ج23 - التحريم - ما يحرم جمعا

المقصد الثاني

فيما يحرم جمعا

فيما يلحق بما تقدم من المواضع التي أشرنا إليها آنفا من وقوع التحريم فيها زيادة على ما تقدم في المقامات المتقدمة ، وقد تقدم ذلك في صدر البحث ، وحيث كان التحريم في بعضها جمعا وفي بعضها عينا فالكلام هنا يقع في موردين.

الأول : فيما يحرم جمعا وفيه مسائل.

الاولى : لا خلاف نصا وفتوى في تحريم الجمع بين الأختين في النكاح ، وقد تقدمت جملة من الأخبار الدالة على ذلك في التذنيبات التي في آخر المسألة الثانية من المطلب الثاني وسيأتي جملة من الأخبار الدالة على ذلك.

وأما ما روي في شدوذ الأخبار عن منصور بن الصيقل (2) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس بالرجل أن يتمتع باختين». فإنه محمول على ما ذكره الشيخ (رحمه‌الله) من أنه يتمتع واحدة بعد اخرى ، لا أنه يجمع بينهما.

وبالجملة فإن الحكم المذكور مما لا خلاف ولا إشكال فيه ، وحينئذ فلو تزوجهما فلا يخلو أن يكونا مترتبتين إحداهما بعد الأخرى ، أو يقع ذلك في

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 416 ح 8 ، التهذيب ج 7 ص 331 ح 19 ، الوسائل ج 14 ص 325 ح 2.

(2) التهذيب ج 7 ص 288 ح 47 ، الاستبصار ج 3 ص 171 ح 1 فيه «بأختين» ، الوسائل ج 14 ص 370 ح 2.


عقد واحد ، فالكلام هنا في موضعين :

(أحدهما) أن يتزوجهما بالترتيب إحداهما قبل الأخرى. والذي صرح به الشيخ في النهاية هو بطلان عقد الثانية خاصة ، فإن وطأ الثانية فرق بينهما ، ولا يرجع في نكاح الاولى حتى تخرج التي وطأها من العدة ، وبه صرح ابن البراج وابن زهرة.

وقال ابن إدريس : لا دليل على صحة هذه الرواية ، والذي يقتضيه أصول

المذهب أنه لا يمتنع من وطئ امرأته الاولى.

وقال ابن الجنيد ، لو تزوج بأخت امرأته وهو لا يعلم فرق بينهما إن كان لم يدخل بالثانية ، فإن دخل بالأخيرة خير أيتهما شاء ، ولا يقرب التي يختار حتى تنقضي عدة التي فارق ، فإن أحب العود إلى التي فارقها لم يكن له أن يعقد حتى يفارق التي كانت في حباله ، إما بطلاق بين أو خلع تبين منه عصمتها ثم لا يكون له رجعة عليها أو يموت. انتهى.

أقول : ويدل على القول الأول ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن زرارة (1) في الموثق «قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل تزوج بالعراق امرأة ثم خرج إلي الشام فتزوج امرأة أخرى فإذا هي أخت امرئته التي بالعراق ، قال : يفرق بينه وبين التي تزوجها بالشام ولا يقرب المرأة حتى تنقضي عدة الشامية ، قلت : فإن تزوج امرأة ثم تزوج أمها وهو لا يعلم أنها أمها؟ قال : قد وضع الله عنه جهالته بذلك ، ثم قال : إذا علم أنها أمها فلا يقربها ولا يقرب الابنة حتى تنقضي عدة الأم منه ، فإذا انقضت عدة الام حل له نكاح الابنة ، قلت : فإن جاءت الام بولد؟ قال : هو ولده ، ويكون ابنه وأخا امرأته» (2).

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 431 ح 4 ، الفقيه ج 3 ص 264 ح 43 التهذيب ج 7 ص 285 ح 40 ، الوسائل ج 14 ص 368 ح 1.

(2) هذه الرواية عدها في المختلف في الصحيح ، ثم اعترض على نفسه بأن في


ومما يدل على ما ذهب إليه ابن الجنيد ما رواه في الكافي عن أبي بكر الحضرمي (1) في الحسن قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل نكح امرأة ثم أتى أرضا فنكح أختها وهو لا يعلم ، قال : يمسك أيتهما شاء ويخلي سبيل الأخرى».

ونقل عنه في المختلف أنه استدل أيضا ـ زيادة على الرواية المذكورة ـ بأنهما عقدان استباح بهما وطأهما فيتخير لامتناع الجمع ، وعدم الأولوية كما في المقارن.

ثم أجاب في المختلف عن الرواية بأنا نقول بموجبها ، والمراد : إمساك الأولى بالعقد الثابت المستقر ، وإن أراد إمساك الثانية طلق الأولى وابتدأ العقد على الثانية.

أقول : وبهذا أجاب الشيخ (رحمه‌الله) عن الرواية المذكورة ، ولا يخفى ما فيه من البعد ، والمسألة لذلك لا تخلو من شوب الإشكال إلا أنه يمكن ترجيح القول المشهور بأن النهي عن الجمع إنما توجه هنا إلى الأخيرة ، ولهذا لو كان عالما بكون الثانية أختا للأولى ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في بطلان عقدها وحينئذ فصحته ظاهرا قبل العلم لا ينافي بطلانه بعد العلم كما في غيره من نكاح الشبهة.

ومما يؤيد ذلك أيضا صحيحة محمد بن قيس (2) عن أبي جعفر عليه‌السلام «في رجل

__________________

سندها ابن بكير وهو فطحي ، ثم أجاب بأن الكشي قد نقل عنه أنه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه.

ولا يخفى عليك ما فيه من التكلف لخروجه عن اصطلاحه ، وفيه تأييد لما قدمنا ذكره في الكتاب في غير موضع من خروجهم عن مقتضى اصطلاحهم لضيق الخناق فيه وتسترهم بالأعذار الواهية. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(1) الكافي ج 5 ص 431 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 285 ح 41 ، الوسائل ج 14 ص 369 ح 2.

(2) الكافي ج 5 ص 430 ح 3 ، التهذيب ح 7 ص 294 ح 71 ، الوسائل ج 14 ص 400 ح 1.


كان تحته أربع نسوة فطلق واحدة ثم نكح اخرى قبل أن تستكمل المطلقة العدة قال : فيلحقها بأهلها حتى تستكمل المطلقة أجلها ، وتستقبل الأخرى عدة اخرى ولها صداقها إن كان دخل بها ، فإن لم يكن دخل بها فله ماله ولا عدة عليها ، ثم إن شاء أهلها بعد انقضاء عدتها زوجوه ، وإن شاؤا لم يزوجوه».

ورواية عنبسة بن مصعب (1) «قال ، سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كانت له ثلاث نسوة فتزوج عليهن امرأتين في عقد واحد ، فدخل بواحدة منهما ثم مات فقال : إن كان دخل بالمرأة التي بدأ باسمها وذكرها عند عقد النكاح فإن نكاحها جائز ، ولها الميراث وعليها العدة ، وإن كان دخل بالمرأة التي سميت وذكرت بعد ذكر المرأة الأولى فإن نكاحها باطل ، ولا ميراث لها وعليها العدة».

والتقريب فيهما دلالتهما على بطلان عقد الخامسة لأنها هي التي توجه إليها النهي ، والمسئلتان من باب واحد ، إلا أنه يبقى الكلام فيما يحمل عليه حسنة الحضرمي المذكورة ، وليس إلا ما ذكره الشيخ وإن بعد ، واحتمال التقية فيه ممكن ، سيما من حيث قول ابن الجنيد به.

ومما يؤيد الرواية الأولى أيضا فيما دلت عليه من الأمر بفراق الأخيرة ما رواه في الكافي مسندا في الصحيح عن محمد بن قيس (2) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في أختين نكح إحداهما رجل ثم طلقها وهي جبلي ثم خطب أختها فجمعهما قبل أن تضع أختها المطلقة ولدها؟ فأمره أن يفارق الأخيرة حتى تضع أختها المطلقة ولدها ثم يخطبها ويصدقها صداقا مرتين».

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 430 ح 4 ، التهذيب ج 7 ص 295 ح 72 ، الوسائل ج 14 ص 403 ح 1.

(2) الكافي ج 5 ص 430 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 284 ح 38 ، الوسائل ج 14 ص 366 ح 1.


ورواه الصدوق في الفقيه (1) مرسلا قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام» الحديث إلا أن الذي فيه «فنكحها» مكان «فجمعها» وفيه «فأمره أن يطلق الأخرى».

قال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل الخبر كما نقلناه : بيان ، «فجمعها» كذا في أكثر النسخ ، والصواب فجامعها ، وربما يوجد في بعض النسخ «فجمعها» وفي الفقيه «فنكحها» وهو أوضح ، وفيه «فأمره أن يطلق الأخرى» وهو يشعر بصحة العقد على الأخيرة ، ويدل عليه إيجاب الصداق مرتين ، إلا أن يقال : ذلك لمكان الوطي.

ثم إن صح العقد على الأخيرة ، فما الوجه في التفريق ثم الخطبة وتثنية الصداق ، وإن جعل ـ يطلق من الإطلاق وحمل النكاح والجمع على الوطي ، وقيل بإبطال العقد الأول على الأخيرة ـ صحت النسختان وزال الاشكال. انتهى.

أقول : هذا الخبر قد نقله شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار من كتاب الحسين بن سعيد (2) بسنده فيه إلى محمد بن قيس هكذا : عن أبي جعفر عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام «في أختين نكح إحداهما رجل ثم طلقها وهي حبلى ، ثم خطب أختها فنكحها قبل أن تضع أختها المطلقة ولدها ، أمره أن يفارق الأخيرة حتى تضع أختها المطلقة ولدها ، ثم يخطبها ويصدقها صداقها مرتين».

وهذه الرواية موافقة لرواية الصدوق في لفظة «نكحها» عوض «فجمعها» الذي في رواية الكليني ، وموافقة لرواية الكليني في لفظ «المفارقة» دون لفظ «الطلاق» الذي في الفقيه.

وكيف كان فالظاهر بالنسبة إلى المخالفة الاولى أن الحق منهما ما نقله في الفقيه وفي كتاب الحسين بن سعيد من لفظ «النكاح» بمعنى الوطي لها.

ويدل عليه أنه هو الذي يترتب عليه المهر كما صرح به في رواية الكافي

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 269 ح 62 ، الوسائل ج 14 ص 366 ح 1.

(2) البحار ج 104 ح 26 ح 6 ، مستدرك الوسائل ج 2 ص 580 ب 24 ح 1.


أيضا من كون الصداق مرتين ، وذلك لأنه نكاح شبهة موجب للصداق البتة ، وبالنسبة إلى المخالفة الثانية هو ما في الكافي ورواية الحسين بن سعيد من لفظ «المفارقة» دون «الطلاق» الذي في رواية صاحب الفقيه.

ويؤيده ما تقدم في رواية زرارة المتضمنة لأمره عليه‌السلام بأن يفرق بينه وبين امرأته الشامية التي هي الأخيرة ، وهو الأنسب بالقواعد الشرعية ، لأنه لما كان منهيا عنه فهو باطل ، وإن لم يأثم لمكان الجهل.

بقي الكلام فيما ذكره ابن إدريس مما قدمنا نقله عنه من تجويز نكاح الاولى قبل أن تخرج الثانية من العدة ، ردا على الشيخ فيما ذكره من أنه لا يقرب الاولى حتى تخرج الثانية من العدة.

وظاهر العلامة في المختلف موافقة ابن إدريس في هذا المقام حيث قال ـ بعد الكلام في المسألة ـ : بقي هنا بحث وهو أنه هل يحرم الاولى مدة عدة الثانية؟ ظاهر كلامه في النهاية ذلك ، والوجه الحمل على الكراهة ، عملا بأصالة الإباحة ، ولوجود المقتضى وهو العقد السابق السالم عن المعارض ، وهو تجدد العقد على الأخت ، فإنه لا يقتضي تحريما على العلم لقوله عليه‌السلام (1) «لا يحرم الحرام الحلال». فكذا مع الجهل ، والعدة غير مانعة لأنها ثابتة والجمع بين الأختين منتف. انتهى.

أقول : وبالجواز على كراهة صرح في القواعد أيضا ، وهو ظاهر المحقق الشيخ على في شرحه.

وأنت خبير بأن ما ذكره في المختلف وإن كان جيدا في بادئ النظر إلا أنه عند التأمل في المقام لا يخلو من نظر ، فإن الخبر صريح في التحريم كما ادعاه الشيخ خصوصا قوله عليه‌السلام في مسألة نكاح الام على البنت ،

«ولا يقرب البنت حتى تنقضي عدة الام منه ، فإذا انقضت عدة الام حل له نكاح البنت» ، ومسألة الأختين ومسألة

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 471 ح 97 ، الوسائل ج 14 ص 325 ح 12.


الام والبنت من باب واحد ، وغاية ما يدل عليه كلامه (قدس‌سره) أنه لا يعرف وجه التحريم في هذا المقام.

وفيه : أن عدم معرفته له لا يدل على العدم ، فلعل للتحريم وجها لا تهتدي إليه أبصارنا ، فيجب التسليم فيما أمروا ونهوا وإن لم نهتد إلى وجه ، والواجب شرعا هو متابعتهم فيا أمروا ونهوا. لا طلب العلة منهم وبيان الوجه في ذلك ، وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه) والله العالم.

تفريع :

لو قلنا ببطلان عقد الأخيرة كما هو أحد القولين فهو ظاهر مع العلم بالمتقدم والمتأخر ، أما لو اشتبه ذلك ولم يعلم السابق من اللاحق ، فالظاهر هو تحريمهما معا كما هو مقتضى قاعدة الاشتباه بمحصور ، لأن إحداهما محرمة يقينا لكنها قد اشتبهت بالأخرى ، وبذلك صرح في القواعد أيضا فقال : فلو اشتبه السابق منع منهما ، والأقرب إلزامه بطلاقهما (1).

(الثاني)

من الموضعين المشار إليهما آنفا : ما لو تزوجهما معا في عقد واحد ، وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ذلك ، فذهب الشيخ وجمع من الأصحاب منهم ابن البراج وابن الجنيد إلى أنه يختار أيهما شاء ، وكذا في الزائد على الأربع ، واختاره العلامة في المختلف وذهب ابن إدريس وابن حمزة إلى بطلان العقد ، وإلى هذا القول ذهب المحقق وأكثر المتأخرين.

__________________

(1) قال الشارح المحقق (رحمة الله عليه) : والأقرب عند المصنف إلزامه بطلاقهما بأن يجبره الحاكم على ذلك ، ووجه القرب أن البقاء على الزوجية موجب للضرر بالنسبة اليه وإليهما ، لتعلق أحكام الزوجية ومنعه من الاستمتاع ، ولان تحصيل البراءة عن حقوق الزوجية واجب ، ولا يتم الا بالطلاق ، ثم ناقش في ذلك بما هو مذكور ثمة. (منه ـ قدس‌سره ـ).


ويدل على ما ذهب إليه الشيخ ما رواه الصدوق في الصحيح عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه قال في رجل تزوج أختين في عقدة واحدة ، قال : هو بالخيار يمسك أيتهما شاء ، ويخلي سبيل الأخرى ، وقال في رجل تزوج خمسا في عقدة واحدة : يخلي سبيل أيتهن شاء» وزاد في الكافي «ويمسك الأربع».

وهذه الرواية قد رواها الكليني والشيخ بطريق فيه ضعف ، وردها المتأخرون بذلك ، ولكنها كما عرفت قد رويت بطريق صحيح وهي صريحة في المدعى ، فلا مجال للطعن فيها بوجه.

احتج القائلون بالبطلان بأن العقد على كل واحدة منهما محرم للعقد على الأخرى ونسبته إليهما على السوية ، فلا يمكن الحكم بصحته فيهما لمحذور الجمع ، ولا في إحداهما على التعيين لأنه ترجيح من غير مرجح ، ولا بغير معينة ، لأن الحكم بالإباحة عرض معين فلا بد له من محل جوهري معين يقوم به لأن غير المعين في حد ذاته لا وجود له فإذا بطلت هذه الأحكام لزم الحكم بالبطلان فيهما ، ولأن العقد عليهما معا منهي عنه نهيا ناشئا عن عدم صلاحية المعقود عليهما على الوجه المخصوص للنكاح ، وإن كانت صالحة بغير هذه الجهة ، والنهي على هذا الوجه يقتضي بطلان العقد وإن لم يكن مطلق النهي موجبا لبطلان المعقود ، كذا قرره شيخنا في المسالك.

وفيه ما قدمنا لك ذكره في غير موضع من أن الخروج عن مقتضى الروايات ـ الصحيحة الصريحة في الحكم بمجرد هذه الأدلة العقلية ـ مجازفة محضة في أحكامه سبحانه ، لما عرفته قريبا من أنا مأمورون بالأخذ بأوامرهم (صلوات الله عليهم)

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 431 ح 3 وص 430 ح 5 ، الفقيه ج 3 ص 265 ح 45 ، التهذيب ج 7 ص 285 ح 39 وص 295 ح 73. الوسائل ج 14 ص 367 ح 1 وص 403 ب 4 ح 1.


ونواهيهم وإن لم تدرك أفهامنا غاياتها وعللها ، فالخروج عنها بهذه التعليلات العقلية غير جيد ، ولهذا إن شيخنا المذكور إنما جنح إلى هذا التعليل لضعف الرواية بناء على نقل الكليني والشيخ ، وحيث اطلع على نقل صاحب الفقيه لها بطريق صحيح عدل إلى العمل بالرواية فقال بعد نقلها : وعلى هذا فيتجه العمل بمضمونها لصحتها في المسألتين بعد تحقيق الحال من الكتاب ، فعندي فيه شبهة تتوقف على المراجعة.

أقول : أراد بالمسألتين مسألة الأختين ومسألة الجمع بين الخمس ، وما ذكره من الشبهة لا أعرف له وجها ، فإن الرواية في الفقيه كما ذكره سندا ومتنا صحيح ، أما المتن فقد عرفته ، وأما السند فإن طريق الصدوق إلى ابن أبي عمير ـ كما ذكره هو (قدس‌سره) في المسالك أيضا عن محمد بن الحسن عن الحميري عن أيوب بن نوح وإبراهيم بن هاشم ومحمد بن عبد الجبار عن محمد ابن أبى عمير ـ هو في أعلى مراتب الصحة.

ومما يؤيد ذلك تصريحه عليه‌السلام بهذا الحكم في الجمع بين الخمس بعقد واحد والمسألتان من باب واحد ، وبما ذكرنا يظهر قوة القول الأول ، والله العالم.

إلحاق

الظاهر أن ما تقدم من البحث في الأختين والخلاف في الموضعين يجري في الخمس ، وبذلك صرح في المختلف. فقال : لا يجوز الجمع بين الأختين في العقد ولا بين الخمس ، ولا بين اثنتين وعنده ثلاث إجماعا ، فإن فعل دفعة قال الشيخ في النهاية : يتخير في أي الأختين شاء وفي الزائد على الأربع ، وهو قول ابن الجنيد وابن البراج ، ثم نقل قول ابن إدريس المتقدم ، وبالجملة فإن المسألتين من باب واحد.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما تقدم في صحيحة


جميل (1) من «أنه متى تزوج خمسا في عقد واحد يخلي سبيل أيتهن شاء». وهذا حكم الأختين على أحد القولين كما تضمنته الرواية المذكورة أيضا.

وصحيحة محمد بن قيس (2) المتقدمة في الموضع الأول ، وهي نظيرة صحيحة المتقدمة أيضا الواردة في الأختين.

ورواية عنبسة بن مصعب (3) المتقدمة أيضا في الموضع الأول ، إلا أن هذه الرواية لا تخلو من منافاة لما دلت عليه صحيحة جميل ، لأن هذه الرواية قد تضمنت أنه متى عقد على اثنتين دفعة وعنده ثلاث فإن العقد صحيح بالنسبة إلى من قدم اسمها في العقد ، وباطل بالنسبة إلى المؤخر اسمها.

وصحيحة جميل دلت على أنه متى جمع الخمس في عقد واحد تخير أيتها شاء ، ومقتضاه أنه يتخير أيضا في الاثنتين ، إذ لا فرق بين العقد على الخمس دفعة وبين من تزوج اثنتين وعنده ثلاث.

ومقتضى رواية عنبسة أنه يبطل عقد الخامسة التي تأخر ذكر اسمها ، ولا أعرف وجها للجمع بينهما إلا أن تحمل صحيحة جميل على كون ذكر الخمس وقع إجمالا لا تفصيلا ، بأن قال : زوجتك هذه الخمس نسوة ، أو زوجتك الخمس نسوة المعدودات بيني وبينك ، ونحو ذلك.

ومن روايات الخمس أيضا ما رواه في الكافي عن زرارة ومحمد بن مسلم (4)

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 430 ح 5 ، التهذيب ج 7 ص 295 ح 73 ، الفقيه ج 3 ص 265 ح 45 ، الوسائل ج 14 ص 403 ب 4 ح 1 وص 367 ح 1.

(2) الكافي ج 5 ص 430 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 294 ح 71 ، الفقيه ج 3 ص 265 ح 46 ، الوسائل ج 14 ص 400 ح 1.

(3) الكافي ج 5 ص 430 ح 4 ، التهذيب ج 7 ص 295 ح 72 ، الفقيه ج 3 ص 266 ح 48 ، الوسائل ج 14 ص 403 ب 5 ح 1.

(4) الكافي ج 5 ص 429 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 294 ح 69 ، الوسائل ج 14 ص 399 ح 1.


عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة حتى تنقضي عدة المرأة التي طلق ، وقال : لا يجمع الرجل ماءه في خمس».

وعن علي بن أبي حمزة (1) قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يكون له أربع نسوة فيطلق إحداهن أيتزوج مكانها اخرى؟ قال : لا حتى تنقضي عدتها».

ونظير هذين الخبرين في الأختين ما رواه في الكافي عن زرارة (2) عن أبي جعفر عليه‌السلام «في رجل طلق امرأته وهي حبلى ، أيتزوج أختها قبل أن تضع؟ قال : لا يتزوجها حتى يخلو أجلها».

وعن علي بن أبي حمزة (3) عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأة ، أيتزوج أختها؟ قال : لا حتى تنقضي عدتها».

المسألة الثانية : لا خلاف في جواز الجمع بين الأختين في الملك وإن تناوله النهي في ظاهر الآية وهو قوله تعالى (4) «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ» إلا أن المراد به ما كان بالعقد أو الوطي أو بهما إجماعا ، ولا خلاف أيضا في أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطي بملك اليمين ولا الجمع بينهما في النكاح (5) كما تقدم في سابق هذه المسألة.

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 429 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 294 ح 70 ، الوسائل ج 14 ص 400 ح 2.

(2) الكافي ج 5 ص 432 ح 8 ، التهذيب ج 7 ص 282 ح 44 ، الوسائل ج 14 ص 371 ب 28 ح 2.

(3) الكافي ج 5 ص 432 ح 9 ، التهذيب ح 7 ص 290 ح 7 ص 290 ح 54 ، الوسائل ج 14 ص 374 ح 10.

(4) سورة النساء ـ آية 23.

(5) أقول : ويدل عليه ما سيأتي ان شاء الله تعالى في الرواية الثانية عشر في قوله تعالى «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّا ما قَدْ سَلَفَ» يعني في النكاح. (منه ـ قدس‌سره ـ).


وحينئذ فإذا ملك أمتين دفعة أو على التعاقب صح الانتقال والملك إجماعا ، وله نكاح أيتهما شاء ، فإذا وطأ إحداهما حرمت عليه الأخرى حتى تخرج الاولى عن ملكه ، فلو خالف ووطأ الأخرى أيضا فقد أثم ، ولا حد عليه من حيث الملك ، وإنما يعزر من حيث ارتكاب المحرم كما في كل فاعل محرم.

بقي الكلام في أنه بعد وطئه الثانية فهل تحرم الاولى عليه ، أو الثانية ، أو هما معا على بعض الوجوه؟ أقوال منتشرة : الأول : مذهب الشيخ في النهاية وهو انه : إن وطأ الأخرى بعد وطئ الاولى وكان عالما بتحريم ذلك عليه حرمت الاولى عليه حتى تموت الثانية ، فإن أخرج الثانية عن ملكه ليرجع إلى الأولى لم يجز له الرجوع إليها ، فإن أخرجها عن ملكه لا لذلك جاز له الرجوع إلى الاولى ، وإن لم يعلم تحريم ذلك عليه ، جاز له الرجوع إلى الأولى على كل حال إذا أخرج الثانية عن ملكه.

هذا لفظ عبارته في الكتاب المذكور ، وتبعه القاضي وابن حمزة واختاره العلامة في المختلف.

الثاني : قول ابن إدريس ، وهو أن الاولى تبقى على الحل والثانية على التحريم سواء أخرج الثانية عن ملكه أم لا وسواء كان جاهلا بتحريم وطئ الثانية عليه أم عالما ، ومتى أخرج الأولى عن ملكه حلت له الثانية سواء أخرجها لأجل العود إلى الثانية أم لا.

أما الأول فلأن التحريم إنما تعلق بوطى‌ء الثانية ، لأن به حصل الجمع بين الأختين فيستصحب ، و «الحرام لا يحرم الحلال» (1). ولأصالة بقاء الحل ، وتحريم الثانية.

وأما الثاني فلأنه متى أخرج إحداهما عن ملكه لم يبق جامعا بين الأختين لانتفاء سببه ، واختار هذا القول المحقق والعلامة في القواعد ، ونقله في المسالك عن الشيخ في المبسوط وأكثر المتأخرين.

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 328 ح 9 ، الوسائل ج 14 ص 325 ح 11.


قال ابن إدريس في السرائر : ولا بأس أن يجمع الرجل بين الأختين في الملك ، لكنه لا يجمع بينهما في الوطي لأن حكم الجمع بينهما في الوطي حكم الجمع بينهما في العقد ، فمتى ملك الأختين فوطأ واحدة منهما لم يجز له وطئ الأخرى حتى يخرج تلك من ملكه بالهبة أو البيع أو غيرهما.

وقد روى أنه «إن وطأ الأخرى بعد وطئه الاولى وكان عالما بتحريم ذلك حرمت عليه الاولى حتى تموت الثانية ، فإن أخرج الثانية عن ملكه ليرجع إلى الأولى لم يجز له الرجوع إليها ، وإن أخرجها عن ملكه لا لذلك جاز له الرجوع إلى الاولى ، وان لم يعلم بتحريم ذلك عليه جاز له الرجوع إلى الأولى على كل حال إذا أخرج الثانية عن ملكه».

والرواية بهذا الذي سطرناه لم يوردها في كتابه وتصانيفه إلا القليل من أصحابنا (1).

والذي يقتضيه أصول المذهب ويقوى في نفسي أنه إذا أخرج إحداهما عن ملكه حلت الأخرى ، سواء أخرجها ليعود إلى من هي باقية في ملكه ، أو لا يعود ، عالما كان بالتحريم أو غير عالم ، لأنه إذا أخرج إحداهما لم يكن جامعا بين الأختين بلا خلاف.

فأما تحريم الأولى إذا وطأ الثانية ففيه نظر ، فإن كان على ذلك إجماع منعقد أو كتاب أو سنة متواترة رجع إليه ، وإلا فلا يرجع عليه إليه ، لأن الأصل الإباحة للأولى ، وإنما التحريم تعلق بوطى‌ء الثانية بعد وطئه للأولى ، لأنه بوطئه للثانية يكون جامعا بين الأختين فكيف تحرم الاولى وهي المباحة الوطي وتحل المحرمة الوطي؟

وقد قلنا : إنها رواية أوردها شيخنا في نهايته إيرادا لا اعتقادا مثل ما أورد

__________________

(1) إلا أنه بمضمونها قد وردت عدة روايات في كتب أخبارنا كما سيأتي في الصفحات الاتية.


كثيرا من الأخبار في كتابه المشار إليه إيرادا لا اعتقادا. انتهى.

أقول : لا يخفى أن كلامه وإن كان هو الأوفق بمقتضى القواعد العقلية ، إلا أن الأخبار على خلافه ، وعدم اهتدائه للوجه ـ فيما دلت عليه من الأحكام والعلة فيها ـ لا يدل على العدم.

وقال في المختلف ـ بعد نقل ملخص كلامه والجواب ـ : الأدلة غير منحصرة فيما ذكره ، وقل أن يوجد شي‌ء منها في الفروع ، والأصل إنما يصار إليه مع عدم دليل يخرج عنه ، ولا امتناع في اقتضاء وطئ الثانية تحريم الأولى ، فإذا وجدت الروايات خالية من المعارض وجب الحكم به ، وما ذكره استحسان لا يجوز العمل به. انتهى ، وهو جيد.

أقول : ومن المحتمل قريبا أن يكون تحريم الرجوع إلى الاولى مع العلم وعدم التحريم مع الجهل إنما وقع عقوبة له كما يظهر من الأخبار الاتية ، وقوله عليه‌السلام «لا ولا كرامة» ، وهذان القولان هما المشهوران في كلام الأصحاب ،

والواجب علينا أولا نقل ما وصل إلينا من الأخبار في المقام والكلام فيها بما يسر الله تعالى فهمه منها ببركة أهل الذكر (صلوات الله وسلامه عليهم).

فأقول : الأول : ما رواه في الكافي في الحسن أو الصحيح عن الحلبي (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «وسئل عن رجل كان عنده اختان مملوكتان فوطأ إحداهما ثم وطأ الأخرى؟ قال : إذا وطأ الأخرى فقد حرمت عليه حتى تموت الأخرى قلت : أرأيت إن باعها أتحل له الأولى؟ قال : إن كان يبيعها لحاجة ولا يخطر على قلبه من الأخرى شي‌ء فلا أرى بذلك بأسا ، وإن كان إنما يبيعها ليرجع إلى الاولى فلا ولا كرامة».

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 432 ح 7 ، التهذيب ج 7 ص 290 ح 53 ، الفقيه ج 3 ص 284 ح 1 ، الوسائل ج 14 ص 373 ح 9.


الثاني : عن أبي الصباح الكناني (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل عنده اختان مملوكتان فوطأ إحداهما ثم وطأ الأخرى ، قال : حرمت عليه الاولى حتى تموت الأخرى ، قلت : أرأيت إن باعها ، قال : إن كان إنما يبيعها لحاجته ولا يخطر على باله من الأخرى شي‌ء فلا أرى بذلك بأسا ، وإن كان إنما يبيع ليرجع إلى الاولى فلا». ورواه الصدوق بإسناده عن العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله.

الثالث : عن علي بن أبي حمزة (2) عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل ملك أختين أيطؤهما جميعا فقال : يطأ إحداهما ، وإذا وطأ الثانية فقد حرمت عليه الاولى التي وطأها حتى تموت الثانية أو يفارقها ، وليس له أن يبيع الثانية من أجل الأولى ليرجع إليها ، إلا أن يبيع لحاجة أو يتصدق بها أو تموت».

الرابع : ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن الحلبي (3) في الصحيح بروايتي الشيخين المتقدمين عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال. قلت له : الرجل يشتري الأختين فيطأ إحداهما ثم يطأ الأخرى بجهالة قال : إذا وطأ الأخيرة بجهالة لم تحرم عليه الاولى ، وإن وطأ الأخيرة وهو يعلم أنها عليه حرام حرمتا عليه جميعا».

الخامس : ما رواه في التهذيب عن عبد الغفار الطائي (4) عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 431 ح 6 ، التهذيب ج 7 ص 290 ح 52 ، الوسائل ج 14 ص 373 ح 9.

(2) الكافي ج 5 ص 432 ح 9 ، التهذيب ج 7 ص 290 ح 54 ، الوسائل ج 14 ص 374 ح 10.

(3) التهذيب ج 7 ص 290 ح 55 ، الكافي ج 5 ص 433 ح 14 ، الفقيه ج 3 ص 284 ب 138 ح 2 ، الوسائل ج 14 ص 372 ح 5.

(4) التهذيب ج 7 ص 291 ح 56 ، الوسائل ج 14 ص 372 ح 6.


«في رجل كانت عنده اختان فوطأ إحداهما ثم أراد أن يطأ الأخرى ، قال : يخرجها من ملكه ، قلت : إلى من؟ قال : إلى بعض أهله ، قلت : فإن جهل ذلك حتى وطأها؟ قال : حرمتا عليه كلتاهما» قال في التهذيب «حرمتا عليه جميعا». يعني به ما دامتا في ملكه ، وأما إذا زال ملك إحداهما فقد حلت الأخرى.

السادس : عن أبي بصير (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كانت له اختان مملوكتان فوطأ إحداهما ثم وطأ الأخرى ، أيرجع إلى الأولى فيطأها؟ قال : إذا وطأ الثانية فقد حرمت عليه الاولى حتى تموت ، أو يبيع الثانية من غير أن يبيعها من شهوة لأجل أن يرجع إلى الأولى».

