ج22 - كتاب الوصايا

كتاب الوصايا

وهو جمع وصية واشتقاقها اما من وصى يصي أو أوصى يوصي أو وصى بالتشديد يوصى.

قال في كتاب المصباح المنير : وصيت الشي‌ء بالشي‌ء أصيه من باب وعد وصلته ، ووصيت الى فلان توصية وأوصيت إليه إيصاء وفي السبعة «فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ» بالتخفيف والتثقيل والاسم الوصاية بالكسر والفتح لغة ، انتهى.

واختار ابن إدريس المعنى الأول فقال الوصية مشتقة من وصى يصي ، وهو الوصل قال الشاعر : «ذو الرمة تصى الليل بالأيام حتى صلاتنا مقاسمة لسبق اتصافها السفر» ثم قال : ويقال منه أوصى يوصي ، ووصى يوصي توصية ، ونقل عن المحقق الشيخ علي (رحمة الله عليه) اختيار الثاني ، وعلى هذا فتسمية هذا التصرف وصية لما فيه من وصله التصرف في حال الحياة به بعد الوفاة ، هذا على المعنى الأول ، وعلى الأخيرين فالوصية بمعنى العهد ، يعنى أنه عهد اليه بتلك الأمور الموصى بها ، فإن الوصية لغة بمعنى العهد ، والأصل فيها الكتاب كما دلت عليه جملة من آياته والسنة ، والإجماع من الأمة.

ولنقدم في صدر الكتاب كما هي عادتنا فيما تقدم من الكتب والأبواب جملة


من الأخبار الواردة في الوصية ، وما اشتملت عليه من الحث عليها ، المؤذن بالوجوب أو الاستحباب المؤكد.

فروى المشايخ الثلاثة عن الكناني (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : الوصية حق على كل مسلم».

وروى في التهذيب عن الشحام (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الوصية ، فقال : هي حق على كل مسلم».

وروى في الفقيه والتهذيب عن محمد بن مسلم (3) في الصحيح قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام الوصية حق ، وقد أوصى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فينبغي للمسلم أن يوصى».

وروى في الكافي والتهذيب عن حماد بن عثمان (4) في الصحيح أو الحسن «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال له رجل : اني خرجت إلى مكة فصحبني رجل وكان زميلي ، فلما أن كان في بعض الطريق مرض وثقل ثقلا شديدا فكنت أقوم عليه ثم أفاق حتى لم يكن عندي به بأس ، فلما أن كان اليوم الذي مات فيه أفاق فمات في ذلك اليوم ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما من ميت تحضره الوفاة إلا رد الله تعالى عليه من سمعه وبصره وعقله للوصية ، أخذ الوصية أو ترك ، وهي الراحة التي يقال لها راحة الموت ، فهي حق على مسلم».

وروى في الكافي عن وليد بن صبيح (5) قال : «صحبني مولى لأبي عبد الله عليه‌السلام يقال له «أعين» ، فاشتكى أياما ثم برء ثم مات فأخذت متاعه ، وما كان له فأتيت به أبا عبد الله عليه‌السلام وأخبرته أنه اشتكى أياما ثم برء ثم مات ، قال : تلك راحة

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 3 ح 4 ، التهذيب ج 9 ص 172 ح 702 ، الفقيه ج 4 ص 134 ح 462.

(2) التهذيب ج 9 ص 172 ح 703.

(3) الفقيه ج 4 ص 134 ح 463 ، لم نعثر في التهذيب عن هذه الرواية.

(4) الكافي ج 7 ص 3 ح 5 ، التهذيب ج 9 ص 172 ح 704.

(5) الكافي ج 7 ص 3 ح 2.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 351 ح 2 وص 352 ح 4 وص 351 ح 1 وص 355 ح 2.


الموت أما أنه ليس من أحد يموت حتى يرد الله تعالى من سمعه وبصره وعقله للوصية أخذ أو ترك».

وروى المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن سليمان بن جعفر (1) قال في الفقيه : «وليس الجعفري» «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصا في مروته وعقله ، قيل : يا رسول الله وكيف يوصى الميت؟ قال : إذا حضرته الوفاة واجتمع الناس اليه ، قال : اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، اللهم إني أعهد إليك في دار الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، وأن البعث حق ، والحساب حق ، والصراط حق ، والقبر حق ، والميزان حق ، وأن الدين كما وصفت ، وأن الإسلام كما شرعت ، وأن القول كما حدثت ، وأن القرآن كما أنزلت ، وأنك أنت الله الحق المبين ، جزى الله محمدا عنا خير الجزاء ، وحيا الله محمدا وآل محمد بالسلام ، اللهمّ يا عدتي عند كربتي ويا صاحبي عند شدتي ويا وليي في نعمتي ، الهي وإله آبائي لا تكلني الى نفسي طرفة عين أبدا فإنك إن تكلني الى نفسي طرفة عين أقرب من الشر وأبعد من الخير ، فآنس في القبر وحشتي ، واجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا ، ثم يوصي بحاجته وتصديق هذه الوصية في القرآن في السورة التي تذكر فيها مريم في قوله عزوجل (2) «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» فهذا عهد الميت ، والوصية حق على كل مسلم ، وحق عليه أن يحفظ هذه الوصية ويعلمها ، وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام علمنيها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : علمنيها جبرئيل عليه‌السلام».

ورواه السيد الزاهد العابد رضى الدين ابن طاوس في كتاب فلاح السائل

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 138 ح 482 ، الكافي ج 7 ص 2 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 174 ح 711 ، الوسائل ج 13 ص 353 الباب 3 ح 1.

(2) سورة مريم ـ الاية 87.


كما نقله عنه في البحار ، وفيه بعد قوله «يوم ألقاك منشورا» فهذا عهد الميت يوم يوصي بحاجته ، والوصية حق على كل مسلم قال أبو عبد الله عليه‌السلام وتصديق هذه في سورة مريم عليه‌السلام قول الله تبارك وتعالى «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» وهذا هو العهد ، وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي عليه‌السلام تعلمها أنت وعلمها أهل بيتك وشيعتك قال : وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلمنيها جبرئيل.

وروى في الفقيه عن العباس بن عامر عن أبان عن أبى بصير (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : من لم يحسن عند الموت وصيته كان نقصا في مروته وعقله ، وقال : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أوصى الى علي ، وأوصى علي عليه‌السلام الى الحسن ، وأوصى الحسن عليه‌السلام الى الحسين ، وأوصى الحسين عليه‌السلام الى علي بن الحسين ، وأوصى علي بن الحسين عليه‌السلام الى محمد بن علي الباقر عليه‌السلام».

وروى في الفقيه والتهذيب عن أبي حمزة (2) «عن أحدهما عليهما‌السلام قال : ان الله تعالى يقول : يا ابن آدم تطولت عليك بثلاثة : سترت عليك ما لو علم به أهلك ما واروك ، وأوسعت عليك ثم استقرضت منك فلم تقدم خيرا ، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدم خيرا».

وروى في الفقيه والتهذيب عن عبد الله بن المغيرة عن السكوني (3) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم‌السلام قال : قال علي عليه‌السلام : ما أبالي أضررت «بولدي» أو سرقتهم ذلك المال» كذا في الفقيه وفي التهذيب قال «أضررت بورثتي» عوض ولدي.

وروى في التهذيب والفقيه عن السكوني (4) «عن جعفر بن محمد عن

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 134 ح 467. الوسائل ج 13 ص 357 ح 1.

(2) الفقيه ج 4 ص 133 ح 461 وفيه «بثلاث» ، التهذيب ج 9 ص 175 ح 712. الوسائل ج 13 ص 356 ح 4.

(3 و 4) الفقيه ج 4 ص 135 ح 469 وص 134 ح 466 ، التهذيب ج 9 ص 174 ح 710 و 708. وهذه الرواايات في الوسائل ج 13 ص 356 ح 1 وص 356 ح 4 و 1 وص 355 ح 3.


أبى جعفر عليهما‌السلام قال : من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرثه فقد ختم عمله بمعصيته».

وروى في المقنعة (1) مرسلا قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): الوصية حق على كل مسلم. قال : وقال عليه‌السلام ما ينبغي لامرء مسلم أن يبيت ليلة إلا ووصيته تحت رأسه» ، و «قال عليه‌السلام : من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية».

وروى الشيخ في كتاب المصباح (2) قال : «وروى أنه لا ينبغي أن يبيت إلا ووصيته تحت رأسه».

وروى في الفقيه والتهذيب عن مسعدة بن صدقة (3) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام قال : قال علي عليه‌السلام الوصية تمام ما نقص من الزكاة».

وروى في الكافي عن محمد بن يحيى (4) رفعه عنهم عليهما‌السلام قال : «من أوصى بالثلث احتسب له من زكاته».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (5) ، واعلم أن الوصية حق واجب على كل مسلم ، ويستحب أن يوصى الرجل لقرابته ممن لا يرث شيئا من ماله قل أو كثر وان لم يفعل فقد ختم عمله بمعصيته.

أقول : وفي هذه الأخبار الشريفة فوائد يحسن التنبيه عليها ، والتوجه إليها.

الأول ـ لا ريب في وجوب الوصية على من كان مشغول الذمة بواجب من دين أو حج أو زكاة أو خمس أو نحو ذلك من الحقوق الواجبة ، ويمكن أن تحمل الأخبار الدالة على أن الوصية حق على كل مسلم ، لا شعارها بالوجوب على ذلك ، فيجب تخصيصها بما ذكرناه من الأفراد ، ويمكن حملها على تأكد الاستحباب

__________________

(1 و 2) الوسائل ج 13 ص 352 ح 6 و 5.

(3) التهذيب ج 9 ص 173 ح 706 ، الفقيه ج 4 ص 134 ح 464. الوسائل ج 13 ص 353 الباب 2 ح 1.

(4) الكافي ج 7 ص 58 ح 4. الوسائل ج 13 ص 353 الباب 2 ح 3.

وهما في الوسائل ج 13 ص 353 الباب 2 ح 1 و 3

(5) المستدرك ج 2 ص 520 ح 5.


فتخص بغير ما ذكرناه من الأمور المستحبة.

الثاني ـ المستفاد من الخبرين الأخيرين من أنه ان كان في ذمته زكاة واجبة وأوصى بالثلث أو بعضه للفقراء أو في سائر أبواب البر فإنه يحسب له عما في ذمته من الزكاة الواجبة من حيث لا يشعر ، وهو من التفضل الإلهي ، وله نظائر كثيرة مر التنبيه عليها من أن الفعل إذا صادف الواقع في حد ذاته وان لم ينوه صاحبه فإنه يجزى عنه.

الثالث ـ ظاهر حديث السكوني المروي في الفقيه استحباب الوصية لذوي القرابة ممن ليس له حظ في ميراثه استحبابا مؤكدا ، وانما حملناه على الاستحباب وان كان ظاهره الوجوب ، لما رواه العياشي عن أبى بصير (1) في الصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام في قوله تعالى (2) «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» قال : منسوخة ، نسختها آية الفرائض التي هي المواريث ، وبالاستحباب صرح في كتاب الفقه الرضوي ، مع تصريحه في آخر كلامه بأن ترك ذلك معصية ، وهو محمول على المبالغة ، وسيأتي ان شاء الله تعالى مزيد تحقيق في المقام.

الرابع ـ ما تضمنه حديث السكوني (3) من قوله عليه‌السلام «ما أبالي أضررت بولدي أو سرقتهم». ومثله ما رواه الراوندي في نوادره (4) بإسناده «عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال علي عليه‌السلام : ما أبالي أضررت بوارثي أو سرقت ذلك المال فتصدقت به». وما رواه أيضا في الكتاب المذكور (5) قال : «قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من مات على وصية حسنة مات شهيدا وقال : من لم يحسن الوصية عند موته كان ذلك نقصانا في عقله ومروته ، والوصية حق على كل

__________________

(1) الوسائل ج 13 ص 376 ح 15 ، العياشي ج 1 ص 77 ح 167.

(2) سورة البقرة ـ الاية 180.

(3) التهذيب ج 9 ص 174 ح 710 ، الوسائل ج 13 ص 356 ح 1.

(4 و 5) المستدرك ج 2 ص 519 الباب 4 والباب 5 ح 2.


مسلم ، قال : ان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة ، فيحيف في وصيته فيختم له بعمل أهل الجنة ، ثم قرأ ومن يتعد حدود الله وقال : تلك حدود الله». ان حمل على ظاهره من التحريم فالواجب تخصيصه بما زاد على الثلث ، فإنه لا يجوز له شرعا ، وهذا هو أوفق بظاهر الآيتين المذكورتين ، وان حمل على الكراهة المؤكدة فإنهم (صلوات الله عليهم) كثيرا ما يبالغون في النهي عن المكروهات بما يدخلها في حيز المحرمات ، وفي المستحبات بما يكاد يلحقها بالواجبات ، فيجب حمله على من بر وارثا على آخر ، وأن الأفضل المساواة بينهم ، وسيأتي تمام الكلام في هذا المقام ان شاء الله تعالى.

الخامس ـ ما تضمنته جملة من الأخبار المذكورة من أن من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصا في مروته وعقله.

الظاهر حمله على ما هو أعم من الوصية بالإقرار بالشهادتين ، وجميع ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما دل عليه خبر سليمان بن جعفر المتقدم والإيصاء بماله وعليه ، مما كان يتعلق به حال حياته ، ويذبه بنفسه من أطفال صغار أو أمور يريد إنفاذها بعد موته ، فإن الوصية لغة العهد ، يقال : أوصاه ووصاه عهد اليه ، فيعد الى من يعمد عليه من أخوانه المؤمنين أن يتصرف في أمواله بعد موته بما يقضى عنه ما وجب في ذمته مما قدمنا ذكره ، وان كان له أولاد صغار قائما مقامه في الولاية عليهم ، ويستحب له كما عرفت أن يوصى لبعض أرحامه وأقرباؤه وأن يشهد على ذلك جماعة من إخوانه كما تقدم في خبر سليمان المشار اليه على ايمانه وعقائده ، ويعهد إليهم أن يشهدوا له به يوم القيامة ، ويشهدهم على ما أوصى به من تلك الأمور الدنيوية مضافة إلى الأمور الأخروية.

والى بعض ما ذكرنا يشير ما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان أجلت في عمرك يومين فاجعل أحدهما لأدبك لتستعين به

__________________

(1) الوسائل ج 13 ص 357 ح 3 ، روضة الكافي ص 131 ح 132.


على يوم موتك ، قيل ، وما تلك الاستعانة قال تحسن تدبير ما تخلف ، وتحكمه».

ولا ريب أن ترك هذه الأمور المشار إليها وعدم الوصية بها موجب لما ذكروه عليهم‌السلام من نقصان المروة والعقل.

السادس ـ قال ابن إدريس في كتاب السرائر بعد نقل الخبر المشتمل على قوله «ما أبالي أضررت بورثتي أو سرفتهم ذلك المال» ما ملخصه : سرفهم بالسين غير المعجمة والراء غير المعجمة المكسورة والفاء ، ومعناه أخطأتهم وأغفلتهم ، لأن السرف الإغفال والخطأ ، وقد سرفت الشي‌ء بالكسر إذا غفلته وجهلته ، وحكى الأصمعي عن بعض الأعراب أنه وأعده أصحاب له في المسجد مكانا فأخلفهم فقيل له في ذلك فقال : مررت بكم فسرفتكم أي أخطأتكم وأغفلتكم الى أن قال : هكذا نص عليه جماعة أهل اللغة ذكره الجوهري في كتاب الصحاح ، وأبو عبيدة الهروي ، وأما من قال في الحديث سرقتهم ذلك المال بالقاف فقد صحف ، لأن سرق لا يتعدى الى مفعولين إلا بحرف الجر ، يقال سرقت منهم مالا ، وسرفت بالفاء يتعدى الى مفعولين بغير حرف الجر ، فملخصه ذلك ، انتهى.

أقول : فيه أن مرجع استدلاله لهم الى أن سرف يتعدى الى مفعولين بنفسه ، وسرق لا يتعدى الى مفعولين إلا بحرف الجر ، وهو في الحديث قد عدي الى مفعولين ، فيجب حمله على سرف بالفاء ، والا فمجرد ورود سرف بمعنى أخطائه وجهله لا يدل على ما ادعاه فإنه مسلم ، ولكن لا يلزم حمل الحديث عليه.

وأنت خبير بأن ما استند اليه مما ذكره مردود ، بأن الظاهر من كلام أهل اللغة أن سرف بالفاء انما يتعدى الى مفعول واحد أيضا ، وهو ظاهر صدر كلامه ، وان ادعى في آخره خلافه ، فإن الحكاية التي نقلها عن الأصمعي إنما تضمنت تعديه الى مفعول واحد كما هو في اللفظ الذي جعل بمعناه من قولهم أخطأتكم وأغفلتكم فان الجميع انما عدي فيه الى مفعول واحد ، وكذلك قوله وقد سرفت الشي‌ء بالكسر إذا أغفلته وجهلته ، فإنه انما حكاه متعديا الى مفعول واحد ، كاللفظين اللذين جعل بمعناهما.


قال في القاموس : سرفه كفرح أغفله وجهله ، وهو ظاهر أيضا فيما قلناه ، على أن ما ادعاه من أن سرق بالقاف لا يتعدى الى مفعولين بنفسه مردود بما ذكره في كتاب المصباح المنير ، حيث قال : وسرق منه ما لا يتعدى الى الأول بنفسه ، وبالحرف الجر على الزيادة ، وظاهره كما ترى أنه يقال سرقته مالا ، وسرقت منه مالا ، فيتعدى الى المفعول الأول تارة بنفسه ، وتارة بالحرف على الزيادة.

وبذلك يظهر لك ضعف ما تكلفه (قدس‌سره) على أنه لا يخفى ما في الحمل على الفعل الذي ذهب اليه من الركاكة ، وذلك فان الغرض من هذا الكلام وسياقه في المقام هو المبالغة في المنع والزجر عن الحيف في الوصية ، والإضرار بالولد أو الوارث ، والمناسب لذلك انما هو لفظ سرق بالقاف ، فان محصل الكلام أن الإضرار بهم في الوصية بمنزلة سرقة ذلك من أموالهم المترتب عليه الإثم شرعا ، واشتغال الذمة بالمسروق حتى يرده الى صاحبه ، وحينئذ فلا يجوز ، وأما أخطأتهم وجهلتهم ، فان مناسبته فيه للمبالغة في الإضرار.

وبالجملة فإن كلامه (قدس‌سره) في نظري بمحل من القصور ، كما لا يخفى على من لاحظ ما ذكرناه في هذه السطور ، والله العالم.

والكلام في هذا الكتاب يقع في مقاصد :

المقصد الأول في الوصية :

وفيه مسائل الاولى : قالوا : الوصية تمليك عين أو منفعة ، أو تسليط على التصرف بعد الوفاة ، والمراد بالتسليط المذكور هو أن يوصى اليه بإنفاذ وصاياه ، والقيام بأطفاله ومجانينه وهي الوصايا ، وربما اقتصر بعضهم على تمليك العين أو المنفعة ولم يذكر التسليط على التصرف ، ومنشأ ذلك أن بعضهم أدرج الوصاية التي هي عبارة عن التسليط المذكور في الوصية ، فذكرها في تعريف الوصية ، وبعضهم جعلها قسما آخر برأسها ، وقسيما للوصية ، كالشهيد في الدروس ، فإنه جعل لكل


من الوصية والوصاية كتابا على حدة ، وفي اللمعة قال بالأول ، فعرفهما بما ذكرناه والمفهوم من كلام أكثر الأصحاب أن الوصية عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول من الموصى اليه ، ان كان معينا ، وأما غيره كالفقراء مثلا فيقبل الحاكم الشرعي أو من ينصبه ، والظاهر في الثاني كما استظهره جمع من المتأخرين منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك عدم التوقف على القبول ، وقد تقدم مثله في الوقف ، ثم انه على تقدير وجوب القبول في الأول فهل يكفى القبول الفعلي؟ الظاهر كما اختاره جمع من الأصحاب من الاكتفاء بذلك ، كالأخذ والتصرف فيه لنفسه ، وقد تقدم مثله في جملة من العقود المتقدمة.

وبذلك يظهر أن عده عقدا كما ذكروه لا يخلو من النظر ، إذ مقتضى ذلك وجوب الإيجاب والقبول اللفظين ، كما صرحوا به في العقود ، إلا أن يكون عقدا جائزا كما هو الظاهر ، ويؤيده ما سيأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ من جواز رجوع الموصي ما دام حيا ، والموصى له كذلك ما لم يقبل بعد الوفاة ، وما ذكرنا من اشتراط الإيجاب والقبول اللفظين إنما هو في العقود اللازمة.

وكيف كان فظاهرهم ايضا أنه لا تشترط مقارنة القبول للإيجاب. قال في المسالك : وهو موضع وفاق ، وهو مما يؤيد كونه جائزا لا لازما ، والإيجاب لا ينحصر في لفظ ، بل كل لفظ يدل على مقصوده ، كقوله أوصيت لفلان بكذا ، أو أعطوا فلانا بعد وفاتي كذا ، أو لفلان بعد وفاتي كذا ، وانما جعل قيدا بعد وفاتي في المثالين الأخيرين دون الأول ، لأن قوله في الأول أوصيت صريح في أن العطية انما هي بعد الوفاة ، فلهذا لم يحتج الى قيد ، بخلاف أعطوا فلانا أو لفلان فإنه يكون في الأول مشتركا بين الوصية وبين الأمر بالإعطاء في حياته ، وفي الثاني مشترك بينهما وبين الإقرار له بذلك ، فلا بد من قيد يصرف الكلام إلى الوصية ، فزيد فيه قوله بعد وفاتي.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنى لم أقف في الأخبار على ما يدل على وجوب


القبول ، وان كانت الوصية لمعين ، بل ربما ظهر من إطلاقها العدم ، وأنه لا يتوقف على أزيد من الإيجاب بالألفاظ المذكورة ، إلا أنه خلاف ما يفهم من عامة كلامهم.

ومن الأخبار في ذلك صحيحة زرارة (1) «عن أبى جعفر عليه‌السلام في رجل أوصى بثلث ماله في أعماله وأخواله ، فقال : لأعمامه الثلثان ولأخواله الثلث».

وروى في التهذيب عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة قالت لأمها : إن كنت بعدي فجاريتي لك ، فقضى أن ذلك جائز وان كانت الابنة بعدها فهي جاريتها».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الآتي ـ ان شاء الله تعالى ـ جملة منها ، فإنها غير مشتملة إلا على الإيجاب خاصة ، كما سيظهر ان شاء الله تعالى.

المسئلة الثانية : قال الشيخ في الخلاف : إذا أوصى له بشي‌ء فإنه ينتقل الى ملك الموصى له ، بوفاة الموصى ، وقال في المبسوط : إذا أوصى لرجل بشي‌ء فإن ملكه لا يزول عن ذلك الشي‌ء قبل وفاته بلا خلاف ، وإذا مات الموصى متى ينتقل الملك الى الموصى له؟ قيل : فيه قولان : أحدهما ـ ينتقل بشرطين ، وفاة الموصي وقبول الموصى له ، وإذا وجد الشرطان انتقل الملك عقيب القبول.

والقول الثاني ـ أنه يراعى ان قبل الوصية تبين انه انتقل اليه الملك بوفاته ، وان لم يقبل تبين أن الملك انتقل إلى الورثة بوفاته.

وقيل : فيه قول ثالث ـ وهو أن الملك ينتقل الى الموصى له بوفاة الموصي مثل الميراث ، ويدخل في ملك الورثة بوفاته ، فان قبل ذلك استقر ملكه عليه ، وان رد انتقل عنه الى ورثته ، قال : وهذا قول ضعيف ، لا يفرع عليه ، بل على الأول ثم قال بعد ذلك : الأقوى أن يقال. ان الشي‌ء الموصى به ينتقل الى ملك

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 45 ح 3 ، التهذيب ج 9 ص 214 ح 845.

(2) التهذيب ج 9 ص 200 ح 797.

وهما في الوسائل ج 13 ص 454 الباب 62 وص 375 ح 11


الموصى له بوفاة الموصى ، وقد قيل : انه بشرطين بالموت وقبول الموصى له ، وقيل أيضا انه يراعى ، فان قبل علم أنه انتقل بالموت اليه ، وان رد على أنه بالموت انتقل إلى الورثة ، قال : وعلى ما قلناه لو أهل شوال ثم ذكر بعض الفروع الآتية ان شاء الله تعالى في المسئلة ، ونقل عن ابن الجنيد ما يدل على علل موافقته للشيخ في الخلاف.

وقال ابن إدريس : الأقوى في نفسي أنه لا ينتقل بالموت ، بل بانضمام القبول من الموصى له لا بمجرد الموت ، وقال في المختلف بعد نقل الأقوال المذكورة : والمعتمد أن نقول الوصية ان كانت لغير معين ، كالفقراء والمساكين ، ومن لا يمكن حصرهم كبني هاشم ، أو على مصلحة كمسجد أو قنطرة أو حج أو مدرسة أو غير ذلك لم يفتقر الى قبول ، ولزمت بمجرد الموت لتعذر اعتبار القبول من جميعهم ، فسقط اعتباره كالوقف عليهم ، وان كانت لمعين افتقرت الى القبول ، ولا يحصل الملك قبله ، لأن القبول معتبر فتحصيل الملك له قبل قبول لا وجه له مع اعتباره ، ولأنه تمليك عين لمعين ، فلم يسبق الملك القبول كسائر العقود ، ولأن الموصى له لو رد الوصية بطلت ، ولو كان قد ملك بمجرد الإيصاء لم يزل الملك بالرد كما بعد القبول ، ولأن الملك في الماضي لا يجوز تعليقه بشرط مستقبل ، لامتناع تقدم المشروط على شرطه ، انتهى.

وقال في المسالك : لا خلاف في توقف ملك الوصية على الإيجاب من الموصى لأنه أحد أركان العقد الناقل للملك ، أو تمام الركن ، حيث لا يعتبر القبول على بعض الوجوه ، وفي توقفه على موته ، لأن متعلقها هو الملك ، وما في معناه بعد الموت فقبله لا ملك ، وانما الخلاف في أن قبول الموصى له هل هو معتبر في انتقال الملك اليه بالموت؟ بمعنى كونه شرطا في الملك أو تمام السبب المعتبر بدونه أصلا ، ويعتبر في الجملة أعم مما ذكر أو لا يعتبر أصلا ، بل ينتقل اليه الملك على وجه القهر ، كالإرث لا بمعنى استقراره له كذلك ، بل بمعنى حصوله متزلزلا ، فيستقر


بالقبول ، ويبطل استمراره بالرد ، وينتقل عنه إلى ورثة الموصي ، فهذه أقوال ثلاثة ، انتهى.

أقول : لا يخفى على من راجع كلامهم في المقام ، وما وقع لهم من النقض والإبرام أن هذا البحث والاختلاف انما هو بالنسبة إلى الوصية لمعين ، من حيث اشتراط القبول فيها عندهم ، وأما فيما لم يشترط فيه القبول ، فإنه لا خلاف في الانتقال بمجرد الموت.

قال في المسالك : واعلم أن موضع الخلاف الوصية المفتقرة إلى القبول ، فلو كانت لجهة عامة كالفقراء والمساجد ، انتقلت إلى الجهة المعينة بالوفاة بغير خلاف حيث تكون الوصية نافذة ، انتهى.

وأنت خبير بأن المسئلة غير منصوصة ، ولهذا صارت محل الاشكال ومطرحا للقيل والقال ومنشأ هذا الاشكال والبحث في هذا المجال من حيث اشتراط القبول في الوصية لمعين ، وأنه لا يصح الوصية بدونه ، مع أنهم لم يوردوا له دليلا شرعيا ، ولا نصا مرعيا ، وانما عللوه بعلل اعتبارية ، وقد تتبعت ما حضرني من النصوص فلم أقف فيها على ما يدل على هذا الشرط ، وأنه لا تصح الوصية إلا به ، وربما ظهر من إطلاق كثير منها عدمه ومن ذلك صحيحة زرارة ورواية عبد الرحمن بن أبى عبد الله المتقدمتين.

وما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن محمد بن قيس (1) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : رجل أوصى لرجل بوصية من ماله ثلث أو ربع فيقتل الرجل خطأ يعنى الموصي ، فقال : تجاز لهذه الوصية من (ماله) ومن ديته».

وبهذا المضمون أخبار أخر ، دالة على إخراج الوصية من الدية ، كما يخرج من الميراث.

وفي الصحيح عن محمد بن قيس (2) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال ، قضى

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 168 ح 588 ، الكافي ج 7 ص 63 ح 21 ، التهذيب ج 9 ص 207 ح 822 (من ميراثه ومن ديته).

(2) الكافي ج 7 ص 28 ح 1.

وهما في الوسائل ج 13 ص 372 ح 1 وص 467 الباب 80.


أمير المؤمنين عليه‌السلام في مكاتب كان تحته امرأة حرة فأوصت له عند موتها بوصية ، فقال : أهل الميراث لا نجيز وصيتها له ، انه مكاتب لم يعتق ولا يرث ، فقضى بأنه يرث بحساب ما أعتق منه ، ويجوز له من الوصية بحساب ما أعتق منه ، وقضى في مكاتب أوصى له بوصية ، وقد قضى نصف ما عليه فأجاز له نصف الوصية ، وقضى في مكاتب قضى ربع ما عليه فأوصى له بوصية فأجاز ربع الوصية».

وبهذا المضمون أيضا أخبار عديدة وظاهر هذه الأخبار كما ترى أنه ينتقل الموصى به الى الموصى له ، وان لم يحصل القبول ، إذ لا إشارة في شي‌ء منها الى اشتراط القبول من الموصى له كما ادعوه ، وإطلاقها كما ترى شامل لما لو كان ثمة قبول أو لم يكن ، وعدم الاستفصال دليل العموم في المقال ، كما صرح به جملة علمائنا الأبدال ، ويؤيد ما ذكرنا ظاهر الآية ، أعني قوله سبحانه (1) «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ» وجواب العلامة ـ بحمل الآية على معنى وصية مقبولة والوصية بدون القبول ليست كذلك ، ـ لا يخرج عن المصادرة ، مضافا الى أن ما ذكره خلاف الظاهر ، وارتكاب التقدير والتأويل ، فرع وجود الدليل على القبول وبهذا يظهر أن ما ادعوه أيضا من كون الوصية من جملة العقود محل توقف واشكال لعدم الدليل عليه ، مع ظهور هذه النصوص ونحوها في عدم وجود القبول فيها ، ولو كان عقدا لوجب القبول ، ودل عليه دليل منها ، والأمر كما ترى بخلافه.

فإن قيل : انه لا تصريح في أكثرها بالموت أيضا ، بل ظاهرها حصول الانتقال بمجرد الوصية ، مع أنكم لا تقولون به ، قلنا : قد قام الدليل على أن للموصى الرجوع في الوصية ما دام حيا ، وهو مؤذن بعدم الانتقال عنه في حياته ، فوجب تخصيص إطلاق هذه الأخبار بذلك ، وأما القبول فلم يقم عليه دليل ، ليمكن تخصيصها به أيضا ، فيبقى الإطلاق بالنسبة إليه سالما من المعارض ، وحينئذ فإذا لم يقم دليل على اعتباره فإنه يرجع الحكم فيه الى حكم الوصية لغير معين.

__________________

(1) سورة النساء ـ الاية 11.


نعم حيث ان ظاهرهم الاتفاق على أن للموصى له الرد ، وعدم القبول فينبغي أن تفرق بين الأمرين ، بأن الانتقال في غير المعين انتقال تام لازم ، وفي المعين انتقال متزلزل ، فبالقبول يستقر ويستمر ، وبعدم القبول تبطل ، ويعود إلى ورثة الموصي ، على أن للمناقشة أيضا طريق فيما ذكر ، وهو ان لموصى له الرد ، فانا لم نقف له على دليل ، وما المانع من كون ذلك كالميراث ، ليس له رده شرعا ، فان ظاهر الأخبار التي قدمناها ذلك ، إلا أن الخروج عما ظاهرهم الاتفاق عليه مشكل ، وكيف كان فالمسئلة غير خالية من الاشكال ، والاحتياط فيها مطلوب على كل حال.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنهم قد فرعوا على هذا الخلاف المتقدم فروعا عديدة :

أحدها ـ كسب العبد وثمر الشجرة ، وسائر زوائد الموصى به المتجدد بين الموت والقبول ، فان قلنا أنه يحصل الانتقال بالموت خاصة ، كما هو مذهب الشيخ في الخلاف ومن تبعه ، فهي للموصى له قبل الوصية أوردها ، لأن العين قد انتقلت اليه ، ونماءها تابع لها ، ولو ردها احتمل رد نماءها أيضا على الورثة تبعا لها ، واحتمل العدم ، لأن النماء ليس من الموصى به الذي يتخير بين رده وقبوله ، وهو قد ملكه بملك العين بعد الموت ، فلا يزول ملكه عنه ، ورد العين من حيث كونها موصى بها ، وهو لم يقبل الوصية لا يستلزم رد النماء ، لأنه ليس من الموصى به ، كما ذكرنا ، بل ملكه من جهة أخرى ، وسبب آخر.

وان قلنا انه لا يحصل الانتقال إلا بالقبول ، كما هو مذهب العلامة في المختلف ، فإن الزوائد والنماء في تلك المدة لا تكون للموصى له قبل الوصية بعد ذلك أو ردها ، لأنها تجددت قبل أن تدخل العين في ملكه ، وقبوله بعد ذلك لو قبل انما يوجب انتقال العين خاصة ، وهي الموصى بها.

بقي الكلام فيما إذا لم ينتقل للموصى له ، ففي مستحقها من الموصي ـ من


حيث انها من جملة التركة فيقضى منها ديونه ، وينفذ منها وصاياه كالأصل ـ أو الورثة لحدوثها بعد زوال ملكه بالموت : وجهان أقربهما للاعتبار الثاني ، وان قلنا بالمراعاة والوقف ، صارت هذه الزوائد أيضا موقوفة ، فإن قبل فهي له وإلا فلا.

وثانيها ـ فطرة العبد الموصى به إذا حل وقت وجوبها بين الموت والقبول ، فعلى القول الأول تكون على الموصى اليه ، وملكها بالموت ، وعلى الثاني فليس على الموصى له شي‌ء ، لعدم الانتقال اليه ، وقبوله بعد ذلك لو قبل لا يستلزم الوجوب ، وقد فات وقته ، وعلى الثالث أيضا لا يلزم ، وعلي هذين القولين ، تسقط الفطرة هنا ، قالوا : وفي معنى الفطرة هنا المؤن المحتاج إليها بين القبول والموت.

وثالثها ـ أنه إذا زوج أمته حرا وأوصى له بها ، فعلى تقدير القول الأول وهو الانتقال بعد الموت فإنه ينفسخ النكاح من يوم الموت ، لدخولها في ملكه في ذلك الوقت ، فيبطل العقد السابق ، وعلى القولين الآخرين فان رد الوصية استمر النكاح ، لعدم ما يوجب بطلانه ، وان قبلها انفسخ النكاح على كل من القولين ، لكن يكون الانفساخ من يوم القبول على القول الثاني ، لأن دخولها في ملكه بعد القبول ومن يوم الموت على الثالث ، وهو المراعاة والتوقف ، لانكشاف ذلك بالقبول وتبينه به ، الى غير ذلك من الفروع المذكورة في كلامهم ، من أحب الوقوف عليها فليرجع الى مطولات الأصحاب.

المسئلة الثالثة : المشهور في كلام الأصحاب بناء على وجوب القبول في الوصية كما هو المتفق عليه ظاهرا في كلامهم ، أنه لا فرق بين وقوع القبول قبل وفاة الموصي أو بعدها ، أما قبل وفاة الموصي فلأنه قبل ما نقل اليه من الملك على الوجه الذي نقل اليه ، وان لم يكن في وقته ، والإيجاب هنا انما أفاد التمليك قبل وقت الانتقال ، إذ الانتقال إنما يحصل بالموت ، والقبول هنا وقع طبق هذا الإيجاب ، وأما بعد وفاة الموصى فلا اشكال ولا خلاف في اعتبار القبول لمطابقته


للإيجاب الصادر من الموصي ، لأنه أوقع تمليكا مقرونا بالوفاة وقد حصلت الوفاة ، فقبل الموصى له ذلك.

ونقل عن جمع من الأصحاب منهم العلامة (قدس‌سره) اختصاص اعتبار القبول بهذه دون الأولى ، محتجين على عدم اعتباره في الصورة الأولى ، بأنه أوجب له بعد موته ، فقبل الموت ليس محلا للقبول ، فأشبه القبول قبل الوصية ، وكذا لو باعه ما يملكه بعد ، وبعدم المطابقة بين الإيجاب والقبول.

ورد ذلك بما أشير إليه في بيان الوجه في الصورة المذكورة ، وتوضيحه أن القبول لا يلزم أن يحصل به الملك ، وانما يحصل به تمام سببه ، وهو لا يوجب وجود مسببه ، لجواز تخلفه لفقد شرطه ، وهو هنا كذلك ، لأن الموت شرط في انتقال الملك والإيجاب كما وقع قبل زمان الملك ناقلا له في وقت متأخر ، فكذلك القبول ، والمطابقة حاصلة ، والفرق بينه وبين بيع ما يملكه واضح ، فان ذلك ممتنع شرعا إيجابا وقبولا وهنا لا مانع منه إلا بواسطة التخيل المذكور ، وهو غير مانع.

أقول : لا يخفى انه لو كان اعتبار القبول مستندا الى النصوص ، لكان الواجب النظر في ذلك النص ، وما يستفاد منه ، من عموم وخصوص ، إلا أنه ليس في المقام نص كما عرفت ، ولا دليل ، وليس إلا ظاهر كلامهم واتفاقهم على الحكم المذكور ، وحينئذ فليس هنا مسرح للنظر في تصحيح شي‌ء من القولين المذكورين إلا بهذه التعليلات الاعتبارية ، وقد عرفت ما في الاعتماد عليها من الاشكال ، فتبقى المسئلة في طامورة التردد والاحتمال ، وان كان ما علل به المشهور أقرب الى الاعتبار.

المسئلة الرابعة : قالوا : لو رد الوصية في حال حياة الموصي جاز أن يقبل بعد وفاته ، إذ لا حكم لذلك الرد ، وان رد بعد الموت وقبل القبول بطلت ، وكذا لو رد بعد القبض وقبل القبول ، ولو رد بعد الموت والقبول وقبل القبض قيل : تبطل ، وقيل : لا تبطل.


أقول : ينبغي أن يعلم أولا أنه لا خلاف كما عرفت آنفا في أن الملك في الوصية متوقف على الإيجاب والقبول وموت الموصي ، فبدون الثلاثة المذكورة لا يحصل الملك قطعا ، وانما اختلفوا في أن القبض مع ذلك هل هو شرط في تحقق الملك أم ليس بشرط.

فقيل : بالأول كالهبة والوقف ، لاشتراكهما في العلة المقتضية له ، وهو العطية المتبرع بها مع أولوية الحكم في الوصية ، من حيث ان العطية في الهبة وما في معناها منجزة ، وفي الوصية مؤخرة ، والملك في المنجز أقوى منه في المؤخر ، بقرينة نفوذ المنجز الواقع من الأصل على خلاف ، بخلاف المؤخر.

وقيل : بالثاني لأصالة العدم ، وعموم «الأمر بالوفاء بالعقود» الشامل لموضع النزاع ، وبطلان القياس ، من حيث خروج الهبة ونظائرها بدليل خاص وقد تقدم ، وهو لا يتناول الوصية ، والأولوية المذكورة لا تفيد الحكم المتنازع وأصل الخلاف واقع في المؤخر أيضا ، كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

أقول : ويدل على ذلك ما رواه العباس بن عامر في الصحيح (1) قال : «سألته عن رجل أوصى له بوصية فمات قبل أن يقبضها ، ولم يترك عقبا؟ قال : أطلب له وارثا أو مولى فادفعها اليه ، قلت : فان لم أعلم له وليا ، قال : اجهد على أن تقدر له على ولي فان لم تجده وعلم الله منك الجد فتصدق بها» ، وهو صريح في المدعى كما ترى ، وهو أيضا طاهر فيما قدمنا ذكره من صحة الوصية أعم من أن يكون قبل أو لم يقبل ، وبذلك تظهر لك قوة القول الثاني ، وهو كون القبض ليس بشرط في ملك الوصية.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن من فروع الملك وعدمه عندهم رد الموصى له الوصية ، فإن وقع الرد بعد تحقق الملك لم يؤثر رده في إبطال الملك ، لأن الملك لا يزول باعراض صاحبه عنه.

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 13 ح 3 ، الوسائل ج 13 ص 409 ح 2.


نعم ربما أفاد الإباحة في بعض الموارد إلا أن اباحة التصرف لا تقتضي زوال الملك ، وعلى هذا فإذا وقع الرد بعد الموت ، والقبول والقبض لا يؤثر شيئا ، لأن الملك هنا قد استقر ، وثبت إجماعا فلا حكم للرد اتفاقا ، وان وقع الرد بعد الموت والقبول وقبل القبض بنى الكلام على الخلاف المتقدم ، فان قلنا ان القبض شرط في الملك صح الرد قبله ، وبطلت الوصية ، وإلا فلا ، كما لو وقع بعده ، فإنه لا أثر له في البطلان ، وان وقع الرد بعد الموت وقبل القبول ، قبض أو لم يقبض ، بطلت الوصية ، لأن الملك لم يتحقق حينئذ ، فكانت الوصية من قبيل العقد الجائز إذا أبطله أحد المتعاقدين ، أو اللازم إذا رده أحدهما بعد الإيجاب وقبل القبول.

أقول : صحة الحكم هنا مبنية على تسليم شرطية القبول كما هو مسلم بينهم ، وأما على ما يظهر من الأخبار كما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى ، من أنه لا دليل عليه ، بل الدليل ظاهر في خلافه ، فإنه يحكم بالصحة وان وقع الرد قبل الوفاة ، سواء كان قبل القبول أم لا ، فالرد هنا عندهم لا حكم له ، فله أن يجدد القبول بعد ذلك ، لأن الرد في حكم العدم ، حيث لم يصادف محلا إذ التمليك لا يحصل إلا بعد الوفاة ، فرده هنا انما هو في معنى رد ملك غيره ، وهو غير معقول ، فيقع لاغيا ، لأنه وان قبله فالشرط لملكه موت الموصي إجماعا ، والفرق ـ بين الرد في هذه الصورة وبين الرد بعد الموت وقبل القبول ، في أن الأول لا حكم له ، بل له أن يجدد القبول ، وفي الثاني تبطل الوصية كما تقدم ، مع اشتراكهما في عدم حصول الملك فيهما ـ أن الملك بعد الموت وقبل القبول وان لم يحصل على وجه اللزوم الذي لا يؤثر الرجوع في زواله ، إلا أنه حاصل في الجملة ، باعتبار أن القبول كما تقدم كاشف عن الملك السابق ، أو جزء السبب ، فالملك حاصل في الجملة ، إلا أنه بقي موقوفا على القبول لا غير ، فالرد حينئذ واقع في محله ، وملخصه أن التمليك من الموصي قد حصل ، وبقي موقوفا على رضاه بذلك وقبوله ، فإذا رده تبين عدم الرضا والقبول ، فتبطل الوصية كما لو أوجب البائع البيع فرده المشترى ولم يقبل ، وهذا بخلاف


الرد الواقع حال الحياة فإن الملك لم يحصل بالكلية وان قبل في تلك الحال.

هذا كله فيما لو تعلق الرد بالجميع ، أما لو رد بعضا وقبل بعضا فإنه يصح فيما قبله ، ويبقى الكلام في البعض الذي رده ، فبنى على الفروض المتقدمة من الرد في حال الحياة أو بعد الوفاة ، قبل القبول أو بعده ، مع القبض أو عدمه.

وبالجملة فإن الوصية لما كانت تبرعا محضا لم ترتبط أجزائها بعضها ببعض ، فكما يصح قبولها جميعا يصح قبول بعضها ، ويلزمه حكمه خاصة ، ويلزم الآخر أيضا حكمة المتقدم ، وهذا بخلاف البيع ونحوه من عقود المعاوضات ، فإن البائع لو باعه جملة فقبل المشتري بعضها ، وقع قبوله لاغيا ، لأن الغرض فيه مقابلة أجزاء العوض بأجزاء المعوض ، والبعض الذي اختص بالقبول غير مقصود للبائع إلا مقيدا بالجملة ، بخلاف التبرع المحض ، فان القصد إلى الجملة يتضمن القصد الى كل واحد من أجزائها منضمة ومنفردة ، ومن ثم لو أوصى بما زاد على الثلث ولم يجز الوارث بطل في الزائد ، وصح في قدر الثلث وان قبل الموصى له لعدم الارتباط الذي بيناه ، هكذا قيل.

وفيه نظر ، فان ما ادعى من أنه لو قبل المشترى بعض الجملة المباعة دون بعض وقع لاغيا ، لا دليل عليه شرعا ، وما علل به من هذا الوجه الاعتباري لا يصلح لتأسيس حكم شرعي ، ولو تم ما ادعوه من الارتباط بين أجزاء المبيع فلا يصح في بعض دون بعض ، للزم البطلان فيما لو باع ماله ومال غيره صفقة ، فيبطل البيع في الجميع ، مع أنه ليس كذلك ، بل يصح البيع في ماله ، ويختص البطلان بمال الغير ، ويوزع الثمن بالنسبة كما تقدم ذكره في محله.

وبه يظهر ما في قوله ومن ثم لو أوصى بما زاد على الثلث الى آخره حيث جعل مناط الصحة في الثلث خاصة ، والبطلان فيما زاد هو عدم الارتباط ، مع أن مثله كما عرفت وارد في المبيع ، وحينئذ فلا يتم ما ادعوه كليا.

وبالجملة فإن المدار في الأحكام الشرعية كيف كانت ، انما هو على النصوص الشرعية ، دون هذه التعليلات العقلية ، والله العالم.


المسئلة الخامسة : الأشهر أنه لو مات الموصى له قبل القبول سواء مات في حياة الموصي أم بعد وفاته ، فان وارثه يقوم مقامه في قبول الوصية ، وتكون الوصية له كما كانت لمورثه ، إلا أن يرجع الموصي في الوصية.

ويدل على هذا القول ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) في الصحيح عن محمد بن قيس (1) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أوصى لآخر والموصى له غائب ، فتوفي الذي أوصى له قبل الموصي ، قال : الوصية لوارث الذي أوصى له ، قال ومن أوصى لأحد شاهدا كان أو غائبا ، فتوفي الموصى له قبل الموصي ، فالوصية لوارث الذي أوصى له إلا أن يرجع في وصيته قبل موته». ومورد هذه الرواية انما هو موت الموصى له في حياة الموصي ، فلا يمكن الاستدلال بها على ما قدمنا من المدعى ، وحينئذ فينبغي أن يجعل المدعى انه لو مات الموصى له في حياة الموصي قبل القبول ، فهل تصح الوصية أم لا؟ فتكون الرواية المذكورة مستندا للقول بالصحة ، إلا أن ظاهرهم أن محل الخلاف هو الأعم كما حررناه ، وربما كان المستند في تعميم الحكم ما لو مات بعد موت الموصى ، هو الأولوية ، وفيه ما فيه.

وطعن في هذه الرواية في المسالك وقبله العلامة في المختلف ، بأن محمد بن قيس مشترك بين جماعة فيهم الضعيف والثقة ، قال في المسالك بعد نقل الرواية وهذه الرواية نص في الباب لو تم سندها ، إذ لا يخفى أن محمد بن قيس الذي يروي عن الباقر عليه‌السلام مشترك بين الثقة والضعيف وغيرهما ، فكيف تجعل روايته مستند الحكم ، إلا أن يدعوا جبرها بالشهرة على ما هو المشهور بينهم في ذلك ، وفيه ما فيه.

أقول : الذي صرح به جملة من محققي متأخري المتأخرين منهم سبطه

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 13 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 230 ح 903 ، الفقيه ج 4 ص 156 ح 541 ، الوسائل ج 13 ص 409 ح 1.


السيد السند في شرح النافع وغيره أن محمد بن قيس هنا هو الثقة البجليّ ، بقرينة عاصم بن حميد الراوي عنه ، كما صرح به الشيخ في الفهرست ، وحيثما يوجد هذا السند فإنهم ينظمونه في سلك الصحيح ، وهذه المناقشة قد تكررت من شيخنا المذكور في المسالك في غير موضع ، وهو غفلة محضة.

وبالجملة فالخبر صحيح صريح في المدعى ، ثم ان أصحاب هذا القول عللوه أيضا زيادة على الخبر المذكور بناء على قواعدهم من التعليل بالعلل العقلية بأن القبول كان حقا للمورث فيثبت لوارثه بعد موته ، كباقي الحقوق الموروثة من الخيار والشفعة وغيرهما ، واعترضه في المسالك قال : وأما الاستدلال بكون القبول حقا للمورث ، ففيه منع كلية الكبرى المدعية ، أن كل حق يورث ان سلم أن القبول حق ، فان حق القبول لا يورث في سائر العقود إجماعا ، كما لو باع أو وهب فمات المشتري أو الموهوب قبل القبول ، فقبل الوارث ، وان كان على الفور ، فإنه لا يعتد به قطعا ، فكذا هنا ، انتهى.

أقول قد عرفت مما قدمناه آنفا أنه لا دليل على اعتبار هذا القبول الذي يدعونه ، ولا على كون الوصية عقدا يتوقف على الإيجاب والقبول ، كما هو المشهور بينهم ، بل ربما دل ظاهر الصحيحة المذكورة هنا مضافا الى ما سلف من الأخبار على أنه بمجرد الوصية قد حصل الانتقال الى الموصى له ، وثبت له الحق ، وان كان متزلزلا مراعى بوفاة الموصي ، إذ لا وجه للانتقال الى الوارث قبل موت الموصي ، إلا بالتقريب الذي ذكرناه ، وحينئذ فالموروث انما هو الوصية ، لا القبول الذي ادعوه كما في عنوان المسئلة ، فجعلوا محل الخلاف في أنه هل يورث القبول لو مات الموصى له قبل القبول أم لا؟ وصحيحة محمد بن قيس المذكورة ظاهرة فيما قلناه ، حيث قال عليه‌السلام في الجواب «الوصية لوارث الذي اوصى له» أي أنه لما أوصى الى ذلك الرجل فمات الموصى له فهي لوارثه ، ان لم يرجع الموصي فيها ، فالموروث هو الوصية ، لا القبول إذ لا دليل ، بل لا إشعار في شي‌ء من الأخبار به بالكلية ، والحمل على تقدير مضاف


في الكلام يعنى قبول الوصية لوارث الذي أوصى له خلاف الظاهر ، والأصل عدمه.

ونقل عن جماعة من الأصحاب منهم ابن الجنيد والعلامة في المختلف القول ببطلان الوصية في الصورة المذكورة ، مستندين الى أن الوصية عقد يفتقر إلى إيجاب وقبول من الموجب له ، فيبطل بموته.

واستندوا مع ذلك الى صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم (1) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن رجل أوصى لرجل فمات الموصى له قبل الموصى؟ قال : ليس بشي‌ء».

وفي الموثق عن منصور بن حازم (2) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل أوصى لرجل بوصية أن حدث به حدث فمات الموصى له قبل الموصي؟ قال : ليس بشي‌ء».

أقول : أنت خبير بما في هذين الخبرين من الإجمال ، وتعدد الاحتمال المانع من الاعتماد عليهما في الاستدلال ، قال في المسالك : والحق أن هاتين الروايتين لا صراحة فيهما في المطلوب ، لأنهما كما يحتملان أن الوصية لا شي‌ء يعتد به ، بمعنى بطلانها ، يحتمل إرادة أن الموت ليس بشي‌ء ينقض الوصية ، بل ربما كان الثاني أنسب بأسلوب الكلام ، وتذكير الضمير المستتر في الفعل ، وبه يندفع التنافي بين الروايات ، فيكون أولى ، انتهى.

والشيخ في التهذيبين حملهما على ما إذا رجع الموصي بعد موت الموصى له عن وصيته ، فاما مع إقراره على الوصية ، فإنها تكون لورثته ، قال : وقد فصل ذلك في خبر محمد بن قيس السابق ، ولا يخفى ما فيه من البعد عن الانطباق على سياق الكلام ، واحتمل في الوافي حملهما على ما إذا كان هناك قرينة تدل على ارادة الموصى له بخصوصه ، دون ورثته.

أقول : ويحتمل ولعله الأقرب حملهما على التقية كما ذكر في الوسائل ،

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 231 ح 906 و 907 ، الوسائل ج 13 ص 410 ح 4 و 5.


قال : لانه مذهب أكثر العامة ، وكيف كان فان الخبرين المذكورين لما عرفت لا يبلغان قوة المعارضة للصحيحة السابقة ، ولعله لأجل ذلك جعلهما في المختلف مؤيدين ، بعد أن علل البطلان بأن الوصية عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول ، قال : وقد بينا أن القبول المعتد به هو الذي يقع بعد الوفاة فصار الموت حينئذ فلا عبرة به ، انتهى.

وفيه ما عرفت ، وقيل هنا : قول ثالث بالتفصيل كما نقله في المسالك عن بعض الأصحاب ، من أنه خص البطلان بما إذا مات الموصى له قبل الموصي عملا بمدلول هاتين الروايتين ، قال : فلو مات بعده لم تبطل ، للأصل وعدم المعارض.

أقول : لا يخفى أن هذه الروايات المذكورة انما تعارضت وتصادمت في موت الموصى له في حياة الموصي ، فالصحيحة المتقدمة صريحة في الصحة والانتقال الى الوارث ، والروايتان الأخريان على ما عرفت ، من الإجمال والاحتمال ، وان ادعى منهما الدلالة على البطلان.

وكيف كان فان حكم موت الموصى له بعد موت الموصي غير معلوم من هذه الأخبار ، وحينئذ فيمكن أن يقال : ان مع موت الموصى له في حياة الموصي فالحكم الصحة ، عملا بالصحيحة المذكورة ، وأما بعد وفاته فالوجه في الحكم بالصحة أيضا هو ما ذكره هذا القائل بالتفصيل من أن الأصل الصحة ، ولا معارض هنا لها ، ويؤيده أيضا ما قدمناه في صدر المسئلة الرابعة (1) من صحيحة العباس بن عامر الدالة على موت الموصى له قبل قبض الوصية فأمر عليه‌السلام الوصي أن يطلب له وارثا ليدفع إليه الوصية ، وظاهر سياقها أن موته بعد موت الموصي كما هو محل البحث.

ورواية محمد بن عمر الساباطي (2) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام يعني الثاني عن رجل أوصى الي وأمرني أن أعطي عما له في كل سنة شيئا ، فمات العم؟ فكتب عليه‌السلام أعط ورثته».

__________________

(1) ص 392.

(2) الكافي ج 7 ص 13 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 410 ح 3.


وهذه الرواية أيضا ظاهرة في أن موت العم بعد موت الموصي ، لأنه مع حياة الموصي لم يتحقق الملك للموصي له ليأمر بالدفع الى ورثته ، ويؤكده أيضا أن المعطى والسائل انما هو الوصي الموصى إليه بتنفيذ الوصايا ، وهو لا يكون إلا بعد موت الموصي كما هو ظاهر ، وأما احتمال إرجاع الضمير في ورثته الى الرجل الموصي المسؤل عنه في صدر الخبر ، فمن الاحتمالات السخيفة التي لا ينبغي النظر إليها.

وبالجملة فإن هذين الخبرين ظاهران في أن مع موت الموصى له بعد وفات الموصي : فإنه لا ريب في صحة الوصية ، وأنها تدفع للموصى له ، ولوارثه ، لأنه استحقها وملكها بالوصية وتحرر الملك ، ولزم بموت الموصي ، ومدلولهما غير ما دلت عليه الأخبار المتقدمة ، فلا تنافي بين الجميع ولا تعارض ، لان مدلول تلك كما عرفت موت الموصى له في حياة الموصي ، ومدلول هذه بعد موت الموصي ، وبما ذكرناه لك يظهر ضعف القول بالتفصيل المذكور ، لأنه مبني على دلالة الروايتين المتقدمتين على بطلان الوصية ، وقد عرفت ما فيه ، وأن الأصح هو الصحة للصحيحة المتقدمة وعدم صراحة هاتين الروايتين المذكورتين في المنافاة ، بل الظاهر من جميع هذه الروايات التي أوردناها في المقام هو الصحة ، سواء مات الموصى له في حال حياة الموصي أو بعد موته بالتقريب الذي شرحناه.

وبه يظهر أيضا ضعف القول بالبطلان كما ذهب إليه في المختلف ، لدلالة هذين الخبرين على الصحة في صورة موت الموصى له بعد موت الموصي ، ودلالة صحيحة محمد بن قيس على الصحة قبل موته ، وهو قد حكم بالبطلان في الموضعين ، والله العالم.

المسئلة السادسة : قال المحقق في الشرائع : فرع لو أوصى بجارية وحملها لزوجها وهي حامل منه ، فمات قبل القبول ، كان القبول للوارث ، وإذا قبل ملك الوارث الولد ، ان كان ممن يصح له تملكه ، ولا ينعتق على الموصى له ، لأنه لا يملك بعد الوفاة ، ولا يرث أباه ، لأنه رق ، إلا أن يكون ممن ينعتق على الوارث الى آخره.


قال في المسالك بعد ذلك : هذا فرع على المسئلة السابقة المتضمنة لكون القبول موروثا ، فإذا فرض كون الموصى به جارية وحملها ، والحال أن الحمل ولد الموصى له بتزويج أو غيره ، ففرض المصنف كون الموصى له زوجا غير لازم ، ويفرض كون الحمل رقا لمولى الجارية بالاشتراط على القول بصحته ، وحينئذ فإذا مات الموصى له قبل القبول وقلنا بانتقال حقه الى وارثه ، فقبل الوصية بهما ، ملك الجارية والولد ، ولا ينعتق الولد لأن أباه لم يملكه ، وانما انتقل ملكه الى الوارث ابتداء كما أشرنا إليه سابقا ، نعم لو كان ممن ينعتق على الوارث كما لو كان الوارث ابنا والحمل أنثى ، انعتق عليه ، انتهى المقصود من كلامه.

أقول : قد عرفت مما قدمناه أن ما يدعونه من القبول في هذا المقام مما لم يقم عليه دليل ، ربما دلت ظواهر الأخبار على عدمه ، وحينئذ فجميع ما يفرع على ذلك لا يخلو من الاشكال ، ومنه ما ذكروه هنا من أنه كما أن للموصى إليه التخيير في القبول وعدمه ، كذلك يثبت للوارث التخيير في قبول الوصية وعدمه فلو مات الموصى إليه قبل القبول تخير الوارث بين القبول ، فيملك ما أوصى به وعدمه فلا يملكه ، والمفهوم من الروايات التي قدمناها في سابق هذه المسئلة هو أنه متى مات الموصى إليه في حياة الموصي أو بعد موت الموصي ، فإن الوصية تنتقل الى الوارث انتقالا موجبا للملك ، غير متوقف على شي‌ء إلا موت الموصي ان مات الموصى إليه في حال حياته ، فان ما اشتملت عليه صحيحة العباس بن عامر من أمره عليه‌السلام بطلب الوارث والدفع اليه ، ثم أمره بالصدقة عنه بعد تعذر الوقوف عليه أظهر ظاهر ، وأصرح صريح في الانتقال اليه من غير توقف على شي‌ء ، وإلا لكان الأنسب أنه حيث تعذر الوارث فإنه ترجع الوصية إلى ورثة الموصي ، لتعذر القبول الذي هو شرط عندهم بتعذر وجود الوارث ، مع أنه عليه‌السلام مع تعذر الوارث أمر بالصدقة عنه ، أو عن الموصى له ، أو عن وهو صريح في ملك الموصى له ووارثه من بعده ، بمجرد الوصية وموت الموصي ، وكذلك حكمه عليه‌السلام في رواية محمد بن عمر


الساباطي بكونه لورثة العم ، كان ينبغي تقييده ان قبلوا ذلك وإلا فلا ، وكذلك حكمه عليه‌السلام في صحيحة محمد بن قيس بأن الوصية لوارث الذي أوصى له من غير استفصال بين قبوله وعدمه ، ولو كان الأمر كما يدعونه لكان الواجب أن يقول ان الوصية له ان قبل ، وإلا فلا.

وبالجملة فإنه لا يخفى على المتأمل في سياق الأخبار المذكورة سيما صحيحة العباس بن عامر أنه بموت الموصى إليه تنتقل الوصية إلى وارثه انتقالا صحيحا شرعيا موجبا للملك ، غاية الأمر أنه ان كان الموت في حياة الموصي فإن الملك يكون مراعى بعدم رجوع الموصي في الوصية ، كما دلت عليه صحيحة محمد بن قيس ، وان كان بعد موت الموصي فقد استقر الملك بحصول شروطه المتقدمة ، وأما أنه للموصى له التخيير بين القبول والرد كما زعموه ، فقد عرفت أيضا ما فيه ، من أنه لا دليل عليه إلا ما ذكروه من الوجوه الاعتبارية التي لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، وما المانع من أن يكون بعد استكمال شروطه من قبيل الميراث ، إذا اقتضته الأدلة ، كما صرحوا به في الوصية لغير معين ، من أنه ينتقل بمجرد الوصية وموت الموصى.

وبالجملة فإنك بالتأمل في الأخبار التي ذكرناها لا أظنك يعتريك الشك في صحة ما ذكرناه ، لكن مخالفة المشهور مما يثقل في قلوب الجمهور ، إذا عرفت ذلك فاعلم أنه يأتي على ما حررناه ، من أن الوصية قد انتقلت الى الموصى له ووارثه انما تلقاها منه ، وورثها عنه ، أن الجارية وولدها هذا قد انتقلا الى الزوج ، وبموجبه ينعتق الولد عليه ، لأنه لا يملك ولده.

قوله في المسالك فيما قدمنا من عبارته : «وحينئذ فإذا مات الموصى له قبل القبول وقلنا بانتقال حقه الى وارثه. الى آخره».

فيه أنك قد عرفت من الأخبار التي كررناها ، أن مقتضاها أن من أوصى بوصية إلى شخص فمات الموصى له قبل قبض الموصى به ، فإنه تنتقل الوصية عنه الى وارثه ، ويملك الوارث جميع ما ورثة الموصي له من غير تقييد بقبول ، لا في


جانب الموصى له ، ولا في جانب وارثه ، والوارث انما تلقى الملك عن مورثه ، لا من حيث قبوله خاصة ، ومقتضى ما ذكروه من أن الموصى له مات قبل القبول أنه لم يحصل له الملك ، والملك انما حصل لوارثه من حيث قبوله ، فيكون الوارث قد ملك شيئا لم يملكه مورثه ، وهذا خلف ظاهر ، فان الوارث بالاتفاق إنما تلقى الملك من مورثه ، فكيف يملك هنا شيئا لم يملكه مورثه ، حتى أنهم يفرعون عليه عدم انعتاقه الولد ، لعدم دخوله في ملك الأب.

ثم انه أي حق للموصى له لو مات قبل القبول ليرثه وارثه ، فإنه إذا كان القبول عندهم شرطا في صحة الملك أو جزء السبب ولم يحصل ، فإنه لا يحصل الملك ، وبموجبه تبطل الوصية ، فليس هنا شي‌ء يرثه الوارث بالكلية.

فإن قيل : انه بالوصية يملكه ملكا متزلزلا لا يستقر إلا بالقبول ، فلما مات الموصى له قبل القبول ورث الوارث ذلك الملك المتزلزل عنه ، وورث حق القبول الذي كان للموصى له ، فإذا قبل ذلك استقر الملك له.

قلنا : أما إرثه الملك المتزلزل فممكن ، وأما إرثه حق القبول ، فغير مسلم وقد تقدم ذلك في كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، كما قلناه في سابق هذه المسئلة في الجواب عن ذلك الدليل العقلي المذكور ثمة.

وبالجملة فإن مقتضى الأخبار التي ذكرناها انما هو انتقال الوصية الى الموصى له أولا ، وأنه يملكها ، وان اقترن الملك بين موت الموصى له في حياة الموصي أو بعد موته كما تقدم ، ثم بعد موته ينتقل الى وارثه ، وحينئذ فيجب الحكم بانعتاق الولد في الصورة المفروضة ، وهذا من جملة ما يتفرع على الخلاف بين كلامهم ، وبين ما يظهر من الأخبار الجارية في هذا المضمار.

المسئلة السابعة : قد صرحوا بأن الوصية عقد جائز من طرف الموصي ما دام حيا ، سواء كانت الوصية بمال أو ولاية ، ويتحقق الرجوع بالتصريح ، وبفعل ما ينافي الوصية ، فلو باع ما أوصى به أو أوصى ببيعه أو وهبه وأقبضه ، أو رهنه كان ذلك رجوعا ، وكذا لو تصرف فيه تصرفا أخرجه عن مسماه.


أما لو أوصى بخبز فدقه فتيتا لم يكن ذلك رجوعا.

أقول : ما ذكروه من أن الوصية عقد جائز من طرف الموصي ما دام حيا مما لا خلاف فيه نصا وفتوى ، أما الثاني فلأنه لا خلاف كما نقله في المسالك وغيره في جواز رجوع الموصي في وصيته ما دام حيا ، ولو كانت لازمة لامتنع ذلك.

وأما الأول : فلأخبار كثيرة ، منها ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن عبيد بن زرارة (1) قال : «قد سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول. للموصي أن يرجع في وصيته ان كان في صحة أو مرض».

وعن بريد بن معاوية (2) في الموثق «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : لصاحب الوصية أن يرجع فيها ويحرث في وصيته ما دام حيا».

وعن عبد الله بن مسكان (3) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام أن المدبر من الثلث وأن للرجل أن ينقض وصيته ، فيزيد فيها وينقص منها ما لم يمت».

وعن محمد مسلم (4) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : المدبر من الثلث وقال : للرجل أن يرجع في ثلثه ان كان أوصى في صحة أو مرض».

وعن يونس (5) عن بعض أصحابه قال : «قال علي بن الحسين عليه‌السلام للرجل أن يغير وصيته فيعتق من كان أمر بملكه ، ويملك من كان أمر بعتقه ، ويعطي من كان حرمه ، ويحرم من كان أعطاه ما لم يمت ويرجع فيه».

وما رواه في الفقيه عن محمد بن عيسى بن عبيد (6) «قال كتبت الى

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 12 ح 1 و 2، الفقيه ج 4 ص 147 ح 509 و 508 التهذيب ج 9 ص 189 ح 760 وص 190 ح 761 ، الوسائل ج 13 ص 386 ح 3 و 4.

(3) الكافي ج 7 ص 12 ح 3 ، التهذيب ج 9 ص 190 ح 732.

(4) الكافي ج 7 ص 22 ح 3.

(5) الكافي ج 7 ص 13 ح 4.

(6) الفقيه ج 4 ص 173 ح 607.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 385 ح 1 وص 389 ح 1 وص 385 ح 2 وص 387 ح 6.


علي بن محمد عليهما‌السلام رجل أوصى لك جعلني الله فداك بشي‌ء معلوم من ماله أوصى لأقربائه من قبل أبيه وأمه ، ثم انه غير الوصية فحرم من أعطاه وأعطى من حرمه أيجوز له ذلك؟ فكتب (صلوات الله عليه) هو بالخيار في جميع ذلك الى أن يأتيه الموت».

وما رواه المشايخ الثلاثة في الموثق عن إسحاق بن عمار (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل كانت له عندي دنانير ، وكان مريضا فقال لي : ان حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا ، وأعط أخي بقية الدنانير ، فمات ولم أشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي : أنه أمرني أن أقول لك : انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها الى أخي فتصدق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين ، ولم يعلم أخوه أن له عندي شيئا ، فقال : أرى أن تصدق منها بعشرة دنانير كما قال».

الى غير ذلك من الأخبار ، وكتب بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين في حواشيه على هذا الخبر الأخير ما صورته : العمل بخبر العدل الواحد في مثل ذلك لا يخلو من اشكال إلا أن يحمل على حصول العلم بالقرائن المنضمة إلى اخباره ، ويمكن أن يقال : انما حكم عليه‌السلام بذلك في الواقعة المخصوصة لعلمه بها ، انتهى.

أقول : لا يخفى على من تتبع الأخبار حق التتبع ، أن المستفاد منها انما هو قبول قول العدل الواحد في غير موضع من الأحكام ، ومن ذلك هذا الخبر.

ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (2) قال : «سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها ، فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال : إنها امرأتي ، وليست لي بينة ، فقال : ان كان ثقة فلا يقربها ، وان كان غير ثقة لم يقبل منه» ،

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 64 ح 27 ، التهذيب ج 9 ص 237 ح 923 ، الفقيه ج 4 ص 175 ح 614 ، الوسائل ج 13 ص 482 ح 1.

(2) التهذيب ج 7 ص 461 ح 53 ، الوسائل ج 14 ص 226 ح 2.


وظاهره كما ترى ، النهي عن نكاحها الذي هو حقيقة في التحريم ، وليس ذلك إلا من حيث افادة قول الثقة العلم ، كالشاهدين ، والتأويل بالحمل على الكراهة يحتاج الى المعارض ، وهو منتف ، والمعاضد له موجود ، ومن ذلك ما تقدم في كتاب الوكالة من

صحيح هشام بن سالم (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في حديث قال فيه «ان الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا ، والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة» ، والأصحاب قد صرحوا بأنه لا ينعزل الوكيل إلا مع العلم بالعزل ، والخبر ظاهر أن اخبار الثقة كالمشافهة للعزل في إفادة العلم بالعزل ، ومن ذلك حملة من الأخبار الدالة على جواز وطء الأمة المشتراة بغير استبراء إذا كان البائع عدلا قد أخبر بالاستبراء (2) ، ويؤيده الأخبار الدالة على الاعتماد على أذان الثقة في دخول الوقت (3) الى غير ذلك من المواضع التي تقف عليها المتتبع البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.

ثم انهم ذكروا ان الرجوع في الوصية ونحوها من العقود الجائزة قد يكون بالفعل وبالقول ، اما صريحا أو استلزاما أو باعتبار إشعاره بإرادة الرجوع ، فهذه أقسام أربعة :

أحدها ـ القول الصريح ، كقوله رجعت في الوصية الفلانية ، أو نقضتها أو فسختها ، أو لا تعطوها ما أوصيت به ، أو يقول هو «يعنى الموصى به» لفلان ، أو لوارثي ، أو من جملة ميراثي.

وثانيها ـ بيع العين التي أوصى بها ، واللازم من البيع نقل العين إلى المشتري ، ويمتنع مع ذلك بقاء الوصية ، وكذا عتق المملوك ، وكتابته ، فان مقتضاهما قطع السلطنة عن المملوك التي من جملته الوصية به ، وكذا الهبة

__________________

(1) التهذيب ج 6 ص 213 ح 503. الوسائل.

(2) الكافي ج 5 ص 472 ح 4. الوسائل.

وهما في الوسائل ج 13 ص 286 ح 1 وص 38 ح 2

(3) الوسائل ج 4 ص 618 الباب 3.


المقرونة بالإقباض ، أما لا معه فهي من القسم الآتي.

وثالثها ـ فعل ما يدل على ارادة الرجوع وان لم يكن صريحا ، ويتحقق بفعل مقدمات الأمور التي لو تحققت لناقضت الوصية ، ومنه الهبة قبل القبض كما عرفت ، والعرض على البيع مريدا له ، فإنه قرينة دالة على ارادة الرجوع عن الوصية ، ولو دلت القرائن في شي‌ء من هذه المواضع على عدم ارادة الرجوع بذلك ، بل كان الغرض أمرا آخر ، عول على تلك القرائن ، لضعف هذا القسم ، حيث ان مناطه القرينة ، ويشكل الحال لو اشتبه الفرض من الطرفين.

ورابعها ـ الفعل المبطل للاسم الذي هو متعلق الوصية ، كما لو أوصى له بحنطة معينة فطحنها ، أو بدقيق فعجنه ، أو بعجين فخبزه أو بقطن فغزله ، أو بغزل فنسجه ، أو بدار فهدمها بحيث خرجت به عن اسمها ، أو بزيت فخلطه بغير جنسه ، بحيث لم يتميز ، ووجه البطلان في جميع ذلك ان متعلق الوصية في جميع ذلك هو المسمى الخاص ، وقد زال ، مضافا الى إشعار هذه الأفعال بالرجوع ، إلا أن تدل هناك قرينة على خلاف ذلك ، كأن يفعل لمصلحة العين ، وقصد بقاءها وحفظها ، كدفع الدود عن الحنطة ، وخبز العجين خوفا من فساده وضياعه ، وخلطه كذلك ، ونحو ذلك ، فان مرجع هذه الأمور إلى القرائن المقرنة بها نفيا وإثباتا ، ولو وقع الفعل من غير الموصى بغير اذنه ، لم يقدح في صحة الوصية ، لانتفاء المقتضي.

قالوا : ولو خلط الزيت بمماثله جنسا فان كان الغير أجود فظاهرهم القطع بكونه رجوعا ، لاشتمال حصته على زيادة ، ولم يحصل منه الرضا ببدلهما مع عدم إمكان فصلها ، وان خلطه بمساوئ أو أردى فالمفهوم من كلام بعضهم أنه لا يكون رجوعا ، لبقاء المال وعدم اشتماله على وصف مانع.

قال في المسالك : وهو ظاهر مع المساواة ، ومع الأردى يكون القدر الناقص من الوصف بمنزلة إتلاف الموصي له ، فيبقى الباقي على الأصل انتهى ، وأطلق جماعة من الأصحاب كون الخلط موجبا للرجوع ، قال في المسالك : وهو حسن مع


انضمام قرينة تدل عليه.

هذا كله فيما لو كان الموصى به معينا كهذه الحنطة وهذا الزيت ، ونحو ذلك ، أما لو كان مطلقا كأن يوصى له بأصواع من حنطة أو زيت أو نحو ذلك ، ثم يطحن ما عنده في بيته أو يمزج أو نحو ذلك فان ذلك لا يكون رجوعا ، لعدم اختصاص الموصى به بذلك ، بل لو لم يوجد ذلك عنده لوجب شراؤه ، فلا يضر التغير فيما عنده ، وأما أنه لو أوصى بخبز فدقه فنيتا لم يكن ذلك رجوعا ، فعلل بأن هذا الفعل لا يدل على الرجوع ، إلا بالقرينة ، مضافا الى أصالة بقائها على حالها ، وعلل أيضا ببقاء اسم الخبز.

قال في المسالك : وفيه نظر ، ولم يبين وجهه ، نعم لو استفيد من القرائن إرادة الرجوع به عمل بها ، ونقل عن القواعد أنه استشكل الحكم في ذلك وألحق بذلك جعل القطن محشوا في فراش وتجفيف الرطب تمرا وتقديد اللحم.

قيل ووجه الاشكال ما تقدم ، ومن دعوى أن ظاهر هذه الأفعال يؤذن بالاستيثار بها ، فالظاهر أن الأقرب في ذلك ما تقدم نقله عن المسالك من أن هذه الأمور غير مفيدة للرجوع إلا مع القرينة ، كل ذلك مع التعيين كما تقدم ، وأما مع الإطلاق فلا ، بل يجب تحصيل غيره ، ولو من غير التركة ، هذا ملخص كلامهم في المقام ، والله العالم.

المقصد الثاني في الموصى :

والكلام يقع فيه في مقامات ثلاثة الأول : اشترط جملة من الأصحاب في الموصى الكمال بالبلوغ والعقل ورفع الحجر ، ومقتضاه عدم صحة وصية غير البالغ ، وان كان مميزا مع أن كثيرا من الأخبار دل على صحة المميز وان لم يبلغ ، وهو أحد الأقوال في المسئلة أيضا ، وأما العقل فيخرج به المجنون والسكران ، والغير الرشيد كالسفيه ، مع أن لهم في السفيه اختلافا ، فنقل في


الدروس عن المفيد وسلار والحلبي عدم نفوذ وصيته إلا في البر والمعروف ، وعن ظاهر ابن حمزة عدم نفوذها مطلقا ، وعن الفاضل أنه أنفذها مطلقا تارة ، ومنعها مطلقا أخرى ، قال : وفي حكمه من جرح نفسه للموت ، وأما رفع الحجر فيخرج به العبد ، لأنه وان قيل بملكه فهو محجور عليه ، كما تقدم تحقيقه في كتاب البيع (1) قال في الدروس : ولو أعتق ففي نفوذها قولان للفاضل ، قال : وأولى بالنفوذ إذا علق الوصية على حريته ، هذا وأما ما وقع الخلاف فيه مما تقدمت الإشارة إليه فتفصيل الكلام في ذلك أنه قد سوغ الشيخ في النهاية ، وصية الصبي في المعروف إذا كان له عشر سنين إذا كان وضع الشي‌ء مواضعه ، ومردودة في غير البر ، ومتى كان سنه أقل من ذلك لم تجز وصيته ، قال : وقد روي أنه إذا كان ابن ثمان سنين جازت وصيته في الشي‌ء اليسير في أبواب البر ، والأول أحوط وأظهر ، وكذا يجوز صدقة الغلام إذا بلغ عشر سنين ، وهبته وعتقه إذا كان بالمعروف في وجه البر ، واما ما يكون خارجا عن ذلك فليس بممضى على حال ، وبذلك قال ابن البراج.

وقال الشيخ المفيد : إذا بلغ الصبي عشر سنين جازت وصيته في المعروف في وجوه البر ، وكذلك المحجور عليه لسفه إذا أوصى في بر أو معروف جاز وصيته ، ولم يكن لوليه الحجر عليه في ذلك ، ولا تجوز وصية الصبي والمحجور عليه فيما يخرج من وجوه البر والمعروف ، وهبتهما باطلة ، ووقفهما وصدقتهما كوصيتهما جائزة إذا وقعا موقع المعروف.

وقال سلار : السفيه لا تمضى وصيته إلا في وجوه البر والمعروف خاصة ، والصبي ان بلغ عشر سنين جازت وصيته أيضا في البر والمعروف خاصة ، ولا تمضي هبته ولا وقفه ، وكذلك السفيه.

وقال أبو الصلاح : لا تمضي وصية من لم يبلغ عشر سنين ، والمحجور عليه

__________________

(1) ج 19 ص 397.


إلا ما تعلق بأبواب البر.

وقال ابن الجنيد : إذا أوصى الصبي وله ثمان سنين والجارية ولها سبع. سنين بما يوصى به البالغ الرشيد جاز.

وقال ابن حمزة : انما تصح وصية الحر البالغ كامل العقل أو في حكمه ، ونفاذ تصرفه في ماله ، وحكم كمال العقل يكون للمراهق الذي لم يضع الأشياء في غير مواضعها ، فان وصيته وصدقته وعتقه وهبته بالمعروف ماضية دون غيرها.

وقال محمد بن إدريس : الذي يقتضيه أصول مذهبنا أن وصية غير المكلف البالغ غير صحيحة ، سواء كانت في وجوه البر أو غير وجوه البر ، وكذلك صدقته وعتقه وهبته ، لان وجود كلام الصبي غير البالغ كعدمه ، ولأنه بلا خلاف محجور عليه ، غير ماض فعله في التصرف في أمواله بغير خلاف بين الأمة ، ولقوله تعالى (1) «وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» فأمرنا بالدفع للأموال إليهم بعد البلوغ ، وهو في الرجال الاحتلام أو الإنبات ، أو خمس عشر سنة ، وفي النساء الاحتلام أيضا أو الإنبات أو بلوغ تسع سنين ، أو الحمل أو الحيض مع إيناس الرشد وحده ، أن يكون مصلحا لماله ، مصلحا لدينه ومن أجاز شيخنا وصيته وعتقه وهبته ليس كذلك ، لقوله عليه‌السلام (2) «رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم» ، ورفع القلم عنه يدل على أنه لا حكم لكلامه ، وانما هذه أخبار آحاد أوردها في النهاية إيرادا.

أقول : والواجب أولا كما هي قاعدتنا في الكتاب نقل جملة الروايات الواردة في هذا الباب والكلام في ذلك بتوفيق الملك الوهاب ، فمن الأخبار ما رواه الصدوق في الصحيح عن أبى عمير عن أبان عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله (3) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيته». ورواه الكليني أيضا بسند غير نقي.

__________________

(1) سورة النساء ـ الآية 6.

(2) الوسائل ج 1 ص 32 الباب 4 ح 10.

(3) الفقيه ج 4 ص 145 ح 501 ، الكافي ج 7 ص 28 ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 429 ح 3.


وما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيدهم عن زرارة (1) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له في ماله ما أعتق أو تصدق أو أوصى على حد معروف وحق فهو جائز».

وما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن منصور بن حازم (2) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن وصية الغلام هل تجوز؟ قال : إذا كان ابن عشر سنين جازت وصيته».

وعن عبد الرحمن بن أبى عبد الله في الموثق (3) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : إذا بلغ الصبي خمسة أشبار أكلت ذبيحته ، وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيته».

وعن أبي بصير وأبى أيوب (4) في الموثق «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الغلام ابن عشر سنين يوصي؟ قال : إذا أصاب موضع الوصية جازت».

وما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) في الصحيح عن محمد بن مسلم (5) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ان الغلام إذا حضره الموت فأوصى ولم يدرك جازت وصيته ، لأولي الأرحام ، ولم تجز للغرماء».

وعن أبى بصير (6) في الصحيح والظاهر أنه المرادي «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : إذا بلغ الغلام عشر سنين فأوصى بثلث ماله في حق جازت وصيته ، فإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حق جازت وصيته».

وما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن محمد بن مسلم (7) عن

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 28 ج 1 ، التهذيب ج 9 ص 181 ح 729 ، الفقيه ج 4 ص 145 ح 502.

(2) التهذيب ج 9 ص 182 ح 730 ، الوسائل ج 13 ص 429 ح 3 و 4 وص 430 ج 7.

(3) التهذيب ج 9 ص 181 ح 726.

(4 و 5) التهذيب ج 9 ص 181 ح 727 و 728. الكافي ج 7 ص 28 ج 2.

(6) التهذيب ج 9 ص 182 ح 732 ، الفقيه ج 4 ص 145 ح 503.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 429 ح 5 و 6 وص 428 ح 1 و 2.

(7) التهذيب ج 9 ص 182 ح 733 ، الوسائل ج 15 ص 325 ح 5.


أحدهما عليهما‌السلام قال : يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل ، ووصيته وصدقته وان لم يحتلم».

هذا ما حضرني من أخبار المسئلة وهي ظاهرة الدلالة فيما ذكره المشايخ المتقدم ذكرهم ، وهو ظاهر الصدوق (قدس‌سره) أيضا حيث نقله جملة منها في كتابه من غير تعرض لردها ، ولا الطعن فيها بوجه ، وبه يظهر ضعف ما ذكره ابن إدريس وما تعلق به من الأدلة الدالة على الحجر على الصبي حتى يبلغ ، يمكن تخصيصها بهذه الأخبار ، فإنها مع تعددها وصحة أكثرها ورواية المشايخ الثلاثة لها وقول الطائفة بها لا يمكن التجاسر على ردها وإطراحها بالكلية ، كما هو مقتضى كلامه ، ولكنه صحيح على أصله الغير الأصيل ، وقاعدته المخالفة لما عليه كافة العلماء جيلا بعد جيل.

وظاهر العلامة في المختلف الميل الى مذهب ابن إدريس هنا ، وان لم يصرح باختياره ، حيث قال بعد نقل ما قدمنا من الأقوال ، ونقل جملة من روايات المسئلة ما لفظه : وهذه الروايات وان كانت متظافرة ، والأقوال مشهورة ، لكن الأحوط عدم إنفاذ وصيته مطلقا حتى يبلغ ، لعدم مناط التصرف في المال عنه ، انتهى.

والى ذلك يميل أيضا كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، بل ربما ظهر منه اختياره حيث قال : وابن إدريس سد الباب واشترط في جواز الوصية البلوغ كغيرها ونسبه الشهيد في الدروس الى التفرد بذلك ، ولا ريب أن قوله هو الأشبه لأن هذه الروايات التي دلت على الحكم وان كان بعضها صحيحا إلا انها مختلفة ، بحيث لا يمكن الجمع بينها ، وإثبات الحكم المخالف للأصل بها مشكل ، انتهى.

أقول : لا يخفى على المتأمل في هذه الأخبار وهي أخبار المسئلة كملا أنه متى ضم بعضها الى بعض مطلقها الى مقيدها ، ومجملها الى مفصلها ، وعامها الى خاصها ، فإنه ينتج منها جواز وصية ابن عشر سنين ، إذا كان ذا تمييز : وكانت وصيته موافقة لوصية العقلاء من وضع الأشياء مواضعها ، وهو المشار إليه بالوصية بالمعروف


يعنى بين العقلاء ، وهذا أمر متفق عليه منها ، باعتبار ما قلناه من ضم بعضها الى بعض ، واختلافها في ما عدا ذلك لا يوجب ردها فيما اتفقت فيه.

وبذلك يظهر ما في قوله أنها مختلفة لا يمكن الجمع بينها ، فإنه على إطلاقه ممنوع ، وممن قال بالقول المشهور وجزم به المحقق وشيخنا الشهيد.

وأما ما ذكره في المختلف من أن الأحوط عدم إنفاذ وصيته مطلقا ، فإنه قد اعترضه شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد بأن الاحتياط للوارث مع عدم الحجر عليه إنفاذها ، اللهم إلا إن يريد بذلك أن الأحوط للموصى له أن لا يقبل وصية الصبي وفيه بعد ، مع إمكان كون الوصية في جهة عامة أو لطفل مولى عليه ، فلا يتصور الاحتياط هنا ، وان أراد به معنى آخر فلا بد من افادته ، واقامة الدليل عليه.

وبالجملة فالإقدام على رد ما تظاهرت به الفتوى واشتهرت به الرواية من طريق أهل البيت عليهم‌السلام مشكل ، انتهى وهو جيد نفيس.

وأما ما تقدم نقله عن الدروس من الخلاف في السفيه بما ذكره ، فلم أقف له في الأخبار على أثر.

وأما ما تقدم نقله عن ابن الجنيد ، فالظاهر أن مستنده فيه رواية الحسن بن راشد (1) عن العسكري عليه‌السلام قال : إذا بلغ الغلام ثماني سنين فجائز أمره في ماله وقد وجب عليه الفرائض والحدود ، وإذا تم للجارية سبع سنين فكذلك ، وظاهرها هو حصول البلوغ لكل من الصبي والصبية ببلوغ الثمان والسبع ، وهو مخالف لإجماع المسلمين وأخبارهم ، وابن الجنيد هنا اقتصر على الوصية. ولا وجه لتخصيصها بالذكر ، فإنه ان عمل بالرواية وجب عليه القول بجميع ما اشتملت عليه ، وان خالف إجماع المسلمين واخبارهم ، وإلا فالواجب طرحها وإرجاعها إلى قائلها ، والله العالم.

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 183 ح 736 ، الوسائل ج 13 ص 321 ح 4.


المقام الثاني : قد صرحوا بأنه لو جرح الوصي نفسه بما فيه هلاكها ثم أوصى ، فإنه لا تقبل وصيته ، ولو أوصى قبل ذلك قبلت ، وتدل على ذلك صحيحة أبي ولاد (1) المروية بطرق المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها ، قيل له : أرأيت ان كان أوصى بوصية ثم قتل نفسه متعمدا من ساعته تنفذ وصيته؟ قال : فقال : ان كان أوصى ان يحدث حدثا في نفسه من جراحة أو فعل لعله يموت ، أجيزت وصيته في الثلث وان كان أوصى بوصية بعد ما أحدث في نفسه من جراحة أو فعل لعله يموت لم تجز وصيته». وهي مع صحة سندها صريحة في المراد ، وما ذكرناه من بطلان الوصية إذا وقعت بعد الفعل المذكور ، هو المشهور بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) وبه صرح الشيخان وأبو الصلاح وابن البراج ، ونقله ابن الجنيد رواية عن الصادق عليه‌السلام وقال ابن إدريس : الذي يقتضيه أصولنا وتشهد بصحته أدلتنا أن وصيته ماضية صحيحة إذا كان عقله ثابتا عليه.

واحتج في المختلف على القول المشهور زيادة على الصحيحة المذكورة ، قال لنا : أنه سفيه فلا ينفذ تصرفه ، ولأنه في حكم الأموات ، فلا يتصرف في مال غيره ، ولأنه قاتل نفسه ، فلا يتصرف في ماله ، كالوارث لو قتله منع منه.

واعترضه في المسالك : فقال : والكل ضعيف ، أما السفه فلأن الفرض انتفائه وثبوت رشده ، وان اشترطنا انتفائه في غيره ، ومن الجائز أن يفعل بنفسه ذلك لعارض ثم يرجع اليه رشده لو فرض زوال حالته ، وأما عدم استقرار حياته فيكون في حكم الميت فليس بشرط ، والأصل يقتضي نفوذ تصرف الحي العاقل الجامع لباقي الشرائط مطلقا ، والنصوص الدالة على نفوذ المريض مطلقا متناولة له ،

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 207 ح 820 وفيه «قلت له» ، الفقيه ج 4 ص 150 ح 522 وليس فيهما «لعله يموت» ، الكافي ج 7 ص 45 ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 441 الباب 52.


والقياس على عدم حل المذبوح حينئذ لأنه بمنزلة الميت فاسد ، ان سلم الأصل وسيأتي ان شاء الله تعالى ما فيه في بابه ، ومن ثم وجبت الدية على قاتله في هذه الحالة ، وحكم اللحم حكم آخر ، وأما حديث منع القاتل عن الميراث وجعل الوصية كالميراث فواضح الفساد ، فلم يبق إلا العمل بالنص الصحيح ان اقتضاه أصل المعنى ، أو رده بأحد الوجوه المقتضية له ، ككونه آحادا أو مخالفا للأصول كما اختاره ابن إدريس (رحمه‌الله عليه) محتجا على الصحة بأنه حي عاقل مكلف ، وبالنهي عن تبديل الوصية بعد سماعها بالقرآن الذي هو حجة المتناول بعمومه لمحل النزاع ، أو بمنع تخصيص القرآن بخبر الواحد. ولكلام ابن إدريس وجه وجيه ، وان كان الوقوف مع المشهور والعمل بالنص الصحيح أقوى ، انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول : ما ذكره في رد الوجوه العقلية التي استدل بها العلامة جيد ، وانما الكلام في قوله نقل حجة ابن إدريس : ولكلام ابن إدريس وجه وجيه ، وبنحو ذلك أيضا صرح في المختلف بعد نقل حجة ابن إدريس المذكورة ، فقال : وقول ابن إدريس (رحمه‌الله عليه) لا بأس به.

وأنت خبير بأن مرجع ترجيحها لمذهب ابن إدريس في هذه المسئلة وفي سابقتها الى أن مذهب ابن إدريس هو الأوفق بالأصول والآيات القرآنية ، ولهذا ان شيخنا المذكور في الروضة في المسئلة السابقة قال : ان قول المشهور مستند الى روايات متضافرة ، بعضها صحيح ، إلا أنها مخالفة لأصول المذهب والاحتياط ، وفيه أنه لا يخفى على المتتبع للأحكام أن ما ذكروه هنا لا خصوصية له بهذا المقام ، ونظائره في الأحكام أكثر من أن يأتي عليه قلم الإحصاء ، أو يدخله العد والاستقصاء ، وها أنا أذكر لك ما خطر بالبال العليل مما هو من هذا القبيل ، فمن ذلك مسئلة الحبوة فقد دلت الآيات والروايات على أن ما خلفه الميت يكون ميراثا لجميع الورثة ، مع أنهم قد عملوا بأخبار الحبوة ، وخصصوا بها تلك الأدلة من الآيات والروايات ، ومن ذلك ميراث الزوجة فإنهم قد اتفقوا على حرمانها من


بعض التركة ، وان اختلفوا في ذلك زيادة ونقصانا ، مع دلالة الآيات والروايات على ميراثها من جميع ما يخلفه الميت ، مع أنهم قد خصصوا تلك الأدلة بهذه الروايات ، ومن ذلك من عقد على امرأة ، ومات في مرضه قبل الدخول بها ، فان مقتضى الأصول من الآيات والروايات أنها ترثه ، لأنها زوجة بلا خلاف ، مع أن صحيح زرارة (1) قد دل على المنع من ذلك ، فقالوا بمضمونه وخصصوا به تلك الأدلة ، وهي رواية واحدة ، وان كانت صحيحة كما هو في الموضع الثاني من هذين الموضعين.

ومن ذلك ما إذا طلق الرجل امرأة في مرضه الذي مات فيه ، فإنها ترثه إلى سنة ، وان خرجت من العدة أو كان الطلاق بائنا ما لم يبرأ من مرضه ، أو تتزوج فإن مقتضى الأصول كتابا وسنة ، أنها بعد الخروج من العدة أو كون الطلاق بائنا تكون أجنبية لا سبب ولا نسب بينها وبينه ، فكيف ترثه مع ان الرواية (2) قد دلت على الإرث كما عرفت ، وقالوا بمضمونها مع أنها أشد شي‌ء في الخروج عن قواعد المذهب.

ومن ذلك أخبار التخيير في المواضع الأربعة ، فإن مقتضى الأصول من الآيات والروايات وجوب التقصير على المسافر كائنا ما كان ، مع أنهم قد خصصوا بهذه الأخبار ، ولهذا صارت أخبار هذه المسئلة مثل أخبار الحبوة من خواص مذهب الشيعة الى غير ذلك من المواضع ، وهؤلاء الأفاضل من جملة من قال بما ذكرناه في هذه المسائل ، ولم ينكر ذلك كما أنكره هنا ، والجميع كما عرفت من باب واحد.

وبذلك يظهر لك ضعف ما ذهب اليه ابن إدريس ومن تبعه ، وموضع الخلاف فيما إذا تعمد ذلك كما هو صريح الصحيحة المتقدمة ، وكذا كلام الأصحاب ،

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 123 ح 12.

(2) الكافي ج 7 ص 134 ح 5.

وهما في الوسائل ج 17 ص 537 ح 3 وص 533 ح 2.


فلو وقع ذلك عن خطأ أو سهو لم تمتنع وصيته إجماعا ، كما نقله في الروضة.

المقام الثالث : المشهور بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) أنه لا تصح الوصية بالولاية على الأطفال إلا من الأب أو الجد للأب خاصة ، وقال ابن الجنيد : الأب الرشيد أولى بأمر ولده الأطفال من كل أحد ، وكذا الأم الرشيدة بعده ، وهو ظاهر في أن لها الولاية كالأب إذا كانت رشيدة ، ورده الأصحاب بالضعف والشذوذ.

قال في المسالك : لما كانت الولاية على الغير من الأحكام المخالفة للأصل ، إذ الأصل عدم جواز تصرف الإنسان في مال غيره بغير اذنه أو ما في معناه ، وجب الاقتصار في نصب الولي على الأطفال على محل النص أو الوفاق ، وهو نصب الأب أو الجد له ، فلا يجوز للحاكم وان كان وليا عليهم ، ان ينصب بعده عليهم وليا ، لأن ولايته مقصورة عليه حيا ، فإذا مات ارتفع حكمه ، وان جاز له أن يوكل حيا عليهم ، لأن له الولاية حينئذ ، ويشمل إطلاق المنع من تولية غيرهما الوصي من أحدهما ، فليس له أن يوصى عليهم بالولاية مع عدم نصهما على ذلك على أصح القولين ، وسيأتي ان شاء الله تعالى ، أما مع النص فتولية الوصي في معنى تولية أحدهما ، لصدوره عن اذنه كما جازت ولاية الوصي ابتداء عنهما.

ثم أنه بعد ذلك أشار الى خلاف ابن الجنيد الذي قدمنا ذكره ، حيث ان المصنف أفرده بالذكر ، فقال : ولا ولاية للأم ، ولا يصح منها الوصية عليهم ، فقال الشارح : وانما خص الأم بالذكر بعد دخولها في السابق لإثبات ابن الجنيد (رحمة الله عليه) الولاية لها مع رشدها بعد الأب ، وهو شاذ.

أقول : ومما فرعوا على الكلام المتقدم وهو أن الولاية على الصغار مخصوصة بالأب والجد له وان علا ، دون غيرهما ما لو أوصت الأم أو أحد الأقارب لطفل بمال ونصب قيما يصرف المال على الطفل المذكور في مصالحه وما يحتاج إليه ، فإن للأب أو الجد انتزاعه عن ذلك القيم ، بمعنى أن الوصية بالمال صحيحة ، ولكن نصب القيم باطل ، لأن ولاية الأب والجد شرعية ، فلا يعارضها وصية ذلك الوصي.


قال في الدروس : ولا ولاية للأم على الأطفال ، فلو نصبت عليهم وليا لغى ، ولو أوصت لهم بمال ، ونصبت عليه قيما لهم صح في المال خاصة ، ثم نقل قول ابن الجنيد ، وسيأتي ان شاء الله تعالى ما يزيد المقام تحقيقا.

المقصد الثالث في الموصى به :

وفيه مسائل الأولى : الموصى به قد يكون جنسا ، وقد يكون منفعة موجودا بالفعل ، كالولد والثمرة الموجودة في الحال ، أو مظنون الوجود كالحمل ، أو مشكوك فيه كالآبق ، والطير في الهواء والسمك في الماء ، أو موجودا بالقوة كما تحمله الأمة أو الدابة أو الشجرة ، أو موجودا على التدريج كسكنى الدار ، فإن الوصية بجميع ذلك نافذة عند الأصحاب ، كما صرح به في الدروس.

وكيف كان فإنه يعتبر فيهما الملك بالنظر الى الموصي والموصي له ، فلا تصح الوصية بالخمر أو الخنزير ، ولا كلب الهراش ولا الحر ، ولا الحشرات ولا الفضلات ، لعدم المملوكية في الجميع بالنسبة إلى المسلم ، وان جاز إقرار الكافر على وصيته بالخمر والخنزير لمثله ، وكذا لا تصح الوصية بما لا ينتفع به كحبة من حنطة ونحوها.

قيل : واحترز بكلب الهراش عن الكلاب الأربعة والجرو القابل للتعليم ، فتصح الوصية بها ، لكونها مملوكة ، لها قيمة ومنفعة كما ذكره جملة من الأصحاب كالشهيدين وغيرهما.

أقول : قد تقدم في كتاب التجارة تحقيق الكلام في هذا المقام (1) ، وقد أوضحنا أنه لا يجوز البيع ولا التملك بشي‌ء من أفراد الكلاب إلا كلب الصيد خاصة ، كما هو أحد الأقوال في المسئلة ، وأما ما عداه فلا دليل عليه من الأخبار ، إلا أنهم ألحقوا به هذه الكلاب الباقية لعلة المشاركة في الانتفاع ، وفيه ما لا يخفى.

__________________

(1) ج 18 ص 79.


واما السباع فالظاهر جواز الوصية بها ، لحصول الانتفاع بجلودها وريشها ، والمراد بما لا ينتفع به يعنى نفعا معتدا به في نظر العقلاء بحيث يكون متمولا فلا تصح الوصية بحبة من حنطة ونحوها ، كما لا يصح بيعه ولا المعاوضة به ، وفي ذكر قيد الانتفاع بعد الملك الراجع الى تقييد الملك بذلك إشارة الى ما هو الظاهر من كون نحو الحبة من الحنطة مملوكا حتى لا يجوز غصبها من المالك ، وان لم تجز المعاوضة عليها ، لعدم التمول.

الثانية : المشهور أنه يتقدر الموصى به بقدر ثلث التركة فما دون ، فلو أوصى بما زاد بطل في الزائد إلا مع اجازة الوارث.

ونقل العلامة في المختلف ومن تأخر عنه عن الشيخ علي بن بابويه نفوذ الوصية من الأصل مطلقا ، قال في المختلف : وقال علي بن بابويه (رحمة الله عليه) : فان أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية ، فإن أوصى بماله كله فهو أعلم وما فعله ، ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما أوصى ، انتهى.

أقول : أما ما ذكروه (رضي‌الله‌عنهم) من التقدير بالثلث ، فهو مدلول جملة من الأخبار.

ومنها ما رواه في التهذيب عن علي بن عقبة (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام «قال : سألته عن رجل حضره الموت فأعتق مملوكا له ليس له غيره ، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك ، كيف القضاء فيه؟ قال : ما يعتق منه إلا ثلثه ، وسائر ذلك ، الورثة أحق بذلك ، ولهم ما بقي».

وعن محمد بن مسلم (2) «عن أبى جعفر عليه‌السلام في رجل أوصى بأكثر من الثلث وأعتق مملوكه في مرضه فقال : ان كان أكثر من الثلث رد الى الثلث وجاز العتق».

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 194 ح 781.

(2) التهذيب ج 9 ص 219 ح 859.

وهما في الوسائل ج 13 ص 365 ح 4 وص 459 ح 4


وعن السكوني (1) «عن جعفر عن أبيه عن علي عليه‌السلام قال : ان رجلا أعتق عبدا له عند موته لم يكن له مال غيره ، قال : سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : يستسعى في ثلثي قيمته للورثة».

وعن الحسين بن محمد الرازي (2) قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام الرجل يموت فيوصي بماله كله في أبواب البر ، وبأكثر من الثلث هل يجوز ذلك له؟ وكيف يصنع الوصي؟ فكتب عليه‌السلام تجاز وصيته ما لم يتعد الثلث».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبى بصير (3) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان أعتق رجل عند موته خادما له ثم أوصى بوصية أخرى ألغيت الوصية ، وأعتق الخادم من ثلثه ، إلا أن يفضل من الثلث ما يبلغ الوصية».

وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن حمران (4) «عن أبى جعفر عليه‌السلام في رجل أوصى عند موته وقال أعتق فلانا وفلانا وفلانا حتى ذكر خمسة ، فنظرت في ثلثه فلم يبلغ أثمان قيمة المماليك الخمسة التي أمر بعتقهم ، قال : ينظر الى الذين سماهم ويبدأ بعتقهم فيقومون وينظر الى ثلثه فيعتق منه أول شي‌ء ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس وان عجز الثلث كان ذلك في الذي سمي أخيرا لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك فلا يجوز له ذلك». وفي هذا الخبر كما ترى تصريح بأنه لا يملك في الوصية زيادة عن الثلث فمن أجل ذلك تبطل الوصية في الزائد.

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن أحمد بن محمد بن عيسى عن العباس بن معروف (5) قال : «كان لمحمد بن الحسن بن أبى خالد غلام لم يكن به بأس

__________________

(1) التهذيب ج 8 ص 229 ح 828.

(2) التهذيب ج 9 ص 195 ح 784.

(3) التهذيب ج 9 ص 197 ح 786 ، الكافي ج 7 ص 17 ح 2.

(4) التهذيب ج 9 ص 197 ح 788 ، الكافي ج 7 ص 19 ح 15 ، الفقيه ج 4 ص 157 ح 545.

(5) التهذيب ج 9 ص 198 ح 790.

وهذه الروايات في الوسائل ج 16 ص 76 ح 5 وج 13 ص 365 ح 5 وص 458 ح 3 وص 457 ح 1 وص 366 ح 7.


عارف يقال له ميمون ، فحضره الموت فأوصى الى أبى الفضل العباس بن معروف بجميع ميراثه وتركته أن أجعله دراهم وأبعث بها الى أبى جعفر الثاني عليه‌السلام وترك أهلا حاملا واخوة قد دخلوا في الإسلام ، وأما مجوسية ، قال : ففعلت ما أوصى به وجمعت الدراهم ، ودفعتها الى محمد بن الحسن ، وعزم رأيي أن أكتب اليه بتفسير ما أوصى به الى ، وما ترك الميت من الورثة ، فأشار الى محمد بن بشير وغيره من أصحابنا أن لا أكتب بالتفسير ولا أحتاج اليه ، فإنه يعرف ذلك من غير تفسيري ، فأبيت إلا أن أكتب اليه بذلك على حقه وصدقه ، فكتبت وحصلت الدراهم وأوصلتها إليه عليه‌السلام فأمره أن يعزل منها الثلث ، يدفعها اليه ، ويرد الباقي على وصية يردها على ورثته».

وما رواه في التهذيب عن العباس بن معروف (1) قال : «مات غلام محمد بن الحسن وترك أختا وأوصى بجميع ماله له عليه‌السلام قال : فبعنا متاعه فبلغ ألف درهم وحمل الى أبى جعفر عليه‌السلام» قال : وكتبت اليه وأعلمته أنه أوصى بجميع ماله له ، قال : فأخذ ثلث ما بعثت به اليه ، ورد الباقي وأمرني أن أدفعه الى وارثه».

وعن العباس عن بعض أصحابنا (2) قال : «كتبت اليه : جعلت فداك أن امرأة أوصت الى امرأة ودفعت إليها خمسمائة درهم ، ولها زوج وولد فأوصتها أن تدفع سهما منها الى بعض بناتها ، وتصرف الباقي الى الامام فكتب عليه‌السلام : تصرف الثلث من ذلك الي ، والباقي يقسم على سهام الله عزوجل بين الورثة» ، الى غير ذلك من الأخبار.

وأما أنه مع اجازة الورثة تجوز الوصية بالزيادة على الثلث ، فتدل عليه أيضا جملة من الأخبار منها ما رواه الشيخ عن ابن رباط عن منصور بن حازم (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى بوصية أكثر من الثلث وورثته

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 242 ح 937 و 938.

(3) التهذيب ج 9 ص 193 ح 776.

وهما الروايات في الوسائل ج 13 ص 366 ح 8 و 9 وص 372 ح 2


شهود ، فأجازوا ذلك له ، قال : جائز قال ابن رباط وهذا عندي على أنهم رضوا بذلك في حياته وأقروا به».

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أوصى بوصية وورثته شهود ، فأجازوا ذلك ، فلما مات الرجل نقضوا الوصية ، هل لهم أن يردوا ما أقروا به؟ قال : ليس لهم ذلك ، الوصية جائزة عليهم إذا أقروا بها في حياته».

وما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مضاجعهم) في الصحيح عن منصور بن حازم (2) عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله.

وما رواه المشايخ المذكورون عن أحمد بن عيسى (3) قال : «كتب أحمد بن إسحاق الى ابى الحسن عليه‌السلام ان درة بنت مقاتل توفيت وتركت ضيعة أشقاصا في موضع وأوصت لسيدها في أشقاصها بما يبلغ أكثر من الثلث ، ونحن أوصيائها وأحببنا أن ننهى ذلك إلى سيدنا ، فإن أمر بإمضاء الوصية على وجهها أمضيناها وان أمر بغير ذلك انتهينا إلى أمره في جميع ما يأمر به ان شاء الله تعالى ، فكتب عليه‌السلام بخطه : ليس يجب لها من تركتها إلا الثلث فان تفضلتم وكنتم الورثة كان جائزا لكم ان شاء الله تعالى».

وما نقل عن الشيخ علي بن الحسين بن بابويه ، فإن العلامة في المختلف قد نقل عنه أنه احتج على ذلك برواية عمار الساباطي (4) «عن الصادق عليه‌السلام قال : الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح ، ان أوصى به كله فهو جائز له».

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 193 ح 775 و 776، الفقيه ج 4 ص 147 ح 512 وص 148 ح 513، الكافي ج 7 ص 12 ح 1.

(3) التهذيب ج 9 ص 192 ح 772 ، الفقيه ج 4 ص 137 ح 480 ، الكافي ج 7 ص 10 ح 2. الوسائل ج 13 ص 364 ح 1.

(4) التهذيب ج 9 ص 186 ح 1. الوسائل ج 13 ص 370 ح 19.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 371 ح 1 وص 364 ح 1 وص 370 ح 19.


ثم قال في المختلف : والرواية ضعيفة ، والمطلوب مستبعد ، والأحاديث الصحيحة معارضة لهذه الرواية ، مع أن الشيخ تأولها على من لا وارث له ، أو على ما إذا أجاز الورثة ، ومع ذلك فهي قاصرة عن افادة المطلوب ، فانا نقول بموجبها فان المريض أحق بماله ما دام فيه الروح يفعل به ما يشاء في حياته ، وإذا أوصى به كله جاز ، فإن أجاز الورثة بعد ما أوصى به ، وإلا فسخت الوصية في الثلثين ، وقد روى ابنه في المقنع (1) «أن الصادق عليه‌السلام سئل عن رجل أوصى بماله في سبيل الله عزوجل ، فقال : أطلقه الى من أوصى له به ، وان كان يهوديا أو نصرانيا فان الله عزوجل (2) يقول «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». ثم قال عقيب هذه الرواية ، ماله هو الثلث ، لأنه لا مال للميت أكثر من الثلث» ، انتهى.

أقول : لا يخفى على من وقف على ما قدمناه في كتب العبادات في مواضع عديدة من أن الشيخ علي بن بابويه (قدس‌سره) أكثر ما نذكره سيما من الفتوى الغريبة انما هو مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي ، وان كان على خلاف ما تكاثرت به الأخبار ، وهذا الموضع من جملة ذلك ، فان عبارته المذكورة عين عبارة الكتاب حيث قال عليه‌السلام في الكتاب المذكور (3) «فإن أوصى رجل بربع ماله فهو أحب الي من ان اوصى بالثلث ،

فإن أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية ، فإن أوصى بماله كله فهو أعلم بما فعله ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما اوصى به» ، انتهى.

وأنت خبير ـ بأن اعتماد هذا الشيخ الجليل على الفتوى بعبائر الكتاب مع مخالفتها للأخبار الكثيرة كما هنا ، وقد تقدم أمثاله أيضا في غير موضع ـ أدل دليل على اعتماده على الكتاب المذكور ، وجزمه بأنه كلامه عليه‌السلام ، ولكن متأخري

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 524 الباب 31 ح 3.

(2) سورة البقرة ـ الاية 181.

(3) المستدرك ج 2 نقل صدره في ص 519 في باب 8 ح 2 وذيله في ص 520 في باب 9 ح 6.


أصحابنا (رضوان الله عليهم) حيث لم يصل الكتاب إليهم تكلفوا للاستدلال له ببعض الأخبار ، واعترضوا عليها كما هنا بعدم الدلالة أو بنحو ذلك ، وهو غفلة عما ذكرناه مما وفقنا الله اليه ، ويسر لنا الوقوف عليه.

تنبيهات :

الأول : قالوا لو كانت الورثة جماعة فأجاز بعضهم نفذت الإجازة في نصيبه من الزائد ، قيل : والوجه فيه أن الوصية لما كانت وما تقبل التبعض ، لكونها تبرعا محضا وكان الزائد عن الثلث منها موقوفا على اجازة الوارث جاز له اجازة البعض كما تجوز له اجازة الجميع ، لأن ذلك حقه ، فله التبرع بجملته وبعضه ، وكما يجوز ذلك لبعض الورثة دون بعض ويلزم كل واحد جملة ، كذلك يجوز اجازة البعض منهم جميعا ، كالنصف والثلث ، ويتقدر بالقدر المجاز ، دون ما عداه.

قالوا : فلو فرض كون الوارث ابنا وبنتا ، وأوصى بنصف ماله فإن أجازا معا فالمسئلة من ستة ، لأن لهما نصف التركة أثلاثا بينهما ، وللموصى له نصفها ، وان رد الوصية معا فالمسئلة من تسعة ، لأن لهما ثلثي التركة أثلاثا بينهما ، وهي ستة من تسعة ، ثلاثة للموصى له ، لأنها ثلث التركة ، وان أجاز أحدهما فالمسئلة من ثمانية عشر ، فللموصى له من حيث الوصية وعدم الإجازة ، الثلث ستة ، ولهما ميراثا من ذلك اثنى عشر أثلاثا بينهما ، فمن أجاز منهما دفع من نصيبه ما وصل اليه من السدس الزائد ، فلو أجازه الابن خاصة ، كان له ستة من الثمانية عشر لأنه قد سقط منه اثنان بالإجازة ، وقد كانت حصته ثمانية ، فيدفع منها الى الموصى إليه سهمان ، وتبقى له ستة ، ولو أجازت البنت خاصة كان لها ثلاث من ثمانية عشر ، لأن الذي لها قبل الإجازة أربعة ، فتدفع منها الواحد بالإجازة منهما للموصى اليه ، ومنه يعلم انه لو أجازا معا فللموصى إليه زيادة على الستة التي تثبت بالوصية ثلاثة ، سهمان من الولد وسهم من البنت فيكون للموصى له تسعة ، وهي نصف الفريضة ، وللولد ستة ، وللبنت ثلاثة ، وعلى هذا فقس.


الثاني : المشهور بين الأصحاب (رحمهم‌الله) أن اجازة الوارث لازمة له سواء كانت في حال حياة الموصي أم بعد موته ، ونقل عن الشيخ المفيد وسلار وابن إدريس اختصاص اللزوم بما بعد الوفاة ، فلو أجاز في حال الحياة جاز له الرجوع عنها بعد الوفاة ، ويدل على القول المشهور ما تقدم من صحيحة محمد بن مسلم (1) ، وبطريق آخر منصور بن حازم ، وهي صحيحة صريحة في أنهم لو أجازوا في حال الحياة لزمهم ذلك ، وليس لهم أن ينقضوا ذلك بعد الوفاة.

واستدل عليه في المختلف أيضا بجملة من الأدلة الاعتبارية ، وبعضها يصلح وجها للنص المذكور ، وبيان العلة فيه ، وبعضها يصلح للتأكيد.

ونقل المختلف عن ابن إدريس بأنه احتج بأنه أجازه فيما لا يستحقونه بعد فلا يلزمهم ذلك بحال ، ورد بأن المال الموصى به لا يخرج عن ملك الموصى أو الورثة ، لأنه إن برأ من مرضه فالمال له ، وان مات كان للورثة ، فإن كان للموصي فإنه قد أوصى ، وان كان للورثة فإنهم قد أجازوا ، ولأن المنع من نفوذ الزائد عن الثلث انما هو لحق الورثة ، فهو متحقق في حال الحياة ، فإذا أجازوا فقد أسقطوا حقهم.

وبالجملة فإنه مع قطع النظر عما ذكرناه من الجواب ، لا وجه لهذا الاحتجاج في مقابلة النص الصحيح الصريح ، وهل هو إلا الاجتهاد المحض في مقابلة النصوص وجرأة على أهل الخصوص.

قال في المسالك : ولا فرق على ذلك بين كون الوصية والإجازة حال صحة الموصي ومرضه المتصل بالموت وغيره ، لاشتراك الجميع في المقتضي ، والفرق بين اجازة الوارث حال الحياة ورده حيث لم يؤثر الثاني دون الأول ، أن الوصية مستمرة ببقاء الموصى عليها ، فيكون استدامتها كابتدائها بعد الرد ، فلا يؤثر ، بخلاف الرد بعد الموت ، لانقطاعه حينئذ ، وبخلاف الإجازة حال الحياة ، لأنها حق للوارث

__________________

(1) ص 421.


وقد أسقطه فلا جهة لاستمراره ، ودوام الوصية يؤكدها ، انتهى.

أقول : قوله «والفرق بين اجازه الوارث الى آخره» كأنه جواب سؤال مقدر من جانب ابن إدريس ، وما استدل به ، وتقريره أنه في تلك الحال التي أوصى الموصى وهي حال حياته كما أنه لا يصح فيها رد الورثة للوصية ، فكذا لا تصح فيها إجازتهم ، فأجاب بالفرق المذكور بين الرد في تلك الحال والإجازة ، فإن الوصية مستمرة ببقاء الموصى عليها ، والاستمرار يجرى مجرى تعددها حالا فحالا فلو فرض الرد في أثناء هذه ، فان ما بعده في حكم تجدد عقد آخر من حيث اقتضاء الاستمرار ذلك ، فلا تأثير للرد حينئذ في تلك الحال ، بخلاف الرد بعد الموت ، لانقطاع الاستمرار بالموت فيؤثر ، وبخلاف الإجازة حال الحياة ، لأن الإجازة حق له ، وقد أسقطه فلا وجه لاستمراره ، وأنت خبير بأن الأصل في ذلك النص ، وهذه تصلح وجوها له كما تقدم ، والله العالم.

الثالث : المفهوم من كلام الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) من غير خلاف يعرف أن اجازة الوارث للوصية بما زاد عن الثلث بعد الموت تنفيذ ، لما أوصى به الموصي ، لا بابتداء عطية من الوارث ، باعتبار انتقال الحق إليه بالموت ، أما قبل الموت فلا إشكال في ذلك ، لأن الوارث لا يملك ، فلا يمكن احتمال العطية منه ، وانما محل الكلام بعد الموت ، لما عرفت من انتقال الحق إلى الوارث بالموت ، والأصحاب كما ذكرنا ، على أنه تنفيذ لا عطية ، قال في المسالك وهو مذهب الأصحاب ، لا يتحقق فيه خلاف بينهم ، وانما يذكر الآخر وجها أو احتمالا ، وانما هو قول العامة والمرجح عندهم ما اخترناه أيضا ، انتهى.

وعلل القول المشهور بأن الملك باق على المريض لم يخرج عنه بمرضه ، فيصح تصرفه فيه لمصادفته الملك ، وحق الوارث إنما يثبت في ثاني الحال فأشبه بيع شقص الشفيع وارث الخيار ، حيث تترتب عليه اجازة المبيع ، فإنه لا يكون ابتداء بيع ، بل تنفيذ لما فعل سابقا ، وأيضا فإن الوارث ليس بمالك ، وثبوت حق


الإجازة له لا يقتضي الملك ، لأن الحق أعم منه ، فتصرف الموصي في حكمه ، واجازة الوارث في معنى إسقاط حقه ، ولأنه لو برأ من مرضه نفذت تصرفاته المنجزة مع كونها كانت متوقفة على اجازة الوارث كالوصية ، ولم يفتقر الى الاستيناف فدل على اعتبار ما وقع من الموصي لا على فساده ، وبهذا ترجح كونها تنفيذا ، ومما علل به الاحتمال الآخر ، انتقال الحق إلى الوارث بالموت ، وزوال ملك الموصي ، وأن تصرف الموصي في الزائد عن الثلث منهي عنه ، والنهي يقتضي الفساد ، لأن الزيادة حق الورثة فيلغو تصرف الموصي فيها ، وتكون العطية من الوارث.

وأجاب عن ذلك في المسالك بالمنع من كون التلفظ بالوصية منهيا عنه ، وكون النهي في ذلك يقتضي الفساد ، ولو سلم فإنما يقتضيه لو لم يخسر الوارث ونمنع من كون الزيادة حقا للورثة ، بل هي ملك الموصي ، غايته أن حقهم قد تعلق بها ، ومع الإجازة تسقط كإجازة المرتهن تصرف الراهن ، انتهى.

أقول : لا يخفى عليك ما في هذه التعليلات العليلة من الطرفين ، من عدم الصلوح لتأسيس الأحكام الشرعية في البين ، إلا أن ما علل به الاحتمال المذكور وان كان خلاف ما عليه الجمهور هو الأقرب الى الأخبار ، والأنسب بالاعتبار.

ومما يدل على ما ادعاه من زوال ملك الموصي عن الزائد ، وأن تصرفه منهي عنه ، قوله عليه‌السلام في رواية حمران المتقدمة» لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك ، فلا يجوز له ذلك» ومما يؤيد ذلك أيضا قوله عليه‌السلام في مكاتبة أحمد بن إسحاق المتضمنة للإجازة بعد الموت «فان تفضلتم وكنتم الورثة كان جائزا لكم» والمراد الإجازة لما زاد على الثلث ، فان فيه نوع إشارة الى أن ذلك عطية منهم للموصى له ، وتفضل منهم عليه ، ويحتمل أن يكون ذلك بالنسبة الى الموصي بإجازة وصيته ، فيكون التفضل عليه.

وبالجملة فإن الأقرب الى الاعتبار والأنسب بالأخبار ، هو ما علل به الاحتمال المذكور ، وجميع ما أجيب به عنه وما علل به القول المشهور لا يخلو من القصور ،


إلا أنه لا ثمرة مهمة في التشاغل برده وبيان ما فيه ، وقد ذكروا أيضا جملة من الفروع المترتبة على القولين ، أكثرها لا يخلو من مناقشة في المبنى ، طويناها على عزها ، وأعرضنا عن ذكرها ، ونشرها ، من أرادها فليرجع الى مطولاتهم (رضوان الله عليهم).

الرابع : قد صرحوا بأن المعتبر من الثلث وقت الوفاة ، لا وقت الوصية ، فلو كان موسرا حال الوصية ثم افتقر وقت الموت ، أو بالعكس ، كان الاعتبار بحال الموت في كل من الصورتين ، قالوا : ولا إشكال في ذلك فيما لو كان الموصى به قدرا معينا كعين معينة ، أو مائة درهم مثلا أو جزءا من التركة مع كونه حال الموت ، أقل منه حال الوصية ، وانما الإشكال فيما لو أوصى بجزء من التركة كالربع أو الخمس أو الثلث ، وكان في وقت الوصية فقيرا ثم أيسر وقت الموت ، فصار ذلك الجزء الموصى به مالا كثيرا ، ربما دلت القرائن على عدم إرادته ، حيث لا تكون الزيادة متوقعة غالبا.

أقول : والظاهر عندي ضعف هذا الاشكال ، وأنه بمحل من الاضمحلال ، فان مقتضى إطلاق الوصية دخول هذا الفرد ، وهذه الكثرة التي ربما يتوهم عدم انصراف الإطلاق إليها معلومة للموصي وقت الوفاة والاعتبار كما عرفت ، إنما هو بوقت الوفاة ، فعدم العدول عن الوصية السابقة على ذلك مع علمه ومعرفته بهذه الكثرة ، يقتضي العمل بإطلاق الوصية ، ودخول هذا الفرد فيها ، والله العالم.

الخامس : الظاهر أنه لا خلاف في دخول الدية وأرش الجناية في الوصية لو أوصى ثم قتله قاتل أو جرحه ، فان وصيته ماضية من ثلث التركة ، وثلث الدية ، وأرش الجناية ، وتدل على ذلك جملة من الأخبار.

منها ما رواه في الكافي والفقيه عن محمد بن قيس (1) في الصحيح «عن

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 63 ح 21 ، التهذيب ج 9 ص 207 ح 822 ، الفقيه ج 4 ص 168 ح 588 ، الوسائل ج 13 ص 372 ح 1.


أبى جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : رجل أوصى لرجل بوصية من ماله ثلث أو ربع ، فقتل الرجل خطأ يعنى الموصي فقال : تجاز لهذا الوصية من ميراثه ومن ديته». وفي الفقيه وفي خبر آخر «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى بثلث ماله ، ثم قتل خطأ فقال : ثلث ديته داخل في وصيته».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس (1) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أوصى لرجل بوصية مقطوعة غير مسماة من ماله ثلثا أو ربعا أو أقل من ذلك أو أكثر ، ثم قتل الموصى بعد ذلك فودى فقضى في وصيته : أنها تنفذ من ماله ومن ديته كما أوصى».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن السكوني (2) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام من أوصى بثلثه ثم قتل خطأ ، فثلث ديته داخل في وصيته».

وربما أشكل الحكم المتقدم بأن المعتبر من الثلث ما كان وقت الوفاة بما ذكر هنا من دخول ثلث الدية في الوصية ، مع أن استحقاق الدية إنما يثبت بالموت ، فهي متأخرة عن الموت ، ويمكن الجواب عن ذلك بأن الحكم المذكور أولا انما هو من كلام الأصحاب ، ومرادهم انما هو المنع من الاعتبار بحال الوصية ، بل العبرة بالموت ، يعنى حصول الثلث حال الموت ، والدية وان كانت لا تستقر إلا بعد الوفاة فهي في الحقيقة متأخرة عنها ، إلا أنها مقارنة للموت ، فلا ينافي ما اعتبروه من وقت الوفاة ، لصدق الإطلاق عرفا على هذا الوقت أنه وقت الموت ، وكيف كان فالعمل على ما دلت عليه النصوص المذكورة.

بقي الكلام في أن مورد هذه الروايات الدية في قتل الخطأ ، فإنه هو موجب للدية خاصة ، مع تصريح الأخبار به ، فدية الخطأ هي التي تدخل في

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 207 ح 823. الوسائل ج 13 ص 373 ح 3.

(2) الكافي ج 7 ص 11 ح 7 ، التهذيب ج 9 ص 207 ح 821 ، الفقيه ج 4 ص 169 ح 589. الوسائل ج 13 ص 372 ح 2.


الوصية ، ويؤخذ منها الثلث ، وأما الدية المأخوذة في العمد فهل تدخل في ذلك أم لا؟ اشكال ، سواء قلنا بأن العمد موجب لأحد الأمرين ، القصاص أو الدية ، أو أن الدية انما تثبت صلحا ، والصلح لا يتقيد بالدية ، بل يصلح بزيادة منها ونقصان ، فيكون القول بذلك أبعد ، وظاهر الأصحاب القول بدخولها ، قال في القواعد : ولو قتل خطأ أو استحق أرشا خرجت الوصية من ثلث تركته وثلث ديته وأرشه ، وكذا العمد إذا تراضوا بالدية.

وقال في المسالك ـ بعد قول المصنف «ان وصيته ماضية من ثلث تركته وديته وأرش جراحته» ما صورته : ويظهر من قوله عليه‌السلام «وديته» أن الحكم مخصوص بقتل الخطإ ، لأنه هو الموجب للدية على الإطلاق ، وأما العمد فان قيل :

انه يوجب أحد الأمرين القصاص أو الدية دخل في العبارة ، لأن الدية أحد الأمرين المترتبين على الوفاة المستندة إلى القتل ، فكانت الدية مقارنة للوفاة كالخطإ وان كان لها بدل ، وأما على قول المشهور ، من أن موجب العمد هو القصاص ، وانما تثبت الدية صلحا ، والصلح لا يتقيد بالدية ، بل يصلح بزيادة عنها ونقصان ففي دخوله في العبارة تكلف ، وقد يندفع بأنه حينئذ عوض القصاص الذي هو موروث عن المجني عليه ، وعوض الموروث موروث ، وربما أشكل من وجه آخر وهو أن الموروث انما هو القصاص وليس بمال ، فلا يتعلق به الحق المالي المترتب على مال الميت ، ويندفع بأنه بقبوله المعاوضة بالصلح على مال في قوة الحق المالي وزيادة ، انتهى.

أقول : الواجب هو تحقيق الحكم الشرعي في ذلك ، وأنه هل تدخل دية العمد في هذا الحكم أم لا؟ سواء دخلت في عبارة المصنف أم لا ، وتطويل هذا الكلام في تكلف دخولها تحت عبارة المصنف لا يجدى نفعا ، إلا مع قيام دليل على هذه القاعدة التي بنوا عليها ، وهو أن المعتبر من الثلث ما كان مالا للميت حال الوفاة ، دون ما تقدم عليها وما تأخر عنها ، مع انهم لم يستندوا فيه الى دليل ،


والروايات الواردة في المسئلة كما عرفت موردها انما هو دية الخطأ لتصريحها بذلك ، ودية العمد سيما على القول المشهور من أنه لا ينتقل إلى الدية إلا بطريق الصلح الذي هو عبارة عن التراضي بمال زاد ، عن الدية أو نقص عنها مما هو خارج عن مقتضى قاعدتهم المذكورة ، إذ الظاهر أن هذا الصلح وما يترتب عليه متأخر عن وقت الوفاة البتة ، فلا يصدق عليه أنه مال الميت ، وقت الوفاة ، وقد صرح في الدروس بعدم اعتبار ما يتجدد بعد الوفاة ، وهذا الصلح وما يترتب عليه انما تجدد بعد الوفاة ، وإدخالها بهذه التكلفات التي ارتكبها وذكرها (قدس‌سره) ظاهر الضعف ، بل البطلان ، سيما مع ما عرفت من أن إثبات الأحكام الشرعية بهذه التخريجات الوهمية مما لا ينبغي النظر اليه ، ولا العروج عليه ، هذا بناء على قاعدتهم ، وأما بالنظر الى الأخبار فقد عرفت اختصاص موردها بدية الخطأ ، ونحوها الأرش ، إلا أنه قد ورد في جملة من الأخبار ما يدل على أنه يجب وفاء الدين من الدية ، وان أخذت صلحا ، كما

في رواية عبد الحميدين سعيد (1) قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا وأخذ أهله الدية من ماله ، أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال : نعم ، قلت : وهو لم يترك شيئا ، قال : إنما إذا أخذوا الدية ، فعليهم أن يقضوا الدين».

ورواية يحيى الأزرق (2) «عن أبى الحسن عليه‌السلام في رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا فيأخذ أهله الدية من قاتله ، عليهم أن يقضوا دينه؟ قال : نعم ، قلت : وهو لم يترك شيئا؟ قال : إنما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه».

وفي رواية أبي بصير (3) «عن أبى الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قلت : فان

__________________

(1) التهذيب ج 6 ص 192 ح 416 ، الوسائل ج 13 ص 111 ح 1.

(2) التهذيب ج 9 ص 167 ح 584. الوسائل ج 13 ص 111 ح 1.

(3) الفقيه ج 4 ص 83 ح 264 عن على بن أبي حمزة. الوسائل ج 13 ص 112 ح 2.


هو قتل عمدا وصالح أولياؤه قاتله على الدية ، فعلى من الدين؟ على أوليائه من الدية أو على امام المسلمين؟ فقال : بل يؤدوا دينه من ديته التي صالحوا عليها أولياؤه ، فإنه أحق بديته من غيره».

والأولان دلالتهما على المدعى من حيث الإطلاق ، والثالث صريح في ذلك ، ووجوب قضاء الدين منها انما هو من حيث كونها من جملة أمواله وان تأخر استحقاقها عن موته ، فكما يقضى منها ديونه ، تنفذ منها وصاياه ، ومن هنا صرح الأصحاب بأن الدية في حكم مال الميت ، سواء وجبت أصالة أو صلحا.

قال في المسالك : إذا قتل الشخص عمدا وعليه دين ، فإن أخذ الورثة الدية صرفت في ديون المقتول ووصاياه كغيرها من أمواله ، لما تقدم غير مرة من أن الدية في حكم مال الميت ، سواء وجبت أصالة أو صلحا الى آخر كلامه (زيد في إكرامه) ذكر ذلك في كتاب الديات ، وحينئذ يزول الإشكال بالنسبة إلى دخول دية العمد في الحكم المذكور.

وانما يبقى الاشكال فيما اعتبروه من اعتبار الثلث بوقت الوفاة ، مع أنه في صورة الصلح على القصاص بأخذ المال انما يكون متأخرا عن الوقت المذكور ، إلا أن ما ذكروه من الحكم المذكور انما هو من مجرد اصطلاحهم واتفاقهم ، وكيف كان فالعمل على ما دلت عليه الأخبار ، وافق كلامهم أم لا ، والله العالم.

المسئلة الثالثة : قد صرح الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) بأنه لو أوصى بالمضاربة بتركته أجمع أو بعضها على أن نصف الربح للوارث ، ونصفا للعامل صح ، وظاهر هذا الكلام إنما صحة الوصية بالمضاربة على الوجه المذكور ، أعم من أن يكون الورثة كلهم من البالغين المكلفين ، أو الأطفال أو المجانين ، أو من القسمين معا.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك ما رواه في الكافي عن محمد


بن مسلم (1) في الموثق «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن رجل أوصى الى رجل بولده وبمال لهم ، وأذن له عند الوصية أن يعمل بالمال وأن يكون بينه وبينهم ، فقال : لا بأس به من أجل أن أباه قد أذن له في ذلك وهو حي».

ورواه الشيخان الآخران أيضا عن خالد بن بكير الطويل (2) قال : «دعاني أبي حين حضرته الوفاة فقال يا بني : اقبض مال إخوتك الصغار واعمل به ، وخذ نصف الربح وأعطهم النصف ، وليس عليك ضمان ، فقدمتنى أم ولد أبي الى ابن أبي ليلى ، أن هذا يأكل أموال ولدي قال : فاقتصصت عليه ما أمرني به أبي فقال : ابن أبى ليلى ان كان أبوك أمرك بالباطل لم أجزه ، ثم أشهد علي ابن أبى ليلى إن أنا حركته فانا له ضامن ، فدخلت على أبى عبد الله عليه‌السلام فقصصت عليه قصتي ، ثم قلت له : ما ترى؟ فقال : اما قول ابن أبى ليلى فلا أستطيع رده ، وأما فيما بينك وبين الله عزوجل ، فليس عليك ضمان».

رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن الى خالد بن بكير المذكور وهو مجهول ، وصريح الرواية الثانية ، وظاهر الرواية الأولى كون المال المذكور للأطفال ، لأن ظاهر قوله في الأولى «أوصى الى رجل بولده وبمالهم» أي جعله قيما عليهم ووليا يقوم بتدبيرهم ، وهو ظاهر في كونهم صغارا كما لا يخفى ، ولأن الوصية بالبالغ غير صحيحة ، وإطلاق الوصية يحمل على الصحيحة ، وبذلك يظهر أن ما أطلقه الأصحاب لا يخلو من الإشكال ، الا أن يقال : ان يكون من قبيل العقد الفضولي ، فإن شاء الوارث البالغ أجازه ، وكان عليه الوفاء بمقتضاه من دفع الحصة إلى العامل ، ومع ذلك فهو عقد جائز له فسخه متى شاء ، لما تقدم من أن المضاربة من العقود الجائزة ، دون اللازمة ، وأما ان كان لمولى عليه ، فإنه

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 62 ح 19 ، الفقيه ج 4 ص 169 ح 590. الوسائل ج 13 ص 478 ح 1.

(2) التهذيب ج 9 ص 236 ح 919 ، الفقيه ج 4 ص 169 ح 591 ، الكافي ج 7 ص 61 ح 16. الوسائل ج 13 ص 478 ح 1.


لا إشكال في صحة المضاربة ، كما ينادى به قوله في موثقة محمد بن مسلم «لا بأس به ، من أجل أن أباه قد أذن له في ذلك وهو حي» ومرجعه الى أن الأب ولي جبرى فتمضى تصرفاته إذا لم تخرج عن الوجه الشرعي ، ويستمر الحكم بالصحة إلى بلوغ المولى عليه ، فإذا كمل كان له فسخ المضاربة ، لأنها عقد مبني على الجواز وتحديد الموصى لها بمدة لا ترفع حكمها الثابت لها بأصل الشرع وانما تظهر الفائدة في التحديد بمدة ، هو المنع من التصرف بعد تمام المدة ، لا التزام بها في تلك المدة مع كونها جائزة شرعا ، ولا يكون الفسخ بعد البلوغ تبديلا للوصية وتغييرا لها ، وهو منهي عنه ، لأن التبديل انما هو في العمل بخلاف مقتضاها ، وهنا ليس كذلك ، لأنه لما أوصى بعقد جائز فقد عرض العامل للفسخ في كل وقت ممكن ، عملا بمقتضاه ، فالفسخ لا يكون تبديلا للوصية.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما ذكرناه من الوصية بالمال كلا أو بعضا هو المشهور.

وقال ابن إدريس في كتابه : وقد روي أنه إذا أمر الموصي الوصي أن يتصرف في تركته لورثته ويتجر لهم بها ، ويأخذ نصف الربح ، كان ذلك جائزا وحلالا له نصف الربح ، أورد ذلك شيخنا في نهايته ، إلا أن الوصية لا تنفذ إلا في ثلث ما كان يملكه الميت قبل موته ، والربح تجدد بعد موته ، فكيف تنفذ وصيته ، وقوله فيه وفي الرواية نظر ، انتهى.

وظاهره تخصيص الوصية بالتصرف بالثلث فما دونه ، دون ما زاد على ذلك وأنت خبير بأنه على ما قلناه من اختصاص الروايتين بما إذا كان المال لمولى عليه كالأولاد الصغار ، فإنه ليس في العمل بالخبرين كثير مخالفة لمقتضى الأصول الذي طعن به ابن إدريس ومن تبعه ، فإن ولاية الأب على أطفاله والوصية بهم وبما ينبغي في أموالهم مما لهم فيه المصلحة غير منكور ولا ممنوع شرعا ، وغاية ما ربما يقال : حصول التعريض في مالهم للتلف وهو غير قادح ، لأن الواجب على العامل مراعاة الحفظ ، وما فيه مصلحة العمل بالمال حسب الإمكان.


ويؤيده ما ورد من جواز الاتجار به لليتيم من الولي رواية أبي الربيع (1) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون في يده مال لأخ له يتيم وهو وصيه أيصلح له أن يعمل به؟ قال : نعم كما يعمل بمال غيره ، والربح بينهما ، قال : قلت : فهل عليه ضمان؟ قال : لا إذا كان ناظرا له».

وبالجملة فإن المدار في العمل على الأخبار ، ولا يلتفت الى هذه الاستبعادات في مقابلتها ، ومع تسليم ما يدعونه من خروجها عن القواعد والأصول المقررة في باب الوصية ، فإنه يجب تخصيص تلك القواعد بها ، كما تقدم نظيره في غير مقام ، على أنه لا يخفى أن مورد الأخبار الدالة على أنه ليس للموصى أن يوصي بأزيد من الثلث وأنه يستحب أن يوصى بالأقل منه ، انما هو فيما إذا أوصى لنفسه أو غيره بشي‌ء من التركة ، واختص به عن الورثة بحيث أنه قد فات على الورثة ونقص من التركة ، كما علل به من أنه ليس له من ماله بعد الموت ، إلا الثلث.

وما نحن فيه هنا ليس من هذا القبيل ، فإنه لم يختص بشي‌ء من التركة ، ولم يأخذ منها شيئا ، وانما هذه الوصية بمصلحة ترجع إلى الورثة ليس له منها قليل ولا كثير ، وهذا المال الذي أوصى به سواء كان جميع التركة أو بعضها انما هو مال الورثة ، لم يخرج عن ملكهم بالوصية كما في غيره من الوصايا التي قاسوا عليها وقيدوها بالثلث ، بل هو باق على ملكهم ، وانما تعلقت الوصية بالتصرف فيه لأجل تحصيل مصلحة لهم ، وهو الانتفاع بالربح.

وقد عرفت أنه متى كانوا أطفالا ، فهو الولي عليهم ، والناظر في مصالحهم حيا وميتا ، وله بعد الموت الوصية بذلك ، وان كانوا بالغين فهذه الوصية لا تمضى عليهم ، فان شاؤا رضوا وان شاؤا أبوا وامتنعوا ، وأي منافاة في ذلك للقواعد المقررة عندهم.

__________________

(1) الوسائل ج 6 ص 58 ح 6.


المسئلة الرابعة الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن الواجب المالي أعم من أن يكون مشوبا بالبدن كالحج أم لا ، كالزكاة والكفارات والخمس ونذر المال ، يجب خروجه من الأصل ، أوصى به أو لم يوص ، لتعلقه بالمال حال الحياة.

أما الواجب البدني المحض كالصلاة والصوم فإنه إنما يخرج من الثلث إذا أوصى به ، فيكون حكمه عندهم حكم التبرعات الموقوف إخراجها على الوصية بها من الثلث ، وقيل بخروجه من الأصل كالواجب المالي من غير فرق ، والأخبار بوجوب إخراج الواجب المالي وان كان مشوبا بالبدن من الأصل متكاثرة ، قد تقدمت في كتاب الحج وكتاب الزكاة والخمس وكتاب الديون.

أما الواجب البدني فلم أقف فيه على نص بنفي ولا إثبات ، لكن الظاهر أن مبنى كلام الأصحاب في الفرق بين الأمرين ، هو أن الواجب المالي ـ وان كان مشوبا بالبدن في بعض الأفراد ـ ، لما كان متعلقا بالمال حال الحياة وجب إخراجه بعد الموت من المال ، وتخرج الأخبار المشار إليها شاهدا على ذلك.

وأما الواجب البدني فإنه لما كان متعلقة في حال الحياة إنما هو البدن ، وبعد الموت مع عدم الوصية به يتعلق الخطاب به بالولي ، فمع عدم الولي وعدم الوصية لا دليل على وجوب الإخراج ، كما ادعاه ذلك القائل المتقدم ، ولنا في هذا المقام تحقيقات حسنة ، قد تقدمت في كتاب الصلاة في المطلب الثاني في القضاء عن الأموات في الباب الرابع في اللواحق من الكتاب المذكور (1) وكذا في كتاب الحج في المسئلة الثانية من المقصد الثاني في حج النذر (2) وقد تضمنت دفع شبهات الأقوال المخالفة لما عليه الأصحاب مع تحقيق حسن في الباب.

واختلف الأصحاب في وجوب الوصية بالواجب البدني لو لم يكن وصي

__________________

(1) ج 11 ص 57.

(2) ج 14 ص 196.


يقضيه عنه ، قال في المسالك : والأقوى وجوب الوصية به على المريض ، كغيره من الواجبات ان لم يكن له ولي يقضيه عنه ، وربما قيل : بعدم وجوب الوصية به لأن الواجب فعله بنفسه أو بوليه لانتفاء الدليل على ما سوى ذلك ، وفيه أن علمه بوجوبه واستحقاق العقاب على ترك الواجب اختيارا مع قدرته على براءة الذمة منه يوجب وجوب الوصية ، ليخرج من العقاب بتركه ، فان دفع الضرر عن النفس واجب.

نعم لو كان فوات الواجب لا بتفريط كالغفلة عن الصلاة مع عدم القدرة على القضاء حال الوصية ، احتمل عدم وجوب الوصية ، إذ لا عقاب على ذلك التفويت ، ولا دليل على وجوب الوصية بالقضاء انتهى ، وفي الكفاية قال : الأقرب العدم.

أقول : الظاهر قوة ما اختاره في المسالك ، لظاهر الأخبار المتقدمة الدالة على أن الوصية حق على كل مسلم ، فان ظاهر لفظ «على» الوجوب ، كما ذكرناه في الفائدة الأولى من الفوائد التي ذيلنا بها تلك الأخبار ، ويزيد ذلك تأييدا ما ذكره شيخنا المشار اليه من التعليل ، فإنه جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ، وما قربه في الكفاية من العدم ضعيف.

إذا عرفت ذلك فاعلم إذا اجتمعت في الوصية حقوق واجبة مالية وبدنية ، وتبرعات ، فان الواجب المالي كما عرفت يخرج من الأصل ، وما عداه يخرج من الثلث مقدما للواجب البدني على المتبرع به ، مرتبا في الواجب البدني لو تعدد ، الأول فالأول ، تم المتبرع به كذلك ان قام به الثلث ، أو أجاز الوارث ، وإلا سقط ، ومع اجازة الوارث الجميع ، فالحكم كما ذكر ، ومع أجازته البعض يكون مخرجه عن الأصل ، فيبدأ به كالواجب المالي ، لكن لو ضاق المال عنها أعنى عن الواجب وعن المجاز ، قدم الواجب ، لاشتغال الذمة به ، ولو لم يكن فيها واجب بل الجميع من الوصايا المتبرع بها قدم الأول فالأول حتى يتم الثلث ، سواء رتب بينهما بلفظ «ثم» أو «الفاء» ، أو اقتصر على مجرد الترتيب الذكرى ، وان عطف


بالواو فإنه في حكم ذلك ، والوجه فيه أن الوصية الصادرة أولا نافذة ، لوقوعها من أهلها ، وهكذا ما بعدها الى أن يستوفي الثلث ، فتبطل في الزائد.

أما لو جمع بأن ذكر أشياء متعددة ، ثم أوصى بالمجموع من غير أن يرتب في الوصية ، أو قال : أعطوا فلانا وفلانا وفلانا مائة ، أو قال : بعد الترتيب لا تقدموا أحدا على أحد ، ثم نقص الثلث في هذه الصورة ، فإنه يوزع النقص على الجميع بالنسبة ، كما في مسئلة العول.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام رواية حمران (1) المتقدمة في المسئلة الأولى «عن أبى جعفر عليه‌السلام في رجل أوصى عند موته ، وقال : أعتق فلانا وفلانا حتى ذكر خمسة ، فنظرت في ثلثه فلم يبلغ أثمان قيمة المماليك الخمسة التي أمر بعتقهم ، قال : ينظر الى الذين سماهم ويبدأ بعتقهم فيقومون ، وينظر الى ثلثه فيعتق منه أول من سمي ، ثم الثاني ثم الثالث ، ثم الرابع ثم الخامس فان عجز الثلث كان ذلك في الذي سمي أخيرا ، لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك ، فلا يجوز له ذلك». ومورد الرواية وان كان انما هو الوصية بالعتق دون الوصية بغيره ، إلا أن ظاهر الأصحاب حيث استدلوا بها هنا عدم الفرق بين الأمرين.

قال في المسالك : واعلم أنه لا فرق في هذا الحكم بين العتق وغيره من التبرعات ، خلافا للشيخ وابن الجنيد حيث قدما العتق وان تأخر ، ولا بين أن يقع الترتب متصلا في وقت واحد عرفي ، أو في زمانين متباعدين كغدودة وعشية ، خلافا لابن حمزة حيث فرق بينهما ، فحكم في الأول كما ذكره الجماعة ، وجعل الثاني رجوعا عن الأول ، إلا أن يسعهما الثلث ، فينفذان معا وهو شاذ ضعيف المأخذ ، انتهى.

أقول : يمكن أن يستدل لما ذكره الشيخ وابن الجنيد بتقديم العتق على

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 19 ح 15 ، التهذيب ج 9 ص 197 ح 778 ، الوسائل ج 13 ص 457 ح 1.


غيره من التبرعات ، وان وقع متأخرا بما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن محمد بن مسلم (1) في الموثق «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل حضره الموت فأعتق غلامه ، وأوصى بوصية وكان أكثر من الثلث ، قال : يمضى عتق الغلام ، ويكون النقصان فيما بقي». وأجيب عن ذلك بأنه محمول على تقديم العتق هنا من المنجزات ، لأنه وقع حال الحياة ، والمنجزات مقدمة على الوصايا.

نعم الخلاف فيها مشهور بأن مخرجها من الأصل أو الثلث ، وظاهر هذا الخبر لا يخلو من اشتباه في ذلك ايضا ، والتحقيق هنا أن الأخبار في هذه المسئلة أعنى مسئلة المنجزات بالنسبة إلى العتق وأن مخرجه من الأصل أو الثلث لا يخلو من اشتباه وتعارض ، كما أشار إليه أيضا المحدث الكاشاني في الوافي ، وأما غير العتق من المنجزات فالحكم فيه كما اخترناه من الخروج من الأصل من غير اشكال.

المسئلة الخامسة : لو أوصى لزيد بثلث من التركة ، ولعمرو بربع منها ، ولثالث بخمس منها صحت الوصية في الأول خاصة ، لاستيعابها الثلث ، النافذ بدون الإجازة ، ورعاية لما تقدم من الأول مع تجاوز الثلث ، وبطلت فيما عداه ، وقيل : ان الوصية المتأخرة تقتضي الرجوع عما قبلها ، قال : الشيخ في الخلاف إذا أوصى لإنسان بثلث ماله ، ثم أوصى بثلث ماله لغيره ولم تجز الورثة ، فإن الوصية الثانية رافعة للأولى وناسخة لها ، واستدل بإجماع الفرقة والأخبار.

وقال ابن إدريس : إذا أوصى بثلث ماله لشخص ، ثم أوصى بثلث ماله لغير ذلك الشخص ، كان الثلث للأخير ، وتكون الوصية الثانية ناسخة للأولى ، لأن الإنسان لا يستحق من ماله بعد وفاته إلا ثلث ماله ، فإذا أوصى به لإنسان ، ثم أوصى به بعد ذلك لآخر ، فقد نقل الثلث الذي يستحقه من الأموال الى الثاني ، لأنه يعلم أنه لا يستحق سوى الثلث ، فإذا أوصى به ثم وصى به ، فقد رجع عن الأول ،

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 17 ح 5 ، التهذيب ج 9 ص 194 ح 780 ، الوسائل ج 13 ص 458 ح 1.


فهذا يعنى قول أصحابنا : أنه إذا أوصى بوصية ، ثم أوصى بأخرى فإن أمكن العمل بهما جميعا وجب العمل بهما ، وان لم يمكن كان العمل على الأخير.

فأما إذا أوصى بشي‌ء آخر ولم يذكر الثلث ، فان مذهب أصحابنا أن يبدأ بالأول فالأول ويكون النقصان ان لم يف الثلث داخلا على الأخير ، لأنه لما أوصى للأول ما قال أوصيت له بثلثي ، وكذا الثاني والثالث ، فظن أن ثلثه يبلغ مقداره جميع ما ذكره ، ويفي بما ذكره ، لأنه يعلم أنه ليس بعد موته سوى الثلث فإذا استوفاه دخل النقص على الأخير ، فهذا فرق بين المسئلتين ، فلا يظن ظان اتحادهما ، ولا أن مذهب أصحابنا أن الثانية ناسخة للأولى في جميع المواضع ، ولا أن الواجب البدأة بالأول فالأول في الجميع ، انتهى.

أقول : ما ذكره من الفردين المذكورين الذي يكون الحكم في أحدهما الرجوع بالوصية الثانية عن الأولى ، وحكم الآخر صحة الأول فالأول لا شك فيه كما هو المفهوم من كلام غيره ، وانما الكلام فيما فرضه أولا من قوله إذا أوصى بثلث ماله لشخص ، ثم أوصى بثلث ماله لآخر ، فان ذلك رجوع عن الوصية الأولى حسب ما ذكره الشيخ في الخلاف ، فإنه خلاف ما صرحوا به ، وما هو الظاهر من كلام المتأخرين ، فإن ظاهر كلامهم أن هذا لا يقتضي الرجوع ، بل يكون من قبيل ما يحكم فيه بصحة الوصية أولا فأولا ، وانما الذي يقتضي الرجوع اضافة الثلث الى نفسه مثلا ، كأن يقول ثلثي أو الثلث الذي أستحقه ، وأما مجرد ذكر ثلث المال من غير أن يضيفه الى نفسه ، فلا.

قال المحقق في الشرائع : لو أوصى لشخص بثلث ، ولآخر بربع ، ولآخر بسدس ولم يجز الورثة أعطى الأول وبطلت الوصية لمن عداه ، قال الشارح : انما صحت الوصية للأول خاصة لاستيعابها الثلث النافذ بدون الإجازة ، مع رعاية ما تقدم من وجوب تقديم الأول فالأول مع تجاوز الثلث ، ولا يتوهم هنا أن الوصية المتأخرة تقتضي الرجوع عما قبلها ، لأن الرجوع لا يثبت بمجرد الاحتمال ، بل


لا بد له من لفظ يدل عليه ، ومجرد الوصية بما زاد على الثلث ثانيا وثالثا أعم من الرجوع عن الأولى وعدمه ، فلا يدل عليه.

أقول : قوله «ولا يتوهم هنا. الى آخره» خرج مخرج الرد على ما ذكره ابن إدريس ، والشيخ في الخلاف فيما قدمنا نقله عنهما ، ثم انه قال المحقق أيضا : ولو أوصى بثلثه لواحد ، وبثلثه لآخر ، كان ذلك رجوعا عن الأول الى الثاني ، قال الشارح : الفرق بين هذه المسئلة والتي قبلها الموجب لاختلاف الحكم أن الثلث المضاف الى الموصى هو القدر النافذ ، والنافذ فيه وصيته شرعا ، فإذا أوصى به ثانيا فقد رجع عن الوصية الأولى ، لأن ليس له ثلثان مضافان اليه على هذا الوجه ، فيكون بمنزلة ما لو أوصى بعين لواحد ثم أوصى به لآخر ، بخلاف قوله لفلان ثلث من غير اضافة الى نفسه ، فإنه متعلق بجملة المال من غير أن ينسب الى ثلث النافذ فيه الوصية ، فإذا أوصى بعده بربع لا يتبادر الى الفهم منه أنه نقض ذلك الثلث السابق ، بل الربع الذي هو خارج عن الثلث المتعلق بأصل المال ، وكذلك السدس ، فيكون وصايا متعددة لا تضاد بينها ، فيبدأ بالأول منها فالأول حتى يستوفي الثلث عند عدم الإجازة ، انتهى.

وهو كما ترى صريح فيما قلناه ، واضح فيما ادعيناه ، وبالجملة فإن مقتضى أنه ان كان الموصى به أشياء بعينه ، متغايرة أو مطلقة ومعينة ، فإنه يبدأ فيها بالأول فالأول ، ولا يكون الثاني رجوعا عن الأول ، سواء زاد الأول عن الثلث أو نقص عنه ، وتكون الفائدة أنه لو أجاز الوارث الجميع نفذت الوصايا كلها ، ومنه ما لو أوصى بثلث المال لشخص ، ثم أوصى بالثلث أو الربع لآخر ، بتقريب ما تقدم نقلة عن المسالك من قوله ، بخلاف قوله لفلان ثلث ، من غير اضافة الى نفسه الى آخره. وان اتحد العين كان الثاني رجوعا عن الأول ، لامتناع اتحاد الملكين في عين واحدة ، ومن هذا ما أضاف الثلث الى نفسه ، فيكون الثانية ناسخة للأولى قطعا ، بتقريب ما تقدم نقله عن المسالك من قوله أن الثلث المضاف الى


الموصي هو القدر النافذ فيه وصيته شرعا الى قوله فيكون بمنزلة ما لو أوصى بعين لواحد ، ثم أوصى به لآخر ، وما ذكره ابن إدريس في تعليل ما ادعاه من نسخ الأولى ـ من أن الإنسان لا يستحق من ماله بعد وفاته إلا الثلث ـ لا ينافي تجويز الوصية بأزيد من الثلث ، لإمكان الإجازة ونفوذها بذلك والإجازة على الأقوى عندهم ليست عطية ابتدائية وانما هي تنفيذ الوصية ، فيجوز أن يوصى معتمدا على اجازة الورثة فيكون الوصية صحيحة ، ولا يزول هذا الحكم عنها إلا بلفظ يدل على الرجوع عما سبق وحكم بصحته ، وهو في هذا المثال ونحوه منتف ، فيحكم بصحة الجميع ، ويعمل في الزائد عن الثلث بمقتضى القاعدة المقررة من البدأة بالأول فالأول ، وهذا بخلاف قوله ثلثي بإضافته إلى نفسه ونحوه ، فان الرجوع هنا معلوم بالقرينة القوية ، لما تقدم في كلامه بقوله لأن الإنسان لا يستحق من ماله بعد وفاته إلا ثلث ماله ، وإذا أوصى به لإنسان إلى آخره.

وكيف كان فالمسئلة لخلوها عن النص لا يخلو بعض شقوقها من الاشكال ، سيما في هذا الفرع ، ولهذا قد اختلف كلامهم واضطربت إفهامهم في هذه المسئلة.

قال في المسالك بعد البحث في المسئلة بنحو ما ذكرناه ، واختيار ما حررناه من الفرق بين المسئلتين المتقدمتين في كلام المحقق ما صورته : واعلم أن كلام الأصحاب قد اختلف فيها اختلافا كثيرا ، وكذلك الفتوى ، حتى من الرجل الواحد في الكتب المتعددة ، بل في الكتاب الواحد ، والعلامة في القواعد وافق المصنف على ما ذكره ـ في المسئلتين ، لكنه استشكل بعد ذلك في المسئلة الثانية ، وفي التحرير نسب الحكم في الثانية كذلك إلى علمائنا ، وجعل فيه نظرا ، ووجه الاشكال والنظر مما ذكرناه ، ومن أن كل واحدة منها وصية يجب تنفيذها بحسب الإمكان ، ولا يجوز تبديلها مع عدم الزيادة ، ومجرد اضافة الثلث اليه ، لا يقتضي الرجوع ، لان جميع ماله ما دام حيا له ، فتصح إضافته اليه ، وانما يخرج عن ملكه بالموت ، ونحن نقول بموجبه ، إلا أنا ندعي وجود القرينة في هذه الإضافة


على الرجوع ، ومن ثم لما أبدلها بالإضافة إلى ماله فضلا عن جعل الثلث مطلقا شككنا في إرادة الرجوع ، فلم نحكم به ، وقدمنا الأول.

والمختلف اعتمد على اعتبار القرينة وعدمها ، كما حققناه ، وجزم بعدم وجودها في ثلث مالي ، ولم يتعرض للثلث المضاف الى الموصي ، بل اعتمد على القرينة ، ومع الشك فيها على عدم الحكم بالرجوع ، وهذا هو الحق في المسئلة

والمحقق الشيخ علي (رحمة الله عليه) في شرحه اعتمد في المسئلة على أصل آخر غير ما ذكرناه ، ورتب عليه الحكم ، وهو أن الأصل في الوصية ، أن تكون نافذة ، فيجب حملها على ما يقتضي النفوذ بحسب الإمكان ، وانما تكون الثانية نافذة ، فإذا كان متعلقها هو الثلث الذي يجوز للمريض الوصية به ، فيجب حملها عليه ، كما يجب حمل إطلاق بيع الشريك النصف على استحقاقه ، حملا للبيع على معناه الحقيقي ، وحينئذ فيتحقق التضاد في مثل ما لو قال : أوصيت بثلث لزيد ، وبثلث لعمرو ، فيكون الثاني ناسخا للأول ، فيقدم ، وأولى منه ما لو قال بثلث مالي ، ثم فرع عليه أنه لو أوصى لزيد بثلث ، ولعمرو بربع ، ولخالد بسدس ، وانتفت القرائن أن تكون الوصية الأخيرة رافعة للأولى ، مع اعترافه بأنه مخالف لما صرح به جميع الأصحاب ، والحامل له على ذلك ما فهمه من أن إطلاق الوصية محمول على النافذة ، وأنت قد عرفت مما حققناه سابقا أن الإطلاق في الوصية وغيرها من العقود انما يحمل على الصحيح ، أما النافذ بحيث لا يترتب عليه فسخ بوجه ، فلا اعتبار به قطعا ، ألا ترى أن الوصية بجميع المال توصف بالصحة ، ووقوف ما زاد على الثلث على الإجازة ، ولا يقول أحد أنها ليست بصحيحة ، ولذلك لو باع بخيار حكم بصحة البيع ، وان لم يكن نافذا ، بمعنى أنه لا يستحق أحد فسخه ، وما مثل به من بيع الشريك النصف ، فإنه محمول على استحقاقه ، لا يؤثر هنا للفرق بينه وبين المتنازع فيه ، لأن جميع التركة مستحقة للموصي حال حياته إجماعا ، فقد أوصى بما يستحقه ، ومن ثم حكموا بصحة وصيته بما زاد على الثلث ،


وصحة هبته له ، وان توقف على اجازة الورثة ، لأن ذلك لهم كالخيار للبائع بالنسبة إلى ملك المشترى ، بل أضعف ، للخلاف في أن الملك هل ينتقل إليه في زمن الخيار أم لا؟ والاتفاق على أن التركة مملوكة للموصي ما دام حيا ، ومن ثم لزمت الهبة لو برء من مرضه ، وكانت الإجازة تنفيذ الوصية ، لا عطية متجددة ، على مختار أصحابنا ، وقد ادعى الشيخ في المبسوط عليه الإجماع ، وانما الخلاف في التنفيذ ، والعطية للعامة ، وأصحابنا يجعلون العطية احتمالا مرجوحا ، لا قولا.

وإذا تقرر أن الإطلاق محمول على الوصية الصحيحة ـ فكل وصية من المذكورات صحيحة ، سواء كانت نافذة أم لا ـ لم تدل الوصية المتأخرة عن الوصية بالثلث على أنها ناسخة للسابقة ، ورجوع عنها ، بل على ارادة الموصى إعطاء كل واحد ما أوصى له به ، وان توقف ذلك على اجازة الورثة ، فإن ذلك أمر آخر غير الوصية المعتبرة شرعا ، وقد ظهر بذلك أنه لا تضاد بين قوله أوصيت لزيد بثلث ، ولعمرو بربع ، بطريق أولى ، وانما يقع التضاد صريحا إذا قال بعد الوصية لزيد بثلث ، أوصيت لعمرو بالثلث الذي أوصيت به لزيد ، أو بثلثي أو بالثلث الذي جعله الله تعالى غير متوقف على اجازة ، ونحو ذلك ، وفي مثل قوله بثلثي لزيد ، ثم بثلثي لعمرو بالقرينة ، لا بالتصريح كما حققنا ، ثم نقل عن الشيخ (رحمة الله) عليه أنه اتفق له في هذه المسئلة غرائب ، وشرح ذلك بما لا مزيد فائدة في ذكره ، وانما نقلنا كلامه (قدس‌سره) بطوله لجودة محصوله في تحقيق المسئلة ، زيادة على ما قدمناه ، والاطلاع على ما وقع لهم من الاختلاف في المسئلة ، زيادة على ما ذكرناه ، إلا أن الخلاف الذي ذكرناه أولا بالنسبة إلى المسئلة الأولى من المسئلتين المفروضتين في كلام المحقق ، والذي ذكره (قدس‌سره) بالنسبة إلى الثانية منهما ، والله العالم.


تذنيبان :

الأول ـ لو اشتبه السابق في صورة الوصية بالثلث لاثنين ، أحدهما بعد الآخر فإنه يستخرج بالقرعة ، كما حكم به الأصحاب ، لأنها لكل أمر مشتبه ، فان قلنا بأن الوصية للأول ، وأنه يلاحظ في الصحة الأول فالأول ، فإنه يحكم بها للسابق وان قلنا بأن ذلك عدول وفسخ ، فإنه يحكم بها للثاني ، وحينئذ فلا فرق في كتابة الرقاع بين أن يجعل باسم السابق أو المتأخر ، وصفتها أن تكتب في رقعة اسم أحدهما وأنه السابق ، وتكتب في رقعة اسم الآخر وأنه السابق ، ويجمعان في موضع ويخفيان ، ثم يخرج إحداهما فمن خرج اسمه كان هو السابق ، وترتب عليه الحكم من استحقاق أو حرمان ، ولك أن تكتب عوض السابق المتأخر في كل من الرقعتين ، والمرجع إلى أمر واحد.

الثاني : لو أوصى بشي‌ء واحد لاثنين كان يقول أعطوا زيدا وعمرا مائة درهم ، أو الدار الفلانية ، وكان ذلك أزيد من الثلث ، فان الشقص يدخل عليهما بالنسبة ، ولو جعل لكل واحد منهما شيئا بأن يقول : أعطوا زيدا خمسين درهما ، وأعطوا عمرا خمسين درهما ، أو أعطوا زيدا نصف الدار ، وعمرا نصفها ، وأنفق الزيادة على الثلث ، فإنه يبدأ بالعطية الأولى ، ويدخل النقص على الثانية.

المسئلة السادسة : قال الشيخ في النهاية : إذا أوصى بعتق جميع مماليكه ، وله مماليك بخصوصه ، ومماليك بينه وبين غيره ، أعتق من كان في ملكه ، وقوم من كان في الشركة ، وأعطى حقه ان كان ثلثه يحتمل ، فان لم يحتمل أعتق منه بقدر ما يحتمله ، وبه قال ابن البراج والعلامة في المختلف.

ويدل عليه ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) بأسانيدهم وفيها الصحيح عن أحمد بن زياد (1) وهو واقفي «عن ابى الحسن عليه‌السلام «قال :

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 20 ح 17 ، التهذيب ج 9 ص 222 ح 872 ، الوسائل ج 13 ص 463 ح 2.


سألته عن الرجل تحضره الوفاة وله مماليك لخاصة نفسه ، وله مماليك في شركة رجل آخر ، فيوصي في وصيته مماليكي أحرار ، ما حال مماليكه الذين في الشركة فقال : يقومون عليه ان كان ماله يحتمل ثم هم أحرار».

وقال ابن إدريس : الذي يقوى عندي أنه لا يقوم من في الشركة ، بل يعتق منهم بقدر ما يملكه ، ولا يعطى شريكه ثمن حصته ، وان احتمل ثلثه ذلك ، لأنه بعد موته لا يملك الثلث ، إذا لم يوص به ، لأن الموت يزول به ملكه إلا ما استثنى من ثلثه ، وهذا ما استثنى شيئا ، والى هذا القول مال المتأخرين وهو قول الشيخ في المبسوط أيضا ، حيث قال : إذا أوصى بعتق شقص له من عبد ، ثم مات أعتق عنه ذلك الشقص ، ولم يقوم عليه نصيب شريكه ، وان كان غنيا ، لأن ملكه زال عن ماله بالموت إلا القدر الذي استثناه.

والعلامة في المختلف حيث اختار مذهب الشيخ في النهاية استدل عليه بأن الموصي أوجد سبب السراية في العتق ، فيوجد مسببه ، أما المقدمة الأولى فلأن العتق في الحقيقة مستند اليه ، ولهذا كان ولائه له ، وأما الثانية فظاهرة ، ثم أورد الرواية المذكورة.

واعترضه في المسالك فيما أورده من التعليل العقلي بأنه ان أراد مطلق السبب أعم من التام لم يفده المطلوب ، وان أراد به التام منعناه هنا ، لأن السبب التام للسراية العتق مع اليسار ، واليسار هنا منتف ، لأنه لا يملك بعد الموت ، أو تقول ان سبب السراية انما هو العتق لا الوصية به ، والعتق انما وقع بعد الوفاة ، فمسببه يجب أن يقع بعده كذلك مع اجتماع شرائطه الذي من جملته اليسار ، وهو منتف هنا بعد الوفاة ، لما ذكرناه ، ثم قال : فان قيل : كما أن العتق سبب قريب في السراية ، كذلك الوصية سبب فيها ، لأنها سبب العتق ، وقد حصلت حالة اليسار. لأنه المفروض والعتق سبب في السراية ، قلنا : مجرد وجود السبب لا يقتضي وجود المسبب ، إلا إذا اجتمعت شرائطه ، وإلا فيمكن تخلف المسبب عن


سببه ، لفقد شرط ، وهو هنا كذلك ، لأن شرط العتق وفاة الموصي ، لأنه جعله وصية ، والوصية انما تقع بعد الوفاة ، فإذا تخلف المسبب وهو العتق عن سببه الى ما بعد الوفاة ، لزم معه تخلف مسببه ، وهو السراية كذلك وتم المطلوب ، حيث لم يصادف المال ، ثم رد الرواية بأنها لا تصلح لتأسيس الحكم بذاتها لضعف سندها بأحمد بن زياد المذكور ، فإنه واقفي غير ثقة ، انتهى.

أقول : يمكن أن يقال ان محل البحث وموضوع المسئلة من أوصى بعتق مماليكه بمعنى أنهم يعتقون بعد موته ، أو ينعتقون ، وفهم هذا المعنى من لفظ الرواية غير ظاهر ، فان ظاهرها أنه كتب في وصيته أو قال : بلسانه في ذلك مماليكي أحرار ، وظاهر هذه العبارة محتمل للإنشاء ، فيكون ذلك عتقا لهم في ذلك الوقت ، ومحتمل للأخبار عن عتق سابق ، وعلى كل من الأمرين ، فالعتق قد وقع حال الحياة ، فيترتب عليه ما ذكره في الرواية من السراية ان كان في ثلثه ما بقي بذلك ، وأما أن المراد بها الوصية بأن يعتق مماليكه بعد موته ، فهو في غاية البعد عن حاق لفظها ، فان قيل : ان ذلك مفهوم من قوله فيوصي في وصيته ، والوصية بالعتق يقتضي الانعتاق بعد الموت لا قبله ، قلنا يمكن ارتكاب التجوز في هذا اللفظ ، بمعنى أنه يقول : ويذكر هذا القول في تلك الحال ، وباب التجوز في الكلام واسع ، وارتكاب ما قلناه أولى وأقرب مما ذهب إليه القائلون بالقول الأول من التقديم على الموصي ، مع أنه لا مال له بعد الموت ، كما أورده عليه ، وأولى منه ما ذهب اليه من رد الخبر وإطراحه بالكلية ، مع عدم وجود ما يضاده من الأخبار ، والعمل بالخبر مهما أمكن أولى من طرحه ، وعلى ما ذكرناه فالخبر لا يكون من محل الاستدلال في شي‌ء ، فيبقى القول الأول خاليا من الدليل ، ويكون العمل على القول الثاني ، بناء على القاعدة المذكورة ، وهي أنه لا يقوم عليه إلا مع وجود المال له ، ولا مال في تلك الحال.

وبالجملة فإن الظاهر بهذا الفهم القاصر ، والذهن الخاسر ، ان حمل الخبر


على ما ذكرناه ممكن بما عرفت من التقريب ، فلا يلزم مخالفته للقواعد بناء على القول الأول ، ولا رده بناء على القول الثاني ، والله العالم.

إلحاق يشتمل على جملة من الفروع :

الأول : قالوا : لو أوصى بنصف ماله مثلا ، وأجاز الورثة ، ثم قالوا : ظننا أنه قليل ، كما لو قالوا بعد إجازتهم الوصية بالنصف ، ظننا أنه ألف درهم ، فظهر ألف ألف دينار ، فإنه يقبل قولهم في دعوى ظن قلة المال مع يمينهم ، ويقضى عليهم بما ادعوا ظنه ، فإذا حلفوا قضى عليهم بصحة الإجازة في خمسمائة درهم ، وعلل قبول قولهم باستناده إلى أصالة عدم العلم بالزائد ، مضافا الى أن المال مما يخفى غالبا ، وأن دعواهم يمكن أن تكون صادقة ، ولا يمكن الاطلاع على صدق ظنهم إلا من قبلهم ، لأن الظن من الأمور النفسانية ، فلو لم يكتف فيه باليمين لزم الضرر ، لتعذر إقامة البينة على دعواهم.

وترد المحقق في ذلك ، ومنشأه مما ذكرنا ، ومن تناول لفظ الموصى للقليل والكثير ، وقدومه على ذلك مع كون المال مما يخفى كما ذكر ، فالرجوع الى قولهم رجوع عن اللفظ المتيقن الدلالة على معنى يعم الجميع الى دعوى ظن يجوز كذبه.

قال في المسالك بعد ذكر ذلك : والأقوى القبول ، وحينئذ فيدفع الى الموصى له نصف ما ظنوه ، وثلث باقي التركة ، انتهى.

أقول : لا ريب في قوة ما قواه بالنظر الى هذه التعليلات المذكورة من الطرفين ، إلا أن الاعتماد عليها في تأسيس الأحكام الشرعية كما عرفت في غير مقام مما تقدم ، لا يخلو عن الاشكال ، والمسئلة عارية من النصوص على الخصوص والصلح طريق الاحتياط ، والله العالم.

الثاني : قالوا : لو أوصى بعبد أو بدار ، فأجاز الورثة الوصية ، ثم ادعوا أنهم


ظنوا أن ذلك الثلث أو أزيد بيسير ، مع ظهور كون ذلك أزيد بكثير ، لقلة المال لم يسمع دعواهم في هذه الصورة ، لأن الإجازة هنا قد تضمنت معلوما ، بخلاف ما تقدم في سابق هذا الموضع ، وحاصل الفرق بين المسئلتين أن الإجازة في هذه الصورة وقعت على معلوم للورثة ، وهي العين المخصوصة كيف كانت من التركة ، فكانت الإجازة ماضية عليهم ، بخلاف الصورة الأولى حيث أن الوصية فيها بجزء مشاع ، وهو النصف من التركة مثلا ، والعلم بمقداره قلة وكثرة موقوف على العلم بالتركة كملا ، والأصل عدمه ، فتسمع فيه دعوى الجهالة ، وأنت خبير بما في هذا الفرق من تطرق احتمال المناقشة ، ولهذا مال في الدروس إلى التسوية بين المسئلتين ، والقبول في الحالين ، وجعله العلامة في التحرير وجها ، وفي القواعد احتمالا.

ووجه المناقشة التي أشرنا إليها ، وما ذكره في المسالك من أن الإجازة وان وقعت على معلوم للورثة كما يدعونه ، إلا أن كونه مقدار الثلث أو ما قاربه مما سامحوا فيه انما يعلم بعد العلم بمقدار التركة ، والأصل عدم علمهم بمقدارها ، وبنائهم على الظن ، فكما احتمل ظنهم قلة النصف في نفسه ، يحتمل ظنهم قلة العين بالإضافة إلى مجموع التركة ، وان لم يكن قليلا في نفسه ، قال : ومخالفة الأصل هنا بظنهم كثرة المال مع أن الأصل عدمه ، لا يؤثر في رفع الظن عنه واعتقاد كثرته ، بل يمكن عدم ظهور خلاف ما اعتقدوه من الكثرة ، ولكن ظهر عليه دين قدم على الوصية ، فقل المال الفاضل عنهما ، وهذا موافق للأصل كالأول ، ثم قال : وأيضا فمن جملة المقتضى للقبول في الأول ، إمكان صدقهم في الدعوى ، وتعذر إقامة البينة بما يعتقدونه ، وهو متحقق هنا ، لأن الأصل عدم العلم بمقدار التركة ، وذلك يقتضي جهالة قدر المعين من التركة كالمشاع ، ولعل القبول أوجه ، انتهى.

والغرض من التطويل بنقل كلامهم مع ما عرفت من عدم الاعتماد عليه ،


مع خلوه من الدليل الواضح ، هو وقوف الناظر في الكتاب على ما في هذه المسائل من كلام الأصحاب (رحمهم‌الله) فلعله يتشوق نفسه الى الوقوف على كلامهم ، ونقضهم فيها وإبرامهم ، وقد أشرنا في غير موضع مما تقدم أن الغرض من الكتاب هو أن لا يحتاج الناظر فيه الى مراجعة شي‌ء من كتب الأخبار ، لاحاطتهم فيه بجميع أخبار كل مسئلة مسئلة ، وكذلك لا يحتاج إلى مراجعة كتب الأصحاب للاطلاع على ما ذكروه في كل مسئلة مسئلة حسب الإمكان ، وإلا فاستقصاء كلامهم في كل مسئلة مسئلة مما يتعذر غالبا ، فيكون كتابنا هذا مغنيا عن مراجعة غيره من كتب الأخبار ، وكتب الفروع في الجملة ان شاء الله تعالى.

الثالث : الظاهر أنه لا إشكال في أنه لو أوصى له بثلث ماله مشاعا فان الموصى له من كل شي‌ء من التركة ثلثه حاضرا كان أو غائبا عينا كان أو دينا فهو شريك للورثة في كل جزء جزء من التركة.

أما لو أوصى له بثلث التركة معينا في عين مخصوصة ، كدار مخصوصة ، أو عبد مخصوص ، فان الموصى له يملكه بالقبول ، وموت الموصي ، ولا اعتراض ، للورثة من حيث اختصاصه بالعين عنهم ، ولهم منها الثلثان ، لأنه لا خلاف في أن للموصى ثلث ماله ، يتصرف فيه كيف شاء ، وأنه لا يتوقف على اذن الورثة ، غاية الأمر أنه بعد أن خصه بهذه العين من حيث كونها ثلث التركة ، وهو لا يملك من هذه العين إلا ثلثها ، جعل ما بأيديهم من ضعف الوصية من جملة التركة كالقيمة الشرعية عما يستحقونه من ثلثي هذه العين ، هذا إذا كان ضعف الموصى به بأيديهم ، كما هو المفروض.

أما لو لم يكن بأيديهم بأن كان له مال غائب ، أو بيد متغلب ، فان لم يكن بأيديهم من التركة شي‌ء أصلا ، فللموصى له ثلث تلك العين خاصة ، وكان انتقال ثلثيها موقوفا على تمكين الوارث من ضعفها من التركة ، وان كان بيدهم شي‌ء لا يقوم بالنصف فله من العين ما يحتمله الثلث منها ومما بأيديهم من التركة ،


والباقي يصير موقوفا لا نحكم به لأحد منهما حتى يتضح الحال ، فيجعل أمانة بيد الحاكم أو أمينه أو من يتفقان عليه الى أن يتبين الأمر ، لحصول الغائب وعدمه.

ثم ان هذا القدر المتخرج من الثلث المنحصر في بعض هذه العين منجز هل يتسلط الموصى له عليه أم لا؟ بل يمنع من التصرف فيه وان كان ملكا له ، وجهان : اختار أولها في المسالك ، قال : لوجود المقتضى وهو ملكه له بالوصية المحكوم بصحتها بالنسبة إلى الثلث على كل حال ، لأن غاية ما هناك تلف الغائب بأجمعه فيكون الحاضر هو مجموع التركة فيملك ثلثه بغير مانع ، ثم ذكر وجه المنع ورده بما هو مذكور ثمة.

الرابع : قالوا : لو أوصى بثلث عبده فتبين أنه ليس له من العبد إلا ثلثه ، وأن ثلثيه ، مستحق للغير ، فإن الوصية تصح في ذلك الثلث ، ثم ان كان الموصي لا يملك غير ذلك العبد لم تنفذ وصيته المذكورة ، إلا في ثلث الثلث الذي يستحقه ، ووقف في ثلثيه على الإجازة ، وان ملك غيره اعتبر خروج ثلث العبد من ثلث التركة.

ونقل عن بعض العامة ، أنه حكم بنفوذ الوصية في المسئلة المذكورة في ثلث الثلث خاصة ، والذي عليه الأصحاب كما عرفت أن الوصية إنما تنصرف الى مستحقه خاصة ، وهو الثلث على التفصيل المتقدم ، وما ذهب اليه ذلك القائل كأنه منزل على الإشاعة ، وجواز الوصية بمال الغير ، بمعنى أنه لو أوصى بثلث شائع في العبد وهو ملك الجميع من الموصي وباقي الشركاء ، فلا تنفذ وصيته فيه ، بل انما تنفذ في ثلثه ، ويرجع الى كون موصى به ثلث الثلث ، ورده الأصحاب بأن الوصية لا تصح إلا بما يملكه الموصي ، فلو أوصى بمال الغير لغت ، فلا تنزل على الإشاعة المستلزمة للوصية بمال الغير.

الخامس : المشهور في كلام المتأخرين أنه لو أوصى بما يقع اسمه على المحلل والمحرم انصرف اللفظ الى المحلل ، صونا للمسلم عن المحرم كما إذا


أوصى بعود من عيدانه وله عود لهو ، وعيدان قسي ، وعيدان عصي ، وعيدان المسقف والبنيان ، وأيده بعضهم بوجوب تنفيذ الوصية بحسب الإمكان لعموم «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ» وهو لا يتم إلا بذلك.

وقال الشيخ في المبسوط : إطلاق قوله عود من عيداني ينصرف الى العود الذي يضرب به للهو ، لأن ذلك يسمى بالإطلاق عودا في العادة ، ثم ينظر فان كان له منفعة غير الضرب صحت الوصية ، وان لم تكن له منفعة مباحة ولا يصلح إلا للعب بطلت الوصية.

أقول : لا ريب أن لفظ العود هنا من الألفاظ المشتركة ، ومن شأن اللفظ المشترك ان لا يحمل على أحد معانيه إلا بالقرينة ، وفي كون ما ذكروه من صون المسلم عن المحرم قرينة على المحلل على إطلاقه محل اشكال ، سيما مع شيوع استعمال المسلمين للهو واللعب بالعود وغيره ، فلو ثبت ذلك بحال الموصى وما هو عليه من التورع عن المحرمات ، أو عدم ذلك ، ولو في سائر الحالات لكان حسنا.

نعم لو لم يكن له عود لهو بالكلية ، انصرف الى المحلل بغير اشكال ، وان كان اللفظ أعم من المحرم ، ولو لم يكن له إلا العود المحرم قيل تبطل الوصية ، لانصرافه الى غير المشروع ، حيث لم يكن له غيره ، والحال أنه قد خصها بما هو له ، فلا ينتقل الى تحصيل غيره.

وظاهر كلام الشيخ المتقدم أنه ان كان له منفعة مباحة غير الضرب صحت الوصية ، وإلا فلا ، وقيل : تصح الوصية به ، ولكن تزال عنه الصفة المحرمة ، بأن يحول منها الى غيرها من الصفات المحللة إن أمكن ، وإلا بطلت الوصية ، وإطلاق العبارة يقتضي أن زوال الصفة المحرمة مع بقاء المنفعة لو تحقق بكسره والانتفاع بخشبه في بعض المنافع المحللة ، يكفي في الصحة على هذا القول.

واستشكل في المسالك في ذلك بأنه يخرج بالكسر عن كونه عودا لأن وصيته معتمدة على وصف العود فكسره خروج عن الاسم ، ثم قال : لا يقال : إذا


انتقل الى الموصى له فله أن يفعل به ما شاء ، ومن جملته كسره ، بل هو واجب حيث يتوقف زوال الصفة المحرمة عليه ، فلا يقدح ذلك في جواز الوصية ، لأنا نقول ان جواز تصرفه فيه بالكسر وغيره موقوف على صحة الوصية ، وصحتها موقوف على كسره فيدور ، ولو قيل : أنه يمكن كسره من غير الموصى له قبل دفعه اليه ليندفع الدور ، جاء فيه ما تقدم من زوال اسم العود الذي هو متعلق الوصية ، فلا يكون بعد كسره موصى به ، فلا يحصل بدفعه الى الموصى له الامتثال ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن مبنى كلامه (قدس‌سره) على أنه بالكسر يخرج عن كونه عودا ، فلو دفع بعد الكسر الى الموصى له لم يصدق الإتيان بالوصية والامتثال لها ، وفيه أن أحد أفراد العود عود الخشب ، وهذا بعد الكسر وان خرج عن عود اللهو ، إلا أنه لا يخرج عن عود الخشب ، قال في كتاب المصباح المنير : وعود اللهو وعود الخشب ، جمعه أعواد وعيدان ، ونحوه في القاموس ، وحينئذ فيرجع الكلام إلى ما ذكره ذلك القائل من صحة الوصية متى أزيلت عنه صفة المحرمة ، وحول الى غيرها من الصفات المحللة ، وأن هذا العود بكسره قد خرج عن عود اللهو ، وصار من قبيل عود الخشب ، الذي منافعه المترتبة عليه محللة.

ثم انه قال في المسالك على أثر الكلام المتقدم : والأقوى أنه إن أمكن إزالة الصفة المحرمة مع بقاء اسمه ، صحت الوصية ، وإلا بطلت لحصره فيما عنده ، وهو ينافي تحصيل عود من خارج ، ولم يوجد عنده ما يتناوله الاسم شرعا ، فيكون ذلك بمنزلة ما لو أوصى بالمحرم ، انتهى.

أقول : قد عرفت بما أوضحناه بقاء اسم العود على الباقي بعد الكسر ، فتصح الوصية ، ولا يحتاج الى تحصيل عود من خارج بأي معنى كان ، فان الموجود عنده بعد الكسر مما يتناوله اسم العود ، فلا موجب لبطلان الوصية ، والله العالم.

السادس : قال المحقق في الشرائع : وتصح الوصية بالكلاب المملوكة ،


ككلب الصيد ، والماشية ، والحائط ، والزرع ، قال الشارح في قوله المملوكة : تنبيه ، على أنا لو لم نقل بملكها لم تصح الوصية بها لعدم كونها مالا منتفعا به ومن ثم لم يصح بيعها عند القائل بعدم المالية ، والأقوى جواز الوصية بها وان لم نقل بملكها ولم نجوز بيعها ، لثبوت الاختصاص بها وانتقالها يدا الى يد بالإرث وغيره ، وهو أعم من الملك.

أقول : قد حققنا في كتاب البيع (1) أن المستفاد من الأخبار اختصاص الملك وجواز البيع ونحوه بكلب الصيد خاصة ، كما هو أحد الأقوال في المسئلة ، وأن ما عداه لا دليل على جواز تملكه ولا بيعه ، ولا غيرهما من الأحكام ، ومنها الوصية هنا ، وأما ما ذكره الشارح هنا من جواز الوصية بالكلاب وان لم نقل بملكها ولم نجوز بيعها ، فهو مشكل.

أما أولا فلما صرحوا به من أن من شروط صحة الوصية صحة الملك لكل من الموصى والموصى له ، كما تقدم في المسئلة الأولى من مسائل هذا المقصد ، وقد اعترف بذلك الشارح المذكور ، حيث قال بعد قول المصنف ويعتبر فيهما الملك؟ فلا يصح بالخمر والخنزير والكلب الهراش ما صورته : المراد هنا صلاحية الملك للموصى والموصى له ، كما ترشد إليه الأمثلة ، فإن المذكورات لا تقبل الملك بالنسبة إلى المسلم ، أو مطلقا بناء على اعتبار الواقع في نفس الأمر الى أن قال : واحترز بكلب الهراش عن الكلاب الأربعة والجر والقابل للتعليم ، فتصح الوصية بها ، لكونها مملوكة لها قيمة ومنفعة ، وهو كما ترى صريح فيما ذكرناه ، وعلى هذا المنوال كلمة غيره من الأصحاب في هذا المجال.

وأما ثانيا فلان الوصية حكم شرعي يترتب عليها جملة من الأحكام كما في جملة الوصايا المبحوث عنها في هذا المقام ، فلا بد في إثباته من الدليل الشرعي كما هو واضع لذوي الأفهام ، وغاية ما يدل عليه الدليل صحة الوصية بالمملوك ، فغيره

__________________

(1) ج 18 ص 80.


يتوقف على الدليل ، ومجرد هذه التعليلات العليلة لا يجوز أن ترتب عليها الأحكام الشرعية.

واما ثالثا فان ما ادعاه من انتقالها من يد الى يد بالإرث وغيره مجرد دعوى ، لا يخرج عن المصادرة ، فإن المانع للملك يمنع من حصول الإرث فيها ، لكونه فرع الملك بلا خلاف نصا وفتوى وبالجملة فإن كلامه (قدس‌سره) هنا لا يخلو من تساهل ثم أنه قال في المسالك : إذا تقرر ذلك فإذا أوصى بكلب تجوز الوصية به ، فان وجد في التركة فذاك ، وإلا فإن جوزنا شراءه اشترى من التركة ودفع الموصى له ، وان لم نجوز شراءه احتمل بطلان الوصية حينئذ ، لعدم إمكان إنفاذها على الوجه المشروع ، ومراعاة تحصيله بغير البيع ، إذ لا يلزم من عدم جواز بيعه عدم إمكان تحصيله بغيره ، فيجب تحصيله على الوارث تفصيا من تبديل الوصية مع إمكان إنفاذها ، فإن أمكن تحصيله والا بطلت ويشكل بأنه لا يلزم ، من إمكان تحصيله للوارث وجوبه عليه إذ لا يجب عليه إنفاذ وصية مورثه إلا من مال المورث وهو منتف هنا ، والأقوى البطلان مطلقا ، لكن لو تبرع به متبرع من وارث وغيره صح ، وان لم يكن ذلك واجبا ، انتهى.

تتميم :

في ذكر جملة من الوصايا المبهمة فمنها الوصية بالجزء من ماله ، وقد اختلف الأصحاب في ذلك باختلاف الأخبار فيما هنالك ، فذهب جمع منهم الشيخ في كتابي الأخبار والشيخ علي بن بابويه وابنه إلى أنه العشر ، واختاره العلامة في المختلف ، وهو ظاهر المحقق في الشرائع حيث نسبه الى أشهر الروايتين ، وذهب جمع منهم الشيخ المفيد والشيخ في النهاية وابن الجنيد وسلار وابن البراج إلى أنه السبع ، ونقله في المسالك عن أكثر المتأخرين.

والذي يدل من الأخبار على الأول ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن


أو الصحيح في الأول ، والصحيح في الثاني عن عبد الرحمن بن سيابة (1) وهو مجهول قال : «ان امرأة أوصت الي وقالت ثلثي يقتضي به ديني ، وجزء منه لفلانة ، فسألت عن ذلك ابن أبى ليلى فقال ما أرى لها شيئا ، ما أدرى ما الجزء فسألت عنه أبا عبد الله عليه‌السلام بعد ذلك وخبرته كيف قالت المرأة وما قال ابن أبى ليلى فقال : كذب ابن أبى ليلى ، لها عشر الثلث ، ان الله تعالى أمر إبراهيم عليه‌السلام فقال (2) : «اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» وكانت الجبال يومئذ عشرة ، والجزء هو العشر من الشي‌ء».

والعلامة في المختلف روى هذه الرواية عن عبد الله بن سنان ، وأنه هو الوصي والسائل عن هذه المسئلة ، وعد الخبر في الصحيح ، والذي في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سنان إنما هو راو عن عبد الرحمن بن سيابة ، وبه تكون الرواية على اصطلاحهم ضعيفة ، وكان لفظ عبد الرحمن بن سيابة سقط ، من نسخة الكتاب الذي عنده ، أو أنه غفل عنه ، إلا أن الشيخ في الاستبصار رواه كذلك فالظاهر أنه نقل الخبر عن الاستبصار ، ولم يراجع الكافي والتهذيب ، ومما يؤيد العمل على ما في التهذيب كما ذكره شيخنا في المسالك ، من أن من المستبعد جدا أن عبد الله بن سنان الفقيه الجليل الإمامي يسأل ابن أبى ليلى في ذلك ، بل الموجود في الأخبار أن ابن أبى ليلى كان يسأله ، ويسأل أصحابه مثل محمد بن مسلم وغيره عن كثير من المسائل ، والشهيد في الدروس قد تبع العلامة في هذا المقام وثوقا بكلامه في المختلف ، واعتمادا على ما في الاستبصار ، ولم يراجع الكتابين الآخرين.

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة في الموثق أو الحسن الذي لا يقصر عن الصحيح

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 39 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 208 ح 824 ، الاستبصار ح 4 ص 131 ح 494 ، الوسائل ج 13 ص 442 ح 2.

(2) سورة البقرة ـ الاية 260.


عن معاوية بن عمار (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى بجزء من ماله ، قال : جزء من عشرة ، قال الله تعالى (2) «اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» وكانت الجبال عشرة».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن ابان بن تغلب (3) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام الجزء واحد من عشرة ، لأن الجبال كانت عشرة ، والطير أربعة».

وما رواه في التهذيب عن أبى بصير (4) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل أوصى بجزء من ماله : قال : جزء من عشرة ، وقال : كانت الجبال عشرة».

ورواه العياشي في تفسيره مثله (5) ، وزاد : وكانت الطير الطاوس ، والحمامة ، والديك والهدهد ، فأمره أن يقطعهن. الى آخره.

وما رواه الصدوق (قدس‌سره) في كتاب معاني الأخبار عن ابان بن تغلب (6) «عن أبى جعفر عليه‌السلام في الرجل يوصى بجزء من ماله؟ قال : الجزء واحد من عشرة ، لأن الله تعالى يقول «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» وكانت الجبال عشرة ، والطير أربعة فجعل على كل جبل منهن جزءا». قال : وروى أن الجزء واحد من سبعة ، لقول الله عزوجل «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ».

ومنها ما رواه في الكتاب المذكور في الصحيح عن عبد الله بن سنان (7) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة أوصت بثلثها يقضى به دين ابن أخيها وجزء

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 40 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 208 ح 825 ، الفقيه ج 4 ص 152 ح 528 ، الوسائل ج 13 ص 443 ح 3.

(2) سورة البقرة ـ الاية 260.

(3 و 4) الكافي ج 7 ص 40 ح 3 ، التهذيب ج 9 ص 209 ح 826 و 827.

(4) الكافي ج 7 ص 40 ح 3 ، التهذيب ج 9 ص 209 ح 827.

(5) تفسير العياشي ج 1 ص 144 ح 475.

(6) معاني الأخبار ص 217 ح 1.

(7) معاني الأخبار ص 217 ح 2 ط إيران سنة 1379. الوسائل ج 13 ص 444 ح 6.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 442 ح 1 وص 446 ح 11 وص 444 ح 6.


لفلان وفلانة فلم أعرف ذلك ، فقدمنا الى ابن أبى ليلى ، قال : فما قال لك؟ قلت : قال : ليس لهما شي‌ء فقال : كذب والله ، لهما العشر من الثلث».

وما رواه العياشي (1) في تفسيره عن عبد الصمد بن بشير في خبر يتضمن «أن أبا جعفر المنصور جمع القضاة فقال لهم : رجل أوصى بجزء من ماله فكم الجزء؟ فلم يعلموا واشتكوا اليه ، فأبرد بريدا الى صاحب المدينة أن يسأل جعفر بن محمد فسأله فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : هذا في كتاب الله بين ، ان الله يقول لما قال إبراهيم (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى). ، (2) «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» ، فكانت الطير أربعة والجبال عشرة ، يخرج الرجل من كل عشرة أجزاء جزءا واحدا» ، الحديث.

وما رواه العياشي في تفسيره عن محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن عبد الله (3) قال : «جائني أبو جعفر بن سليمان الخراساني ، وقال : نزل بي رجل من أهل خراسان من الحجاج ، فتذاكرنا الحديث ، فقال : مات لنا أخ بمرو وأوصى الى بمائة ألف درهم وأمرني ان أعطي أبا حنيفة منها جزءا ، ولم أعرف الجزء كم هو مما ترك ، فلما قدمت الكوفة أتيت أبا حنيفة فسألته عن الجزء ، فقال لي الربع ، فأبى قلبي ذلك فقلت : لا أفعل حتى أحج وأستقصي المسئلة ، فلما رأيت أهل الكوفة قد اجتمعوا على الربع ، قلت لأبي حنيفة الى أن قال : وأنا أريد الحج فلما أتينا مكة وكنا في الطواف فإذا نحن برجل شيخ قاعد قد فرغ من طوافه ، وهو يدعو ويسبح إذ التفت أبو حنيفة فلما رآه قال : ان أردت أن تسأل غاية الناس فاسئل هذا ، فلا أحد بعده ، قلت : ومن هذا؟ قال : جعفر بن محمد ، فلما قعدت واستمكنت إذ استدار أبو حنيفة خلف ظهر جعفر بن محمد ، فقعد قريبا منى فسلم عليه وعظمه وجاء غير واحد مزدلفين مسلمين عليه ، وقعدوا فلما رأيت ذلك من تعظيمهم له اشتد ظهري ، فغمزني أبو حنيفة أن تكلم ، فقلت : جعلت فداك اني

__________________

(1 و 3) تفسير العياشي ج 1 ص 143 ح 473 وص 144 ح 476، الوسائل ج 13 ص 444 ح 8 وص 445 ح 9 الباب 54.

(2) سورة البقرة ـ الاية 260.


رجل من خراسان وان رجلا مات وأوصى الى بمائة ألف درهم وأمرني أن اعطى منها جزءا ، وسمى لي الرجل ، فكم الجزء جعلت فداك؟ فقال جعفر بن محمد يا أبا حنيفة : قل فيها ، فقال : الربع ، فقال لابن أبى ليلى : قل فيها ، فقال : الربع ، فقال جعفر عليه‌السلام : ومن أين قلتم الربع؟ قالوا : لقول الله تعالى (1) «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام وأنا أسمع هذا قد علمت الطير أربعة ، فكم كانت الجبال ، إنما الأجزاء للجبال ، ليس للطير ، فقالوا : ظننا أنها أربعة فقال أبو عبد الله عليه‌السلام ولكن الجبال عشرة» ، وروى جزء من سبعة (2) لقول الله عزوجل (3) «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ». انتهى.

هذا جملة ما وقفت عليه من الأخبار الدالة على القول الأول.

وأما ما يدل على القول الثاني من الأخبار فمنه ما رواه الشيخ في الصحيح عن البزنطي (4) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل أوصى بجزء من ماله فقال : واحد من سبعة ، ان الله تعالى يقول «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» قلت : رجل أوصى بسهم من ماله؟ فقال : السهم واحد من ثمانية ، ثم قرأ «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ» الى آخر الآية.

وعن إسماعيل بن همام الكندي (5) «عن الرضا عليه‌السلام في الرجل يوصى بجزء من ماله ولم يعينه ، فاختلف الوارث بعده في ذلك فقضى عليهم بإخراج السبع من ماله وتلا قوله تعالى «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» ، وقد تقدم في عبارة كتاب الفقه الرضوي وكذا في عبارة المقنع الإشارة الى هذه الرواية.

__________________

(1) سورة البقرة ـ الاية 260.

(2) الوسائل ج 13 ص 444 ح 6.

(3) سورة الحجر ـ الاية 44.

(4 و 5) التهذيب ج 9 ص 209 ح 828 و 829، الوسائل ج 13 ص 447 ح 12 و 13.


وروى العياشي في تفسيره عن البزنطي (1) «عن الرضا عليه‌السلام قال : سأله رجل عن الجزء وجزء الشي‌ء ، فقال : من سبعة ، ان الله يقول (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) ، ورووا أيضا عن إسماعيل بن همام الكوفي (2) «عن الرضا عليه‌السلام في رجل أوصى بجزء من ماله؟ فقال : جزء من سبعة ، ان الله يقول في كتابه : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)».

وفي الفقيه (3) روى البزنطي عن الحسين بن خالد «عن ابى الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل أوصى بجزء من ماله قال : سبع ثلثه».

هذا ما وقفت عليه من الروايات الدالة على القول الثاني والشيخ قد جمع بين الأخبار بحمل الجزء على العشر ، فيجب أن ينفذ في واحد من عشرة ، وحمل أخبار السبع على أنه يستحب للورثة إنفاذه في واحد من سبعة ، لتتلائم الأخبار ، وهو ان كان لا يخلو من بعد لأن ظاهر أخبار السبعة هو أن الحكم الشرعي ذلك ، حيث فسروا عليهم‌السلام الجزء بأنه من سبعة ، بقول مطلق ، إلا أنه في مقام الجمع لا مندوحة عنه ، ولا صرح للحمل على التقية في أحد الطرفين ، لما عرفت من حديث الخراساني المتقدم ، إلا أن يقال : بأن التقية هنا انما هو بإيقاعهم عليهم‌السلام الاختلاف وان لم يكن ذلك قولا للعامة ، كما قدمناه في مقدمات الكتاب من جلد كتاب الطهارة (4) ويمكن أن يؤيد القول الأول بفتوى الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه بذلك ، ونسبة الجزء من سبعة إلى الرواية.

وقال في المسالك بعد ذكر حمل الشيخ (رحمة الله عليه) : ولا بأس بهذا الحمل ، حذرا من اطراح الروايات المعتبرة ، وقال في المسالك أيضا بعد ذكر بعض ما ذكرناه من روايات الطرفين : وهذا القول ـ وأشار به الى القول الثاني ـ أصح

__________________

(1) تفسير العياشي ج 2 ص 243 ح 20.

(2) تفسير العياشي ج 2 ص 244 ح 21.

(3) الفقيه ج 4 ص 152 ح 529.

وهما في الوسائل ج 13 ص 447 ح 13 و 14.

(4) ج 1 ص 4.


رواية والأول أكثر ، فلذلك قال المصنف : أشهرهما العشر ، وتلك أشهر ، وهذه أصح ، وينبغي ترجيح الصحيح.

نعم من حكم بصحة رواية عبد الله بن سنان ، وانضم إليها حسنة أبان ، والباقي من الموثق ، توجه ترجيحه لمضمونها ، وهو خيرة العلامة في المختلف محتجا بكثرتها ، وزيادتها على هذه ، وموافقتها للأصل وبعدها عن الإضراب ، إذ في رواية السبع أنه سبع ثلث وهي الرواية الثالثة التي أشار إليهما المصنف أخيرا ، ورواها الحسين بن خالد عن أبى الحسن (1) عليه‌السلام ثم ساق الرواية كما قدمناه ، ثم قال وهذه الرواية مع جهالة سندها بالحسين بن خالد ، شاذة لا عامل بمضمونها ، والفرق بينها وبين رواية عبد الله بن سنان المتضمنة لعشر الثلث ، أن الموصى صرح فيها بكون الجزء من الثلث ، وهنا جعله من ماله ، ولا إشكال في حمل الجزء على معناه من العشر أو السبع لأي شي‌ء نسب الى المال ، فهو عشره أو سبعة أو الى الثلث أو النصف أو غيرهما ، فهو العشر أو السبع من ذلك الجزء المنسوب إليه فالرواية الأولى لا تخالف سوى رواية السبع ، بخلاف هذه ، فإنها مخالفة للجميع انتهى.

أقول : أما ما رجح به القول الثاني من صحة روايته مشيرا بذلك إلى صحيحة البزنطي المتقدمة ، ففيه أن في روايات العشر أيضا ما هو صحيح ، وهي صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة المروية في كتاب معاني الأخبار ، ولكن العذر له ظاهر ، حيث أن نظرهم مقصور على روايات الكتب الأربعة.

وأما ما طعن به في روايات السبع من الاضطراب بدلالة رواية الحسين بن خالد على أن الجزء سبع ثلثه ، وأنه لا قائل بذلك ، ففيه أولا أن رد هذه الرواية لهذه العلة التي ذكرها ، لا يستلزم رد غيرها من تلك الأخبار الخالية من هذه العلة ، وثانيا أنه يمكن الجواب عما ذكره بحمل ماله في الخبر على ما يجوز له

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 152 ح 529 ، الوسائل ج 13 ص 447 ح 14.


التصرف فيه بعد موته ، وليس إلا الثلث ، فإذا أضيف الجزء اليه وكان الجزء بمعنى السبع كما هو المفروض في هذه الأخبار كان الحاصل سبع من ثلثه ، ولا ينافي ذلك الأخبار المتقدمة بأن المراد بالجزء من ماله يعنى عشر ماله أو سبع ماله ، لأن المال في تلك محمول على ظاهره وهو ماله في حال الحياة وفي هذا الخبر محمول على ماله بعد الموت فلا يكون مخالفا لشي‌ء من الأخبار ، كما ذكره (قدس‌سره) والتأويل في مثله بما ذكرنا للجمع بين الأخبار غير عزيز.

وبالجملة فالمسئلة غير خالية عن شوب الاشكال ، وطريق الاحتياط فيها بالصلح مطلوب على كل حال ، والله العالم.

ومنها الوصية بالسهم ، والمشهور أنه الثمن ، وتدل عليه جملة من الأخبار منها ما تقدم في صحيحة البزنطي ، وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن السكوني (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن رجل يوصى بسهم من ماله فقال : السهم واحد من ثمانية ، يقول الله تبارك وتعالى «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ».

وما رواه في الكافي (2) في الصحيح أو الحسن عن صفوان والبزنطي ورواه في التهذيب (3) أيضا عنهما «قالا : سألنا الرضا عليه‌السلام عن رجل أوصى «لك» بسهم من ماله لا يدرى السهم أي شي‌ء هو؟ فقال : أليس عندكم فيما بلغكم عن جعفر ولا عن أبى جعفر عليهما‌السلام فيها شي‌ء ، قلنا له : جعلنا فداك ما سمعنا أصحابنا يذكرون شيئا من هذا عن آبائك ، فقال : السهم واحد من ثمانية ، فقلنا له : جعلنا الله فداك كيف صار واحدا من ثمانية؟ فقال : أما تقرأ كتاب الله عزوجل؟ قلت :

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 41 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 210 ح 832 ، الفقيه ج 4 ص 152 ح 526.

(2 و 3) الكافي ج 7 ص 41 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 210 ح 833.

وهما في الوسائل ج 13 ص 449 ح 3 وص 448 ح 2.


جعلت فداك أنى لأقرؤه ، ولكن لا أدري أي موضع هو؟ فقال : قول الله تعالى (1) «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ» ثم عقد بيده ثمانية قال : وكذلك قسمها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثمانية أسهم ، فالسهم واحد من ثمانية» ،.

ورواه الصدوق في معاني الأخبار في الصحيح عن صفوان (2). وروى الشيخ المفيد في الإرشاد (3) قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أوصى بسهم من ماله ، ولم يبينه فاختلف الورثة في معناه ، فقضى بينهم بإخراج الثمن من ماله ، وتلا عليهم «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ» الآية ، وهم ثمانية أصناف ، لكل صنف منهم سهم من الصدقات».

والقول بالثمن مذهب الشيخ في النهاية ، قال : وقد روى أنه سهم من عشرة ، والأول أكثر في الرواية ، وهذا القول أيضا قول الشيخ المفيد ، وابن الجنيد ، والصدوق ، وابن البراج ، وسلار ، وابن إدريس ، وهو المشهور بين المتأخرين.

وقال الشيخ في الخلاف والمبسوط : أنه السدس ، وبه قال الشيخ علي بن بابويه (رحمة الله عليه).

أقول : والرواية التي أشار إليها الشيخ في النهاية بأن السهم من عشرة هي ما رواه

في التهذيب عن طلحة بن زيد (4) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : من أوصى بسهم من ماله ، فهو سهم من عشرة». والشيخ حملها في التهذيب على وهم الراوي بالاشتباه عليه بين الجزء والسهم.

قال الصدوق في الفقيه (5) وقد روي أن السهم واحد من ستة ، ثم جمع

__________________

(1) سورة التوبة ـ الاية 60.

(2) معاني الأخبار ص 216 ح 2 ط إيران سنة 1379.

(3) الإرشاد ص 106.

(4) التهذيب ج 9 ص 211 ح 734.

(5) الفقيه ج 4 ص 152 ح 527.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 448 ح 2 وص 450 ح 7 وص 449 ح 4 و 5.


بينها وبين الرواية الثانية بحمل الستة على ما إذا اوصى بسهم من سهام المواريث ، والثمانية على ما إذا أوصى بسهم من سهام الزكاة قال : فتمضي الوصية على ما يظهر من مراد الموصى.

أقول : والرواية بأن السهم واحد من ستة لم ينقلها أحد منهم بغير هذا العنوان المحمل ، والظاهر أن المراد بها ما ذكره الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (1) حيث قال : «فإن أوصى بسهم من ماله فهو سهم من ستة أسهم ، وكذلك إذا أوصى بشي‌ء من ماله غير معلوم فهو واحد من ستة» ، ومنه يعلم أن قول الشيخ علي بن بابويه بما نقل عنه من أنه السدس انما أستند فيه الى الكتاب المذكور ، والأصحاب هنا مع نقلهم هذا القول عنه لم يستدلوا له بشي‌ء لعدم وجود ذلك في كتب الأخبار المتداولة بينهم ، ومنه يعلم كما قدمنا ذكره أن اعتماده على هذا الكتاب ، وفتواه بما فيه مع كونه على خلاف الروايات المتكاثرة ، كما سمعت ، وخلاف قول غيره من الأصحاب (رحمهم‌الله) أدل دليل على ثبوت كون الكتاب له عليه‌السلام وأن ذلك مقطوع به عنده ، وفي الوسائل احتمل حمل هذه الرواية على التقية ، وهو غير بعيد.

وقال في المسالك : وذهب الشيخ في أحد قوليه إلى أنه السدس ، لما روى عن ابن مسعود (2) أن رجلا أوصى لرجل بسهم من المال فأعطاه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) السدس وقيل : أن السهم في كلام العرب السدس ، انتهى.

أقول : والاستدلال بهذه الرواية العامية يحتمل أن يكون من الشيخ كما هو الأقرب ، ويحتمل أن يكون من صاحب المسالك ، وأيا ما كان ففي ذلك نوع تأييد بحمل كلامه عليه‌السلام في كتاب الفقه على التقية في هذا الحكم ، وكيف كان فالعمل على المشهور ، لتكاثر الأخبار ، والله العالم.

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 527 الباب 48 ح 1.

(2) الخلاف ج 2 ص 310 مسئلة 9 من كتاب الوصية ، المغني لابن قدامة ج 6 ص 446.


ومنها ما لو أوصى بشي‌ء وظاهر كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه السدس ، ويدل عليه ما تقدم في عبارة كتاب الفقه الرضوي (1) وما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيدهم عن أبان بن تغلب (2) «عن علي بن الحسين عليهما‌السلام أنه سئل عن رجل أوصى بشي‌ء من ماله؟ فقال : الشي‌ء في كتاب علي عليه‌السلام واحد من ستة».

ورواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار (3) عن ابان بن تغلب عن «علي بن الحسين عليه‌السلام قال : قلت له : رجل أوصى بشي‌ء من ماله؟ فقال لي : في كتاب علي عليه‌السلام الشي‌ء من ماله واحد من ستة».

ومنها ما لو أوصى بكثير قال الخلاف : إذا قال أعطوا كثيرا من مالي فإنه يستحق ثمانين ، على ما رواه أصحابنا في حد الكثير ، وتبعه ابن حمزة ولم يفسر الكثير ، قال في المختلف : والظاهر أن مرادهما ثمانون درهما كالنذر.

وقال الصدوق : إذا أوصى رجل بمال كثير ، ونذر أن يتصدق بمال كثير ، فالكثير ثمانون فما زاد ، لقوله تعالى «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ» ، وكانت ثمانين موطنا.

وقال الشيخ (رحمة الله عليه) في كتاب الإقرار من الخلاف لو قال له : عندي مال كثير ، فإنه يكون إقرارا بثمانين ، على الرواية التي تضمنت أن الوصية بالمال الكثير وصية بثمانين.

وقال ابن إدريس في قول الشيخ (رحمة الله عليه) تسامح وتجاوز ، إنما الرواية وردت فيمن نذر أن يتصدق بمال كثير ، وما وردت في الوصية ، ولا أوردها أحد من أصحابنا في الوصايا ، والذي يقتضيه أصول المذهب ، وتحكم به الأدلة

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 527 الباب 48 ح 1.

(2) الكافي ج 7 ص 40 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 211 ح 835 ، الفقيه ج 4 ص 151 ح 525.

(3) معاني الأخبار ص 217 ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 450 الباب 56.


والاعتبار أن لا يتجاوز بالرواية ، وما وردت فيه فحسب ، ولا تعداها الى غير النذر في تفسير الكثير الى المقر ، وكذا في الوصية في تفسير الكثير ، انتهى.

أقول : والى هذا القول مال كثير من المتأخرين ، والرواية المشار إليها بأنها وردت في النذر هي ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم (1) عن بعض أصحابه ذكره قال : «لما سم المتوكل نذر ان عوفي أن يتصدق بمال كثير ، فلما عوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير ، فاختلفوا عليه ، فقال : بعضهم مائة ألف ، وقال بعضهم : عشرة آلاف ، وقالوا فيه أقاويل مختلفة ، فاشتبه عليه الأمر ، فقال رجل من ندمائه يقال صفعان : ألا تبعث الى هذا الأسود فتسأله عنه ، فقال له المتوكل : من تعني ويحك؟ فقال له : ابن الرضا ، فقال له : وهو يحسن من هذا شيئا؟ فقال : يا أمير المؤمنين : ان أخرجك عن هذا فلي عليك كذا وإلا فاضربني مائة مقرعة ، فقال المتوكل : قد رضيت ، يا جعفر بن محمود صر اليه وسله عن حد المال الكثير ، فصار جعفر بن محمود الى أبى الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام فسأله عن حد المال الكثير ، فقال له : الكثير ثمانون ، فقال له جعفر : يا سيدي إنه يسألني عن العلة فيه ، فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : ان الله عزوجل يقول (2) «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ» فعددنا تلك المواطن فكانت ثمانين موطنا».

وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ذكر أن الذي سأله المتوكل هو الجواد عليه‌السلام وهو غفلة عن مراجعة الرواية ، والشيخ والصدوق وجمع ممن تبعهما عدوا الحكم إلى الوصية ، وأضاف الشيخ : الإقرار ، كما عرفت نظرا الى ان ذلك حد شرعي للكثير ، حيثما أطلق كالجزء والسهم ، فلا يقتصر على موضع السؤال إذ لو حمل في غير النذر على غيره لزم الاشتراك المخالف للأصل ، والمتأخرين كشيخنا الشهيد الثاني في المسالك طعنوا في الرواية بالضعف والإرسال ، مضافا

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 463 ح 21 ، الوسائل ج 16 ص 223 ح 1.

(2) سورة التوبة ـ الاية 25.


الى مخالفتها للأصل واللغة والعرف ، قال واستشهاده بالمواطن الكثيرة المنصور فيها لا يقتضي انحصار الكثير فيه ، فقد ورد في القرآن فيها ، فاكهة كثيرة ، وذكرا كثيرا ، ولم يحمل على ذلك ، والحق الرجوع فيه الى الوارث ، وبذلك صرح في المختلف أيضا فقال : والوجه عندي اختصاص هذا التقدير بالنذر ، وللورثة أن يعطوا مهما شاؤا.

ومنها ما لو أوصى بوجوه من الوصايا فنسي الوصي بعضها فالمشهور بين الأصحاب أنه يصرف الأبواب المنسية في وجوه البر.

ويدل عليه ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن محمد بن ريان (1) قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام وفي الفقيه الى علي بن محمد عليهما‌السلام أسأله عن إنسان أوصى بوصية فلم يحفظ الوصي إلا بابا واحدا منها ، كيف يصنع في الباقي؟ فوقع عليه‌السلام : والأبواب الباقية اجعلها في البر».

وذهب ابن إدريس والشيخ في أجوبة الحائريات إلى بطلان الوصية ، فإنه يرجع الى الورثة.

ونقل عن ابن إدريس الاحتجاج على ما ذهب إليه بأنها وصية بطلت ، لامتناع القيام بها ، فترجع الى الوارث ، واحتج القائلون بالقول المشهور بان المال خرج عن الوارث بالوصية النافذة أولا؟ لأنه المفروض ، فعوده الى ملك الوارث يحتاج الى دليل ، وجهالة مصرفه تصيره بمنزلة المال المجهول المستحق ، فيصرف في وجوه البر ، ولأنه لو رجع الى الوارث لزم تبديل الوصية للنهي عنه ، بخلاف البر ، لأنه عمل بمقتضاها ، غايته جهالة المصرف ، فيصرف فيما يصرف فيه المال المجهول ، ولأن الموصي ربما أراد بوصيته القربة المخصوصة ، فإذا فات الخصوص بالنسيان ، بقي العموم ، فيكون أقرب إلى مراد الموصى كذا قرره شيخنا في المسالك ، ثم

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 58 ح 7 ، التهذيب ج 9 ص 214 ح 844 ، الفقيه ج 4 ص 162 ح 565 ، الوسائل ج 13 ص 453 الباب 61.


قال : وتشهد له رواية محمد بن ريان ، ثم ساق الخبر كما قدمناه ، وانما جعله شاهدا دون أن يجعله دليلا لضعف سنده عنده ، بهذا الاصطلاح المحدث ، فالدليل عنده انما هو ما قرره من هذه الوجوه التي ذكروها ، ولا يخفى ما فيه على الفطن النبيه ، والأظهر هو الاعتماد على الخبر.

اما بناء على الاصطلاح القديم أو الجبرة بالشهرة بين الأصحاب ، إذ لا مخالف في الحقيقة إلا ابن إدريس ، والشيخ وان قال بذلك في الحائريات ، إلا أنه في كتبه موافق للأصحاب ، وتجعل هذه التعليلات التي ذكروها وجوها للنص ، وبيان الحكمة فيه.

ويعضد هذا النص جملة من النصوص أيضا في جزئيات الوصايا ، ويستفاد من ضم بعضها الى بعض قاعدة كلية ، وهي أنه متى تعذر صرف الوصية على الوجه الموصى به لأي عذر كان ، فإنها تصرف في وجوه البر ، ولا ترجع إلى الورثة ، لتعذر المصرف.

فمن ذلك ما ورد في جملة من الأخبار (1) «من أن من أوصى للكعبة بمال أو غلام أو جارية أو أهدى لها نحو ذلك ، فإنه يصرف المال ، ويباع الغلام والجارية ، ويصرف ثمنها في المنقطعين من الحاج ، معللا بأن الكعبة لا تأكل ، ولا تشرب ، وما أهدي لها فهو لزوارها».

ومن ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى ضرائحهم) عن علي بن مزيد صاحب السابري (2) عن أبى عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل يتضمن أنه أوصى رجل بتركته الي على المذكور وأمره أن يحج بها عنه ، وكانت التركة لا تبلغ ذلك ، فسأل الفقهاء فأفتوه بالصدقة بها ، فتصدق بها ثم لقي أبا عبد الله عليه‌السلام فسأله وأخبره

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 213 ح 842 وص 214 ح 843 ، الوسائل ج 13 ص 453 الباب 60.

(2) الكافي ج 7 ص 21 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 228 ح 896 ، الفقيه ج 4 ص 154 ح 534 ، الوسائل ج 13 ص 473 الباب 87.


بما فعل فقال : ان كان لا يبلغ ان يحج به من مكة فليس عليك ضمان ، وإلا فأنت ضامن ، وقد قرره عليه‌السلام على الصدقة مع عدم بلوغ الحج به من مكة ، ولم يحكم ببطلان الوصية ، والرجوع ميراثا ، وربما قيل : بالرجوع هنا ميراثا كما نقله بعض مشايخنا ، والنص المذكور يرده.

ومن ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (رضي‌الله‌عنهم) عن مثنى (1) قال : «سألته عن رجل أوصى له بوصية فمات قبل أن يقبضها ولم يترك عقبا ، قال : اطلب لها وارثا أو مولى فادفعها اليه ، قلت : فان لم أعلم له وارثا؟ قال : اجهد على أن تقدر له على ولي ، فان لم تجده وعلم الله منك الجهد ، فتصدق بها».

والتقريب فيه ما تقدم من أنه مع تعذر التنفيذ فيما أوصى به يرجع الى الصدقة ، والخبر المذكور محمول إما على موت الموصي بتلك الوصية ، ثم موت الموصى له قبل الدفع له ، أو على بقاء الموصي مع عدم الرجوع في الوصية الى أن مات ، وقد تقدم الكلام في هذه المسئلة ، ومما يلائم ذلك أيضا ما ورد (2) فيمن أوصى أن يعتق عنه نسمة بخمسمائة درهم ، فاشتريت بأقل فإنها تعطى الباقي وتعتق ، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع.

ومنها ما لو أوصى بسيف معين وهو في جفن ، فإنه يدخل الجفن والحلية في الوصية ، وكذا لو أوصى بصندوق فيه ثياب أو سفينة وفيها متاع ، أو جراب وفيه متاع ، فإن الوصية تكون شاملة للجميع ، وهذا هو المشهور بين الأصحاب متقدميهم ومتأخريهم ، وقال الشيخ في النهاية بذلك أيضا إلا أنه قيده بكون الموصى عدلا مأمونا ، فان لم يكن عدلا وكان متهما لم تنفذ وصيته في أكثر من ثلثه من الصندوق ، والسفينة والجراب وما فيها.

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 13 ح 3 وص 19 ح 13، التهذيب ج 9 ص 231 ح 905 وص 221 ح 18، الفقيه ج 4 ص 156 ح 542 وص 159 ح 15، الوسائل ج 13 ص 409 ح 2 وص 495 الباب 77 ، وليس في هذه النسخ «عن مثنى».


والذي يدل على المشهور ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي جميلة (1) قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام أسأله عن رجل أوصى لرجل بسيف ، فقال الورثة : إنما لك الحديد وليس لك الحلية ليس لك غير الحديد فكتب الى : السيف له وحليته».

وما رواه المشايخ الثلاثة عن أبي جميلة (2) عن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن رجل أوصى لرجل بسيف وكان في جفن ، وعليه حلية؟ فقال له الورثة إنما لك النصل ، وليس لك المال ، قال : فقال : لا بل السيف بما فيه له ، قال : فقلت : رجل أوصى لرجل بصندوق وكان فيه مال ، فقال الورثة إنما لك الصندوق ، وليس لك المال ، قال : فقال أبو الحسن عليه‌السلام : الصندوق بما فيه له».

وما رواه في التهذيب عن علي بن عقبة (3) عن أبيه قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى لرجل بصندوق وكان في الصندوق مال ، فقال الورثة : إنما لك الصندوق وليس لك ما فيه ، فقال : الصندوق بما فيه له».

وعن عقبة بن خالد (4) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل قال : هذه السفينة لفلان ، ولم يسم ما فيها ، وفيها طعام أيعطيها الرجل وما فيها؟ قال : هي للذي أوصى له بها ، إلا أن يكون صاحبها متهما ، وليس للورثة شي‌ء».

ورواه الصدوق إلا أنه قال «إلا أن يكون صاحبها استثنى مما فيها وليس للورثة شي‌ء».

قال في كتاب الفقه الرضوي (5) وإذا أوصى رجل لرجل بصندوق أو سفينة

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 44 ح 3 و 1، التهذيب ج 9 ص 211 ح 839 و 837 ، الفقيه ج 4 ص 161 ح 561. الوسائل ج 13 ص 451 ح 2.

(3 و 4) التهذيب ج 9 ص 212 ح 840 و 838 ، الفقيه ج 4 ص 161 ح 562.

(5) المستدرك ج 2 ص 527 الباب 50 ح 1. الوسائل ج 13 ص 452 ح 1 الباب 59.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 451 ح 2 و 1 وص 452 ح 1 و 2 وص 452 ح الباب 59.


وكان في الصندوق أو السفينة متاع أو غيره ، فهو مع ما فيه لمن أوصى له ، إلا أن يكون قد استثنى ما فيه».

وهذه الروايات كما ترى ظاهرة الدلالة على القول المذكور إلا رواية عقبة بن خالد الأخيرة بناء على غير رواية الصدوق وسيأتي الكلام فيها ان شاء الله تعالى.

وقال في المسالك ـ بعد الاستدلال للقول المشهور برواية أبي جميلة الثانية ورواية عقبة بن خالد الأخيرة ـ ما صورته : وهذه الروايات ضعيفة السند ، إلا أن العرف شاهد لدخول جفن السيف وحليته فيه ، وهو محكم في أمثال ذلك ، فإنه لو قال : خذ سيفك أو سافر فلان بسيفه ، لا يفهم منه إلا مجموع هذه الأشياء حتى لو جرده عن غمده لعده العقلاء سفيها ، والعرف كاف في إثبات ذلك وتبقى الرواية شاهدة فالحكم بدخولها فيه قوى ، وأما الباقي فلا يدل العرف على تناول الظرف للمظروف غالبا ، والرواية قاصرة عن إثبات المطلوب فالقول بعدم الدخول أجود ، نعم لو دل العرف أو القرينة على شي‌ء في بعض الأفراد اتبع ، كما أنه لو دل على عدم دخول الجفن أو الحلية في بعض الموارد لم يدخل ، وجملة الأمر ترجع الى عدم الدخول إلا مع العرف والقرينة ، وبنحو ذلك صرح في المختلف.

أقول : لا يخفى ما فيه ، فان رد الأخبار بمجرد الاعتبار ، جرأة على الأئمة الأطهار ، والأحكام الشرعية مبنية على التوقف لا مسرح للقول فيها كما تقدم في غير موضع والأخبار المذكورة وان ضعف سندها بهذا الاصطلاح الذي هو الى الفساد أقرب من الصلاح ، كما أوضحناه في مقدمات كتاب الطهارة ، إلا أنه لا راد لها من الأصحاب ، وضعفه منجبر بالشهرة بينهم ، وقد جروا على ذلك في مواضع لا تحصى من الأحكام كما لا يخفى على المتتبع.

نعم يمكن التوقف على نفيه في مقام التهمة ، بناء على رواية الشيخين في الكافي والتهذيب ، وأما على رواية الصدوق فلا اشكال ، وهكذا هو مختاره في الدروس.


وأما ما ذكره الشيخ مما قدمنا نقله فإنه استشكل فيه جملة ممن تأخر عنه ، منهم العلامة في المختلف وشيخنا في المسالك بأن فيه أولا ان ما شرطه من عدالة الموصى غير معتبر في الوصية مطلقا ، وانما يعتبرها بعض الأصحاب في الإقرار على بعض الوجوه على ما فيه.

وثانيا أن نفوذها من الأصل علي تقدير العدالة ، ومن الثلث على تقدير عدمها ، فإنه أيضا ليس من جملة أحكام الوصية بل من أحكام إقرار المريض على بعض الوجوه ، وسيأتي ان شاء الله تعالى ذكره عند ذكر المسئلتين.

وثالثا تعميمه الحكم في هذه الأشياء من الصندوق والسفينة والجراب مع أن الرواية التي هي منشأ حكمه إنما موردها السفينة ، وهي رواية خالد بن عقبة كما عرفت ، بروايته في الكافي ، والتعدية إلى غيرها مع المخالفة للأصل بعيد.

وقال المحدث الكاشاني في الوافي ذيل هذه الرواية ، «يعني بالتهمة» أن يظن به إرادته الإضرار بالورثة ، وأن لا يبقى لهم شي‌ء ، وقوله وليس للورثة شي‌ء عطف على «هي للذي» ويحتمل أن يكون معناه ولم يبق لهم شي‌ء من تتمة الاستثناء وفي نسخ الفقيه «إلا أن يكون صاحبها استثنى مما فيها» ، وعلى هذا فلا يحتمل قوله «وليس للورثة شي‌ء» إلا معناه الظاهر ، وعلى معناه الظاهر تحمل الوصية على الإقرار ، لعدم صحتها مشدودا كان أم لا.

ونقل عن الشيخ المفيد أنه قيد الصندوق بكونه مقفلا ، والجراب بكونه مشدودا ، والنصوص كما عرفت مطلقة هذا ، وظاهر الأخبار المتقدمة وبه صرح بعض الأصحاب كون ذلك الموصى به معينا ، فلو كان مطلقا كما لو قال أعطوه سيفا أو سفينة أو صندوقا ، فإنه لا يتناول إلا ما دل عليه اللفظ ، وهذا في السفينة والصندوق ظاهر حيث ان ما فيها لا يدخل في مدلول اللفظ ، وأما في السيف فإشكال لما تقدم نقله عن المسالك ، من حيث دلالة العرف على تبعية الجفن والحلية ودخولهما في إطلاق السيف ، فيدخل حينئذ سواء كان معينا أو مطلقا ولا يخلو من قوة.


وفي المسالك هنا أن دخول الجفن قوي لأنه كالجزء عرفا ، أما الحلية فلا تدخل إلا مع التعيين ، وهو خلاف ما صرح به أولا مما قدمنا نقله عنه ، بل الظاهر أن العكس أقوى لأن الحلية أقرب الى الجزئية من الجنس الذي هو متفرد على حده ، والله العالم.

ومنها ما لو أوصى في سبيل الله وقد اختلف الأصحاب في ذلك فقال الشيخ في النهاية والشيخ المفيد في المقنعة : إذا أوصى بثلث ماله في سبيل الله ولم يسم أخرج في معونة المجاهدين لأهل الضلال والكافرين ، وإن لم يحضره مجاهد في سبيل الله وضع في أبواب البر من معونة الفقراء والمساكين ، وأبناء السبيل ، وصلة آل الرسول ، بل يصرف أكثره في فقراء آل محمد عليهم‌السلام ومساكينهم وأبناء سبيلهم ، ويصرف ما بقي بعد ذلك في أبواب البر ، وتبعهما في ذلك ابن البراج في الكامل ، وقال في المبسوط : إذا أوصى بصرف ثلث ماله في سبيل الله ، فسبيل الله هم الغزاة ، وهم على ضربين أحدهما المرابطون المترصدون للقتال ، فهؤلاء لا تدفع إليهم من الزكاة ، لأنه يصرف إليهم أربعة أخماس الغنيمة ، والضرب الثاني هم أصحاب الصنائع الذين إذا نشطوا غزوا ، ثم عادوا الى حرفتهم ، فهؤلاء تدفع إليهم من الزكاة مع الغنى والفقر ، وهكذا الوصية ، وفي أصحابنا من قال : ان سبيل الله يدخل فيه جميع مصالح المسلمين ، من بناء القناطير وعمارة المساجد ، والمشاهد ، والعمرة ، ونفقة الحاج ، والزوار ، وغير ذلك.

دليلنا على هذا أخبار الطائفة ، وأيضا فإن جميع ذلك طريق الى الله ، وسبيل إليه ، فالأولى حمل اللفظ على عمومه ، وكذا الخلاف في آية الزكاة.

أقول : وظاهره اختيار القول الثاني ، وقال ابن الجنيد إذا قال في السبيل ، أو سبيل الله جاز ذلك لأهل الثغور ، وأقربهم إليه أولى ، وجاز أن يجعل في الحج لقول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (1) لأم معقل وقد سألته عن ابنها

__________________

(1) سنن البيهقي ج 6 ص 274.


وقد جعل بغيره في السبيل «اركبي بعيرك ، فان الحج من سبيل الله» ، وجاز أيضا فيمن كان مرابطا لأعداء الله وحابسا نفسه على جهادهم ، والذب عن دين الله والمسلمين.

وقال علي بن بابويه : ان شاء جعله لإمام المسلمين ، وان شاء جعله في حج أو فرقه على قوم مؤمنين ، وبذلك قال ابنه في المقنع.

وقال ابن إدريس : يصرف ذلك في جميع مصالح المسلمين ، مثل بناء القناطر والمساجد ، وتكفين الموتى ، ومعونة الحاج ، والزوار ، وما أشبه ذلك لإجماع أصحابنا ، ولأن ما ذكرناه طريق الى الله تعالى ، وإذا كان كذلك فالأولى حمل لفظة «سبيل الله» على عمومها ، والظاهر أنه الى هذا القول مال جملة من تأخر عنه والمستند فيه ما أشار اليه ، وتوضيحه أن السبيل لغة الطريق ، والمراد بسبيل الله الطريق إليه ، أي إلى رضوانه وثوابه ، لاستحالة التحيز عليه جل شانه ، وهذا المعنى شامل لجميع ما يتقرب به الى الله تعالى ، فيجب حمل اللفظ عليه ، حيث لا مخصص من شرع أو عرف.

ونقل عن الشيخ ومن تبعه من الحمل على الغزاة ، انهم احتجوا بأن الشرع يقتضي صرف السبيل إلى الغزاة ، وحكم كلام الآدميين مع إطلاقه حكم ما اقتضاه الشرع ، قال في المختلف ومثله المسالك : والمقدمتان ممنوعتان.

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله مراقدهم) عن الحسن بن راشد (1) قال : سألت العسكري عليه‌السلام وفي الفقيه أبا الحسن العسكري عليه‌السلام بالمدينة عن رجل أوصى بمال في سبيل الله فقال : سبيل الله شيعتنا».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن حجاج الخشاب (2) «عن

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 15 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 204 ح 811 ، الفقيه ج 4 ص 153 ح 530.

(2) الكافي ج 7 ص 15 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 203 ح 810.

وهما في الوسائل ج 13 ص 412 ح 1 وص 413 ح 3.


ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن امرأة أوصت الى بمال أن يجعل في سبيل الله فقيل لها تحج به؟ فقالت : اجعله في سبيل الله ، فقالوا لها : فنعطيه آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)؟ فقالت : اجعله في سبيل الله ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : اجعله في سبيل الله كما أمرت ، قلت : مرني كيف اجعله؟ قال : اجعله كما أمرتك ان الله تبارك وتعالى يقول (1) «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» أرأيتك لو أمرتك ان تعطيه يهوديا كنت تعطيه نصرانيا؟ قال : فمكثت بعد ذلك ثلاث سنين ثم دخلت عليه فقلت له : مثل الذي قلت له أول مرة فسكت هنيئة ثم قال : هاتها قلت : من أعطيها؟ قال : عيسى شلقان».

وما رواه المشايخ الثلاثة عن الحسين بن عمر (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أن رجلا أوصى الى بشي‌ء في السبيل فقال لي : اصرفه في الحج ، قال : قلت له أوصى لي في السبيل؟ فقال : اصرفه في الحج» ، وفي التهذيب دون الآخرين «قلت له : أوصى في السبيل؟ فقال : اصرفه في الحج فاني لا أعلم شيئا من سبيل أفضل من الحج». وجمع في الفقيه بين هذا الخبر والخبر الأول يصرفه إلى الشيعة لتحج به ، واستحسنه الشيخ في التهذيبين.

وأنت خبير بأن سبيل الله اما أن يخص بالجهاد كما هو أحد القولين في المسئلة ، أو يفسر بما هو أعم فيدخل جميع القربات ، والمعنى الأول لا مجال لاعتباره هنا ، وعلى الثاني فلا تنافي بين الحديثين ، ليحتاج الى الجمع بين الخبرين.

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمد بن مسلم (3) «قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى بماله في سبيل الله فقال : أعطه لمن أوصى به وان

__________________

(1) سورة البقرة ـ الاية 181.

(2 و 3) الكافي ج 7 ص 15 ح 5 وص 14 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 203 ح 809 و 808 ، الفقيه ج 4 ص 153 ح 530 وص 148 ح 514، الوسائل ج 13 ص 412 ح 2 وص 411 ح 1.


كان يهوديا أو نصرانيا ، ان الله تبارك وتعالى يقول «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» قال في الفقيه «ماله هو الثلث».

وعن يونس بن يعقوب (1) «أن رجلا كان بهمدان ذكر أن أباه مات وكان لا يعرف هذا الأمر أوصى بوصية عند الموت ، وأوصى بان يعطى شي‌ء في سبيل الله فسئل عنه أبو عبد الله عليه‌السلام كيف يفعل به ، فأخبرناه أنه كان لا يعرف هذا الأمر ، فقال : لو أن رجلا أوصى الى أن أضع في يهودي أو نصراني لوضعته فيهما ، ان الله عزوجل يقول «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» فانظروا الى من يخرج الى هذا الوجه ، يعنى بعض الثغور فابعثوا به اليه».

وقال الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (2) : وان أوصى بماله في سبيل الله ولم يسم السبيل فان شاء جعله لإمام المسلمين ، وان شاء جعله في حج أو فرقه على قوم مؤمنين». وهذه العبارة عين عبارة الشيخ علي بن بابويه في المقنع كما تقدم ، ومنه يعلم أن مستنده في ذلك انما هو الكتاب المذكور كما تلوناه عليك في غير موضع ، ولا سيما في كتب العبادات.

أقول : مرجع الخلاف المذكور في هذه المسئلة الى أن سبيل الله متى أطلق هل هو الجهاد أو جميع أبواب البر؟ فالشيخ ومن تبعه على الأول ، وان جوز مع تعذر الصرف في أنواع البر ، والمشهور بين المتأخرين الثاني ، ولا يخفى أن الأول مذهب أكثر العامة.

قال في المنتهى في كتاب الزكاة. وانما الخلاف في تفسيره ، والشيخ في النهاية والجمل أنه الجهاد ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ، وقال أحمد ومحمد بن الحسن : يجوز أن يصرف في معونة الحاج.

ومن ذلك يظهر أن ما دلت عليه رواية يونس بن يعقوب من أمره عليه‌السلام

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 14 ح 4 ، الوسائل ج 13 ص 414 ح 4.

(2) المستدرك ج 2 ص 524 الباب 30 ح 3.


بدفع ذلك الى من يخرج الى بعض الثغور انما هو من حيث ان الموصي كان من العامة ، القائلين باختصاص هذا اللفظ بالمجاهدين ، فلا منافاة فيها لما تقدم.

وأما صحيحة محمد بن مسلم فظاهرها أن المراد بسبيل الله الذي أمر عليه‌السلام بالإعطاء له هو الجهاد ، وهو إما محمول على كون الموصي مخالفا ، أو أن الحكم خرج مخرج التقية ، والاستدلال بالآية مضافا الى قوله «أعطه لمن أوصى» يؤيد الأول.

وأما رواية حجاج الخشاب فظاهرها أيضا أن المرأة الموصية كانت مخالفة وأنها أرادت بسبيل الله الجهاد ، ولهذا كلما كرر عليها بعض وجوه القربات ، يأمر بالجعل في سبيل الله ، وقد أمر عليه‌السلام بصرفه في ذلك محتجا بالآية ، وفيه إشارة إلى أنها انما قصدت الجهاد ، فالمخالفة له تبديل منهي عنه ، ثم قال له «أرأيتك لو أمرتك أن تعطيه يهوديا كنت تعطيه نصرانيا» ، وفيه أيضا إشارة إلى معلومية الموصى إليه من هذا اللفظ ، وليس إلا الجهاد.

بقي الكلام في عدوله عليه‌السلام بعد هذه المدة الى ما ذكره في آخر الخبر من الدفع الى ذلك الرجل ، ويحتمل أن يكون من حيث عدم وجود المصرف في ذلك الوقت أو إرادة أن جهادهم لم يكن مشروعا ، عدل عنه الى صرفه في الشيعة ، كما هو مذهبهم عليهم‌السلام في المسئلة.

وأما باقي الأخبار فهي متلائمة متقاربة للدلالة على القول المشهور ، ويؤيدها ما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره ، في تفسير قوله سبحانه في آية الزكاة «فِي سَبِيلِ اللهِ» (1) «عن العالم عليه‌السلام قال وَ «فِي سَبِيلِ اللهِ» قوم يخرجون الى الجهاد وليس عندهم ما يتقوون به ، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجون به ، أو في جميع سبيل الخير» الحديث ، وبذلك يظهر أن الأقوى هو القول المشهور ، والله العالم.

__________________

(1) الوسائل ج 6 ص 145 ح 7 ، تفسير القمي ج 1 ص 299.


ومنها ما لو أوصى بإخراج بعض ولده من ميراثه ، فان المشهور أنه لا تنفذ وصيته ، وقيل ، انها تصح ، لكن في الثلث خاصة ، وهو ظاهر اختيار العلامة في المختلف ، قال في الكفاية : ولعله أقرب.

وقيل : بالصحة من الأصل فيمن أوصى أبوه بإخراجه لوقوعه على أم ولد له ، فإنه يحرم من جميع التركة ، وهو ظاهر الصدوق ، والشيخ في كتابي الأخبار.

قال المحقق في الشرائع : ولو أوصى بإخراج بعض ولده من تركته لم يصح ، وهل يلغو اللفظ فيه؟ تردد ، بين البطلان وإجرائه مجرى من أوصى بجميع ماله لمن عدا الولد ، فتمضى من الثلث ، ويكون للمخرج نصيبه من الباقي بموجب الفريضة ، والوجه الأول ، وفيه رواية بوجه آخر مهجورة ، انتهى.

وعلل وجه الصحة واعتبار الثلث ـ كما ذهب إليه في المختلف ـ بأن إخراجه من التركة يستلزم تخصيص باقي الورثة بها ، فكان كما لو أوصى بها ، لمن عداهم فتمضى من الثلث بمعنى حرمان ذلك بإخراجه من الثلث ، ومشاركته في الثلثين ان كان معه مساو ، والاختصاص ان لم يكن.

ولشيخنا الشهيد الثاني في المسالك هنا مؤاخذة على هذا القول ، الظاهر أنها لا تخلو من تكلف ، وهذا يدل على القول المشهور ، وظاهر الكتاب والسنة كقوله عزوجل (1) «يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن سعد بن سعد (2) قال : «سألته يعني أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن رجل كان له ابن يدعيه فنفاه وأخرجه من الميراث وأنا وصيه ، فكيف أصنع؟ فقال عليه‌السلام : لزمه الولد بإقراره بالمشهد لا يدفعه الوصي عن شي‌ء قد علمه» ، والمسئلة بمحل من الاشكال لعدم النص المفصح عن تحقيق الحال.

__________________

(1) سورة النساء ـ الاية 11.

(2) الكافي ج 7 ص 64 ح 26 ، التهذيب ج 9 ص 235 ح 917 ، الوسائل ج 13 ص 476 ح 1.


بقي الكلام فيما ذهب اليه الصدوق والشيخ (طيب الله تعالى مرقديهما) من القول المتقدم نقله عنهما ، فإنه يدل عليه ما رواه في الكافي والفقيه عن وصي علي بن السري (1) قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : ان علي بن السري توفي فأوصى الي قال : (رحمه‌الله) قلت : وان ابن جعفر أوقع على أم ولد له فأمرني أن أخرجه من الميراث ، قال : فقال لي أخرجه من الميراث وان كنت صادقا فيصيبه خبل ، قال : فرجعت فقدمني الى أبى يوسف القاضي ، فقال له ، أصلحك الله أنا جعفر بن علي بن السري وهذا وصي أبي فمره ، فليدفع إلي ميراثي من أبى ، فقال أبو يوسف القاضي لي : فما تقول؟ فقلت له : نعم هذا جعفر بن علي بن السري وأنا وصي علي بن السري ، قال : فادفع اليه ماله ، فقلت : أريد أن أكلمك ، قال فادن الي ، فدنوت حيث لا يسمع أحد كلامي فقلت له : هذا وقع على أم ولد لأبيه فأمرني أبوه ، وأوصى الي أن أخرجه من الميراث ، ولا أورثه شيئا ، فأتيت موسى بن جعفر عليهما‌السلام بالمدينة ، فأخبرته وسألته فأمرني أن أخرجه من الميراث ولا أورثه شيئا ، فقال : الله ان أبا الحسن عليه‌السلام أمرك؟ قال : قلت : نعم ، فاستحلفني ثلاثا ثم قال لي : أنفذ ما أمرك أبو الحسن عليه‌السلام فالقول قوله ، قال الوصي : فأصابه الخبل بعد ذلك ، قال أبو محمد الحسن بن علي الوشاء : فرأيته بعد ذلك ، وقد أصابه الخبل» ، وهذه الرواية التي أشار إليها المحقق بأنها مهجورة.

قال الصدوق في الفقيه : ومتى أوصى الرجل بإخراج ابنه من الميراث ، ولم يحدث هذا الحديث لم يجز للوصي إنفاذ وصيته في ذلك ، وتصديق ذلك ما رواه ابن عيسى عن عبد العزيز المهتدي عن سعد بن سعد ثم ساق الرواية المتقدمة.

وظاهره تقييد إطلاق خبر سعد بخبر وصي علي بن السري ويأتي على هذا تقييد الآيات المتقدمة بالخبر المذكور أيضا.

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 61 ح 15 ، التهذيب ج 9 ص 235 ح 917 ، الفقيه ج 4 ص 162 ح 567 ، الوسائل ج 13 ص 476 ح 2.


وقال الشيخ في كتابي الأخبار بعد نقل خبر وصي علي بن السري : هذا الحكم مقصور على هذه القضية ، لا يتعدى به الى غيرها ، وظاهرهما أنهما عاملان بالخبر في كل من فعل ذلك.

قال الشيخ : فهو ظاهر عبارته المذكورة ، وأما ابن بابويه فلما صرح به في أول كتابه من أنه لا يذكر فيه إلا ما يفتي به ، ويعتمد عليه.

وأما الوجه في اطراح المتأخرين هذا الخبر وهجره ، فمن حيث جهل الراوي وهو وصي علي بن السري فإنه مجهول الاسم والعدالة ، وفي طريقه أيضا المعلى ، وهو مشترك بين الثقة والضعيف ، والمتقدمون كالشيخ والصدوق وأمثالهما لما لم يكن لهذا الاصطلاح عندهم أثر عملوا بالرواية ، لصحتها بوجودها في الأصول المعتمدة ، وهو الحق الحقيق بالاتباع.

قال في المسالك : واعلم أنه لا فرق في الحكم بين الولد وغيره من الوارثان حكمنا بالبطلان أو بنفوذها من الثلث ، وان علمنا بالرواية ، وجب قصرها على موردها ، وهو الولد المحدث للحديث المذكور ، وقوفا فيما خالف الأصل على مورده ، انتهى.

تنبيهات :

الأول : قالوا : إذا أوصى بلفظ مجمل لم يرد تفسيره في الشرع رجع في تفسيره الى الوارث ، كقوله أعطوه حظا من مالي أو قسطا أو نصيبا أو قليلا أو يسيرا أو جليلا أو جزيلا ومرجعه الى أن كلما يتمول صالح لأن يكون متعلق الوصية ، وهو في نحو القسط والنصيب والحظ والقليل واليسير واضح.

قال في كتاب المصباح المنير : القسط : النصيب ، وقال : النصيب : الحصة ، وقال : الحصة : القسم ، وهو ظاهر في أن مرجع هذه الألفاظ إلى معنى واحد ، وهو جزء معين من المال ، قل أو أكثر ، وأما في الجزيل والجليل وما في معناهما كالعظيم والنفيس ، فهو وان كان يقتضي عرفا زيادة على التمول ، إلا أنه مع


ذلك يحتمل إرادة الأقل ، نظرا الى أن الجميع متصف بذلك في نظر الشارع ، ولا ينافيه مع ذلك وصفه بالقلة ونحوها ، لاختلاف الحيثية بقلته من حيث المقدار وجلالته من حيث الاعتبار.

وبالجملة فإن ظاهره الرجوع في ذلك الى الوارث على التفصيل المذكور ، قالوا : ولو تعذر الرجوع اليه لسفه أو صغر أو امتناع ، أعطي أقل ما يصدق عليه الاسم ، لأنه متيقن.

الثاني : إذا ادعى الموصى له أن الموصي أراد من بعض هذه الألفاظ المجملة قدرا مخصوصا كأن ادعى أنه أراد بقوله أعطوه مالا جليلا يعنى ألف درهم ، فأنكر الوارث ، فالقول قوله ، إلا أن يدعى الموصى له عليه العلم بذلك ، فعلى الوارث اليمين على نفي العلم ، لا نفي ارادة الموصى ، ذلك لأن إرادته لا تلزم الوارث ، إلا إذا علم بها ، وان كانت واقعة في نفس الأمر ، فإذا ادعاها الموصى له لا تلتفت الى دعواه ، إلا أن يدعي علم الوارث بها ، فيحلف له على نفي العلم ، لا على البت ، لأنه حلف على نفي فعل الغير ، وهذه قاعدة مستمرة.

الثالث : المشهور بين الأصحاب أن الوصية ، بالخمس أفضل من الوصية بالربع ، وبالربع أفضل منها بالثلث ، وقال ابن حمزة ان كانت الورثة أغنياء كانت الوصية بالثلث أولى ، وان كانوا فقراء فبالخمس ، وان كانوا متوسطين فبالربع ، قال العلامة في المختلف بعد نقله عنه : ولا بأس بهذا القول.

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه في الكافي عن شعيب العقرقوفي في الصحيح (1) «قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يموت ، ماله من ماله؟ فقال : له ثلث ماله وللمرأة أيضا». ورواه الصدوق عن حماد بن عيسى عن شعيب عن أبى بصير (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يموت» الحديث.

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 11 ح 3 ، التهذيب ج 9 ص 191 ح 770.

(2) الفقيه ج 4 ص 136 ح 473.

الوسائل ج 13 ص 362 ح 2.


وما رواه في التهذيب عن ابن سنان (1) والظاهر أنه عبد الله في الصحيح قال : «للرجل عند موته ثلث ماله ، وان لم يوص فليس على الورثة إمضاؤه».

وعن علي بن يقطين في الصحيح (2) «قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام ما للرجل من ماله عند موته؟ قال : الثلث ، والثلث كثير».

وما رواه الصدوق عن محمد بن عمير عن معاوية بن عمار (3) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : كان البراء بن معرور الأنصاري بالمدينة ، وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بمكة ، وأنه حضره الموت ، وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والمسلمون يصلون الى بيت المقدس ، فأوصى البراء بن معرور إذا دفن أن يجعل وجهه تلقاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلى القبلة ، وأوصى بثلث ماله ، فجرت به السنة».

وما رواه في الكافي عن أبى بصير (4) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في الرجل له الولد يسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ فقال : هو ماله يصنع به ما شاء الى أن يأتيه الموت ، الى أن قال : فإن أوصى به ليس له إلا الثلث».

وما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) في الصحيح عن محمد بن قيس (5) «عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : لئن أوصى بخمس مالي أحب الي من أن أوصى بالربع ، ولئن أوصى بالربع أحب الى من أن أوصى بالثلث ، ومن أوصى بالثلث فلم يترك فقد بالغ». وزاد في الكافي والتهذيب

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 242 ح 939 و 940.

(3) الفقيه ج 4 ص 137 ح 479 وليس فيه «إذا دفن» ، التهذيب ج 9 ص 192 ح 771 ، الكافي ج 7 ص 10 ح 1.

(4) الكافي ج 7 ص 8 ح 8 ، التهذيب ج 9 ص 188 ح 755.

(5) الكافي ج 7 ص 11 ح 4 ، التهذيب ج 9 ص 192 ح 773 ، الفقيه ج 4 ص 136 ح 476 بتفاوت يسير.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 363 ح 7 و 8 وص 361 ح 1 وص 363 ح 6 وص 360 ح 1 وص 358 ح 1.


«قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل توفي وأوصى بماله كله أو أكثره فقال : ان الوصية ترد الى المعروف غير المنكر فمن ظلم نفسه وأتى في وصيته المنكر والحيف ، فإنها ترد الى المعروف ، ويترك لأهل المعروف ميراثهم ، وقال : من أوصى بثلث ماله فلم يترك وقد بلغ المدى ، ثم قال لئن أوصى بخمس مالي أحب الى من أن أوصى بالربع».

وما رواه في الكافي والفقيه عن حماد بن عثمان (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : من أوصى بالثلث فقد أضر بالورثة ، والوصية بالخمس والربع أفضل من الوصية بالثلث ، ومن أوصى بالثلث فلم يترك».

وعن السكوني (2) عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الوصية بالخمس ، لأن الله تعالى رضى لنفسه بالخمس ، وقال الخمس اقتصاد ، والربع جهد ، والثلث حيف».

وما رواه في التهذيب عن يونس بن يعقوب (3) قال : «ان أبا عبد الله عليه‌السلام لما أوصى قال له بعض أهله : انك قد أوصيت بأكثر من الثلث ، قال : ما فعلت ولكن قد بقي من ثلثي كذا وكذا وهو لمحمد بن إسماعيل».

وما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (4) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عما يقول الناس في الوصية بالثلث والربع عند موته أشي‌ء صحيح معروف؟ أم كيف صنع أبوك؟ فقال : الثلث ذلك الأمر الذي صنع أبي (رحمه‌الله).

أقول : لا ريب في دلالة جملة من هذه الأخبار على الرخصة في الثلث من

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 11 ح 5 ، الفقيه ج 4 ص 136 ح 475.

(2) الفقيه ج 4 ص 136 ح 472.

(3) التهذيب ج 9 ص 194 ح 779.

(4) الكافي ج 7 ص 55 ح 11 ، الفقيه ج 4 ص 172 ح 602.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 360 ح 2 وص 361 ح 3 وص 363 ح 10 وص 362 ح 3.


غير كراهة ، ولا سيما أخبار فعل الأئمة عليهم‌السلام وذلك لا يبعد حمل ما دل على الكراهة وأن الأفضل الخمس أو الربع على مراتب حال الورثة في الغنى والفقر ، كما تقدم نقله عن أبي حمزة ، ولعل فعل الأئمة عليهم‌السلام ذلك ، محمول على ذلك.

ونقل عن التذكرة التفصيل أيضا في ذلك ، فقال : لا يبعد عندي التقدير بأنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لا تستحب الوصية ، لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) علل المنع من الوصية بقوله (1) «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ» لأن ترك ذريتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة ، ولأن إعطاء القريب المحتاج خير من إعطاء الأجنبي ، فمتى لم يبلغ الميراث غناهم ، كان تركه لهم كعطيتهم فيكون ذلك أفضل من الوصية لغيرهم ، وحينئذ يختلف الحال باختلاف الورثة ، وكثرتهم وقلتهم وغناهم وحاجتهم ولا يتقدر بقدر من المال ، انتهى وهو جيد.

__________________

(1) سورة البقرة ـ الاية 180.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *