ج5 - نجاسة البول والغائط والمني والدم
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الباب الخامس
وما يتبعها من ذكر
النجاسات وأحكامها وأحكام الأواني والجلود ، فالبحث في هذا الباب يقع في مقاصد
ثلاثة :
المقصد الأول
في النجاسات وتحقيق الكلام فيها في فصول عشرة :
(الأول والثاني) ـ البول والغائط ، المشهور ـ بل ادعى
عليه في المعتبر والمنتهى إجماع العلماء كافة عدا شذوذ من العامة ـ هو نجاسة البول
والغائط مما لا يؤكل لحمه إذا كان ذا نفس سائلة ، والمراد بالنفس السائلة الدم
الذي يجتمع في العروق ويخرج بقوة ودفع إذا قطع شيء منها ، وهو أحد معاني النفس
كما ذكره أهل اللغة ، ومقابله ما لا نفس له وهو الذي يخرج لا كذلك بل رشحا كدم
السمك.
أقول : اما ما يدل على نجاسة البول والعذرة من الإنسان
فأخبار مستفيضة : منها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) قال : «سألته
عن البول يصيب الثوب؟ فقال اغسله مرتين». وصحيحة ابن ابي يعفور (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن البول
يصيب الثوب؟ فقال اغسله مرتين». وحسنة الحسين
__________________
(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب النجاسات.
ابن ابي العلاء (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن البول
يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء. قال وسألته عن الثوب يصيبه
البول؟ قال اغسله مرتين. الحديث». وحسنة الحلبي (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن بول الصبي؟
قال تصب عليه الماء وان كان قد أكل فاغسله غسلا. الحديث». وحسنة أبي إسحاق النحوي
عن الصادق (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين». ورواية الحسن بن زياد (4) قال : «سئل
أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يبول فيصيب بعض فخذه نكتة من بوله فيصلي ثم يذكر بعد انه لم يغسله؟ قال يغسله
ويعيد صلاته». وصحيحة محمد بن مسلم (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الثوب
يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة». وأكثر
هذه الأخبار وان كان مطلقا إلا ان المتبادر منه انما هو بول الإنسان واما الغائط
فيدل على نجاسته اخبار الاستنجاء وقد تقدمت في بابه (6)
وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله
(7) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يصلي وفي ثوبه عذرة من انسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال ان كان لم يعلم فلا
يعيد». ومفهومه وجوب الإعادة مع العلم وهو دليل النجاسة ، وهذا المفهوم حجة عند
المحققين وقد مر ما يدل عليه من الأخبار في مقدمات الكتاب (8) وفي الصحيح عن
موسى بن القاسم عن علي بن محمد (9) قال : «سألته عن الفأرة والدجاجة
والحمام وأشباهها تطأ العذرة ثم تطأ الثوب أيغسل؟ قال ان كان استبان من أثره شيء
__________________
(1 و 3) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب
النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 19 و 42 من أبواب النجاسات.
(5) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب النجاسات.
(6) ج 2 ص 26.
(7) رواه في الوسائل في الباب 40 من أبواب النجاسات.
(8) ج 1 ص 58.
(9) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات.
فاغسله وإلا فلا بأس». وصحيحة علي بن
جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال
لا إلا ان يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء. الحديث» وفي باب البئر في رواية ابن
مسكان عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن العذرة تقع في البئر؟ فقال ينزح منها عشرة دلاء». وفي رواية علي بن أبي حمزة عن
الصادق (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
عن العذرة تقع في البئر؟ قال ينزح منها عشرة دلاء فان ذابت فأربعون أو خمسون». وفي
صحيح زرارة (4) قال : «قلت
لأبي جعفر (عليهالسلام) رجل وطأ على
عذرة فساخت رجله فيها أينقض ذلك وضوءه وهل يجب عليه غسلها؟ قال لا يغسلها إلا ان يقذرها
ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلي». ورواية حفص بن ابي عيسى عن الصادق (عليهالسلام) (5) «في من وطأ
عذرة بخفه فمسحه حتى لم ير فيه شيئا؟ فقال : لا بأس». ورواية موسى بن أكيل عن بعض
أصحابه عن الباقر (عليهالسلام) (6) «في شاة شربت
بولا ثم ذبحت؟ قال يغسل ما في جوفها ثم لا بأس به وكذلك إذا اعتلفت بالعذرة ما لم
تكن جلالة. الحديث». حسنة محمد بن مسلم (7) قال : «كنت مع ابي جعفر (عليهالسلام) إذ مر على
عذرة يابسة فوطأ عليها فأصابت ثوبه فقلت جعلت فداك قد وطأت على عذرة فأصابت ثوبك؟
قال أليس هي يابسة؟ فقلت بلى. فقال لا بأس ان الأرض يطهر بعضها بعضا». ورواية
الحلبي في الكافي عن الصادق (عليهالسلام) (8) «في الرجل يطأ
في العذرة أو البول أيعيد الوضوء؟ قال لا ولكن يغسل ما أصابه».
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الماء المطلق.
(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 20 من الماء المطلق. وهما
متفقان في المتن.
(4 و 8) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب نواقض الوضوء.
(8 و 7) المروية في الوسائل في الباب 32 من أبواب النجاسات.
(6) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب الأطعمة المحرمة.
واما ما يدل على بول غيره وغائطه مما لا يؤكل لحمه ـ زيادة
على الإجماع المتقدم وعموم جملة من الأخبار المتقدمة ـ ما رواه الشيخ في الحسن عن
عبد الله بن سنان (1) قال : «قال
أبو عبد الله (عليهالسلام) اغسل ثوبك من
أبوال ما لا يؤكل لحمه». وصحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله المتقدمة ، ورواية أبي
يزيد القسمي عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) (2) «انه سأله عن
جلود الدارش التي يتخذ منها الحفاف؟ فقال لا تصل فيها فإنها تدبغ بخرء الكلاب». وما
رواه سماعة عن الصادق (عليهالسلام) (3) قال : «ان
أصاب الثوب شيء من بول السنور فلا تصلح الصلاة فيه حتى تغسله». ويؤيد ذلك ما رواه
زرارة في الحسن (4) «انهما قالا لا
تغسل ثوبك من بول شيء يؤكل لحمه». وما رواه في قرب الاسناد عن أبي البختري عن
جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (5) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) قال لا بأس
ببول ما أكل لحمه». وفي الموثق عن عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) (6) قال : «كل ما
أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه». وما رواه علي بن جعفر في المسائل عن أخيه (عليهالسلام) (7) قال : «سألته
عن الدقيق يقع فيه خرء الفأر هل يصلح أكله إذا عجن مع الدقيق؟ قال إذا لم تعرفه
فلا بأس وان عرفته فاطرحه». أقول : قوله (عليهالسلام) «إذا لم
تعرفه» اي لم تعلم دخوله في الدقيق وانما تظن ظنا فلا ب. س وان علمته وجب عليك
طرحه وإخراجه ، ويوضح ما ذكرناه ما رواه في دعائم الإسلام (8) قال : «سئل
الصادق (عليهالسلام) عن خرء الفأر
يكون في الدقيق؟ قال ان علم به اخرج منه وان لم يعلم به فلا بأس».
__________________
(1 و 3) رواه في الوسائل في الباب 8 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 71 من أبواب النجاسات.
(4 و 5 و 6) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(7) البحار ج 4 ص 155.
(8) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 4 من أبواب النجاسات.
وروى العلامة في المختلف نقلا من كتاب
عمار بن موسى الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «خرء
الخطاف لا بأس به هو مما يؤكل لحمه ولكن كره أكله لأنه استجار بك وأوى إلى منزلك
وكل طير يستجير بك فاجره».
قال في المدارك بعد الاستدلال بحسنة عبد الله بن سنان
المذكورة على نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه : «وجه الدلالة ان الأمر حقيقة في
الوجوب واضافة الجمع تفيد العموم ، ومتى ثبت وجوب الغسل في الثوب وجب في غيره إذ
لا قائل بالفصل ، ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي له بل سائر الأعيان
النجسة انما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل الثوب أو البدن من ملاقاتها مضافا
الى الإجماع المنقول في أكثر الموارد كما ستقف عليه في تضاعيف هذه المباحث» انتهى
وهو جيد. واما قوله في الذخيرة بعد نقل هذا الكلام «وفيه تأمل» فالظاهر انه بناء
على ما تكرر في كلامه من عدم دلالة الأمر في الاخبار على الوجوب وقد أوضحنا ضعفه
في غير مقام. ثم قال في المدارك : «أما الأرواث فلم أقف فيها على نص يقتضي نجاستها
من غير المأكول على وجه العموم ولعل الإجماع في موضع لم يتحقق فيه المخالف كاف في
ذلك» انتهى. وهو جيد. والعجب ان المحقق في المعتبر بعد ان ادعى الإجماع المشار
اليه آنفا نقل خلاف الشيخ في المبسوط في رجيع الطير كما سيأتي.
وبالجملة فالمفهوم من كلام الأكثر البناء على قاعدتين
كليتين : الاولى ـ ان كل ما يؤكل لحمه فبوله وروثه طاهر ، والثانية ـ ان كل ما لا
يؤكل لحمه فبوله وروثه نجس ، والخلاف قد وقع في الكليتين ، وها انا اذكر مواضع
الخلاف فأقول :
(الأول) ـ رجيع الطير وهذا من الكلية الثانية ، فذهب
الصدوق الى طهارته مطلقا حيث قال في الفقيه : «ولا بأس بخرء ما طار وبوله» وهو
ظاهر في إطلاق القول بالطهارة ، ونقله الأصحاب أيضا عن ابن ابي عقيل والجعفي ، وهو
قول الشيخ في
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
المبسوط إلا انه استثنى منه الخشاف
قال : بول الطيور وذرقها كله طاهر إلا الخشاف. وقال في الخلاف : ما أكل فذرقه طاهر
وما لم يؤكل فذرقه نجس. وبه قال جمهور الأصحاب.
ويدل على القول بالطهارة موثقة أبي بصير عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «كل شيء
يطير فلا بأس بخرئه وبوله». ونقل شيخنا المجلسي في البحار قال : وجدت بخط الشيخ
محمد بن علي الجبعي نقلا من جامع البزنطي عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «خرء كل
شيء يطير وبوله لا بأس به».
ولم أقف على خبر يدل على المشهور من التفصيل في الطير
بين المأكول وغير المأكول إلا ان المحقق في المعتبر استدل على ذلك بما دل على
نجاسة العذرة مما لا يؤكل لحمه وأضاف الى ذلك دعوى ترادف الخرء والعذرة ، قال بعد
الإشارة إلى قول الشيخ في المبسوط : ولعل الشيخ استند إلى رواية أبي بصير ، ثم
ساقها ثم احتج لما ذهب اليه من مساواة الطير لغيره في التفصيل المذكور بان ما دل
على نجاسة العذرة مما لا يؤكل يتناول موضع النزاع لان الخرء والعذرة مترادفان ، ثم
أجاب عن رواية أبي بصير بأنها وان كانت حسنة لكن العامل بها من الأصحاب قليل.
واعترضه في هذا المقام المحققان السيد في المدارك والشيخ
حسن في المعالم ، قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : «وهو غير جيد لما بينا من
انتفاء ما يدل على العموم ، ولأن العذرة ليست مرادفة للخرء بل الظاهر اختصاصها
بفضلة الإنسان كما دل عليه العرف ونص عليه أهل اللغة ، قال الهروي العذرة أصلها
فناء الدار وسميت عذرة الإنسان بها لأنها كانت تلقى في الأفنية فكني عنها باسم
الفناء» انتهى.
أقول : فيه (أولا) ـ انه يمكن ان يكون صاحب المعتبر أشار
بما دل على نجاسة العذرة مما لا يؤكل لحمه الى ما ورد عنهم (عليهمالسلام) من النهي عن
الوضوء والشرب
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب النجاسات.
(2) ج 18 ص 26.
من الماء الذي دخلته الحمامة والدجاجة
وفي رجلها العذرة ، وأمرهم (عليهمالسلام) بغسل الثوب
الذي وطأته الدجاجة وفي رجلها العذرة ، والأمر بغسل الرجل التي وطئت بها العذرة ،
وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك وأمثال ذلك مما دل على نجاسة العذرة بقول مطلق
فإنه بإطلاقه شامل لعذرة الإنسان وغيره.
و (ثانيا) ـ انه قد ورد في الروايات إطلاق العذرة على
فضلة غير الإنسان صريحا كما تقدم في رواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله ، وروى
الشيخ بسنده الى محمد بن مضارب عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «لا بأس
ببيع العذرة».
وعن سماعة بن مهران في الموثق (2) قال : «سأل
رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر
فقال أني رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال حرام بيعها وثمنها ، وقال لا بأس ببيع
العذرة». ولا ريب ان المراد بالعذرة في الحديث الأول وآخر الثاني منهما انما هو
عذرة غير الإنسان لتحريم بيع عذرة الإنسان اتفاقا.
و (ثالثا) ـ ان صاحب القاموس والصحاح فسرا الخرء بالعذرة
وهو يؤذن بالمرادفة ، ويؤيده أيضا ما صرحوا به من تفسير الخرء بالغائط الذي هو في
ظاهر كلامهم مخصوص بفضلة الإنسان ، قال في المجمع : الخرء الغائط. ومثله في
المصباح المنير قال : خرئ بالهمزة يخرأ من باب تعب إذا تغوط. مع انهم قالوا في
الغائط انه مخصوص بفضلة الإنسان لما ذكروه في سبب التسمية من ان أصل الغائط المكان
المنخفض من الأرض وكانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوا في تلك الأمكنة فكني بها عن
الحدث.
وبذلك يظهر ان كلام المعتبر لا يخلو من قوة وان ما أورده
عليه غير وارد. إلا انه يمكن ان يقال ان لفظ العذرة وان كان عاما بحسب اللغة
والعرف الشرعي لكن لا يبعد ادعاء انه في الروايات حال الإطلاق وعدم القرينة مخصوص
بعذرة الإنسان أو انه يعمها وغيرها لكن لا على وجه يشمل خرء الطير ، لما أشرنا
إليه في غير موضع
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 69 من أبواب ما يكتسب به.