السابع : عن عبد الله بن سنان (2) في الصحيح «قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إذا كانت عند الرجل الأختان المملوكتان فنكح إحداهما ، ثم بدا له في الثانية فنكحها ، فليس ينبغي له أن ينكح الأخرى حتى تخرج الاولى من ملكه يهبها أو يبيعها ، فإن وهبها لولده يجزيه» (3).

الثامن : عن معاوية بن عمار (4) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كانت عنده جاريتان اختان فوطأ إحداهما ، ثم بدا له في الأخرى ، قال : يعتزل هذه ويطأ الأخرى ، قال : قلت : فإنه تنبعث نفسه للأولى ، فقال :

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 291 ح 57 ، الوسائل ج 14 ص 373 ح 7.

(2) التهذيب ج 7 ص 288 ح 48 ، الوسائل ج 14 ص 371 ح 1.

(3) أقول : ظاهر الرواية الاولى أنه بعد نكاحهما معا لا تحل له الاولى حتى يخرج الثانية عن ملكه لا بقصد العود إلى الاولى ، وظاهر هذه الصحيحة أنه ليس له نكاح الثانية مرة أخرى حتى تخرج الاولى عن ملكه مطلقا ، ويحصل من الجميع أن حل أحدهما متوقف على إخراج الأخرى أيتهما كانت. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(4) التهذيب ج 7 ص 288 ح 49 ، الوسائل ج 14 ص 371 ح 2.


لا يقربها حتى يخرج تلك عن ملكه» (1).

التاسع : عن علي بن يقطين (2) قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن أختين مملوكتين وجمعهما ، قال : مستقيم ولا أحبه لك ، قال : وسألته عن الام والبنت المملوكتين ، قال : هو أشدهما ولأحبه لك».

العاشر : عن الحلبي (3) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال محمد بن علي عليهما‌السلام في أختين مملوكتين تكونان عند الرجل جميعا قال : قال علي عليه‌السلام : أحلتهما آية وحرمتهما آية أخرى ، وأنا أنهى عنهما نفسي وولدي».

الحادي عشر : ما رواه العياشي (4) في تفسيره عن أبي عون قال : «سمعت أبا صالح الخثعمي قال : قال علي عليه‌السلام ذات يوم : سلوني ، فقال ابن الكوا ، أخبرني عن بنت الأخ من الرضاعة وعن الأختين المملوكتين ، فقال : إنك لذاهب في النية

__________________

(1) أقول : هذه الموثقة لا تخلو من الإجمال ، ولعل الأقرب في معناها ان معنى قوله «بدا له في الأخرى» أنه أراد نكاحها فقال عليه‌السلام : إذا أراد أن ينكحها يعتزل مدة يعني الاولى ، والمراد من اعتزالها الكناية عن فراقها وإخراجها عن ملكه ، فإذا أخرجها وطئ الأخرى وهي الثانية ، فقال له الراوي : «انه تنبعث نفسه للأولى» فقال عليه‌السلام : لا يقرب الاولى حتى يخرج الثانية عن ملكه ولا نكاح الاولى حتى يخرج الثانية عن ملكه ، ويكون الخبر حينئذ جامعا بين ما دلت عليه الاخبار السابقة من توقف حل الثانية على إخراج الاولى ، وأما حمل الاعتزال على ظاهر معناه كما هو ظاهر المسالك فظني بعده لخروجه بذلك عما دلت عليه الاخبار المذكورة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(2) التهذيب ج 7 ص 288 ح 50 ، الوسائل ج 14 ص 372 ح 4.

(3) التهذيب ج 7 ص 289 ح 51 ، الوسائل ج 14 ص 372 ح 3.

(4) تفسير العياشي ج 1 ص 232 ح 79 ، الوسائل ج 14 ص 374 ح 12. ففيهما «أبا صالح الحنفي».


سل ما يعينك أو ما ينفع ، فقال ابن الكوا : إنما نسألك عما لا نعلم ، فأما ما نعلم فلا نسألك عنه ، ثم قال : أما الأختان المملوكتان أحلتهما آية وحرمتهما آية ، ولا أحله ولا احرمه ، ولا أفعله أنا ولا أحد من أهل بيتي».

الثاني عشر : عن عيسى بن عبد الله (1) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن أختين مملوكتين ينكح إحداهما ، أتحل له الأخرى فقال : ليس ينكح الأخرى إلا فيما دون الفرج ، وإن لم يفعل فهي خير له نظير تلك المرأة تحيض فتحرم على زوجها أن يأتيها في فرجها لقول الله عزوجل «وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ» وقال «وأن تجمع بين الأختين إلا ما قد سلف» يعني في النكاح فيستقيم للرجل أن يأتي المرأة وهي حائض فيما دون الفرج».

هذا ما حضرني من روايات المسألة ، وأنت خبير بأنها قد اتفقت كلها على أنه بنكاح الثانية بعد أن نكح الاولى تحرم عليه الاولى حتى يفارق الثانية لا لقصد الرجوع إلى الاولى ، وأكثرها مطلق في تحريم الاولى.

والخبر الرابع قيد ذلك بالعلم ، فلو وطأ الثانية جاهلا بتحريم وطئها لم تحرم عليه الاولى ، وما أطلق منها في حل الاولى ـ بإخراج الثانية عن ملكه أعم من أن يكون بقصد الرجوع إلى الأولى أو لا بهذا القصد ـ مقيد بما دل على اشتراط أن لا يكون بقصد الرجوع إلى الاولى ، وبذلك يظهر لك ضعف القول المشهور.

وقولهم أن الاولى تبقى على الحل ـ سواء أخرج الثانية عن ملكه أم لا. وسواء كان جاهلا بتحريم وطئ الثانية عليه أم لا ، وتمسكهم في ذلك بما عرفت من الدليل المتقدم نقله عنهم ـ فإنه اجتهاد محض في مقابلة النصوص وجرأة تامة على أهل الخصوص.

__________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 232 ح 78 ، الوسائل ج 14 ص 374 ح 11. ففيهما «أَنْ تَجْمَعُوا».


نعم بقي كلام في أن أكثر الأخبار إنما صرح بتحريم الاولى بعد وطئ الثانية من غير تعرض لحكم الثانية ، بل ظاهرها اختصاص التحريم بالأولى إلى أن تموت الثانية أو يخرجها من ملكه لا بقصد العود للأولى.

وحينئذ فيشكل الجمع بينهما وبين الرواية الرابعة ، وذلك فإنه إن حملت تلك الروايات باعتبار دلالتها على اختصاص التحريم بالأولى على صورة الجهل ، فالمنافاة لتلك الروايات ظاهرة لتصريحها بعدم تحريم الاولى في صورة الجهل.

وإن حملناها على صورة العلم فالمنافاة أيضا موجودة ، فإن صريح الرواية المذكورة تحريمها معا ، وهذه الروايات كما عرفت ظاهرها اختصاص التحريم بالأولى خاصة ، فالمنافاة حاصلة على كل حال.

والتحقيق أن يقال : إنه لا شك في دلالة تلك الروايات على تحريم الاولى وأما بالنسبة إلى الثانية فغايتها أن تكون مطلقة ، إذ لا صراحة ولا ظهور في الاختصاص بالأولى دون الثانية ، وأن الثانية لا تحرم ، ومن الممكن بل هو الظاهر أن عدم التصريح بتحريم الثانية إنما هو من حيث معلومية تحريمها قبل وطؤها بمجرد وطئ الاولى لما عرفت من أنه بوطى‌ء إحداهما تحرم عليه الأخرى اتفاقا نصا وفتوى ، فتحريمها لما كان معلوما لم يحتج إلى تنبيه عليه.

وأما الأولى فإنها محللة وإنما عرض لها التحريم بوطى‌ء الثانية ، فلذلك احتيج إلى التنبيه إلى تحريمها ، فقد عرفت مما قدمناه وجوب تقييد إطلاق تلك الروايات ـ من حيث دلالتها بإطلاقها على تحريم الاولى سواء كان وطؤ الثانية عن علم أو جهل ـ بتلك الرواية الدالة على تخصيص تحريم الاولى بصورة العمد ، وحينئذ فتحريم الاولى في تلك الأخبار مخصوص بصورة العلم.

وقد تلخص من ذلك أنه متي وطأ الثانية عالما بتحريم ذلك عليه حرمتا معا ، أما الأولى فلما عرفت من دلالة الأخبار على ذلك بعد حمل مطلقها على مقيدها وأما الثانية فلثبوت التحريم لها قبل وطئها بعد وطئ الاولى ، فتكون باقية على


التحريم مدة بقائها في الملك ، ومتى وطأها جاهلا فظاهر الخبر الرابع عدم تحريم الاولى ، وظاهر الخبر الخامس تحريمهما معا.

والشيخ قد جمع بينهما بحمل الخبر الرابع على ما إذا أخرج الثانية عن ملكه كما يشير إليه كلامه في النهاية الذي قدمناه ، والخبر الخامس ـ كما تقدم نقله عنه في ذيل الخبر المذكور ـ على مدة بقائهما في ملكه.

وأما إذا أخرج إحداهما عن ملكه فقد حلت الأخرى ، ولا يخفى ما فيه من البعد ، فإن ظاهر الرواية الاولى هو أنه مع الجهل لا تحرم عليه مطلقا وإن لم يخرج الثانية عن ملكه.

وما حمل عليه الرواية الثانية ـ من أنه في صورة الجهل حرمتا كلتاهما ما دامتا في الملك ـ يجري في صورة العلم ، فإنهما في صورة العلم ـ التي دلت الرواية الرابعة على أنهما تحرمان معا ـ مخصوص بمدة بقائهما في الملك أيضا فلو أخرج إحداهما عن ملكه فالظاهر أنه لا قائل بالتحريم للباقية ، وحينئذ فلا فرق في هذا الحكم بين صورة العلم والجهل.

وهكذا الكلام فيما حمل عليه الرواية الرابعة حيث قيد حل الاولى مع الجهل بما إذا أخرج الثانية عن ملكه ، فإن هذا الحكم حكم العالم أيضا كما عرفت ، فأي فرق هنا بين العلم والجهل.

وبالجملة فإن الظاهر أنه بإخراج إحداهما عن ملكه لا بقصد الرجوع إلى الأخرى بعد وطئهما معا تحل له الباقية ، سواء كان وطؤ الثانية عن علم أو جهل إذ المحرم هو جمعهما في النكاح والوطي بعقد كان ذلك أو ملك ، وبإخراج إحداهما يزول السبب الموجب للتحريم.

والمسألة عندي هنا محل إشكال لاختلاف الروايتين المذكورتين في صورة الجهل وعدم استقامة جمع الشيخ المذكور لما عرفت فيه من القصور ، ولعله لقصور فهمي السقيم وفتور ذهني العقيم.


وأما ما دل عليه الخبر التاسع من جواز الجمع بين الأختين على كراهة ، كما يشير إليه قوله «مستقيم ولا أحب لك» فحمله الشيخ على الجمع في الملك دون الوطي وعلل الكراهة بأنه ربما تشوقت نفسه إلى وطئها فيفعل ذلك فيصير مأثوما.

وفيه أنه لم يقم لنا دليل على كراهية الجمع في الملك والحمل عليه يحتاج إلى دليل من خارج ، والظاهر هو أن المراد إنما هو الجمع في الوطي ، ولكن الخبر خرج مخرج التقية كما يظهر من الخبر العاشر والحادي عشر.

وأما ما دل عليه الخبر العاشر من قوله عليه‌السلام «أحلتهما آية وحرمتهما آية» فقال الشيخ «رحمة الله عليه» : عنى بالمحللة آية الملك (1) ، والمحرمة آية الوطي (2) ، والنهي إما على التحريم وأراد به الوطي أو الكراهة وأراد به الجمع.

والظاهر بعد ما ذكره (قدس‌سره) بل عدم صحته ، لأن الخبر صريح في تعارض الآيتين بحسب الظاهر واتحاد مورد الحكمين ، مع أنه لم يثبت كراهة الجمع في الملك كما عرفت.

والأظهر أن المراد بالآية المحللة إنما هي قوله عزوجل (3) «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» ، والآية المحرمة قوله تعالى (4) «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ» المراد به الجمع في النكاح اتفاقا ، وعليه يدل الخبر الثاني عشر ، فمورد الحل والحرمة ليس إلا الوطي خاصة.

والظاهر أنه إلى هذا أشار في الاستبصار حيث قال بعد الوجه الذي قدمنا

__________________

(1) أما آية الملك فهي قوله «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ».

(2) وأما آية الوطي فهي قوله عزوجل «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ».

(منه ـ قدس‌سره ـ).

(3) سورة المؤمنون ـ آية 5 و 6.

(4) سورة النساء آية ـ 23.


نقله عنه : ويمكن أن يكون قوله عليه‌السلام «أحلتهما آية» أي عموم الآية وظاهرها يقتضي ذلك ، وكذلك قوله «وحرمتهما آية» أي عموم الآية يقتضي ذلك ، إلا أنه إذا تقابل العمومان على هذا الوجه ينبغي أن يخص أحدهما بالآخر ثم بين بقوله «أنا أنهى عنهما نفسي وولدي» ما يقتضي تخصيص إحدى الآيتين وتبقية الأخرى على عمومها.

وقد روي هذا الوجه عن أبي جعفر عليه‌السلام ، روى ذلك علي بن الحسن بن فضال (1) ثم ساق سنده إلى يحيى بن بسام قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عما يروي الناس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن أشياء من الفروج لم يكن يأمر بها ولا ينهى عنها إلا نفسه وولده ، فقلت : كيف يكون ذلك؟ قال : أحلتها آية وحرمتها آية أخرى فقلنا : هل الآيتان تكون إحداهما نسخت الأخرى؟ أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ فقال : قد بين لهم إذ نهى نفسه وولده قلنا : ما منعه أن يبين ذلك للناس؟ قال : خشي أن لا يطاع ، فلو أن أمير المؤمنين ثبتت قدماه أقام كتاب الله كله والحق كله». انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن في المسألة قولين آخرين شاذين مجهولي القائل ليس في التعرض لذكرهما كثير فائدة لعدم الدليل عليهما ، أشار إليهما المحقق في النافع وذكر في المسالك أيضا أنه لم يعرف القائل بهما ولا نقلهما غير المصنف ، وأن المشهور ـ بين نقلة الخلاف ـ القولان المتقدمان خاصة ، ثم تكلف للاستدلال لهما بما لا يخلو من تكلف وتعسف.

وقال الشيخ في التهذيب (2) ومتى كان عند الرجل اختان مملوكتان فوطأ إحداهما ثم وطأ الأخرى وهو عالم بأن ذلك حرام عليه ، فإنه يحرم عليه

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 556 ح 8 ، التهذيب ج 7 ص 463 ح 64 ، الوسائل ج 13 ص 301 ح 8.

(2) التهذيب ج 7 ص 289 ذيل ح 51.


الاولى حتى يخرج الأخيرة من ملكه.

ثم استدل عليه بالرواية الثانية والاولى والثالثة ثم قال : ومتى وطأ الثانية وهو لا يعلم تحريم ذلك لم تحرم عليه الاولى ، ثم استدل له بالرواية الرابعة والخامسة ، وذيل الخامسة بما قدمنا نقله عنه ذيلها من التأويل.

وعد شيخنا الشهيد الثاني في المسالك هذا قولا خامسا في المسألة باعتبار إطلاق كلام الشيخ (رحمه‌الله) أن خروج الثانية عن ملكه موجب لتحليل الاولى وإن كان بقصد العود إلى الاولى ، وهو خلاف تفصيله في النهاية.

أقول : ويؤيده أنه في النهاية قيد حل الاولى مع الجهل بإخراج الثانية عن ملكه ، وهنا أطلق ولم يقيده بذلك.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن إطلاق الشيخ في عبارته مع وجود هذه القيود في أدلة المذكورة دليل على إرادتها ، وإلا فدليله لا يطابق دعواه ، وبه يبطل القول المذكور لخلوه من الدليل ، فالظاهر هو حمل كلامه على إرادة هذه القيود التي تضمنتها رواياته ، وعلى هذا يرجع إلى قوله المتقدم نقله عن كتاب النهاية.

وكلام شيخنا الشهيد الثاني هنا في المسالك ظاهر في التوقف والاشكال في المسألة ، حيث إنه نقل أخبارها على غير وجهه ، وبعضا طعن في سنده مع صحته فنقل الرواية الثانية بغلط في متنها واعترضها بأنها متهافتة المتن.

