وهو ان ظاهر
صحيحة زرارة ورواية أبي بصير ان عسفان وذات عرق من جملة حاضري مكة ، وانهما داخلان
__________________
(1) في بدائع الصنائع ج 2 ص 169 :
حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة.
في مسافة الثمانية والأربعين إلى مكة
، مع انه في القاموس صرح بان عسفان على مرحلتين ، والعلامة في التذكرة صرح بان ذات
عرق على مرحلتين ، وصاحب المدارك وغيره نقلوا ذلك ، ولم يذكروا معنى المرحلة وانها
عبارة عن ما ذا ، والذي وقفت عليه في تفسيرها ما ذكره الفيومي في المصباح ، فإنه
قال : والمرحلة المسافة التي يقطعها المسافر في نحو يوم ، والجمع مراحل. وظاهر هذه
العبارة كونها عبارة عن مسافة يوم ، بان يكون «نحو» في كلامه بمعنى «مثل» كما هو
الظاهر. وعلى هذا فتكون المرحلتان عبارة عن مسافة يومين. وفي كتاب شمس العلوم قال
: يقال : بينهما مرحلة ، اي مسيرة يوم. وهو صريح في ما ذكرناه.
ومن هنا ينقدح الاشكال المشار إليه ، لأن الثمانية
والأربعين ميلا التي جعلت مناطا للفرق بين حاضري مكة وغيرهم عبارة عن يومين ايضا ،
لما عرفت من ما صرحوا به في مسافة التقصير من ما قدمنا ذكره آنفا. وبذلك يلزم
الإشكال في صحيحة زرارة ، ورواية أبي بصير ، وكذا كلام الأصحاب الذين صرحوا بان
عسفان وذات عرق من توابع مكة ، بمعنى انها داخلة في مسافة الثمانية والأربعين ميلا
، والحال ان عسفان ـ كما ذكره في القاموس ـ على مرحلتين من مكة ، وذات عرق كذلك ،
كما تقدم في كلام العلامة في التذكرة ، وبموجب كون المرحلتين عبارة عن مسافة يومين
كما نقلناه عن أهل اللغة ـ واليومان عبارة عن ثمانية وأربعين ميلا ـ يكون الموضعان
المذكوران خارجين عن حدود مكة وملتحقين بالآفاق الموجبة لحج التمتع. ولم أقف على
من تنبه لذلك من أصحابنا (رضوان الله عليهم).
وقد عرفت من ظاهر روايتي حماد بن عثمان والحلبي ما يؤيد
ما ذكره في القاموس والتذكرة من خروج هذين الموضعين عن حدود مكة وعدم الدخول في
حاضري المسجد.
واحتمال حمل صحيحة زرارة ورواية أبي بصير على التقية ـ لما
عرفت من ان
مذهب أبي حنيفة تفسير حاضري مكة بأهل
المواقيت وأهل الحرم وما بينهما ـ وان أمكن إلا ان ظاهر صحيحة زرارة يشعر بان ذات
عرق وعسفان داخلان في حدود المسافة المذكورة لا خارجان عنها.
وبالجملة فالمسألة محل توقف واشكال ، ولا مناص للخروج من
الإشكال إلا بالطعن في عبارتي القاموس والتذكرة بأن الموضعين المذكورين على
مرحلتين ، بان يقال : انهما أقل من ذلك وقوفا على الصحيحة المذكورة ، أو بان يقال
: ان المرحلة ليست عبارة عن ما ذكر في المصباح وكتاب شمس العلوم بل أقل من ذلك.
والكل مشكل. والله العالم.
المسألة الثانية ـ لا خلاف ولا إشكال في ان من كان فرضه
التمتع فإنه لا يجوز له العدول اختيارا الى غيره وانما يجوز له مع الاضطرار بلا خلاف
كضيق الوقت عن الإتيان بأفعال العمرة قبل الوقوف ، أو حصول الحيض المانع من
الإتيان بطواف العمرة وصلاة ركعتيه.
ومن ما يدل على ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابان بن
تغلب عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) في حديث قال :
«أضمر في نفسك المتعة فإن أدركت متمتعا وإلا كنت حاجا».
وما رواه في الصحيح عن جميل بن دراج (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن المرأة
الحائض إذا قدمت مكة يوم التروية؟ قال : تمضي كما هي الى عرفات فتجعلها حجة ، ثم
تقيم حتى تطهر فتخرج الى التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة». قال ابن ابي عمير : كما صنعت
عائشة.
والاخبار في ذلك تأتي ان شاء الله تعالى.
__________________
(1) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج ،
والباب 21 من الإحرام.
(2) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
نعم انه وقع الخلاف في حد الضيق الموجب للعدول ، وكذا
وقع الخلاف في الحائض.
والكلام هنا يقع في مقامين الأول ـ في تحقيق حد الضيق
الموجب للعدول :
فقال الشيخ المفيد (قدسسره) : من دخل مكة
يوم التروية وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فأدرك ذلك قبل مغيب الشمس أدرك
المتعة ، فإذا غابت الشمس قبل ان يفعل ذلك فلا متعة له ، فليقم على إحرامه ويجعلها
حجة مفردة
وقال الشيخ علي بن الحسين بن بابويه (قدسسره) : الحائض إذا
طهرت يوم التروية قبل زوال الشمس فقد أدركت متعتها ، وان طهرت بعد الزوال يوم
التروية فقد بطلت متعتها ، فتجعلها حجة مفردة. قيل : وهو منقول عن المفيد ايضا.
وقال الصدوق (قدسسره) في المقنع :
فان قدم المتمتع يوم التروية فله ان يتمتع ما بينه وبين الليل ، فان قدم ليلة عرفة
فليس له ان يجعلها متعة بل يجعلها حجة مفردة ، فإن دخل المتمتع مكة فنسي أن يطوف
بالبيت وبالصفا والمروة حتى كان ليلة عرفة فقد بطلت متعته ويجعلها حجة مفردة.
ونقل الشهيد في الدروس عن الحلبي من قدماء أصحابنا انه
قال : وقت طواف العمرة إلى غروب الشمس يوم التروية للمختار ، وللمضطر الى ان يبقى
ما يدرك عرفة في آخر وقتها.
وقال الشيخ في النهاية : فإذا دخل مكة يوم عرفة جاز له
ان يتحلل ايضا ما بينه وبين زوال الشمس ، فإذا زالت الشمس فقد فاتته العمرة وكانت
حجة مفردة.
والى هذا القول ذهب ابن الجنيد وابن حمزة وابن البراج
والسيد السند في المدارك وقال ابن إدريس : تبقى المتعة ما لم يفت اضطراري عرفة.
واستقرب العلامة في المختلف اعتبار اختياري عرفة ، وقواه في الدروس.
هذا ما حضرني في المسألة من أقوال أصحابنا (رضوان الله
عليهم).
واما الاخبار فهي مختلفة غاية الاختلاف ، فمنها ما يدل
على ما ذكره الشيخ في النهاية من فوات المتعة بزوال الشمس من يوم عرفة ، وبه استدل
في المدارك :
كرواية جميل بن دراج عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) قال : «المتمتع
له المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة ، وله الحج الى زوال الشمس من يوم النحر». قال
في المدارك : وهو نص في المطلوب.
ووصفها في المدارك بالصحة تبعا للشهيد في الدروس ، مع ان
في طريقها محمد ابن عيسى وهو مشترك ، ولا قرينة على انه الأشعري. وهو كثيرا ما يرد
هذا السند بالاشتراك ، لاحتمال العبيدي وحديثه عنده في الضعيف. فوصفه بالصحة هنا
سهو ظاهر نشأ من الاستعجال.
ومثل هذه الرواية ما رواه في الكافي عن العدة عن سهل ،
رفعه عن ابي عبد الله عليهالسلام (2) : «في متمتع
دخل يوم عرفة؟ قال : متعته تامة الى ان يقطع التلبية». وقطع التلبية هنا كناية عن
الزوال من يوم عرفة ، لأنه وقت قطع التلبية
وكيف كان فالخبران ضعيفان لا يصلحان للاستدلال على
قاعدته.
ومنها ـ ما يدل على العدول إذا خاف فوت الموقف ، نحو حسنة
الحلبي (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أهل
بالحج والعمرة جميعا ، ثم قدم مكة والناس بعرفات ، فخشي ان هو طاف وسعى بين الصفا
والمروة أن يفوته الموقف؟ قال : يدع العمرة ، فإذا أتم حجه صنع كما صنعت عائشة ولا
هدي عليه».
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 20 من أقسام
الحج.
(3) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
وما رواه الكليني والشيخ عنه عن يعقوب بن شعيب الميثمي (1) قال : «سمعت
أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : لا
بأس للمتمتع ان لم يحرم من ليلة التروية متى ما تيسر له ما لم يخف فوت الموقفين».
قال في الوافي : في بعض النسخ : «ان يحرم من ليلة عرفة»
مكان «ان لم يحرم من ليلة التروية».
أقول : الظاهر من الخبرين المذكورين ان المراد بالموقف
فيهما الموقف الاختياري ، بمعنى انه متى قدم مكة والناس في عرفات ، وخشي انه ان
اشتغل بأفعال العمرة ـ وبينه وبين عرفات أربعة فراسخ ـ لم يلحق الموقف الاختياري ،
فإنه يدع العمرة وينقل حجه الى الافراد ويبادر الى عرفات ليدرك الموقف الاختياري ،
والحمل على الاضطراري ـ كما رجحه في الذخيرة ـ الظاهر بعده بل عدم استقامته. ولهذا
ان صاحب المدارك اعتضد بحسنة الحلبي المذكورة بعد استدلاله برواية جميل. ومن
الظاهر ان رواية جميل إنما أريد منها ذلك ، فان المراد من قوله : «المتمتع له
المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة» انه ان عرف انه يأتي بأفعال العمرة من الصبح
على وجه يدرك الناس بعرفات بقي على متعته وأدرك الموقف ، وان عرف انه لا يفرغ منها
إلا الى الزوال فإنه ينقل حجه الى الافراد ويمضي الى عرفة ويدرك الموقف.
وبهذا التقريب يرجع كلام الشيخ والاخبار المذكورة الى ان
المدار في ذلك على انه ان عرف ادراك الموقف بقي على ما اعتمر وبقي على متعته ، وان
عرف فواته نقل نيته الى الافراد وبادر الى عرفات. وهو ما صرح به العلامة في
المختلف والشهيد في الدروس. وهو صريح عبارة الشيخ الآتي نقلها (2) عن التهذيب.
__________________
(1) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
(2) ص 337.