وصرح به جملة من المحققين من ان
الإطلاق انما ينصرف الى الافراد المتكثرة المتعارفة
وبما ذكرنا ايضا يسقط كلام صاحب المعالم واعتراضه كلام
المحقق حيث انه حذا حذو صاحب المدارك في الإيراد عليه وأغرب في كلامه بما اسداه
اليه ، قال (قدسسره) بعد نقل كلام
المعتبر : «ولي في كلامه ههنا تأمل لأن الإجماع الذي ادعاه على نجاسة البول
والغائط من مطلق الحيوان غير المأكول ان كان على عمومه فهو الحجة في عدم التفرقة
بين الطير وغيره. وان كان مخصوصا بما عدا الطير فأين الأدلة العامة على نجاسة
العذرة مما لا يؤكل؟ والحال انا لم نقف في هذا الباب إلا على حسنة عبد الله بن
سنان ولا ذكر أحد من الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم في احتجاجهم لهذا الحكم سواها
، وهي ـ كما ترى ـ واردة في البول ولم يذكرها هو في بحثه للمسألة بل اقتصر على نقل
الإجماع كما حكيناه عنه فلا ندري لفظ العذرة أين وقع معلقا عليه الحكم ليضطر الى
بيان مرادفة الخرء له ويجعلها دليلا على التسوية التي صار إليها؟ ما هذا إلا عجيب
من مثل المحقق» انتهى.
وفيه ما عرفت من الأخبار التي قدمناها دالة على نجاسة
العذرة الشاملة بإطلاقها لعذرة الإنسان وغيره مع ان صريح صحيحة عبد الرحمن بن ابي
عبد الله إطلاق العذرة على فضلة غير الإنسان ، ومما يدل ايضا على إطلاق العذرة على
فضلة غير الإنسان رواية محمد بن مضارب المتقدمة ، فإنكاره وجود العذرة في الأخبار
معلقا عليها الحكم لا وجه له بعد ما عرفت. واحتمال حمل كلامه على منع العموم في
تلك الاخبار مع بعده عن سياق كلامه مدفوع بما صرح به هو وغيره من ان ترك الاستفصال
مع قيام الاحتمال يدل على عموم المقال ، مع ان المحقق ذهب الى ان المفرد المحلى
باللام في المقامات الخطابية حيث لا عهد يكون للعموم ويقوم مقام الألفاظ العامة.
وهو في المعالم قد ساعد على ذلك وقال به وتبعه فيه ، والحال ان ما نحن فيه كذلك
حيث لا عهد فيكون للعموم ، وحينئذ فلا عجب من المحقق فيما نسبه اليه انما العجب
منه (قدسسره) في تشنيعه
عليه. نعم يمكن
تطرق المناقشة من الوجه الذي أشرنا
إليه من حيث بعد شمول هذا العموم لخرء الطير.
واستدل في المختلف للقول المشهور بحسنة عبد الله بن سنان
المتقدمة وقوله (عليهالسلام) فيها : «اغسل
ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه». وهي ـ كما ترى ـ انما تضمنت حكم البول مع ان
البول من الطير غير معلوم. وما ذكره بعضهم في تقريب الاستدلال بها ـ من انها لما
تضمنت حكم البول ودلت على نجاسته وجب القول بذلك في الخرء لعدم القائل بالفرق ـ فهو
وان اشتهر مثله في كلامهم من الضعف عندي بمكان لا يحتاج الى بيان كما ستعرفه ان
شاء الله تعالى في مسألة أبوال الدواب الثلاث.
ثم ان القائلين بالقول المشهور اختلفوا في الجواب عن
رواية أبي بصير التي أسلفنا ذكر دلالتها على خلاف القول المشهور ، فأجاب عنها في
المختلف بأنها مخصوصة بالخشاف إجماعا فتختص بما شاركه في العلة وهو عدم كونه
مأكولا.
واعترضه في المدارك بان فساده واضح (أما أولا) فلمنع
الإجماع على تخصيص الخشاف فإنه (قدسسره) قد حكى في
صدر المسألة عن ابن بابويه وابن ابي عقيل القول بالطهارة مطلقا ونقل استثناء الخشاف
عن الشيخ (قدسسره) في المبسوط
خاصة. و (اما ثانيا) ـ فلخروج الخشاف من هذا العموم بدليل لا يقتضي كون العلة فيه
انه غير مأكول اللحم بل هذه هي العلة المستنبطة التي قد علم من مذهب الإمامية
إنكار العمل بها والتشنيع على من اعتبرها. انتهى. وهو جيد.
وأجيب أيضا عن الرواية المذكورة بالحمل على المأكول خاصة
جمعا بينها وبين حسنة عبد الله بن سنان المذكورة من حيث دلالتها على نجاسة أبوال
ما لا يؤكل لحمه من الطير وغيره.
وفيه (أولا) ان الحسنة المذكورة كما عرفت انما تضمنت حكم
البول خاصة والمدعى أعم من ذلك ، ونجاسة البول لا تستلزم نجاسة الذرق بوجه كما
سيظهر لك ان شاء الله تعالى في مسألة أبوال الدواب الثلاث.
و (ثانيا) انه لو فرض تضمنها لحكم الذرق لأمكن الجمع
بحمل الحسنة المذكورة على غير الطير وإبقاء عموم «كل شيء يطير» على حاله ، وترجيح
أحد الجمعين على الآخر يحتاج الى دليل ، بل الأظهر هو جعل التأويل في جانب الحسنة
المذكورة لو فرض دلالتها وإبقاء عموم تلك الكلية على حاله من حيث ترجيحه بمطابقة
الأصل والتأييد بالعمومات الدالة على الطهارة مثل قولهم (عليهمالسلام) (1) : «كل شيء
طاهر حتى تعلم انه قذر». ومن جهة أظهرية «كل شيء يطير». في العموم للطير الغير
المأكول اللحم من قوله : «ما لا يؤكل لحمه». وذلك مناط التخصيص.
و (ثالثا) تأيد رواية أبي بصير بالرواية التي نقلناها من
جامع البزنطي بنقل شيخنا المشار اليه فترجح بذلك على ما عارضها ويصير التأويل في
الجانب المرجوح.
وبذلك يظهر لك قوة القول بالطهارة في ذرق الطير مطلقا
إلا انه يبقى التردد في بوله ان فرض له بول ، والأظهر أيضا ترجيح الطهارة لما
ذكرناه في الجمع بين روايتي أبي بصير والبزنطي وبين حسنة ابن سنان من جعل التأويل
في جانب الحسنة المذكورة بالحمل على غير الطير للوجوه التي ذكرناها. وبالقول
بالطهارة هنا صرح في المدارك واختاره في المعالم إلا انه قيده بشرط ان لا يكون
الإجماع المدعى مأخوذا على جهة العموم وإلا كان هو الحجة والمخرج عن الأصل. وفيه
نظر إذ لم يقم على حجية مثل هذه الإجماعات ـ سيما في مقابلة الروايات وظهور الخلاف
في المسألة من جملة من أجلاء الأصحاب ـ دليل يعتد به.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان السيد في المدارك استدل للقول
بالطهارة هنا بما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (2) «انه سأله
__________________
(1) قد تقدم في ج 1 ص 42 التعليقة رقم (1) وص 149 التعليقة رقم
(4) ما يرجع الى المقام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 27 من قواطع الصلاة.
عن الرجل يرى في ثوبه خرء الطير أو
غيره هل يحكه وهو في صلاته؟ قال لا بأس». قال : وترك الاستفصال في مقام الاحتمال
يفيد العموم.
أقول : فيه (أولا) ـ ان هذه الرواية ليست من روايات الشيخ
كما يدل عليه كلامه لعدم وجودها في كتابيه وانما هي من روايات الصدوق في الفقيه
رواها عن علي ابن جعفر (رضياللهعنه) وطريقه إليه
في المشيخة صحيح.
و (ثانيا) ـ ان ما ذكره من تقريب الاستدلال بها ـ من ان
ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يفيد العموم ـ ليس على وجهه هنا إذ ذاك انما يتم
بالنسبة إلى الغرض المقصود من سياق الكلام ، وما ذكره يتم لو كان الغرض من سوق
الكلام بيان حكم الطير وخرئه وانه يجب الاجتناب عنه أم لا وقيل في الجواب عن ذلك «لا
بأس» من دون تفصيل فان الظاهر حينئذ هو العموم لما قرروه ، واما إذا لم يكن الغرض
متعلقا بذلك كما فيما نحن فيه فلا إذ الظاهر ان الغرض من السؤال انما هو عن حك شيء
من الثوب وانه هل ينافي الصلاة أم لا؟ وذكر خرء الطير انما وقع من قبيل التمثيل في
الجملة فإذا أجيب حينئذ بأنه لا بأس به ولم يفصل في الطير بأنه مما يؤكل لحمه أم
لا لا يدل على العموم أصلا ، وما قلناه ظاهر لمن تأمل وتدبر في أساليب الكلام ،
ويؤيده انه قال في الرواية المذكورة بعد ذلك : «وقال لا بأس ان يرفع الرجل طرفه
الى السماء وهو يصلي» ويؤكد ذلك إيراد الأصحاب الرواية المذكورة في مسألة ما يجوز
للمصلي فعله في الصلاة وما لا يجوز حيث دلت على انه يجوز للمصلي أن يحك خرء الطير
من ثوبه وهو في الصلاة.
و (ثالثا) ـ ان لفظ «غيره» في كلام السائل سواء جعل عطفا
على الطير أو الخرء عام مع ان الامام (عليهالسلام) لم يفصل فيه
فلو كان العموم على ما ذكره ملحوظا لجرى في لفظ الغير ولزم من ترك الاستفصال فيه
جواز الصلاة في النجاسة عمدا بالتقريب الذي ذكره في خرء الطير ، فلو أجيب بأنه لعل
الإجمال هنا انما كان من حيث معلومية
الحكم فلم يفصل ، قلنا ذلك في خرء
الطير ايضا من غير تفاوت.
ويعضد ما ذكرناه ما صرح به شيخنا البهائي في الحبل
المتين حيث قال : «وقد احتج بعض الأصحاب بالحديث السابع على طهارة خرء مطلق الطير
، وظني انه لا ينهض دليلا على ذلك فان نفي البأس فيه لا يتعين ان يكون عن الخرء
لاحتمال ان يكون عن حكه في الصلاة عن الثوب ويكون سؤال علي بن جعفر انما هو عن ان
حكه في أثناء الصلاة هل هو فعل كثير لا يجوز في الصلاة أم لا؟ فأجاب (عليهالسلام) بنفي البأس
عنه فيها ، ولفظة «غير» يجوز قراءتها بالنصب والجر وعلى التقديرين ففيها تأييد تام
لهذا الاحتمال إذ لو لم يحمل عليه لم يصح إطلاقه (عليهالسلام) نفي البأس
عما يراه المصلي في ثوبه من خرء الطير وغيره ، وايضا فاللام في الطير لا يتعين
كونها للجنس لجواز كونها للعهد والمراد المأكول اللحم ومع قيام الاحتمال يسقط
الاستدلال» انتهى. والظاهر ان مراده ببعض الأصحاب (رضوان الله عليهم) انما هو
السيد المذكور فإنه لم يتعرض غيره لذكر هذه الرواية في المقام. وبالجملة
فالاستدلال بهذه الرواية بعيد من مثله (قدسسره) والمتناقل في
كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) انما هو الاستدلال برواية أبي بصير خاصة.
فروع : (الأول) الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) في طهارة رجيع ما لا نفس له كالذباب ونحوه ، وفي التذكرة انما نسب
الخلاف إلى الشافعي وابي حنيفة وابي يوسف (1) ولم ينسبه الى أحد من علمائنا وهو
مؤذن بعدم الخلاف فيه عندنا واستدل عليه في المنتهى بأصل الطهارة ، وبان التحرز
عنه متعذر وفيه حرج فيكون منفيا
__________________
(1) لم نجد المسألة فيما وقفنا عليه من المصادر بهذا العنوان
نعم في بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج 1 ص 62 تعليل نجاسة الأرواث كلها بان معنى
النجاسة موجود فيها وهو الاستقذار في الطبائع السليمة لاستحالتها الى نتن وخبث
رائحة مع إمكان التحرز عنه. وفي المحلى لابن حزم ج 1 ص 191 تعليل وجوب غسل خرء
الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش فيما إذا لم يكن حرج في ذلك بأنه بول ورجيع.
واحتج في التذكرة بأن دم ما لا نفس له
وميتته طاهر فرجيعه ايضا كذلك.
أقول : اما الاستدلال بأصالة الطهارة فجيد ، واما تعذر
التحرز عنه فكذلك فيما لا يمكن التحرز عنه ، واما ما ذكره في التذكرة فهو قياس محض
لا يجري في مذهبنا
وقال المحقق في المعتبر : «واما رجيع ما لا نفس له
كالذباب والخنافس ففيه تردد أشبهه انه طاهر لان ميتته ودمه ولعابه طاهر فصارت
فضلاته كعصارة النبات» وظاهر كلامه يؤذن باحتمال تناول الأدلة على نجاسة فضلة
الحيوان غير المأكول له ، ولهذا قال في المدارك بعد ذكر عبارة الشرائع المشتملة
على التردد ايضا : «ربما كان منشأ التردد في البول عموم الأمر بغسله من غير
المأكول وان ما لا نفس له طاهر الميتة والدم فصارت فضلاته كعصارة النبات».
أقول : والظاهر عندي ضعف هذا التردد فان المتبادر من
مأكول اللحم وغير مأكول اللحم في اخبار المسألة بل مطلقا انما هو ذو النفس السائلة
فلا يدخل مثل الذباب والخنافس والنمل ونحوها. واما تعليله الطهارة بما ذكره ففيه
ما عرفت مما أوردناه على كلام التذكرة. والعجب من جمود صاحب المدارك عليه وتعليله
الطهارة بذلك. وبالجملة فأصالة الطهارة أقوى متمسك في المقام حتى يقوم ما يوجب
الخروج عنها ، والاستناد الى عموم الأمر بغسله من غير المأكول مدفوع بما عرفت.
(الثاني) ـ قد عرفت ان المشهور في كلام الأصحاب (رضوان
الله عليهم) هو نجاسة رجيع الطير الغير المأكول اللحم ومنه الخشاف ، والشيخ مع
قوله بطهارة رجيع الطير مطلقا في المبسوط استثنى الخشاف من ذلك ، ويأتي على قول من
ذهب الى الطهارة مطلقا طهارته. والذي يدل على المشهور رواية داود الرقي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن بول
الخشاشيف يصيب ثوبي فاطلبه فلا أجده؟ قال اغسل ثوبك». وهذه الرواية هي مستند الشيخ
في استثناء الخشاف في المبسوط.
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب النجاسات.
قال في المدارك بعد نقله عن الشيخ انه احتج بهذه الرواية
: «والجواب انها مع ضعف سندها معارضة بما رواه غياث عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (1) قال : «لا بأس
بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف». وهذه الرواية أوضح سندا وأظهر دلالة من
الرواية السابقة ، وأجاب عنها في التهذيب بالشذوذ والحمل على التقية ، وهو مشكل»
انتهى.