ونقل الرواية الرابعة من التهذيب واعترضها بضعف السند ، وأنها بسبب ذلك لا تصلح لتخصيص تلك الأخبار المطلقة ، وغفل عن سندها في الكافي والفقيه ، فإنه صحيح كما قدمنا ذكره ، وحصل له نوع توقف وإشكال في المقام بسبب ذلك ، وهو ناش عن الغفلة في الموضعين.

ثم إنه قال في آخر البحث ونعم ما قال : واعلم أن الأخبار على كثرتها قد اشتركت في الحكم بتحريم الأولى مع علم الواطئ بالتحريم ، فالقول ببقائها على الحل وإطراح جملة هذه الأخبار وإن ضعف طرقها مشكل ، واشتركت أيضا في أن إخراج الثانية لأبنية العود إلى الأولى يحللها ، وهذا أيضا لا شبهة فيه.


وبقي ما لو أخرج الأولى عن ملكه ، فإنه يحلل الثانية قطعا لزوال المقتضي للتحريم وهو الجمع.

وبقي الإشكال في حل أيتهما كان مع بقائهما على ملكه ، وينبغي التوقف فيه إلى أن يظهر المرجح ، وطريق الاحتياط لا يخفى. انتهى.

أقول : قوله ـ وإن ضعف طريقها ـ مبني على ما نقله في الكتاب المذكور ، وإلا فقد عرفت أن فيها الصحيح والحسن بإبراهيم بن هاشم الذي لا يقصر عن الصحيح والموثق وغيرهما.

وأما قوله ـ وبقي ما لو أخرج الأولى عن ملكه ، فإنه يحلل الثانية قطعا ـ فإن فيه أن هذا ظاهر صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة ، إلا أنه لم ينقلها في المسالك فهو مستفاد من الأخبار حينئذ.

وأما قوله ـ وبقي الإشكال في حل أيتهما إلى آخره ـ فلا يخلو من إشكال فإنك قد عرفت أن الحكم بجمع الأختين في الوطي مما اتفقوا على تحريمه بعقد كان أو ملك ، وقد صرحت الأخبار كما صرحوا به أيضا أنه متى وطأ إحداهما بعد ملكه لهما حرمت عليه الثانية ، وتوجه المنع إليها ، فلا يجوز له وطئوها. للزوم الجمع المنهي عنه ، وعلى هذا فلو وطأهما معا وارتكب المحرم بوطى‌ء الثانية بعد الأولى فإنهما يحرمان عليه معا ما دامتا في ملكه وإن حل تملكها ، إلا أن وطئهما محرم عليه ، فلا يجوز له وطؤ واحدة منهما إلا أن يخرج الأخرى عن ملكه.

فما ذكره من الإشكال ـ في حل أيتهما ما دامتا في ملكه ـ لا أعرف له وجها ، بل الظاهر هو تحريمهما معا ما دامتا في الملك لما وقع عليه الاتفاق نصا وفتوى من تحريم الجمع في النكاح ، وهو يحصل بنكاح إحداهما فإنه يحرم عليه الثانية ، فكيف فيما إذا نكحهما معا تحل له إحداهما حتى أنه يتوقف في أيتهما يعني الأولى أو الثانية.

وبالجملة فإن قضية تحريم الجمع عدم حل واحدة منهما بعد وطئ


إحداهما فضلا عن وطئهما معا إلا مع إخراج إحداهما عن الملك لزوال سبب التحريم ، والله العالم.

تذنيب :

لو وطأ أمته بالملك ثم تزوج نسبا أو رضاعا ، قال الشيخ : يصح التزويج وتحرم الموطوءة بالملك ما دامت الزوجة في حباله لعموم (1) «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» قالوا : وليس مطلق الجمع بين الأختين محرما ، فإن اجتمعتا في الملك ليس محرما قطعا وإن كان الملك يجوز الوطي ، ولأن النكاح أقوى من الوطي بملك اليمين فإذا اجتمعتا قدم الأقوى ، وإنما كان أقوى لكثرة ما يتعلق به من الأحكام التي لا تلحق الوطي بالملك ، مضافا إلى أن الغرض من الملك المالية فلا ينافي النكاح ، فعلى هذا تحرم الموطوءة بالملك ما دامت الثانية زوجته.

وظاهر المحقق في الشرائع التردد في ذلك ، قال في المسالك : ووجهه أن الوطي يصير الأمة فراشا للحوق الولد به ، فلم يجز أن يرد النكاح على فراش الأخت ، كما لا يرد نكاح الأخت على نكاح أختها ، ولأنه فعل في الأخت ما ينافي إباحة أختها المفترشة ، فلم يجز كالوطئ ثم قال : وأجيب ببطلان القياس مع وجود الفارق فإن النكاح أقوى من الوطي بملك اليمين.

أقول : لا يخفى ما في هذه التعليلات العليلة من الوهن ، وعدم الصلاح لتأسيس الحكم الشرعي ، والمستفاد من الأدلة هو تحريم الجمع بين الأختين في الوطي بعقد نكاح كان أو ملك ، أعم من أن تستوي الأختان في الأول أو الثاني أو تختلفا كما هو محل البحث.

وتعليل تقديم النكاح على الملك ـ بما ذكروه من أن النكاح أقوى لكثرة ما يتعلق به من الأحكام ـ مجرد دعوى لا تسمع إلا مع الدليل ، فإن الأحكام

__________________

(1) سورة النساء ـ آية 24.


الشرعية مبنية على التوقيف بالسماع من حامل الشريعة ، ولا تثبت على مجرد هذه الخيالات العقلية والتخرصات الوهمية.

فكما أنه لو جمع بينهما في العقد حرمتا جميعا على التفصيل المتقدم ، وكذا لو جمعهما في نكاح الملك فكذا هنا ، هذا مقتضى الأصول والقواعد الشرعية وأما الاستناد إلى الآية فقد عرفت أنها مخصصة بما لا تحصى من الأحكام ، فالاعتماد في الاستدلال على مثل ذلك مجازفة.

ثم قال في المسالك أيضا على أثر الكلام المتقدم : ولو انعكس الفرض بأن تزوج الأمة ثم ملك أختها ووطأها فعل حراما ، ولم يقدح ذلك في صحة النكاح ، ولا يجب إخراج الموطوءة عن ملكه ، للأصل ، ولأن الأقوى يدفع الأضعف. انتهى.

أقول : لا ريب في صحة النكاح هنا لوقوعه أولا كما لو تزوج الأختين مرتبا ، فإنا قد قدمنا أن عقد الاولى صحيح ، لكن يبقى الإشكال في ملك الأخت الثانية ووطئها ، فهل يجب به إخراجها عن ملكه ، كما يجب في المملوكتين لتحل الاولى له ويجوز له وطئوها وإلا للزم الجمع المحرم ، أو لا يجب وإن حرم وطئوها بناء على أن الوطي في الأمة بمنزلة العقد في الحرمة.

وتوضيحه : أنك قد عرفت أنه لا يمتنع الجمع بين الأختين في الملك ، وإنما يمتنع في الوطي به ، فلو ملكهما معا فلا إشكال ، ولو وطئ إحداهما حصل تحريم الجمع بخلاف الحرة ، فإن الممتنع هو الجمع في العقد ، والجمع في الوطي في الإماء كالجمع بالعقد في الحرائر ، فكما أن الحرة تحل أختها بطلاقها المزيل للعقد المحرم ، فالأمة تحل أختها بترك وطئها المنزل منزلة العقد وإن لم يخرجها عن الملك ، فإنه بترك الوطي تكون مملوكة غير فراش ، والجمع في الملك غير محرم وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال ، والله العالم.

المسألة الثالثة : هل يجوز الجمع بين اثنين من ولد فاطمة عليهما‌السلام أم لا؟ أقول : هذه المسألة لم يحدث فيها الكلام إلا في هذه الأعصار الأخيرة ، وإلا فكلام


المتقدمين من أصحابنا (رضوان الله عليهم) والمتأخرين خال من ذكرها والتعرض لها ، وقد اختلف فيها الكلام وكثر فيها النقض والإبرام بين علماء عصرنا ومن تقدمه قليلا ، فما بين من جزم بالتحريم ، ومن جزم بالحل ، ومن توقف في ذلك.

والأصل في هذه المسألة ما رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن الحسن بن فضال عن السندي بن الربيع عن ابن أبي عمير (1) عن رجل من أصحابنا قال : «سمعته يقول لا يحل لأحد أن يجمع بين ثنتين من ولد فاطمة عليها‌السلام أن ذلك يبلغها فيشق عليها ، قلت : يبلغها؟ قال : أي والله».

ورواه الصدوق في كتاب العلل عن محمد بن على ماجيلويه عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن حماد (2) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : الحديث».

فممن جزم بالتحريم في هذه المسألة المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (عطر الله مرقده) والشيخ الفقيه الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني (قدس الله روحه) على ما وجدته بخط والدي (طيب الله تعالى مرقده) حيث قال بعد نقل هذا الخبر برواية الصدوق : قد نقل هذا الحديث بهذا السند الفقيه النبيه الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني (قدس‌سره) وقال عقيب ذكره ما صورته : يقول كاتب هذه الأحرف جعفر بن كمال الدين البحراني : هذا الحديث صحيح ولا معارض له فيجوز أن يخصص به عموم القرآن ، ويكون الجمع بين الشريفتين من ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام في النكاح حراما. انتهى. كلامه (قدس‌سره).

وهذا الحديث ذكره الشيخ في التهذيب أيضا إلا أن سنده فيه غير صحيح. وهذا الشيخ كما ترى قد نقله بهذا السند الصحيح على الظاهر ، ولا نعلم من أين

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 463 ح 63 ، الوسائل ج 14 ص 387 ح 1.

(2) علل الشرائع ج 2 ص 590 ب 385 ، من نوادر العلل ح 38.


أخذه (قدس‌سره) ولكن كفى به ناقلا. وكتب الفقير أحمد بن إبراهيم. انتهى كلام والدي (طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه).

وأقول : إنه قد أخذه من كتاب العلل ، ولكن الوالد لم يطلع عليه وليته كان حيا فأهديه إليه ، وممن مال إلى العمل بالخبر المذكور المحدث الفاضل المولى محمد جعفر الأصفهاني المشهور بالكرباسي صاحب الحواشي على كتاب الكفاية ذكر ذلك في كتاب النوادر حيث قال ـ بعد نقل الخبر المذكور بطريقي الشيخين المذكورين ـ ما هذا لفظه : أقول : فيه دلالة على عدم جواز الجمع بين ثنتين من ولد فاطمة عليها‌السلام ولم أجد معارضا لها حتى يحمل ذلك على الكراهة ، وظاهرها حرمة الجمع ، والأحوط ترك الجمع وتخصيص العمومات بها ، إلا أنه لا بد من العلم بكونهما من ولد فاطمة عليها‌السلام. انتهى.

وأما شيخنا علامة الزمان ونادر الأوان الشيخ سليمان البحراني (قدس‌سره) فقد اختلف النقل عنه في هذه المسألة ، فإني وجدت بخط بعض الفضلاء الموثوق بهم نقلا من خطه (عطر الله مرقده) بعد نقل الخبر المذكور ما صورته : ومال إلى العمل به بعض مشايخنا وهو متجه لجواز تخصيص عمومات الكتاب بالخبر الواحد الصحيح ، وإن توقفنا في المسألة الأصولية ، ولا كلام في شدة المرجوحية وشدة الكراهة انتهى.

ونقل تلميذه المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح (عطر الله مرقده) في كتاب منية الممارسين في أجوبة مسائل الشيخ ياسين عنه التوقف ، حيث قال بعد ذكر المسألة المذكورة : وكان شيخنا علامة الزمان يتوقف في هذه المسألة ويأمر بالاحتياط فيها حتى إني سمعت من ثقة من أصحابنا أنه أمره بطلاق واحدة من نسائه لأنه كانت تحته فاطميتان ، ونقل عنه أنه يرى التحريم إلا أني لم أعرف منه غير التوقف.

ثم قال (قدس‌سره) بعد كلام في البين : إلا أني بعد في نوع حيرة واضطراب


ودغدغة وارتياب فانا في المسألة متوقف والاحتياط عندي لازم.

وقد سألني بعض الاخوان المتورعين عن هذه المسألة سابقا وكان مبتلى بها حيث إنه جامع بين فاطميتين فكتبت له جوابا يشعر بالتوقف والأمر بالاحتياط ، فامتثل ما كتبته وطلق واحدة ، ولا شك أن هذا طريق السلامة والسلوك في مسالك الاستقامة ، نسأل الله الوقوف عند الشبهات والتثبت عند الزلات. انتهى.

أقول : أما ما نقله عن شيخه العلامة من التوقف فإنه لا ينافي الجزم عنه بالتحريم كما نقلناه ونقله هو عن ذلك الرجل لجواز أن يكون صار إلى التحريم بعد التوقف أو بالعكس ، وما ذهب إليه هو (قدس‌سره) من التوقف فإنما أراد في الفتوى بالتحريم وإن كان يقول بتحريم الجمع من حيث الاحتياط كما أشار إليه بقوله : والاحتياط عندي فيها لازم.

وذلك لأن الأحكام عند أصحابنا الأخباريين ثلاثة ، حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك ، والحكم عندهم في موضع الشبهة وجوب الاحتياط ، وليس الفرق بينه وبين من قدمنا نقل القول عنه بالتحريم إلا من حيث المستند ، وإلا فالجميع متفقون على تحريم الجمع في المسألة.

والظاهر أن منشأ توقف شيخنا المذكور عدم وقوفه على رواية الصدوق للخبر في العلل بالسند الصحيح المذكور ، فإنه إنما نقل الخبر برواية الشيخ وأطال الكلام في سنده نقضا وإبراما لأجل إثبات صحته بطريق المتأخرين إلا أنه (قدس‌سره) من متصلبي الأخباريين لا يرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث ، فتوقفه هنا غريب لا أعرف له وجها وجيها.

ولبعض الأفاضل المعاصرين (1) اعتراضات عديدة على كلامه في كتاب منية الممارسين قد أجاد فيها بما أدس ، وهو كلام طويل واسع لا يسع المقام نقله إلا

__________________

(1) هو الفاضل المحقق السيد عبد الله بن السيد نور الدين السيد نعمة الله الشوشتري الجزائري قدس الله أسرارهم جميعا) في أجوبة المسائل الجبلية. (منه ـ قدس‌سره ـ).


أنه قال في آخره ـ بعد نقل الرواية بطريق الصدوق في العلل والكلام في السند ـ ما ملخصه. والصحيح أنه من الصحيح ، مأخوذا من كتاب ابن أبي عمير أو من تأخر عنه ، وعلى هذا فيلزم على المجتهدين العاملين بالآحاد الصحاح العمل بها ، إلا من قصر العمل على الكتب الأربعة فيبقى الإلزام على العاملين بما عداها من الكتب المشهورة مثل شيخنا البهائي (رحمه‌الله عليه) وموافقيه.

وكذا يلزم العمل بها على هذا الفاضل ومن وافقه في جواز تخصيص الكتاب والسنة بخبر الواحد الصحيح ، كما صرح به فيما تقدم ، فلا وجه لتوقفه في الحكم ، وهل هذا إلا تسليم للقياس ومنع للنتيجة.

قوله ـ فالشيخ محمد الحر جار على أصله ـ كلام مقبول ، لكني لا أعلم ما الذي ثبط (1) هذا الفاضل عن موافقته ، مع أنه يحذو حذوه في أكثر الأبواب الأصلية والفرعية؟ ثم ما الذي أرجع الشيخ محمد الحر عن فتياه هذه في وسائل الشيعة؟ حيث تصدى لتأويل الرواية فقال بعد ما نقلها : قد ورد حصر المحرمات في النكاح وإباحة ما عداها في القرآن والحديث ، وهذا يمكن أن يحمل على كون البنتين أختين ، أو على الكراهة مع الجور عليهما أو على إحداهما في القسم ، لتعليله أنه يشق على فاطمة عليها‌السلام بعد الموت وذلك بحسب الطينة البشرية في النساء ولم يذكر أنه يؤذيها ، بل هو أعم ، ولم يذكر أنه يشق على الرسول والأئمة (صلوات الله عليهم) ، وذلك لا يدل على التحريم مع ما تقدم ومع القرينة. انتهى كلامه.

أقول : إلى هنا كلام الفاضل المشار إليه آنفا وهو جيد وجيه كما سيظهر لك إن شاء الله بما لا يخفى على الفطق النبيه ، وهو ظاهر بل صريح في قوله بالخبر المذكور ، إلا أن ما نقله ـ عن الشيخ محمد الحر ـ من الكلام الدال على رجوعه ، وتأويله

__________________

(1) ثبطه عن الأمر وثبطه تثبيطا : قعد به عن الأمر وشغله عنه ومنعه تخذيلا ونحوه (المصباح المنير ج 1 ص 110).