وعلى هذا القول يدل صحيح زرارة (1) قال : «سألت
أبا جعفر (عليهالسلام) عن الرجل
يكون في يوم عرفة وبينه وبين مكة ثلاثة أميال وهو متمتع بالعمرة إلى الحج؟ فقال :
يقطع التلبية تلبية المتعة ، ويهل بالحج بالتلبية إذا صلى الفجر ، ويمضي الى عرفات
فيقف مع الناس ويقضي جميع المناسك ، ويقيم بمكة حتى يعتمر عمرة المحرم ، ولا شيء
عليه». ىوهو ظاهر في العدول متى لم يدرك اختياري عرفة ، وإلا فإن الاضطراري في
الصورة المذكورة يمكن إدراكه.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن سرو (2) ـ وهو مجهول ،
إلا ان المحقق الشيخ حسن قال في كتاب المنتقى : محمد بن سرو ، وهو ابن جزك ،
والغلط وقع في اسم أبيه من الناسخين. وحينئذ فالخبر صحيح ، لان محمد بن جزك ثقة ـ قال
: «كتبت الى ابى الحسن الثالث (عليهالسلام) ما تقول في
رجل متمتع بالعمرة إلى الحج وافى غداة عرفة وخرج الناس من منى الى عرفات ، اعمرته
قائمة أو قد ذهبت منه؟ الى اي وقت عمرته قائمة إذا كان متمتعا بالعمرة إلى الحج
فلم يواف يوم التروية ولا ليلة التروية ، فكيف يصنع؟ فوقع (عليهالسلام) : ساعة يدخل
مكة ـ ان شاء الله تعالى ـ يطوف ويصلي ركعتين ويسعى ويقصر ويخرج بحجته ويمضي إلى
الموقف ويفيض مع الامام».
وما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن محمد بن أبي حمزة
عن بعض أصحابه عن ابى بصير ـ ورواه في الفقيه عن ابى بصير (3) ـ قال : «قلت
__________________
(1) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
وفي الاستبصار ج 2 ص 247 «ويحرم بحجته».
(3) الكافي ج 4 ص 447 ، والتهذيب ج 5
ص 475 ، والفقيه ج 2 ص 242 ، وفي الوسائل الباب 20 من أقسام الحج. وفي غير الكافي
: «وتلحق الناس بمنى فلتفعل».
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : المرأة تجيء
متمتعة فتطمث قبل ان تطوف بالبيت فيكون طهرها ليلة عرفة؟ فقال : ان كانت تعلم انها
تطهر وتطوف بالبيت وتحل من إحرامها وتلحق الناس فلتفعل».
وهو ظاهر ـ كما ترى ـ في اشتراط لحوق الناس في عرفات
الذي هو عبارة عن الموقف الاختياري ، كما أشار إليه في الخبر الأول بقوله : «ويفيض
مع الامام».
ومن ما يدخل في سلك نظام هذه الاخبار ايضا ما رواه ثقة
الإسلام في الكافي والصدوق في الفقيه في الصحيح عن محمد بن ميمون (1) قال : «قدم
أبو الحسن (عليهالسلام) متمتعا ليلة
عرفة فطاف وأحل واتى بعض جواريه ، ثم أهل بالحج وخرج».
ومنها ـ ما يدل على ان الاعتبار بإدراك الناس بمنى ،
بمعنى انه ان امكنه الإتيان بالعمرة وادراك الناس بمنى أدرك التمتع وإلا فلا.
ومن ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) (2) قال : «المتمتع
يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ما أدرك الناس بمنى».
وفي الصحيح عن مرازم بن حكيم (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : المتمتع
يدخل ليلة عرفة مكة ، أو المرأة الحائض ، متى يكون لهما المتعة؟ قال : ما أدركوا
الناس بمنى».
__________________
(1) الكافي ج 4 ص 443 ، والفقيه ج 2 ص
242 ، وفي الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
(2 و 3) الوسائل الباب 20 من أقسام
الحج.
وفي الموثق عن ابن بكير عن بعض أصحابنا (1) «انه سأل أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن المتعة
متى تكون؟ قال : يتمتع ما ظن انه يدرك الناس بمنى».
وفي الصحيح عن هشام ومرازم وشعيب عن ابي عبد الله عليهالسلام (2) : «في الرجل
المتمتع يدخل ليلة عرفة فيطوف ويسعى ثم يحل ثم يحرم ويأتي منى؟ قال : لا بأس».
وعن ابي بصير (3) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : المرأة تجيء
متمتعة فتطمث قبل ان تطوف بالبيت فيكون طهرها ليلة عرفة؟ فقال : ان كانت تعلم انها
تطهر وتطوف بالبيت وتحل من إحرامها وتلحق الناس بمنى فلتفعل».
ورواية شعيب العقرقوفي (4) قال : «خرجت
انا وحديد فانتهينا الى البستان يوم التروية ، فتقدمت على حمار فقدمت مكة ، فطفت
وسعيت وأحللت من تمتعي ، ثم أحرمت بالحج ، وقدم حديد من الليل ، فكتبت الى ابي
الحسن عليهالسلام أستفتيه في
امره؟ فكتب الي : مره يطوف ويسعى ويحل من متعته ، ويحرم بالحج ويلحق الناس بمنى ،
ولا يبيتن بمكة».
ومنها ـ ما يدل على توقيت التمتع بآخر نهار التروية :
ومنه ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن عيص بن القاسم (5) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن المتمتع
يقدم مكة يوم التروية صلاة العصر تفوته المتعة؟
__________________
(1 و 4) الوسائل الباب 20 من أقسام
الحج.
(2) التهذيب ج 5 ص 171 ، وفي الوسائل
الباب 20 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
وقد نقل الحديث ص 331 عن المشايخ الثلاثة ، ولم يذكر فيه لفظ «بمنى» كما هي رواية
الكليني (قدسسره).
(5) التهذيب ج 5 ص 172 ، وفي الوسائل
الباب 20 من أقسام الحج.
فقال : لا ، له ما بينه وبين غروب
الشمس. وقال : قد صنع ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآله».
وما رواه عن إسحاق بن عبد الله (1) قال : «سألت
أبا الحسن موسى عليهالسلام عن المتمتع
يدخل مكة يوم التروية؟ فقال : للمتمتع ما بينه وبين الليل».
وما رواه في الصحيح عن عمر بن يزيد عن ابي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «إذا
قدمت مكة يوم التروية وأنت متمتع فلك ما بينك وبين الليل ان تطوف بالبيت وتسعى
وتجعلها متعة».
وما رواه عن عمر بن يزيد ايضا عن ابي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «إذا
قدمت مكة يوم التروية ، وقد غربت الشمس فليس لك متعة ، امض كما أنت بحجك».
وما رواه عن زكريا بن عمران (4) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن المتمتع
إذا دخل يوم عرفة؟ قال : لا متعة له ، يجعلها عمرة مفردة».
وما رواه عن إسحاق بن عبد الله عن ابي الحسن عليهالسلام (5) قال : «المتمتع
إذا قدم ليلة عرفة فليست له متعة ، يجعلها حجة مفردة ، إنما المتعة إلى يوم
التروية».
وما رواه عن موسى بن عبد الله (6) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن المتمتع
يقدم مكة ليلة عرفة؟ قال : لا متعة له ، يجعلها حجة مفردة ويطوف بالبيت ويسعى بين
الصفا والمروة ويخرج إلى منى ، ولا هدى عليه ، انما الهدي على المتمتع».
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 20 من أقسام
الحج.
(3) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
(4) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
وقد أورد اسم الراوي كما جاء في الاستبصار ج 2 ص 249. وفي التهذيب ج 5 ص 173 «زكريا
بن آدم».
(5 و 6) التهذيب ج 5 ص 173 ، وفي
الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
وما رواه عن علي بن يقطين (1) قال : «سألت
أبا الحسن موسى (عليهالسلام) عن الرجل والمرأة
يتمتعان بالعمرة إلى الحج ، ثم يدخلان مكة يوم عرفة ، كيف يصنعان؟ قال : يجعلانها
حجة مفردة ، وحد المتعة إلى يوم التروية».
ومنها ـ ما يدل على التوقيت بزوال الشمس من يوم التروية
، كصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (2) قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن المرأة
تدخل مكة متمتعة فتحيض قبل ان تحل ، متى تذهب متعتها؟ قال : كان جعفر (عليهالسلام) يقول : زوال
الشمس من يوم التروية. وكان موسى (عليهالسلام) يقول : صلاة
الصبح من يوم التروية. فقلت : جعلت فداك عامة مواليك يدخلون يوم التروية ويطوفون
ويسعون ثم يحرمون بالحج؟ فقال : زوال الشمس. فذكرت له رواية عجلان ابي صالح فقال :
لا ، إذا زالت الشمس ذهبت المتعة. فقلت : فهي على إحرامها أو تجدد إحرامها للحج؟
فقال : لا هي على إحرامها. فقلت فعليها هدي؟ فقال : لا ، إلا ان تحب ان تطوع.
الحديث».
أقول : ورواية عجلان ابي صالح هي ما رواه ثقة
الإسلام في الكافي عن درست عن عجلان ابي صالح (3) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام)
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 21 من أقسام
الحج.
(3) روى الكليني هذا الحديث في الكافي
ج 4 ص 446 بطريقين ، ونقل في الوسائل الحديثين في الباب 84 من الطواف برقم 2 و 6.
وقوله (عليهالسلام) : «فإذا قدمت
مكة طافت بالبيت طوافين ثم سعت بين الصفا والمروة» يختص به أحد الطريقين وينتهي
بقوله : «ما خلا فراش زوجها» والطريق الثاني يفقد الفقرة المتقدمة ويشتمل على تتمة
، وهي قول الراوي : وكنت انا وعبيد الله بن صالح. الى آخره. والمصنف (قدسسره) جمع بين
ألفاظ الطريقين ونقل الحديث بالصورة المذكورة.
متمتعة قدمت مكة فرأت الدم ، كيف تصنع؟
قال : تسعى بين الصفا والمروة وتجلس في بيتها ، فان طهرت طافت بالبيت ، وان لم
تطهر فإذا كان يوم التروية أفاضت عليها الماء وأهلت بالحج وخرجت إلى منى فقضت
المناسك كلها ، فإذا قدمت مكة طافت بالبيت طوافين ثم سعت بين الصفا والمروة ، فإذا
فعلت ذلك فقد حل لها كل شيء ما عدا فراش زوجها. قال : وكنت انا وعبيد الله بن
صالح سمعنا هذا الحديث في المسجد ، فدخل عبيد الله علي ابي الحسن (عليهالسلام) فخرج الي
فقال : قد سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن رواية
عجلان فحدثني بنحو ما سمعنا من عجلان».
أقول : ظاهر هذا الحديث ـ كما سيأتي بيانه ان شاء الله
تعالى في المقام الثاني ـ هو البقاء على المتعة من غير عدول ، وقضاء طواف العمرة
بعد الإتيان بالمناسك
وروى في الكتاب المذكور (1) في الصحيح عن
عبد الرحمن بن الحجاج في حديث طويل قال : «أرسلت الى ابى عبد الله (عليهالسلام) ان بعض من
معنا من صرورة النساء قد اعتللن ، فكيف تصنع؟ قال : فلتنظر ما بينها وبين التروية
فإن طهرت فلتهل بالحج ، وإلا فلا يدخل عليها يوم التروية إلا وهي محرمة».
وروى الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه في الصحيح عن
جميل بن دراج (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة
الحائض إذا قدمت مكة يوم التروية؟ قال : تمضي كما هي الى عرفات فتجعلها حجة ، ثم
تقيم حتى تطهر ، وتخرج الى التنعيم فتحرم وتجعلها عمرة» وزاد في التهذيب (3) : قال ابن ابى
عمير : «كما صنعت عائشة».
__________________
(1) ج 4 ص 300 و 301 ، وفي الوسائل
الباب 9 و 21 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
(3) ج 5 ص 390.
وقد تقدم في رواية علي بن يقطين : «وحد المتعة إلى يوم
التروية».
وقال في كتاب الفقه الرضوي (1) : وإذا حاضت
المرأة من قبل ان تحرم فعليها أن تحتشي إذا بلغت الميقات وتغتسل وتلبس ثياب
إحرامها وتدخل مكة وهي محرمة ، ولا تقرب المسجد الحرام ، فان طهرت ما بينها وبين
يوم التروية قبل الزوال فقد أدركت متعتها ، فعليها ان تغتسل وتطوف بالبيت وتسعى
بين الصفا والمروة وتقضي ما عليها من المناسك ، وان طهرت بعد الزوال يوم التروية
فقد بطلت متعتها ، فتجعلها حجة مفردة.
ولا يخفى ان عبارة الشيخ علي بن بابويه المتقدمة إنما
أخذت من هذه العبارة ، على عادته التي أشرنا إليها في غير موضع من ما تقدم.
ومنها ـ ما يدل على التحديد بسحر عرفة ، كما رواه الشيخ
في الصحيح عن محمد بن مسلم (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : الى متى
يكون للحاج عمرة؟ قال : الى السحر من ليلة عرفة».
أقول : لا يخفى ما في هذه الاخبار من الاشكال والداء
العضال والتدافع بينها في هذا المجال.
قال الشيخ (قدسسره) في التهذيب :
المتمتع بالعمرة إلى الحج تكون عمرته تامة ما أدرك الموقفين ، سواء كان ذلك يوم
التروية أو ليلة عرفة أو يوم عرفة الى بعد زوال الشمس ، فإذا زالت الشمس من يوم
عرفة فقد فاتت المتعة ، لأنه لا يمكنه ان يلحق الناس بعرفات والحال على ما وصفناه.
إلا ان مراتب الناس تتفاضل في الفضل والثواب ، فمن أدرك يوم التروية عند زوال
الشمس يكون ثوابه
__________________
(1) ص 30.
(2) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
أكثر ومتعته أكمل ممن لحق بالليل ،
ومن أدرك بالليل يكون ثوابه دون ذلك وفوق من يلحق يوم عرفة الى بعد الزوال.
والاخبار التي وردت ـ في ان من لم يدرك يوم التروية فقد فاتته المتعة ـ المراد بها
فوت الكمال الذي يرجوه بلحوقه يوم التروية. وما تضمنت من قولهم (عليهمالسلام) : «ويجعلها
حجة مفردة» فالإنسان بالخيار في ذلك بين ان يمضي المتعة وبين ان يجعلها حجة مفردة
إذا لم يخف فوت الموقفين وكانت حجته غير حجة الإسلام التي لا يجوز فيها الافراد مع
الإمكان حسبما بيناه ، وانما يتوجه وجوبها والحتم على ان تجعل حجة مفردة لمن غلب
على ظنه انه ان اشتغل بالطواف والسعي والإحلال ثم الإحرام بالحج يفوته الموقفان.
ومهما حملنا هذه الاخبار على ما ذكرناه لم يكن قد دفعنا شيئا منها. انتهى كلامه
زيد مقامه.
أقول : وهذا الكلام جيد في حد ذاته إلا ان انطباق
الاخبار عليه في غاية الاشكال ، وان كان أصحابنا قد تلقوه بالقبول في هذا المجال ،
فإن الأخبار الدالة على التوقيت بيوم التروية قد دلت جملة منها على انه بعد انقضاء
يوم التروية فلا متعة له بل يجعلها حجة مفردة ، فقوله ـ : ان المراد بفوات المتعة
يوم التروية فوات الكمال ـ لا يلائم الأمر بالعدول الى الافراد الذي هو حقيقة في
الوجوب.
واما قوله في الجواب عن ذلك ـ : انه محمول على غير حجة
الإسلام ، وانه مخير في ذلك بين ان يمضي المتعة وبين ان يجعلها حجة مفردة ـ
ففيه أولا ـ مع عدم ظهور قرينة على الحمل على غير حجة
الإسلام ، وكذا على التخيير الذي ادعاه ـ ان ظاهر الأمر بالعدول الى حجة الافراد ـ
بناء على تسليم ما ذكره ـ يقتضي ان الأفضل هو الافراد ان جاز المضي على التمتع ،
مع ان الروايات قد استفاضت بأفضلية حج التمتع في مثل هذه الصورة ، وعاضدها اتفاق
كلمة الأصحاب على ذلك ايضا ، فكيف
يجعل الأفضل هنا حج الافراد ، وتتفق هذه الأخبار على ان الأفضل حج الافراد في صورة
الاستحباب كما زعمه؟
والعلامة في المنتهى حمل الأخبار المشار إليها على من
خاف فوت الموقفين للجمع بين الروايات.
ولا يخفى ما فيه ، فان من جملة الأخبار المشار إليها
صحيحة جميل بن دراج المتقدمة ، وهي قد اشتملت على القدوم يوم التروية الذي يخرج
الناس فيه بالحج ، مع انه أمر المرأة بالمضي الى عرفات وان تجعلها حجة مفردة ،
ونحوها الأخبار الأخر فإنها ظاهرة في إدراك الموقف الاختياري كما لا يخفى.
وثانيا ـ ان صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ظاهرة بل صريحة
في حج الإسلام ، لقوله فيها : «ان بعض من معنا من صرورة النساء» والمراد بالصرورة
انما هو من لم يحج كما عرفت آنفا ، فهو ظاهر في كون حج المرأة المذكورة انما هو حج
الإسلام ، ومع ذلك جعل المناط فيها يوم التروية ، فإن طهرت أحلت في يوم التروية
وإلا مضت في إحرامها تنقله الى الافراد.
وثالثا ـ قول الرضا (عليهالسلام) في كتاب
الفقه (1) : «وان طهرت
بعد الزوال يوم التروية فقد بطلت متعتها فتجعلها حجة مفردة». وهي صريحة في المدعى.
وقد عرفت من ما قدمنا في غير موضع ان الكتاب معتمد ، ومنه أخذ علي بن الحسين بن
بابويه عبارته المتقدمة ، كما نبهنا عليه مرارا في ما سلف. ومن ما يعضد كلامه في
الكتاب المذكور صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع عنه (عليهالسلام) (2).
وبالجملة فإن الأخبار المذكورة ظاهرة تمام الظهور في ما
قلناه ، ولهذا
__________________
(1) ص 30.
(2) ص 335.
ذهب المشايخ المتقدم ذكرهم الى القول
بمضمونها. وتأويل الشيخ (رضوان الله عليه) لها بما ذكره بعيد غاية البعد ، لكن
أصحابنا المتأخرين حيث رأوا الأخبار بهذا الاختلاف الزائد ولم يهتدوا الى وجه
يجمعون به بينها جمدوا على كلام الشيخ المذكور.
والأظهر عندي في اختلاف هذه الاخبار انما هو الحمل على
التقية ، على الوجه الذي قدمنا ذكره في المقدمة الاولى من مقدمات الكتاب ، من انهم
(عليهمالسلام) كثيرا ما
يلقون الاختلاف بين الشيعة في الأحكام لما يرونه من المصلحة التي تقدمت الإشارة
إليها في المقدمة المذكورة وان لم يكن شيء منها مذهبا للعامة.
وأنت خبير بان روايات التحديد بإدراك منى ، وكذا روايات
التحديد بآخر نهار التروية ، وروايات التحديد بيوم التروية ، كلها متقاربة يمكن
حمل بعضها على بعض ، والمخالفة التامة إنما تحصل بين هذه الاخبار والاخبار الأولة
الدالة على ان المدار في ذلك على ادراك الموقفين. والجمع بينهما ـ كما عرفت ـ مشكل.
ويمكن ترجيح الأخبار الأولة بأنها أوفق بقواعد الاخبار والأصحاب ، والثانية بأنها
أكثر عددا.
وظاهر الفاضل الخراساني في الذخيرة الميل الى ما ذهب
اليه الشيخ المفيد وابن بابويه ، حيث قال : ولا يخفى ان مقتضي صحيحة جميل تعين
العدول يوم التروية ، ومقتضى صحيحة محمد بن إسماعيل توقيت متعتها بزوال الشمس يوم
التروية. والاولى العمل بذلك كما هو محكي عن علي بن بابويه والمفيد ، وقد سبق
حكايته. انتهى.
والمسألة لا تخلو من شوب الاشكال. ولعل الترجيح للقول
المشهور. والله العالم
المقام الثاني ـ المشهور بين الأصحاب ان الحائض والنفساء
إذا منعهما عذرهما عن التحلل وإنشاء الإحرام بالحج لضيق الوقت فإنهما تبقيان على
إحرامهما وتنقلان حجهما الى الافراد.
وظاهر العلامة في المنتهى دعوى الإجماع على ذلك ، حيث
قال : إذا دخلت المرأة مكة متمتعة طافت وسعت وقصرت ثم أحرمت بالحج كما يفعل الرجل
سواء فان حاضت قبل الطواف لم يكن لها ان تطوف بالبيت إجماعا ، لأن الطواف صلاة (1) ولأنها ممنوعة
من الدخول الى المسجد. وتنتظر الى وقت الوقوف بالموقفين ، فان طهرت وتمكنت من
الطواف والسعي والتقصير وإنشاء الإحرام بالحج وادراك عرفة صح لها التمتع ، وان لم
تدرك ذلك وضاف عليها الوقت واستمر بها الحيض الى وقت الوقوف بطلت متعتها وصارت
حجتها مفردة ، ذهب إليه علماؤنا اجمع.
ونقل في المدارك عن الشهيد في الدروس انه حكى عن علي بن
بابويه وابى الصلاح وابن الجنيد قولا بأنها مع ضيق الوقت تسعى ثم تحرم بالحج وتقضي
طواف العمرة مع طواف الحج.
قال في المدارك بعد نقل القولين المذكورين : والمعتمد
الأول ، لنا ما رواه الشيخ عن الحسين بن سعيد. ثم أورد صحيحة جميل المتقدمة (2) ثم أردفها
بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع المتقدمة أيضا. وقال بعدها : قال في المنتهى : وهذا
الحديث كما يدل على سقوط وجوب الدم يدل على الاجتزاء بالإحرام الأول. واما اختلاف
الإمامين (عليهماالسلام) في فوات
المتعة فالضابط فيه ما تقدم من انه إذا أدركت أحد الموقفين صحت متعتها إذا كانت قد
طافت وسعت وإلا فلا. وقد تقدم البحث فيه. ثم قال في المدارك : هذا كلامه وهو جيد.
__________________
(1) في حديث أبي حمزة في الوسائل الباب 38 من الطواف : «. إلا
الطواف فان فيه صلاة» وفي سنن الدارمي ج 1 ص 374 عن النبي صلىاللهعليهوآله : «الطواف بالبيت صلاة».
(2) ص 336.
أقول : لا ريب ان البناء على هذا الضابط موجب لرد هذه
الاخبار البتة إذ من المعلوم عند كل ذي سمع ودراية ان الداخل إلى مكة يوم التروية
في أوله أو آخره لا يفوته الموقف بعد الإتيان بأفعال العمرة ، مع انهم (عليهمالسلام) حكموا بفوات
المتعة في الصحيحين المذكورين بزوال الشمس من يوم التروية أو من أول صبحه. وهكذا
في الروايات المتقدمة. ولكنهم (رضوان الله عليهم) لعدم ظهور الجواب لديهم عن هذه
الاخبار يرمون بهذا الكلام الذي لا يخرج عن الجزاف بل ارتكاب التحمل والاعتساف.
وبالجملة فإن الاستدلال بهاتين الصحيحتين وأمثالهما
يتوقف على القول بمضمونهما وهم لا يقولون بذلك ، وتأويلهم لا ينطبق عليهما ، فكيف
يصح منهم الاستدلال بهما؟ نعم يصح الاستدلال بهما في الجملة أعم من ان يكون
الاعتبار في العدول بما دلت عليه أو ما دلت عليه الاخبار الأولة.
ويدل على ذلك ما رواه ابن بابويه في الموثق عن إسحاق بن
عمار (1) قال : «سألت
أبا إبراهيم عليهالسلام عن المرأة
تجيىء متمتعة فتطمث قبل ان تطوف بالبيت حتى تخرج الى عرفات؟ فقال : تصير حجة
مفردة ، وعليها دم أضحيتها».
واما ما يدل على القول الثاني فروايات : منها ـ رواية
عجلان ابي صالح المتقدمة (2).
ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (3) في الصحيح عن
العلاء بن صبيح ، وعبد الرحمن بن الحجاج ، وعلي بن رئاب ، وعبد الله بن صالح ،
كلهم
__________________
(1) الفقيه ج 2 ص 240 وفي الوسائل
الباب 21 من أقسام الحج.
(2) ص 335 و 336.
(3) ج 4 ص 445 ، وفي الوسائل الباب 84
من الطواف.
يروونه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «المرأة
المتمتعة إذا قدمت مكة ثم حاضت تقيم ما بينها وبين التروية ، فإن طهرت طافت بالبيت
وسعت بين الصفا والمروة ، وان لم تطهر الى يوم التروية اغتسلت واحتشت ثم سمعت بين
الصفا والمروة ، ثم خرجت إلى منى ، فإذا قضت المناسك وزارت البيت طافت بالبيت
طوافا لعمرتها ثم طافت طوافا للحج ثم خرجت فسعت ، فإذا فعلت ذلك فقد أحلت من كل شيء
يحل منه المحرم إلا فراش زوجها ، فإذا طافت أسبوعا آخر حل لها فراش زوجها».
وما رواه في الكافي عن عجلان ايضا (1) «انه سمع أبا
عبد الله (عليهالسلام) يقول : إذا
اعتمرت المرأة ثم اعتلت قبل ان تطوف قدمت السعي وشهدت المناسك ، فإذا طهرت وانصرفت
من الحج قضت طواف العمرة وطواف الحج وطواف النساء ، ثم أحلت من كل شيء».
وما رواه في الكافي في الموثق عن يونس بن يعقوب عن رجل (2) «انه سمع أبا
عبد الله (عليهالسلام) يقول ، وسئل
عن امرأة متمتعة طمثت قبل ان تطوف فخرجت مع الناس الى منى. فقال : أو ليس هي على
عمرتها وحجتها فلتطف طوافا للعمرة وطوافا للحج».
وهو ظاهر في بقائها على عمرتها وحجتها ، وانها تطوف بعد
قضاء المناسك وتسعى ايضا ، وانما سكت عنه لظهوره ومعلوميته.
قال في المدارك بعد نقل صحيحة العلاء بن صبيح وعبد
الرحمن بن الحجاج وعلي بن رئاب المتقدمة : والجواب انه بعد تسليم السند والدلالة
يجب الجمع بينها وبين الروايات السابقة المتضمنة للعدول الى الافراد بالتخيير بين
الأمرين.
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 84 من الطواف.
أقول : لا أعرف في مناقشته في سند الرواية ودلالتها هنا
وجها غير مجرد التسجيل ، وهو قد نقل في كتابه السند بهذه الصورة : الكليني عن عدة
من أصحابنا عن احمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن ابي عمير عن حفص بن البختري عن
الجماعة المتقدم ذكرهم. وليس في السند من يتوقف في شأنه إلا العلاء بن صبيح وعبد
الله بن صالح ، وهما مشتركان في النقل مع علي بن رئاب وعبد الرحمن بن الحجاج
المتفق على توثيقهما. واما الدلالة فهي أظهر من ان تنكر.
أقول : والأظهر في الجمع بين روايات المسألة هو ما دل
عليه ما رواه في الكافي عن ابى بصير (1) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول في
المرأة المتمتعة : إذا أحرمت وهي طاهر ، ثم حاضت قبل ان تقضي متعتها ، سعت ولم تطف
حتى تطهر ثم تقضى طوافها وقد تمت عمرتها ، وان هي أحرمت وهي حائض لم تسع ولم تطف
حتى تطهر».
وعلى هذا فتحمل اخبار البقاء على المتعة وقضاء طواف
العمرة بعد المناسك على ما إذا أحرمت وهي طاهر. وهذا هو ظاهر الأخبار المشار إليها
، كصحيحة الجماعة المتقدمة ، حيث قال فيها : «المرأة المتمتعة إذا قدمت مكة ثم
حاضت» وهو ظاهر في كون إحرامها من الميقات وهي طاهر. وكذا رواية عجلان (2) وقوله فيها : «قدمت
مكة فرأت الدم» وهكذا الروايات الباقية. واما روايات العدول الى الافراد فبعضها ما
هو ظاهر في ذلك وبعضها يحتاج إلى تأويل.
وهذا التفصيل الذي تضمنته هذه الرواية هو ظاهر عبارة كتاب
الفقه
__________________
(1) الوسائل الباب 84 من الطواف.
(2) ص 335 و 336.
الرضوي ، حيث قال عليهالسلام (1) على اثر
العبارة التي قدمناها : وان حاضت بعد ما أحرمت سعت بين الصفا والمروة وفرغت من
المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ، فإذا طهرت قضت الطواف بالبيت وهي متمتعة بالعمرة
إلى الحج ، وعليها ثلاثة أطواف : طواف للمتعة وطواف للحج وطواف للنساء.
أقول : ومن هذه العبارة أخذ علي بن الحسين مذهبه المنقول
عنه. وصدر العبارة الذي قدمناه صريح في فرض تقدم الحيض على الإحرام ، والحكم مع ضيق
الوقت بالعدول الى حج الافراد. وهذه العبارة صريحة في تقدم الإحرام على الحيض ،
وان الحكم بقاء على متعتها وتقديم السعي وقضاء طواف العمرة بعد الإتيان بأفعال
الحج.
والى هذا المعنى أشار الصدوق في الفقيه (2) حيث قال :
وانما لا تسعى الحائض التي حاضت قبل الإحرام بين الصفا والمروة وتقضي المناسك كلها
، لأنها لا تقدر ان تقف بعرفة إلا عشية عرفة ، ولا بالمشعر إلا يوم النحر ، ولا
ترمي الجمار إلا بمنى ، وهذا إذا طهرت قضته. انتهى.
وهو (رحمهالله) قد قدم رواية
عجلان ابى صالح (3) المتضمنة
للأمر بالسعي للمرأة المتمتعة التي دخلت مكة فحاضت ، فجعل هذا الكلام في مقابلة ما
دلت عليه الرواية. وفيه إشارة إلى التفصيل المذكور.
ولعل مراده (طاب ثراه) انه انما تعدل في صورة تقدم الحيض
على الإحرام الى الافراد لأنها لم تدرك شيئا من عمرتها طاهرة ، وقد ضاق عليها وقت
الحج ، وأفعاله مخصوصة بأوقات معينة لا يمكن التقديم فيها ولا التأخير ،
__________________
(1) ص 30.
(2) ج 2 ص 242.
(3) الفقيه ج 2 ص 239.
بخلاف العمرة ، فإنه إذا لم يتمكن من
الإتيان بها أولا جاز العدول الى الحج والإتيان بأفعاله المذكورة في أوقاتها
المعينة ، ثم الإتيان بالعمرة مفردة بعد ذلك. واما في صورة تقدم الإحرام على الحيض
فإنها أدركت إحرام العمرة طاهرة ، فجاز لها البناء عليه والبقاء على حجها تمتعا ثم
السعي بين الصفا والمروة ، وتأخير الطواف وركعتين الى بعد الفراغ من أفعال الحج
وطهرها ، ثم تأتي به مع طواف الحج وطواف النساء.
قال شيخنا المولى محمد تقي المجلسي ـ في شرحه على الفقيه
بعد ذكر العبارة المذكورة ـ ما هذه ترجمته : والحائض التي حاضت قبل الإحرام انما
لا تسعى بين الصفا والمروة لتأتي بجميع المناسك مع حج التمتع ، لانه لا تقدر عليه
نية عمرة التمتع ، لأنها تعلم أن لأفعال الحج أوقاتا مخصوصة لو لم تفعلها في تلك
الأوقات لم تصح حجتها ، مثل الوقوف بعرفات فإنه لا يصح إلا عشية عرفة ، وبالمشعر
فلا يصح إلا يوم النحر ، ورمى الجمار. وإذا كانت في حال إحرامها حائضا فظنت عدم
النقاء الى يوم العاشر لا تقدر أن تنوي عمرة التمتع فيتعين عليها نية حج الإفراد.
فاما إذا لم تكن عند الإحرام حائضا تقدر أن تنوي عمرة التمتع ، بل يجب عليها
لاحتمال عدم طروء الدم ، فإذا نؤتها أتمتها ولو حاضت بعد ذلك ولكن لا تطوف ، فإذا
طهرت طافت طواف العمرة ثم تطوف طواف الحج. الى آخر أفعاله. وهذا وجه في الجمع بين
الأخبار الواردة في هذا الباب. والاختلاف هنا وقع في أمرين : أحدهما ـ ان الحائض
تأتي بالتمتع أو الافراد. الثاني ـ في إدراك عرفة. وأكثر الفضلاء خلطوا بين
الاخبار وجعلوها متفقة غير مختلفة. اما الخلاف في الأمر الأول ففيه ثلاثة أقوال : الأول
ـ ان الحائض والنفساء إذا دخلتا مكة واتسع وقتهما صبرتا الى اليوم الثامن بل الى
زوال اليوم التاسع ، فان طهرتا واتسع وقتهما للاغتسال والإتيان بأقل
واجب من الطواف وركعتيه والسعي وتجديد
الإحرام للحج وادراك الوقوف بعرفات تمتعا ، وان فاتهما الحج بالاشتغال بأفعال
العمرة بعدم اتساع الوقت أو عدم الرفقة الى عرفات وخوفهما على أنفسهما أو بضعهما
نقلتا نيتهما من العمرة إلى الحج وحجتا حج الافراد. وليس في هاتين الصورتين خلاف
يعتد به ، انما معظم الخلاف في انهما لو أمكنهما الإتيان بأفعال العمرة والحج
كليهما ، بان تأتيا بأفعال العمرة مع عدم النقاء إلا الطواف ، وتجددا الإحرام للحج
، وتؤخرا طواف العمرة إلى النقاء فتأتيان به مع طواف الزيارة وطواف النساء ، هل
تتمتعان أو تنتقلان الى الافراد؟ ذهب الى الأول جماعة من القدماء وجمع من
المتأخرين ، وأكثر الأصحاب أوجبوا النقل الى حج الافراد وتأتى بعد ذلك بعمرة
مفردة. وذهب جمع من الأصحاب إلى القول بالتخيير. ولا يخلو من قوة. وظني رجحان هذا
القول مع أفضلية التمتع. وفيه قول آخر بالتفصيل ـ كما ذكره الصدوق (رحمهالله) ـ بأنهما متى
كانتا عند الإحرام طاهرتين تمتعا وإلا افردتا. انتهى كلامه. وانما نقلناه بطوله
لاشتماله على تحقيق المسألة بجميع أقوالها ، وان كان ما حمل عليه عبارة الصدوق
وفسرها به في صدر كلامه لا يخلو من شيء.
تتميم
هذا كله في ما لو تجدد العذر قبل الشروع في الطواف ، اما
لو تجدد في أثنائه فللأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) هنا أقوال : المشهور انها ان
طافت أربعة أشواط تامة صحت متعتها وأتت بالسعي وبقية المناسك وقضت بعد طهرها ما
بقي من طوافها. وثانيها ـ ما ذهب اليه ابن إدريس واختاره في المدارك من انه لا تصح
العمرة إلا بعد إتمام الطواف ، قال ابن إدريس : والذي تقتضيه
الأدلة انها إذا جاءها
الحيض قبل جميع الطواف فلا متعة لها ، وانما ورد بما قاله شيخنا أبو جعفر خبران
مرسلان فعمل عليهما ، وقد بينا انه لا يعمل باخبار الآحاد وان كانت مسندة فكيف
بالمراسيل. انتهى. وثالثها ـ ما ذهب اليه الصدوق في الفقيه من انه تصح متعتها وان
حصل الحيض قبل إكمال الأربعة.
ويدل على القول المشهور ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد
الله بن مسكان وثقة الإسلام في الصحيح ايضا عن صفوان عن إسحاق بياع اللؤلؤ ـ وهو
مجهول ـ عن من سمع أبا عبد الله عليهالسلام (1) يقول : «المرأة
المتمتعة إذا طافت بالبيت أربعة أشواط ، ثم رأت الدم فمتعتها تامة» وزاد في
التهذيب : «وتقضى ما فاتها من الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وتخرج إلى منى قبل
ان تطوف الطواف الآخر».
أقول : ولعل المراد بالطواف والآخر الطواف المقضي.
وما رواه الشيخ عن إبراهيم بن أبي إسحاق عن سعيد الأعرج (2) قال : «سئل
أبو عبد الله عليهالسلام عن امرأة طافت
بالبيت أربعة أشواط وهي معتمرة ثم طمثت؟ قال : تتم طوافها فليس عليها غيره ،
ومتعتها تامة ، فلها ان تسعى بين الصفا والمروة ، وذلك لأنها زادت على النصف ، وقد
مضت متعتها ولتستأنف بعد الحج».
وروى في الفقيه عن ابن مسكان عن إبراهيم بن إسحاق (3) عن من
__________________
(1) التهذيب ج 5 ص 393 ، والكافي ج 4
ص 449 ، وفي الوسائل الباب 86 من الطواف. والكليني يرويه عن صفوان عن عبد الله بن
مسكان عن إسحاق. وفي التهذيب عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي إسحاق.
(2) الوسائل الباب 86 من الطواف.
(3) الوسائل الباب 85 من الطواف.
سأل أبا عبد الله عليهالسلام عن امرأة
طافت. الحديث. وزاد فيه : وان هي لم تطف إلا ثلاثة أشواط فلتستأنف الحج ، فإن أقام
بها جمالها بعد الحج فلتخرج إلى الجعرانة أو الى التنعيم فلتعتمر.
أقول : ومن ما يدل على ذلك ما رواه ثقة الإسلام في
الكافي (1) عن ابي بصير
عن ابي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا
حاضت المرأة وهي في الطواف بالبيت أو بين الصفا والمروة فجازت النصف فعلمت ذلك
الموضع ، فإذا طهرت رجعت فأتمت بقية طوافها من الموضع الذي علمته ، وان هي قطعت
طوافها في أقل من النصف فعليها أن تستأنف الطواف من اوله».
وما رواه أيضا في الكتاب المذكور عن احمد بن عمر الحلال
عن ابي الحسن عليهالسلام (2) قال : «سألته
عن امرأة طافت خمسة أشواط ثم اعتلت؟ قال : إذا حاضت المرأة وهي في الطواف بالبيت
أو بالصفا والمروة وجاوزت النصف علمت ذلك الموضع الذي بلغت ، فإذا هي قطعت طوافها
في أقل من النصف فعليها أن تستأنف الطواف من اوله».
وقال في كتاب الفقه الرضوي (3) : ومتى حاضت
المرأة في الطواف خرجت من المسجد ، فان كانت طافت ثلاثة أشواط فعليها ان تعيد ،
وان كانت طافت أربعة أقامت على مكانها فإذا طهرت بنت وقضت ما عليها. ولا تجوز على
المسجد حتى تتيمم وتخرج منه. وكذلك الرجل إذا أصابه علة وهو في الطواف لم يقدر على
إتمامه خرج وأعاد بعد ذلك طوافه ما لم يجز نصفه ، فان جاز نصفه
__________________
(1) ج 4 ص 448 ، وفي الوسائل الباب 85
من الطواف.
(2) الوسائل الباب 85 من الطواف.
(3) ص 30.
فعليه ان يبني على ما طاف. انتهى.
وقال في المدارك بعد ان نقل روايتي أبي إسحاق صاحب
اللؤلؤ وإبراهيم : وفي الروايتين قصور من حيث السند بالإرسال وجهالة المرسل. ثم
نقل كلام ابن إدريس المتقدم نقله ، وقال بعده : وهذا القول لا يخلو من قوة لامتناع
إتمام العمرة المقتضي لعدم وقوع التحلل ، ويشهد له صحيحة محمد بن إسماعيل المتقدمة
(1) حيث قال فيها
: «سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن المرأة
تدخل مكة متمتعة فتحيض قبل ان تحل ، متى تذهب متعتها؟ ...». انتهى.
أقول : قد عرفت ما دل على هذا الحكم عموما وخصوصا من
الاخبار المتقدمة ، وما طعن به عليها من ضعف الاسناد بناء على هذا الاصطلاح المحدث
فجوابه جبر ضعفها بعمل الأصحاب كافة. وخلاف ابن إدريس ـ بناء على أصوله الغير
الاصيلة وأدلته العليلة ـ من ما لا يلتفت اليه ولا يعرج في مقام التحقيق عليه. وهو
قد سلم هذه المقدمة في غير موضع من شرحه هذا وان خالف نفسه في آخر كما هنا.
واما ما احتج به ـ من عدم إتمام العمرة المانع من التحلل
ـ ففيه ان المفهوم من الاخبار المذكورة ان الشارع قد جعل مجاوزة النصف هنا موجبا
للتحليل في مقام الضرورة وقائما مقام الإتمام في ذلك. وبه يظهر الجواب عن إطلاق
الصحيحة التي احتج بها.
واما ما ذكره الصدوق فإنه قد احتج عليه بصحيحة محمد بن
مسلم (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن امرأة طافت
ثلاثة أطواف أو أقل من ذلك ،
__________________
(1) ص 335.
(2) الفقيه ج 2 ص 241 ، وفي الوسائل
الباب 85 من الطواف.
ثم رأت دما؟ قال : تحفظ مكانها فإذا
طهرت طافت منه واعتدت بما مضى».
قال في الفقيه بعد نقلها : قال مصنف هذا الكتاب (رضوان
الله عليه) : وبهذا الحديث افتى دون الحديث الذي رواه ابن مسكان عن إبراهيم بن
إسحاق عن من سأل أبا عبد الله عليهالسلام. ثم ساق
الرواية المتقدمة حسبما قدمنا نقله عنه ، ثم قال : لان هذا الحديث إسناده منقطع
والحديث الأول رخصة ورحمة ، وإسناده متصل. انتهى.
أقول : فيه أولا ـ ان اسناد هذا الخبر وان كان منقطعا
بناء على ما نقله إلا انه بناء على رواية الشيخ متصل. و (ثانيا) ـ اعتضاد هذا
الخبر بالأخبار المتقدمة ، وبالأخبار الكثيرة الآتية ـ ان شاء الله تعالى ـ في باب
الطواف ، من ان طواف الفريضة انما يبنى فيه على ما زاد على النصف بخلاف طواف
النافلة فإنه يبنى فيه على الأقل (1) ولهذا حمل الشيخ صحيحة محمد بن مسلم
على طواف النافلة. وهو جيد. وبما ذكرناه يظهر قوة القول المشهور. والله العالم.
المسألة الثالثة ـ قد صرح جمع من الأصحاب بأنه يشترط في
حج التمتع شروط أربعة الأول ـ النية ، إلا انه قد اضطرب كلامهم في المعنى المراد
من هذه النية هنا :
قال شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في المسالك :
قد تكرر ذكر النية هنا في كلامهم وظاهرهم ان المراد بها نية الحج بجملته. وفي
وجوبها كذلك نظر. ويمكن ان يريدوا بها نية الإحرام. وهو حسن إلا انه كالمستغنى عنه
، فإنه من جملة الأفعال وكما تجب النية له تجب لغيره ، ولم يتعرضوا لها في غيره
على الخصوص ولعل للإحرام مزية على غيره باستمراره وكثرة أحكامه وشدة التكليف به.
وقد صرح في الدروس بان المراد بها نية الإحرام. ويظهر من سلار في الرسالة ان
__________________
(1) الوسائل الباب 40 و 41 و 45 من
الطواف.
المراد بها نية الخروج. انتهى.
ومن غفلات صاحب المدارك انه ـ بعد ان نقل عن جده انه ذكر
عن ظاهر أصحابنا ان المراد بهذه النية نية الحج بجملته ـ قال : ونقل عن سلار التصريح
به. ويمكن ان يكون في النسخة التي عنده من المسالك الحج عوض الخروج ، فان المنقول
عن سلار قول آخر غير القولين المتقدمين ، وهو انه فسر النية بنية الخروج إلى مكة ،
كما أفصح بنقله عنه الشهيد في الدروس.
ونقل في المختلف عن الشيخ في المبسوط انه قال : شروط
التمتع ستة. الى ان قال : السادس النية وهي شرط في التمتع ، والأفضل ان تكون
مقارنة للإحرام ، فإن فاتت جاز تجديدها الى وقت التحلل. ثم قال في المختلف : وفيه
نظر ، فإن الأولى إبطال ما لم يقع بنية لفوات الشرط.
واعتذر عنه في الدروس فقال : ولعله أراد نية التمتع في
إحرامه لا مطلق نية الإحرام ، ويكون هذا التجديد بناء على جواز نية الإحرام المطلق
كما هو مذهب الشيخ ، أو على جواز العدول الى التمتع من إحرام الحج والعمرة
المفردة. وهذا يشعر بأن النية المعدودة هي نية النوع المخصوص. انتهى.
وكيف كان فان هذا البحث مفروغ عنه عندنا ، لما عرفت في
مقدمات الكتاب ، فإن النية من الأمور الجبلية في كل فعل يأتي به العاقل المكلف ،
عبادة كان أو غيرها. وانما ذكرنا هذه الكلمات حكاية لما جرى لهم في المقام.
الثاني ـ وقوعه في أشهر الحج ، ويدل عليه من الاخبار صحيحة
عمر بن يزيد عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) في حديث قال
في آخره : «وقال : ليس تكون متعة إلا في أشهر الحج».
__________________
(1) الوسائل الباب 15 من أقسام الحج.
والباب 7 من العمرة.
وصحيحة زرارة (1) قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الذي يلي
المفرد للحج في الفضل؟ فقال : المتعة. فقلت : وما المتعة؟ فقال : يهل بالحج في
أشهر الحج ، فإذا طاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام وسعى بين الصفا والمروة قصر
وأحل ، فإذا كان يوم التروية أهل بالحج ونسك المناسك ، وعليه الهدي. الحديث».
ورواية سعيد الأعرج (2) قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : من تمتع في
أشهر الحج ثم أقام بمكة حتى يحضر الحج فعليه شاة ، ومن تمتع في غيره أشهر الحج ثم
جاور حتى يحضر الحج فليس عليه دم ، انما هي حجة مفردة».
وروى الصدوق في القوي عن سماعة بن مهران عن ابي عبد الله
عليهالسلام (3) انه قال : «من
حج معتمرا في شوال ومن نيته ان يعتمر ويرجع الى بلاده فلا بأس بذلك ، وان هو أقام
إلى الحج فهو متمتع ، لأن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة ، فمن اعتمر فيهن
واقام إلى الحج فهي متعة ، ومن رجل الى بلاده ولم يقم الى الحج فهي عمرة ، وان
اعتمر في شهر رمضان أو قبله واقام إلى الحج فليس بمتمتع وانما هو مجاور أفرد
العمرة ، فإن هو أحب ان يتمتع في أشهر الحج بالعمرة إلى الحج فليخرج منها حتى
يجاوز ذات عرق أو
__________________
(1) الوسائل الباب 5 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 10 من أقسام الحج ،
والباب 1 من الذبح ، وتتمة الرواية : «وانما الأضحى على أهل الأمصار» وفي الكافي ج
4 ص 487 «حتى يحضر الحج من قابل فعليه شاة» وكذا في الاستبصار ج 2 ص 259. وفي
التهذيب كما في المتن.
(3) الفقيه ج 2 ص 274 ، وفي الوسائل
الباب 10 من أقسام الحج.
يجاوز عسفان فيدخل متمتعا بعمرة إلى
الحج ، فان هو أحب ان يفرد الحج فليخرج إلى الجعرانة فيلبي منها».
ثم انه قد اختلف الأصحاب وغيرهم في أشهر الحج ، فقال
الشيخ في النهاية : هي شوال وذو القعدة وذو الحجة. وبه قال ابن الجنيد. ورواه
الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه (1) ونقل عن المرتضى وسلار وابن ابي عقيل
(رضوان الله عليهم) انها شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة. وعن الشيخ في الجمل
وابن البراج : وتسعة من ذي الحجة. وعن الشيخ في الخلاف والمبسوط الى طلوع الفجر من
يوم النحر. وقال ابن إدريس إلى طلوع الشمس من يوم النحر.
قال العلامة في المنتهى : وليس يتعلق بهذا الاختلاف حكم.
وقال في المختلف : التحقيق ان هذا نزاع لفظي ، فإنهم إن أرادوا بأشهر الحج ما يفوت
الحج بفواته فليس كمال ذي الحجة من أشهره ، لما يأتي من فوات الحج دونه على ما
يأتي تحقيقه ، وان أرادوا بها ما يقع فيه أفعال الحج فهي الثلاثة كملا لأن باقي
المناسك تقع في كمال ذي الحجة. فقد ظهر ان النزاع لفظي. وقريب منه ما قال في
التذكرة وولده في الإيضاح.
واستحسنه من تأخر عنه. وهو كذلك ، إذ لا خلاف في فوات
وقت الإنشاء بعدم التمكن من ادراك المشعر قبل زوال الشمس من يوم النحر ، كما انه
لا خلاف في وقوع بعض أفعال الحج كالطوافين والسعي والرمي في ذي الحجة بأسره. وبذلك
يظهر ان هذا الخلاف لا يترتب عليه حكم ، وان النزاع في
__________________
(1) ج 2 ص 277 و 278 ، وفي الوسائل الباب 11 من أقسام الحج. وفيه
رواية ذلك من الكافي والتهذيب ايضا ، كما سيأتي قريبا.
هذه المسألة يرجع الى تفسير هذا اللفظ
الوارد في الآية ، وهو قوله عزوجل : «الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ» (1).
والأظهر بالنظر الى القواعد إطلاقه على الثلاثة التي هي
أقل الجمع ، وهو يرجع الى القول الأول.
ولما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابى عبد
الله عليهالسلام (2) قال : «ان
الله (تعالى) يقول (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) (3) وهي شوال وذو
القعدة وذو الحجة».
وعن زرارة عن ابى جعفر عليهالسلام (4) قال : «(الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) : شوال وذو
القعدة وذو الحجة ، ليس لأحد ان يحرم بالحج في سواهن. الحديث».
وروى الصدوق عن زرارة في الصحيح عن ابي جعفر عليهالسلام (5) «في قول الله عزوجل (الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) (6) قال : شوال
وذو القعدة وذو الحجة ليس لأحد ان يحرم بالحج في ما سواهن».
وعن معاوية بن عمار ـ بإسنادين أحدهما حسن والآخر قوي ـ عن
ابي عبد الله عليهالسلام (7) «في قول الله عزوجل (الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) (8) والفرض :
التلبية والاشعار والتقليد ، فأي ذلك فعل فقد فرض الحج. ولا يفرض الحج إلا في هذه
الشهور التي قال الله عزوجل : «الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ» وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة».
__________________
(1 و 3 و 6 و 8) سورة البقرة ، الآية
196.
(2 و 4 و 7) الوسائل الباب 11 من
أقسام الحج.
(5) الوسائل الباب 11 من أقسام الحج.
وفي بعض النسخ «ابان» بدل «زرارة» راجع الفقيه ج 2 ص 277.
واستدل على التحديد بطلوع الفجر بقوله تعالى (فَمَنْ
فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) (1) ولا يمكن فرضه
بعد طلوع الفجر من يوم النحر. ولقوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) (2) وهو سائغ يوم
النحر متى تحلل في اوله.
ويؤيده ما رواه الكليني عن على بن إبراهيم بإسناده (3) قال : «أشهر
الحج : شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة».
الثالث ـ ان يأتي بالحج والعمرة في عام واحد ، وهو من ما
لا خلاف فيه بينهم.
وتدل عليه جملة من الاخبار : منها ـ ما تكاثر نقله من قوله
صلىاللهعليهوآله (4) : «دخلت
العمرة في الحج هكذا. وشبك بين أصابعه».
وما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن على المشهور عن
حماد بن عيسى عن ابى عبد الله عليهالسلام (5) قال : «من دخل
مكة متمتعا في أشهر الحج لم يكن له ان يخرج حتى يقضي الحج ، فان عرضت له حاجة الى
عسفان أو الى الطائف أو الى ذات عرق خرج محرما ودخل ملبيا بالحج ، فلا يزال على
إحرامه ، فإن رجع الى مكة رجع محرما ولم يقرب البيت حتى يخرج مع الناس الى منى.
الحديث».
__________________
(1 و 2) سورة البقرة ، الآية 196.
(3) الوسائل الباب 11 من أقسام الحج.
(4) الوسائل الباب 2 رقم 4 و 27 و 33
، والباب 5 رقم 10 من أقسام الحج. واللفظ المذكور هنا يوافق ما ورد في الحديث 33
بإضافة : «إلى يوم القيامة». وارجع في تشخيص لفظ الفقرة الواردة في صحيح معاوية بن
عمار إلى الصفحة 317 والتعليقة 1.
(5) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج.
وما رواه الشيخ عن معاوية بن عمار (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : من اين
افترق المتمتع والمعتمر؟ فقال : ان المتمتع مرتبط بالحج ، والمعتمر إذا فرغ منها
ذهب حيث شاء. وقد اعتمر الحسين عليهالسلام في ذي الحجة
ثم راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى».
وعن صفوان في الصحيح عن ابي جعفر عليهالسلام (2) قال : «إذا
دخل المعتمر مكة غير متمتع فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وصلى الركعتين خلف
مقام إبراهيم عليهالسلام فليلحق بأهله
ان شاء. وقال : إنما أنزلت العمرة المفردة والمتعة لأن المتعة دخلت في الحج ولم
تدخل العمرة المفردة في الحج».
وعن ابان عن من أخبره عن ابي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «المتمتع
محتبس لا يخرج من مكة حتى يخرج الى الحج ، إلا ان يأبق غلامه أو تضل راحلته ،
فيخرج محرما ، ولا يجاوز إلا على قدر ما لا تفوته عرفة».
وفي صحيحة زرارة عن ابي جعفر عليهالسلام (4) قال : «قلت له
: كيف أتمتع؟ قال : تأتي الوقت فتلبي. الى ان قال : وليس لك ان تخرج من مكة حتى
تحج».
وصحيحته الأخرى عنه عليهالسلام (5) قال : «قلت
لأبي جعفر عليهالسلام : كيف
__________________
(1) الوسائل الباب 7 من العمرة.
(2) الوسائل الباب 5 من العمرة.
وصفوان يرويه عن نجية عن ابي جعفر (عليهالسلام).
(3) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج.
(4) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج ،
والباب 22 من الإحرام.
(5) الوسائل الباب 5 و 22 من أقسام
الحج. وارجع الى الاستدراكات.
أتمتع؟ فقال : يأتي الوقت فيلبي بالحج
، فإذا اتى مكة طاف وسعى وأحل من كل شيء. وهو محتبس ليس له ان يخرج من مكة حتى
يحج».
وما رواه الكليني في الحسن عن معاوية (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : انهم يقولون
في حجة المتمتع حجته مكية وعمرته عراقية (2)؟ فقال : كذبوا ، أو ليس هو مرتبطا
بحجته لا يخرج منها حتى يقضي حجه».
أقول : تحقيق الكلام في معنى هذا الخبر هو انه لما كان
المخالفون في ذلك الوقت ينفون حج التمتع ـ ويقولون بالإفراد والقران خاصة ، تبعا
لإمامهم الذي حرم حج التمتع ـ زعموا ان ما يأتي به الشيعة من حج التمتع المشتمل
على العمرة والحج يرجع بالأخرة إلى العمرة المفردة وحج الافراد ، فإن العمرة بالإحلال
تصير مفردة ، ويصير الحج حينئذ بعدها حجا مفردا وان كانت العمرة فيه متقدمة على
الحج. وتسميتهم لها عمرة عراقية لكون شيعة العراق الذين هم من اتباع أهل البيت (عليهمالسلام) يومئذ يفعلون
ذلك. وحاصل كلامهم ان هذه العمرة وان تقدمت على الحج فإنما هي مفردة (3) والحج افراد ،
وهو معنى قولهم : «حجته مكية» فرد عليهم وكذبهم في ما ادعوه من افراد العمرة
بالإحلال بعدها ، بان ارتباط العمرة بالحج انما هو من حيث انه لا يجوز للمعتمر
بهذه العمرة الخروج من مكة حتى يأتي بالحج.
__________________
(1) الكافي ج 4 ص 294 ، وفي الوسائل
الباب 4 من أقسام الحج.
(2) في فتح الباري لابن حجر ج 3 ص 278
: تفسير الحجة المكية بأنها قليلة الثواب لقلة مشقتها. وحكى عن ابن بطال ان معنى
ذلك إنشاء الحج من مكة كما ينشئ أهل مكة منها فيفوت فضل الإحرام من الميقات.
(3) المغني ج 3 ص 276.
وما ربما يقال من ان علماء العامة لا يحرمون حج التمتع
فمسلم (1) لكن المعلوم
من أقوال عمر واخبارهم المروية عنه هو التحريم (2) ولكن من تأخر من علمائهم ـ لشناعة
الأمر بمخالفة الكتاب العزيز ـ خصوا تحريمه بالعدول من الافراد الى التمتع (3) والاخبار
المشار إليها لا تساعده ، بل هي ما بين صريح أو ظاهر في التحريم مطلقا ، كما
حققناه في كتابنا سلاسل الحديد في تقييد ابن ابي الحديد.
الرابع ـ ان يحرم بالحج من بطن مكة ، وأفضله المسجد ،
وأفضله المقام أو الحجر. وقد أجمع علماؤنا كافة على ان ميقات حج التمتع مكة.
وستأتي الأخبار الدالة على ذلك عند ذكر المسألة.
ومنها ـ صحيحة عمرو بن حريث الصيرفي (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : من أين أهل
بالحج؟ قال : ان شئت من رحلك ، وان شئت من الكعبة وان شئت من الطريق».
وأفضل مكة المسجد اتفاقا ، وأفضل المسجد مقام إبراهيم أو
الحجر ، كما يدل عليه قوله عليهالسلام في صحيحة
معاوية بن عمار (5) : «إذا كان
يوم التروية ـ إن
__________________
(1) المغني ج 3 ص 276.
(2) صحيح البخاري باب التمتع على عهد
رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وعمدة
القارئ ج 4 ص 568 ، والمحلى ج 7 ص 107.
(3) عمدة القارئ ج 4 ص 551 ، وشرح
النووي لصحيح مسلم على هامش إرشاد الساري ج 5 ص 292.
(4) الوسائل الباب 21 من المواقيت.
(5) الوسائل الباب 52 من الإحرام ،
والباب 1 من إحرام الحج.
شاء الله تعالى ـ فاغتسل ثم البس
ثوبيك ، وادخل المسجد حافيا وعليك السكينة والوقار ، ثم صل ركعتين عند مقام
إبراهيم عليهالسلام أو في الحجر ،
ثم اقعد حتى تزول الشمس ، فصل المكتوبة ، ثم قل في دبر صلاتك كما قلت حين أحرمت من
الشجرة ، فأحرم بالحج».
وعلى هذا فلا يجزئ الإحرام بحج التمتع من غير مكة ولو
دخل مكة بإحرامه ، بل لا بد من استئنافه منها ، كما هو المعروف من مذهب الأصحاب ،
وبه قطع في المعتبر من غير نقل خلاف ، وأسنده العلامة في التذكرة والمنتهى الى
علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه. وربما أشعرت عبارة الشرائع بوقوع الخلاف في ذلك
، إلا ان شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في المسالك
نقل عن شارح ترددات الكتاب انه أنكر ذلك ، ونقل عن شيخه ان المحقق قد يشير في
كتابه إلى خلاف الجمهور ، أو الى ما يختاره من غير ان يكون خلافه مذهبا لأحد من
الأصحاب ، فيظن ان فيه خلافا.
وكيف كان فالخلاف في هذه المسألة ان تحقق فهو ضعيف لا
يلتفت إليه لأن الإحرام بحج التمتع من غير مكة خلاف ما دلت عليه الاخبار فيكون
فاسدا ، إذ مجرد المرور على الميقات لا يكفي ما لم يجدد الإحرام منه ، لأنه
الإحرام غير منعقد ، فيكون مروره من الميقات جاريا مجرى مرور المحل به.
بقي الكلام في ما لو تعذر الاستئناف من مكة ، فقد صرح
جملة من الأصحاب بأنه يستأنف حيث أمكن ولو بعرفة ان لم يتعمد ذلك ، بمعنى انه ان
تعمد الإحرام من غير مكة مع إمكان الإحرام منها فإنه يبطل إحرامه ، وان أحرم من
غيرها جهلا أو نسيانا فإنه يجب عليه ان يستأنفه حيث أمكن ولو بعرفة.
اما الحكم الأول وهو بطلان الإحرام مع تعمد ذلك فلعدم
تحقق الامتثال المقتضى لبقاء المكلف تحت العهدة.
واما الثاني وهو التجديد مع الجهل والنسيان فلصحيحة علي
بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن رجل نسي الإحرام بالحج فذكر وهو بعرفات ، ما حاله؟ قال : يقول : اللهم على
كتابك وسنة نبيك. فقد تم إحرامه».
ونقل في المختلف عن الشيخ في المبسوط والخلاف انه أجزأه
إحرامه وصح حجه ، ولا دم عليه ، سواء أحرم من الحل أو الحرم.
ولو اتفق التجديد بناء على المشهور من الميقات أو المرور
على الميقات بعد التجديد في غيره ، فهل يسقط عنه دم المتعة أم لا؟ قولان مبنيان
على ان دم المتعة نسك كغيره من أفعال الحج فلا يسقط ، وهو المشهور بين الأصحاب ،
أو جبران لما فات في إحرام الحج من وقوعه من غير الميقات حيث انه انما يقع من مكة
، فجعل هذا الدم جبرانا لذلك. وهو قول بعض العامة (2) واليه ذهب
الشيخ في المبسوط. وعلى هذا فيسقط الدم هنا لو أحرم من الميقات أو مر عليه محرما.
قال شيخنا الشهيد في الدروس : ولو تعذر إحرامه من مكة
بحجة أحرم من حيث يمكن ولو من عرفة ان لم يتعمد وإلا بطل حجه ، ولا يسقط عنه دم
التمتع ولو أحرم من ميقات المتعة. وفي المبسوط : إذا أحرم المتمتع من مكة ومضى الى
الميقات ومنه الى عرفات صح واعتد بالإحرام من الميقات ، ولا يلزمه دم. وعنى به دم
التمتع. وهو يشعر بأنه لو أنشأ الإحرام من الميقات لا دم
__________________
(1) الوسائل الباب 14 و 20 من
المواقيت.
(2) المهذب للشيرازي الشافعي ج 1 ص
201 ، ونسبه في بدائع الصنائع ج 2 ص 173 الى الشافعي.
عليه بطريق الاولى. وهذا بناء على ان
دم التمتع جبران لا نسك ، وقد قطع في المبسوط بأنه نسك. ولا جماعنا على جواز الأكل
منه. وفي الخلاف قطع بذلك ايضا ، وبعدم سقوط الدم بالإحرام من الميقات. وهو الأصح.
انتهى.
أقول : والمراد بالإحرام من الميقات في هذا المقام
الإحرام منه اضطرارا للقطع بأن الإحرام منه اختيارا غير جائز ، لأن موضوعه الشرعي
انما هو مكة كما عرفت.
المسألة الرابعة ـ الأشهر الأظهر انه لا يجوز للمتمتع
بعد الإتيان بعمرته الخروج من مكة على وجه يفتقر الى استئناف إحرام ، بل اما ان
يخرج محرما بالحج واما ان يعود قبل شهر ، فان انتفى الأمران جدد عمرة ، وهي عمرة
التمتع.
وحكى الشهيد في الدروس عن الشيخ في النهاية وجماعة انهم
أطلقوا المنع من الخروج من مكة للمتمتع ، لارتباط عمرة التمتع بالحج ، فلو خرج
صارت مفردة. ثم قال : ولعلهم أرادوا الخروج المحوج إلى عمرة أخرى ـ كما قال في
المبسوط ـ أو الخروج لا بنية العود.
ونقل عن ابن إدريس انه لا يحرم ذلك بل يكره ، لأنه لا
دليل على حظر الخروج من مكة بعد الإحلال من العمرة. وهو ظاهر العلامة في المنتهى ،
حيث قال : يكره للمتمتع بالعمرة ان يخرج من مكة قبل ان يقضي مناسكه كلها إلا
لضرورة. الى آخره. وبمثل ذلك صرح في التذكرة أيضا.
ومن ما يدل على القول الأول الاخبار الكثيرة ، ومنها ـ صحيحة
حماد ابن عيسى عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «من دخل
مكة متمتعا في أشهر الحج لم يكن له ان يخرج حتى يقضي الحج ، فان عرضت له حاجة الى
عسفان
__________________
(1) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج.
أو الى الطائف أو الى ذات عرق خرج
محرما ودخل ملبيا بالحج ، فلا يزال على إحرامه ، فإن رجع الى مكة رجع محرما ولم
يقرب البيت حتى يخرج مع الناس الى منى على إحرامه. وان شاء كان وجهه ذلك الى منى.
قلت : فان جهل فخرج الى المدينة أو الى نحوها بغير إحرام ثم رجع في ابان الحج في
أشهر الحج يريد الحج ، أيدخلها محرما أو بغير إحرام؟ فقال : ان رجع في شهره دخل
بغير إحرام وان دخل في غير الشهر دخل محرما. قلت : فأي الإحرامين والمتعتين متعته
: الأولى أو الأخيرة؟ قال : الأخيرة هي عمرته ، وهي المحتبس بها التي وصلت بحجته».
وفي الحسن عن حفص بن البختري عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) : «في رجل قضى
متعته وعرضت له حاجة أراد أن يمضي إليها؟ قال : فقال : فليغتسل للإحرام وليهل
بالحج وليمض في حاجته ، فان لم يقدر على الرجوع الى مكة مضى الى عرفات».
وفي الحسن عن الحلبي (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يتمتع بالعمرة إلى الحج ، يريد الخروج إلى الطائف؟ قال : يهل بالحج من مكة ، وما
أحب ان يخرج منها إلا محرما ، ولا يتجاوز الطائف انها قريبة من مكة».
وقال في كتاب الفقه الرضوي (3) : فإن أراد
المتمتع الخروج من مكة الى بعض المواضع فليس له ذلك ، لانه مرتبط بالحج حتى يقضيه
، إلا ان يعلم انه لا يفوته الحج ، فان علم وخرج ثم رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل
مكة محلا ، وان رجع في غير ذلك الشهر دخلها محرما.
بقي الكلام في الشهر وتحديده ، فقيل : المراد بالشهر من
وقت إحلاله من
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 22 من أقسام
الحج.
(3) ص 30.
الإحرام المتقدم. اختاره شيخنا الشهيد
الثاني وجماعة.
قال في المسالك : ولو وقع الإحرام في أثناء الشهر اعتبر
بالعدد ، وهل المعتبر كون الشهر من حين الإهلال أم من حين الإحلال؟ إشكال ، منشأه
إطلاق النصوص واحتمالها للأمرين معا. واعتبار الثاني أقوى. انتهى.
ونقل عن العلامة في القواعد انه استشكل احتساب الشهر من
حين الإحرام أو الإحلال.
وقال المحقق في النافع : ولو خرج بعد إحرامه ثم عاد في
شهر خروجه أجزأه وان عاد في غيره أحرم ثانيا.
قال في المدارك بعد نقل العبارة : ومقتضى ذلك عدم اعتبار
مضى الشهر من حين الإحرام أو الإحلال بل الاكتفاء في سقوط الإحرام بعوده في شهر
خروجه إذا وقع بعد إحرام متقدم. قال : وقريب من ذلك عبارة الشيخ في النهاية ، فإنه
قال في المتمتع : فان خرج من مكة بغير إحرام ثم عاد ، فان كان عوده في الشهر الذي
خرج فيه لم يضره ان يدخل مكة بغير إحرام ، وان دخل في غير الشهر الذي خرج فيه
دخلها محرما بالعمرة إلى الحج ، وتكون عمرته الأخيرة. ونحوه قال في المقنعة.
وقال العلامة في المنتهى : ولو خرج بغير إحرام ثم عاد ،
فان كان في الشهر الذي خرج فيه لم يضره ان يدخل بغير إحرام ، وان دخل في غير الشهر
الذي خرج فيه دخل محرما بالعمرة إلى الحج ، وتكون عمرته الأخيرة هي التي يتمتع بها
الى الحج. ونحوه عبارته في التذكرة.
وهذه العبارات كلها متفقة الدلالة على ان المراد بالشهر
هو الذي خرج فيه ولا تعرض فيها لكونه من حين الإحرام أو الإحلال بوجه.
نعم لا بد من كون ذلك بعد إحرام متقدم ، وعلى هذا تدل
ظواهر
الأخبار ايضا ، كصحيحة حماد بن عيسى
المتقدمة ، فإن الظاهر من قوله ـ : «ان رجع في شهره» بعد قول الراوي : «فإن جهل
فخرج الى المدينة» ـ ان المراد شهر خروجه ، ولهذا استدل بها الشيخ في التهذيب
للشيخ المفيد على ما ذكره في عبارة المقنعة الدالة على ان الاعتبار بشهر الخروج.
وأظهر منها في ما قلناه ما رواه الشيخ في الصحيح عن حفص
بن البختري وابان بن عثمان عن رجل عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) : «في الرجل
يخرج في الحاجة من الحرم؟ قال : ان رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل بغير إحرام ،
وان دخل في غيره دخل بإحرام».
وروى الصدوق في الفقيه (2) مرسلا عن
الصادق (عليهالسلام) انه قال :
«إذا أراد المتمتع الخروج من مكة الى بعض المواضع فليس
له ذلك ، لانه مرتبط بالحج حتى يقضيه ، إلا ان يعلم انه لا يفوته الحج ، فإذا علم
وخرج ثم رجع وعاد في الشهر الذي خرج فيه دخل مكة محلا ، وان دخلها في غير ذلك
الشهر دخلها محرما».
وهي صريحة في ما ذكرناه. ومثلها عبارة كتاب الفقه الرضوي
التي قدمناها.
وهذه الرواية ـ كما ترى ـ عين عبارة كتاب الفقه الرضوي
التي قدمناها إلا في ألفاظ يسيرة.
واما ما رواه الكليني والشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار
(3) ـ قال : «سألت
أبا الحسن (عليهالسلام) عن المتمتع
يجيء فيقضي متعته ثم تبدو له الحاجة
__________________
(1) الوسائل الباب 51 من الإحرام.
(2) ج 2 ص 238 ، وفي الوسائل الباب 22
من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج.
فيخرج إلى المدينة أو الى ذات عرق أو
الى بعض المعادن؟ قال : يرجع الى مكة بعمرة ان كان في غير
الشهر الذي تمتع فيه ، لأن لكل شهر عمرة ، وهو مرتهن بالحج. قلت : فإنه دخل في
الشهر الذي خرج فيه؟ قال : كان ابي مجاورا ههنا فخرج يتلقى بعض هؤلاء ، فلما رجع
فبلغ ذات عرق أحرم من ذات عرق بالحج ودخل وهو محرم بالحج». ـ
فهي لا تخلو من اشكال من وجهين : أحدهما ـ ان ظاهر
التعليل المذكور فيها اعتبار مضى الشهر من حين الإحلال ليتحقق تخلل الشهر بين
العمرتين ، وهو خلاف ما صرحت به الاخبار المتقدمة من انه ان رجع في شهر خروجه دخل
محلا وإلا دخل محرما. وثانيهما ـ انها دلت على جواز الإحرام بالحج من غير مكة وهو
خلاف ما استفاضت به الاخبار واتفقت عليه كلمة الأصحاب.
وظاهر جملة من الأصحاب القول بهذه الرواية هنا مع ما
عرفت.
قال في الدروس : ولو رجع في شهره دخلها محلا ، فإن أحرم
فيه من الميقات بالحج فالمروي عن الصادق (عليهالسلام) (1) انه فعله من
ذات عرق وكان قد خرج من مكة إليها.
وقال العلامة في التذكرة بعد البحث في المسألة : إذا
عرفت هذا فلو خرج من مكة بغير إحرام وعاد في الشهر الذي خرج فيه استحب له ان
يدخلها محرما بالحج ، ويجوز له ان يدخلها بغير إحرام ، على ما تقدم. انتهى.
ولم أر من تنبه لما ذكرناه سوى العلامة في المنتهى ، حيث
قال : لو خرج من مكة بغير إحرام وعاد في الشهر الذي خرج فيه استحب له ان يدخلها
محرما بالحج ، ويجوز له ان يدخلها بغير إحرام على ما تقدم ، روى الشيخ في الصحيح
__________________
(1) في حديث إسحاق بن عمار المتقدم.
عن إسحاق بن عمار قال : سألت أبا
الحسن (عليهالسلام). ثم ساق
الرواية إلى آخرها كما قدمناه. ثم قال : هذا قول الشيخ (رحمهالله) واستدلاله ،
وفيه إشكال ، إذ قد بينا انه لا يجوز إحرام الحج للمتمتع إلا من مكة. انتهى.
وكيف كان فهذه الرواية لا تبلغ قوة في معارضة الأخبار
المتقدمة المعتضدة بعمل الأصحاب ، سيما مع ما عرفت من الاشكال المذكور ، وهي مرجأة
إلى قائلها.
واما ما رواه الشيخ في الصحيح عن جميل بن دراج عن ابي
عبد الله (عليهالسلام) (1) ـ : «في الرجل
يخرج الى جدة في الحاجة؟ فقال : يدخل مكة بغير إحرام». ـ فحمله الشيخ على من خرج
من مكة وعاد في الشهر الذي خرج فيه.
أقول : وعلى ذلك يحمل ايضا ما رواه الشيخ في الموثق عن
ابن بكير عن غير واحد من أصحابنا عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) : «انه خرج
الى الربذة يشيع أبا جعفر (عليهالسلام) ثم دخل مكة
حلالا».
فروع
الأول ـ الظاهر من كلام الأصحاب ان سقوط الإحرام في من
عاد في الشهر المذكور انما هو بالنسبة الى من خرج بعد إحرام ، كما صرحت به جملة من
عبائرهم ، اما من لم يكن كذلك كقاطني مكة ـ مثلا ـ فإنه لو خرج منهم أحد إلى خارج
الحرم فإنه يجب عليه الإحرام متى أراد الدخول ، وصحيحة حماد المتقدمة وكذا رواية
كتاب الفقه ومرسلة الصدوق (3) صريحة في من
خرج بعد إحرام ، اما صحيحة حفص (4) فهي مطلقة ، والظاهر حملها على
الروايات المذكورة وتقييد إطلاقها بما دلت
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 51 من الإحرام.
(3) ص 362 و 363 و 365.
(4) ص 363.
عليه من تقدم الإحرام. واما صحيحة
جميل ومثلها موثقة ابن بكير فيمكن حملها على تلك الاخبار ايضا كما قدمنا ، وان كان
إطلاقها من جهتين : من جهة تقدم الإحرام ، ومن جهة اعتبار الشهر. ويمكن حملها على
من لم يتقدم منه إحرام ، إلا أنه في موثقة ابن بكير لا يخلو من بعد ، إذ من الظاهر
ان الصادق (عليهالسلام) قد تقدم منه
إحرام في دخول مكة. والحمل على من لم يتقدم منه إحرام إنما يظهر بالنسبة إلى قاطني
مكة.
الثاني ـ الظاهر من إطلاق الروايات المتقدمة الدالة على انه
لا يجوز للمتمتع الخروج من مكة بعد الإتيان بعمرة التمتع انه متى أكمل العمرة
المندوبة وجب عليه الحج. وعلى ذلك نص الشيخ (قدسسره) وجملة من
الأصحاب (رضوان الله عليهم) ويؤيده قول النبي صلىاللهعليهوآله (1) : «دخلت
العمرة في الحج هكذا. وشبك بين أصابعه». قيل : ويحتمل عدم الوجوب لأنهما نسكان
متغايران. وهو ضعيف. وهذا الاحتمال متجه على قول من يقول بكراهة الخروج ، كما
قدمنا نقله عن ابن إدريس والعلامة في الكتابين المتقدمين. والاخبار المذكورة ترده.
الثالث ـ قد عرفت ان مقتضى صحيحة حماد المتقدمة ان عمرته
هي الثانية وهي المحتبس بها التي وصلت بحجته ، وعلى هذا فالعمرة الاولى صارت عمرة
مفردة ، والأشهر الأظهر وجوب طواف النساء فيها ، ومقتضى إفرادها هو وجوب ذلك فيها
، إلا انى لم أقف على قائل بذلك ، قال في الدروس : وفي استدراك طواف النساء في
الأولى احتمال. وقال في المدارك : وهل تفتقر الاولى الى استدراك طواف النساء؟
وجهان ، من ان مقتضى إفرادها ذلك ، ومن تحقق الخروج من أفعال العمرة سابقا وحل
النساء منها بالتقصير فلا يعود التحريم. ولعل الثاني أرجح. انتهى. والمسألة محل
توقف. والله العالم.
__________________
(1) ارجع الى الصفحة 356 والتعليقة (4) فيها.