أقول : أنت خبير بما فيه فاني لا اعرف لهذه الأوضحية
سندا ولا الأظهرية دلالة وجها بل الروايتان متساويتان سندا ومتنا كما لا يخفى ،
ويمكن ترجيح الرواية الثانية بما رواه شيخنا المجلسي في البحار (2) عن الراوندي
في كتاب النوادر انه روى بسنده فيه عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «سئل
علي بن ابي طالب (عليهالسلام) عن الصلاة في
الثوب الذي فيه أبوال الخفافيش ودماء البراغيث فقال لا بأس». وحينئذ فيمكن القول
بالطهارة للروايتين المذكورتين ، ويؤيدهما عموم موثقة أبي بصير مع رواية البزنطي
المتقدمتين لدلالتهما على ان كل شيء يطير فلا بأس بخرئه وبوله ، وقد عرفت طريق
الجمع بينهما وبين حسنة ابن سنان بحملها على غير الطير.
بقي الكلام فيما تحمل عليه رواية داود المذكورة ، وجمع
من الأصحاب حملوها على الاستحباب ، ولا يحضرني الآن مذهب العامة (3) إلا ان الشيخ
ـ كما عرفت ـ حمل رواية غياث على التقية فإن ثبت كونهم كلا أو بعضا أكثريا على ذلك
وجب طرح هاتين
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب النجاسات.
(2) ج 18 ص 26.
(3) في بدائع الصنائع للكاشاني الحنفي ج 1 ص 62 «بول الخشاف
وخرؤه ليس بنجس» وفي الفروع لابن مفلح الحنبلي «لا يعفى عن يسير بول الخفاش» وفي
المحلى لابن حزم ج 1 ص 191 فصل في خرء الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش بين ما
إذا كان في التحفظ منه وفي غسله حرج فلم يوجب غسله وما إذا لم يكن فيه حرج فأوجبه
لانه بول ورجيع.
الروايتين للتقية وتخصيص موثقة أبي
بصير مع الرواية الثانية برواية داود فيستثنى الخشاف من عموم الطير كما ذهب اليه
الشيخ. إلا ان ما ذكره من الحمل على التقية غير معلوم عندي وبه يظهر ان الأظهر هو
الطهارة ، والاحتياط بالعمل بالمشهور مما لا ينبغي إهماله. ومورد الأخبار المذكورة
وان كان هو البول مع عدم معلوميته يقينا من الخشاف ولا غيره من الطيور إلا ان
الذرق يكون حكمه أيضا كذلك بل هو اولى بالقول بالطهارة لدخوله تحت عموم موثقة أبي
بصير مع الرواية الأخرى وعدم المعارض سوى الإجماع المدعى في المسألة.
وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المعالم حيث قال ـ بعد
ذكر رواية داود ورميها بالضعف ثم رواية غياث وردها بذلك ـ ما صورته : «فان تحقق
للخشاف بول وعملنا بالحديث الحسن تعين اطراح هذه لدلالة حسنة عبد الله بن سنان على
نجاسة البول من كل حيوان غير مأكول اللحم فتتناول بعمومها الخشاف وتقصر هذه عن
تخصيصها وكذا ان ثبت عموم محل الإجماع ، وإلا فالأصل يساعد على العمل بهذه وان
ضعفت ويكون ذكر البول فيها محمولا على التجوز» انتهى.
أقول : الإشارة بهذه في كلامه راجع الى رواية غياث وهي
الأخيرة من الروايتين وفيه انه على تقدير ثبوت البول للخشاف فان المنافاة لا تختص
برواية غياث حتى انها تقصر عن تخصيص الحسنة المذكورة بل موثقة أبي بصير المذكورة
في كلامه سابقا وهو ان عمل بالحسنة فالموثقة ايضا مثلها في قوة العمل ، وبالجملة
فإنه لا بد له من الجمع بين الحسنة المذكورة والموثقة المشار إليها لتصادمهما في
البول ، ووجه الجمع هو ما قدمناه من حمل الحسنة المذكورة على غير الطيور وإبقاء
الموثقة على عمومها ، وحينئذ فيبقى التعارض بين رواية غياث ورواية داود مع تأيد
رواية غياث بعموم موثقة أبي بصير والرواية التي معها وخصوص رواية الراوندي فيترجح
العمل بها ، واما على تقدير عدم ثبوت البول والحمل على الرجيع تجوزا فالأمر كما
ذكره لما عرفت آنفا.
(الثالث) ـ لا فرق في غير المأكول الذي تقدم الكلام في
خرئه وبوله بين ان يكون تحريمه أصالة كالسباع والإنسان ونحوهما وبين ان يكون لعارض
كالجلال ما لم يستبرأ وموطوء الإنسان وشارب لبن الخنزير حتى يشتد عليه لحمه وعظمه
، ويظهر من العلامة في التذكرة انه إجماعي ، قال فيها : رجيع الجلال من كل الحيوان
وموطوء الإنسان نجس لأنه حينئذ غير مأكول اللحم ولا خلاف فيه. وفي المختلف ادعى
الإجماع على نجاسة ذرق الدجاج الجلال ، والأصل في ذلك إطلاق الأخبار المتقدمة.
(الموضع الثاني) ـ بول الرضيع وهذا من الكلية الثانية
أيضا ، والمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا فرق في نجاسة بول الإنسان
بين الصغير منه والكبير وعن المرتضى دعوى الإجماع عليه ، وفي المختلف عن ابن
الجنيد انه قال : بول البالغ وغير البالغ من الناس نجس إلا ان يكون غير البالغ
صبيا ذكرا فان بوله ولبنه ما لم يأكل اللحم ليس بنجس.
ويدل على القول المشهور مضافا الى عموم الروايات
المتقدمة في صدر الباب خصوص صحيحة الحلبي أو حسنته (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن بول الصبي؟
قال تصب عليه الماء فان كان قد أكل فاغسله غسلا.».
واحتج في المختلف لابن الجنيد بما رواه السكوني عن جعفر
عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) (2) انه قال لبن
الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل ان تطعم لان لبنها يخرج من مثانة أمها ، ولبن
الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل ان يطعم لان لبن الغلام يخرج من العضدين
والمنكبين». وقد أجيب عن الرواية المذكورة (أولا) بالطعن في السند. و (ثانيا)
بالقول بموجبها فان انتفاء الغسل لا ينافي الحكم بالصب ونحن انما نقول بالثاني لا
الأول. وفيه نظر سيظهر لك ان شاء الله تعالى.
أقول : وهذه الرواية قد نقلها مولانا الرضا (عليهالسلام) في الفقه
الرضوي
__________________
(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب النجاسات.
بعد ان افتى فيه بمضمون صحيحة الحلبي
حيث قال (عليهالسلام) (1) : «وان أصابك
بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة ومن ماء راكد مرتين ثم أعصره ، وان كان بول
الغلام الرضيع فصب عليه الماء صبا وان كان قد أكل الطعام فاغسله ، والغلام
والجارية سواء ، وقد روي عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) انه قال لبن
الجارية يغسل منه الثوب قبل ان تطعم وبولها لان لبن الجارية يخرج من مثانة أمها ،
ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل ان يطعم لان لبن الغلام يخرج من
المنكبين والعضدين». انتهى. وبهذه العبارة من أولها إلى آخرها عبر الصدوق في
الفقيه بتغيير ما. وأنت خبير بان كلامه في الكتاب المذكور وفتواه بما ذكره أولا
ظاهر في خلاف الرواية المذكورة ولم يتعرض (عليهالسلام) لبيان الوجه
فيها ، ولعل الوجه فيه هو كون هذه الرواية من مرويات العامة عنه (عليهالسلام) فاقتصر على
نقلها وعدم ردها تقية وإيهاما لجواز القول بها فإنه (عليهالسلام) كثيرا ما
يروى في هذا الكتاب أمثال ذلك كما نبه عليه ايضا شيخنا المولى محمد تقي المجلسي ،
وقد تقدم ذكر ذلك في الكتاب ، والظاهر من الرواية المذكورة هو طهارة البول مثل
اللبن لان ظاهر الجمع بينهما في عدم الغسل ذلك ، إذ الحكم بعدم الغسل انما تعلق
أولا باللبن الذي لا خلاف في طهارته عندهم ثم عطف البول عليه فهو يقتضي كونه كذلك
، وتأويلهم الرواية بأن انتفاء الغسل لا يستلزم نفي الصب انما يتم لو لم يذكر في
هذه العبارة سوى البول ونفي الغسل انما وقع في الرواية عن اللبن والبول انما عطف
عليه بعد ذلك ، والقول بالتأويل المذكور لا يصح إلا بإدخال اللبن في هذا الحكم وهم
لا يقولون به ، وبالجملة فإن التأويل المذكور لا يقبله سياق الخبر.
ثم انه مما يدل بظاهره على ما دل عليه الخبر المشار اليه
ما رواه شيخنا المجلسي في البحار (2) عن كتاب النوادر للقطب الراوندي بإسناده
فيه عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال
علي (عليهالسلام) بال الحسن
والحسين على ثوب
__________________
(1) ص 6.
(2) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 2 من أبواب النجاسات.
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قبل ان يطعما
فلم يغسل بولهما من ثوبه». والتأويل بكونه لم يغسله وان صب عليه الماء وان احتمل
لكن الظاهر بعده عن السياق ، ولو كان كذلك لكان الظاهر ان يقول (عليهالسلام) «بل صب عليه
الماء» أو نحو ذلك ، إلا انه قد روى في البحار ايضا (1) عن كتاب
الملهوف على قتلي الطفوف للسيد رضي الدين بن طاوس بسنده عن أم الفضل زوجة العباس «انها
جاءت بالحسين (عليهالسلام) الى رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) فبال على
ثوبه فقرضته فبكى فقال مهلا يا أم الفضل فهذا ثوبي يغسل وقد أوجعت ابني». والظاهر
ان المراد بالغسل الصب.
وكيف كان فالعمل على أدلة القول المشهور لارجحيتها بوضوح
الصحة فيها والظهور مع اعتضادها بعمل الطائفة قديما وحديثا وإرجاع ما عارضها الى
قائله حسبما ورد به الأمر عنهم (عليهمالسلام).
(الموضع الثالث) ـ خرء الدجاج غير الجلال وهذا من الكلية
الأولى ، فالمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) طهارته وعن الشيخين القول
بنجاسته وظاهر الشيخ في التهذيب والاستبصار الموافقة على الطهارة فينحصر الخلاف في
الشيخ المفيد
والمعتمد القول بالطهارة للأصل وقوله (عليهالسلام) في موثقة
عمار المتقدمة في صدر الباب (2) «كل ما أكل
لحمه فلا بأس بما يخرج منه». وقول الصادق (عليهالسلام) في موثقة
زرارة الواردة في الصلاة في الجلود والأوبار (3) «ان كان مما
يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة. الحديث».
وخصوص رواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (4) «انه قال لا
بأس بخرء الدجاج والحمام يصيب الثوب».
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 8 من أبواب النجاسات.
(2) ص 5.
(3) المروي في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب النجاسات.
ويدل على قول الشيخين ما رواه الشيخ
في التهذيب عن فارس (1) قال : «كتب
اليه رجل يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب لا». وردها الأصحاب بالطعن في
الراوي فإنه مذموم جدا فان فارسا المذكور هو ابن حاتم القزويني كما يظهر من كتب
الرجال ، قال الشيخ فيه انه غال ملعون ، وقال العلامة في الخلاصة أنه فسد مذهبه
وقتله بعض أصحاب أبي محمد العسكري (عليهالسلام) وله كتب كلها
تخليط ونقل عن الفضل بن شاذان انه ذكر ان من الكذابين المشهورين الفاجر فارس بن
حاتم القزويني. وحينئذ فيجب إسقاط روايته ، ومن العجب هنا ان العلامة في المختلف
عد روايته في الحسن والحال فيه ما عرفت ، هذا مع ان المكاتب فيها ايضا غير معلوم.
وأصحابنا (رضوان الله عليهم) لم يوردوا دليلا للقول
المشهور سوى رواية وهب بن وهب وردوها بضعف السند ايضا مع ان الموثقتين المذكورتين
ظاهرتا الدلالة وان كان بطريق العموم على المدعى ، قال المحقق في المعتبر بعد
الطعن في الروايتين المذكورتين : «وبتقدير سقوط الروايتين يكون المرجع الى الأصل
وهو الطهارة ما لم يكن جلالا ، ولو قيل الدجاج لا يتوقى النجاسة فرجيعه مستحيل
عنها فيكون نجسا ، قلنا : بتقدير ان يكون ذلك محضا يكون التنجيس ثابتا اما إذا كان
يمزج علفه فإنه يستحيل اما عنهما أو عن أحدهما فلا تتحقق الاستحالة عن النجاسة إذ
لو حكم بغلبة النجاسة لسرى التحريم الى لحمها ، ولما حصل الإجماع على حلها مع
الإرسال بطل الحكم بغلبة النجاسة على رجيعها» انتهى. أقول : ما ذكره هنا ـ من انه
متى كان رجيعه مستحيلا عن عين النجاسة فإنه نجس ـ أحد القولين في المسألة وهو
مذهبه في كتاب الأطعمة من الشرائع على تردد فيه ، مع انه قد صرح هنا في نجاسة الدم
بان الدم يطهر باستحالته قيحا ولبنا ولحما ، والمشهور هو الطهارة كما سيأتي تحقيقه
في الباب ان شاء الله تعالى.
(الموضع الرابع) ـ في أبوال الدواب الثلاث الخيل والبغال
والحمير وأرواثها
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب النجاسات.
فالمشهور بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) القول بالطهارة على كراهية ، ونقل عن ابن الجنيد والشيخ في النهاية القول
بالنجاسة فيهما ، قال الشيخ في المبسوط : ما يكره لحمه يكره بوله وروثه مثل البغال
والحمير والدواب وان كان بعضه أشد كراهة من بعض ، وفي أصحابنا من قال بول البغال
والحمير والدواب وأرواثها نجس يجب إزالة قليله وكثيره. والمستفاد من الأخبار
الصحيحة الصريحة ـ كما ستمر بك ان شاء الله تعالى ـ هو القول الثاني لكن بالنسبة
إلى الأبوال دون الأرواث. ولا يخفى على من راجع كتب الأصحاب كالمعتبر والمنتهى
ونحوهما من الكتب المبسوطة في الاستدلال ما وقع لهم في هذه المسألة من المجازفة
وعدم إعطاء المسألة حقها من التحقيق كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، وظاهر صاحب
المدارك هنا التوقف مع اعترافه بصحة الروايات الدالة على النجاسة وصراحتها وعدم
صلاحية المعارض للمعارضة رعاية لشهرة القول بالطهارة بين الأصحاب مع انه في شرحه
في غير موضع انما يدور مدار الروايات الصحيحة وان استلزم مخالفة الأصحاب كما لا
يخفى على من له انس بطريقته في ذلك الكتاب. هذا وممن اختار ما اخترناه المحقق الأردبيلي
كما ذكره في المدارك وكنى عنه بشيخنا المعاصر وبه صرح ايضا الفاضل المحقق الشيخ
جواد الكاظمي في شرحه على الدروس وشيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله
البحراني.
وها انا اذكر أدلة القول المختار عندي ثم أعطف الكلام
على نقل أدلة القول المشهور وأبين ما فيها من الوهن والقصور فأقول وبالله سبحانه
الاستعانة لبلوغ المأمول :
من الأخبار الدالة على النجاسة ما رواه الشيخ في الصحيح
عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل يمسه
بعض أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال يغسل بول الحمار والفرس والبغل فأما الشاة
وكل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله». وفي الصحيح عن الحلبي (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن أبوال
الخيل والبغال؟ قال اغسل ما أصابك منه». وفي الحسن عن محمد بن مسلم
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن أبوال الدواب والبغال والحمير؟ فقال اغسله فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله
فان شككت فانضحه». وفي الصحيح عن الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «لا بأس
بروث الحمير واغسل أبوالها». ورواية عبد الأعلى بن أعين (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن أبوال
الحمير والبغال؟ قال اغسل ثوبك. قال قلت فأرواثها؟ قال هو أكبر من ذلك». ورواية
أبي مريم (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما تقول في
أبوال الدواب وأرواثها؟ قال اما أبوالها فاغسل ما أصابك واما أرواثها فهي أكثر من
ذلك». وموثقة سماعة (5) قال : «سألته
عن بول السنور والكلب والحمار والفرس. قال كأبوال الإنسان». ورواية عبد الرحمن بن
ابي عبد الله البصري (6) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يصيبه بعض أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال : يغسل بول الفرس والبغل والحمار وينضح
بول البعير والشاة ، وكل شيء يؤكل لحمه فلا بأس ببوله». وصحيحة علي بن جعفر
المروية في قرب الاسناد عن أخيه موسى (عليهالسلام) (7) قال : «سألته
عن الدابة تبول فيصيب بولها المسجد أو حائطه أيصلى فيه قبل ان يغسل؟ قال إذا جف
فلا بأس». وصحيحته الأخرى عنه (عليهالسلام) (8) قال : «سألته
عن الثوب يوضع في مربط الدابة على بولها أو روثها؟ قال ان علق به شيء فليغسله وان
اصابه شيء من الروث أو الصفرة التي تكون معه فلا يغسله من صفرته». وروايته
الثالثة في كتابه (9) قال : «سألته
عن الثوب يقع في مربط الدابة على بولها وروثها كيف يصنع؟ قال ان علق به شيء
فليغسله وان كان جافا فلا بأس». وما رواه الشيخ
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من أبواب النجاسات.
(2 و 3 و 4 و 6 و 7 و 8 و 9) المروية في الوسائل في الباب 9 من
أبواب النجاسات.
(5) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب النجاسات.
عن ابي بصير عنه (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟ فقال ان تغير الماء فلا تتوضأ منه وان لم تغيره
أبوالها فتوضأ منه ، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه». وصحيحة محمد بن مسلم (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الماء
تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب؟ قال إذا كان الماء قدر كر لم
ينجسه شيء». وصحيحته الأخرى عنه (عليهالسلام) (3) قال : «قلت له
الغدير فيه ماء مجتمع تبول فيه الدواب. الحديث المتقدم» وزاد في آخره : «والكر
ستمائة رطل». ورواية أبي بصير (4) قال : «سألته عن كر من ماء مررت به
وانا في سفر قد بال فيه حمار أو بغل أو إنسان ، قال لا تتوضأ منه ولا تشرب».
هذا ما حضرني من الروايات الدالة على المدعى ، والأصحاب
لم يذكروا دليلا للقول بالنجاسة إلا رواية واحدة كما في المعتبر حيث اقتصر على
حسنة محمد بن مسلم ثم أولها بالحمل على الاستحباب ، وفي المدارك اقتصر على الثلاث
الأول ، وفيه ما أشرنا إليه آنفا ، وربما زاد بعضهم كصاحب المعالم والفاضل
الخراساني في الذخيرة ، واما روايات المياه فإنه لم يلم بها أحد بالكلية في هذا
المقام مع انهم يستدلون بها على نجاسة القليل بالملاقاة والكثير بالتغيير في باب
المياه ويذهلون عن حكمهم هنا بالطهارة.
واما أدلة القول المشهور فها أنا اذكرها واحدا واحدا
مذيلا كلا منها بالجواب الكاشف عن حقيقة الحق والصواب.
فأقول. الأول ـ الأصل استدل به في المعالم حيث قال : «ويدل
على الطهارة وجوه : أحدها ـ الأصل فإن إيجاب إزالتها تكليف والأصل يقتضي براءة
الذمة منه» انتهى.
والجواب ان الأصل يجب الخروج عنه بالدليل وقد قدمنا من
الأدلة الصحيحة الصريحة في النجاسة ما يشفي العليل ويبرد الغليل ، وسيظهر لك ضعف ما
عارضها ان شاء
__________________
(1 و 4) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب الماء المطلق.
(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 9 من الماء المطلق.
الله تعالى وبطلان ما ناقضها وبه
يضمحل هذا الأصل من البين.
الثاني ـ رواية أبي الأغر النخاس (1) «سأل أبا عبد
الله (عليهالسلام) فقال إني
أعالج الدواب فربما خرجت بالليل وقد بالت وراثت فتضرب إحداها بيدها أو برجلها
فينضح على ثوبي؟ فقال لا بأس به». ورواية المعلى بن خنيس وعبد الله بن ابي يعفور (2) قالا : «كنا
في جنازة وقدامنا حمار فبال فجاءت الريح ببوله حتى صكت وجوهنا وثيابنا فدخلنا على
ابي عبد الله (عليهالسلام) فأخبرناه
فقال ليس عليكم بأس». وقد جمعوا بين هذين الخبرين وما يوردونه من اخبار النجاسة
بحمل الأمر بالغسل على الاستحباب ، واستندوا في ذلك تبعا للشيخ إلى رواية زرارة عن
أحدهما (عليهماالسلام) (3) «في أبوال
الدواب تصيب الثوب فكرهه ، فقلت أليس لحومها حلالا؟ قال بلى ولكن ليس مما جعله
الله للأكل». قال الشيخ في التهذيب والاستبصار بعد نقل جملة من الأخبار الدالة على
النجاسة : هذه الأخبار كلها محمولة على ضرب من الكراهة والذي يدل على ذلك ما
أوردناه من ان ما يؤكل لحمه لا بأس ببوله وروثه ، وإذا كانت هذه الأشياء غير محرمة
اللحوم لم يكن أبوالها وأرواثها محرما. قال ويدل على ذلك ايضا ما رواه احمد بن
محمد ، ثم ساق رواية زرارة المذكورة ، ثم قال : فجاء هذا الخبر مفسرا لهذه الاخبار
ومصرحا بكراهية ما تضمنته ويجوز ان يكون الوجه في هذه الأحاديث أيضا التقية لأنها
موافقة لمذهب بعض العامة. انتهى.
والجواب عن ذلك (أولا) ـ بما ذكرناه في غير موضع مما
تقدم من انه لا دليل على هذه القاعدة التي عكفوا عليها ولا مستند لها وان استندوا
في غير باب إليها ، فإن حمل هذه الأوامر الواردة في الأخبار التي هي حقيقة في
الوجوب على الاستحباب مجاز لا يصار اليه إلا مع القرينة واختلاف الاخبار ليس من
قرائن المجاز ، وايضا فالاستحباب حكم شرعي كالوجوب والتحريم يحتاج الى دليل واضح.
__________________
(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
و (ثانيا) ـ انه من القواعد المقررة عندهم انهم لا
يجمعون بين الأخبار مع تعارضها إلا مع التكافؤ في الصحة وإلا فتراهم يطرحون
المرجوح ويرمون بالخبر الضعيف في مقابلة الصحيح ، فكيف خرجوا عن هذه القاعدة في
هذا المقام؟ ولهذا ان السيد السند في المدارك بعد نقل روايتي القول المشهور
المذكورتين ثم نقل الروايات الثلاث التي صدرنا بها الأخبار المتقدمة نقل عن
الأصحاب حمل هذه الروايات على الاستحباب واعترضهم بان ذلك مشكل لانتفاء ما يصلح
للمعارضة ، وكأنه لذلك تفطن جده (قدسسره) حيث انه لم
يستدل بهذين الخبرين وانما استدل بالأدلة الآتية دون هذين الخبرين و (ثالثا) ـ ان
قوله في التهذيب ـ بعد دعواه حمل أخبار النجاسة على ضرب من الكراهة : «والذي يدل
على ذلك. إلخ» ـ مردود بان ما أورده من ان ما يؤكل لحمه لا بأس ببوله عام وهذه
الأخبار خاصة وطريق الجمع المعروف في أمثال هذا المقام حمل العام على الخاص لا ما
ذكره.
و (رابعا) ـ انه من القواعد المقررة في اخبار أهل البيت (عليهمالسلام) في مقام
تعارض الأخبار الأخذ بالأعدل والأوثق وكذا الأخذ بالأشهر يعني في الرواية لا في
الفتوى كما نبه عليه جملة من المحققين ، ولا ريب انه بمقتضى هاتين القاعدتين يجب
ترجيح أخبار النجاسة كما لا يخفى على الخبير المنصف.
واما ما ذكره الشيخ (قدسسره) ـ من حمل
أخبار النجاسة على التقية لموافقتها لقول بعض العامة ـ ففيه ان الحمل على التقية
فرع المرجوحية وللخصم ان يحمل خبرية على التقية أيضا بل هو الظاهر لمرجوحيتهما
الموجبة لطرحهما فيحملان على التقية لقول جملة من العامة بالطهارة تفاديا من
طرحهما.
ولا يخفى على المنصف الخبير انه من البعيد بل الأبعد
ارتكاب التأويل في هذه الاخبار في مقابلة ذينك الخبرين الضعيفين مع ما عرفت من
كثرتها وتعددها وورودها في مقامات متعددة وأحكام متفرقة مع صحة أسانيد كثير منها
وقوة الباقي وصراحتها
ولا سيما موثقة سماعة الدالة على انها
كأبوال الإنسان ، ويقرب منها حسنة محمد بن مسلم الدالة على الأمر بغسله أولا ومع
جهل موضعه غسل الثوب كله ومع الشك بنضحه ، فهل يبلغ الأمر في الاستحباب المؤذن
بالطهارة الى هذه المرتبة؟ بل نظير ذلك انما جاء في النجاسة المحققة المعلومة كما في حسنة الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «إذا
احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن
ولم ير مكانه فلينضحه بالماء وان استيقن انه قد اصابه ولم ير مكانه فليغسل ثوبه
كله فإنه أحسن».
ومن العجيب ما ذكره في المعالم هنا حيث انه أيد حمل
الأمر بالغسل في حسنة محمد بن مسلم على الاستحباب بالأمر بالنضح فيها حيث انه
للاستحباب ، قال بعد نقل كلام الشيخ الذي قدمناه : «وحاصله ان الأخبار متعارضة في
هذا الباب وحمل روايات النجاسة على استحباب الإزالة طريق الجمع سيما بقرينة
الرواية التي رواها أخيرا وامره في حسنة محمد بن مسلم بالنضح مع الشك وهو
للاستحباب باعتراف الخصم ، مع انه وقع في الحديث مجردا عن القرينة الدالة على ذلك
فلا بعد في كون الأوامر الواقعة في صحبته مثله ، بل المستبعد من الحكيم سوق الكلام
على نمط يعطي الاتفاق في الحكم والحال على الاختلاف» انتهى.
أقول : أنت خبير بما فيه من التمحل الظاهر والتكلف الذي
لا يخفى على الخبير الماهر ، فان القرينة على الاستحباب في النضح ظاهرة وهو يقين
الطهارة وان الأصل ذلك كما هو القاعدة المسلمة التي لا يجوز الخروج عنها إلا مع
يقين النجاسة ، وانما أمر بالنضح لدفع توهم الوسوسة كما في جملة من موارد النضح مع
يقين الطهارة ، ولو تم ما ذكره للزم مثله في حسنة الحلبي التي ذكرناها وهو لا يقول
به ، وما ذكره ـ من انه يستبعد من الحكيم. إلخ ـ مسلم لو لم تكن هنا قرينة والقرينة
ظاهرة كما عرفت ، واما قوله
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات.
في تأييد الحمل على الاستحباب وانه
طريق الجمع ـ : «لا سيما بقرينة الرواية التي رواها أخيرا» مشيرا إلى رواية زرارة
ـ فستعرف ما فيه ان شاء الله تعالى.
(الثالث) ـ ان لحومها حلال وان كان مكروها وكل ما كان
كذلك فبوله وروثه طاهر ، اما الصغرى فاتفاقية نصا وفتوى ، واما الكبرى فلما رواه
زرارة في الحسن (1) «انهما قالا لا
تغسل ثوبك من بول شيء يؤكل لحمه». وما رواه عمار في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «كل ما
أكل فلا بأس بما يخرج منه».
والجواب ان المستفاد من الاخبار على وجه لا يعتريه بعد
التأمل الإنكار ان المراد بمأكول اللحم في هذا المقام انما هو بمعنى ما كان مخلوقا
للأكل لا ما كان حلالا كما توهموه وصار منشأ الشبهة لهم في هذه المسألة ، فإن هذه
الدواب الثلاث انما خلقت لأجل الركوب والزينة كما دلت عليه الآية الشريفة «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» (3) ومن أوضح
الأدلة وأصرحها فيما قلناه ما رواه العياشي في تفسيره عن زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) (4) «انه سأله عن
أبوال (الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ؟) قال فكرهها
فقال أليس لحمها حلالا؟ فقال أليس قد بين الله تعالى لكم : (وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (5) وقال : والخيل
والبغال والحمير لتركبوها وزينة. فجعل للأكل الأنعام التي نص الله تعالى في الكتاب
وجعل للركوب الخيل والبغال والحمير ليس لحومها بحرام ولكن الناس عافوها». ومن هذه
الرواية يتضح معنى الرواية التي تمسك بها الشيخ (قدسسره) واتباعه فقال
في كلامه المتقدم : «فجاء هذا الخبر مفسرا لهذه الاخبار» والمراد بالكراهة في
الروايتين انما هو النجاسة ، وبيانه انه لما سأله عن أبوال هذه الدواب فكرهها ـ يعني
نجسها وحكم بنجاستها ـ استبعد زرارة ذلك لما تقرر عنده من أنها مأكولة اللحم وان
كل ما كان مأكول اللحم فبوله وروثه طاهر فراجع في الجواب فقال :
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(3) سورة النحل ، الآية 8.
(4) البحار ج 18 ص 26.
(5) سورة النحل. الآية 5.
أليس لحومها حلالا وكل ما كان كذلك
فبوله وروثه طاهر؟ فقال له بلى ولكن ليس المراد بمأكول اللحم الذي حكم الشارع
بطهارة ما يخرج منه ما كان حلالا بل انما هو ما خلق لأجل الأكل وهذه الدواب الثلاث
انما خلقت لشيء آخر كما أوضحه (عليهالسلام) في رواية
العياشي. ومن هذا القبيل ايضا ما في صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري من
قوله (عليهالسلام) (1) : «يغسل بول
الحمار والفرس والبغل واما الشاة وكل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله». فإنه لا مجال
لحمل ما يؤكل لحمه في الرواية على ما يحل اكله بقوله مطلق وإلا لزم منه عدم جواز
أكل لحوم تلك الدواب الثلاث لأنها وقعت في مقابلة ما يؤكل لحمه بل لا بد من حمله
على ما خلق للأكل ، ومثلها روايته الأخرى (2) حيث قال فيها : «يغسل بول الحمار
والفرس والبغل وينضح بول البعير والشاة وكل شيء يؤكل لحمه فلا بأس ببوله». اما
بعطف «كل شيء» على «الشاة» يجعل قوله : «فلا بأس به» مستأنفا وفيه تعليل لذلك ،
ويصير حاصل المعنى حينئذ انه ينضح بول البعير والشاة وبول كل شيء يؤكل لحمه اي ما
خلق لأجل الأكل كهذه المعدودات ولا يجب غسله فإنه لا بأس به ، واما يجعل قوله : «وكل
شيء» مبتدأ وخبره «لا بأس به» والجملة في مقام التعليل ، وحاصله انه ينضح بول هذه
الحيوانات ولا يجب غسله فان كل شيء يؤكل لحمه فإنه لا بأس ببوله ، وكيف كان فإنه
لا يصح حمل قوله : «يؤكل لحمه» على ما يحل أكل لحمه بحيث يدخل فيه تلك الدواب
الثلاث ، والأمر بالنضح قد ورد في أمثال ذلك في كثير من الاخبار مثل المذي وعرق
الجنب وملاقاة الكلب الثوب يابسا وأمثال ذلك مما هو معلوم الطهارة يقينا.
(الرابع) ـ الإجماع المركب وهو ان كل من قال بنجاسة
الأبوال قال بنجاسة الأرواث ومن قال بطهارة الأبوال قال بطهارة الأرواث فالقول
بالنجاسة في الأبوال مع طهارة الأرواث خرق للإجماع المركب. وهذا الدليل وان لم
يصرحوا به في كلامهم ويعدوه دليلا
__________________
(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
برأسه إلا انه مستنبط منه حيث انهم
عمدوا إلى جملة من روايات المسألة المشتملة على الأمر بغسل البول وطهارة الروث
فجعلوها من أدلة القول بالطهارة بتقريب حمل الأمر بغسل البول على الاستحباب لما
اشتملت عليه الرواية من طهارة الروث ، حيث انه لا قائل بذلك إذ الخلاف في المسألة
منحصر في القولين المتقدمين ، فالقول بما دل عليه ظاهر هذه الاخبار خرق للإجماع
المركب فلا يجوز القول به ، قال المحقق الشيخ حسن بعد الاستدلال للقول بالطهارة
بالروايتين المتقدمتين (1) وما رواه
الشيخ بإسناده الصحيح عن احمد بن محمد ثم ساق صحيحة الحلبي المتقدمة (2) وهي الثانية
من روايتيه المشتملة على الأمر بغسل الأبوال ونفي البأس عن الأرواث ، ثم قال : وجه
الدلالة في هذا الحديث نفي البأس عن الروث فيكون الأمر بغسل البول للاستحباب إذ لا
قائل بالفصل فيما يظهر ، ثم عطف عليها رواية أبي مريم ورواية عبد الأعلى ، وجرى
على ذلك ايضا الفاضل الخراساني في الذخيرة.
والجواب انه لا يخفى ما في هذا الاستدلال من المجازفة في
أحكام الملك المتعال والبناء على أساس ظاهر الاضمحلال :
(أما أولا) ـ فلما حققه غير واحد من محققيهم في بطلان
هذا الإجماع الشائع في كلامهم ومن المصرحين بذلك هذان القائلان ، أما الشيخ حسن
فقد قدمنا عبارته المنقولة من المعالم في المقام الثاني من المقدمة الثالثة من
مقدمات الكتاب فارجع اليه ليظهر لك صحة ما أوردناه عليه هنا ، واما الفاضل
الخراساني فإنه قد تكلم في الإجماع وأطال في مسألة الوطء في الدبر وكونه موجبا
للغسل أم لا من الذخيرة وقدح في ثبوته الى ان قال في آخر كلامه : «والغرض التنبيه
على حقيقة الحال ومع هذا فلا أنكر حصول الظن به في بعض الأخبار ولكن في حجيته على
الإطلاق نظر فهو من القرائن التي توجب التقوية والتأكيد ولا يصلح لتأسيس الأحكام
الشرعية» انتهى. وحينئذ
__________________
(1) ص 24.
(2) ص 22.
فكيف يخالف نفسه هنا ويبني عليه
الأحكام بأي تعسف وتكلف في المقام لا يخفى بعد ما حققناه على ذوي الألباب والافهام
، وبالجملة فإن مناقضة بعضهم بعضا بل الواحد نفسه في هذه الإجماعات ولا سيما الشيخ
والمرتضى اللذين هما الأصل في الإجماع قد كفانا مؤنة القدح فيه ، وقد كان عندي
رسالة لشيخنا الشهيد الثاني قد تصدى فيها لنقل جملة من المسائل التي ناقض الشيخ
بها نفسه بدعواه الإجماع على الحكم في موضع ثم يدعيه على خلافه في موضع آخر وفيها
ما ينيف على سبعين مسألة. والحق ان هذه الإجماعات المتناقلة لا تخرج عن مجرد
الشهرة كما حققه شيخنا الشهيد في صدر الذكرى واليه أشار المحقق الشيخ حسن في كلامه
المتقدم الذي أشرنا اليه.
و (اما ثانيا) ـ فإنه أي مانع عقلي أو شرعي يمنع من
الفتوى في المسألة إذا قام الدليل على ذلك وان لم يقل به قائل من السابقين؟
واشتراط القول بوجود قائل من المتقدمين وان قال به شذوذ منا إلا ان المحققين على
خلافه ، كيف ولو اشترط ذلك لم تتسع دائرة الخلاف في المسائل والأحكام ولا انتشر
فيها النزاع والخصام الى ما عليه الآن من الاختلاف حتى انك لا تجد حكما من الأحكام
إلا وقد تعددت فيه أقوالهم إلى ثلاثة أو أربعة أو خمسة فزائدا وهي تتجدد بتجدد
العلماء لانحصار الفتوى في الشيخ في زمنه ، وقد نقل بعض الأصحاب انحصار الفتوى فيه
(قدسسره) وانه لم يبق
بعده إلا ناقل أو حاك حتى انتهت النوبة الى ابن إدريس ففتح باب الطعن على الشيخ
والمخالفة له في كثير من المسائل ثم اتسع الباب شيئا فشيئا وانتشر الخلاف الى ما
ترى ، على انه قد صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ـ وهو القدوة لكل داخل في
هذا الباب وسالك ـ بأنه متى قام الدليل للفقيه على حكم في مسألة من المسائل جاز له
الإفتاء فيها بما قام الدليل عليه عنده وان ادعى فيه الإجماع قبله فضلا عن انه لم
يقل بها قائل من المتقدمين ، قال (قدسسره) في الكتاب
المشار إليه في مسألة ما لو اوصى له بأبيه بعد الطعن في الإجماع ـ ونعم ما قال ـ ما
هذه صورته : «وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره
من المتقدمين في كثير من المسائل التي
ادعوا فيها الإجماع إذا قام الدليل على ما يقتضي خلافهم وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ،
ولكن زلة المتقدم متسامحة بين الناس دون المتأخر» انتهى. وهو جيد وجيه ، فإذا كان
الأمر كذلك فكيف استجاز هذان الفاضلان المنع من القول بما دلت عليه هذه الاخبار من
نجاسة البول وطهارة الروث لانه لم يقل به أحد ممن تقدم ، ويا لله والعجب العجيب
الظاهر للموفق المصيب ومن أخذ من الإنصاف بأدنى نصيب أن الأئمة (عليهمالسلام) يفرقون بين
البول والروث فيصرحون بنجاسة الأول ويأمرون بغسلة مع تصريحهم في كتبهم الأصولية
بان الأمر حقيقة في الوجوب ، ويحكمون (عليهمالسلام) بطهارة
الثاني وهم يتعمدون مخالفتهم ويرتكبون هذه التأويلات الغثة في كلامهم فيحكمون
بالطهارة فيهما معا ميلا إلى الأخذ بهذا الإجماع الغير الحقيق بالاتباع ولا
الاستماع ، ما هو إلا اجتهاد محض في مخالفة النصوص وجرأة تامة على أهل الخصوص ،
فاشرب بكأس هذا الرحيق وارتع في رياض هذا التحقيق المنجي بحمد الله من لجج المضيق
، فإنك لا تجده في كلام غيرنا من علمائنا الاعلام ولا حام حوله غيرنا أحد في
المقام ، والله سبحانه العالم بالأحكام.
(الفصل الثالث) ـ في المني وهو اما ان يكون من الإنسان
أو غيره من الحيوان ذي النفس السائلة أو من غير ذي النفس السائلة ان ثبت وقوع
المني منه فههنا أقسام ثلاثة :
(الأول) ـ مني الإنسان ، ولا خلاف نصا وفتوى في نجاسته ،
والأصل فيه بعد الإجماع الأخبار المستفيضة كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) «في المني يصيب
الثوب؟ قال ان عرفت مكانه فاغسله فإن خفي عليك فاغسله كله». وحسنة عبد الله بن ابي
يعفور عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن المني يصيب الثوب؟ قال ان عرفت مكانه فاغسله وان خفي عليك مكانه فاغسله كله». وموثقة
__________________
(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات.
سماعة (1) قال : «سألته
عن المني يصيب الثوب؟ قال اغسل الثوب كله إذا خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا».
وصحيحة الحلبي أو حسنته على المشهور عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «إذا
احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي اصابه. وان ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن
ولم ير مكانه فلينضحه بالماء ، وان استيقن انه قد أصابه مني فلم ير مكانه فليغسل
ثوبه كله فإنه أحسن». وحسنة محمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) (3) قال : ذكر
المني فشدده وجعله أشد من البول ، ثم قال : «ان رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في
الصلاة فعليك إعادة الصلاة ، فإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته
بعد فلا اعادة عليك ، وكذلك البول». الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة التي لا حاجة
الى التطويل بنقلها مع الاتفاق على الحكم المذكور ، وأكثر هذه الاخبار ما ذكر منها
وما لم يذكر وان وقع لفظ المني فيها مطلقا إلا ان تبادر التخصيص بإرادة مني
الإنسان أمر ظاهر منها كالعيان لا يحتاج الى بيان ، وبذلك صرح جملة من علمائنا
الأعيان.
(الثاني) ـ مني غير الإنسان مما له نفس سائلة ، وحكمه
حكم مني الإنسان عند الأصحاب من غير خلاف يعرف ، بل ادعى العلامة في التذكرة الإجماع
على نجاسته مع مني الإنسان وجعله الحجة في الحكم المذكور ، وفي المعتبر والمنتهى
ان الحجة على نجاسته عموم الأخبار المتقدمة ولم يذكرا الإجماع. ولا يخفى ما في هذا
الاحتجاج من البعد السحيق عن ساحة تلك الاخبار ، قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما
«وعندي في تحقق العموم بحيث يتناول غير الآدمي نظر ، ويمكن ان يحتج له بجعله أشد
من البول في صحيح محمد بن مسلم ، فإنه وان شهدت القرينة الحالية في مثله بإرادة
مني الإنسان إلا ان فيه اشعارا بكونه اولى بالتنجيس من البول فكل ما حكم بنجاسة
بوله ينبغي ان تكون لمنيه هذه الحالة ، وربما كان هذا القدر كافيا مع الإجماع
المنقول وعدم ظهور مخالف
__________________
(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب
النجاسات.
فيه» انتهى. أقول : من المحتمل قريبا
ـ بل الظاهر انه المراد من الخبر ـ ان التشديد انما هو بالنسبة إلى الإزالة لا إلى
النجاسة إذ النجاسة لا تقبل الشدة والضعف إلا بنوع من الاعتبار الذي لا يصلح لبناء
حكم شرعي عليه ، واما الإزالة فالأمر فيها ظاهر فإن المني لمزيد ثخانته ولزوجته
يحتاج في الغسل الى مزيد كلفة بخلاف البول الذي هو كالماء.
ويمكن الاستدلال على الطهارة بعموم موثقة عمار الساباطي
عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «كل ما
أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه». وموثقة عبد الله بن بكير (2) «ان كان مما
يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة». إلا ان
في الخروج عما ظاهرهم الإجماع عليه سيما مع أوفقيته بالاحتياط بهذين الخبرين مع ما
هما عليه من الإجمال إشكالا ، إذ المتبادر من الأول انما هو البول والروث كما فهمه
الأصحاب ولذلك نظموه في سلك الأخبار الدالة على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه ، وقد
تقدم مع جملة منها كذلك في أول الباب ، واما الثانية فالمراد منها انما هو الاشعار
والأوبار والجلود ونحوها ويدل على ذلك سياق الخبر المذكور كما لا يخفى على من
راجعه. وظاهره ان الفرق في صحة الصلاة وعدمها في المأكول وغير المأكول انما هو من
حيث كونه مأكول اللحم وغير مأكول اللحم. وهذا لا يتمشى في المني إذ الحكم بالنجاسة
وعدم جواز الصلاة فيه أو الطهارة وجواز الصلاة فيه لا يفرق فيهما بين مأكول اللحم
وعدمه كما لا يخفى ، وبالجملة فالأحوط الوقوف على ما ذكروه وان لم أقف له على دليل
شاف.
(الثالث) ـ مني غير ذي النفس السائلة ، والظاهر من كلام
جملة من الأصحاب هو القول بالطهارة ، وتردد فيه المحقق في المعتبر ونحوه العلامة
في المنتهى مع ميلهما إلى الطهارة ، والظاهر ان وجه التردد هو ما أشرنا إليه آنفا
من استدلالهما باخبار المني المتقدمة على نجاسة مني غير الإنسان من ذوات النفس
السائلة وشمولها له بعمومها ، وحينئذ فيحتمل دخول ما لا نفس له تحت عموم تلك
الأخبار إذ لا تصريح في تلك الأخبار
__________________
(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
بالتخصيص بذي النفس السائلة. ولا يخفى
ما فيه من البعد بل هو مما يقطع بعدمه ، فان شمول الأخبار المذكورة لما عدا مني
الإنسان مما يكاد يقطع بعدمه ايضا فكيف ما لا نفس له ، إذ حمل السؤالات المذكورة
في الاخبار عن اصابة الثوب والبدن على مني غير الإنسان من الحيوانات أندر نادر
واشذ شاذ ، سيما مع تصريحهم في غير موضع بأن الإطلاقات في الاخبار انما تنصرف الى
الافراد الشائعة المتكثرة الوقوع دون الفروض النادرة ، فإذا كان الأمر كذلك في مني
ما له نفس فكيف في مني ما لا نفس له؟ وبالجملة فالظاهر ان القول بالطهارة مما لا
يحوم حوله شبهة الاشكال ولا يداخله النقض والاختلال.
تنبيهات
(الأول) ـ قد عرفت اتفاق الأصحاب (رضوان الله عليهم) على
نجاسة مني الإنسان وتظافر الأخبار به إلا ان هنا جملة من الأخبار لا تخلو في ذلك
من اشكال
ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (1) قال : «سألته
عن الرجل يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟ فقال نعم لا بأس به إلا ان تكون النطفة
رطبة فإن كانت جافة فلا بأس». وحمله الشيخ في الاستبصار على ما إذا لم يتجفف
بالموضع الذي فيه المني لئلا يصيبه المني. وفيه انه لا يظهر على هذا فرق بين
الرطبة والجافة لاشتراكهما في حصول البأس مع الإصابة رطبا كان أو يابسا مع رطوبة
بدنه وانتفائه مع عدم أصابتها مع انه فرق بينهما.
أقول : قد وقفت في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا
البهائي على الجواب عن هذا الاشكال الوارد على جواب الشيخ عن هذه الرواية ، حيث
قال : «ظاهر هذا الحديث مشكل فإنه يشعر بطهارة المني إذا كان جافا كما هو مذهب بعض
العامة وإلا فلا فرق هنا بين ما إذا كان المني رطبا وجافا إذا لم يماس البدن حال
تنشيفه. ويمكن ان
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
يقال ان من عرف موضع المني في ثوبه ثم
نزعه فطرحه عنه ليغتسل فمعلوم ان اجزاء الثوب حال النزع وبعد الطرح يماس بعضها
بعضا فيقع بعض الأجزاء الطاهرة منه على ذلك المني ، فإن كان جافا لا تتعدى نجاسته
حال النزع وبعد الطرح الى ما يماسه من الاجزاء الطاهرة من الثوب فللمغتسل إذا أراد
التنشيف ان يتنشف بأي جزء شاء من اجزائه سوى الجزء الذي تنجس بالمني ، وإذا كان
رطبا فإن أجزاء الثوب التي تماسه غالبا في حال النزع وبعد الطرح تنجس به لا محالة
وربما جفت في مدة الاشتغال بالغسل ولا يميز عند ارادة التنشيف عن الاجزاء الطاهرة
التي لم تماسه فيشتبه الطاهر من الثوب بالنجس منه فلذلك جوز الامام (عليهالسلام) التنشيف إذا
كان جافا ولم يجوزه إذا كان رطبا» انتهى وهو جيد. أقول : ويمكن حمل الخبر ايضا على
التقية لما أشار إليه شيخنا المذكور من ان ذلك مذهب لبعض العامة (1).
ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن على
المشهور عن أبي أسامة (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) تصيبني
السماء وعلي ثوب فتبله وانا جنب فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني أفأصلي فيه؟ قال
نعم». ويمكن حمله على التقية لأن القول بطهارة المني مذهب جماعة من العامة (3) ويحتمل أيضا
تأويله بأن البلل جاز ان لا يعم الثوب بأسره ويكون اصابة الثوب للمني ببعض ليس فيه
بلل أو جاز ان يكون البلل قليلا بحيث لا تتعدى معه النجاسة وان كان شاملا للثوب
بأسره ، كذا أفاد والدي في بعض تحقيقاته.
__________________
(1 و 3) في المغني ج 2 ص 92 «المشهور عن أحمد طهارة المنى وعنه
انه نجس ويعفى عن يسيره وعنه لا يعفى عن يسيره ، ويجزئ الفرك على كل حال ،
والرواية الأولى هي المشهورة في المذهب وهو قول سعد بن ابى وقاص وابن عمر وابن
عباس ، وقال ابن المسيب إذا صلى فيه لم يعد ، وهو مذهب الشافعي وابى ثور وابن
المنذر» وفي البدائع ج 1 ص 60 «المنى نجس وعند الشافعي طاهر».
(2) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
ومنها ـ ما رواه في الكافي أيضا في الموثق عن أبي أسامة (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الثوب
تكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل علي؟ قال لا بأس». ويمكن اجراء الحملين
المتقدمين فيه ايضا. واحتمل بعضهم ايضا ان يحمل على اصابة المطر الثوب بحيث طهره
قال : وليس ببعيد. أقول : بل هو في غاية البعد حيث ان نجاسة المني لما فيه من
الثخانة واللزوجة تحتاج الى مزيد كلفة في الإزالة فمجرد اصابة المطر لا يكفي في
طهارة الثوب منها إلا ان يحمل على نجاسة لا توجد عين المني في الثوب وان كان بعيدا
من لفظ الجنابة حيث ان المراد منها المنى مجازا. قال في الوافي بعد نقل خبري أبي
أسامة المذكورين «والوجه في الخبرين انه لم يتيقن بلة ذلك الموضع بعينه بحيث يسري
معها المني اليه سراية تنجسه ، ومجرد الاحتمال غير كاف وان كان قويا.
ومنها ـ ما رواه في الكافي والشيخ في التهذيب عن علي بن
أبي حمزة (2) قال : «سئل
أبو عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر عن
رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه؟ قال لا ارى به بأسا. قال انه يعرق حتى انه لو شاء ان
يعصره عصره؟ قال فقطب أبو عبد الله (عليهالسلام) في وجه الرجل
وقال ان أبيتم فشيء من ماء فانضحه به». ويحتمل الحملين المتقدمين ، ويحتمل ايضا
ان يكون المراد من قوله : «أجنب في ثوبه» يعني جامع فيه لا بمعنى امنى فيه ويكون
السؤال باعتبار توهم نجاسة بدن الجنب فتتعدى الى الثوب بالعرق. ولعله الأقرب فإن
كثيرا من السؤالات في الاخبار وردت بناء على هذا التوهم.
(الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه
ليس شيء مما يخرج من الذكر بنجس سوى البول والمني ، وعن ابن الجنيد انه قال ما
كان من المذي ناقضا لطهارة الإنسان غسل منه الثوب والجسد ولو غسل من جميعه كان
أحوط ، وفسر الناقض للطهارة بما كان خارجا عقيب شهوة ، قال في المختلف بعد ذكر
المسألة ونقل خلاف ابن الجنيد : لنا ـ إجماع الإمامية على طهارته ، وخلاف ابن
الجنيد غير معتد به
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
فان الشيخ لما ذكره في كتاب فهرست
الرجال واثنى عليه قال إلا ان أصحابنا تركوا خلافه لانه كان يقول بالقياس.
أقول : ويدل على القول المشهور جملة من الأخبار الصحيحة
الصريحة ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن ابي عمير عن غير واحد من
أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «ليس في
المذي من الشهوة ولا من الإنعاظ ولا من القبلة ولا من مس الفرج ولا من المضاجعة
وضوء ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد».
وعن حريز في الصحيح (2) قال : «حدثني زيد الشحام وزرارة
ومحمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه قال ان
سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي فلا تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء
انما ذلك بمنزلة النخامة. الحديث».
وعن إسحاق بن عمار في الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
عن المذي فقال ان عليا (عليهالسلام) كان رجلا
مذاء واستحيي أن يسأل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لمكان فاطمة (عليهاالسلام) فأمر المقداد
أن يسأله وهو جالس فسأله فقال له ليس بشيء».
وعن زيد الشحام في الحسن (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) المذي ينقض
الوضوء؟ قال لا ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد انما هو بمنزلة البزاق والمخاط». الى
غير ذلك من الاخبار الكثيرة المعتضدة بأصالة الطهارة وإجماع من عدا ابن الجنيد على
القول بها.
ومما يدل على القول بالنجاسة ما رواه الحسين بن ابي
العلاء (5) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المذي
يصيب الثوب؟ قال ان عرفت مكانه فاغسله وان
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 9 من نواقض الوضوء.
(2 و 3 و 4) رواه في الوسائل في الباب 12 من نواقض الوضوء.
(5) رواه في الوسائل في الباب 17 من أبواب النجاسات.
خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كله».
وروايته الأخرى أيضا (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المذي
يصيب الثوب فيلتزق به؟ قال يغسله ولا يتوضأ».
وأجاب الشيخ عن هذين الخبرين بالحمل على الاستحباب جمعا
بينهما وبين الاخبار المتقدمة ، ثم قال ويزيد ذلك بيانا ما رواه هذا الراوي بعينه
وهو الحسين بن ابي العلاء (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المذي
يصيب الثوب؟ قال لا بأس به فلما رددنا عليه قال ينضحه بالماء».
أقول : والأظهر عندي حمل الخبرين المذكورين على التقية
كما قدمنا ذكره في الباب الثاني في الوضوء (3) ورواية الحسين الثالثة خرجت مخرج
الروايات المتقدمة في الدلالة على الطهارة ولكنه حيث انه (عليهالسلام) فهم من
السائل حصول النفرة منه امره بالنضح المأمور به في جملة من الأخبار في أمثال ذلك.
(الثالث) ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم)
بان كل رطوبة تخرج من القبل والدبر فهي طاهرة ما عدا البول والغائط والدم والمني
تمسكا بالأصل السالم عن المعارض ، ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن إبراهيم
بن ابي محمود (4) قال : «سألت
أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن المرأة
وليها قميصها أو إزارها يصيبه من بلل الفرج وهي جنب أتصلي فيه؟ قال إذا اغتسلت صلت
فيهما». قوله «وليها» اي ولي جسدها مع رطوبته ببلل الفرج. ولا اعلم خلافا في الحكم
المذكور وانما يحكى من بعض العامة القول بنجاستها ، وذكر المحقق في المعتبر ان
القائل المذكور يتشبث بكون الرطوبة جارية من مجرى النجاسة. ورده بأن النجاسة لا
يظهر حكمها إلا بعد خروجها من المجرى. وهذا واضح لا ريب فيه.
__________________
(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب النجاسات.
(3) ج 2 ص 110.
(4) رواه في الوسائل في الباب 55 من أبواب النجاسات.
(الفصل الرابع) ـ في الدم أجمع الأصحاب (رضوان الله
عليهم) عدا ابن الجنيد وظاهر الصدوق في الفقيه على نجاسة الدم قليله وكثيره إذا
كان من ذي نفس سائلة ، قال العلامة في التذكرة : الدم من ذي النفس السائلة نجس وان
كان مأكولا بلا خلاف. وقال في المنتهى : قال علماؤنا الدم المسفوح من كل حيوان ذي
نفس سائلة أي يكون خارجا بدفع من عرق نجس ، وهو مذهب علماء الإسلام. وقال المحقق
في المعتبر : الدم كله نجس عدا دم ما لا نفس له سائلة قليله وكثيره ، وهو مذهب
علمائنا عدا ابن الجنيد فإنه قال إذا كان سعته دون سعة الدرهم الذي سعته كعقد
الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب. انتهى.
ويدل على نجاسة الدم مضافا الى اتفاق معظم الأصحاب
روايات عديدة :
منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (1) قال : «قلت
أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني فعلمت أثره الى ان أصيب له الماء فأصبت
وحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ثم اني ذكرت بعد ذلك؟ قال تعيد الصلاة
وتغسله. قلت فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت انه قد اصابه فطلبت فلم اقدر عليه فلما
صليت وجدته؟ قال تغسله وتعيد. قلت فان ظننت انه قد اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم
أر شيئا ثم صليت فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت لم ذلك؟ قال لأنك كنت
على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا. قلت فاني قد
علمت انه قد اصابه ولم أدر أين هو فاغسله؟ قال تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه
قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارته. قلت فهل علي ان شككت في انه أصابه شيء ان
انظر فيه؟ قال لا ولكنك انما تريد ان تذهب الشك الذي وقع في نفسك. قلت ان رأيته في
ثوبي وانا في الصلاة؟ قال تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، في
ثوبي وانا في الصلاة؟ قال تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وان
لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله
شيء أوقع عليك فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك».
__________________
(1) رواه في الوسائل مقطعا في الباب 7 و 37 و 41 و 42 و 44 من
أبواب النجاسات.
وانما أوردنا هذه الرواية بطولها وان
كان الغرض يتم بنقل صدرها لما فيها من الأحكام العديدة وسيأتي ان شاء الله تعالى
التنبيه على كل حكم في محله ، وهذه الرواية وان كانت مضمرة في التهذيب بل ربما
توهم انها مقطوعة إلا انها متصلة بالباقر (عليهالسلام) في علل
الشرائع (1) مع ان سوق
الرواية يدل بأظهر دلالة على ان الخطاب فيها مع الامام (عليهالسلام).
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم (2) قال : «قلت له
الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟ قال ان رأيت وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل
وان لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم
، وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو
أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه».
وما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يرى
بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتى يصلي؟ قال يعيد صلاته كي يهتم بالشيء إذا كان في
ثوبه عقوبة لنسيانه. قلت فكيف يصنع من لم يعلم أيعيد حين يرفعه؟
قال لا ولكن يستأنف».
وعن عبد الله بن سنان في الحسن (4) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أصاب
ثوبه جنابة أو دم؟ قال ان كان علم انه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل ان يصلي ثم صلى
فيه ولم يغسله فعليه ان يعيد ما صلى. الحديث».
__________________
(1) ص 127.
(2) رواه في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 43 من أبواب النجاسات.
وعن علي بن جعفر في الصحيح (1) «انه سأل أخاه
موسى (عليهالسلام) عن رجل عريان
وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله دم يصلي فيه أو يصلي عريانا؟
قال ان وجد ماء غسله وان لم يجد ماء صلى فيه ولم يصل
عريانا». وما رواه الصدوق في الصحيح عن ابن أذينة عن الصادق (عليهالسلام) (2) «انه سأله عن
الرجل يرعف وهو في الصلاة وقد صلى بعض صلاته؟ قال ان كان الماء عن يمينه أو عن
شماله أو عن خلفه فليغسله. الحديث».
الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة الآتية ان شاء الله
تعالى في المقصد الثاني في أحكام النجاسات. واما ما ورد في جملة من شذوذ الاخبار
مما ظاهره الطهارة فالظاهر حمله على التقية وان لم أقف على قائل بذلك من العامة ،
لأن الحمل على ذلك لا يتوقف عندي على وجود القائل وان كان المشهور بين أصحابنا ذلك
كما عرفت في المقدمة الاولى من مقدمات الكتاب ، وتوضيح ذلك انه لما اتفقت الأخبار
الصحاح الصراح ـ كما عرفت من بعض ما قدمناه وستعرف مما يأتي قريبا ان شاء الله
تعالى وكذا كلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم) قديما وحديثا ـ على النجاسة إذ خلاف
من خالف منهم انما هو في مادة مخصوصة ليست داخلة في هذه الأخبار ، فالواجب البتة
طرح ما خالف ذلك والاعراض عنه ، بقي بيان الوجه في صدوره عنهم (عليهمالسلام) فإنه لا يكون
ذلك عبثا بغير فائدة وليس وراء ذلك إلا ما ذكرناه من إيقاعهم الاختلاف بين الشيعة
في الأحكام لدفع الشنعة عنهم كما تقدم تحقيقه في المقدمة المشار إليها.
ومن الأخبار المذكورة ما رواه الشيخ في التهذيب
والاستبصار عن جابر عن الباقر (عليهالسلام) (3) قال : «سمعته
يقول لو رعفت زورقا ما زدت على ان امسح
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 45 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 2 من قواطع الصلاة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 7 من نواقض الوضوء.
مني الدم وأصلي».
وعن الحسن بن علي الوشاء في الحسن (1) قال : «سمعت
أبا الحسن (عليهالسلام) يقول كان أبو
عبد الله (عليهالسلام) يقول في
الرجل يدخل يده في أنفه فيصيب خمس أصابعه الدم ، قال ينقيه ولا يعيد الوضوء». ويمكن
هنا حمل الإنقاء على الإنقاء بالغسل لا مطلق الإنقاء فلا منافاة وان الغرض بيان
عدم نقض الوضوء بخروج الدم.
وعن عبد الأعلى عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الحجامة أفيها وضوء؟ قال لا ولا يغسل مكانها لان الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه
ولم يكن صبيا صغيرا». والحمل على ان الحجام ينظفه يعني بالغسل بعيد جدا لأن النهي
عن الغسل متناول للمحتجم نفسه ولمن يقوم مقامه ، فالحديث ظاهر في طهارة دم الحجامة
بمجرد ازالة عينه المشار إليها بالتنظيف.
وعن أبي حمزة (3) قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) ان أدخلت يدك
في انفك وأنت تصلي فوجدت دما سائلا ليس برعاف ففته بيدك». ولا يخفى ما في الخبر
المذكور من الحزازة زيادة على ما دل عليه من طهارة الدم ، ولعله وقع فيه تحريف من
قلم الشيخ أو من النساخ لأن الفت إنما يستعمل في الدم اليابس لا السائل ، ولعل
الذي كان في الخبر «غير سائل» ، وأيضا فإن كون الدم السائل ليس برعاف لا معنى له ،
ومع احتمال كونه من قرح أو جرح لا يفرق بينه وبين دم الرعاف في تعدي النجاسة إلى
اليد وان قلنا بالعفو عن دم القروح والجروح ما لم ترقأ.
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من نواقض الوضوء.
(2) رواه في الوسائل في الباب 56 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من قواطع الصلاة.
وما رواه في الكافي في باب «الثوب يصيبه الدم» عن الحلبي
(1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن دم
البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ فقال لا وان كثر ، ولا بأس
أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله».
وما رواه في الزيادات عن عمار عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الدمل يكون في الرجل فينفجر وهو في الصلاة؟ قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو
بالأرض ولا يقطع الصلاة». واحتمال تخصيص ما يخرج من الدمل بالقيح الخالي من الدم
خلاف ما يشهد به الوجدان ، والعفو عن دم القرح لا يتعدى نجاسة اليد به حتى انه
يجوز مسه ولا يجب غسله إذ العفو مقصور عليه وعلى ما يتعدى اليه بنفسه كما سيأتي
بيانه في المسألة ان شاء الله تعالى.
وما رواه الشيخ عن داود بن سرجان عن الصادق (عليهالسلام) (3) : «في الرجل
يصلي فأبصر في ثوبه دما؟ قال يتم». وحمله الشيخ على ما إذا كان أقل من درهم ، ولا
بأس به.
ولم نقف على خلاف لأحد من أصحابنا في المسألة إلا على
خلاف ابن الجنيد والصدوق في الفقيه ، اما ابن الجنيد فقد تقدم نقل خلافه كما صرح
به المحقق في المعتبر وحكاه من عبارته إلا ان عبارته المنقولة من كتابه المختصر
كما نقله في المختلف وغيره عامة في نجاسة الدم وغيره ، حيث قال : «كل نجاسة وقعت
على ثوب وكانت عينها مجتمعة أو متفشية دون سعة الدرهم الذي يكون سعته كعقد الإبهام
الأعلى لم ينجس الثوب بذلك إلا ان تكون النجاسة دم حيض أو منيا فان قليلهما
وكثيرهما سواء» انتهى. وهو مردود بالأخبار الدالة على نجاسة البول قليله وكثيره
والغائط والمني ونحوهما ووجوب
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات.
غسلها وانما استثناء الدرهم أو الأقل
منه في الدم خاصة ، واما الصدوق فإنه قال في الفقيه «وان كان الدم دون حمصة فلا
بأس بان لا يغسل إلا ان يكون دم الحيض فإنه يجب غسل الثوب منه ومن البول والمني
قليلا كان أو كثيرا وتعاد منه الصلاة علم به أو لم يعلم» انتهى. وهذه العبارة
مأخوذة من الفقه الرضوي بتغيير ما وكذا ما قبلها ، حيث قال (عليهالسلام) (1) : «وان كان
الدم حمصة فلا بأس بأن لا تغسله إلا ان يكون دم الحيض فاغسل ثوبك منه ومن البول
والمني قل أو كثر وأعد منه صلاتك علمت به أو لم تعلم». انتهى. والظاهر ان لفظ «دون»
سقط من النسخة حيث ان الكتاب لا يخلو من الغلط إلا ان الموجود في البحار حيث انه
ينقل فيه عبائر الكتاب المذكور كما هنا ، وحينئذ فيكون الصدوق بعد أخذه العبارة من
أولها إلى آخرها من الكتاب عدل في هذا الموضع الى العمل برواية مثنى بن عبد السلام
الواردة في المسألة وهي ما رواه عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «قلت له
اني حككت جلدي فخرج منه دم؟ فقال ان اجتمع قدر الحمصة فاغسله وإلا فلا». وسيأتي
تمام الكلام ان شاء الله تعالى في ذلك في المقصد الثاني.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الدم اما ان يكون دم حيوان ذي نفس
سائلة أو غير ذي نفس سائلة والأول اما مسفوح أو غير مسفوح وغير المسفوح اما ما
يتخلف في اللحم بعد الذبح الشرعي أو غيره والمتخلف في اللحم بعد الذبح اما من
حيوان مأكول اللحم أو غيره ، وغير ذي النفس السائلة اما ان يكون من السمك أو غيره
، فهذه ستة أقسام يحتاج الى التحقيق فيها والكلام على وجه يرفع غشاوة الإبهام :
(الأول) ـ المسفوح وهو لغة المصبوب أي الذي انصب من
العرق بكثرة يقال سفح الرجل الدمع والدم من باب منع : صبه ، وسفحت دمه إذا سفكته ،
والظاهر انه لا خلاف بين علمائنا في نجاسته سوى ما ينقل من الخلاف في دم رسول الله
(صلى الله
__________________
(1) ص 6.
(2) رواه في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات.
عليه وآله) حيث استشكل فيه العلامة في
المنتهى ، فقال : في نجاسة دم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إشكال ينشأ
من انه دم مسفوح ومن ان أبا طيبة الحجام شربه ولم ينكر عليه (1) وكذا في بوله (صلىاللهعليهوآله) حيث انه بول
ومن ان أم أيمن شربته (2). وهذا الخلاف
مما لا ثمرة له الآن ، ويدل على نجاسة الدم المسفوح إطلاق جملة من الأخبار
المتقدمة زيادة على الإجماع المدعى في المقام كما في المعتبر والمنتهى وغيرهما.
(الثاني) ـ ما يتخلف في اللحم بعد الذبح من حيوان مأكول
اللحم ، وهو طاهر حلال من غير خلاف يعرف ، ولم أقف على نص يدل على طهارته بخصوصه
أو حله إلا ان اتفاق الأصحاب على كلا الحكمين من غير خلاف ينقل ـ مضافا الى حصر
المحرمات في الآيات المستلزم للطهارة لأنه متى كان حلالا كان طاهرا ، والروايات
الدالة على عد محرمات الذبيحة ولم تذكره منها وان كانت الدلالة لا تخلو من ضعف ،
مع اعتضاد ذلك بأصالة الطهارة ـ الظاهر انه كاف في المقام. واستثني من المتخلف ما
يجذبه الحيوان بنفسه الى باطن الذبيحة فإنه نجس حرام لا يدخل فيما نحن فيه. وهو
كذلك لعدم شمول الأدلة له.
(الثالث) ـ المتخلف في الحيوان الغير المأكول اللحم مما
يقع عليه الذكاة ، والظاهر من الأصحاب نجاسته لحصرهم الدم الطاهر في افراد ولم
يعدوا هذا منها ، قال في المعالم : وتردد في حكمه بعض من عاصرناه من مشايخنا ،
ومنشأ التردد من إطلاق الأصحاب الحكم بنجاسة الدم مما له نفس مدعين الاتفاق عليه
وهذا بعض افراده ،
__________________
(1) كما في شرح الزرقانى على المواهب اللدنية لابن حجر ج 4 ص
233.
(2) في الإصابة لابن حجر ج 4 ص 432 ترجمة أم أيمن «قالت كانت
للنبي (ص) فخارة يبول فيها بالليل فكنت إذا أصبحت صببتها فنمت ليلة وانا عطشانة
فغلطت فشربتها فذكرت ذلك للنبي (ص) قال انك لا تشتكي بطنك بعد يومك هذا».
ومن ظاهر قوله تعالى «أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» (1) حيث دل على حل
غير المسفوح وهو يدل على طهارته ، ثم قال : ويضعف الثاني بأن ظاهرهم الإطباق على
تحريم ما سوى الدم المتخلف في الذبيحة ودم السمك على ما فيه ، وقد قلنا ان
المتبادر من الذبيحة ما يكون من مأكول اللحم فدم ما لا يؤكل لحمه حرام عندهم مطلقا
، وعموم ما دل على تحريم الحيوان الذي هو دمه يتناوله أيضا إذ أكثر الأدلة غير
مقيدة باللحم وانما علق التحريم فيها بالحيوان فيتناول جميع اجزائه ، ولا يرد مثله
في المحلل لقيام الدليل هناك على تخصيص التحليل باللحم واجزاء أخر معينة ،
وبالجملة فحل الدم مع حرمة اللحم أمر مستبعد جدا لا سيما بعد ما قررناه من ظهور
الاتفاق بينهم فيه وتناول الأدلة بظاهرها له ، وإذا ثبت التحريم هنا لم يبق للآية
دلالة على طهارته كما لا يخفى. انتهى. وهو جيد. وبالجملة فالآية مخصصة وظواهر
الأدلة الدالة على تحريم ما لا يؤكل لحمه شاملة للدم وغيره ، مضافا جميع ذلك الى
إطلاق جملة من اخبار نجاسة الدم المتقدمة ونحوها ، فلم يبق للتوقف في النجاسة وجه.
(الرابع) ـ ما عدا المذكورات من الدماء التي لا تخرج
بقوة من عرق ولا لها كثرة وانصباب وليس مما تخلف بعد الذبح كدم الشوكة والعثرة
ونحو ذلك من ذي النفس مطلقا ، وظاهر الأصحاب أيضا الاتفاق على نجاسته ، ويدل عليه
أخبار نجاسة دم الرعاف والأمر بغسله كما تقدم بعض منها وإطلاق الأخبار المتقدمة
ونحوها ، وربما أوهم كلام العلامة في جملة من كتبه الطهارة في هذا القسم وسابقه
حيث انه قيد في المنتهى وجملة من كتبه الدم المحكوم بنجاسته بالمسفوح وظاهره حصر
النجس في المسفوح. وكذا كلامه في المختلف حيث قال فيه محتجا على طهارة المتخلف في
الذبيحة : هو طاهر إجماعا لانتفاء المقتضى للتنجيس وهو السفح. ولصاحب المعالم (قدسسره) في هذا
المقام كلام طويل على عبارة العلامة (قدسسره) في المنتهى
أورده في الكتاب
__________________
(1) سورة الانعام ، الآية 146.
المذكور ومناقشات فيه للفاضل
الخوانساري في شرح الدروس ليس للتعرض لها كثير فائدة مع الاتفاق على الحكم المذكور.
والظاهر ـ كما استظهر جملة من الأصحاب ـ ان الحامل للعلامة على التقييد بالمسفوح
في عباراته انما هو الاحتراز عن الدم المتخلف في الذبيحة حيث انه طاهر إجماعا وكذا
غيره مما حكموا بطهارته ، فإنه لا ريب ولا شك في نجاسة هذا القسم المذكور الذي نحن
في صدد الكلام عليه ، لا ان قصده إخراج شيء من أصناف دم ذي النفس على الإطلاق.
(الخامس) ـ دم السمك ، ولا ريب في طهارته تمسكا بالأصل
السالم من المعارض ويعضده فقد شرط التنجيس عند الأصحاب وهو وجود النفس السائلة ،
وقد نقل الإجماع على الطهارة جمع من محققي الأصحاب : منهم ـ الشيخ في الخلاف وابن
زهرة في الغنية وابن إدريس في السرائر والمحقق في المعتبر والعلامة في المختلف
والشهيد في الذكرى ، وقد ذكر في المختلف ان ظاهر تقسيم الشيخ للدم في المبسوط
والجمل يعطي حكمه بنجاسة دم السمك والبق والبراغيث مع انه لا يجب إزالة قليله ولا
كثيره ، وتخطى المتأخرون عن العلامة فتسبوا الى الشيخ في الكتابين القول بنجاسة
الدماء المذكورة جزما مع ان العلامة إنما نسب ذلك الى ظاهر كلامه بمعنى ان اللازم
منه ذلك لا انه قائل به حقيقة. أقول : والسر في ذلك انه قال في الجمل : النجاسات
على ضربين دم وغيره ، والدم على ثلاثة أضرب : ضرب يجب إزالة قليله وكثيره وهي كذا
وكذا ، فعد أنواعه ، وضرب لا يجب إزالة قليله ولا كثيره وهي خمس أجناس : دم البق
والبراغيث والسمك والجراح اللازمة والقروح الدامية. وهكذا عبارة المبسوط ، وأجاب
في المعالم بان ذلك انما نشأ من سوء تعبير الشيخ في هذا المقام وإلا فإنه غير مراد
له قطعا ، وينبه على ذلك انه في الخلاف ذكر نظير هذا الكلام المنقول عن الجمل
والمبسوط بعد ما نقل الإجماع على الطهارة بسطر واحد ، وذلك فإنه بعد ان حكى خلاف
الشافعي في هذه الدماء قال دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا فإن النجاسة حكم شرعي ولا
دلالة في الشرع على نجاسة هذه الدماء ، ثم
قال بعد سطر واحد : جميع النجاسات يجب
إزالتها عن الثياب والبدن قليلا كان أو كثيرا إلا الدم فان له ثلاثة أحوال دم البق
والبراغيث ودم السمك وما لا نفس له سائلة ودم الجروح اللازمة لا بأس بقليله
وكثيره. وهذا الكلام الأخير يرجع في المعنى الى ما نقلنا عن الجمل والمبسوط في
الدلالة على نجاسة الدماء الثلاثة المذكورة مع انه جمع بينه وبين الإجماع على
الطهارة في مقام واحد وعبارة واحدة ، ولا ريب انه بناء على التوسع في التعبير
لظهور طهارة هذه الدماء اتفاقا أو انه أراد بالنجاسة التي جعلها مقسما معنى خلاف
الظاهر اعتمادا على القرينة الحالية وهي معلومية الطهارة فعلى هذا يحمل كلامه أيضا
في ذينك الكتابين ، وقد جرى مثل ذلك لسلار وابن حمزة أيضا حيث ذكرا مثل هذا
التقسيم الذي نقلناه عن الشيخ في الجمل ولم يظهر منهما ما يوجب الخروج عن ظاهرها
كما اتفق للشيخ بنقل الإجماع في الخلاف إلا ان الظاهر الحمل على ما ذكرناه في
عبارة الشيخ من التجوز ، هذا مع ان السهو والنسيان كالطبيعة الثانية للانسان
والمعصوم من عصمه الله تعالى.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان العلامة في المنتهى قد استدل على
طهارة دم السمك بوجوه : منها ـ قوله تعالى : «أُحِلَّ
لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ» (1) وقوله سبحانه
: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» (2) ووجه الدلالة
في الأولى بأن التحليل يقتضي الإباحة من جميع الوجوه وذلك يستلزم الطهارة ، وفي
الثانية بأن دم السمك ليس بمسفوح فلا يكون نجسا. واعترض عليه بعض أفاضل المتأخرين
بأن الاستدلال بالآية محل تأمل. أقول : الظاهر ان وجه التأمل هو ان المتبادر من
الحل هو حل ما يعهد اكله منه كاللحم ونحوه لا الدم ، اما الآية الثانية فهي ظاهرة
في الحل الموجب للطهارة ، ومنه يظهر قوة القول يحل دم السمك ، وظاهر كلام جملة من
الأصحاب بل الظاهر انه المشهور هو التحريم واختصاص التحليل في افراد
__________________
(1) سورة المائدة ، الآية 97.
(2) سورة الانعام ، الآية 146.
الدماء بالمتخلف في الذبيحة ، والظاهر
انه لا دليل لهم أزيد من دعوى الاستخباث مع ان الظاهر هنا من جملة من الأصحاب
الذين استدلوا بهاتين الآيتين على الطهارة في هذا المقام هو الحل ، ومنهم ابن زهرة
في الغنية وابن إدريس.
وفي المعتبر استدل على طهارة دم السمك بان دم السمك لو
كان نجسا لتوقفت إباحة أكله على سفح دمه بالذبح كحيوان البر لكن الإجماع على خلاف
ذلك وانه يجوز اكله بدمه. وهو ـ كما ترى ـ صريح في قوله بالحل.
قال في المعالم بعد كلام في المقام : وبالجملة فعباراتهم
ظاهرة في تخصيص التحليل في دم الذبيحة وتعميم التحريم في غيره من الدماء ، ووقع
التصريح بذلك أيضا في كلام بعضهم والتنصيص على تحريم دم السمك بالخصوص ، وليس لهم
عليه حجة غير الاستخباث وهو موضع نظر ، وإذا لم يثبت تحريمه تكون الآية دليلا قويا
على طهارته. انتهى.
أقول : لا يخفى ان ظواهر الأخبار دالة على حل السمك
بإخراجه من الماء حيا الذي هو عبارة عن ذكاته والشارع لم يعتبر فيه الذبح والتذكية
كما في الحيوانات البرية بل ذكاته إخراجه من الماء حيا ، ومقتضى ذلك جواز أكله
حينئذ حيا أو ميتا بغير ذبح ثانيا بغير طبخ أو مطبوخا ، إلا انه يمكن ان يقال انه
لا ريب في ذلك ما لم يخرج منه دم في تلك الحال لأنا غير مخاطبين بما تحت جلده من
الدم المخالط للحمه بل عموم تحليله في تلك الحال شامل للجميع اما لو خرج منه دم في
تلك الحال فلا مانع من القول بحرمته للأدلة الدالة على تحريم الدماء من غيره حيث
لم يستثن منها إلا المتخلف في الذبيحة ، وبالجملة فالحكم يكون تابعا للاسم فمع
وجود الدم يتعلق به حكم الدماء ومع عدم وجوده فانا غير مخاطبين به ، والاحتياط
يقتضي الوقوف على هذا الوجه الى ان يقوم دليل واضح على أحد الحكمين.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما
رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (1) «ان عليا (عليهالسلام) كان لا يرى
بأسا
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب النجاسات.
بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي
فيه الرجل يعني دم السمك». أقول : قوله «ما لم يذك» اي ما لم يدخله التذكية وهو
مما لا نفس له ففيه دلالة على طهارة ما لا نفس سائلة له ، إلا ان قوله أخيرا «يعني
دم السمك» ان كان من كلامه (عليهالسلام) فيحتمل ان
يكون تقييدا لعموم «ما لم يذك» ويحتمل ان يكون تمثيلا يعني دم السمك وأمثاله ،
والأول انسب بسياق الخبر والثاني أنسب بالقواعد المقررة ، وكيف كان فهو ظاهر في
طهارة دم السمك
(السادس) ـ دم غير السمك مما لا نفس له ، وقد نقل
الإجماع على طهارته جملة من الأصحاب : منهم ـ الشيخ في الخلاف فإنه بعد ان ذكر
طهارة الدم من كل حيوان لا نفس له احتج لذلك بإجماع الفرقة وعدم الدلالة في الشرع
على النجاسة وهي حكم شرعي لا يثبت بدون الدليل. وممن ادعى الإجماع على ذلك الشهيد
في الذكرى والعلامة في المنتهى والتذكرة ، ويظهر من المحقق في المعتبر حيث ذكر ان
طهارة دم السمك مذهب علمائنا اجمع وقال بعده : وكذا كل دم ليس لحيوانه نفس سائلة
كالبق والبراغيث. أقول ويعضد ذلك الأصل ، واما ما يوهم خلافه من ظاهر التقسيم
المتقدم نقله عن الجمل والمبسوط وسلار فقد عرفت الوجه فيه ، ويزيد ذلك تأكيدا صحيحة
عبد الله ابن ابي يعفور (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما تقول في
دم البراغيث؟ قال ليس به بأس. قلت انه يكثر ويتفاحش؟ قال وان كثر». ورواية الحلبي (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن دم
البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال لا وان كثر». ورواية محمد بن
الريان (3) قال : «كتبت الى
الرجل (عليهالسلام) هل يجري دم
البق مجرى دم البراغيث وهل يجوز لأحد ان يقيس بدم البق على البراغيث فيصلي فيه وان
يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقع (عليهالسلام) يجوز الصلاة
والطهر منه أفضل». وقد تقدم في حديث غياث عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (4) قال : «لا بأس
بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف».
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب
النجاسات.
فروع : (الأول) ـ قال في الخلاف العلقة نجسة ، واحتج على
ذلك بإجماع الفرقة وبان ما دل على نجاسة الدم دل على نجاسة العلقة. قال في المعالم
بعد نقل ذلك عنه : وفي هذا نظر لا يخفى وجهه بعد الإحاطة بما حققناه في دليل نجاسة
الدم. انتهى. وقال في المعتبر : العلقة التي تستحيل إليها نطفة الآدمي نجسة لأنها
دم حيوان له نفس سائلة وكذا العلقة التي توجد في بيض الدجاج وشبهه وقال في الذكرى
بعد نقل ذلك عن المحقق : وفي الدليل منع وتكونها في الحيوان لا يدل على انها منه.
مع انه قال في الدروس في تعداد النجاسات : والدم من ذي نفس سائلة وان كان بحريا
كالتمساح أو كان علقة في البيضة وغيرها. قال في المعالم بعد نقل كلام الذكرى : وهو
متجه لا سيما بالنظر الى ما يوجد في البيضة مع ان كونه علقة ليس بمعلوم ايضا
فالإجماع الذي ادعاه الشيخ لو ثبت على وجه يكون حجة لكان في تناوله نظر ومقتضى
الأصل طهارته ، ويعضده ظاهر قوله تعالى : «أَوْ
دَماً مَسْفُوحاً» حيث انه دال على حل غير المسفوح
مطلقا خرج من ذلك ما وقع الاتفاق على تحريمه فيبقى الباقي ، وإثبات الحل مقتض
لثبوت الطهارة كما مر غير مرة. وكتب في الحاشية قال بعض الأصحاب ما يوجد في البيضة
أحيانا من الدم لا يعلم كونه من دم ذلك الحيوان فالعلم بكونه علقة له أشد بعدا.
والأمر كما قال. انتهى
أقول : لقائل أن يقول ان ما دل على نجاسة الدم كالاخبار
التي قدمناها ونحوها لا تخصيص فيها بما كان من حيوان بل هي مطلقة في نجاسة الدم
أعم من ان يكون من حيوان أو من استحالة شيء إليه كالمني مثلا وما في البيضة فإنه
يكون علقة فيكون داخلا تحت عموم ما دل على نجاسة الدم بقول مطلق. الا ان فيه ان
الظاهر ان العموم المدعى من الاخبار لا يشمل مثل هذا الفرد لما قررناه في غير مقام
مما تقدم من ان الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الشائعة المتكثرة وهي هنا دم
الإنسان وكل ذي نفس سائلة أو غير سائلة دون الفروض النادرة مثل دم العلقة. واما
إجماع الأصحاب على نجاسة الدم فهو ايضا مخصوص بدم ذي النفس السائلة فلا يدخل هذا
الدم تحت الإجماع
ولا الروايات ، نعم الشيخ ادعى في
الخلاف الإجماع على نجاسة العلقة والعلقة لغة هي القطعة من الدم ، والمراد منها
هنا ما ذكره في المعتبر وهو المشار إليه في الآية وهي القطعة من الدم التي يستحيل
إليها المني ثم تصير هي مضغة. فتكون نجاسة العلقة أنما تستند الى هذا الإجماع
المدعى من الشيخ في الخلاف وفي شمول العلقة للدم الموجود في البيضة إشكال كما ذكره
في المعالم ، وحينئذ فلا يدخل تحت الإجماع المدعى من الشيخ ولم يبق إلا صدق الدم
عليه ، وقد عرفت انه لا دليل على نجاسة الدم بحيث يشمل هذا الفرد سواء تمسك
بالإجماع أو الروايات. وبالجملة فقد ظهر مما ذكرنا ان الأقوى هو الطهارة ولا سيما
في ما في البيضة. ومن ذلك يظهر ان الأقرب حله لعدم دليل الحرمة كما يظهر من كلام
صاحب المعالم أيضا في تمسكه بالآية على تخصيص الدم المحرم بالمسفوح الدال على حل
غير المسفوح خرج من ذلك ما وقع الاتفاق على تحريمه فيبقى الباقي ، والاحتياط في
الموضعين لا يخفى.
(الثاني) ـ لو اشتبه الدم المرئي في الثوب أو البدن فلم
يعلم كونه من الدماء الطاهرة أو النجسة فمقتضى الدليل طهارته لقوله (عليهالسلام) في موثقة عمار
(1) «كل شيء طاهر
حتى تعلم انه قذر». وقول علي (عليهالسلام) (2) فيما رواه عنه
في الفقيه «لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم». ولا خلاف في ذلك بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم) وهكذا الكلام في كل شيء له افراد بعضها طاهر وبعضها
نجس فإنه بمقتضى الدليل المذكور يحكم بالطهارة حتى يعلم ان ذلك الفرد من الافراد
النجسة حتى الجلود كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في محله وان كان المشهور
بينهم خلافه في الأخير. وكذا يجري الحكم المذكور فيما لو اشتبه دم معفو عنه كدم
الحجامة الأقل من
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات واللفظ «كل
شيء نظيف حتى تعلم انه قذر».
(2) المروي في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات.
درهم بدم الحيض الغير المعفو عن قليله
وكثيره فإنه يحكم بالعفو حتى يعلم خلاف ذلك.
(الثالث) ـ قال المحقق في المعتبر بعد ان نقل عن الشيخ
الحكم بطهارة الصديد : وعندي في الصديد تردد أشبهه النجاسة لأنه ماء الجرح يخالطه
يسير دم ، ولو خلا من ذلك لم يكن نجسا ، وخلافنا مع الشيخ فيه يؤول إلى العبارة
لأنه يوافق على هذا التفصيل اما القيح ان مازجه دم نجس بالممازجة وان خلا من الدم
كان طاهرا (لا يقال) : هو مستحيل عن الدم (لأنا نقول) : لا نسلم ان كل مستحيل من
الدم لا يكون طاهرا كاللحم واللبن وحجتنا في الطهارة وجوابنا كما تقدم. اما ما عدا
ذلك كالعرق والبصاق والدموع فقد اتفق الجميع على الطهارة. انتهى.
أقول : ما ذكره في الجواب عن المستحيل من الدم جيد إلا
ان قوله هنا بطهارة المستحيل عن الدم ينافي ما قدمه في مسألة أبوال الدواب الثلاث
وأرواثها من كلامه في ذرق الدجاج مما يدل على ان المستحيل عن عين النجاسة يكون
نجسا على الإطلاق ، وسيأتي تحقيق المسألة في محلها ان شاء الله تعالى.
(الرابع) ـ قال في المدارك : المسك طاهر إجماعا قاله في التذكرة والمنتهى للأصل ولما روى عن النبي (صلىاللهعليهوآله) «انه كان يتطيب به وكان أحب الطيب اليه» (1). واما فأرته فسيأتي الكلام فيه قريبا ان شاء الله تعالى في الفصل الآتي.
__________________
(1) الوسائل في الباب 95 من آداب الحمام عن أبي البختري عن الصادق عن أبيه (ع) قال «ان رسول الله (ص) كان يتطيب بالمسك حتى يرى وبيصه في مفارقه». وفيه ايضا «كان النبي (صلىاللهعليهوآله) يتطيب بذكور الطيب وهو المسك والعنبر» ..