الخبر بما ذكره ـ عجب عجيب فإن نسخ الوسائل التي عندنا خالية من ذلك وإنما الذي فيه أنه قال : باب حكم الجمع بين ثنتين من ولد فاطمة عليها‌السلام ، ثم نقل الرواية بطريق الشيخ ، ثم قال : محمد بن علي بن الحسين في العلل عن محمد ابن علي ماجيلويه ، ثم ساق السند إلى حماد كما تقدم ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ، وذكر مثله.

هذا صورة ما في كتاب الوسائل الذي حضرني ، والظاهر أن ما نقله الفاضل المذكور حاشية كتبت على الكتاب المذكور لبعض الناظرين في الجواب ، فظن أنها من أصل الكتاب ، أو نسخها الناسخ بناء على ذلك فليراجع الكتاب من أحب الوقوف على تحقيق الحال.

ثم أقول : والظاهر من نقل الصدوق الخبر المذكور وجموده عليه وعدم تعرضه للقدح هو القول بمضمونه ، كما هو المعهود من طريقته والمألوف من عادته وإن كان ذكره هنا إنما هو من حيث الاشتمال على العلة بالمشقة في المنع ، فإن المعلوم من عادته في كتبه ومصنفاته أنه لا ينقل من الأخبار إلا ما يعتمده ويحكم بصحته متنا وسندا ويفتي به.

وإذا أورد ما هو بخلاف ذلك نبه على العلة فيه وذيله بما يشعر بالطعن في متنه أو سنده ، وهذا المعنى وإن لم يصرح به إلا في الفقيه ، إلا إن المتتبع لكتبه ومؤلفاته والناظر في جملة مصنفاته لا يخفى عليه صحة ما ذكرناه ، وحيث إن هذا الكلام مما يكبر في صدور القاصرين سيما المعاصرين فيقابلونه بالإنكار والصد والاستكبار ، فلا بأس لو أرخينا العنان للقلم في الجري في هذا الميدان بنقل جملة من المواضع الدالة على ما ذكرناه ساعة من الزمان وإن طال به زمام الكلام ، فإنه أهم المهام.

فنقول : من المواضع المذكورة ما صرح به في باب العلة التي من أجلها حرم على الرجل جارية ابنه وأحل له جارية ابنته (1) ، فإنه أورد خبرا يطابق

__________________

(1) العلل ص 525 ب 303 طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج 14 ص 545 ح 8.


هذا العنوان ، ويدل على جواز نكاح جارية الابنة لأن الابنة لا تنكح ، ثم قال عقيبه ، قال مؤلف هذا الكتاب وساق الكلام إلى أن قال : والذي أفتى به أن جارية الابنة لا يجوز للأب أن يدخل بها.

ومنها في باب علة تحصين الأمة الحر (1) فإنه أورد خبرا يدل على أن الأمة يحصل بها الإحصان ، ثم قال بعده قال : محمد بن علي رضي‌الله‌عنه مصنف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا فأوردته كما جاء في هذا الموضع لما فيه من ذكر العلة ، والذي أفتى به واعتمد عليه ما حدثني به محمد بن الحسن ثم ساق جملة من الأخبار الدالة على أن الحر لا تحصنه المملوكة.

ومنها في باب العلة التي من أجلها صار وقت المغرب إذا ذهب الحمرة من المشرق (2) ثم أورد الخبر بذلك ، ثم أردفه بأخبار دالة على التحديد بغروب الشمس وغيبوبة القرص ، ثم قال : قال محمد بن على مؤلف الكتاب : إنما أوردت هذه الأخبار على أثر الخبر الذي في أول هذا الباب ، لأن الخبر احتجت في هذا المكان لما فيه من ذكر العلة ، وليس هو الذي أقصده من الأخبار التي رؤيتها في هذا المعنى ، وأوردت ما أقصده وأستعمله وأفتي به على أثره ، ليعلم ما أقصده من ذلك.

ومنها في باب علة منع شرب الخمر في حال الاضطرار (3) ، فإنه أورد خبرا يدل على أن المضطر لا يجوز له أن يشرب الخمر ، وقال بعده : قال محمد بن علي بن الحسين مصنف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا كما أوردته ، وشرب الخمر في حال الاضطرار مباح الى آخر كلامه.

ومنها في باب العلة التي من أجلها جعلت أيام منى ثلاثة أيام (4) فإنه أورد

__________________

(1) العلل ص 511 ب 285 طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج 18 ص 352 ح 2.

(2) العلل ص 549 ب 60 طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج 3 ص 126 ح 3.

(3) العلل ص 478 ب 227 طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج 17 ص 277 ح 13.

(4) العلل ص 450 ب 204 طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج 9 ص 58 ح 7.


حديثا يدل على أن من أدرك شيئا من أيام منى فقد أدرك الحج ، ثم قال : قال محمد بن علي مصنف هذا الكتاب جاء هذا الحديث هكذا ، فأوردته في هذا الموضع لما فيه من ذكر العلة ، والذي أفتي به وأعتمده ما حدثنا به شيخنا محمد بن الحسن ، ثم ساق الخبر بما يدل على تخصيص إدراك الحج بإدراك المشعر قبل الزوال ، وعرفة قبل الزوال.

ومنها في باب العلة التي من أجلها تجزئ البدنة عن نفس واحدة ، وتجزى البقرة عن خمسة ، (1) فإنه أورد خبرا بهذا المضمون ، ثم قال بعده : قال مصنف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا فأوردته لما جاء فيه من ذكر العلة ، والذي أفتي به وأعتمد به وأن البقرة والبدنة يجزيان عن سبعة نفر إلى آخره.

ومنها في حديث ورد فيه أن من بر الولد أن لا يصوم تطوعا ولا يحج تطوعا ولا يصلي تطوعا إلا بإذن أبويه ، وإلا كان قاطعا للرحم ، (2) ثم قال بعده : قال محمد بن علي مؤلف هذا الكتاب : جاء هذا الخبر هكذا ، ولكن ليس للوالدين على الولد طاعة في ترك الحج تطوعا كان أو فريضة إلى آخره.

ونحو ذلك في باب العلة التي من أجلها لا يجوز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتت ، (3) وفي باب العلة التي من أجلها قال هارون لموسى عليهما‌السلام : «يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي» (4) إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع ، فكلامه ذيل هذه الأخبار وسكوته في سائر المواضع أدل دليل على ما قلناه.

__________________

(1) العلل ص 440 ب 184 طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج 10 ص 116 ح 18.

(2) العلل ص 385 باختلاف يسير طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج 7 ص 396 ح 2.

(3) العلل ص 341 ب 42 طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج 3 ص 591 ح 1.

(4) العلل ص 68 ب 58 طبع النجف الأشرف.


ومنها أنه قال في كتاب عيون أخبار الرضا (1) بعد نقل حديث في سنده محمد بن عبد الله المسمعي ما صورته : قال مصنف هذا الكتاب : كان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي‌الله‌عنه سيئ الرأي في محمد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث ، وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي. انتهي.

أقول : وهذا الكلام ظاهر بل صريح في أنه لا يخرج شيئا من الأخبار في كتبه إلا وهو صحيح عنده لا يعتريه في صحته شك ولا شبهة ، ومتى كان غير ذلك نبه عليه ذيل الخبر.

ومنها ما في الفقيه (2) في باب من أفطر أو جامع في شهر رمضان بعد أن أورد خبرا يتضمن أن من جامع امرأته وهو صائم وهي صائمة أنه إن كان أكرهها فعليه كفارتان وإن كان طاوعته فعليه كفارة ما صورته : قال مصنف هذا الكتاب : لم أجد ذلك في شي‌ء من الأصول ، وإنما تفرد بروايته علي بن إبراهيم بن هاشم.

ومنها في كتاب الغيبة بعد أن أورد حديثا عن أحمد بن زياد قال : قال مصنف هذا الكتاب لم أسمع هذا الحديث إلا من أحمد بن زياد بعد منصرفي من حج بيت الله الحرام ، وكان رجلا ثقة دينا ، إلى آخره.

ومنها في الكتاب المذكور بعد نقل حديث عن علي بن عبد الله الوراق قال : قال مصنف هذا الكتاب : لم أسمع هذا الحديث إلا عن علي بن عبد الله الوراق ، ووجدته بخطه مثبتا فسألته عنه فرواه لي عن سعد بن عبد الله عن أحمد ابن إسحاق كما ذكرته.

__________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 20 طبع النجف الأشرف ، الوسائل ج 18 ص 81 ح 21.

(2) الكافي ج 7 ص 242 ح 12 ، التهذيب ج 10 ص 145 ح 5 ، الفقيه ج 2 ص 73 ح 6 ، الوسائل ج 7 ص 37 ب 12 ح 1.


وفي هذه المواضع الثلاثة دلالة على أن جميع أخباره التي ينقلها ساكتا عليها موجودة في الأصول العديدة ثابتة الصحة عنده مروية من طرق عديدة ، وإذا ضممت هذه المواضع بعضا إلى بعض عرفت أن نقله لهذا الخبر وكذا غيره من الأخبار التي يجمد عليها ليس إلا لأنها صحيحة صريحة معمول عليها عنده ومعتمد عليها لديه.

ثم أقول : ظاهر الشيخ القول بهذا الخبر ونحوه وإن لم يصرح بالحكم بخصوصه ، حيث إنه في كتاب العدة وصدر كتاب الاستبصار قد صرح بأن الخبر إذا لم يكن متواترا أو تعرى عن إحدى القرائن الملحقة له بالتواتر فإنه خبر واحد ، ويجوز العمل به إذا لم يعارضه خبر آخر ولم يعلم فتوى الأصحاب على خلافه ، وهذا الخبر كما ترى ليس له معارض فيما دل عليه ، ولم يقع من أحد من الأصحاب فتوى بخلافه فيجوز العمل به حينئذ.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن المانع من هذا الحكم إما أن يتطرق نزاعه إلى سند الخبر المذكور أو متنه ، فأما السند فالكلام فيه مفروع منه على رأينا في عدم العمل بهذا الاصطلاح المحدث ، ومع التسليم فإن الرواية صحيحة بنقل الصدوق كما هو المشهور بين الأصحاب من عد أخبار هؤلاء المذكورين في الصحيح ، عن أبان بن عثمان الذي ربما ناقش في صحة خبره من لا يلتفت إليه ولا يعول عليه كما لا يخفى على الممارس ، ومحمد بن علي ماجيلويه الذي هو من عمد مشايخ الإجازة وقد عد حديثهما في الصحيح العلامة وغيره في غير موضع.

وأما متن الخبر فإنه لا يخفى أن قوله ـ لا يحل من الألفاظ الصريحة في التحريم ـ إذ هو المتبادر منه عند الإطلاق والتبادر إمارة الحقيقة ، كما صرح به محققو الأصوليين ، ويؤكده التعليل بالمشقة ، وأن ذلك يشق عليها (صلوات الله عليها) ، ومن الظاهر البين أن الأمر الذي يشق عليها يؤذيها ، وإيذاؤها محرم بالاتفاق ، لأنه إيذاء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخبر المتفق عليه بين الخاصة


والعامة «فاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما يؤذيها» (1).

ولو قيل : إن لفظ «لا يحل» قد ورد في مواضع عديدة بمعنى الكراهة ، فلا يكون نصا في التحريم لما رواه الكليني والصدوق (2) «عطر الله مرقديهما» عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «قال : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدع عانتها فوق عشرين يوما». مع أن ذلك غير واجب بالإجماع.

وحينئذ فيمكن حمل الخبر المذكور على ذلك ، وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال كما ذكروه ، ولفظ «المشقة» لا يستلزم الإيذاء ، وحينئذ فلا ينهض الخبر دليلا على التحريم.

قلنا : لا يخفى عن الفطن ـ اللبيت والموفق المصيب ومن أخذ القواعد الشرعية والضوابط المرعية بأدنى نصيب ـ أن الواجب هو حمل الألفاظ على حقائقها متى أطلقت ، وإنما تحمل على مجازاتها بالقرائن الحالية أو المقالية لا بمجرد التخرص والتخمين ، إذ لو ساغ ذلك لبطلت جملة القواعد الشرعية ، واختلت تلك الأحكام النبوية ، ومن الظاهر لمتتبع الأحكام أن لفظ «لا يحل» من الألفاظ الصريحة في التحريم حيثما يطلق إلا مع قرينة خلافه.

ومن أمثلته القرآنية قوله تعالى «لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً (3)» وقوله «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» (4) وقوله «فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» (5) وقوله «لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ» (6).

__________________

(1) العلل ص 186 طبع النجف الأشرف؟ اما الأحاديث العامة فراجع الغدير ج 7 ص 231.

(2) الكافي ج 6 ص 506 ح 11 ، الفقيه ج 1 ص 67 ح 36 ، الوسائل ج 14 ص 439 ح 1.

(3) سورة النساء ـ آية 19.

(4) سورة الأحزاب ـ آية 52.

(5) سورة البقرة ـ آية 230.

(6) سورة الممتحنة ـ آية 10.


وأما السنة فأكثر من أن يأتي عليه قلم الإحصاء أو يدخله العد والاستقصاء والعرف العام والخاص من أقوى الدلائل التي لا يناضلها مناضل.

وأما حديث العانة فإن الحمل على الكراهة إنما وقع من حيث القرينة الدالة على ذلك ، وهي أولا ما دل على استحباب حلقها من الأخبار والإجماع وأن تركها مكروه.

وثانيا قوله في الخبر «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فإنه يؤذن بأن ترك العانة المدة المذكورة مناف لكمال الايمان ، وهذا معنى الكراهة والقرينة موجودة في الخبر.

وأما قوله ـ وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال ـ فكلام شعري وإلزام جدلي ، وتخريج سوفسطائي لا يصح النظر إليه ولا التصريح في مقام التحقيق عليه ، وإلا لانسد بذلك باب الاستدلال واتسعت دائرة القيل والقال ، وانفتح باب الخصام والجدال ، إذ لا قول إلا ولقائل فيه مقال ، ولا دليل إلا وللمنازع فيه مجال فإن باب المجاز أوسع من أن ينتهي إلى حد أو يدخل أفراده الحصر والعد وإن تفاوتت قربا وبعدا وظهورا وخفاء ، وللزم بذلك انسداد باب إثبات الصانع والنبوة والإمامة ، وقامت الحجة لأصحاب الملل والمخالفين فيما يبدونه من التأويلات في الأدلة التي تقيمها الشيعة والبراهين ، بل الحق الحقيق بالقبول هو ما صرح به جملة من علماء الأصول من أن المدار في الاستدلال على النص والظاهر ، ولا يلتفت إلى الاحتمال في مقابلة شي‌ء منها.

نعم ربما يصار إليه في مقام تعارض الأدلة وأرجحية المعارض فإنه يرتكب التأويل والاحتمال جمعا بين الأدلة وإن كان خلاف الظاهر كما هو مطرد بينهم.

وأما قوله ـ إن لفظ المشقة لا يستلزم الإيذاء ـ فهو كلام ناش عن عدم التأمل في المقام والتدبر لما ذكره العلماء الاعلام في هذا المقام فإنه لا يخفى أن المشقة لغة بمعنى الثقل والشدة والصعوبة فيقال أمر شاق : أي شديد ثقيل صعب.


وقال في القاموس (1) : شق عليه الأمر شقا صعب ، وقال ابن الأثير في النهاية (2) وفيه «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» : أي لو لا أن أثقل عليهم من المشقة وهي الشدة.

وقال المفسرون في قوله عزوجل «وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ» (3) : أي لأحملك من الأمر ما يشتد عليك.

وقال الهروي في كتاب الغربيين : قوله تعالى (4) «لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» قال قتادة : أي بجهد النفس.

أقول : وإن كانت المشقة كما ذكره هؤلاء الأعلام عبارة عن هذا المعنى وهو الذي ذكروه ، وهو ما يصعب تحمله ويشتد على النفس تحمله والقيام به ويبلغ به الجهد ، فكيف لا تكون مستلزما للأذى ، مع أن الأذى إنما هو الضرر اليسير كما صرح به في القاموس مثل التهديد والغيبة ونحو ذلك.

وقد صرح المفسرون في قوله سبحانه (5) «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلّا أَذىً» أي ضررا يسيرا ، وعلى هذا فيكون الأذى إنما هو أقل مراتب المشقة ، فكيف لا تكون لازما للمشقة؟ وهل يشك عاقل في أن من وقع في شدة وأمر صعب لا يتأذى بذلك؟ ولكن من منع ذلك إنما بنى على مقتضى هواه وعقله بغير ارتياب ، من غير مراجعة لكلام العلماء في هذا الباب فضل عن سواء الطريق وأوقع نفسه وغيره في لجج المضيق.

لا يقال : هذا الخبر قد روته العلماء في كتبهم واطلع عليه الفضلاء منهم

__________________

(1) قاموس المحيط ج 3 ص 258.

(2) النهاية ج 2 ص 491.

(3) سورة القصص ـ آية 27.

(4) سورة النحل ـ آية 7.

(5) سورة آل عمران آية ـ 111.


ولم يصرح أحدهم بما دل عليه من هذا الحكم في محرمات النكاح من الكتب الفروعية كما صرحتم به ، بل أعرضوا عن التعرض له بالكلية ، ولو كان ذلك حقا لذكروه وفي مصنفاتهم سطروه.

لأنا نقول : هذا القائل إما أن يسلم ما ذكرناه من صحة الخبر وصراحته كما نقوله أم لا؟ وعلى الثاني يكون الكلام معه في إثبات الدليل وصحته وصراحته ، وهذا خارج عن موضع السؤال فلا وجه لهذا السؤال حينئذ ، وعلى الأول فإن كلامه هذا مردود بما صرح به غير واحد من العلماء المحققين ، منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في غير موضع من الكتاب المذكور من جواز مخالفة الفقيه لما يدعونه من الإجماع إذا قام الدليل على خلافه ، فكيف لو لم يكن ثمة إجماع ولا قائل بخلافه بالكلية ، فإنه قال في مسألة ما لو أوصى له بأبيه فقبل الوصية بعد الطعن في الإجماع : وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره إذا قام له الدليل على ما يقتضي خلافهم ، وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ، ولكن زلة المتقدم متسامحة بين الناس دون المتأخرين. انتهى.

وقد قدمنا كلامه بطوله في كتاب الوصايا ، وحينئذ فإذا شاع مخالفتهم في المسائل الإجماعية مع أن الإجماع عندهم أحد الأدلة الشرعية متى قام الدليل على خلاف ذلك الإجماع ، فكيف لا يجوز القول بما لم يتعرضوا له نفيا ولا إثباتا إذا قام الدليل عليه ، ومجرد رؤيتهم الخبر وروايتهم الخبر وروايتهم له في كتب الأخبار مع عدم ذكرهم حكمه في الكتب الفروعية لا يصلح لأن يكون دليلا على رد ذلك الخبر ولا ضعفه ، مع عدم تصريحهم بالرد والتضعيف وبيان الوجه فيه ، فكم خبر رووه ولم يتعرضوا للتنبيه على حكمه في الكتب الفروعية ، وهل هذا الكلام إلا مجرد تمويه على ضعفة العقول ، ومن ليس له قدم ثابت في معقول ومنقول.

على أنه لا يشترط عندنا في الفتوى بحكم من الأحكام تقدم قائل به من


متقدمي العلماء الأعلام ، كما صرح به جملة من محققي أصحابنا ، وإن ادعاه شذوذ منهم.

نعم المشهور بينهم اشتراط عدم مخالفة الإجماع على ما عرفت فيه من عدم ما يوجب الالتفات إليه والسماع ، وكيف ولو تم هذا الشرط لما اتسعت دائرة الخلاف وتعدد الأقوال في المسائل الشرعية على ما هي عليه الآن ، كما لا يخفى على ذوي الإنصاف ، حتى أنك لا تجد حكما من الأحكام إلا وقد تعددت فيه أقوالهم كما لا يخفى على من راجع كتاب المختلف ، وهذه الأقوال كلها تجددت بتجدد العلماء عصرا بعد عصر.

وقد نقل بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) انحصار الفتوى زمن الشيخ (رحمة الله عليه) فيه ، وكذا ما بعد زمانه ولم يبق إلا حاك عنه وناقل ، حتى انتهت النوبة إلى ابن إدريس ففتح باب الطعن على الشيخ والخلاف له ، ثم اتسع الباب وانتشر الخلاف ، فإذا كان الأمر كذلك فكيف استجاز هذا القائل المنع من الفتوى بشي‌ء لم يتعرض له الأصحاب نفيا ولا إثباتا إذا قام الدليل الشرعي عليه ، هذا.

وممن جرى على هذا المنوال الذي جرينا عليه في هذا المقال المحدث الكاشاني (قدس‌سره) فإنه صرح في المفاتيح بتحريم كتابة القرآن على المحدث لصحيحة علي بن جعفر أن أخيه (1) موسى عليه‌السلام «أنه سأله عن الرجل أيحل له أن يكتب القرآن في الألواح والصحيفة وهو على غير وضوء؟ قال : لا».

مع اعترافه بأنه لم يجد به قائلا ، وهذه الرواية التي أفتى بمضمونها وأعتمد عليها بمرأى ومنظر من العلماء قبله ، مع أنه لم يصرح أحد بما دلت عليه ولم يقل بما دلت عليه قائل ، ولم ير ما ذكره هذا القائل مانعا له عن القول بما دلت عليه ، ولا موجبا للطعن على القائل المذكور بما ذهب إليه.

وهذا المحدث الأمين الأسترآبادي (عطر الله مرقده) في حواشيه على

__________________

(1) البحار ج 10 ص 277 ط جديد ، التهذيب ج 1 ص 127 ح 36 ، الوسائل ج 1 ص 270 ح 4.


كتاب المدارك على ما وجدته بخطه صرح بعدم العفو عن نجاسة دم الغير وإن كان أقل من درهم ، إلحاقا له بدم الحيض ، لمرفوعة البرقي (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «دمك أنظف من دم غيرك ، إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا بأس ، وإن كان من دم غيرك قليلا كان أو كثيرا فاغسله».

ولم يقل بمضمون هذه الرواية أحد قبله مع أن الرواية مذكورة في كتب الأصحاب إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع الماهر والخبير الباهر.

فإن قيل : إن عمومات الآيات مثل قوله سبحانه «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» (2) وقوله «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ» (3) وقوله «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» (4) وكذلك عمومات السنة مخالفة لهذا الخبر ، وهو قاصر عن معارضتها ، والعمل عليها أرجح ، والقول بها أولى.

قلنا : هذا القائل أيضا إما أن يوافقنا على صحة هذا الخبر وصراحته فيما ندعيه أو لا؟ وعلى الثاني فكلامه هذا لا وجه له ، بل الواجب عليه أن يقول هذا الخبر غير صحيح ولا صريح فيما تدعونه فيكون محل البحث هنا.

وعلى الأول فكلامه هذا ساقط أيضا لاتفاق أجلاء الأصحاب ومعظمهم قديما وحديثا على تخصيص عمومات الكتاب والسنة وتقييد مطلقاتهما بالخبر الصحيح الصريح تعدد أو اتحد ، وها نحن نتلو عليك جملة من تلك المواضع إجمالا.

فمنها مسألة التخيير في المواضع الأربعة بين القصر والإتمام مع دلالة الآية والأخبار على وجوب التقصير على المسافر مطلقا.

ومنها مسألة الحبوة. ودلالة الآيات والروايات على أن ما يخلفه الميت

__________________

(1) الكافي ج 3 ص 59 ح 7 ، الوسائل ج 2 ص 1028 ح 2.

(2) سورة النساء ـ آية 24.

(3) سورة النور ـ آية 32.

(4) سورة النساء ـ آية 3.


يقسم على جميع الورثة على الكتاب والسنة ، مع استثناء أخبار الحبوة لتلك الأشياء المخصوصة واختصاص أكبر الولد بها.

ومنها منع من ثبت له الإرث بالآيات والروايات من الوالد والولد والزوجة ونحوهم بالموانع المنصوصة من القتل والكفر والرقية واللعان ، فإنه لا خلاف في منعهم مع دلالة الآيات والروايات على إرثهم مطلقا.

ومنها ميراث الزوجة غير ذات الولد على المشهور ، ومطلقا على المختار ، فإن مقتضى إطلاق الآيات والروايات على إرثها من كل شي‌ء من عينه منقول أو غير منقول ، مع دلالة الأخبار ، وبها قال الأصحاب على الحرمان من الرباع على التفصيل المذكور في محله.

ومنها قولهم بعد نشر حرمة الرضاع بين الأجنبيين إذا ارتضعا من امرأة مع تعدد الفحل لأخبار دلت على ذلك ، مع دلالة الآية وهي «وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» (1) وجملة من الأخبار على نشر الحرمة بذلك.

ومنها مسألة الخمس ودلالة الآية والروايات الكثيرة على وجوب إخراجه مع دلالة جملة من الأخبار على السقوط مطلقا ، أو بخصوص الأرباح.

ومنها ميراث زوجة المريض إذا طلقها في مرضه وخرجت من العدة فإنها ترثه إلى سنة ، مع دلالة الآيات والروايات على أن الميراث لا يكون إلا بسبب أو نسب ، وهذه بعد الخروج من العدة تصير أجنبية.

إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها الماهر البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.

وحينئذ فإذا ثبت جواز تخصيص عمومات الكتاب والسنة بالخبر الصحيح في هذه المواضع ونحوها ، فما المانع منه فيما نحن فيه لولا زيغ الأفهام وزلل الإقدام في ميدان النقض والإبرام.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما يفهم من كلام شيخنا المحدث الصالح المتقدم

__________________

(1) سورة النساء ـ آية 23.


ذكره وما نقله عن شيخه العلامة (أجزل الله إكراهما في دار الإقامة) من أن المخرج من هذه المسألة بعد عقده على اثنتين أنه يطلق واحدة فإنه لا يخلو من إشكال ، لا شعاره بصحة عقد الثانية.

والتحقيق أن هذه المسألة مثل مسألة الجمع بين الأختين حذو النعل بالنعل ، وحينئذ فالمخرج منها هنا كما تقدم ثمة ، وهو أنه يفارق الثانية ، وإن طلقها فهو أولى وأحوط ويتجنب الاولى حتى تخرج الثانية من العدة ، وإن أراد الثانية اعتزلها وطلق الاولى. ومتي خرجت من العدة عقد الثانية عقدا مستأنفا. والله العالم بحقائق أحكامه.

المسألة الرابعة : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه يجوز للحر نكاح الأمة لمن لا يجد الطول إلى نكاح الحرة وخشي العنت ، والصبر أفضل ، وبذلك صرحت الآية في قوله عزوجل (1) «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ـ إلى قوله ـ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ».

والطول لغة : الزيادة والفضل ، والمراد هنا الزيادة في المال على وجه يتمكن من المهر والنفقة ولو بالقوة كأصحاب الحرف ، إلا أن الظاهر من بعض الروايات الآتية التخصيص بالمهر ، وهو الأقرب ، فإن الرزق مضمون.

والعنت لغة : المشقة الشديدة ، والمراد به هنا المشقة باعتبار تحمل ضرر العزوبة أو الوقوع في الزنا الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة الحيوانية عليه وإنما الخلاف فيما إذا فقد أحد الشرطين المذكورين على أقوال ثلاثة.

أحدها : التحريم والظاهر أنه المشهور بين المتقدمين ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف وابن البراج وابن الجنيد وابن أبي عقيل والشيخ المفيد.

وربما ظهر من عبارة ابن أبي عقيل دعوى الإجماع على ذلك ، حيث قال :

__________________

(1) سورة النساء ـ آية 25.


لا يحل للحر المسلم عند آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتزوج الأمة متعة ولا نكاح إعلان إلا عند الضرورة ، وهو إذا لم يجد مهر حرة وضرت به الغروبة وخاف على نفسه منها الفجور ، وإذا كان كذلك حل له نكاح الأمة.

وإذا كان يجد السبيل إلى تزويج الحرة ولم يخش على نفسه الزنا الحرام لم يحل له أن يتزوج الأمة متعة ولا إعلانا ، فإن تزوجها على هذه الحال فالنكاح باطل ، قال الله تعالى «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ» يعني الحرائر «فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» يعني الإماء ثم قال «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ» والعنت الزنا ، فأحل تزويج الإماء لمن لا يجد طولا أن ينكح الحرائر وحرم نكاحهن على واجدي الطول.

وقد أجاز قوم من العامة تزويج الإماء في حال الضرورة وغير الضرورة لو أجدى الطول وغير واحدي الطول ، وكفى بكتاب الله عزوجل ردا عليهم دون ما سواه ، انتهى.

وهؤلاء القائلون بالتحريم منهم من قال بصحة العقد مع المخالفة وإنما يأثم خاصة ، وبه صرح الشيخ المفيد وابن البراج ، وظاهر الباقين البطلان وهو صريح عبارة ابن أبي عقيل المذكورة ، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

وثانيهما : الجواز علي كراهة ، وهو مذهب الشيخ في النهاية وابن حمزة وابن إدريس والمحقق والعلامة ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين.

وثالثها : تحريم الأمة لمن عنده حرة خاصة ، نقله الشيخ في الخلاف قولا في المسألة ، والذي يدل على القول الأول ظاهر الآية المتقدمة ، والتقريب فيها أنه تعالى شرط في نكاح الإماء عدم الطول ، لأن «من» للشرط ، وشرط خوف العنت بقوله «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ» والمشروط عدم عند عدم شرطه ، ويدل على ذلك الأخبار الكثيرة.


ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) عن أحدهما عليهما‌السلام «قال سألته عن الرجل يتزوج المملوكة؟ قال : لا بأس إذا اضطر إليها».

ورواه بطريق آخر في الموثق عن محمد بن مسلم (2) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يتزوج المملوكة؟ قال : إذا اضطر إليها فلا بأس».

وما رواه في الكافي عن زرارة بن أعين (3) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يتزوج الأمة؟ قال : لا ، إلا أن يضطر إلى ذلك».

وعن أبي بصير (4) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الحر يتزوج الأمة؟ قال : لا بأس إذا اضطر إليها».

والتقريب فيها ثبوت البأس مع عدم الضرورة وهو يقتضي التحريم ، لأن المراد بالبأس المنفي هو التحريم ، وقد دل الخبر على ثبوته مع انتفاء الضرر ، وإذا ثبت اشتراط الجواز بذلك كان مخصصا لعموم الآيات التي استدل بها المجوزون ورافعا للاضل الذي استندوا إليه أيضا ، استدل القائلون بالقول الثاني بالأصل وعموم قوله تعالى «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ» (5) وقوله «وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ» (6) وقوله «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» (7).

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 421 ح 8 ، الوسائل ج 15 ص 87 ح 1.

(2) التهذيب ج 7 ص 334 ح 2 ، الوسائل ج 14 ص 392 ح 6.

(3) الكافي ج 5 ص 360 ح 6 ، الوسائل ج 14 ص 391 ح 1.

(4) الكافي ج 5 ص 359 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 334 ح 1 ، الوسائل ج 14 ص 391 ح 4.

(5) سورة النور ـ آية 32.

(6) سورة البقرة ـ آية 221.

(7) سورة النساء ـ آية 24.


ويؤيده ما رواه في الكافي عن يونس بن عبد الرحمن (1) عنهم عليهم‌السلام قال : «لا ينبغي للمسلم الموسر أن يتزوج الأمة إلا أن لا يجد حرة» الحديث.

وعن أبي بصير (2) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا ينبغي للحر أن يتزوج الأمة وهو يقدر على الحرة».

وعن ابن بكير (3) عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا ينبغي أن يتزوج الرجل الحر المملوكة اليوم ، إنما كان ذلك حيث قال الله عزوجل (4) «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً» ،. والطول المهر ، ومهر الحرة اليوم مثل مهر الأمة أو أقل» وهذه الرواية هي التي أشرنا إليها آنفا بأنها تدل على أن الطول عبارة عن ملك المهر خاصة.

والتقريب في هذه الروايات أنه عبر فيها بلفظ «ينبغي» وهو ظاهر في الكراهة وأجاب في المختلف ـ حيث اختار الجواز ـ عن الآية بأنها تدل من حيث المفهوم وهو ضعيف ، وإذا عارضه المنطوق خرج عن الدلالة.

علي أن المعلق الأمر بالنكاح إما إيجابا أو استحبابا ، فإذا انتفى المعلق عليه انتفى الوصف الزائد على الجواز ، وأيضا أنه خرج مخرج الأغلب فلا يدل على نفي الحكم عما عداه ، قال : وكذا الجواب عن الخبر.

ورد بأن مفهوم الشرط حجة عند المحققين ، ولا منطوق يعارضه ، بل العموم وهو قابل للتخصيص ، وإنما يتم كون المعلق على الشرط الأمر لو قدرنا الجار في قوله «فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» متعلقا بمحذوف يدل على الأمر كقوله

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 360 ح 8 ، الوسائل ج 14 ص 391 ح 2.

(2) الكافي ج 5 ص 360 ح 9 ، الوسائل ج 14 ص 391 ح 3.

(3) الكافي ج 5 ص 360 ح 7 ، التهذيب ج 7 ص 334 ح 3 ، الوسائل ج 14 ص 391 ح 5.

(4) سورة النساء ـ آية 24.


«فلينكح» وليس بلازم ، لجواز تقديره بما يناسب الحل بغير الأمر كقوله «فنكاحه مما ملكت أيمانكم» ، ونحو ذلك.

ويؤيده أن الآية مسوقة لبيان الحل والحرمة ، لا لبيان الأمر ، وإخراج الشرط مخرج الأغلب خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بدليل بعينه ، كتقييد تحريم الربائب بكونهن في الحجور. انتهى ، وهو جيد (1).

أقول : لا يخفى أن الاستدلال بالأخبار من الطرفين لا يخلو من الإشكال ، أما أخبار القول بالتحريم فلأنه مبني على أن البأس المذكور فيها بمعنى التحريم ومفهومه أعم من ذلك ، ولذا قيل إن نفي البأس لا يخلو من البأس.

وأما أخبار القول بالجواز فلأنه مبني على أن لفظ «ينبغي» و «لا ينبغي» بمعنى الأولى وخلاف الأولي ، وقد عرفت في غير موضع مما تقدم أنه وإن كان كذلك بحسب العرف الآن بين الناس ، إلا أن المستفاد من الأخبار المتكاثرة استعماله

__________________

(1) كذا نقله في المسالك ، وقال سبطه في شرح النافع في الجواب عما ذكره العلامة : وفيه نظر ، فان المفهوم الواقع في الآية مفهوم شرط ، وهو حجة عند المحققين ومنهم العلامة (قدس‌سره) ودلالة قوله تعالى «ذلِكَ» يعنى نكاح الإماء «لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ» بمفهوم الحصر ، وهو لا يقصر عن المنطوق.

وقوله ـ وإذا عارضه المنطوق خرج عن الدلالة العامة ـ وهو غير جيد لعدم تحقق التعارض فان الخاص مقدم ، والمفروض أنه حجة.

وقوله ـ ان المعلق الأمر بالنكاح اما إيجابا أو استحبابا ـ غير واضع ، إذا المتبادر من سوق الآية كون الأمر هنا للإباحة ، كما في قوله «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» لأنها مسوقة لبيان الحل والحرمة ، لا لبيان الواجب من الوطي والمندوب ، مع أن تقدير الأمر غير متعين لجواز أن يكون المقدر «فنكاحه من ما ملكت أيمانكم» ونحو ذلك.

وقوله ـ ان التعليق في الآية والخبر خرج مخرج الأغلب ـ غير ظاهر ، وقد ظهر من ذلك أن القول بالتحريم لا يخلو عن قوة. انتهى ، وهو جيد. (منه ـ قدس‌سره ـ).


في الواجب والمحرم ، وقد ذكرنا أنه من الألفاظ المتشابهة لا يحمل على أحد المعنيين إلا بالقرينة ، ولا قرينة هنا توجب للحمل على أحدهما.

نعم الاستدلال بظاهر الآية على التحريم بالتقريب الذي تقدم في الجواب عن كلام العلامة جيد ، وسيأتي في أخبار المسألة الآتية إن شاء الله ما يدل عليه أيضا وإلى القول بالتحريم في المسألة يميل كلام السيد السند في شرح النافع وقبله جده في المسالك.

والذي يدل على القول الثالث ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن الحلبي (1) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «تزوج الحرة على الأمة ، ولا تزوج الأمة على الحرة ومن تزوج أمة على حرة فنكاحه باطل» ، وفي معناه أخبار كثيرة يأتي ذكرها ـ إن شاء الله ـ قريبا.

وأنت خبير بما في هذا الاستدلال من تطرق الاختلال ، فإن غاية ما تدل عليه الروايات المذكورة هو وقوع نكاح الأمة لمن لم يكن عنده حرة في الجملة ، فإن قوله «تزوج الحرة علي الأمة» ظاهر في سبق نكاح الأمة ، وأنه صحيح في الجملة ونحن نقول به ، فإنه يجوز نكاح الأمة عند فقد الطول وخوف العنت ، فلعل نكاح الأمة قبل إدخال الحرة عليها كان لذلك ، ولا دلالة فيها على جواز نكاح الأمة مطلقا كما هو المطلوب بالاستدلال.

وبالجملة فإنها تدل على وقوع نكاح الأمة ، لا على جوازه مطلقا ، ووقوعه ممكن في تلك الصورة المذكورة.

وتمام تحقيق الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور : (أحدها) قد تقدمت الإشارة إلى أن القائلين بالتحريم منهم من أبطل العقد من أصله ، ومنهم من قال بصحته وإن أثم بالمخالفة ، وكأن الأولين نظروا إلى أن النهي توجه إلى الوطي

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 359 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 344 ح 39 ، الوسائل ج 14 ص 392 ح 1.


فيتبعه العقد فيبطل حينئذ ، والآخرين إلى أن المنع راجع إلى العقد وحده فلا يبطل ، لأن النهي في غير العبادات لا يوجب البطلان.

ويمكن الجواب عنه بأن النهي هنا متوجه إلى ركن العقد وهي الزوجة ، كما لو كانت إحدى المحرمات أو إحدى الأختين أو الخمس في الجمع ، ومرجعه إلى ما تقدم في غير موضع من التفصيل في النهي في المعاملات من أنه إن توجه إلى ذات المعقود عليه بمعنى عدم صلاحيته للدخول تحت العقد فالعقد باطل ، وإن توجه إليه باعتبار أمر خارج كالبيع وقت النداء فهو صحيح وإن أثم وبه يظهر رجحان القول بالبطلان.

وممن قال بالصحة هنا شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) حيث قال : ولا يجوز لمن وجد طولا لنكاح الحرائر أن ينكح الإماء ، لأن الله اشترط في إباحة نكاحهن عدم الطول لنكاح الحرائر من النساء.

ثم بعد كلام طويل قال : ومن تزوج أمة وهو يجد طولا لنكاح الحرائر خالف الله عزوجل وشرطه عليه ، إلا أنه لا ينفسخ بذلك نكاحه ، ونحوه كلام ابن البراج (1).

وعلى هذا يتخرج في المسألة قول رابع ، وهو أن يخص القول ببطلان العقد مع التحريم ، وهذا القول بصحته وإن حرم.

و (ثانيها) إطلاق كلام الأصحاب في هذا الباب يقتضي أنه لا فرق في المنع من العقد وتحريمه على القول الأول بين النكاح الدائم والمنقطع.

وبذلك صرح في المسالك جازما به فقال : لا فرق في المنع من العقد على

__________________

(1) حيث قال : أباح الله تعالى من تضمنته الآية بشرط عدم الطول لنكاح الحرائر الا أن يخشى العنت ، الى أن قال : فان تزوج بأمة وهو يجد الطول الى نكاح الحرة فقد خالف كتاب الله تعالى وما شرط عليه ، ولا يبطل عقده على الأمة ، بل يكون العقد ماضيا. انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).


القول به بين الدائم والمنقطع لشمول النكاح المشروط لهما ، وأما التحليل فإن جعلناه عقدا امتنع أيضا ، وإن جعلناه إباحة فلا ، كما لا يمتنع وطؤها بملك اليمين. انتهى.

واعترضه سبطه السيد السند (قدس‌سره) في شرح النافع ، فقال الأجود قصر الحكم على الدائم ، لأنه المتبادر من اللفظ عند الإطلاق.

ويدل عليه أيضا ما رواه الكليني في الصحيح عن محمد بن إسماعيل (1) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام هل للرجل أن يتمتع من المملوكة بإذن أهلها وله امرأة حرة؟ قال : نعم ، إذا رضيت الحرة ، قلت : فإن أذنت الحرة يتمتع منها؟ قال : نعم».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (2) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن امرأة أحلت لزوجها جاريتها فقال : ذلك له ، قلت : فإن خاف أن تكون تمزح ، قال : وكيف له بما في قلبها ، فإن علم بأنها تمزح فلا» ، انتهى.

أقول : أما ما ادعاه من أن المتبادر من لفظ التزويج في أخبار المسألة هو الدائم فهو جيد ، ولكن احتمال شمول المنقطع لإطلاق الزوجة على المتعة قريب وعليه بنى الأصحاب فيما ذكروه من العموم.

وأما الاستدلال بالروايتين المذكورتين فهو جيد ، والتقريب فيهما أنه بوجود الزوجة عنده فقد أحد الشرطين المجوزين للنكاح ، لأن الطول حاصل بوجود الزوجة فلا يجوز النكاح ، مع أنه قد جوز له نكاح المتعة هنا باذن

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 463 ح 3 بأدنى تفاوت ، التهذيب ج 7 ص 257 ح 37 ، الوسائل ج 14 ص 464 ح 1.

(2) الكافي ج 5 ص 469 ح 8 مع اختلاف يسير ، التهذيب ج 7 ص 242 ح 10 ، الفقيه ج 3 ص 289 ح 20 ، الوسائل ج 14 ص 534 ح 1 و 3.


الزوجة ، وكذا نكاح المحللة ، إلا أنه قد روى العياشي في تفسيره عن البزنطي (1) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام يتمتع بالأمة بإذن أهلها؟ قال : نعم إن الله تعالى يقول : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ)».

وقال محمد بن صدقة البصري (2) «سألته عن المتعة ، أليس هذا بمنزلة الإماء؟ قال : نعم أما تقرء قول الله «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ ـ إلى قوله ـ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ» فكما لا يسع الرجل أن يتزوج الأمة وهو يستطيع أن يتزوج بالحرة ، فكذلك لا يسع الرجل أن يتمتع بالأمة وهو يستطيع أن يتزوج بالحرة».

فإن عجز الخبر ظاهر الدلالة على ما ذكره الأصحاب من عدم الفرق في التحريم بين الدائم والمنقطع ، وينبغي أن يحمل صدره على جواز التمتع مع وجود الشرطين المجوزين ، ولا يحضرني الآن وجه شاف في الجمع بين هذه الأخبار.

و (ثالثها) قالوا : لو وجد الشرطان فتزوج الأمة ثم تجدد زوالهما ولو بفقد أحدهما لم يقدح في صحة النكاح السابق وإن لم يدخل ، للحكم بصحته ولزومه حين إيقاعه فيستصحب ، حتى لو فرض طلاقها رجعيا جاز له رجعتها حينئذ ، لأن الرجعية بمنزلة الزوجة. انتهى.

وفيه إشكال لما عرفت في غير موضع مما تقدم في أمثال هذه التخريجات والتعليلات ومخالفة النصوص لها في غير موضع ، والحكم هنا عار عن النص بنفي أو إثبات.

و (رابعها) قال في المسالك : لو أمكن زوال العنت بوطى‌ء ملك اليمين مع

__________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 234 ح 89 ، التهذيب ج 7 ص 257 ح 35 ، الوسائل ج 14 ص 464 ح 3.

(2) تفسير العياشي ج 1 ص 234 ح 90 ، الوسائل ج 14 ص 496 ح 1.


فقده الطول للحرة لم يجز له وطئ الأمة لفقد الشرط المخل لجواز نكاح الأمة لأن قدرته على رفع العنت بوطى‌ء ملك اليمين يدفع خوف العنت مطلقا كقدرته على دفعه بالتقوى.

وربما احتمل الجواز ، لأنه لا يستطيع طول الحرة وهو الشرط ، ويضعف بأن خوف العنت شرط أيضا وهو منتف. انتهى ، وهو جيد.

و (خامسها) لا ريب أنه بوجود الحرة عنده يكون واجدا للطول فتحرم عليه الأمة بناء على القول بالتحريم ، أما لو لم يحصل القدرة على وطئها ـ إما لكونها رتقا أو ضعيفة عن الوطي بمرض أو صغر ، أو أنها غائبة عنه ، بحيث يخشى العنت قبل الوصول إليها ـ فقد صرحوا بأنه يجوز له نكاح الأمة ، لفقد شرط الطول ودفعا للحرج ، فإنه لا فرق بين عدمها بالكلية وبين وجودها على إحدى هذه الكيفيات المذكورة ، نعم لو أمكن مع وجودها زوال العنت بالاستمتاع بها على بعض الوجوه غير الوطي امتنع نكاح الأمة.

و (سادسها) لو وجدت الحرة وقدر على ما طلبته من المهر ، لكن طلبت أزيد من مهر مثلها بحيث تجحف بالزيادة ففي وجوب بذله وتحريم نكاح الأمة وجهان : من تحقق القدرة المقتضية لوجود الطول ، ومن لزوم الضرر والمشقة بدفع الزيادة وحمل القدرة على المتعارف.

قال في المسالك : وهو قوي مع استلزام بذل الزيادة الإسراف عادة بحسب حاله أو الضرر وإلا فالأول أقوى ، ولهذا نظائر كثيرة سبق ، منها وجود الماء للطهارة بأزيد من ثمن مثله ، ووجود الساتر للعورة ، ووجود الراحلة في الحج وغيرها. انتهى.

و (سابعها) الظاهر أنه لا إشكال في قبول قوله بخوف العنت وفي فقد الطول إذا لم يعلم كذبه بوجه من الوجوه ، ولو كان في يده مال لم يعلم كونه ملكا له وادعى أنه لغيره قبل قوله ، وكذا لو ادعى أن عليه دينا يمنع الطول ولذلك


نظائر كثيرة قد دلت النصوص فيها على قبول قول مدعيها ، مثل قبول قول المرأة في الحيض والطهارة منه ، وعدم الزوج ، ووفاته ، وطلاقه لها ، وأداء الزكاة ، وعدم وجوبها ونحو ذلك.

(ثامنها) قالوا : مما يتفرع على المنع عدم جواز الزيادة على الواحدة حيث يسوغ النكاح ، ويجوز له الواحدة لحصول شرطي الجواز لانتفاء العنت بالواحدة ، هذا إذا تمكن من الوصول إليها بحيث يزول العنت المعتبر في المنع ، فلو كانت بعيدة عنه لا يمكن الوصول إليها بدون العنت جازت الثانية كما تجوز على القول الآخر مطلقا : أما الثالثة فتحرم مطلقا اتفاقا ، والله العالم.

المسألة الخامسة : في الجمع بين الأمة والحرة في النكاح وذلك إما بإدخال الأمة على الحرة أو العكس أو جمعهما دفعة.

فهنا صور ثلاث الأولى : إدخال الأمة على الحرة ، فقيل : بأنه لا يجوز نكاح الأمة على الحرة إلا بإذنها ، فإن بادر كان العقد على الأمة باطلا ، ذهب إليه ابن الجنيد وابن أبي عقيل وابن إدريس والمحقق في كتابيه للنهي عنه ، وتدل عليه حسنة الحلبي ورواية حذيفة بن منصور الآتيتان إن شاء الله.

وقيل : إنه يكون للحرة الخيار في إمضائه وفسخه من غير أن يبطل في نفسه لأن الحق في ذلك لها فلا يقصر عن عقد الفضولي ، واختاره في المسالك ، قال : وقد تقدم ما يصلح تحقيقا لهذا القول في العقد على بنت الأخ والأخت بعد العمة والخالة ، لعموم الأمر بالوفاء بالعقود ، خرج منه ما إذا ردته إجماعا فيبقى الباقي ، وهذا هو الأقوى (1).

__________________

(1) ثم انه قال في المسالك : ويمكن أن يريد المصنف بالبطلان هذا المعنى لانه كثيرا ما يطلقه في مقابل عدم اللزوم ، وعليه حمل العلامة عبارات الأصحاب بذلك ـ انتهى.

أقول : لا ريب في بعد هذا المعنى ، لان الروايات التي استندوا إليها لا تقبله ، كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى فإنها صريحة في البطلان. (منه ـ قدس‌سره ـ).


أقول : قد تقدم منا في الموضع المشار إليه ما يدل على وهنه وضعفه وأنه لا يخرج عن القياس على الفضولي مع ما في الفضولي من الكلام ، وقيل : يتخير الحرة بين فسخ عقد الأمة وعقد نفسها ، وهو منقول عن الشيخين وأتباعهما ، ونقل عنهما الاستدلال عليه برواية سماعة الآتية.

أقول : يجب أن يعلم أن الكلام في هذه المسألة متفرع على ما تقدم في سابق هذه المسألة من الخلاف ، وقد عرفت أن الأصح من الأقوال المتقدمة في تلك المسألة هو التحريم ، وحينئذ فيجب الحكم ببطلان العقد كما هو القول الأول ، رضيت الحرة أم لم ترض ، وتقييدهم التحريم بعدم رضاء الحرة ـ المؤذن بأنها لو رضيت صح النكاح ـ خلاف إطلاق الأخبار الواردة في المقام.

ومنها ما رواه في الكافي الصحيح أو الحسن عن الحلبي (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «تزوج الحرة على الأمة ، ولا تزوج الأمة على الحرة ، ومن تزوج أمة على حرة فنكاحه باطل».

وعن أبي بصير (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن نكاح الأمة ، فقال : تتزوج الحرة على الأمة ، ولا تتزوج الأمة على الحرة ، ونكاح الأمة على الحرة باطل».

وفي الصحيح إلى الحسن بن زياد (3) ، وهو الصيقل (4) كما في سند الخبر في التهذيب قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : تزوج الحرة على الأمة ، ولا تزوج الأمة على الحرة ، ولا النصرانية ولا اليهودية على المسلمة ، فمن فعل ذلك فنكاحه باطل».

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 395 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 344 ح 39 الوسائل ج 14 س 392 ح 1.

(2) الكافي ج 5 ص 359 ح 3 ، الوسائل ج 14 ص 392 ح 2.

(3) التهذيب ج 7 ص 344 ح 41 ، الوسائل ج 14 ص 393 ح 5.

(4) وهذا الخبر عده السيد في شرح النافع في الصحيح وهو غفلة ، فإن الحسن ابن زياد هنا مجهول. (منه ـ قدس‌سره ـ).


وما رواه في الفقيه في الصحيح عن محمد بن قيس (1) عن أبي جعفر عليه‌السلام «أنه قال. قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام أن تنكح الحرة على الأمة ، ولا تنكح الأمة على الحرة» الحديث.

وما رواه في الفقيه مرسلا (2) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : تزوج الأمة على الأمة ، ولا تزوج الأمة على الحرة ، وتزوج الحرة على الأمة ، فإن تزوجت الحرة على الأمة ، فللحرة الثلثان ، وللأمة الثلث ، ليلتان وليلة».

وما رواه في التهذيب عن محمد بن الفضيل (3) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «لا يجوز نكاح الأمة على الحرة ، ويجوز نكاح الحرة على الأمة» الحديث.

وعن حذيقة بن منصور (4) «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام «عن رجل تزوج أمة على حرة لم يستأذنها قال يفرق بينهما ، قلت : عليه أدب؟ قال : نعم اثنى عشر سوطا ونصف ثمن حد الزاني وهو صاغر».

وروى الصدوق في كتاب الخصال (5) بسنده عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن موسى بن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : «سئل أبي عليه‌السلام عما حرم الله عزوجل من الفروج في القرآن ، وما حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سنته ، فقال ، الذي حرم الله عزوجل أربعة وثلاثون وجها سبعة عشر في القرآن وسبعة عشر في السنة ـ إلى أن قال ـ : وأما التي في السنة فالمواقعة في شهر رمضان نهارا ـ إلى أن قال ـ وتزويج الأمة على الحرة ، وتزويج الأمة لمن يقدر على تزويج الحرة».

وفي الخبر دلالة على ما اخترناه في المسألة السابقة من تحريم تزويج الأمة مع فقد الشرطين المجوزين.

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 269 ح 63 ، الوسائل ج 14 ص 393 ح 6.

(2) الفقيه ج 3 ص 270 ح 69 ، الوسائل ج 14 ص 393 ح 7.

(3) التهذيب ج 7 ص 344 ح 40 ، الوسائل ج 14 ص 393 ح 4.

(4) التهذيب ج 7 ص 344 ح 42 ، الوسائل ج 14 ص 394 ح 2.

(5) الخصال ص 532 ح 10 ط النجف الأشرف.


ومن ذلك جملة من الأخبار المنقولة في كتاب البحار (1) عن الحسين بن سعيد في كتابه ، وهي ما رواه عن صفوان عن العلاء عن محمد عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «سألته عن الرجل يتزوج المملوكة على الحرة؟ قال : لا ، وإذا كانت تحته امرأة مملوكة فتزوج عليها حرة ، قسم للحرة مثلي ما يقسم للأمة ، قال : محمد وسألته عن الرجل يتزوج المملوكة؟ فقال : لا بأس إذا اضطر إليها».

وعن النضر بن سويد عن عاصم بن حميد عن محمد بن قيس (2) عن أبي جعفر عليه‌السلام «في الرجل نكح أمة فوجد طولا إلى حرة ، وكره أن يطلق الأمة ، قال : ينكح الحرة على الأمة إن كانت الأمة أو ليهما عنده ، وليس له أن ينكح الأمة على الحرة إذا كانت الحرة أو ليهما عنده» الحديث.

وعن النضر عن عبد الله بن سنان (3) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا ينكح الرجل الأمة على الحرة ، وإن شاء نكح الحرة على الأمة ، ثم يقسم للحرة مثلي ما يقسم للأمة».

وعن القاسم عن أبان عن عبد الرحمن (4) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته هل للرجل أن يتزوج النصرانية على المسلمة والأمة على الحرة؟ قال : لا يتزوج واحدة منهما على المسلمة ، ويتزوج المسلمة على الأمة والنصرانية ، وللمسلمة الثلثان ، وللأمة والنصرانية الثلث».

أقول : هذا ما حضرني من أخبار المسألة ، وهي متفقة الدلالة واضحة المقالة في التحريم الذي تضمنه القول الأول ، وبه يظهر أنه هو الذي عليه المعول ، وإطلاقها شامل لما رضيت الحرة أو لم ترض ، إذ لا إشعار في شي‌ء منها فضلا عن الظهور بالصحة مع رضاها إلا ما ربما يشعر به خبر حذيفة بن منصور ، وهو ـ مع كونه في كلام الراوي ـ إنما يدل بالمفهوم الضعيف الذي لا دليل على حجيته.

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) البحار ج 103 ص 342 ح 25 و 26 وص 343 ح 27 و 30 و ص 344 ح 32.


ومن هذه الأخبار المتكاثرة كما عرفت يظهر قوة القول بالتحريم في المسألة السابقة ، وهو الذي اخترناه وأشرنا سابقا إلى مجي‌ء ما يدل عليه من الأخبار ، وهي هذه الأخبار ، مضافا إلى ظاهر الآية المتقدمة ثمة ، لأنه لو كان تزويج الأمة جائزا ـ مع اختلال أحد الشرطين كما ذهب إليه من ذهب من أصحابنا ـ لما خرجت هذه الأخبار مع كثرتها على البطلان في بعض ، والنهي في آخر ، ولا يجوز في ثالث ، وأن فاعله يستحق للأدب والجلد ثمن حد الزاني في رابع ، ونحو ذلك.

وبالجملة فإن دلالة هذه الأخبار على القول المذكور أظهر من أن يعتريها القصور ، بل هي في الظهور كالنور على الطور ، والأصحاب لم يذكروا من هذه الروايات إلا حسنة الحلبي ورواية الحسن بن زياد.

وأجاب عنهما في المختلف بأن معنى أن العقد باطل يعني آئل إلى البطلان ، بتقدير اعتراض الحرة وعدم رضاها ، وهو بعيد غاية البعد ، مع أنه لا ضرورة تلجئ إليه ، إذ لا معارض للروايتين المذكورتين ، ولهذا أنه قال في المختلف في آخر كلامه : إن القول بالبطلان غير بعيد من الصواب.

وأما القول الثاني : فقد أشرنا آنفا إلى أنه لا يخرج عن القياس بناء على حمله على الفضولي ، مع أنه لا دليل على اعتبار رضاء الحرة في صحة العقد ، فيصير قياسا مع الفارق ، وكيف كان فالأخبار المذكورة واضحة في رده وإبطاله.

وأما الثالث : فاستدلوا عليه برواية سماعة (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل تزوج أمة على حرة فقال : إن شاءت الحرة أن تقيم مع الأمة أقامت ، وإن شاءت ذهبت إلى أهلها».

قال في المسالك بعد نقل الخبر دليلا للقول المذكور : وهو يدل على جواز فسخها عقد نفسها ، ويسهل بعده القول بجواز فسخها عقد الأمة ، لكن الخبر ضعيف السند. انتهى.

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 359 ح 4 بعكس ما في التهذيب ، التهذيب ، ج 7 ص 345 ح 43 ، الوسائل ج 14 ص 394 ح 3.


أقول : كأنه أراد بهذا الكلام تتميم الاستدلال بالخبر لقصور الخبر المذكور ، حيث إن أقصى ما يدل عليه تخيرها بين فسخ عقد نفسها وعدمه ، وأما فسخ عقد الأمة فلا يدل عليه بوجه ، مع أن الذي نقله سبطه السيد السند في شرح النافع عن الشيخين وابن حمزة وابن البراج أنهم أفتوا بمضمون هذه الرواية ، ومضمونها كما عرفت إنما هو تخيرها بين فسخ عقد نفسها وعدمه.

وظاهر كلام العلامة في المختلف (1) أن مذهب الشيخين وأتباعهما إنما هو تخير الحرة بين فسخ عقد الأمة وإمضائه ، وهو القول الثاني الذي قدمناه.

وبالجملة فإن كلامهم هنا مختلف (2) في نقل مذهب الشيخ وأتباعه في هذه المسألة ، وعلى أي تقدير فإن رواية سماعة المذكورة لا يبلغ قوة في معارضة ما قدمناه من الأخبار الدالة على بطلان عقد الأمة في الصورة المذكورة ، فلا بد من ارتكاب التأويل فيها وإلا فطرحها.

الثانية من الصور الثلاث الذي تقدم ذكرها : ما لو تزوج الحرة على الأمة والأخبار المتقدمة صريحة في الجواز ، وهو مما لا خلاف فيه.

بقي الكلام في علم الحرة بذلك وعدمه ، والذي صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم) هنا أنه إن كانت الحرة عالمة بزوجية الأمة فلا اعتراض لها بعد رضاها أولا بذلك ، لأن دخولها والحال هذه يتضمن رضاها ، وإن لم تعلم كان لها فسخ عقد نفسها لا فسخ عقد الأمة.

أما عدم تسلطها على فسخ عقد الأمة فللزومه قبل دخولها فلا سبيل لها إلي

__________________

(1) حيث قال : إذا تزوج الأمة على الحرة ولم تعلم الحرة فالأقرب أن نكاح الأمة لا يقع باطلا من أصله ، بل إذا فسخت الحرة نكاحها بطل والأصح ، وبه قال الشيخان وابن براج وابن حمزة الى آخره ، فان الضمير في نكاحها إلى الأمة كما لا يخفى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(2) فشيخنا في المسالك نقله كما قدمنا ذكره في صدر البحث ، وسبطه قد نقله كما أشرنا اليه ، وصاحب المختلف قد نقله بوجه ثالث ، كما ذكرناه في الحاشية السابقة. (منه ـ قدس‌سره ـ).


إبطاله كذا قيل ، والأجود أن يقال إنه لا دليل على تسلطها عليه مع ثبوت لزومه أولا.

أما تسلطها على فسخ عقد نفسها فلما رواه الشيخ في الصحيح عن يحيى الأزرق عن الصادق عليه‌السلام (1) قال : «سألته عن رجل كانت له امرأة وليدة ، فتزوج حرة ولم يعلمها بأن له امرأة وليدة ، فقال إن شاءت الحرة أقامت ، وإن شاءت لم تقم ، قلت : قد أخذت المهر فتذهب به؟ قال : نعم بما استحل من فرجها».

أقول : وروى هذه الرواية الحسين بن سعيد في كتابه أيضا عن علي بن نعمان عن يحيى الأزرق (2) «قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام مثله.

وروى فيه أيضا على ما نقله شيخنا المجلسي في كتاب البحار عن الحسن بن محبوب عن يحيى اللحام عن سماعة (3) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل يتزوج امرأة حرة وله امرأة أمة ، لم تعلم الحرة أن له امرأة أمة ، فقال : إن شاءت الحرة أن تقيم مع الأمة أقامت ، وإن شاءت ذهبت إلى أهلها ، قلت له : فإن لم يرض بذهابها إله عليها سبيل؟ قال : لا سبيل له عليها إذا لم ترض بالمقام ، قلت : فذهابها إلى أهلها هو طلاقها؟ قال : نعم إذا خرجت من منزله اعتدت ثلاثة قروء ، أو ثلاثة أشهر ، ثم تتزوج إن شاءت».

وذهب الشيخ في التبيان إلي تخيرها بين فسخ عقد نفسها وفسخ عقد الأمة وفيه ما عرفت من أن عقد الأمة بسبقه لازم لا يتسلط على فسخه إلا بدليل ، ولا دليل ، والضرر يندفع عنها بفسخ عقد نفسها.

الثالثة من الصور المشار إليها : ما لو جمعهما في عقد واحد من غير علم الحرة ولا تقدم رضاها ، فقيل : إن عقد الحرة يقع صحيحا لازما ، وعقد الأمة يقع باطلا ، وهو ظاهر المحقق في كتابيه ، وهو اختيار جملة من الأصحاب ، منهم السيد

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 345 ح 44 ، الوسائل ج 14 ص 394 ح 1.

(2) النوادر ص 67 ، البحار ج 103 ص 343 ح 29.

(3) البحار ج 103 ص 343 ح 28 ، مستدرك الوسائل ج 2 ص 582 ب 43 ح 2.


السند في شرح النافع.

ويدل عليه ما رواه الشيخ والصدوق عن أبي عبيدة الحذاء (1) في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سئل عن رجل تزوج امرأة حرة وأمتين مملوكتين في عقدة واحدة ، فقال : أما الحرة فنكاحها جائز فإن كان قد سمى لها مهرا فهو لها ، وأما المملوكتان فإن نكاحهما في عقدة واحدة مع الحرة باطل ، يفرق بينه وبينهما». وهي نص في المراد.

وقيل : إن عقد الحرة كما تقدم ، وأما الأمة فإنه يقف على رضاء الحرة ، فإن أجازته لزم وإن فسخته انفسخ ، وهو منقول عن الشيخين وأتباعهما ، قال في المسالك : وهو الأقوى.

أقول : لا أعرف لقوته وجها ، مع عدم دليل في الأخبار عليه ، بل دلالتها على خلافه كما عرفت من الصحيحة المذكورة ، حيث صرحت بالبطلان ، وأنه يفرق بينه وبينهما.

وقيل : تتخير الحرة بين فسخ عقد نفسها وعقد الأمة ، إختاره العلامة في المختلف محتجا بأن العقد واحد ، وهو متزلزل ولا أولوية.

ورد بأنها إذا لم ترض بعقد الأمة فسر فتحققت الأولوية مع أنها حاصلة بالرواية الصحيحة ، وبوجوب الوفاء بالعقود خرج منه عقد الأمة لحق الحرة فيبقى الباقي ، والضرر مندفع عنها بتخيرها والحكم ببطلان عقد الأمة. انتهى.

أقول : لا ضرورة إلى هذا التطويل في التعليل ، ويكفي في بطلان ما ذكره ما ذكرناه من وجود النص الصحيح الصريح في لزوم عقد الحرة وبطلان عقد الأمة.

ونقل الشيخ المجلسي في كتاب البحار عن كتاب نوادر الراوندي أنه روى

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 266 ح 49 ، التهذيب ج 7 ص 345 ح 45 ، الوسائل ج 14 ص 395 ح 1.


فيه بإسناده (1) عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال علي عليه‌السلام إذا تزوج الرحل حرة وأمة في عقد واحد فنكاحهما باطل».

وهي ظاهرة في بطلان نكاحهما معا ، ولا أعرف بها قائلا ، وهي تضعف عن معارضة الصحيحة المذكورة المتقدمة فهي مرجوعة إلى قائلها عليه‌السلام.

واعلم أن الجمع في عقد واحد يتحقق بأن يزوج الرجل ابنته وأمته لآخر في عقد واحد ، أو يزوج ابنته وأمة غيره بالوكالة لذلك أو بالعكس ، أو يزوجهما بالوكالة فيهما معا ، والله العالم.

__________________

(1) البحار ج 103 ص 344 ح 34 ، نوادر الراوندي ص 38 ، مستدرك الوسائل ج 2 ص 583 ب 44 ح 1.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *