ج25 - أحكام المحلل والرجعة

المقصد الثالث

في جملة من الأحكام المتعلقة بالمقصد المتقدم

وفيه فصول:

الأول في المحلل:

ويشترط فيه شروط ، الأول : أن يكون الزوج بالغا ، وفي المراهق خلاف ، والذي قطع به الأكثر العدم ، وقوى الشيخ في المبسوط والخلاف وقوع التحليل بالمراهق ، وهو من قارب الحلم ، فإنه يحصل بوطئه التحليل.

ويدل على المشهور صريحا ما رواه في الكافي (1) عن علي بن الفضل الواسطي قال : «كتبت إلى الرضا عليه‌السلام : رجل طلق امرأته الطلاق الذي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره فتزوجها غلام لم يحتلم ، قال : لا ، حتى يبلغ. فكتبت إليه : ما حد البلوغ؟ فقال : ما أوجب على المؤمنين الحدود».

وما روي في عدة أخبار عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك». وهو ما فسره في النهاية (2) وغيرها من كتب اللغة كناية عن لذة الجماع ، وقيل : الانزال ، وهو لا يتحقق إلا في البالغ لأن اللذة التامة إنما تحصل بإنزال المني وإن حصل قبله لذة ما ، ويشير إليه التشبيه بالعسل المشتمل على كمال اللذة ، واستدل للشيخ بظاهر قوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» (3) الصادق ذلك الصغير والكبير ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني ـ رحمه‌الله عليه ـ في المسالك بالميل إلى ما ذهب إليه الشيخ مستندا إلى ظاهر الآية المذكورة ، واستضعافا لسند الرواية المتقدمة ، وحملا للحديث النبوي على ما يشمل المراهق لأن له لذة

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 76 ح 6 ، الوسائل ج 15 ص 367 ب 8 ح 1.

(2) النهاية لابن الأثير ج 3 ص 237.

(3) سورة البقرة ـ آية 230.


الجماع ، وكذلك المرأة تلتذ به فيتناوله الخبر.

وفيه : أن ما استند إليه من ظاهر الآية يرده أنهم قد صرحوا في غير مقام بأن الإطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد الكثيرة المتعارفة دون الأفراد النادرة ، ولا ريب أن نكاح غير البالغ من أندر الفروض النادرة.

وأما رد الرواية بضعف السند فقد عرفت أنه غير مرضي ولا معتمد ، أما عندنا فظاهر ، وأما عندهم فلجبرها بشهرة الفتوى بمضمونها ، حتى أن سبطه الذي هو عمدة المشيدين لهذا الاصطلاح المحدث قد قال بالقول المشهور واستدل بها.

وأما دعوى دخول المراهق في الحديث النبوي فهو بعيد غاية البعد لما أشرنا إليه آنفا.

الثاني : أن يطأها المحلل ، فلا يكفي العقد المجرد عن الوطء ، ولا الخلوة المضاف إليه. ونقل الإجماع على ذلك من الخاصة والعامة إلا من سعيد بن المسيب ، حيث اكتفى بمجرد العقد عملا بظاهر الآية المتقدمة ، لأن النكاح حقيقة في العقد.

وفيه مضافا إلى الإجماع المذكور أن إطلاق الآية مخصص بأخبار العسيلة ، ومنها في خصوص ما نحن فيه ، ما رواه في الكافي (1) عن أبي حاتم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يطلق امرأته الطلاق الذي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ثم تزوج رجلا لا يدخل بها ، قال : لا حتى يذوق عسيلتها».

وما رواه في التهذيب (2) عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «في الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم يراجعها بعد انقضاء عدتها ، فإذا طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فإذا تزوجها غيره ولم يدخل بها وطلقها أو مات عنها لم تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها».

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 425 ح 4 ، الوسائل ج 15 ص 366 ب 7 ح 1 وفيهما اختلاف يسير.

(2) التهذيب ج 8 ص 33 ح 18 ، الوسائل ج 15 ص 352 ب 3 ح 9.


وخبر العسيلة أيضا مروي عندهم كما هو مروي عندنا ، فروى غير واحد منهم (1) «أنه جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : كنت عند رفاعة ، فبت طلاقي ، فزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، فطلقني قبل أن يمسني ـ وفي رواية : وأنا معه مثل هدية الثوب ـ فتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك».

الثالث : أن يكون الوطء في القبل فلا يكفي في الدبر ، وقال في المسالك : وهو مستفاد أيضا من ذوق العسيلة ، فإنه منتف من الجانبين في غير القبل ، ولأنه المعهود.

أقول : وفي هذا الكلام تأييد لما أوردناه عليه آنفا من استناده إلى ظاهر الآية في تقوية مذهب الشيخ ، مع أنه خلاف المعهود ، واستناده إلى الحديث النبوي في شموله المراهق ، بدعوى حصول اللذة له فإن اللذة أيضا حاصلة بالجماع في الدبر ، ولم يرتكب ذلك فاعله إلا لما يراه فيه من اللذة ، ولكنها لا يبلغ لذة النكاح في القبل ، ودعواه ـ رحمة الله عليه ـ أنه منتف من الجانبين في غير القبل ممنوعة لما عرفت.

الرابع : كون الوطء موجبا للغسل ، وحده أن تغيب الحشفة أو قدرها من مقطوعها ، لأن ذلك هو مناط أحكام الوطء كلها ، قالوا : والفرق بين أن يحصل مع ذلك انتشار العضو وعدمه حتى لو حصل بإدخال الحشفة بالاستعانة ، كفى على ما يقتضيه إطلاق النص والفتوى.

ويشكل ذلك بأخبار العسيلة الظاهرة في حصول اللذة بذلك الجماع ، ومجرد إدخال المقدار المذكور على هذا الوجه لا يترتب عليه لذة كما لا يخفى ، ودعوى اقتضاء إطلاق النص ما ذكروه ممنوع ، فإن الإطلاق إنما

__________________

(1) سنن أبى داود ج 2 ص 294 ح 2309 ، سنن البيهقي ج 7 ص 373 ، النهاية لابن الأثير ج 3 ص 237.


يحمل على الأفراد الشائعة المتكررة دون الفروض النادرة ، ويؤيد ذلك بأخبار العسيلة المذكورة. وبالجملة فالظاهر عندي ضعف ما ذكروه ، وإن كان ظاهرهم الاتفاق عليه.

الخامس : كون ذلك بالعقد الدائم ، واحترزنا بالعقد عن ملك اليمين والتحليل لقوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» (1) والنكاح حقيقة في العقد ، وعلى تقدير كونه حقيقة في الوطء فلفظ الزوج موجب لخروج النكاح بالملك والتحليل إذ لا يسمى واحد منهما زوجا ، ويدل على ذلك قوله تعالى «فَإِنْ طَلَّقَها» والنكاح بملك اليمين أو التحليل لا طلاق فيه.

ومن الأخبار الدالة على ذلك بالنسبة إلى ملك اليمين ما رواه في التهذيب (2) عن الفضيل عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «سألته عن رجل زوج عبده أمته ثم طلقها تطليقتين ، أيراجعها إن أراد مولاها؟ قال : لا ، قلت : أفرأيت أن وطأها مولاها أيحل للعبد أن يراجعها؟ قال : لا ، حتى تزوج زوجا غيره ويدخل بها فيكون نكاحا مثل نكاح الأول ، وإن كان قد طلقها واحدة فأراد مولاها راجعها».

والتقريب فيها أن الأمة تحرم بتطليقتين ولا تحل إلا بالمحلل ، وقد منع عليه‌السلام نكاح المولى أن يكون تحليلا موجبا لجواز مراجعة الزوج الأول لها ، وأوجب زوجا غيره مثل التزويج الأول ، ونحوها أيضا رواية عبد الملك بن أعين. (3)

واحترزنا بالدائم عن نكاح المتعة ، فإنه لا يحصل به تحليل اتفاقا وفتوى ،

__________________

(1) سورة البقرة ـ آية 230.

(2) التهذيب ج 8 ص 87 ح 217 ، الوسائل ج 15 ص 397 ب 27 ح 2.

(3) وهي ما رواه في التهذيب عن عبد الملك بن أعين قال : «سألته عن رجل زوج جاريته رجلا فمكثت معه ما شاء الله ثم طلقها ورجعت الى مولاها فوطأها ، أتحل لزوجها إذا أراد أن يراجعها؟ قال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره». وهي محمولة على ما إذا كان الطلاق مرتين ، لان الطلاق مرة لا يوجب التحريم كما صرحت به الرواية المذكورة في الأصل. (منه ـ قدس‌سره ـ).


ومن الأخبار في ذلك ما رواه في الكافي (1) في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام «قال سألته عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، ثم تمتع منها رجل آخر ، هل تحل للأول؟ قال : لا».

وعن الصيقل (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره فتزوجها رجل متعة ، أيحل له أن ينكحها؟ قال : لا ، حتى تدخل في مثل ما خرجت منه».

أقول : وفي هذا الخبر دلالة على عدم التحليل بشي‌ء من الثلاثة المذكورين فإن الذي خرجت منه إنما هو النكاح بالعقد الدائم ، وهو الذي حصل به التحريم بالتكرر ثلاث مرات ، فلا بد في المحلل الذي تدخل فيه أن يكون كذلك ، فلا يجزي نكاح الملك ولا التحليل ولا المتعة ، وهو ظاهر.

وما رواه الشيخ في التهذيب (3) عن الصيقل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فيتزوجها رجل متعة ، أتحل للأول؟ قال : لا ، لأن الله تعالى يقول «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها» والمتعة ليس فيها طلاق».

أقول : ومن هذا الخبر أيضا يستفاد عدم التحليل بملك اليمين والتحليل ، إذ لا طلاق في شي‌ء منهما كما عرفت.

وعن هشام بن سالم (4) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل تزوج امرأة ثم طلقها فبانت فتزوجها رجل آخر متعة ، هل تحل لزوجها الأول؟ قال : لا ، حتى تدخل فيما خرجت منه». والتقريب فيها كما تقدم في رواية الصيقل الاولى.

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 425 ح 1 ، الوسائل ج 15 ص 368 ب 9 ح 2 وفيهما «تمتع فيها».

(2) الكافي ج 5 ص 425 ح 2 ، الوسائل ج 15 ص 368 ب 9 ح 1 وفيهما اختلاف يسير.

(3 و 4) التهذيب ج 8 ص 34 ح 22 و 21 ، الوسائل ج 15 ص 369 ب 9 ح 4 و 3.

(4) التهذيب ج 8 ص 34 ح 21 ، الوسائل ج 15 ص 369 ب 9 ح 3.


وعن عمار بن موسى (1) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته تطليقتين للعدة ، ثم تزوجت متعة ، هل تحل لزوجها الأول؟ قال : لا : حتى تزوج ثباتا».

أقول : وفي هذا الخبر دلالة على ما ذكرناه من الشرط المذكور الموجب لخروج الثلاثة المذكورة ، فإن ثباتا إما بالثاء المثلثة ثم الباء الموحدة ثم التاء المثناة من فوق ، أو بالباء الموحدة أولا ثم بالتائين المثناتين من فوق من البت بمعنى اللزوم ، والمعنيان متقاربان ، وهما كناية عن العقد الدائم كما وقع التعبير به في غير هذا الخبر أيضا.

ومن أخبار المسألة زيادة على ما ذكر ما رواه في الكافي (2) عن إسحاق بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فتزوجها عبد ثم طلقها ، هل يهدم الطلاق؟ قال : نعم ، لقول الله تعالى في كتابه «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» وقال : هو أحد الأزواج». وفي الخبر دلالة على التحليل بتزويج العبد كالحر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن التحليل المذكور إذا استكمل الشرائط المذكورة فإنه لا خلاف في هدمه الثلاث الطلقات إذا وقع بعدها ، وإنما الخلاف في هدمه ما دون الثلاث ، بمعنى أنه إذا طلق الزوجة طلقة واحدة أو طلقتين ثم خرجت من العدة فتزوجت بغيره تزويجا مشتملا على شروط التحليل المتقدمة ثم طلقها أو مات عنها ثم رجعت إلى الزوج الأول بعقد جديد ، فهل تبقى معه على ثلاث تطليقات ، بمعنى أن هذا التزويج قد هدم الطلاق الأول فكأنه لم يطلقها بالكلية ولا يحسب تلك الطلقة أو الطلقتان؟ أو أنها تبقى معه على ما بقي من الثلاث ،

__________________

(1) التهذيب ج 8 ص 33 ح 20 ، الوسائل ج 15 ص 364 ب 6 ح 5 وفيهما «بتاتا» مع اختلاف يسير.

(2) الكافي ج 5 ص 425 ح 3 ، الوسائل ج 15 ص 370 ب 12 ح 1 وفيهما اختلاف يسير.


بمعنى أن التزويج الثاني لم يهدم الطلاق الأول فتبقى بعد عودها إلى الأول على واحدة أو اثنتين؟ قولان ، المشهور الأول ، وقيل بالثاني ، إلا أن القائل به غير معلوم ، وإنما نقله الشيخ في الخلاف عن بعض أصحابنا المتأخرين ، وهو الظاهر عندي من الأخبار كما ستمر بك إن شاء الله تعالى واضحة المنار ساطعة الأنوار.

والذي يدل على القول المشهور ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (1) عن رفاعة في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته حتى بانت منه وانقضت عدتها ثم تزوجت زوجا آخر فطلقها أيضا ثم تزوجها زوجها الأول ، أيهدم ذلك الطلاق الأول؟ قال : نعم».

ورواها الشيخ في التهذيب (2) بسند فيه ضعف عن رفاعة بن موسى قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل طلق امرأته تطليقة واحدة فتبين منه ثم يتزوجها آخر فيطلقها على السنة فتبين منه ثم يتزوجها الأول ، على كم هي عنده؟ قال : على غير شي‌ء. ثم قال : يا رفاعة كيف إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجها ثانية استقبل الطلاق ، فإذا طلقها واحدة كانت على اثنتين».

وما رواه في التهذيب (3) عن عبد الله بن عقيل بن أبي طالب عليه‌السلام في الضعيف قال : «اختلف رجلان في قضية إلى علي عليه‌السلام وعمر في امرأة طلقها زوجها تطليقة أو اثنتين ، فتزوجها آخر فطلقها أو مات عنها ، فلما انقضت عدتها تزوجها الأول ، فقال عمر : هي منك على ما بقي من الطلاق. وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : سبحان الله أيهدم ثلاثا ولا يهدم واحدة».

وأما ما يدل على القول الآخر فظاهر الآية وهي قوله تعالى «فَإِنْ طَلَّقَها

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 77 ح 3 ، التهذيب ج 8 ص 30 ح 7 ، الوسائل ج 15 ص 363 ب 6 ح 1.

(2) التهذيب ج 8 ص 31 ح 11 ، الوسائل ج 15 ص 363 ب 6 ح 1.

(3) التهذيب ج 8 ص 34 ح 25 ، الوسائل ج 15 ص 363 ب 6 ح 3 وفيهما اختلاف يسير.


فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» فإن المراد من الآية كما ذكره المفسرون وبه وردت الأخبار أنه إذا طلقها الثالثة ، وهو أعم من أن يتحلل ذلك نكاح زوج غيره أم لا ، إذ المدار في التحريم المتوقف حله على المحلل هو حصول الطلقات الثلاث مطلقا ، وبه أخبار صحاح صراح متكاثرة.

ومنها ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن وفي التهذيب (1) في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته تطليقة واحدة ثم تركها حتى قضت عدتها ثم تزوجها رجل غيره ثم إن الرجل مات أو طلقها فراجعها الأول ، قال : هي عنده على تطليقتين باقيتين».

وما رواه في الكافي (2) عن علي بن مهزيار في الصحيح قال : «كتب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : روى بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يطلق امرأته على الكتاب والسنة فتبين منه بواحدة فتزوج زوجا غيره فيموت عنها أو يطلقها فترجع إلى زوجها الأول ، أنها تكون عنده على تطليقتين وواحدة قد مضت ، فوقع عليه‌السلام تحته : صدقوا. وروى بعضهم أنها تكون عنده على ثلاث مستقبلات ، وأن تلك التي طلقها ليست بشي‌ء لأنها قد تزوجت زوجا غيره ، فوقع عليه‌السلام بخطه : لا».

وما رواه الشيخ (3) عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن أحمد عن عبد الله بن محمد قال : «قلت له : روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يطلق امرأته على الكتاب والسنة فتبين منه بواحدة وتزوج زوجا غيره فيموت عنها أو يطلقها فترجع إلى زوجها الأول أنها تكون عنده على تطليقتين وواحدة قد مضت ، فقال : صدقوا».

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 426 ح 5 ، التهذيب ج 8 ص 32 ح 12 ، الوسائل ج 15 ص 364 ب 6 ح 6 وما في المصادر اختلاف يسير.

(2) الكافي ج 5 ص 426 ح 6 ، الوسائل ج 15 ص 364 ب 6 ح 7 و 8 وفيهما اختلاف يسير.

(3) التهذيب ج 8 ص 32 ح 16 ، الوسائل ج 15 ص 364 ب 6 ح 7 وفيهما اختلاف يسير.


وما رواه الشيخ (1) في الصحيح عن منصور عن أبي عبد الله عليه‌السلام في امرأة طلقها زوجها واحدة أو اثنتين ثم تركها حتى تمضي عدتها فتزوجها غيره فيموت أو يطلقها فيتزوجها الأول ، قال : هي عنده على ما بقي من الطلاق».

ورواه أيضا بسند آخر في الصحيح عن ابن مسكان عن محمد الحلبي (2) عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله.

وعن جميل بن دراج (3) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة فتزوجت ثم يطلقها فتزوجها الأول ثم طلقها فتزوجت رجلا ثم طلقها ، فإذا طلقها على هذا ثلاثا لم تحل له أبدا».

ونحو روى إبراهيم بن عبد الحميد (4) عن الحسن عليه‌السلام وفي بعض متون هذا الخبر وهو الذي نقله في المسالك عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام وإبراهيم بن عبد الحميد عن الكاظم عليه‌السلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة فتزوجت ثم طلقها زوجها فتزوجها الأول ثم طلقها فتزوجت رجلا ، ثم طلقها هكذا ثلاثا لا تحل له أبدا».

والتقريب في هذا الخبر أنه لو هدم الزوج المتوسط الطلاق الذي تقدم من الزوج الأول لكان إذا طلقها على الوجه المذكور في الخبر تحل له أبدا لعدم الموجب للتحريم. والظاهر أن المراد بقوله «لم تحل له أبدا» يعني حتى تنكح زوجا غيره.

وما رواه الشيخ (5) عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن موسى بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «أن عليا عليه‌السلام كان يقول في الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم يتزوجها بعد زوج : إنها عنده على ما بقي من طلاقها». وليس في سند هذا

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 8 ص 32 ح 13 و 14، الوسائل ج 15 ص 365 ب 6 ح 9.

(3 و 4) الكافي ج 5 ص 428 ح 13 و 7.

(5) التهذيب ج 8 ص 32 ح 15 ، الوسائل ج 15 ص 365 ب 6 ح 10 وفيهما «موسى بن بكر».


الخبر من يتوقف في شأنه إلا موسى بن بكير ، فإنه قيل : إنه واقفي إلا أنه من أصحاب الأصول ، والراوي عنه صفوان الذي قد نقل فيه إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، فالرواية لا يخلو من الاعتبار في سندها.

وما رواه أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن النصر عن عاصم عن محمد بن قيس (1) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته تطليقة ثم نكحت بعده رجلا غيره ثم طلقها فنكحت زوجها الأول ، فقال : هي عنده على تطليقة».

هذا ما حضرني من روايات هذا القول ولا يخفى على الناقد البصير ضعف معارضة روايتي القول المشهور لهذه الأخبار ، بل التحقيق أنه ليس للقول المشهور إلا رواية رفاعة ، لأن رواية عبد الله بن عقيل لم تستند إلى إمام ، وإنما استندت إليه ، فهي ليست بدليل شرعي ، ولا سيما مع معارضتها برواية الباقر عليه‌السلام عن علي عليه‌السلام خلاف ما دلت عليه كما عرفت ، فلم يبق إلا رواية رفاعة ، والعمدة في ترجيحها إنما هو شهرة القول بها ، فانحصر الدليل في الشهرة ، ولهذا أن جملة من المتأخرين قد ترددوا في المسألة ، واستشكلوا فيها من حيث صحة أخبار القول الثاني وتكاثرها ومن حيث شهرة القول الأول حيث لم يظهر له مخالف منهم ، ومنهم العلامة في التحرير والسيد السند في شرح النافع والفاضل الخراساني في الكفاية ، ونسبه المحقق في كتابيه إلى أشهر الروايتين ، ومثله العلامة في القواعد والإرشاد إيذانا بالتوقف فيه.

والشيخ قد أجاب عما نقله من أدلة هذا القول بوجوه : (منها) أن الزوج الثاني لم يدخل بها ، أو كان تزوج متعة ، أو لم يكن بالغا ، فإن في جميع هذه المواضع لا يحصل التحليل كما تقدم ذكره ، أو الحمل على التقية محتجا بأنه مذهب عمر كما دلت عليه رواية عبد الله بن عقيل ، ولا يخفى بعد الجميع.

قال السيد السند في شرح النافع بعد ذكر محامل الشيخ : ولا يخفى بعد

__________________

(1) البحار ج 104 ص 69 ح 10 ، الوسائل ج 15 ص 365 ب 6 ح 11.


هذه المحامل ، والمسألة محل تردد ، والقول بعدم الهدم لا يخلو من قوة ، إلا أن المشهور خلافه ، ومن ثم اقتصر المصنف على جعل رواية الهدم أشهر مؤذنا بتوقفه فيه وهو في محله ، انتهى.

وقال جده في المسالك بعد ذكر جملة من أدلة هذا القول : ولا يخفى عليك قوة دليل هذا الجانب لضعف مقابله ، إلا أن عمل الأصحاب عليه ، فلا سبيل إلى الخروج عنه ـ ثم نقل محامل الشيخ الثلاثة الأول ، وقال عقيبها : ـ وما أشبه هذا الحمل بأصل الحجة.

أقول : لا يخفى عليك ما في التمسك بعمل الأصحاب في مقابلة هذه الأخبار الصحاح الصراح المستفيضة من المجازفة ، فإنه لا ريب أن المأخوذ على الفقيه في الفتوى بالأحكام الشرعية إنما هو الأخذ بما أنزل الله سبحانه مما ورد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة. ولا سيما الخبر المستفيض من الخاصة والعامة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما». لا ما ذكره غير ، من العلماء وإن ادعوا الإجماع عليه.

وبذلك اعترف هو نفسه ـ رحمة الله عليه ـ في مسألة ما لو أوصى له بأبيه فقبل الوصية من كتاب الوصايا ، وقد قدمنا كلامه في كتاب الوصايا إلا أنه لا بأس بنقل ملخصه هنا.

قال ـ رحمة الله عليه ـ : ولا يقدح دعواه الإجماع في فتوى العلامة بخلافه ، لأن الحق أن إجماع أصحابنا إنما يكون حجة مع تحقق دخول قول المعصومين عليهم‌السلام في جملة قولهم ـ إلى أن قال : ـ وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا فيها الإجماع إذا قام عنده الدليل

__________________

(1) الكافي ج 1 ص 19 ح 9 ، الوسائل ج 18 ص 151 ب 13 ح 77 وص 19 ب 5 ح 9 ، مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 14 و 17 وما في المصادر اختلاف يسير.


على ما يقتضي خلافهم ، وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ، لكن زلة المتقدم متسامحة عند الناس دون المتأخرين ، انتهى.

فانظر إلى ما بينه وبين هذا الكلام المنحل الزمام من الغفلة مما حققه في ذلك المقام ، الذي هو الحقيق بالأخذ به والالتزام ، ثم إنا لو نزلنا عن القول بمقتضى قواعدهم من أنه لا يجمع بين الأخبار إلا بعد تحقق المعارض بينها ، وقلنا بثبوت التعارض بين روايات القول الآخر وموثقة رفاعة ، فالواجب الرجوع إلى طرق الترجيح الواردة في مقبولة عمر بن حنظلة (1) ورواية زرارة ونحوهما ، ومن الطرق المذكورة الترجيح بالأعدل والأفقه والأورع.

(ومنها) الترجيح بالشهرة ، ولا ريب في حصول الترجيح بهاتين الطريقتين لروايات القول الآخر (2) دون رواية رفاعة ، فإن روايات عدم الهدم قد رواها كثير من فقهاء أصحابهم عليهم‌السلام كزرارة وعلي بن مهزيار ومنصور بن حازم وجميل بن دراج وعبد الله بن علي بن أبي شعبة وأخيه محمد ، فتكون روايات عدم الهدم بذلك أشهر رواية وأعدل وأفقه وأورع رواة والمراد بالشهرة التي هي أخذ طرق الترجيح إنما هي الشهرة في الرواية ، لا العمل كما حقق في محله ، وكذا المجمع عليه ، وهو حاصل لروايات عدم الهدم خاصة.

وبالجملة فالترجيح بهاتين الطريقتين مما لا إشكال في اختصاصه بالروايات المذكورة.

(ومنها) الترجيح بموافقة الكتاب ، وهو أيضا مخصوص برواية عدم الهدم

__________________

(1) الكافي ج 1 ص 67 ح 10 ، الوسائل ج 18 ص 75 ب 9 ح 1.

(2) ومقتضاها هو طرح رواية رفاعة بالكلية لعدم نهوضها بالمعارضة سندا وعددا ، إلا أنا لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بمعارضتها فلنا أن نقول أيضا ما عرفت في الأصل.

(منه ـ قدس‌سره ـ).


بالتقريب الذي قدمناه ، وقد استفاضت الأخبار بالرد إلى الكتاب (1) ، وأن ما خالف كتاب الله زخرف.

(ومنها) الترجيح بالاحتياط كما تضمنته مرفوعة زرارة (2) وهو أيضا مخصوص بالرواية المذكورة.

(ومنها أيضا) الأخذ بقول الأخير من الإمامين عليهما‌السلام (3). وهذه القاعدة ذكرها الصدوق في كتابه ، وهو أيضا حاصل الروايات المذكورة.

وبيانه : أن صحيح علي بن مهزيار قد اشتمل على عرض القولين المذكورين على أبي الحسن الهادي عليه‌السلام فصدق روايات القول الآخر ، وبقي روايات القول المشهور.

أما الترجيح بالتقية فهو أقوى ما يمكن أن يتمسك به لترجيح خبر رفاعة.

وفيه (أولا) أنه مبني على ثبوت ذلك ، وهو غير معلوم ، فإن المستند بكونه حكم عمر إنما هو رواية عبد الله بن عقيل ، وهي غير مستندة إلى الامام عليه‌السلام

__________________

(1) الكافي ج 1 ص 69 ، الوسائل ج 18 ص 75 ب 9.

(2) مستدرك الوسائل ج 3 ص 185 ب 9 ح 2 من أبواب صفات القاضي.

(3) ومن أخبار هذه القاعدة ما رواه في الكافي عن الحسين بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «لو حدثتك بحديث العام ، ثم جئتني من قابل فحدثتك ، بأيهما كنت تأخذ؟ قال : قلت : كنت آخذ بالأخير ، فقال لي : رحمك الله».

وعن المعلى بن خنيس عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما آخذ؟ فقال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال : ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : انا والله لا ندخلكم الا فيما يسعكم».

والصدوق ـ رحمة الله عليه ـ أشار الى هذه القاعدة في باب الرجل يوصى لرجلين حيث نقل فيه خبرين يتوهم أنهما مختلفان فقال : ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق عليه‌السلام. (منه ـ قدس‌سره ـ).


بل المخبر بذلك إنما هو عبد الله المذكور ، وقوله ليس بحجة شرعية ، سيما مع معارضة خبر زرارة الدالة على أن عليا عليه‌السلام كان يقول إنها على ما بقي من الطلاق ، وهي صريحة في أن مذهب علي عليه‌السلام هو القول بعدم الهدم ، والراوي عنه ابنه الباقر عليه‌السلام ، ولا تعارضه رواية عبد الله بن عقيل عنه عليه‌السلام خلافه.

(وثانيا) أن العامة مختلفون في المسألة أيضا على ما نقله الشيخ في الخلاف (1) ، والقول بالهدم منقول عن أبي حنيفة وأبي يوسف وابن عمر ، وليس حمل أخبار عدم الهدم على التقية كما ذكره الشيخ بأولى من حمل رواية رفاعة الشاذة النادرة عليه ، سيما مع ما علم من كتب السير والتواريخ من شيوع مذهب أبي حنيفة في زمانه وقوته ، وهو في عصر الصادق عليه‌السلام المروي عنه القول بالهدم ، وحينئذ فلا يبعد حمل رواية رفاعة الدالة على الهدم على التقية.

ويؤيده أن المنقول في كتب السير والأخبار أن شهرة هذه المذاهب الأربعة إنما كان قريبا من سنة خمس وستين وستمائة ، واستمر الأمر إلى هذا الزمان وأما في الأعصار السابقة فإن المعتمد في كل زمان على من اعتنت به خلفاء الجور وقدموه للقضاء والفتيا وإليه يرجع الحكم في جميع البلدان ، وكان المعتمد في زمن أبي حنيفة على فتاويه ، وفي زمن هارون الرشيد وهو في عصر مولانا الكاظم عليه‌السلام على فتاوي أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة ، قالوا : قد استقضاه الرشيد واعتنى به حتى لم يقلد في بلاد العراق والشام ومصر إلا من أشار إليه أبو يوسف ، وفي زمن المأمون كان الاعتماد على يحيى بن أكثم القاضي ، وفي زمن المعتصم على أحمد ابن أبي داود القاضي ، وإذا كان الأمر كذلك فيجوز أن يكون المشهور في عصر مولانا الصادق عليه‌السلام الذي عليه عمل العامة ، وإليه ميل قضاتهم وحكامهم هو القول بالهدم بل هو الواقع ، لأن اعتماد العامة في وقت الصادق عليه‌السلام كان على أبي حنيفة القائل بالهدم ، فالتقية منه لشيوع مذهبه في تلك الأيام ، وإن كان نادرا في وقت

__________________

(1) الخلاف : ج 3 كتاب الطلاق «مسألة 59».


آخر ، وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه.

(وثالثا) أنه من الممكن عدم الترجيح هنا بهذه القاعدة ـ أعني التقية وعدمها ـ فإن طرق الترجيح التي اشتملت عليها مقبولة عمر بن حنظلة مترتبة ، فأولها الترجيح بالأعدل والأفقه والأورع ، ثم بعدها الترجيح بالأشهر والمجمع عليه ، ثم الترجيح بمخالفة العامة ، فالترجيح بمخالفة العامة إنما وقع في المرتبة الثالثة وهو لا يصار إليه إلا مع تعذر الترجيح بما قبله من المراتب.

وقد عرفت أن الترجيح بالمرتبتين الأولتين حاصل لروايات عدم الهدم ، وحينئذ فلا يصار إلى الترجيح بالتقية. فإن قلت : إن جملة من الأخبار قد دلت على الترجيح بمخالفة العامة مطلقا ، قلنا : يجب تقييد ما أطلق بما دلت عليه هذه الأخبار الناصة على الترتيب بين هذه المراتب.

وكيف كان فقد ظهر لك مما حققناه في المقام بما لم يسبق إليه سابق من علمائنا الأعلام قوة القول بأخبار عدم الهدم ، وأنه هو الذي لا يحوم حوله نقض ولا إبرام.

مسائل

الاولى : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في حصول التحليل بالذمي كالمسلم إذ لم يذكر أحد منهم أن الإسلام شرط في المحلل ، ولا طلاق الآية ، وهي قوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» فلو طلق الذمية ثلاثا فتزوجت بعده ذميا ثم بانت منه وأسلمت أو جوزنا نكاح الكتابية ابتداء جاز للأول نكاحها ، ويتصور طلاق المسلم للذمية ثلاثا على تقدير أن رجوعه في طلاقها في العدة ليس ابتداء نكاح فلا يمنع منه ، أو على القول بجواز نكاحها ابتداء ، أو على تقدير طلاقها مرتين في حال كفرهما ، ووقوع الثالثة بعد إسلام الزوج دونها ، فإذا تزوجت ذميا أفاد التحليل لزوجها المسلم إذا أسلمت أو قلنا بجواز نكاحها ابتداء للمسلم.

وقالوا : وكذا لو كان الزوج كافرا أو ترافعوا إلينا حكمنا بحلها له سواء


كان ذميا أم لا ، وكذا لو أسلم الزوج وقد حللها كافر مثلها ، لأن أنكحة الكفار مقرة على حالها كما تقدم في بابه.

الثانية : لا خلاف بين أصحابنا في أن الاعتبار بالتحريم الموجب للمحلل وكون التحريم يحصل بثلاث أو اثنين إنما هو بالنسبة إلى المرأة دون الزوج ، بمعنى أنه لو كان تحته امرأة حرة واستحكمت ثلاث طلقات فإنها لا تحل له إلا بمحلل سواء كان الزوج حرا أو مملوكا ، ولو كان تحته أمة واستكملت اثنين حرمت حتى تنكح زوجا غيره سواء كان زوجها حرا أو مملوكا ، وخالفنا العامة في ذلك ، فجعلوا الاعتبار بحال الزوج ، فإذا كان حرا اعتبر في التحريم الثلاث سواء كان تحته أمة أو حرة ، وإن كان الزوج عبدا اعتبر طلقتان وإن كان تحته حرة ، ومظهر الخلاف في الحر تحته الأمة ، وبالعكس ، وإلا فلا خلاف فيما إذا كان حرا تحته حرة ، أو مملوكا تحته مملوكة للاتفاق على الثلاث في الاولى والاثنتين في الثانية.

وتدل على ما ذهب إليه الأصحاب الأخبار المتكاثرة ، ومنها ما رواه في الكافي (1) في الصحيح عن عيص بن القاسم قال : «إن ابن شبرمة قال : الطلاق للرجل فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : الطلاق للنساء ، وبيان ذلك : أن العبد تكون تحته الحرة فيكون تطليقها ثلاثا ، ويكون الحر تحته الأمة ، فيكون طلاقها تطليقتين».

وعن زرارة (2) عن أبي جعفر عليه‌السلام في الصحيح قال : «سألته عن حر تحته أمة أو عبد تحته حرة ، كم طلاقهما وكم عدتهما؟ فقال : السنة في النساء في الطلاق فإن كانت حرة فطلاقها ثلاثا ، وعدتها ثلاثة قروء ، وإن كان حرا تحته أمة فطلاقها تطليقتان وعدتها قرءان».

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 167 ح 3 ، الوسائل ج 15 ص 391 ب 24 ح 1 وفيهما «وتبيان ذلك».

(2) الكافي ج 6 ص 167 ح 1 ، الوسائل ج 15 ص 469 ب 40 ح 1 وفيهما اختلاف يسير.


وعن عبد الله بن سنان (1) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «طلاق المملوك للحرة ثلاث تطليقات ، وطلاق الحر للأمة تطليقتان».

وما رواه في الفقيه (2) عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : إذا كانت الحرة تحت العبد كم يطلقها؟ فقال : قال علي عليه‌السلام : الطلاق والعدة بالنساء». إلى غير ذلك من الأخبار.

الثالثة : قد عرفت أن الأمة تحرم بتطليقتين ، ولا تحل لزوجها الأول إلا بمحلل مستجمع للشرائط المتقدمة ، وهنا مواضع ثلاثة ، ربما كانت مظنة للشبهة ، إلا أنها قد انكشفت عنها بالأخبار الدالة على اندراجها في القاعدة المذكورة.

الأول : ما لو كانت تحته أمة فطلقها تطليقتين ثم إنه اشتراها ، فمقتضى القاعدة المتقدمة عدم جواز نكاحه لها حتى تزوج زوجا آخر متصفا بصفات التحليل.

وعلى ذلك يدل ما رواه الشيخ (3) عن بريد بن معاوية العجلي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الأمة يطلقها تطليقتين ، ثم يشتريها. قال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره».

وما رواه في الكافي (4) عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل حر كانت تحته أمة فطلقها طلاقا بائنا ثم اشتراها ، هل يحل له أن يطأها؟ قال : لا».

وعن بريد العجلي (5) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه قال في رجل تحته أمة

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 167 ح 4 ، الوسائل ج 15 ص 394 ب 25 ح 7.

(2) الفقيه ج 3 ص 351 ح 5 ، الوسائل ج 15 ص 393 ب 25 ح 1.

(3) التهذيب ج 8 ص 84 ح 204 ، الوسائل ج 15 ص 395 ب 26 ح 3.

(4) الكافي ج 6 ص 173 ح 2 ، التهذيب ج 8 ص 84 ح 207 ، الوسائل ج 15 ص 395 ب 26 ح 5.

(5) الكافي ج 6 ص 173 ح 4 ، التهذيب ج 8 ص 85 ح 209 ، الوسائل ج 15 ص 396 ب 26 ح 6.


فطلقها تطليقتين ثم اشتراها ، قال : لا يصلح له أن ينكحها حتى تزوج زوجا غيره ، وحتى تدخل في مثل ما خرجت منه».

وعن سماعة (1) في الموثق قال : «سألته عن رجل تزوج امرأة مملوكة ثم طلقها ثم اشتراها بعده ، هل تحل له؟ قال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره».

أقول : المراد طلاقا بائنا بالمرتين لأنه هو الذي يترتب عليه التحريم.

وأما ما رواه الشيخ (2) عن أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل كانت تحته أمة فطلقها طلاقا بائنا ثم اشتراها بعد ، قال : يحل له فرجها من أجل شراها ، والحر والعبد في هذه المنزلة سواء».

وقال الكليني بعد ذكر حديث الحلبي (3) المتقدم : قال ابن أبي عمير : وفي حديث آخر «حل له فرجها من أجل شرائها ، والحر والعبد في ذلك سواء».

ويظهر من ابن الجنيد القول بمضمون هذا الخبر على ما نقله في المسالك ، فقد أجاب الشيخ عنه في كتابي الأخبار بحمل البينونة على الخروج من العدة لا البينونة بطلقتين وقيد إباحة الفرج بالشراء بما إذا تزوجت زوجا آخر واعترض عليه ببعد هذه التأويلات. ومال في الوافي (4) إلى حمل الأخبار الأخيرة على الرخصة وإن كان على كراهية.

والأقرب حمل الخبر المجوز على التقية كما يشير إليه ما رواه الشيخ (5) في الصحيح عن عبد الله بن سنان قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كانت تحته أمة فطلقها

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 173 ح 3 ، التهذيب ج 8 ص 85 ح 208 ، الوسائل ج 15 ص 396 ب 26 ح 7.

(2) التهذيب ج 8 ص 85 ح 210 ، الوسائل ج 15 ص 395 ب 26 ح 4 وفيهما «شرائها».

(3) الكافي ج 6 ص 173 ح 2 ، الوسائل ج 15 ص 396 ب 26 ح 8.

(4) الوافي ج 3 ص 164.

(5) التهذيب ج 8 ص 83 ح 203 ، الوسائل ج 15 ص 395 ب 26 ح 1 وفيهما اختلاف يسير.


على السنة فبانت منه ثم اشتراها بعد ذلك قبل أن تنكح زوجا غيره ، قال : أليس قد قضى علي عليه‌السلام في هذا؟ أحلتها آية وحرمتها آية ، وأنا أنهى عنها نفسي وولدي».

ورواه الكليني (1) عن عبد الله بن سنان نحوه ، والنهي الذي نسبه إلى نفسه وولده حقيقة في التحريم.

وأما ما زعمه في الوافي من حمل الخبر المذكور على ما قدمنا نقله عنه من الجواز على كراهة فإنه في غاية البعد ، فإن مقتضى القاعدة كما عرفت هو التحريم مع تأيدها بالأخبار المتقدمة.

ومما يدلك على أن المراد بهذه العبارة إنما هو التحريم ما رواه الشيخ في التهذيب (2) عن معمر بن يحيى بن بسام قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عما يروي الناس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن أشياء من الفروج لم يكن يأمر بها ولا ينهى عنها إلا نفسه وولده ، فقلنا : كيف ذلك؟ قال : أحلتها آية وحرمتها آية أخرى. قلنا : هل تكون إحداهما نسخت الأخرى؟ أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ قال : قد بين لهم إذ نهى نفسه وولده ، فقلنا : ما منعه أن يبين للناس؟ قال : خشي أن لا يطاع : فلو أن أمير المؤمنين عليه‌السلام ثبت قدماه أقام كتاب الله كله ، والحق كله». وروى ذلك علي بن جعفر في كتابه (3) نحوه.

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 173 ح 1 وفيه اختلاف يسير.

(2) التهذيب ج 7 ص 463 ح 64 ، الوسائل ج 14 ص 301 ب 8 ح 8.

(3) أقول : وهو ما رواه في كتابه عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : «سألته عن الاختلاف في القضاء عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في أشياء من الفروج أنه لم يأمر بها ولم ينه عنها الا أنه نهى نفسه وولده ، فقلت : فكيف يكون ذلك؟ قال : أحلتها آية وحرمتها آية ، قلت : هل يصلح أن تكون أحدهما منسوخة؟ أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ قال : قد بين إذ نهى نفسه وولده ، قلت : فما منعه أن يبين للناس؟ قال : خشي أن لا يطاع ، ولو أن أمير المؤمنين عليه‌السلام ثبتت قدماه أقام كتاب الله كله» الحديث. الى آخره. (منه ـ رحمه‌الله ـ).


الثاني : ما لو طلقت الأمة تطليقتين ثم وطأها المالك فإنها لا تحل لزوجها إلا بالتزويج ثانيا بشروط التحليل ، وبذلك صرح الأصحاب أيضا.

وتدل على ذلك رواية الفضيل (1) المتقدمة في الشرط الخامس من شروط التحليل.

ونحوها رواية عبد الملك بن أعين (2) قال : «سألته عن رجل زوج جاريته رجلا فمكثت معه ما شاء الله ، ثم طلقها فرجعت إلى مولاها فوطأها ، أتحل لزوجها إذ أراد أن يراجعها؟ فقال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره».

ونحوه ما رواه أحمد بن محمد بن عيسى (3) في نوادره عن الحلبي في الصحيح ، وإطلاق الطلاق محمول على المرتين ، لأنه هو الموجب للمحلل كما صرحت به رواية الفضيل المذكورة.

الثالث : ما لو أعتقت الأمة بعد الطلاق مرتين أو أعتق زوجها أو هما معا ، فإن العتق لا يهدم الطلاق ، وكذا لو عتقت بعد تطليقة واحدة ، فإنها تكون عنده على تطليقة أخرى.

ويدل عليه ما رواه الشيخ (4) عن رفاعة في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العبد والأمة يطلقها تطليقتين ثم يعتقان جميعا ، هل يراجعها؟ قال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره فتبين منه».

وعن محمد بن مسلم (5) في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «المملوك إذا كانت تحته مملوكة فطلقها ثم أعتقها صاحبها كانت عنده على واحدة».

وعن الحلبي (6) في الصحيح قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام في العبد تكون تحته

__________________

(1) التهذيب ج 8 ص 87 ح 217 ، الوسائل ج 15 ص 397 ب 27 ح 2.

(2) التهذيب ج 8 ص 84 ح 205 ، الوسائل ج 15 ص 396 ب 27 ح 1.

(3) الوسائل ج 15 ص 397 ب 27 ح 3.

(4 و 5 و 6) التهذيب ج 8 ص 87 ح 216 وص 86 ح 211 و 212 ، الوسائل ج 15 ص 397 ب 28 ح 1 وص 398 ب 28 ح 2 و 3.


الأمة فيطلقها تطليقة ثم أعتقا جميعا ، كانت عنده على تطليقة واحدة».

ورواه الصدوق (1) بإسناده عن حماد عن الحلبي نحوه.

وعن هشام بن سالم (2) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ذكر أن العبد إذا كان تحته الأمة فطلقها تطليقة فأعتقا جميعا كانت عنده على تطليقة واحدة».

وما ذكرنا من الحكم المذكور هو المشهور. ونقل عن ابن الجنيد أنه ذهب إلى أن الأمة إذا أعتقت قبل وقوع الطلاق الثاني بها انتقل حكم طلاقها إلى حال الحرائر ، فلا تحرم إلا بالثالثة.

وأيده في المسالك بما وقع لهم في نظير هذه المسألة فيما ذكروه في نكاح المشركات إذا أسلم العبد وعنده أربع وأعتق ، وكذا في باب القسم بين الزوجات إذا أعتقت الأمة في أثناء القسم ، وملخص ذلك أنه متى كان العتق قبل استيفاء حق العبودية فإنه يلحق بالأحرار في الحكم ، والمسائل الثلاث مشتركة في ذلك ، فيتجه ما ذكره ابن الجنيد بناء على ذلك.

إلا أن فيه (أولا) أن ما ذكرناه من الأخبار المتكاثرة في هذه المسألة صريحة في رد هذا القول ودفعه.

(وثانيا) أن ما ذكروه في المسألتين المذكورتين ليس إلا مجرد تخريجات قد بنوا اختلافهم عليها في ذينك الموضعين ، ولهذا إنا لم نتعرض لذكر هاتين المسألتين فيما سلف لعدم النص مع كثرة الاختلاف والتخريجات المتدافعة. وبالجملة فالمعتمد هنا هو القول المشهور ، وهو المؤيد بالأخبار والمنصور.

الرابعة : المعروف من كلام الأصحاب وقوع التحليل من الخصي إذا وطأ بالشرائط المتقدمة. لأن التحليل معتبر فيه ما يعتبر في الجماع الموجب للغسل من إيلاج الحشفة أو قدرها من مقطوعها ، والخصاء غير مانع من ذلك ، فإن غاية ما يترتب عليه هو عدم

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 352 ح 13.

(2) التهذيب ج 8 ص 86 ح 213 ، الوسائل ج 15 ص 398 ب 28 ح 4 وفيهما اختلاف يسير.


الانزال خاصة ، حتى أن الشيخ أنكر كونه عيبا محتجا بأن الخصي يولج ويبالغ أكثر من الفحل وإنما لا ينزل ، وعدم الانزال ليس بعيب ، وقد تقدم الكلام معه في ذلك.

وبالجملة فالظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في الحكم المذكور ، إلا أنه قد روى الشيخ (1) في الصحيح عن صفوان عن محمد بن مضارب وهو مجهول في الرجال إلا أنه يفهم من بعض الأخبار (2) ما يؤذن بمدحه قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن الخصي يحلل؟ قال : لا يحلل». وردها المتأخرون بضعف الراوي ، ويمكن حملها على خصي لا يحصل منه الجماع على الوجه المعتبر ، وإلى العمل بالخبر المذكور مال في المسائل فقال : باب أن الخصي لا يحلل المطلقة ثلاثا ، ثم أورد الخبر المذكور ، وأردفه بخبر آخر رواه الشيخ أيضا عن صفوان عن محمد بن مضارب مثله إلا أن فيه «يحل ولا يحل» ولا يخفى ما فيه من الاشكال كما عرفت.

الخامسة : إذا ارتد المحلل بعد التزويج بها ، فإن كان بعد وطئها في القبل فلا إشكال في حصول التحليل حينئذ ، وإن كان قبله لم يحصل التحليل بالوطء في العدة ، لأنه بارتداده قد انفسخ العقد ، وإن بقي أثره بعوده إليها لو راجع في العدة بالعقد السابق ، ويتصور ثبوت العدة مع عدم الدخول قبلا ، بأن يكون قد وطأها في الدبر فإنه لا يكفي في التحليل كما تقدم ، ويوجب العدة عند الأصحاب ، وكذا لو خلا بها عند جمع منهم ، فإنها لا توجب التحليل وتوجب العدة.

وألحق ابن الجنيد بالخلوة التذاذه بما ينزل به الماء.

أما لو لم يحصل منه ما يوجب العدة من هذه الأمور المذكورة قبل الارتداد فإنها تبين منه ، ويصير في حكم الأجنبي لا أثر لوطئه بالكلية لانفساخ العقد بالردة

__________________

(1) التهذيب ج 8 ص 34 ح 23 ، الوسائل ج 15 ص 369 ب 10 ح 1 و 2.

(2) وهو ما رواه الشيخ عنه قال : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا محمد خذ هذه الجارية تخدمك وتصيب منها ، فإذا خرجت فارددها إلينا». قال شيخنا الشهيد الثاني في حواشيه على الخلاصة : وفيه تنبيه على حسن حاله ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).


وثبوت البينونة بذلك. وعلى هذا فهنا أقسام ثلاثة ، ثالثها الوطء في العدة زمان الردة ، وفائدته جواز الرجوع إليها في العدة لو رجع إلى الإسلام ، وجملة منهم لم يذكروا إلا القسمين الآخرين ، وهو أنه إن كانت الردة قبل الوطء انفسخ النكاح وصار وطء أجنبي لا يحلل قطعا وإن كان بعده حلت بالأول ، وأنت قد عرفت ثبوت قسم ثالث ، ويجري ما ذكر من الحكم في الزوجة أيضا لو كانت هي المرتدة فوطأها في زمان ردتها ثم رجعت إلى الإسلام.

السادسة : المفهوم من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف قبول قول المرأة في موت الزوج وعدمه ، وطلاقه لها والخروج من العدة. وعليه تدل ظواهر جملة من الأخبار ، ويؤيده أن من القواعد المقررة عندهم قبول قول من لا منازع له وبه تضافرت الأخبار في جزئيات الأحكام كما بسطنا الكلام عليه في كتاب الزكاة (1) وما نحن فيه من جملة أفرادها.

ومن أخبار القاعدة المذكورة ما رواه في الكافي والتهذيب (2) عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم كيس فيه ألف درهم فسأل بعضهم بعضا : ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم : لا ، وقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو؟ قال : هو الذي ادعاه».

ويؤيده أيضا أن الأخبار الواردة بإثبات الدعاوي بالبينات والأيمان لا عموم فيها على وجه يشمل ما نحن فيه ، وإنما موردها ما إذا كان النزاع بين خصمين مدع ومنكر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لو ادعت المرأة المطلقة ثلاثا أنها تزوجت وحللت

__________________

(1) الحدائق ج 12 ص 165.

(2) الكافي ج 7 ص 422 ح 5 ، التهذيب ج 6 ص 292 ح 17 ، الوسائل ج 18 ص 200 ب 17 ح 1 وما في المصادر اختلاف يسير.


نفسها لزوجها الأول ، فالمشهور قبول قولها ، وظاهر المحقق في الشرائع والنافع (1) التوقف في ذلك ، وإليه يميل كلام الفاضل الخراساني في كتاب الكفاية ، وأنت خبير بأن مقتضى القواعد المشار إليها هو قبول قولها.

ومن الأخبار الدالة على ذلك أيضا ما في رواية ميسر (2) وهي صحيحة إليه قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ألقى المرأة في الفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها : ألك زوج؟ فتقول : لا ، فأتزوجها؟ قال : نعم ، هي المصدقة على نفسها».

وفي رواية أبان بن تغلب (3) قال : «قلت لأبي عبد الله ع : إني أكون في بعض الطرقات فأرى المرأة الحسناء ، ولا آمن أن تكون ذات بعل أو من العواهر قال : ليس هذا عليك ، إنما عليك أن تصدقها في نفسها».

والتقريب فيهما ـ وإن كان موردهما نفي الزوج ـ هو حكمه عليه‌السلام بأنها المصدقة على نفسها الشامل لما نحن فيه ، فإن مقتضاه أن كل ما أخبرت به عن نفسها مما لا يعرف إلا من جهتها فإنها مصدقة فيه.

وبذلك يظهر لك ما في قول صاحب الكفاية ـ بعد إشارته للخبرين المذكورين ـ وللتأمل في عموم الروايتين بحيث يشمل محل البحث مجال. فإن ثبوت التعميم بالتقريب الذي ذكرناه مما لا مجال لإنكاره ، نعم يتم ما ذكره بالنظر إلى مورد الخبرين إلا أن الاعتبار إنما هو بجوابه عليه‌السلام الذي هو كالضابطة الكلية في أنها مصدقة على نفسها في كل ما لا يعلم إلا من جهتها.

قال في المسالك في تعليل القول المشهور : ولأنها مؤتمنة في انقضاء العدة

__________________

(1) حيث قال في الشرائع : ولو انقضت مدة فادعت أنها تزوجت وفارقها وقضت العدة في تلك المدة قيل : يقبل ، لأن في جملة ذلك ما لا يعلم الا منها ، وفي رواية إذا كانت ثقة صدقت. وقال في النافع : ولو ادعت أنها تزوجت ودخل وطلق فالمروي القبول إذا كانت ثقة. والعبارتان كما ترى ظاهرتان في ما ذكرناه. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(2 و 3) الكافي ج 5 ص 462 ح 2 و 1، الوسائل ج 14 ص 456 ب 10 ح 1.


والوطء مما لا يمكن إقامة البينة عليه ، وربما مات الزوج أو تعذر مصادقته لغيبة ونحوها ، فلو لم يقبل منها ذلك لزم الإضرار بها والحرج المنفيين.

أقول : ويؤيده أيضا مع دخوله في ضابطة الخبرين المذكورين ما في رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر (1) وغيره قال : «قلت للرضا عليه‌السلام : الرجل يتزوج المرأة فيقع في قلبه أن لها زوجا ، فقال : ما عليه ، أرأيت لو سألها البينة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج». وهي ظاهرة فيما ذكره شيخنا المذكور.

وتدل على أصل المدعى صحيحة حماد (2) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل طلق امرأة ثلاثا فبانت منه فأراد مراجعتها ، فقال لها : إني أريد مراجعتك ، فتزوجي زوجا غيري ، فقالت : قد تزوجت زوجا غيرك وحللت لك نفسي ، أتصدق ويراجعها؟ وكيف يصنع؟ قال : إذا كانت المرأة ثقة صدقت في قولها».

قال في المسالك : وكما يقبل قولها في حق المطلق يقبل في حق غيره ، فكذا الحكم في كل امرأة كانت مزوجة وأخبرت بموته وفراقه وانقضاء العدة في وقت محتمل ولا فرق بين تعيين الزوج وعدمه ، ولا بين إمكان استعلامه وعدمه. انتهى ، وقد عرفت وجه صحته مما تقدم.

ومما يؤكد الاعتماد على قولها ما دل على كراهة السؤال ولو مع التهمة مثل ما رواه في التهذيب (3) عن فضيل مولى محمد بن راشد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : إني تزوجت امرأة متعة فوقع في نفسي أن لها زوجا ، ففتشت عن ذلك فوجدت لها زوجا ، قال : ولم فتشت؟». وعن مهران بن محمد (4) عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قيل له :

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 253 ح 19 ، الوسائل ج 14 ص 457 ب 10 ح 5 وفيهما اختلاف يسير.

(2) التهذيب ج 8 ص 34 ح 24 ، الوسائل ج 15 ص 370 ب 11 ح 1 وفيهما اختلاف يسير.

(3 و 4) التهذيب ج 7 ص 253 ح 17 و 18 ، الوسائل ج 15 ص 457 ب 10 ح 3 و 4 وفيهما اختلاف يسير.


إن فلانا تزوج امرأة متعة فقيل : إن لها زوجا فسألها ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لم سألها؟».

وما رواه في الفقيه (1) عن يونس بن عبد الرحمن عن الرضا عليه‌السلام في حديث قال : «قلت له : المرأة تزوجت متعة فينقضي شرطها ويتزوجها رجل وآخر قبل تنقضي عدتها ، قال : وما عليك إنما إثم ذلك عليها». أقول : المراد أنها تزوجها الآخر جاهلا مع علمها هي بذلك.

بقي الكلام فيما دلت عليه صحيحة حماد من اشتراط كون المرأة ثقة في قبول قوله ، مع أن ظاهر الأخبار وكلام الأصحاب خلافه ، وحمله جملة من المتأخرين منهم شيخنا في المسالك على أن المراد بالثقة من تسكن النفس إلى خبرها ، وإن لم تكن متصلة بالعدالة المشترطة في قبول الشاذة ، وهو جيد.

وكيف كان فهو لا يخلو من منافرة لما دلت عليه الأخبار الأخيرة من كراهة الفحص وإن كان مع التهمة ، ويمكن الجمع بين الأخبار المذكورة بحمل صحيحة حماد على ما هو الأفضل في مقام التهمة من الفحص. والظاهر أن ما دل عليه الخبر من إخبارها بالتحليل عقيب أمره لها بذلك المشعر برغبتها في الرجوع إلى الزوج كان محل التهمة ، فأمر بالتثبت والعمل بقولها بالشرط المذكور ، وحمل الأخبار الأخيرة على الجواز شرعا ، أو العمل بسعة الشريعة وأنه غير مكلف شرعا بالفحص ولا يجب عليه ذلك.

فروع

الأول : قال في المسالك : لو عينت الزوج يعني المحلل فكذبها في أصل النكاح احتمل تصديقها في التحليل ـ وإن لم يثبت عليه موجب الزوجية لوجود المقتضي لقبول قولها مع تكذيبه ، وهو إمكان صدقها مع تعذر إقامة البينة على جميع ما

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 294 ح 17 ، الوسائل ج 14 ص 456 ب 10 ح 2 وفيهما اختلاف يسير.


تدعيه ، ومجرد إنكاره لا يمنع صدقها في نفس الأمر ـ وعدمه نظرا إلى تقديم قوله لأنه منكر واستصحابا للأصل ، ولإمكان إقامة البينة على أصل التزويج.

وفيه أنه لا منافاة بين الأمرين ، لأنا لا نقبل قولها إلا في حقها خاصة ، والأصل لو عارض لقدح في أصل دعواها مطلقا ، انتهى.

أقول : الظاهر من الأخبار المتقدمة هو الثاني ، لأن قبول قولها إنما هو في موضع لا يمكن الاطلاع عليه إلا من جهتها ، فإن دعواها لا معارض له ، والمعارض هنا موجود ، والاطلاع على الحال ممكن من غيرها وهو الزوج ، فإنه بإنكاره تزويجها بالكلية قد حصلت المعارضة لدعواها التحليل ، والاطلاع على كذب الدعوى المذكورة بالنظر إلى إنكار التزويج ، وقوله «إن المقتضي لقبول قولها إمكان صدقها» ليس في محله ، بل المقتضي لذلك إنما انحصار الاطلاع على ذلك الأمر المدعى فيها ، فلا يعلم إلا من جهتها سيما مع تعذر اطلاع الغير عليه بالكلية ، ولهذا نسب تكليفها باليمين أو البينة إلى الحرج والعسر. ودعواها التحليل هنا لما عارضها إنكار الزوج المحلل النكاح من أصله خرجت المسألة عما نحن فيه ورجعت إلى سائر الدعاوي المتضمنة لمدع ومنكر ، ووجب فيها ما يجب ثمة ، وبعد ثبوت أحد الأمرين يترتب عليه الحكم المناسب للمقام من تحليل وعدمه ، وهكذا ينبغي أن يحقق المقام.

الثاني : إذا اتفق المحلل والمرأة على الإصابة بعد الدخول فلا إشكال في حصول التحليل للزوج الأول ولو كذبها في ذلك ، قال الشيخ في المبسوط : إنه يعمل الزوج الأول على ما يغلب على ظنه في صدقها وصدق المحلل ، لأن الغرض تعذر البينة والظن مناط الأحكام الشرعية غالبا فيرجع إليه.

وقال المحقق بعد نقل قول الشيخ المذكور : ولو قيل : يعمل بقولها على كل حال كان حسنا ، لتعذر إقامة البينة بما تدعيه.

قال في المسالك : والأقوى ما اختاره المصنف لما ذكره من تعذر إقامة البينة ،


مع أنها تصدق في شرطه وهو انقضاء العدة ، فكذا في سببه ، ولأنه لولاه لزم الحرج والضرر كما أشرنا إليه سابقا ، وإنما يقبل قولها فيما يتعلق بها من حل النكاح. ونحوه لا في حقه ، ولا يلزمه إلا نصف المهر ، حتى لو أنكر أصل العقد لم يلزمه المهر وإن قبل قولها في التزويج ، انتهى.

أقول ـ وبالله الثقة لبلوغ كل مأمول ـ : إن الظاهر أن الكلام في هذه المسألة كما في سابقتها ، فإن المسألة ـ بحصول المعارض والمنازع في صحة ما تدعيه من الوطء الذي يترتب عليه التحليل ـ قد خرجت عن مدلول الأخبار المتقدمة ورجعت إلى مسائل المدعي والمنكر ، فيجب على المدعي إقامة البينة ، ومع تعذرها فاليمين على المنكر ، والواجب على الزوج اليمين في عدم الإصابة أو الرد ، وكيف كان فإن ثبت ذلك ترتب عليه التحليل ، وإلا فلا تحليل.

وبالجملة فإن مناط قبول قولها الذي دلت عليه الأخبار ليس مجرد تعذر البينة عليها خاصة ، وإلا لاتسع المجال بالنسبة إلى غيرها من أفراد المدعين كما لا يخفى ، بل هو ادعاؤها دعوى لا راد لها ولا مقابل فيها وأنه لا يعلم صحتها إلا من جهتها.

ونظير ما ذكروه ما لو ادعت المرأة أن لا زوج لها وادعى آخر أنها زوجته ، فإن الظاهر أنه لا قائل بجواز تزويجها في هذه الحال بناء على أنها مصدقة في دعوى عدم الزوج ، والحال أن مدعى زوجيتها موجود ، وإنما قبول قولها مع عدم ذلك كما هو ظاهر من الأخبار المتقدمة.

الثالث : لو وطأها المحلل وطئا محرما شرعا كالوطء في الإحرام منه أو منها أو منهما والوطء في الحيض وفي الصوم الواجب ونحو ذلك فهل يحصل به التحليل أم لا؟ قولان :

(أحدهما) العدم ، ذهب إليه الشيخ وابن الجنيد ، واستدل الشيخ بأن التحريم


معلوم ، ولا دليل على أن هذا الوطء محلل ، ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) «حتى يذوق عسيلتها». يدل عليه ، لأنه إنما أراد بذلك ذوقا مباحا ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يبيح المحرم ، وأيضا فإنه محرم عليه هذا الوطء ومنهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه ، ولأن الإباحة تعلقت بشرطين بالنكاح والوطء ، ثم إن النكاح إذا كان محرما لا يحل للأول ، وكذلك الوطء.

(وثانيهما) ثبوت التحليل بذلك. اختاره العلامة في المختلف وغيره وشيخنا في المسالك ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين.

قال في المختلف (2) : لنا قوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» (3) جعل غاية التحريم نكاح الغير ، وقد حصل ، ومطلق النكاح أعم من النكاح في وقت يباح فيه أو يحرم ، والحكم معلق على المطلق ، ولأنه وطء في نكاح صحيح قبلا ، فوجب بأن يحصل به الإحلال كما لو وطأها وقد ضاق ، عليه وقت الصلاة ، ويمنع علم التحريم بعد النكاح الثاني ، وإرادة المباح هو المتنازع ، وتعليق الرجعة على مطلق النكاح الشامل للمحرم لا يقتضي إباحة المحرم ، والنهي إنما يدل على الفساد في العبادات ، والفرق بين تحريم النكاح وتحريم الوطء طاهر للإجماع على اشتراط النكاح الصحيح بخلاف المتنازع ، انتهى.

والحق أن المسألة لخلوها من النص غير خالية من شوب الإشكال ، إلا أنه يمكن أن يقال : إن الظاهر بالنظر إلى إطلاق الأخبار المتقدمة في شروط التحليل هو القول الثاني ، إذ غاية ما يستفاد منها هو التزويج دواما والدخول بها ، وأما أن ذلك الوطء يشترط فيه أن يكون مباحا ـ كأن لا يكون زمن الحيض ولا النفاس ولا الإحرام مثلا ـ فلا ، وورودها في مقام البيان عارية عن اشتراط ذلك ظاهر في

__________________

(1) بحار الأنوار ج 104 ص 141 ح 20 مع اختلاف في اللفظ.

(2) مختلف الشيعة ج 2 ص 593 وفيه اختلاف يسير.

(3) سورة البقرة ـ آية 229.


عدم الشرط المذكور ، والشروط الخمسة المتقدمة حاصلة في صورة هذا الوطء المنهي عنه ، فيحصل به التحليل حينئذ.

وبالجملة فإن إطلاق الأخبار المذكورة شامل لهذا الوطء فيحصل به التحليل ، وتقييدها يحتاج إلى دليل وليس فليس.

الفصل الثاني

في الرجعة

والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً» (1) أي بردهن إلى النكاح ، والرجعة فيهن في زمان العدة والتربص إن أرادوا بالرجعة إصلاحا لما بينهن ، ولم يريدوا المضارة لهن.

وقوله تعالى «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» (2) والإمساك بالمعروف الرجعة وحسن المعاشرة ، والتسريح بإحسان التطليقة الثالثة بعد المراجعة كما في الحديث النبوي ، أو أن لا يراجعها حتى تخرج من العدة وتبين منه.

وقوله سبحانه «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» (3) أي قاربن بلوغ الأجل «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» أي راجعوهن بقصد المعاشرة بالمعروف والقيام بواجبهن من غير طلب ضرار بالمراجعة ، أَوْ «سَرِّحُوهُنَّ» أي خلوهن حتى تنقضي عدتهن فيكن أملك بأنفسهن «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً» أي لا تراجعوهن بقصد الإضرار بهن من غير رغبة فيهن.

وروى في الفقيه (4) قال : «سئل الصادق عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : الرجل يطلق حتى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرات ، فنهى الله عزوجل عن ذلك».

وأما الأخبار فهي مستفيضة ، وستأتي جملة منها في أثناء المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.

__________________

(1 و 2 و 3) سورة البقرة ـ آية 228 و 229 و 231.

(4) الفقيه ج 3 ص 323 ح 1 ، الوسائل ج 15 ص 402 ب 34 ح 2 وفيهما اختلاف يسير.


وأما الإجماع فقد نقله غير واحد ، وكيف كان فتفصيل الكلام في هذا الفصل وتحقيق ما اشتمل عليه يقع في مواضع:

الأول : لا خلاف في أن الرجعة تقع بالقول والفعل ، والأول إجماعي من الخاصة والعامة ، والثاني إجماعي عندنا ، ووافقنا عليه بعض العامة ، والقول إما صريح في معنى الرجعة كقوله راجعتك وارتجعتك ، وأصرح منه إضافة قوله إلى نكاحي.

قال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ـ بعد أن ذكر هذه الألفاظ الثلاثة وأنها صريحة في الرجعة ـ ما لفظه : وفي معناه رددتك وأمسكتك لورودهما في القرآن ، قال الله تعالى «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ». «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» (1) ولا يفتقر إلى نية الرجعة لصراحة الألفاظ ، وقيل : يفتقر إليها في الأخيرين لاحتمالهما غيرهما (2) كالإمساك باليد أو في البيت ونحوه ، وهو حسن.

قال سبطه السيد السند في شرح النافع بعد نقل ذلك عنه : أقول قد بينا فيما سبق أنه لا بد من القصد إلى مدلول اللفظ الصريح وقصد المعنى المطلوب في غيره ، وإنما يفترقان في أن التلفظ بالصريح يحكم عليه بقصد مدلوله من غير احتياج إلى إخباره بذلك ، والتلفظ بغيره لا يحكم عليه بقصد المعنى المطلوب منه إلا مع اعترافه بذلك أو وجود القرينة الدالة عليه ، فقوله إنه لا يفتقر مع الإتيان براجعتك إلى نية الرجعة لا يخلو من تسامح. انتهى ، وهو جيد ، لأن الإتيان بالألفاظ في الرجعة أو غيرها مجردة عن نية المعنى المراد منها ، وقصده لا يقع إلا من عابث أو ساه أو نائم ، وإلا فالعقلاء إنما تورد الألفاظ في كلامهم ومحاوراتهم مقرونة بقصد معانيها المرادة منها. نعم ، فهم السامع تلك المعاني المرادة قد لا يتوقف على شي‌ء وراء مجرد ذلك اللفظ ، وهو الصريح في معناه الذي

__________________

(1) سورة البقرة ـ آية 228 و 229.

(2) والصحيح «غيرها».


لا يحتمل غيره ، وقد يتوقف على أمر آخر من ضم قرينة في الكلام أو اعترافه بذلك ، وهذا يكون في غير الصريح مما يحتمل معنيين أو أكثر.

وكيف كان فكل ما دل على قصد الرجل في النكاح من الألفاظ بنفسه أو ضم شي‌ء من خارج فهو مفيد للرجوع بلا خلاف ولا إشكال.

وأما الرجوع بالفعل كالوطء والتقبيل واللمس بشهوة فهو موضع وفاق ، وربما كان أقوى في الدلالة على الرجعة من القول ، إلا أنه لا بد من أن يقصد به الرجوع لأنه في حد ذاته أعم من ذلك ، فلا عبرة بما وقع منه سهوا أو بقصد عدم الرجعة أو لا بقصدها فإن ذلك لا يفيد الرجوع ، وإن فعل حراما في غير صورة السهو والغفلة لانفساخ النكاح بالطلاق وإن كان رجعيا ، ولو لا ذلك لم تبن بانقضاء العدة ، إلا أنه لا حد عليه وإن كان عالما بالتحريم لعدم خروجها بعد عن حكم الزوجية رأسا ، فغاية ما يلزم هو التعزير على فعل المحرم إلا مع الجهل بالتحريم.

ومما يدل على وقوع الرجعة بالوطء ما رواه الصدوق (1) عن الحسن بن محبوب في الصحيح عن محمد بن القاسم قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من غشي امرأته بعد انقضاء العدة جلد الحد ، وإن غشيها قبل انقضاء العدة كان غشيانه إياها رجعة». وإطلاق الخبر يشمل ما ذكرناه من الصور المستثناة ، إلا أن الظاهر تقييده بما عداها ، فإن الأحكام صحة وبطلانا وثوابا وعقابا دائرة مدار القصود والنيات كما تقدم تحقيقه في بحث النية من كتاب الطهارة (2).

ومما يقع به الرجعة أيضا إنكار الطلاق ، قال في شرح النافع : وهذا مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا.

وقال في المسالك : وظاهرهم الاتفاق على كونه رجوعا. وعلله المحقق في الشرائع بأنه يتضمن التمسك بالزوجية ، قال في المسالك : ولأنه أبلغ من

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 18 ح 18 ، الوسائل ج 18 ص 400 ب 29 ح 1 وفيهما «رجعة لها».

(2) الحدائق ج 2 ص 170.


الرجعة بألفاظها المشتقة منها وما في معناها لدلالتها على رفعه في غير الماضي ودلالة الإنكار على رفعه مطلقا.

أقول : والأولى الرجوع إلى النص الوارد في المقام ، وهو ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (1) عن أبي ولاد الحناط في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن امرأة ادعت على زوجها أنه طلقها تطليقة طلاق العدة طلاقا صحيحا ـ يعني على طهر من غير جماع ـ وأشهد بها شهودا على ذلك ، ثم أنكر الزوج بعد ذلك ، فقال : إن كان إنكار الطلاق قبل انقضاء العدة فإن إنكاره للطلاق رجعة لها ، وإن أنكر الطلاق بعد انقضاء العدة فإن على الامام أن يفرق بينهما بعد شهادة الشهود بعد ما يستحلف أن إنكاره الطلاق بعد انقضاء العدة وهو خاطب من الخطاب». وهي صحيحة صريحة مؤيدة بعمل الأصحاب ، فلا مجال للتوقف في الحكم المذكور.

وقال الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (2) «وأدنى المراجعة أن يقبلها أو ينكر الطلاق فيكون إنكار الطلاق مراجعة».

الثاني : يستحب الاشهاد في الرجعة ولا يجب اتفاقا ، وعليه تدل جملة من الأخبار.

منها ما رواه في الكافي (3) عن زرارة ومحمد بن مسلم في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إن الطلاق لا يكون بغير شهود ، وإن الرجعة بغير شهود رجعة ولكن ليشهد بعد فهو أفضل».

وعن الحلبي (4) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الذي يراجع ولم يشهد قال : يشهد أحب إلي ، ولا أرى بالذي صنع بأسا».

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 74 ح 1 ، التهذيب ج 8 ص 42 ح 48 ، الوسائل ج 15 ص 372 ب 14 ح 1 وما في المصادر اختلاف يسير.

(2) فقه الرضا ص 242 ، المستدرك ج 3 ص 14 ب 12 ح 1 وفيهما «إنكاره للطلاق».

(3 و 4) الكافي ج 6 ص 73 ح 3 وص 72 ح 1 ، الوسائل ج 15 ص 371 ب 13 ح 3 و 2.


وعن محمد بن مسلم (1) قال : «سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته واحدة ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها ولم يشهد على رجعتها ، قال : هي امرأته ما لم تنقض عدتها ، وقد كان ينبغي له أن يشهد على رجعتها ، فإن جهل ذلك فليشهد حين علم ، ولا أرى بالذي صنع بأسا ، وأن كثيرا من الناس لو أرادوا البينة على نكاحهم اليوم لم يجدوا أحد يثبت على الشهادة على ما كان من أمرهما ، ولا أرى بالذي صنع بأسا ، وإن يشهد فهو أحسن».

وفي صحيحة محمد بن مسلم (2) «وإنما جعل الشهود لمكان الميراث» إلى غير ذلك من الأخبار.

وقال الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (3) «فإن أراد مراجعتها راجعها ، وتجوز المراجعة بغير شهود كما يجوز التزويج ، وإنما تكره المراجعة بغير شهود من جهة الحدود والمواريث والسلطان». انتهى.

الثالث : لو طلقها طلاقا رجعيا فارتدت ، فهل يصح مراجعتها في حال الردة؟ المشهور المنع ، فكما أنه لا يصح ابتداء الزوجية فكذا استدامتها ، ويؤيد ذلك أن الرجوع تمسك بعصم الكوافر المنهي عنه في الآية نهي فساد لقوله «وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» (4). وعلل أيضا بأن المقصود من الرجعة الاستباحة ، وهذه الرجعة لا تفيد الإباحة فإنه لا يجوز الاستمتاع بها ولا الخلوة بها ما دامت مرتدة.

وعلل الجواز بأن الرجعية زوجة ، ويؤيده عدم وجوب الحد بوطئها ، ووقوع الظهار واللعان والإيلاء بها ، وجواز تغسيل الزوج لها وبالعكس فهي بمنزلة الزوجة.

__________________

(1 و 2) الكافي ج 6 ص 73 ح 4 و 5 ، الوسائل ج 15 ص 372 و 371 ب 13 ح 6 و 1 وفيهما اختلاف يسير.

(3) فقه الرضا ص 242 ، مستدرك الوسائل ج 3 ص 14 ب 11 ح 1.

(4) سورة الممتحنة ـ آية 10.


وأنت خبير بأن المسألة وإن كانت خالية من النص في هذه الصورة إلا أن مقتضى ما قدمنا نقله عنهم في كتاب النكاح في مسألة ارتداد أحد الزوجين (1) ـ من أنه متى كانت المرتدة المرأة وكان ذلك قبل الدخول انفسخ العقد بينهما في الحال ، وإن كان بعد الدخول كان الفسخ وعدمه مراعى بانقضاء العدة وعدمه ، فإن انقضت العدة ولم ترجع إلى الإسلام فقد بانت منه ـ هو جريان هذا الحكم فيما نحن فيه ، فإنها في العدة وإن كانت زوجته يجوز مراجعتها كما يجوز تزويجها ابتداء ، إلا أنها بالارتداد قد عرض لها ما يوجب انفساخ الزوجية إما في الحال كما لو لم يكن ثمة دخول ، وإما مراعى بانقضاء العدة في صورة الدخول ، فالرجوع إليها في حال الارتداد وإن كان في العدة ، إلا أن الارتداد قد أوجب فسخ النكاح هنا ، كما أوجبه لو لم يكن ذات عدة رجعية بل زوجة أصلية ، إلا أنه يمكن أن يقال بصحة الرجعة لا صحة مستقرة ، بل مراعاة بعدم انقضاء العدة على الارتداد ، بمعنى أنه لو رجعت إلى الإسلام قبل انقضائها استقرت صحة الرجعة ، وإلا تبين فسادها ، كما أنها بالارتداد تنفسخ زوجيتها انفساخا مراعى بانقضاء العدة على الارتداد ، فلو رجعت إلى الإسلام قبل انقضائها بقيت على الزوجية السابقة.

الرابع : لو طلق وراجع فأنكرت الدخول بها أولا وزعمت أن لا عدة عليها ولا رجعة فالقول قولها بيمينها ، لأنها تدعي ما يوافق الأصل ، إذ الأصل عدم الدخول ، وحينئذ فإذا حلفت بطلت رجعته التي يدعيها عليها ولا نفقة لها ولا سكنى ولا عدة عليها ، وجاز لها أن تنكح زوجا غيره في الحال ، وليس له أن ينكح أختها ، ولا أربعا غيرها لاعترافه بأنها زوجته.

بقي الإشكال في المهر ، فإن مقتضى كلام الزوج أن لها المهر كملا ، ومقتضى كلامها أنه إنما تستحق بالنصف خاصة لدعواها عدم الدخول بها ، وحينئذ فإن

__________________

(1) وهي المسألة الثانية من المطلب السادس في الكفر من الفصل الثاني في أسباب التحريم. (منه ـ قدس‌سره ـ). راجع الحدائق ج 24 ص 25.


كانت قد قبضت المهر كملا فليس للزوج مطالبتها بشي‌ء لاعترافه باستحقاقها إياه ، لكن لا يجوز لها التصرف في أزيد من النصف ، ولو لم تقبضه لم يجز لها أن تقبض إلا النصف خاصة.

وكيف كان فينبغي أن يقبض الحاكم النصف الآخر من يدها أو يده ، لأنه مال لا يدعيه أحد ، وحفظ مثل ذلك وظيفة الحاكم الشرعي ، ولا يبعد أن الحكم فيه الصرف في وجوه البر ، وله نظائر عديدة في الأخبار.

ولو انعكس الحكم فادعت المرأة الدخول وأنكر الزوج فالقول قوله بيمينه ، وحينئذ فإذا حلف فلا رجعة ولا سكنى ولا نفقة لها عليه ، وعليها العدة لادعائها الدخول ، ويرجع بنصف الصداق إن كانت قبضته ، ولو لم تقبضه رجعت عليه بالنصف خاصة».

الخامس : المشهور بين الأصحاب أن رجعة الأخرس بالإشارة المفهمة لها كغيرها من عقوده وإيقاعاته ، ونقل عن الصدوقين أنه أخذ القناع من رأسها.

أقول : قال الشيخ علي بن الحسين في رسالته إلى ولده (1) «الأخرس إذا أراد أن يطلق امرأته ألقى على رأسها قناعها يريها أنها قد حرمت عليه ، وإذا أراد مراجعتها كشف القناع عنها يرى أنها قد حلت» ونحو ذلك في كتاب المقنع لابنه ، وهذا القول قد جعله الشيخ وابن البراج رواية ، وكذلك المحقق في النافع أسنده إلى الرواية.

قال السيد السند في شرح النافع : ولم نقف عليها في شي‌ء من الأصول. نعم روى الكليني (2) عن السكوني عن الصادق عليه‌السلام «أنه قال : طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها فيضعها على رأسها ويعتزلها». ونسب هذا القول في الشرائع إلى الشذوذ.

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 333 ذيل ح 1 وفيه «يرى أنها قد حرمت عليه».

(2) الكافي ج 6 ص 128 ح 3 ، التهذيب ج 8 ص 92 ح 233 وفيه «عن على بن أبي حمزة» مع اختلاف يسير ، الوسائل ج 15 ص 300 ب 19 ح 3.


ويقرب في البال أن العبارة المنقولة عن الشيخ علي بن بابويه مأخوذة من كتاب الفقه الرضوي (1) على النهج الذي قد عرفت في غير موضع ، إلا أن كتاب الفقه الرضوي الذي عندي لا يخلو من غلط وسقط في هذا المكان ، فإنه عليه‌السلام عد طلاق الأخرس في أفراد الطلاق التي ذكرها في أول الباب وفي مقام التفصيل ، وبيان كل فرد فرد من تلك الأفراد لم يتعرض لطلاق الأخرس بالكلية ، فليلاحظ ذلك من نسخة اخرى.

وكيف كان فينبغي حمل ذلك على ما إذا فهم من ذلك الطلاق والرجعة ، فيرجع إلى ما هو المشهور ، لأن ذلك من جملة إشاراته المعتبرة في ذلك.

السادس : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أنه إذا ادعت الزوجة انقضاء العدة بالحيض في زمان يمكن فيه ذلك ـ وأقله ستة وعشرون يوما ولحظتان (2) كما سيجي‌ء إن شاء الله تعالى ـ كان قولها مقبولا في ذلك.

ويدل عليه ما رواه ثقة الإسلام (3) في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «الحيض والعدة إلى النساء إذا ادعت صدقت».

وما رواه الشيخ (4) في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «العدة والحيض إلى النساء».

روى أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (5) عن الصادق عليه‌السلام في قوله

__________________

(1) فقه الرضا ص 248.

(2) وتوضيحه بأن يطلق وقد بقي من الطهر لحظة ، ثم تحيض أقل الحيض ثلاثة أيام ، ثم تطهر أقل الطهر عشرة ، ثم تحيض أيضا ثلاثة أيام ، ثم تطهر عشرة ، ثم تدخل في الحيض بلحظة ، وبذلك يحصل القدر المذكور وتخرج من العدة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(3 و 4) الكافي ج 6 ص 101 ح 1 ، التهذيب ج 8 ص 165 ح 174 ، الوسائل ج 15 ص 441 ب 24 ح 1 وما في المصادر اختلاف يسير.

(5) تفسير مجمع البيان ج 2 ص 326 ، الوسائل ج 15 ص 441 ب 24 ح 2.


تعالى «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ» قال : قد فوض الله إلى النساء ثلاثة أشياء الحيض والطهر والحمل».

وجملة من الأصحاب قد استدلوا بالآية المذكورة بتقريب أنه لو لا قبول قولهن في ذلك لم يؤتمن في الكتمان ، وإطلاق النصوص المذكورة يقتضي عدم الفرق بين دعوى المعتاد وغيره.

وأما ما رواه الصدوق في الفقه (1) مرسلا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام «أنه قال في امرأة ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض أنه يسأل نسوة من بطانتها هل كان حيضها فيما مضى على ما ادعت؟ فإن شهدت صدقت وإلا فهي كاذبة». فقد حمله الشيخ في كتابي الأخبار على المتهمة جمعا بين الأخبار ، وهو جيد لما تقدم قريبا من الأخبار المؤيدة لهذه الأخبار الدالة على قبول قولها في أمثال هذه الأمور.

وأما ما قربه الشهيد في اللمعة (2) من أنه لا يقبل من المرأة دعوى غير المعتاد إلا بشهادة أربع من النساء المطلعات على باطن أمرها ، وادعى أن ذلك ظاهر الروايات فلا أعرف له وجها ، إذ ليس سوى رواية السكوني المذكورة مع معارضتها بما هو أكثر عددا وأصح سندا وأصرح دلالة ، فيتعين حملها على المتهمة كما ذكره الشيخ. هذا كله فيما إذا لم يكن لها مقابل في دعواها ولا منازع فإنه يقبل قولها بغير يمين ويجوز لها التزويج ، أما لو أنكر الزوج ما ادعته من الخروج من العدة فإنه يتوجه عليها اليمين وتخرج المسألة عما نحن فيه كما تقدمت الإشارة إليه.

__________________

(1) الفقيه ج 1 ص 100 ح 207 طبع مكتبة الصدوق ، التهذيب ج 8 ص 166 ح 175 عن السكوني ، الوسائل ج 2 ص 596 ب 47 ح 3 عن إسماعيل بن أبي زياد ، وما في المصادر اختلاف يسير.

(2) حيث قال في الكتاب المذكور : وظاهر الروايات أنه لا يقبل منها غير المعتاد إلا بشهادة أربع من النساء المطلعات على باطن أمرها. وهو قريب ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).


قال في شرح النافع بعد أن ذكر نحو ذلك : وهو مقطوع به في كلام الأصحاب ، ولو ادعت المرأة انقضاء العدة بالأشهر فالظاهر أنه إن لم يكن لها مقابل ولا راد لدعواها فإنه يقبل قولها عملا بالأخبار المتقدمة ، وإن أنكر الزوج ذلك فإنه لا يقبل قولها ، والقول قول الزوج بيمينه كما ذكره الأصحاب أيضا.

قال في المسالك : لأن هذا الاختلاف راجع في الحقيقة إلى وقت الطلاق ، والقول قوله فيه كما تقدم قوله في أصله ، ولأنه مع دعوى بقاء العدة يدعي تأخر الطلاق ، والأصل فيه معه لأصالة عدم تقدمه في الوقت الذي تدعيه ، انتهى.

ولو كانت من ذوات الحمل فادعت وضعه قال في المسالك : صدقت أيضا بيمينها مع إمكانه لما تقدم ، ويختلف الإمكان بحسب دعواها ، فإن ادعت ولادة ولد تام فأقل مدة تصدق فيها ستة أشهر ولحظتان من يوم النكاح ، لحظة لإمكان الوطء ولحظة للولادة ، فإن ادعت أقل من ذلك لم تصدق ، وإن ادعت سقطا مصورا أو مضغة أو علقة اعتبر إمكانه عادة.

وربما قيل : إنه مائة وعشرون يوما ولحظتان في الأول ، وثمانون يوما ولحظتان في الثاني ، وأربعون ولحظتان في الثالث ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) «يجمع أحدكم في بطن امه أربعون يوما نطفة ، وأربعون يوما علقة ، وأربعون يوما مضغة ، ثم ينفخ فيه الروح». وحيث قدم قولها في ذلك لم تكلف إحضار الولد لعموم الأدلة وجواز موته وتعذر إحضاره ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن ظاهر الأخبار المتقدمة الدالة على أنها مصدقة في العدة هو شمول العدة لجميع أفرادها من كونها بالحيض أو الأشهر أو وضع الحمل ، وحينئذ فلا وجه لاشتراط اليمين هنا في تصديقها دون الفردين المتقدمين ، وطلب اليمين

__________________

(1) وقريب منه ما جاء في الوسائل ج 19 ص 240 ب 19 ح 8 و 9 ، والبحار عن النبي (ص) ج 60 ص 360 ح 49 ، وجاء لفظ الحديث مع اختلاف يسير في صحيح مسلم بشرح النوري ج 16 ص 189 كتاب القدر ح 1.


منها إنما هو في مقام ظهور منازع فيما ادعته كما تقدم ، سواء كان في هذا الموضع وغيره ، وأما مع عدمه فقضية الأخبار المذكورة قبول قولها من غير يمين.

بقي التقييد بإمكانه وهو مما لا بأس به ، في هذا الموضع وما تقدم أيضا.

وأما ما نقله من الخبر النبوي فيما إذا ادعت سقطا كاملا أو مضغة أو علقة ، وأن الخبر المذكور دليل للقول الذي نقله ففيه أن الظاهر أن الخبر المذكور ليس من طريقنا لعدم وجوده في أخبارنا ، إلا أن نظيره مما ورد بمعناه قد ورد في الأخبار عنهم عليهم‌السلام ، والظاهر أنه لم يخطر بباله يومئذ وإلا لنقله واستدل به ، بل رجح هذا القول على ما ذكره أولا لدلالتها عليه.

فمن الأخبار الدالة على ذلك ما رواه في الكافي (1) في الموثق عن الحسن بن الجهم قال : «سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : قال أبو جعفر عليه‌السلام : إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما ، ثم تصير علقة أربعين يوما ، ثم تصير مضغة أربعين يوما ، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلاقين» الخبر.

وعن زرارة (2) في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل قال فيه : «فتصل النطفة إلى الرحم فتردد فيه أربعين يوما ، ثم تصير مضغة أربعين يوما» الحديث.

وفي رواية محمد بن إسماعيل (3) أو غيره عن أبي جعفر عليه‌السلام قال فيها «فإنه أربعين ليلة نطفة وأربعين ليلة علقة وأربعين ليلة مضغة ، فذلك تمام أربعة أشهر ، ثم يبعث الله ملكين خلاقين» الخبر.

وبذلك يظهر لك رجحان القول المذكور لدلالة هذه الأخبار الصحيحة الصريحة عليه دون ما ذكره أولا.

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 13 ح 3.

(2) الكافي ج 6 ص 13 ح 4 وفيه «فتردد فيه أربعين يوما ثم تصير علقة أربعين يوما ثم تصير.».

(3) الكافي ج 6 ص 16 ح 6.


فرع

قالوا : إذا ادعت الحمل فأنكر الزوج وأحضرت ولدا فأنكر ولادتها له فالقول قوله لإمكان إقامة البينة بالولادة.

أقول : الفرق بين هذا الحكم وما تقدم من تقديم قولها في الوضع هو الاتفاق ثمة على الحمل وأنه من الزوج وإنما الاختلاف في الولادة ، ولا ريب أن المرجع إليها في ذلك للآية والرواية.

وأما هنا فإن الزوج ينكر الحمل فضلا عن وضعه ، فالقول قوله بيمينه لأصالة عدم الحمل ، ولا فرق بين أن تحضر ولدا أو تدعي ولادته ، فلا يلحق به بمجرد دعواها لجواز التقاطها له ، وإنما يلزمه الاعتراف بما علم ولادته على فراشه لا ما تدعي المرأة ولادته كذلك ، وحينئذ فلا يحكم بانقضاء العدة بذلك بل يفتقر إلى مضي عدة بالأقراء أو الأشهر فيرجع إليها فيها وإن كذبت في الآخر.

السابع : لو ادعى الزوج بعد انقضاء العدة أو بعد أن تزوجت أنه قد رجع فيها في العدة ، قال في المسالك : نظر ، فإن أقام الأول عليها بينة فهي زوجته سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل ، ويجب لها مهر المثل على الثاني إن دخل بها ، وإن لم يكن بينة وأراد التحليف سمعت دعواه على كل منهما. ثم ساق الكلام في صورة الدعوى على الزوجة وما في المسألة من الشقوق وصورة الدعوى على الزوج الثاني وما يترتب على ذلك.

قال شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني في أجوبة المسائل الحسنية : إذا طلقها ورجع وأشهد على الرجعة وأقام بينة شرعية بذلك حكم له بها وإن تزوجت عند الأصحاب كما يستفاد من كلامهم ، وممن صرح بذلك شيخنا الشهيد الثاني ـ ثم قال بعد نقل كلام شيخنا الشهيد الثاني رحمه‌الله عليه بتمامه ـ ما لفظه : وفي الكل إشكال لعدم الظفر بنص في ذلك كله إلا أن أصل


المسألة ليس بموضع إشكال عندهم كما يعرف من كلامهم ، وإن كان عندي أيضا فيها توقف ، وهذه هي المسألة التي وقع النزاع فيها بين الشيخ الثقة الجليل زين الدين علي بن سليمان القدمي البحراني والشيخ أحمد ابن الشيخ محمد بن علي بن يوسف بن سعيد المشاعي الاصبعي ، وقد حكم الشيخ أحمد بقبول الدعوى مع قبول البينة ، وألحقها بالأول ومنع الثاني ، وخالفه الشيخ علي وحكم بها للثاني ولم يسمع دعوى الأول احتجاجا بأن الرجوع لا بد فيه من الاعلام في العدة ، والنكاح قد وقع صحيحا مطابقا للشرع ، فلا يكفي الرجوع الذي لم يحصل العلم به إلا بعد التزويج ، واستفتيا فيها فقهاء العصر وكتبا فيها إلى سائر البلدان كشيراز وأصفهان ، فصححوا كلام الشيخ أحمد وخطأوا الشيخ عليا ، والحق أن هذا هو ظاهر كلام الأصحاب لأنهم لم يشترطوا في صحة الرجوع الاعلام ، وليس هو من باب عزل الوكيل ـ كما يجي‌ء بيانه ـ وإن كان لي فيها تأمل لعدم النص الصريح في المسألة ، انتهى كلامه.

أقول : لا ريب أن ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على القول بأنه يملك رجعتها متى رجع في العدة وإن لم يبلغها الخبر ، وأنه بالإشهاد على الرجعة يسترد نكاحها لو نكحت غيره مع عدم بلوغها الخبر.

قال في المسالك : الرابع : أن يقع النزاع بعد ما نكحت ، ثم جاء الأول فادعى الرجعة سواء كان عذرهما في النكاح لجهلهما بالرجعة أم نسبتهما إلى الخيانة والتلبيس نظر ، فإن أقام عليها بينة. إلى آخر ما تقدم.

وقال العلامة في القواعد ولا يشترط علم الزوجة في الرجعة ولا رضاها ، فلو لم تعلم وتزوجت ردت إليه ، وإن دخل الثاني بعد العدة ولا يكون الثاني أحق بها. انتهى ، وعبارته وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى ثبوت الرجعة وعدمه إلا أن مراده بعد الثبوت بالشهادة لما صرح به قبيل هذا الكلام من قوله «ويستحب الاشهاد» وليس شرطا ، لكن لو ادعى بعد العدة وقوعها فيها لم تقبل دعواها إلا بالبينة.


وقال في التحرير : ولا يشترط في صحة الرجعة إعلام الزوجة ولا الشهادة بها ، فلو راجعها بشهادة اثنين وهو غائب في العدة صحت الرجعة ، فإن تزوجت حينئذ كان فاسدا سواء دخل الثاني أو لا ، ولا مهر على الثاني مع عدم الدخول ولا عدة ، ومع الدخول المهر والعدة ، وترجع إلى الأول بعدها. إلى غير ذلك من عباراتهم التي يقف عليها المتتبع.

والعجب من شيخنا المحدث الصالح المتقدم ذكره في إنكار النصوص على ما ذهب إليه الأصحاب لعدم اطلاعه عليها في هذا الباب مع أنها موجودة مكشوفة القناع واجبة الاتباع ، وكذا ظاهر ما نقله عن الشيخين الجليلين في القضية التي نقلها والاستفتاء في المسألة إلى البلدان ، مع أن إخبارها واضحة البيان فيما ذكره علماؤنا الأعلام.

والذي وقفت عليه من ذلك ما رواه في الكافي (1) بسند صحيح إلى المرزبان قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن رجل قال لامرأته : اعتدي فقد خليت سبيلك ، ثم أشهد على رجعتها بعد أيام ثم غاب عنها قبل أن يجامعها حتى مضت لذلك شهر بعد العدة أو أكثر ، فكيف تأمره؟ فقال : إذا أشهد على رجعته فهي زوجته».

أقول : ظاهر هذه الرواية كما ترى واضحة الدلالة على أنه بمجرد الاشهاد على الرجعة في العدة تثبت الزوجية كما هو المشهور بلغها الخبر أو لم يبلغها ، تزوجت بعد العدة لعدم بلوغ الخبر أو لم تتزوج ، وليس في سند هذا الخبر من ربما يتوقف في شأنه سوى المرزبان ، وهو ابن عمران بن عبد الله ، وقد ذكر النجاشي (2) أن له كتابا وهو مؤذن بكونه من أصحاب الأصول ، وروى الكشي (3) حديثا يشعر بحسن

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 74 ح 2 ، التهذيب ج 8 ص 43 ح 49 ، الوسائل ج 15 ص 373 ب 15 ح 1 وما في المصادر اختلاف يسير.

(2) رجال النجاشي ص 423 تحت رقم 1134 طبع مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.

(3) رجال الكشي ص 426 تحت رقم 366.


حاله ، ولهذا عد شيخنا المجلسي في الوجيزة حديثه في الحسن.

وما رواه في الكافي (1) عن الحسن بن صالح قال : «سألت جعفر بن محمد عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته وهو غائب في بلدة اخرى وأشهد على طلاقها رجلين ثم إنه راجعها قبل انقضاء العدة وقد تزوجت ، فأرسل إليها : إني كنت قد راجعتك قبل انقضاء العدة ولم اشهد ، قال : لا سبيل له عليها ، لأنه قد أقر بالطلاق وادعى الرجعة بغير بينة فلا سبيل له عليها ، ولذلك ينبغي لمن طلق أن يشهد ، ولمن راجع أن يشهد على الرجعة كما أشهد على الطلاق ، وإن كان قد أدركها قبل أن تزوج كان خاطبا من الخطاب».

والتقريب فيها أن قوله «وادعى الرجعة بغير بينة فلا سبيل له عليها» يدل بمفهومه على أنه لو كان له بينة على الرجعة كان له سبيل عليها مؤكدا ذلك بالأمر لمن راجع أن يشهد على الرجعة كما يشهد على الطلاق حتى يثبت الزوجية في الأول كما ينبغي في الثاني.

وما رواه الشيخ (2) عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عليه‌السلام «في رجل أظهر طلاق امرأته وأشهد عليه وأسر رجعتها ثم خرج ، فلما رجع وجدها قد تزوجت ، قال : لا حق له عليها من أجل أنه أسر رجعتها وأظهر طلاقها». والتقريب فيه كما في سابقه.

ويؤيد ذلك أيضا إطلاق جملة من الأخبار مثل قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (3) «وأن الرجعة بغير شهود رجعة ، ولكن ليشهد بعد فهو أفضل». وقوله عليه‌السلام أيضا في حديث آخر لمحمد بن مسلم (4) «وإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها قبل أن تنقضي أقراؤها». وفي ثالث لمحمد بن مسلم (5) أيضا

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 80 ح 4 ، الوسائل ج 15 ص 373 ب 15 ح 3 وفيهما اختلاف يسير.

(2) التهذيب ج 8 ص 44 ح 55 ، الوسائل ج 15 ص 374 ب 15 ح 5 وفيهما «عن آبائه عن على».

(3) التهذيب ج 8 ص 42 ح 47 ، الوسائل ج 15 ص 371 ب 13 ح 3.

(4 و 5) الكافي ج 6 ص 64 ح 1 وص 73 ح 4، الوسائل ج 15 ص 371 ب 13 ح 4 و 6.


عنه عليه‌السلام «وقد سئل عن رجل طلق امرأته واحدة ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها ولم يشهد على رجعتها ، قال : هي امرأته ما لم تنقض العدة ، وقد كان ينبغي له أن يشهد على رجعتها فإن جهل ذلك فليشهد حين علم ، ولا أرى بالذي صنع بأسا» الحديث.

إلى غير ذلك مما هو على هذا المنوال ، فهي كما ترى شاملة بإطلاقها لما لو علمت المرأة أو لم تعلم ، تزوجت أو لم تزوج ، فإنها بمجرد الرجعة في العدة تكون زوجته شرعا واقعا ، وإنما الإشهاد على ذلك لدفع النزاع وثبوت الزوجية في الظاهر ، فلو فرضت أن الزوجة صدقته ووافقته على دعواه قبل التزويج بغيره صح نكاحه لها ، فتوقف شيخنا المحدث الصالح ـ رحمة الله عليه ـ في المسألة لعدم النص عجيب ، وأعجب منه حكم شيخنا قدوة المحدثين ورئيس المحققين الشيخ علي بن سليمان المتقدم ذكره بعدم صحة الرجعة لعدم بلوغ الخبر لها في العدة لما ذكره من التعليل في مقابلة الأخبار المذكورة ، وإن أمكن أن يقال : إنه لا ريب أن ما ذكره من التعليل المذكور قوي متين لأن الأحكام الشرعية لم تبن على ما في نفس الأمر والواقع ، والنكاح الذي وقع أخيرا وقع صحيحا بحسب ظاهر الشرع ، وإبطاله بمخالفة ما في نفس الأمر مشكل لما ذكرناه ، إلا أنه لما دلت الأخبار المذكورة على خلافه وجب الخروج عنه.

ولكن يؤيد ما ذكره شيخنا المذكور بل يدل على ذلك صريحا ما رواه في الكافي (1) في الصحيح أو الحسن الذي لا يقصر عن الصحيح بإبراهيم بن هاشم عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام «أنه قال في رجل طلق امرأته وأشهد شاهدين ، ثم أشهد على رجعتها سرا منها واستكتم الشهود فلم تعلم المرأة بالرجعة حتى انقضت عدتها ، قال : تخير المرأة ، فإن شاءت زوجها وإن شاءت غير ذلك ، وإن تزوجت قبل أن تعلم بالرجعة التي أشهد عليها زوجها فليس للذي طلقها عليها

__________________

(1) الكافي ج 6 ص 75 ح 3 ، الوسائل ج 15 ص 373 ب 15 ح 2 وفيهما اختلاف يسير.


سبيل ، وزوجها الأخير أحق بها».

وهي كما ترى صريحة فيما ذهب إليه شيخنا الشيخ علي المذكور ، ولعل اعتماده فيما ذهب إليه إنما كان على هذه الرواية سيما مع صحتها وصراحتها وضعف ما يقابلها وإن لم ينقل ذلك عنه في الحكاية المتقدمة ، فإن الشيخ المذكور في الاطلاع على الأخبار وما اشتملت عليه من الأسرار كان ممن لا ثاني له ، ولهذا اشتهر في بلاد العجم تسميته بأم الحديث في وقته ، وبذلك يظهر لك بقاء المسألة في قالب الاشكال.

وفي بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا المجلسي المولى محمد باقر على هذا الخبر ما صورته : ظاهره اشتراط علم الزوجة في تحقق الرجعة ، ولم أر به قائلا ويمكن حمله على ما إذا لم يثبت بالشهود ، وهو بعيد ، انتهى.

وأصحابنا لم يتعرضوا للكلام في هذه الأخبار ، أما في كتب الاستدلال كالمسالك ونحوه فإنهم لم يتعرضوا لنقل شي‌ء من الروايات بالكلية وإنما ذكروا الحكم المذكور مسلما بينهم من غير استدلال ، كأنه من قبيل المجمع عليه بينهم ، وفي كتب الأخبار لم يتعرضوا لهذا الاختلاف الظاهر بين روايات المسألة ، وربما أشعر سكوتهم عن ذلك بأن الحكم المذكور اتفاقي نصا وفتوى ، والحال كما عرفت ، فإنه وإن كان ظاهر الفتوى ذلك إلا أن النصوص كما رأيت ظاهرة الاختلاف ، والصحيحة المذكورة صريحة الدلالة في المخالفة لما تقدمها من الأخبار ، ولا يحضرني الآن مذهب العامة في هذه المسألة ، فلعل الصحيحة المذكورة من حيث الاتفاق على خلاف ما دلت عليه إنما خرجت مخرج التقية.

وفي كتاب سليم بن قيس (1) وهو أحد الأصول المشهورة والكتب المأثورة المعتمد عليها عند محققي أصحابنا كما صرح به شيخنا المجلسي ـ رحمه‌الله ـ في

__________________

(1) سليم بن قيس الكوفي طبع دار الكتب الإسلامية ص 139 ، البحار ج 104 ص 158 ح 81 وفيهما «أبا كنف» مع اختلاف يسير.


كتاب البحار في رواية له عن علي عليه‌السلام يذكر فيها بدع عمر وإحداثه ، قال عليه‌السلام : وأعجب من ذلك أن أبا كيف العبدي أتاه فقال : إني طلقت امرأتي وأنا غائب فوصل إليها الطلاق ، ثم راجعتها وهي في عدتها ، وكتبت إليها فلم يصل الكتاب حتى تزوجت ، فكتب إليه : إن كان هذا الذي تزوجها دخل بها فهي امرأته ، وإن كان لم يدخل بها فهي امرأتك ، وكتب له ذلك وأنا شاهد ولم يشاورني ولم يسألني ويرى استغناءه بعلمه عني ، فأردت أن أنهاه ، ثم قلت : ما أبالي أن يفضحه الله ، ثم لم تعبه الناس بل استحسنوه واتخذوه سنة وقبوله ورأوه صوابا وذلك قضاء لا يقضي به مجنون» الحديث وهو كما ترى غير خال من شوب الاشكال لما تضمنه من الإجمال ، ووجه البطلان في قضائه الذي نفاه عليه أن هذا التفصيل لا وجه له ، لأن جواز الدخول وعدمه تابع لصحة التزويج وعدمها وفرع عليها ، فإن كان التزويج صحيحا فلا معنى لكونها زوجة الأول مع عدم الدخول ، وإن كان باطلا فلا وجه لكونها زوجة الثاني مع الدخول لما عرفت من التبعية والفرعية ، وجهل الرجل المذكور أكثر من تحويه (1) السطور أو يقوم به مداد البحور ، واعترافه في غير مقام غير منكور ، والله العالم.

بقي الكلام فيما لم يكن ثمة بينة ، وقد فصل الكلام في ذلك شيخنا في المسالك بما لم يسلكه قبله سالك ، قال ـ رحمه‌الله ـ : وإن لم يكن بينة وأراد التحليف سمعت دعواه على كل منهما ، فإن ادعى عليها فأقرت له بالرجعة لم يقبل إقرارها على الثاني ، وفي غرمها للأول مهر المثل لتفويت البضع عليه قولان ، تقدم البحث فيهما في النكاح ، وإن أنكرت فهل تحلف؟ فيه وجهان مبنيان على أنها هل تغرم له لو أقرت أم لا؟ فإن لم نقل بالغرم فلا وجه لتحليفه ، لأن الغرض منه الحمل على الإقرار ولا فائدة فيه ، فإن قلنا بالتحليف فحلفت سقط دعوى الزوج ، وإن نكلت حلف وغرمها مهر المثل ولا يحكم ببطلان النكاح الثاني ، وإن

__________________

(1) هكذا ، والصحيح «من أن تحويه».


جعلنا اليمين المردودة كالبينة لأنها إنما يكون كذلك في حق المتداعيين خاصة.

وربما احتمل بطلان النكاح على هذا التقدير لذلك ، وهو ضعيف ، فإذا انقطعت الخصومة معها بقيت على الزوج الثاني ، ثم إن أنكر صدق بيمينه ، لأن العدة قد انقضت والنكاح وقع صحيحا في الظاهر ، والأصل عدم الرجعة ، وإن نكل ردت اليمين على المدعي ، فإن حلف حكم بارتفاع النكاح الثاني ، ولا تصير المرأة للأول بيمينه.

ثم إن قلنا : إن اليمين المردودة كالبينة ، فكأنه لم يكن بينها وبين الثاني نكاح فلا شي‌ء لها عليه إلا مهر المثل مع الدخول ، وإن قلنا إنها كالإقرار ، وإقراره عليها غير مقبول ، ولها كمال المسمى إن كان بعد الدخول ، ونصفه إن كان قبل ، والأقوى ثبوت المسمى كملا مطلقا ، وإن جعلناها كالبينة لما ذكرناه من أنها إنما يكون كالبينة في حق المتنازعين خاصة ، وإذا انقطعت الخصومة بينهما فله الدعوى على المرأة إن لم يكن سبق بها ، ثم ينظر إن بقي النكاح الثاني ، فإن حلف فالحكم كما ذكر فيما إذا بدأ بها ، وإن لم يبق بأن أقر الثاني للأول بالرجعة أو نكل فحلف الأول فإن أقرت المرأة سلمت إليه ، وإلا فهي المصدقة باليمين ، فإن نكلت وحلف المدعي سلمت إليه ، ولها على الثاني مهر المثل إن جرى دخول ، وإلا فلا شي‌ء عليه كما لو أقرت بالرجعة ، وكل موضع قلنا لا تسلم المرأة إلى الأول لحق الثاني ، وذلك عند إقرارها أو نكولها أو يمين الأول ، فإذا زال حق الثاني بموت أو غيره سلمت إلى الأول ، كما لو أقر بحرية عبد في يد غيره ثم اشتراه فإنه يحكم عليه بحريته ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن جملة من هذه الأحكام يمكن استنباطه من الرجوع إلى القواعد المقررة والضوابط المشتهرة ، وجملة منها لا تخلو من الاشكال لما عرفت من تعدد الاحتمالات ، والاحتياط في أمثال ذلك مطلوب على كل حال.


تذنيب

إذا ادعى أنه راجع زوجته الأمة في العدة فصدقته وأنكر المولى وادعى خروجها قبل الرجعة فلا خلاف في أن القول قول الزوج ، إنما الخلاف في أنه هل يقبل قوله من غير يمين أم لا بد من اليمين؟

المنقول من الشيخ الأول ، واستنادا إلى أن الرجعة تفيد استباحة البضع ، وهو حق يتعلق بالزوجين فقط ، فمع مصادقة الزوجة على صحة الرجعة ووقوعها شرعا لا يلتفت إلى رضا المولى : ولا موجب لليمين على الزوج ، لأن اليمين إن كانت للمرأة فهي قد صدقته فلا يمين في البين ، وإن كان للمولى فقد عرفت أن رضاه غير معتبر.

وتردد المحقق في ذلك ووجهه الشارح في المسالك بأن حق المولى إنما يسقط زمن الزوجية لا مع زوالها ، وهو الآن يدعي عود حقه والزوج ينكره فيتوجه اليمين ، قال : وبهذا يظهر منع تعلق الحق بالزوجين فقط ، فإن ذلك إنما هو في زمن الزوجية ، إذ قبلها الحق منحصر في المولى وكذا بعدها ، والنزاع هنا في ذلك ، فالقول باليمين أجود بل يحتمل تقديم قول المولى لقيامه في ذلك مقام الزوجة ، وقولها مقدم على الوجه المتقدم ، فلا أقل من اليمين على الزوج ، انتهى.

أقول : والحكم لكونه خاليا من النص موضع توقف وإشكال ، كما عرفت في أمثاله الجارية على هذا المنوال ، والاعتماد على هذه التعليلات العليلة مجازفة في أحكام الملك المتعال.

إلحاق فيه اشقاق

قد جرت عادة جملة من الأصحاب بذكر الحيل الشرعية في هذا المقام ، قال المحقق في الشرائع : يجوز التوصل بالحيل الشرعية المباحة دون المحرمة في إسقاط ما لو لا الحيلة لثبت ، ولو توصل بالمحرمة أثم وتمت الحيلة.


قال شيخنا في المسالك بعد ذكر ذلك : هذا باب واسع في جميع أبواب الفقه ، والغرض منه التوصل إلى تحصيل أسباب تترتب عليها أحكام شرعية ، وتلك الأسباب قد تكون محللة وقد تكون محرمة ، والغرض من تعليم الفقيه الأسباب المباحة ، فأما المحرمة فيذكرونها بالفرض ليعلم حكمها على تقدير وقوعها ، انتهى.

أقول : لا ريب أن جملة من الحيل المشار إليها قد دلت عليها الأخبار بالخصوص ، وجملة منها وإن لم تدل عليه النصوص إلا أنها موافقة لمقتضى القواعد المتفق عليها بينهم.

(ومنها) ما هو باطل ، وإن توهم كونه حيلة شرعية موجبة لتحليل ما أريد منها كما سيظهر لك إن شاء الله ، إلا أن العمل على ما لم يوجد فيه نص بالخصوص على الإطلاق لا يخلو من إشكال لما يظهر مما حكاه الله تعالى في كتابه عن اليهود في قضية الاصطياد الذي نهوا عنه يوم السبت ، وأنه عزوجل مسخهم قردة بما عملوه من الحيلة في ذلك.

ففي تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام (1) عند قوله تعالى في سورة البقرة «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (2) قال : «قال علي بن الحسين عليه‌السلام : كان هؤلاء قوما يسكنون على شاطئ بحر فنهاهم الله وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت ، فتوصلوا إلى حيلة ليحلوا بها لأنفسهم ما حرم الله ، فخذوا أخاديد وعملوا طرقا تؤدي إلى حياض يتهيأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق ، ولا يتهيأ لها الخروج إذا همت بالرجوع ، فجاءت الحيتان يوم السبت جارية على أمان لها فدخلت الأخاديد وحصلت في الحياض والغدران ، فلما كانت عشية اليوم همت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن من صائدها فرامت الرجوع فلم تقدر ، وبقيت ليلتها في مكان يتهيأ أخذها بلا اصطياد لاسترسالها

__________________

(1) تفسير الامام الحسن العسكري (ع) ص 136 مع اختلاف يسير.

(2) سورة البقرة ـ آية 65.


فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها ، وكانوا يأخذون يوم الأحد ويقولون : ما اصطدنا في السبت وإنما اصطدنا في الأحد ، وكذب أعداء الله بل كانوا آخذين بها بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت حتى كثر من ذلك مالهم» الحديث.

ويظهر من المحقق الأردبيلي ـ رحمه‌الله عليه ـ التوقف في استعمال هذه الحيل ، ولو كانت بحسب الظاهر جارية على نهج القوانين الشرعية ، ذكر ذلك في غير موضع من شرحه على كتاب الإرشاد ، منها في باب الربا حيث قال ـ في تمثيل المصنف بقوله : مثل إن أراد بيع قفيز حنطة بقفيز (1) من شعير أو الجيد بالرديين وغير ذلك ـ ما لفظه : يبيع المساوي بالمساوي قدرا ويستوهب الزائد ، وهو ظاهر لو حصل القصد في البيع والهبة ، وينبغي الاجتناب عن الحيل مهما أمكن ، وإذا اضطر يستعمل ما ينجيه عند الله ، ولا ينظر إلى الحيل وصورة جوازها ظاهرا ، لما عرف من علة تحريم الربا ، وكأنه إلى ذلك أشار في التذكرة بقوله : لو دعت الضرورة إلى بيع الربويات مستفضلا مع اتحاد الجنس. إلخ ، انتهى كلامه رحمة الله عليه.

ومحصله : أن الفقهاء قد ذكروا جملة من الحيل الموجبة للخروج من الربا كما قدمنا ذكره في كتاب البيع ، ومنها ما ذكر هنا ، وهو أن يبيعه المساوي ويهب له الزائد ، وظاهر المحقق المذكور التوقف في ذلك من حيث عدم القصد إلى الهبة ، وإنما الغرض منها التوصل إلى تحليل ما حرم الله تعالى بالحيل إلا ما ورد به النص وإلا فما ذكره من أن القصد لم يكن للهبة من حيث هي وإنما القصد إلى تحليل الربا يمكن خدشه بأنه لا تشترط قصد جميع الغايات المترتبة على ذلك العقد ، بل يكفي قصد غاية صحيحة من غاياته كما صرح به شيخنا في المسالك وتبعه من تأخر عنه في ذلك حيث قال ونعم ما قال :

ولا يقدح في ذلك كون هذه الأمور غير مقصودة بالذات ، والعقود تابعة

__________________

(1) في شرح الإرشاد «بقفيزين».


للقصود ، لأن قصد التخلص من الربا إنما يتم مع القصد إلى بيع صحيح أو قرض أو غيرهما من الأنواع المذكورة وذلك كاف في القصد ، إذ لا يشترط في القصد إلى عقد قصد جميع الغايات المترتبة عليه ، بل يكفي قصد غاية صحيحة من غاياته فإن من أراد شراء دار مثلا ليؤاجرها ويكتسب بها فإن ذلك كاف في الصحة ، وإن كان لشراء الدار غايات أخر أقوى من هذه وأظهر في نظر العقلاء ، وكذا القول في غير ذلك من أفراد العقود ، وقد ورد في أخبار كثيرة يدل على جواز الحيلة على نحو ذلك ، انتهى.

والواجب هنا ذكر جملة مما خطر بالبال من الأنواع التي توصل إلى تحليلها بالاحتيال والتمييز بين صحيحها وفاسدها زيادة على ما تقدم سيما في باب الربا من كتاب البيع وكتاب الشفعة.

(ومنها) ما اشتهر في هذه الأوقات من أنه إذا كان في ذمة الرجل ألف درهم من وجه الخمس أو الزكاة فإنه يبيع سلعة قيمتها مائة درهم على فقير بألف درهم ثم يحتسب عليه الثمن بما في ذمته من وجه الخمس أو الزكاة ، وهذا البيع بحسب القواعد الشرعية صحيح إذا وقع بالتراضي من الطرفين ومعرفة المبيع من الجانبين ، ولكن إذا نظرت إلى الواقع وأنه لم يدفع في الحقيقة من تلك الألف إلا مائة درهم خاصة حصل الإشكال في حصول البراءة من الزائد بهذه الحيلة ، وكانت قريبة من حيلة اليهود في إسقاط ما حرم الله عليهم.

ولا يبعد أن يقال إن الذمة مشغولة بهذا المبلغ بيقين ، ولا تبرأ إلا بيقين دفعه كملا ، وحصول الدفع بهذه الحيلة غير معلوم يقينا على أنه يمكن أن يقال : إن في صحة هذا البيع إشكالا ، لأنه وإن صح البيع في أمثاله بزيادة على الثمن الواقعي أضعافا مضاعفة إلا أنه مخصوص بقصد المشتري الى دفع الثمن ورضاه بالمبيع بهذا الثمن ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ، فإن المشتري إنما رضي بالشراء بهذا الثمن من حيث علمه بأنه لا يؤخذ منه ، وإلا فمن المجزوم به أنه لا يرضى بدفع هذا الثمن في مقابلة هذا المبيع اليسير كما هو المفروض.


وبالجملة فإنه من الظاهر أن المشتري لم يقصد دفع الثمن ، مع أن الثمن أحد أركان المبيع كما تقدم في كتاب البيع فهو في قوة أنه اشترى بلا ثمن ، ولا خلاف في بطلانه لما عرفت. وكيف كان فالجزم ببراءة الذمة عندي في هذه الصورة محل توقف وإشكال.

(ومنها) ما لو خافت المرأة من تزويج زوجها بامرأة معينة فحملت ولدها على أن يتزوج بها قبل أبيه ، أو أمة يريد شراءها الأب فاشتراها الابن ، أو حملت الام ابنها على الزنا بتلك المرأة التي يريد أبوه تزويجها أو الأمة التي يريد شراءها بناء على نشر الحرمة بالزنا ، فإنه وإن أثم من حيث حرمة الزنا إلا أن الحيلة تحصل به.

(ومنها) ما لو كرهت المرأة زوجها وأرادت انفساخ العقد بينهما فارتدت انفسخ النكاح وبانت منه إن كان قبل الدخول ، ولو كان بعده توقف البينونة على انقضاء العدة قبل رجوعها ، فإن أخرت إلى انقضائها بانت منه ، فإذا رجعت بعد ذلك إلى الإسلام قبل وتمت الحيلة ، كذا ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، ولا يخلو من إشكال ، فإن مقتضى هذا الكلام أن إظهار الارتداد لم يقع عن تغير في الاعتقاد للإسلام واعتقاد الكفر ، والكفر الموجب للفسخ إنما مناطه الاعتقاد لا مجرد الإظهار ، ومجرد الإظهار إنما يوجب الفسق لا الكفر.

وبالجملة فإنه لا يظهر في صحة هذه الحيلة على وجه ينفسخ بها النكاح إذ مرجعها إلى إظهار الكفر من غير زوال اعتقاد الإسلام وهو غير موجب للارتداد شرعا.

(ومنها) ما عدوه في هذا الباب من الحيل المبيحة (1) لنكاح جماعة امرأة في

__________________

(1) أقول : قال في المختلف : قال الشيخ في الخلاف : إذا تزوج امرأة ثم خلعها ثم تزوجها وطلقها قبل الدخول بها لا عدة عليها. وقال في المبسوط : إذا خلعها ثم تزوجها ثم طلقها ثم راجعها ثم خالعها قبل الدخول قال قوم تبنى ، وقال آخرون


يوم واحد بأن يتزوجها أحدهم ويدخل بها ثم يطلقها ، ثم يتزوجها ثانية ويطلقها من غير دخول ، فإنه يجوز للآخر أن يتزوجها في تلك الحال لسقوط العدة حيث إنها غير مدخول بها. هكذا ذكر في المفاتيح ثم قال : وهو غلط واضح لأن العدة الأولى لم تسقط إلا بالنسبة إلى الزوج الأول الذي هو صاحب الفراش حيث لا يجب الاستبراء من مائه ، وأما بالنسبة إلى غيره فما العلة في سقوطها ، وإنما الساقط العدة الثانية فقط ليس إلا ، انتهى.

أقول : لا ريب أن ما أورده عليهم ظاهر الورود كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ، إلا أن كلامه أيضا لا يخلو من سهو وغفلة ، فإنه قد فرض المسألة في نكاح قوم لامرأة واحدة في يوم ، وهذا لا يتم فيما فصله وأوضحه من أنه يتزوجها أحدهم ويدخل بها ثم يطلقها. إلخ ، فإن الطلاق بعد الدخول لا يصح عندنا إلا بعد الاستبراء بحيضة أو ثلاثة أشهر ، وحينئذ فكيف يمكن ما فرضه من وقوع نكاح القوم في يوم واحد ، اللهم إلا أن يكون مراده الرد على العامة القائلين بجواز الطلاق في الطهر الذي واقع فيه من غير حاجة إلى الاستبراء ، وإن كان الظاهر من كلامه إنما هو الرد على من ذهب من أصحابنا إلى صحة هذه الحيلة.

ثم إن من ذهب من أصحابنا إلى ذلك وجوزه فإنما يفرضه في المتعة حيث إنها تبين بمجرد انقضاء المدة أو هبتها.


لكن المفهوم من كلام الفضل بن شاذان (1) وكلام الشيخ المفيد على ما نقله المرتضى ـ رحمة الله عليه ـ في كتاب المجالس الذي جمعه من كلام الشيخ المفيد ـ رحمة الله عليه ـ هو إنكار ذلك وتخصيصه بالعامة ، مع أنهم يلزمهم مثل ذلك متى قالوا بسقوط العدة في الصورة المذكورة كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ، وصورة الإلزام الذي ألزم به الفضل بن شاذان من جواز نكاح عشرة لامرأة واحدة في يوم واحد موضعه طلاق الخلع والطلاق البائن ، حيث إن العامة لا يوجبون الاستبراء ويجوزون الطلاق في الحيض ، قال الشيخ المفيد ـ بعد حكاية ما وقع للفضل بن شاذان مع العامة ـ ما صورته : والموضع الذي لزمت هذه الشناعة فقهاء العامة دون الشيعة الإمامية أنهم يجيزون الخلع والطلاق والظهار في الحيض وفي الطهر الذي قد

__________________

تستأنف وهو الصحيح عندنا ، وقال بعضهم لا عدة عليها ها هنا وهو الأقوى عندنا والأول أحوط. وقال ابن البراج في المهذب : فان خالعها ثم تزوجها ثم طلقها استأنفت أيضا العدة ولم يجز لها أن تبنى على ما تقدم ـ ثم قال في المختلف : ـ والوجه ما قاله الشيخ في الخلاف لقوله تعالى «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها» انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(1) أقول : صورة ما حكى عن الفضل في الكتاب المذكور قال : قد ألزم الفضل بن شاذان فقهاء العامة ـ على قولهم في الطلاق أن يحل للمرأة المسلمة الحرة أن يمكن من وطئها في اليوم الواحد عشرة أنفس على سبيل النكاح ، وهذا شنيع في الدين ومنكر في الإسلام.

قال الشيخ : ووجه إلزامه لهم ذلك بأن قال : أخبروني عن رجل تزوج امرأة على الكتاب والسنة وساق إليها مهرها ، أليس قد حل له وطؤها ، فقالوا وقال المسلمون كلهم : بلى ، ، قال : فان كرهها عقيب الوطء أليس يحل له خلعها؟ فما مذهبكم في تلك الحال؟ قال العامة خاصة : نعم ، قال : فان خلعها ثم بدا له بعد ساعة في العود إليها أليس له أن يخطبها لنفسه؟ قالوا : بلى ، قال لهم : فان عقد عليها عقد النكاح أليس قد عادت الى ما كانت عليه من النكاح وسقطت عنها عدة الخلع؟ قالوا : بلى ، قال : فان رجع الى نيته في فراقها ففارقها عقيب العقد الثاني من غير أن يدخل بها ثانية أليس قد بانت منه ولا عدة عليها بنص القرآن من قوله تعالى «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها»؟ فقالوا : نعم ، ولا بد لهم من ذلك مع التمسك بالقرآن ، قال لهم : قد حلت من وقتها للأزواج إذ ليس عليها عدة بنص القرآن ، قالوا : بلى ، قال : فما تقولون لو صنع بها الثاني كصنع الأول أليس يكون قد نكحها اثنان في بعض يوم من غير حظر في ذلك على أصولكم في الأحكام ، فلا بد من أن يقولوا : بلى ، وقال : وكذلك لو نكحها ثالث ورابع الى أن يتم عشرة أنفس وأكثر من ذلك الى آخر النهار أليس يكون جائزا حلالا؟ وهذه من الشناعة بمرتبة لا تليق بأهل الإسلام. قال الشيخ : والموضع الى آخر ما هو مذكور في الأصل ، انتهى.

(منه ـ قدس‌سره ـ).


حصل فيه جماع من غير استبانة حمل ، والإمامية تمنع من ذلك وتقول إن هذا أجمع لا يقع بالحاضرة التي تحيض إلا بعد أن تكون طاهرا من الحيض طهرا لم يحصل فيه جماع ، فلذلك سلمت مما وقع فيه المخالفون ، انتهى.

وظاهر كلام هؤلاء المشايخ بل الظاهر أنه المشهور هو سقوط العدة عن المختلعة والمطلقة ثلاثا لو عقد عليها الزوج بعد ذلك قبل انقضاء العدة ثم طلقها قبل الدخول ، وأنها يجوز لغيره في تلك الحال التزويج بها لدخوله تحت عموم الآية ، ولم يتفطن هؤلاء الإعلام إلى أن ما ألزموه العامة من هذه الشناعة التي شنعوا بها عليهم لازمة لهم متى قالوا بهذا القول ، وذلك فإنه لو انقضت عدة المستمتعة وتم أجلها أو وهبها ذلك فإنها تبين في الحال ، ولا خلاف في أنه يجوز لزوجها العقد عليها في تلك العدة ، فلو عقد عليها ثم أبرأها قبل الدخول بها فإنه لا عدة عليها لكونها غير مدخول بها ، فيجوز لآخر أن يتمتعها ويعمل بها ما عمل وهكذا حسبما شنعوا به على العامة ، ومنشأ الغلط في هذه المسألة هو أن العدة إنما تسقط بالنسبة إلى الزوج كما تقدم في كلام المحدث المتقدم ، فإنه يجوز له العقد عليها قبل انقضاء العدة لعدم وجوب الاستبراء من مائه الذي هو العلة في وجوب العدة ، وأما بالنسبة إلى غير الزوج فلا تسقط ، وطلاقه لها ثانيا بعد هذا العقد المجرد عن الدخول لا يؤثر في سقوط تلك العدة الاولى ، وإنما يؤثر في عدة هذا الطلاق ، والتمسك بظاهر الآية في المقام مغالطة ، فإنها إنما دلت على سقوط العدة في الطلاق أو الإبراء الثاني ولا نزاع فيه ، ومحل النزاع إنما هو العدة الاولى والإبراء الأول ، والآيات والروايات الدالة على وجوب العدة شاملة لهذه الصورة ، والسقوط إنما ثبت بالنسبة إلى الزوج خاصة بدليل خاص ، وأما غيره فعموم الآيات والروايات دال على وجوبها.

والذي يدل على ما ذكرنا من الاختصاص بالزوج ما رواه في الكافي (1) في

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 459 ح 3 ، الوسائل ج 14 ص 475 ب 23 ح 3.


الصحيح أو الحسن عن ابن أبي عمير عمن رواه قال : «إن الرجل إذا تزوج المرأة متعة كان عليها عدة لغيره ، فإذا أراد هو أن يتزوجها لم يكن عليها منه عدة يتزوجها إذا شاء».

وقد وقفت على رسالة في المتعة الظاهر أنها من تصانيف المحقق الفيلسوف العماد مير محمد باقر الداماد ، وقد جنح فيها إلى القول المشهور ولم يتفطن إلى ما فيه من القصور فصرح بأن المستمتعة المحتال في سقوط عدتها بذلك النحو لا عدة عليها لا للعقد الثاني ولا للأول.

وممن أنكر ذلك وصرح ببطلان هذه الحيلة شيخنا البهائي ـ رحمه‌الله عليه ـ في أجوبة مسائل الشيخ صالح الجزائري حيث قال بعد كلام في المقام : أما لو دخل بالمتمتع بها ثم أبرأها ثم تمتع بها وأبرأها قبل الدخول فالذي أعتمد عليه أنه لا تحل لغيره العقد عليها إلا بعد العدة ، ولا فرق بين الإبراء والطلاق ، وما يوجد في كتب الأصحاب من جواز ذلك لانخراطه في سلك المطلقات قبل الدخول لا أعول عليه ولا أقول به ، وللكلام فيه مجال واسع ليس هذا محله ، والله أعلم ، انتهى.

(ومنها) ما لو أراد التوصل إلى حل نظر يحرم عليه نظرها ، ولمس من يحرم عليه لمسها بأن يعقد الرجل بابنه الصغير متعة على امرأة بالغة لأجل أن يحل للأب نظر تلك المرأة المعقود عليها ولمسها ، أو يعقد الرجل بابنته الصغيرة على رجل لأجل أن يكون ذلك الرجل محرما لام البنت وجدتها يحل له نظرهما ولمسهما ونحو ذلك ، والظاهر عندي صحة ذلك وأنه يترتب على هذا العقد ما يترتب على عقود النكاح ، والمقصود منها النكاح ، وإن لم يكن هذا العقد مقصودا به النكاح ، وقد عرفت مما قدمنا نقله قريبا عن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك أنه لا يشترط في صحة العقد قصد جميع غاياته المترتبة عليه بل يكفي قصد بعضها ، على أن ما تمسك به من توهم عدم جواز ذلك من أن العقود تابعة للقصود وقصد النكاح هنا غير موجود.


وفيه (أولا) أنه إن أريد القصد ولو في الجملة فهو حاصل ، وإن أريد القصد إلى كل ما يترتب على ذلك العقد فعلى مدعي ذلك إثباته بالدليل ، مع أن ظاهر الأدلة كما سيظهر لك إنما هو خلاف ذلك.

(وثانيا) أن الظاهر من الأخبار على وجه لا يزاحمه الإنكار وهو انخرام هذه القاعدة وبطلان ما رتبوه عليها من هذه الفائدة كما لا يخفى على من جاس خلال ديار الأخبار والتقط من لذيذ تلك الثمار.

وها أنا أتلو عليك ما حضرني من الأخبار المشار إليها ، فمن ذلك الأخبار الواردة في التخلص من الربا والحيلة في دفعه.

ومنها ما رواه في الكافي (1) عن محمد بن إسحاق بن عمار قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إن سلسبيل طلبت مني مائة ألف درهم على أن تربحني عشرة آلاف درهم ، فأقرضتها تسعين ألفا وأبيعها ثوبا أو شيئا يقوم على بألف درهم بعشرة آلاف درهم ، قال : لا بأس».

وما رواه في الكافي والتهذيب (2) عن محمد بن إسحاق بن عمار أيضا قال : «قلت للرضا عليه‌السلام : الرجل يكون له المال قد حل على صاحبه ، يبيعه لؤلؤة تسوى مائة درهم بألف درهم ، ويؤخر عليه المال إلى وقت؟ قال : لا بأس ، قد أمرني أبي عليه‌السلام ففعلت ذلك. وزعم أنه سأل أبا الحسن عليه‌السلام عنها فقال له مثل ذلك».

وروى المشايخ الثلاثة (3) ـ رحمة الله عليهم ـ في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألته عليه‌السلام عن الصرف ـ إلى أن قال : ـ فقلت له : أشتري ألف درهم ودينار بألفي

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 205 ح 9 ، الوسائل ج 12 ص 379 ب 12 ح 1 وفيهما اختلاف يسير.

(2) الكافي ج 5 ص 205 ح 10 ، التهذيب ج 7 ص 53 ح 28 ، الوسائل ج 12 ص 380 ب 12 ح 6 وما في المصادر اختلاف يسير.

(3) الكافي ج 5 ص 246 ح 9 ، التهذيب ج 7 ص 104 ح 51 ، الوسائل ج 12 ص 466 ب 6 ح 1 وما في المصادر اختلاف يسير.


درهم؟ قال : لا بأس ، إن أبي كان أجرأ على أهل المدينة مني ، وكان يقول هذا فيقولون إنما هذا الفرار ، لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار ، وكان يقول لهم : نعم الشي‌ء الفرار من الحرام إلى الحلال». إلى غير ذلك من الأخبار الواردة كذلك.

والتقريب فيها أنهم عليهم‌السلام قد حكموا بصحة بيع هذه الأشياء المذكورة بأضعاف ثمنها الواقعي توصلا إلى الخروج من الوقوع في الربا ، وأصل البيع غير مقصود البتة ، ولهذا أنكرته العامة العمياء ، وإنما المقصود ما ذكرناه ، والشارع قد سوغه وجوزه كما نقله عنه نوابه عليه‌السلام وخلفاؤه عليه‌السلام وبه يظهر أنه لا يشترط قصد جميع ما يترتب على ذلك العقد.

(ومنها) الأخبار الدالة على صحة بيع الآبق (1) مع ضميمة وإن كانت يسيرة والثمار قبل ظهورها أو بلوغ حد الصلاح مع الضميمة (2) أيضا ، فلو لم يوجد الآبق ولم تخرج الثمار أو خرجت وفسدت كان الثمن في مقابلة الضميمة ، مع أن تلك الأثمان أضعاف ثمن هذه الضميمة واقعا والعقد أولا ، وبالذات لم يتوجه إلى بيع الضميمة بهذا الثمن الزائد البتة ، وهم عليهم‌السلام قد حكموا بصحة البيع فيها بهذا الثمن ، وإن كان الغرض من ضمها إنما هو التوصل إلى صحة بيع تلك الأشياء.

(ومنها) الأخبار الدالة على أن العقد المقترن بالشرط الفاسد صحيح وإن بطل الشرط كما هو أحد القولين في المسألة ، وجمهور الأصحاب وإن كانوا بناء على هذه القاعدة حكموا ببطلان العقد من أصله ، لأن المقصود بالعقد هو المجموع وأصل العقد مجردا عن الشرط غير مقصود فيكون باطلا ، لأن العقود تابعة للقصود

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 209 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 69 ح 10 ، الوسائل ج 2 ص 262 ب 11 ح 1 و 2.

(2) الكافي ج 5 ص 176 ح 7 ، التهذيب ج 7 ص 84 ح 3 ، الوسائل ج 13 ص 9 ب 3 ح 2.


فما كان مقصودا غير صحيح ، وما كان صحيحا غير مقصود ، إلا أن الأخبار ترده في جملة من الأحكام كما في صحيحة محمد بن قيس (1) عن أبي جعفر عليه‌السلام «في الرجل يتزوج المرأة بمهر إلى أجل مسمى ، فإن جاء بصداقها إلى أجل مسمى فهي امرأته ، وإن لم يأت بصداقها إلى الأجل فليس له عليها سبيل ، وذلك شرطهم عليه حين أنكحوه ، فقضى للرجل أن بيده بضع امرأته وأحبط شرطهم». ونحوه صحيحته الأخرى أيضا.

وحسنة الحلبي (2) عن أبي عبد الله عليه‌السلام الواردة في بريرة وأنها كانت مملوكة لقوم فباعوها عائشة واشترطوا أن لهم ولاءها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الولاء لمن أعتق.

وروى الكليني (3) عن الوشاء عن الرضا عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : لو أن رجلا تزوج امرأة وجعل مهرها عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف كان المهر جائزا ، والذي جعل لأبيها فاسدا».

والسيد السند صاحب المدارك في شرح النافع حيث إنه من القائلين بهذه القاعدة التجأ في الواجب عن صحيحتي محمد بن قيس إلى قصرهما على مورديهما بعد أن حكم أنهما في حكم رواية واحدة ، ولم يعلم أن الدلالة على ما ذكرناه لا ينحصر فيهما ، مع أنه قد اعترف بما ذكرناه في رواية الوشاء المذكورة فقال : ويستفاد من هذه الرواية عدم فساد العقد باشتماله على هذا الشرط الفاسد ، انتهى.

(ومنها) الأخبار الدالة على أن عقد المتعة مع عدم ذكر الأجل فيه ينقلب دائما كما في موثقة عبد الله بن بكير (4) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن سمى الأجل فهو متعة ، وإن لم يسم الأجل فهو نكاح بات».

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 402 ح 1 ، الوسائل ج 15 ص 20 ب 10 ح 2 وفيهما اختلاف يسير.

(2) الفقيه ج 3 ص 79 ح 4 ، الوسائل ج 16 ص 40 ب 37 ح 2.

(3) الكافي ج 5 ص 384 ح 1 ، الوسائل ج 15 ص 19 ب 9 ح 1.

(4) الكافي ج 5 ص 456 ح 1 ، الوسائل ج 14 ص 469 ب 20 ح 1.


ونحوها رواية أبان بن تغلب (1) ورواية هشام بن سالم (2) كما تقدم جميع ذلك في المسألة المذكورة.

وقد استشكل جملة من متأخري المتأخرين بناء على هذه القاعدة في العمل بهذه الأخبار ، وهو مجرد استبعاد عقلي في مقابلة النصوص ، فإن الدلالة على هذا الحكم غير مختص لهذه الأخبار لما عرفت مما تلوناه من الأخبار المذكورة ، فإنها صريحة في رد القاعدة المذكورة وبمضمونها قال الأصحاب : فلا وجه لهذا الاستشكال ولا مستند لهذه القاعدة إلا مجرد العقل ، وإن دل بعض الأخبار في بعض الجزئيات على ما تضمنته ، إلا أنه ليس على وجه كلي يوجب كونه قاعدة كلية ، والأحكام الشرعية توقيفية تدور مدار الأدلة الشرعية وجودا وعدما ، وإن اشتهر بينهم ـ رضوان الله عليهم ـ تقديم الأدلة العقلية على الأدلة النقلية حتى أنهم في الكتب الاستدلالية تراهم في جملة الأحكام إنما يبدأون بالأدلة العقلية ثم يردفونها بالأدلة النقلية ، وهو غلط محض كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في جملة من زبرنا.

وبالجملة فإن الظاهر مما تلوناه من الأخبار المذكورة هو عدم الاعتماد على هذه القاعدة ، إلا أن تحمل على ما قدمنا ذكره آنفا من القصد ولو في الجملة ، وبه تنطبق على هذه الأخبار كما لا يخفى على ذوي الأفكار ، وفي هذه المسألة توهمات أخر قد بينا فسادها في كتابنا «الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية» من أحب الوقوف عليها فليرجع إليه.

(ومنها) ما لو كان عليه دين قد بري‌ء منه بالأداء إلى صاحبه ، أو إبراء صاحبه من ذلك الدين فادعى عليه وخاف من دعوى الأداء أو الإبراء أن تنقلب اليمين إلى المدعي لعدم البينة فأنكر الاستدانة من رأس ، فإنه يجوز له أن يحلف على ذلك بشرط التورية ليخرج من الكذب على ما صرح به الأصحاب من غير خلاف يعرف.

__________________

(1 و 2) الكافي ج 5 ص 455 ح 3 ، الوسائل ج 14 ص 470 ب 20 ح 2 و 3.


والمراد بالتورية بأن يقصد بمدلول اللفظ إلى أمر غير ما يدل ظاهر اللفظ بأن يقصد بقوله «ما استدنت منك» نفي الاستدانة في مكان مخصوص أو زمان مخصوص غير الزمان أو المكان الذي وضعت فيه الاستدانة واقعا ، أو يقصد نوعا من المال غير الذي استدانه فينوي في حال حلفه على أحد هذه الوجوه ما كان الضرورة حيث إنه بري‌ء الذمة واقعا غير مخاطب بالأداء شرعا. هذا إذا كان المدعى عليه مظلوما كما عرفت ، فإن التورية في يمينه لدفع ذلك الظلم حائزة شرعا.

وأما لو كان المدعي محقا فأنكر المدعى عليه وحلف موريا بها يخرجه عن الكذب فإنه لا تفيده التورية هنا ، لأن اليمين هنا على نية المدعي وقصده دون المدعى عليه ، فيترتب على هذه اليمين ما يترتب على من حلف بالله كاذبا من الإثم والمؤاخذة.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه في الكافي (1) في الصحيح أو الحسن عن صفوان قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يحلف وضميره على غير ما حلف عليه ، قال : اليمين على الضمير».

وما رواه في الكافي والفقيه (2) عن إسماعيل بن سعد الأشعري في الصحيح عن الرضا عليه‌السلام مثله.

وما رواه في الكافي (3) عن مسعدة بن صدقة قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : وسئل عما يجوز وما لا يجوز في النية على الإضمار في اليمين فقال :

قد يجوز في موضع ولا يجوز في آخر ، فأما ما يجوز فإذا كان مظلوما فيما حلف

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 444 ح 3 ، الوسائل ج 16 ص 150 ب 21 ح 2 وفيهما اختلاف يسير.

(2) الكافي ج 7 ص 444 ح 2 ، الفقيه ج 3 ص 233 ح 30 ، الوسائل ج 16 ص 149 ب 21 ح 1.

(3) الكافي ج 7 ص 444 ح 1 ، التهذيب ج 8 ص 280 ح 17 ، الوسائل ج 16 ص 149 ب 20 ح 1 وما في المصادر اختلاف يسير.


عليه ونوى اليمين فعلى نيته ، وأما إذا كان ظالما فاليمين على نية المظلوم.

أقول : وبما دل عليه الخبر الثاني يجب تخصيص الخبر الأول بضمير المظلوم فقوله «اليمين على الضمير» يعني ضمير المظلوم ، وهو خاص بالصورة الاولى من الصورتين المتقدمتين ، ومن الخبر الثاني يظهر أن التورية في الصورة الثانية لا تفيد صاحبها فائدة لأنه عليه‌السلام حكم في هذه الصورة بأن اليمين على نية المظلوم وقصده ، فلا أثر للتورية حينئذ في هذه الصورة من الظالم ، ويظهر من جملة من الأخبار جواز الحلف في مثل هذه المقام والاخبار بغير الواقع وإن لم يرتكب التورية ، وموردها ما إذا لم يكن التوصل إلى حقه أو دفع الضرر عن نفسه إلا بتلك اليمين الكاذبة فإنه يجوز له الحلف والحال هذه ، وما نحن فيه من قبيل الثاني وهو دفع الضرر عن نفسه.

ومن الأخبار المشار إليها ما رواه في الفقيه (1) بطريقه إلى ابن بكير عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : نمر بالمال على العشار فيطلبون منا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ، ولا يرضون منا إلا بذلك ، قال : فاحلف لهم ، فهو أحلى من التمر والزبد».

وما رواه في التهذيب (2) في الصحيح عن الوليد بن هشام المرادي ـ وهو مهمل ـ قال : «قدمت من مصر ومعي رقيق ، ومررت بالعشار فسألني ، فقلت : هم أحرار كلهم. فقدمت المدينة فدخلت على أبي الحسن عليه‌السلام فأخبرته بقول العشار ، فقال : ليس عليك شي‌ء».

وما رواه في الفقيه (3) في الصحيح عن الحلبي قال : «سألته عن الرجل يحلف

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 230 ح 14 ، الوسائل ج 16 ص 135 ب 12 ح 6.

(2) الفقيه ج 3 ص 84 ح 8 ، التهذيب ج 8 ص 289 ح 60 ، الوسائل ج 16 ص 71 ب 60 ح 1 وما في المصادر اختلاف يسير.

(3) الفقيه ج 3 ص 231 ح 21 ، الوسائل ج 16 ص 135 ب 12 ح 8.


لصاحب العشور ، يجوز بذلك ماله؟ قال : نعم».

وما رواه في الكافي (1) عن محمد بن مسعود الطائي قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام إن أمي تصدقت علي بدار لها ـ أو قال : بنصيب لها في دار ـ فقالت لي : استوثق لنفسك ، فكتبت إني اشتريت وأنها قد باعتني وأقبضت الثمن ، فلما ماتت قال الورثة : احلف إنك اشتريت ونقدت الثمن ، فإن حلفت لهم أخذته ، وإن لم أحلف لهم لم يعطوني شيئا ، قال : فقال : احلف وخذ ما جعلت لك».

وما رواه في الفقيه والتهذيب (2) عن محمد بن أبي الصباح قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إن أمي تصدقت علي بنصيب لها في دار ، فقلت لها : إن القضاة لا يجيزون هذا ، ولكن اكتبيه شراء ، فقالت : اصنع من ذلك ما بدا لك في كل ما ترى أنه يسوغ لك ، فتوثقت ، فأراد بعض الورثة أن يستحلفني أني قد نقدتها الثمن ولم أنقدها شيئا ، فما ترى؟ فقال : احلف لهم».

واحتمال تقييد إطلاق هذه الأخبار بالأولة وإن أمكن إلا أن الظاهر أنه لا يخلو من بعد ، ومن أراد الاطلاع على ما يزيد ما ذكرنا من المواضع التي ذكرها الأصحاب في أمثلة الاحتيال فليراجع إلى مطولاتهم.

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 32 ح 17 مع اختلاف يسير.

(2) الفقيه ج 3 ص 228 ح 4 ، التهذيب ج 8 ص 287 ح 48 ، الوسائل ج 13 ص 310 ب 9 ح 5 وما في المصادر اختلاف يسير.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *