ج8 - أحكام القراءة
الفصل الرابع
والنظر في واجباتها ومستحباتها ولواحقها وحينئذ فيجب بسط الكلام فيها في بحوث ثلاثة (الأول) في واجباتها وفيه مسائل (الأولى) لا خلاف نصا وفتوى في وجوب قراءة الحمد عينا في الصلاة الواجبة في ركعتي الصبح وأوليي الصلوات الباقية ، وعليه عمل النبي (صلىاللهعليهوآله) والأئمة (عليهمالسلام) من بعده وبه استفاضت اخبارهم.
انما الخلاف في الركنية وعدمها فالمشهور ـ بل ادعى عليه
الشيخ (قدسسره) في الخلاف
الإجماع ـ على العدم ، ونقل في المبسوط عن بعض أصحابنا القول بركنيتها. ويدل على
المشهور ما رواه الكليني في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) قال : «ان
الله عزوجل فرض الركوع
والسجود ، والقراءة سنة فمن ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة ومن نسي القراءة فقد
تمت صلاته ولا شيء عليه». ورواه الصدوق في الصحيح عن زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) مثله (2).
وروى في الفقيه في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) (3) قال : «لا
تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود ، ثم قال
القراءة سنة والتشهد سنة ولا تنقض السنة الفريضة».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد
الله (عليهالسلام) (4) قال : «قلت
الرجل يسهو عن القراءة في الركعتين الأوليين فيذكر في الركعتين الأخيرتين انه لم
يقرأ؟ قال أتم الركوع والسجود؟ قلت نعم. قال اني اكره أن أجعل آخر صلاتي أولها».
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 27 من القراءة.
(3) الوسائل الباب 29 من القراءة.
(4) الوسائل الباب 30 من القراءة.
وعن أبي بصير في الموثق (1) قال : «إذا
نسي أن يقرأ في الاولى والثانية أجزأه تسبيح الركوع والسجود ، وان كانت الغداة
فنسي ان يقرأ فيها فليمض في صلاته». الى غير ذلك من الأخبار الدالة على صحة الصلاة
مع نسيانها.
وربما استدل على القول بالركنية بما رواه محمد بن مسلم
في الصحيح عن أبي جعفر (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الذي لا يقرأ فاتحة الكتاب في صلاته؟ قال لا صلاة له إلا ان يقرأ بها في جهر أو
إخفات». وحملها الأصحاب على ترك القراءة عمدا جمعا بينها وبين ما تقدم من الأخبار.
وعندي في المقام اشكال لم أعثر على من تنبه له ولا نبه
عليه وهو ان الفرض الذي تجب إعادة الصلاة بتركه عمدا أو نسيانا هو ما ثبت وجوبه
بالكتاب العزيز واما ما ثبت وجوبه بالسنة فهو واجب لا تبطل الصلاة بتركه سهوا ،
وبذلك صرح الأصحاب واليه تشير صحاح زرارة ومحمد بن مسلم المتقدمات ، مع انه قد ورد
في القرآن العزيز ما يدل على الأمر بالقراءة في الصلاة كقوله عزوجل «فَاقْرَؤُا
ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» (3) وهي ظاهرة في
ما ذكرناه.
وبعض الأصحاب استدل بالآية على وجوب القراءة في الصلاة
من حيث دلالة الأمر على الوجوب وأجمعوا على انها لا تجب في غير الصلاة فتجب فيها.
وبعض استدل بالتقريب المذكور على وجوب السورة حيث قالوا الأمر للوجوب وما تيسر عام
فوجب قراءة كل ما تيسر لكن وجوب الزائد على مقدار الحمد والسورة منفي بالإجماع
فيبقى وجوب السورة سالما عن المعارض. وفيه ما سيأتي عند ذكر المسألة ان شاء الله
تعالى.
__________________
(1) الوسائل الباب 29 من القراءة.
(2) الوسائل الباب 1 و 27 من القراءة.
(3) سورة المزمل ، الآية 20.
ويعضد هذه الآية أيضا قوله عزوجل «وَرَتِّلِ
الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً» (1) وقوله : «فَإِذا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ» (2) فإنهم قد
استدلوا على استحباب الاستعاذة في الصلاة بهذه الآية.
وبذلك ينبغي ان تكون القراءة فريضة كالركوع والسجود ،
وهذه الآيات في دلالتها على ما قلناه لا تقصر عن آيات الركوع والسجود من قوله عزوجل «وَارْكَعُوا
مَعَ الرّاكِعِينَ» (3) وقوله «يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا» (4) ونحوهما. وبالجملة
فإن دلالتها على ما ذكرناه أظهر من ان يذكر. ولعل من ذهب إلى الركنية نظر إلى
دلالة هذه الآيات فتكون من قبيل الركوع والسجود وفرائض الصلاة. إلا ان الأخبار كما
عرفت قد صرحت بأنها ليست بفريضة وان الصلاة لا تبطل بتركها سهوا كالفرائض من
الركوع والسجود ، والأمر في ذلك مرجوع إليهم (عليهمالسلام) فليس لنا إلا
الانقياد والتسليم بعد ثبوت الحكم عنهم (عليهمالسلام).
ثم ان من الأخبار الدالة على ما ذكرناه من وجوب القراءة صحيحة
محمد بن مسلم الأخيرة ورواية أبي بصير (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل نسي
أم القرآن؟ فقال ان كان لم يركع فليعد أم القرآن».
وعن سماعة في الموثق (6) قال : «سألته عن الرجل يقوم في
الصلاة فينسى فاتحة الكتاب؟ قال فليقل أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم انه هو
السميع العليم ثم ليقرأها ما دام لم يركع فإنه لا قراءة حتى يبدأ بها في جهر أو
إخفات».
وروى الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليهالسلام) (7) انه قال : «إنما
أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلا يكون القرآن مهجورا منسيا وليكون
__________________
(1) سورة المزمل ، الآية 4.
(2) سورة النحل ، الآية 100.
(3) سورة البقرة ، الآية 40.
(4) سورة الحج ، الآية 76.
(5 و 6) الوسائل الباب 28 من القراءة.
(7) الوسائل الباب 1 من القراءة.
محفوظا مدروسا فلا يضمحل ولا يجهل ،
وانما بدئ بالحمد دون سائر السور لانه ليس شيء من القرآن والكلام جمع فيه من
جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد. الحديث». قال : وقال الرضا (عليهالسلام) «انما جعل
القراءة في الركعتين الأوليين والتسبيح في الأخيرتين للفرق بين ما فرض الله من
عنده وبين ما فرضه الرسول صلىاللهعليهوآله».
وروى محمد بن الحسين الرضي في كتاب المجازات النبوية عنه
(صلىاللهعليهوآله) (1) «كل صلاة لا
يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج». الى غير ذلك من الأخبار.
وتنقيح الكلام في المقام لئلا يتطرق اليه النقض والإبرام
يتوقف على بيان جملة من الأحكام (الأول) قد عرفت بما ذكرنا من الأخبار مضافا إلى
اتفاق علمائنا الأبرار وجوب الحمد في كل من الثنائية وأوليي غيرها ، وهل تتعين
الفاتحة في النافلة؟ الأشهر الأظهر ذلك لأن الصلاة كيفية متلقاة من الشرع فيجب
الوقوف فيها على ما ثبت نقله عن الشارع. ونقل عن العلامة في التذكرة انه لا يجب
قراءة الفاتحة فيها للأصل. وقيل عليه انه ان أراد الوجوب بالمعنى المصطلح الشرعي
فهو حق لأن الأصل إذا لم يكن واجبا لم تجب اجزاؤه ، وان أراد ما يعم الوجوب الشرطي
بحيث تنعقد النافلة بدون القراءة ـ وهو الظاهر من كلامه ـ فهو ممنوع وسند المنع ما
ذكرنا آنفا. أقول : ولو تم ما ذكره لجرى في جميع واجبات الصلاة من ذكر الركوع
والسجود والتشهد ونحوها والظاهر انه لا يلتزمه.
(الثاني) ـ قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف في الباب
بأنه يجب قراءة الحمد اجمع ولا تصح الصلاة مع الإخلال ولو بحرف واحد منها عمدا حتى
التشديد لأن الإتيان بها انما يتحقق مع الإتيان بجميع اجزائها فيلزم من الإخلال
بالجزء الإخلال بها ، ومن الحروف التشديد في مواضعه فإنه حرف وزيادة : أحدهما
الحرف والآخر ادغامه
__________________
(1) الوسائل الباب 1 من القراءة.
في حرف آخر ، والإدغام بمنزلة الاعراب
لا يجوز الإخلال به فالإخلال بالإدغام إخلال بشيئين حينئذ ، ولو فكه بطلت وان لم
يسقط الحرف لزوال الإدغام وعدم وقوع القراءة على الكيفية المنزلة.
وكما تبطل بالإخلال بحرف تبطل أيضا بترك الاعراب والمراد
به ما يشمل الحركات البنائية ، ولا فرق في الإخلال بين كونه مغيرا للمعنى كضم تاء «أنعمت»
أولا كفتح دال «الحمد» وان كان قد ورد في الشواذ لأن الاعراب كيفية للقراءة وكما
وجب الإتيان بحروفها وجب الإتيان بالإعراب المتلقى من صاحب الشرع.
وحكى في المعتبر عن بعض الجمهور انه لا يقدح في الصحة
الإخلال بالإعراب الذي لا يغير المعنى لصدق القراءة معه ، قال في المدارك وهو
منسوب للمرتضى في بعض رسائله ثم قال ولا ريب في ضعفه.
ثم قال ولا يخفى ان المراد بالإعراب هنا ما تواتر نقله
في القرآن لا ما وافق العربية لأن القراءة سنة متبعة ، وقد نقل جمع من الأصحاب
الإجماع على تواتر القراءات السبع (1) وحكى في الذكرى عن بعض الأصحاب انه
منع من قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف وهي كمال العشر ثم رجح الجواز لثبوت تواترها
كتواتر السبع. قال المحقق الشيخ علي بعد نقل ذلك وهذا لا يقصر عن ثبوت الإجماع
بخبر الواحد فيجوز القراءة بها. وهو غير جيد لأن ذلك رجوع عن اعتبار التواتر. وقد
نقل جدي (قدسسره) عن بعض محققي
القراء أنه أفرد كتابا في أسماء الرجال الذين نقلوا هذه القراءات في كل طبقة وهم
يزيدون عما يعتبر في التواتر ، ثم حكى عن جماعة من القراء انهم قالوا ليس المراد
بتواتر السبع والعشر ان كل ما ورد من هذه القراءات متواتر بل المراد انحصار
التواتر الآن في ما نقل من هذه القراءات فان بعض ما نقل عن السبعة شاذ فضلا عن
__________________
(1) القراء السبعة هم عبد الله بن عامر وعبد الله بن كثير
وعاصم وأبو عمرو بن العلاء وحمزة بن زيات ونافع والكسائي.
غيرهم ، وهو مشكل جدا لكن المتواتر لا
يشتبه بغيره كما يشهد به الوجدان.
وعلى هذا المنوال من الحكم بتواتر هذه القراءات عنه (صلىاللهعليهوآله) جرى كلام
غيره من علمائنا في هذه المجال ، وهو عند من رجع إلى اخبار الآل (عليهم صلوات ذي
الجلال) لا يخلو من الاشكال وان اشتهر في كلامهم وصار عليه مدار نقضهم وإبرامهم
حتى قال شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة الألفية مشير الى القراءات السبع : فان
الكل من عند الله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) على قلب سيد
المرسلين (صلىاللهعليهوآله) تخفيفا على
الأمة وتهوينا على أهل هذه الملة (1) انتهى.
وفيه (أولا) ان هذا التواتر المدعى ان ثبت فإنما هو من
طريق العامة الذين
__________________
(1) قال آية الله الأستاذ السيد أبو القاسم الخوئي دام ظله في
البيان ج 1 ص 92 : ذهب جمع من علماء أهل السنة إلى تواترها ـ القراءات ـ عن النبي (ص)
ونقل عن السبكى القول بتواتر القراءات العشر ، وأفرط بعضهم فزعم ان من قال ان
القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر ، ونسب هذا الرأي إلى مفتى البلاد
الاندلسية (أبي سعيد فرج بن لب) والمعروف عند الشيعة انها غير متواترة بل القراءات
بين ما هو اجتهاد من القارئ وبين ما هو منقول بخبر الواحد ، واختار هذا القول
جماعة من المحققين من أهل السنة وغير بعيد ان يكون هذا هو المشهور بينهم ، وقد حقق
ـ دامت بركاته ـ البحث تحقيقا وافيا بما لا مزيد عليه وبرهن على عدم تواترها ـ بعد
بيان حال القراء ـ بما حاصله (1) ان استقراء حال القراء يورث القطع بان القراءات
نقلت إلينا بأخبار الآحاد فليست هي متواترة عن القراء (2) وان التأمل في الطرق
التي أخذ القراء عنها يدل بالقطع على انها انما نقلت إليهم بطريق الآحاد (3) وان
اتصال الأسانيد بهم أنفسهم يقطع التواتر حتى لو كان متحققا في جميع الطبقات فان كل
قارئ انما ينقل قراءته بنفسه (4) وان احتجاج كل قارئ على صحة قراءته وإعراضه عن
قراءة غيره دليل قطعي على استنادها إلى اجتهادهم دون التواتر عن النبي (ص) وإلا لم
يحتج إلى الاحتجاج (5) أضف إلى ذلك إنكار جملة من الاعلام على جملة من القراءات
ولو كانت متواترة لما صح هذا الإنكار. ومن أراد التفصيل فليرجع اليه.
هم النقلة لتلك القراءات والرواة لها
في جميع الطبقات وانما تلقاها غيرهم عنهم وأخذوها منهم ، وثبوت الأحكام الشرعية
بنقلهم وان ادعوا تواتره لا يخفى ما فيه.
و (ثانيا) ما ذكره الإمام الرازي في تفسيره الكبير حيث
قال على ما نقله بعض محدثي أصحابنا (رضوان الله عليهم) : اتفق الأكثرون على ان
القراءات المشهورة منقولة بالتواتر ، وفيه إشكال لأنا نقول ان هذه القراءات منقولة
بالتواتر ، وان الله خير المكلفين بين هذه القراءات فان كان كذلك كان ترجيح بعضها
على بعض واقعا على خلاف الحكم الثابت بالتواتر فوجب ان يكون الذاهبون إلى ترجيح
البعض على البعض مستوجبين للفسق ان لم يلزمهم الكفر ، كما ترى ان كل واحد من هؤلاء
القراء يختص بنوع معين من القراءة ويحمل الناس عليه ويمنعهم من غيره ، وان قلنا
بعدم التواتر بل ثبوتها من طرق الآحاد فحينئذ يخرج القرآن عن كونه مفيدا للجزم
والقطع وذلك باطل قطعا. انتهى.
والجواب عن ذلك ـ بما ذكره شيخنا الشهيد الثاني الذي هو
أحد المشيدين لهذه المباني وهو ما أشار إليه سبطه هنا من انه ليس المراد بتواترها
ان كل ما ورد متواتر بل المراد انحصار المتواتر الآن في ما نقل إلا من القراءات
فان بعض ما نقل عن السبعة شاذ فضلا عن غيرهم كما حققه جماعة من أهل هذا الشأن.
انتهى ـ منظور فيه من وجهين (أحدهما) ما ذكره سبطه في الجواب عن ذلك من ان
المتواتر لا يشتبه بغيره كما يشهد به الوجدان فلو كان بعضها متواترا كما ادعاه
لصار معلوما على حدة لا يشتبه بما هو شاذ نادر كما ذكره والحال ان الأمر ليس كذلك.
و (ثانيهما) ما ذكره في شرح الألفية مما قدمنا نقله عنه
فان ظاهره كون جميع تلك القراءات مما ثبت عن الله عزوجل بطريق واحد
وهو ما ادعوه من التواتر.
وبالجملة فإنه لو كان هنا شيء متواتر من هذه القراءات
في الصدر الأول أعني زمن أولئك القراء أو كلها متواترة لم يجز هذا التعصب الذي
ذكره الرازي بين أولئك القراء في حمل
كل منهم الناس على قراءته والمنع من
متابعة غيره ، وهذا كما نقل عن النحويين من التعصب من كل منهم في ما ذهب اليه
ونسبة غيره إلى الغلط مع أنهم الواسطة في النقل عن الغرب ومذاهبهم في النحو كاشفة
عن كلام العرب في تلك المسائل. والاشكال الذي ذكره الرازي ثمة جار أيضا في هذا
المقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
و (ثالثا) وهو العمدة ان الوارد في أخبارنا يدفع ما
ذكروه فروى ثقة الإسلام في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «ان
القرآن واحد نزل من عند الواحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة».
وروى فيه أيضا في الصحيح عن الفضيل بن يسار (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) ان الناس
يقولون نزل القرآن على سبعة أحرف؟ فقال كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد
من عند الواحد».
قال المحدث الكاشاني في كتاب الصافي بعد نقل الخبرين
المذكورين : والمقصود منهما واحد وهو ان القراءة الصحيحة واحدة إلا انه (عليهالسلام) لما علم انهم
فهموا من الحديث الذي رووه صحة القراءات جميعا مع اختلافها كذبهم. انتهى.
ويقرب من ذلك ما رواه في الكافي أيضا في الصحيح إلى
المعلى بن خنيس (3) قال : «كنا
عند أبي عبد الله (عليهالسلام) ومعنا ربيعة
الرأي فذكر القرآن فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) ان كان ابن
مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضال فقال ربيعة الرأي ضال؟ فقال نعم. ثم قال أبو
عبد الله (عليهالسلام) اما نحن
فنقرأ على قراءة أبي».
قال في كتاب الوافي : والمستفاد من هذا الحديث ان
القراءة الصحيحة هي قراءة ابي وانها الموافقة لقراءة أهل البيت (عليهمالسلام) إلا انها
اليوم غير مضبوطة عندنا إذ لم تصل إلينا قرائته في جميع ألفاظ القرآن. انتهى.
أقول : لعل كلامه (عليهالسلام) في آخر
الحديث انما وقع على سبيل التنزل
__________________
(1 و 2 و 3) الوافي ج 5 باب «اختلاف القراءات».
والرعاية لربيعة الرأي حيث انه معتمد
العامة في وقته تلافيا لما قاله في حق ابن مسعود وتضليله له مع انه عندهم بالمنزلة
العليا سيما في القراءة وإلا فإنهم (عليهمالسلام) لا يتبعون
أحدا وانما هو متبوعون لا تابعون.
ثم اعلم ان العامة قد رووا في أخبارهم ان القرآن قد نزل
على سبعة أحرف كلها شاف واف (1) وادعوا تواتر
ذلك عنه (صلىاللهعليهوآله) واختلفوا في
معناه إلى ما يبلغ أربعين قولا أشهرها الحمل على القراءات السبع.
وقد روى الصدوق (قدسسره) في كتاب
الخصال (2) بإسناده إليهم
(عليهمالسلام) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أتاني آت من
الله عزوجل يقول ان الله
يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد فقلت يا رب وسع على أمتي فقال ان الله يأمرك أن
تقرأ القرآن على سبعة أحرف».
وفي هذا الحديث ما يوافق خبر العامة المذكور مع انه (عليهالسلام) قد نفى ذلك
في الأحاديث المتقدمة وكذبهم في ما زعموه من التعدد ، فهذا الخبر بظاهره مناف لما
دلت عليه تلك الأخبار والحمل على التقية أقرب قريب فيه وان احتمل أيضا حمل السبعة
الأحرف فيه على اللغات يعني سبع لغات كما قاله ابن الأثير في نهايته في تفسير
حديثهم المتقدم ، قال أراد بالحرف اللغة أي سبع لغات من لغات العرب أي أنها مفرقة
في القرآن فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن
وليس معناه ان يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه ، على انه قد جاء في القرآن ما قرئ
بسبعة وعشرة. ومما يبين ذلك قول ابن مسعود اني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين
فاقرأوا كما علمتم انما هو مثل قول أحدكم هلم وتعال واقبل. وفيه أقوال غير ذلك هذا
أحسنها. انتهى.
ثم ان الذي يظهر من الأخبار أيضا هو وجوب القراءة بهذه
القراءات المشهورة لا من حيث ما ذكروه من ثبوتها وتواترها عنه (صلىاللهعليهوآله) بل من حيث
__________________
(1) تفسير الطبري ج 1 ص 9.
(2) ج 2 ص 11.
الاستصلاح والتقية.
فروى في الكافي بسنده إلى بعض الأصحاب عن أبي الحسن (عليهالسلام) (1) قال : «قلت له
جعلت فداك انا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن أن نقرأها
كما بلغنا عنكم فهل نأثم؟ فقال لا اقرأوا كما تعلمتم فسيجيء من يعلمكم».
وروى فيه بسنده إلى سالم بن سلمة (2) قال : «قرأ
رجل على أبي عبد الله (عليهالسلام) ـ وانا استمع
ـ حروفا من القرآن ليس على ما يقرأها الناس؟ فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) كف عن هذه
القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم. الحديث».
وبالجملة فالنظر في الأخبار وضم بعضها إلى بعض يعطي جواز
القراءة لنا بتلك القراءات رخصة وتقية وان كانت القراءة الثابتة عنه (صلىاللهعليهوآله) انما هي
واحدة وإلى ذلك أيضا يشير كلام شيخ الطائفة المحقة (قدسسره) في التبيان
حيث قال : ان المعروف من مذهب الإمامية والتطلع في اخبارهم ورواياتهم ان القرآن
نزل بحرف واحد على نبي واحد غير أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القراء
وان الإنسان مخير بأي قراءة شاء قرأ ، وكرهوا تجريد قراءة بعينها. انتهى ومثله
أيضا كلام الشيخ أمين الإسلام الطبرسي في كتاب مجمع البيان حيث قال : الظاهر من
مذهب الإمامية أنهم أجمعوا على القراءة المتداولة بين القراء وكرهوا تجريد قراءة
مفردة والشائع في أخبارهم (عليهمالسلام) ان القرآن
نزل بحرف واحد. انتهى.
وكلام هذين الشيخين (عطر الله مرقديهما) صريح في رد ما
ادعاه أصحابنا المتأخرون (رضوان الله عليهم) من تواتر السبع أو العشر ، على ان
ظاهر جملة من علماء العامة ومحققي هذا الفن إنكار ما ادعى هنا من التواتر أيضا.
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 74 من القراءة. وقد صححنا الحديث على
كتب الحديث ارجع إلى الوافي باب «اختلاف القراءات» وأصول الكافي باب «ان القرآن
يرفع كما انزل» والنوادر.
قال الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن محمد الجزري
الشافعي المقرئ في كتاب النشر للقراءات العشر (1) على ما نقله بعض مشايخنا المعاصرين :
كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح
سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف
السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم
العشرة أم غيرهم من الأئمة المقبولين ، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق
عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عن من هو أكبر منهم ، هذا هو
الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف صرح بذلك الامام الحافظ أبو عمرو عثمان
بن سعيد الداني ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب وكذلك
الإمام أبو العباس احمد بن عمار المهدوي وحققه الامام الحافظ أبو القاسم عبد
الرحمن بن إسماعيل المعروف بابي شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم
خلافه ، قال أبو شامة في كتابه (المرشد الوجيز) : فلا ينبغي ان يغتر بكل قراءة
تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة وانها هكذا أنزلت إلا
إذا دخلت في ذلك الضابط ، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف دون غيره ولا يختص ذلك
بنقلها عنهم بل ان نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة فإن الاعتماد
على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب إليه فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ
من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ غير ان هؤلاء السبعة لشهرتهم
وكثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن
غيرهم. انتهى
وهو ـ كما ترى ـ صريح في ان المعيار في الصحة انما هو
على ما ذكروه من الضابط لا على مجرد وروده عن السبعة فضلا عن العشرة وان العمل على
هذا الضابط المذكور
__________________
(1) ج 1 ص 9. واسم الكتاب في النسخة المطبوعة وفي كشف الظنون ج
2 ص 1952 «النشر في القراءات العشر».
مذهب السلف والخلف فكيف يتم ما ادعاه
أصحابنا (رضوان الله عليهم) من تواتر هذه السبع؟
ويؤيد ذلك ما نقله شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله
بن صالح البحراني قال سمعت شيخي علامة الزمان وأعجوبة الدوران يقول ان جار الله
الزمخشري ينكر تواتر السبع ويقول ان القراءة الصحيحة التي قرأ بها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) انما هي في
صفتها وانما هي واحدة والمصلي لا تبرأ ذمته من الصلاة إلا إذا قرأ بما وقع فيه
الاختلاف على كل الوجوه كمالك وملك وصراط وسراط وغير ذلك. انتهى. وهو جيد وجيه بناء
على ما ذكرنا من البيان والتوجيه ولو لا ما رخص لنا به الأئمة (عليهمالسلام) من القراءة
بما يقرأ الناس لتعين عندي العمل بما ذكره.
ثم أقول : ومما يدفع ما ادعوه أيضا استفاضة الأخبار
بالتغيير والتبديل في جملة من الآيات من كلمة بأخرى زيادة على الأخبار المتكاثرة
بوقوع النقص في القرآن والحذف منه كما هو مذهب جملة من مشايخنا المتقدمين
والمتأخرين (1).
ومن الأول ما ورد في قوله عزوجل «وَلَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» (2) ففي تفسير
العياشي عن الصادق (عليهالسلام) (3) «انه قرأ أبو
بصير عنده هذه الآية فقال (عليهالسلام) ليس هكذا
أنزلها الله تعالى وانما نزلت وأنتم قليل» وفي آخر «وما كانوا اذلة وفيهم رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) وانما نزل
ولقد نصركم
__________________
(1) ذكر آية الله الأستاذ الخوئي دام ظله في البيان ج 1 ص 139
ان المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم
التحريف وانه ذهب إليه جماعة من المحدثين من الشيعة وجمع من علماء أهل السنة كما
نسبه إليهم الرافعي في إعجاز القرآن ص 41. وقد أجاب عن الروايات التي تمسك بها
القائلون به بنحو لا يبقى مجال للتشكيك ومن أراد فليرجع إلى البيان ج 1 ص 175.
(2) سورة آل عمران الآية 119.
(3) تفسير الصافي في تفسير الآية.
الله ببدر وأنتم ضعفاء».
وما ورد في قوله عزوجل «لَقَدْ
تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» (1) ففي الاحتجاج
عن الصادق (عليهالسلام) والمجمع عن
الرضا (عليهالسلام) (2) «لقد تاب الله
بالنبي عن المهاجرين» والقمي عن الصادق (عليهالسلام) «هكذا أنزلت».
وفي الاحتجاج عنه (عليهالسلام) (3) «واي ذنب كان
لرسول الله (صلىاللهعليهوآله) حتى تاب منه؟
انما تاب الله به على أمته».
وما ورد في قوله تعالى «وَعَلَى
الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ ... الآية» (4) ففي المجمع عن
السجاد والباقر والصادق (عليهمالسلام) (5) «انهم قرأوا
خالفوا». والقمي عن العالم (عليهالسلام) (6) والكافي
والعياشي عن الصادق (عليهالسلام) مثله (7) قال : «ولو
كانوا خلفوا لكانوا في حال طاعة».
وما ورد في قوله عزوجل «لَهُ
مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ
اللهِ» (8) ففي تفسير القمي عن الصادق (عليهالسلام) (9) «ان هذه الآية
قرئت عنده فقال لقارئها ألستم عربا فكيف تكون المعقبات من بين يديه؟ وانما المعقب
من خلفه فقال الرجل جعلت فداك كيف هذا؟ فقال إنما أنزلت (له معقبات من خلفه ورقيب
من بين يديه يحفظونه بأمر الله) ومن ذا الذي يقدر ان يحفظ الشيء من أمر الله؟ وهم
الملائكة المقربون الموكلون بالناس». ومثله في تفسير العياشي (10).
وأنت خبير بان ظواهر هذه الآيات لا تنطبق على ما نطقت به
هذه الروايات إلا بارتكاب التكلفات والتعسفات.
__________________
(1) سورة التوبة ، الآية 118.
(2 و 3 و 5 و 6 و 7 و 9 و 10) تفسير الصافي في تفسير الآية.
(4) سورة التوبة ، الآية 119.
(8) سورة الرعد ، الآية 12.
ونحو ذلك ما ورد في قوله عزوجل «فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» (1) ففي الكافي عن
الصادق (عليهالسلام) (2) إنما أنزلت «فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) إلى أجل مسمى (فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ». والعياشي عن
الباقر (عليهالسلام) (3) انه كان
يقرأها كذلك. وروته العامة أيضا عن جمع من الصحابة (4).
وما رواه الشيخ في التهذيب عن غالب بن الهذيل (5) قال : «سألت
أبا جعفر (عليهالسلام) عن قول الله عزوجل «وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» (6) على الخفض هي
أم على النصب؟ قال بل هي على الخفض». مع ان قراءة النصب احدى القراءات السبع (7).
ومثله ما ورد في قوله تعالى «سلام على آل ياسين» (8) فإنها قراءة
أهل البيت (عليهمالسلام) وبها وردت
اخبارهم (9) مع ان قراءة «آل
ياسين» احدى القراءات السبع (10) الى غير ذلك
من المواضع التي لا يسع المقام الإتيان عليها.
واما اخبار القسم الثاني فهي أكثر وأعظم من ان يأتي
عليها قلم البيان في هذا المكان ، واللازم اما العمل بما قالوه من ان كل ما قرأت
به القراء السبعة وورد عنهم في أعراب أو كلام أو نظام فهو الحق الذي نزل به جبرئيل
(عليهالسلام) من رب
العالمين على سيد المرسلين ، وفيه رد لهذه الأخبار على ما هي عليه من الصحة
والصراحة والاشتهار وهذا مما لا يكاد يتجرأ عليه المؤمن بالله سبحانه ورسوله (صلىاللهعليهوآله) والأئمة
__________________
(1) سورة النساء ، الآية 24.
(2) الوسائل الباب 1 من المتعة.
(3) تفسير الصافي في تفسير الآية.
(4) تفسير القرطبي ج 5 ص 139.
(5) الوسائل الباب 25 من الوضوء.
(6) سورة المائدة ، الآية 6.
(7) وهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي وعاصم كما في مجمع
البيان ج 2 ص 163.
(8) سورة الصافات ، الآية 130.
(9) تفسير الصافي في تفسير الآية.
(10) وهي قراءة ابن عامر ونافع كما في مجمع البيان ج 4 ص 456.
الاطهار (عليهمالسلام) واما العمل
بهذه الأخبار وبطلان ما قالوه وهو الحق الحقيق بالاتباع لذوي البصائر والأفكار.
والله العالم.
(الثالث) ـ لا خلاف بين الأصحاب في أن البسملة آية من
الفاتحة ومن كل سورة تجب قراءتها معها ما عدا سورة براءة ، وعليه تدل الأخبار
المتكاثرة :
فروى ثقة الإسلام في الكافي عن معاوية بن عمار (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) إذا قمت
للصلاة اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة القرآن؟ قال نعم. قلت فإذا قرأت فاتحة
الكتاب اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال نعم».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن السبع
المثاني والقرآن العظيم هي الفاتحة؟ قال نعم. قلت بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟
قال نعم هي أفضلهن».
وعن معاوية بن عمار في الصحيح (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) إذا قمت إلى
الصلاة اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة القرآن؟ قال نعم. قلت فإذا قرأت
فاتحة الكتاب اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال نعم».
وما رواه في الكافي عن يحيى بن أبي عمران الهمداني (4) قال : «كتبت
إلى ابي جعفر (عليهالسلام) جعلت فداك ما
تقول في رجل ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أم الكتاب فلما صار
إلى غير أم الكتاب من السورة تركها فقال العياشي ليس بذلك بأس؟ فكتب بخطه يعيدها
مرتين على رغم أنفه يعني العياشي».
قوله «يعيدها» يعني الصلاة وحمله على البسملة بعيد وقوله
«مرتين» يتعلق بقوله «كتب» لا بقوله «يعيدها» إذ لا معنى لإعادة الصلاة مرتين.
والعياشي ان حمل على الرجل المشهور صاحب التفسير المشهور وهو محمد بن مسعود
العياشي فينبغي تخصيصه بكون ذلك في أول أمره فإنه كان من فضلاء العامة ثم استبصر
ورجع إلى مذهب الشيعة فالحمل عليه بالتقريب
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 11 من القراءة. والرواية (3)
يرويها الشيخ عن الكليني.
المذكور غير بعيد (1) ويحتمل غيره
من المشهورين في ذلك الوقت.
وروى العياشي في تفسيره عن يونس بن عبد الرحمن عن من
رفعه (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) «وَلَقَدْ
آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» (3) قال هي سورة
الحمد وهي سبع آيات منها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وانما سميت
المثاني لأنها تثنى في الركعتين».
ومنه عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليهالسلام) (4) قال : «سرقوا
أكرم آية في كتاب الله : بسم الله الرحمن الرحيم».
ومنه عن صفوان الجمال (5) قال : «قال
أبو عبد الله (عليهالسلام) ما انزل الله
من السماء كتابا إلا وفاتحته بسم الله الرحمن الرحيم وانما كان يعرف انقضاء السورة
بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداء للأخرى».
ومنه عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليهالسلام) (6) قال : «بلغه
ان أناسا ينزعون (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فقال هي آية
من كتاب الله أنساهم إياها الشيطان».
ومنه عن خالد بن المختار (7) قال : «سمعت
جعفر بن محمد (عليهماالسلام)
__________________
(1) قال في ريحانة الأدب ج 3 ص 142 في ترجمة العياشي : لم نظفر
بتاريخ وفاته إلا انه يظهر من طبقته انه من اعلام أواخر القرن الثالث بل يحتمل انه
تجاوزه إلى القرن الرابع أيضا. وفي الذريعة ج 4 ص 295 عده من طبقة ثقة الإسلام
الكليني ، وقد عنونه الشيخ الطوسي في كتاب الرجال في باب من لم يرو عنهم «ع» وبهذا
يبعد الحمل عليه لبعد كونه في أول أمره معاصرا للجواد «ع» بحيث يكون مفتيا. وفي
الطبعة الحديثة من فروع الكافي ج 1 ص 313 «العباسي» بالباء الموحدة والسين المهملة
، وفي التعليقة «2» منه قال : هو هشام بن إبراهيم العباسي وكان يعارض الرضا
والجواد «ع».
(2) مستدرك الوسائل الباب 1 من القراءة.
(3) سورة الحجر ، الآية 87.
(4 و 5 و 6 و 7) مستدرك الوسائل الباب 8 من القراءة.
يقول ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم
آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها؟ وهي بسم الله الرحمن الرحيم».
ومنه عن محمد بن مسلم (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن قول الله عزوجل «وَلَقَدْ
آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» (2) فقال فاتحة
الكتاب يثنى فيها القول. قال : وقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان الله
تعالى من علي بفاتحة الكتاب من كنز الجنة ، فيها «بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الآية التي
يقول الله تعالى فيها «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ
وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» (3) و «الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» دعوى أهل الجنة
حين شكروا لله حسن الثواب «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» قال جبرئيل ما
قالها مسلم قط إلا صدقة الله وأهل سماواته «إِيّاكَ
نَعْبُدُ» إخلاص للعبادة «وَإِيّاكَ
نَسْتَعِينُ» أفضل ما طلب به
العباد حوائجهم «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» صراط الأنبياء
وهم الذين أنعم الله عليهم «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» اليهود «وَلَا
الضّالِّينَ» النصارى». الى
غير ذلك من الأخبار الآتي ذكر جملة منها ان شاء الله تعالى.
وهذه الأخبار ـ كما ترى ـ ظاهرة في ان البسملة جزء من
الفاتحة بل من كل سورة تجب قراءتها مع كل منها. والمشهور بين الأصحاب انها آية من
كل سورة صرح به الشيخ في الخلاف والمبسوط وبه قطع عامة المتأخرين. ونقل عن ابن
الجنيد انها في الفاتحة بعضها وفي غيرها افتتاح لها. وهو متروك وإثباتها في
المصاحف مع كل سورة مع محافظتهم على تجرده مما ليس منه دليل على ضعف ما ذهب اليه.
ثم لا يخفى انه قد ورد جملة من الأخبار أيضا مما هو ظاهر
المنافاة للأخبار المتقدمة ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (4) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليه
__________________
(1) البحار ج 18 الصلاة ص 236.
(2) سورة الحجر ، الآية 87.
(3) سورة بني إسرائيل ، الآية 46.
(4) الوسائل الباب 12 من القراءة.
السلام) عن الرجل يكون اماما فيستفتح
بالحمد ولا يقرأ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فقال لا يضره
ولا بأس». وهو محمول على التقية.
ومنها ـ ما رواه عن زكريا بن إدريس القمي (1) قال : «سألت
أبا الحسن الأول (عليهالسلام) عن الرجل
يصلي بقوم يكرهون ان يجهر ب «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فقال لا يجهر».
وهو صريح في التقية وعليه يحمل الخبر الأول كما ذكرنا.
ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن علي
الحلبي ومحمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (2) «انهما سألاه
عن من يقرأ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» حين يريد يقرأ
فاتحة الكتاب قال نعم ان شاء سرا وان شاء جهرا. فقالا أفيقرأها مع السورة الأخرى؟
فقال لا».
ومنها ـ ما رواه في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
عن الرجل يفتتح القراءة في الصلاة أيقرأ «بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»؟ قال نعم إذا
افتتح الصلاة فليقلها في أول ما يفتتح ثم يكفيه ما بعد ذلك».
وعن مسمع في الحسن أو الموثق (4) قال : «صليت
مع أبي عبد الله (عليهالسلام) فقرأ «بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ثم قرأ السورة
التي بعد الحمد ولم يقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» ثم قام في الثانية فقرأ الحمد
ولم يقرأ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ثم قرأ بسورة
أخرى».
ولعل الصحيحين الأولين هما مستند ابن الجنيد في ما تقدم
نقله عنه ، والشيخ قد أجاب عنهما في التهذيب بالحمل على ما إذا كان في صلاة
النافلة وقد قرأ من السورة الأخرى بعضها ويريد ان يقرأها فحينئذ لا يقرأ «بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» والظاهر بعده.
وقال في المدارك : والحق ان هذه الروايات انما تدل على
عدم وجوب قراءة البسملة عند قراءة السورة ، وربما كان الوجه فيه عدم وجوب قراءة
السورة كما هو
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 12 من القراءة.
أحد قولي الأصحاب.
أقول : والظاهر عندي ان هذه الأخبار انما خرجت مخرج
التقية كما صرح به في الاستبصار ، وإلى ذلك تشير روايات العياشي المتقدمة وهي
رواية أبي حمزة ورواية عيسى بن عبد الله ورواية خالد بن المختار. والله العالم.
(الرابع) ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان من لا
يحسن الفاتحة يجب عليه التعلم فان ضاق الوقت وأمكن الصلاة مأموما أو القراءة من
مصحف ان أحسن ذلك وجب. وقيل بجواز القراءة من المصحف مطلقا وهو ظاهر الخلاف
والمبسوط وبه صرح الفاضلان معللين بان الواجب مطلق القراءة. ومنع ذلك الشهيد ومن
تبعه للمتمكن من الحفظ.
واستدل على الأول بما رواه الشيخ في الصحيح إلى الحسن بن
زياد الصيقل (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما تقول في
الرجل يصلي وهو ينظر في المصحف يقرأ فيه يضع السراج قريبا منه؟ فقال لا بأس بذلك».
إلا انه قد روى الحميري في كتاب قرب الاسناد عن علي بن
جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الرجل والمرأة يضع المصحف امامه ينظر فيه ويقرأ ويصلى؟ قال لا يعتد بتلك الصلاة».
واما ما أجاب به في الذخيرة عن هذا الخبر ـ من حمله على
الكراهة حيث اختار القول الأول ـ ففيه ما عرفت في غير موضع مما تقدم.
على انه يمكن الجمع بين الخبرين بحمل الأول على النافلة
والثاني على الفريضة ، وإلى هذا التفصيل ذهب شيخنا الشهيد الثاني وجمع من الأصحاب
في المسألة مع انه لم ينقلوا خبر علي بن جعفر المذكور وانما ذهبوا إلى ذلك بجعله
وجه جمع بين التعليلات التي ذكروها من الطرفين وهي عليلة ، وكان الاولى بكل من
القائلين الاستناد إلى ما يوافقه
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 41 من القراءة.
من الروايتين. وبالجملة فإن ما ذكرناه
وجه حسن في الجمع بين الخبرين.
ويمكن حمل خبر الصيقل أيضا على حال الضرورة كمحل المسألة
وهو ظاهر الذكرى حيث انه بعد ان اختار المنع محتجا بأن المأمور به القراءة على ظهر
القلب إذ هو المتبادر إلى الأفهام ثم احتج بخبر عامي قدمه وهو ما رواه عبد الله بن
أبي أوفى (1) «ان رجلا سأل
النبي (صلىاللهعليهوآله) فقال اني لا
أستطيع أن أحفظ شيئا من القرآن فما ذا اصنع؟ فقال له قل سبحان الله والحمد لله». فقال
هنا في الاستدلال به : ولأن النبي (صلىاللهعليهوآله) لم يأمر
الأعرابي بالقراءة من المصحف ، ثم قال : وروى الحسن الصيقل وساق الحديث المذكور.
وظاهره حمله على الضرورة في الصورة المذكورة وإلا فالخبر باعتبار إطلاقه ظاهر المنافاة
لما ذكره فيكون حجة عليه فالواجب الجواب عنه.
ثم انه مع تعذر الائتمام والقراءة من المصحف فالمستفاد
من كلامهم (رضوان الله عليهم) انه اما ان يحسن بعض الفاتحة أو لا يحسن شيئا
بالكلية ، وعلى الأول فاما ان يكون ما يحسنه آية تامة أم أقل ، وعلى الثاني فاما
ان يحسن غيرها من القرآن أم لا فههنا صور :
(الاولى) ـ ان يحسن بعض الفاتحة وكان آية تامة والظاهر
انه لا خلاف في قراءتها كما ذكره غير واحد منهم.
وهل يقتصر على الآية التي يأتي بها أو يجب التعويض عن
باقي الفاتحة بتكرار تلك الآية أو بغيرها من القرآن أو الذكر مع تعذر الأولين؟
قولان ، ظاهر الفاضلين في المعتبر والمنتهى الأول واختاره في المدارك تمسكا بمقتضى
الأصل السالم من المعارض. واختار العلامة في بعض كتبه على ما نقل عنه التعويض ،
ونسبه شيخنا الشهيد الثاني في
__________________
(1) في سنن ابى داود ج 1 ص 220 عن عبد الله بن أبي أوفى قال «جاء
رجل إلى النبي «ص» فقال اني لا أستطيع ان آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه
قال قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا حول ولا قوة إلا
بالله. الحديث» ..
الروض إلى المشهور بين المتأخرين ،
واحتج بعموم «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» (1) قال خرج منه
ما اتفق على عدم وجوبه وأخرجه الدليل فيبقى الباقي ولا دليل على الاكتفاء ببعض
الفاتحة. انتهى.
ثم انه على تقدير وجوب التعويض كما هو مقتضى هذا القول
فلو علم غيرها من القرآن فهل يعوض عن الفائت بقراءة ما يعلمه من الفاتحة مكررا
بحيث يساويها أم يأتي ببدله من سورة أخرى؟ قولان ، وعلل الأول بأنه أقرب إليها من
غيرها ، والثاني بأن الشيء الواحد لا يكون أصلا وبدلا. والتعليلان كما ترى.
(الثانية) ـ ان يحسن بعض آية وفي وجوب قراءتها عليه هنا
أقوال : الأول الوجوب لما روى عن النبي (صلىاللهعليهوآله) (2) «فان كان معك
قرآن فاقرأ به». الثاني ـ عدمه استنادا إلى ان النبي أمر الأعرابي ان يحمد الله
ويكبره ويهلله ، وقوله «الحمد لله» بعض آية ولم يأمره بتكرارها. واستحسن هذا القول
في المعتبر. الثالث ـ وجوب قراءتها ان كانت قرآنا وهو المشهور بين المتأخرين.
(الثالثة) ـ ان لا يحسن شيئا من الفاتحة ويحسن غيرها من
القرآن ، والمشهور انه يجب عليه ان يقرأ بدلها من غيرها ، وقيل انه يتخير بينه
وبين الذكر وهو اختيار المحقق في الشرائع.
ويمكن الاستدلال على الثاني بما رواه الشيخ في الصحيح عن
عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) (3) قال : «ان
الله فرض من الصلاة الركوع والسجود ألا ترى لو ان رجلا دخل في الإسلام ثم لا يحسن
ان يقرأ القرآن أجزأه ان يكبر ويسبح ويصلي».
__________________
(1) سورة المزمل ، الآية 19.
(2) في المنتقى لابن تيمية على هامش نيل الأوطار ج 2 ص 188 عن
رفاعة بن رافع «علم رسول الله «ص» رجلا الصلاة فقال ان كان معك قرآن فاقرأ وإلا
فاحمد الله وكبره وهلله ثم اركع» ..
(3) الوسائل الباب 3 من القراءة.
ثم انه هل يجب مساواة ما يأتي به من غيرها لها في
المقدار أم لا؟ ظاهر الشيخ في المبسوط والمحقق في المعتبر الثاني وظاهر المشهور
بين المتأخرين الأول. وعلى هذا القول فهل تجب المساواة في الحروف أو الآيات أو
فيهما؟ أقوال.
(الرابعة) ـ ان لا يحسن شيئا من القرآن والمشهور انه
يسبح الله تعالى ويهلله ويكبره ، وذكر الشيخ في الخلاف الذكر والتكبير وذكر بعضهم
التحميد والتسبيح والتهليل والتكبير ، والموجود في الرواية المتقدمة التي هي مستند
هذا الحكم التكبير والتسبيح قال في الذكرى : ولو قيل بتعين ما يجزئ في الأخيرتين
من التسبيح كان وجها لانه قد ثبت بدليته عن الحمد في الأخيرتين فلا يقصر بدل الحمد
في الأوليين عنهما. انتهى. وجعله في المدارك أحوط.
وفيه منع ظاهر (أما أولا) فلان الرواية التي هي مستند
هذا الحكم قد اشتملت على بيان الوظيفة القائمة مقام الحمد فالعدول عنها بمجرد هذه
التخريجات لا يخرج عن الاجتهاد في مقابلة النص.
و (اما ثانيا) فان ما بنى عليه من بدلية التسبيح عن الحمد
في الأخيرتين ـ بمعنى ان الأصل في الأخيرتين انما هو القراءة والتسبيح انما جعل
عوضا عنها ـ وان اشتهر بينهم إلا انه ممنوع أشد المنع لما سيظهر لك ان شاء الله
تعالى في المسألة المذكورة من ان الأمر انما هو بالعكس كما استفاضت به اخبار أهل
الذكر (عليهمالسلام).
ثم انه هل يجب مساواة ما يأتي به من الذكر للفاتحة أم لا؟
المشهور بين المتأخرين الأول ونفاه المحقق في المعتبر ، قال : وقولنا «بقدر
القراءة» نريد به الاستحباب لأن القراءة إذا سقطت لعدم القدرة سقطت توابعها وصار
ما تيسر من الذكر والتسبيح كافيا. انتهى.
ولو لم يحسن الذكر قال في النهاية يقوم بقدر القراءة ثم
يركع إذ لا يلزم من سقوط الواجب سقوط غيره. انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان أكثر ما نقلناه من الأقوال خال من
النصوص ولذا اقتصرنا في ذلك على مجرد النقل ، والاحتياط في أمثال هذه المواضع مما
لا ينبغي تركه بل الظاهر انه الحكم الشرعي كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب.
فرع
متى قلنا بوجوب القراءة من المصحف فلو توقف تحصيل المصحف
على شراء أو استئجار أو استعارة وجب ذلك تحصيلا للواجب بقدر الإمكان ، وكذا لو
احتاج إلى مصباح للظلمة المانعة من القراءة.
(الخامس) ـ اتفق الأصحاب على انه لا يجوز القراءة بغير
العربية فلا تجزئ الترجمة لأن الترجمة مغايرة للمترجم ، ولقوله عزوجل «إِنّا
أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» (1) ووافقنا على
ذلك أكثر العامة.
وقال أبو حنيفة تجزئ الترجمة لقوله سبحانه «لِأُنْذِرَكُمْ
بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» (2) وانما ينذر كل
قوم بلسانهم (3).
وفيه (أولا) ان أخبارنا دالة على ان المراد بمن بلغ
الأئمة (عليهمالسلام) فهو عطف على
الفاعل في قوله «لِأُنْذِرَكُمْ».
و (ثانيا) انه مع تسليم عطفه على المفعول فان الإنذار
بالقرآن لا يستلزم نقل اللفظ بعينه إذ مع إيضاح المعنى بالترجمة يصدق انه انذرهم
بخلاف موضع البحث المطلوب فيه صورة المنزل.
ولو عجز عن العربية في القراءة ولم يمكنه إلا الترجمة
انتقل إلى الذكر بالعربية ، فإن عجز أيضا قالوا وجبت الترجمة ، وفي تقديم اي
الترجمتين قولان ، رجح بعض ترجمة القرآن لأنها أقرب إليه من ترجمة الذكر ، ووجه القول
الآخر فوات الغرض من القرآن
__________________
(1) سورة يوسف ، الآية 2.
(2) سورة الأنعام ، الآية 19.
(3) المغني ج 1 ص 486 وبدائع الصنائع ج 1 ص 112.
وهو نظمه المعجز بخلاف الذكر.
واتفقوا أيضا على وجوب الترتيب في كلماتها وآيها على
الوجه المنقول. ولا ريب فيه لتعلق الأوامر بالقرآن على الكيفية التي نزلت واتى بها
صاحب الشريعة ، فلو خالف عامدا أعاد الصلاة على ما قطع به الأصحاب.
قال في المدارك : وهو جيد ان لم يتداركها قبل الركوع لا
مطلقا لان المقرو على خلاف الترتيب وان لم يصدق عليه اسم السورة لكن لا يخرج بذلك عن
كونه قرآنا. انتهى. وهو جيد. ولو كان ناسيا قالوا يستأنف القراءة ما لم يركع وهو
على إطلاقه محل بحث فإنه انما يتم إذا لم يمكن البناء على السابق لفوات الموالاة
وإلا بنى عليه وأتم القراءة كما لو قرأ آخر الحمد ثم قرأ أولها.
(السادس) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في ان من
واجبات القراءة إخراج الحروف من مخارجها المقررة ، والظاهر ان الوجه فيه هو انه
لما كان القرآن عربيا نزل بلغة العرب فكل ما اقتضته اللغة العربية وبنيت عليه من
إخراج الحروف من مخارجها والتشديد في موضعه المقرر والإدغام والمد على الوجوه
المذكورة في محلها والاعراب ونحو ذلك مما بنيت عليه اللغة المذكورة وكان من أصولها
المقررة فإنه مما يجب الإتيان به ، لأن الواجب القراءة باللغة العربية فكل ما كان
من أصولها التي لا تحقق لها إلا به فإنه يجب وما ليس كذلك مثل الجهر والهمس
والاستعلاء والإطباق والترتيل والوقف والتفخيم والترقيق ونحوها فإنه لا يجب بل هو
من المحسنات.
قال شيخنا الشهيد الثاني في كتاب روض الجنان في شرح قول
المصنف : «ويجب إخراج الحروف من مواضعها» ما صورته : ويستفاد من تخصيص الوجوب
بمراعاة المخارج والاعراب في ما تقدم عدم وجوب مراعاة الصفات المقررة في العربية
من الجهر والهمس والاستعلاء والإطباق ونظائرها ، وهو كذلك بل مراعاة ذلك مستحبة.
انتهى.
ونقله عنه المحقق الأردبيلي واستحسنه ، ثم قال المحقق
المشار إليه في موضع
آخر ـ في تعليل عدم إجزاء قراءة
القرآن في الصلاة بالترجمة ـ ما صورته : يشعر بعدم إجزاء ترجمة القرآن مطلقا
ومعلوم من وجوب القراءة بالعربية المنقولة تواترا عدم الاجزاء وعدم جواز الإخلال
بها حرفا وحركة بنائية وإعرابية وتشديدا ومدا واجبا وكذا تبديل الحروف وعدم
إخراجها من مخارجها لعدم صدق القرآن فتبطل الصلاة. الى آخر كلامه زيد في مقامه.
وعلى هذا النهج كلام غيرهما ومرجعه إلى الفرق بين ما كان
من أصول القراءة التي بنيت عليها اللغة العربية وغيره وانه مع الإخلال بشيء من
أصول القراءة تبطل الصلاة لعدم صدق الإتيان بالقرآن كما ذكره المحقق المذكور في
آخر كلامه. ويزيد ذلك إيضاحا ان مع عدم إخراج الحروف من مخارجها المقررة ربما
اختلف المعنى باختلاف المخرجين كما في «الضّالِّينَ» بالضاد والظاء
فإنه على الأول من الضلال وعلى الثاني من باب «ظل يفعل كذا» إذا فعله نهارا.
(المسألة الثانية) ـ اتفق الأصحاب من غير خلاف يعرف على
انه يجوز الاقتصار على الحمد بغير سورة في النوافل وفي الفرائض في حال الاضطرار
كالخوف وضيق الوقت بحيث ان قرأ السورة خرج الوقت وكذا مع عدم إمكان التعلم.
وانما الخلاف في وجوب السورة مع السعة والاختيار وإمكان
التعلم فالمشهور الوجوب وبه صرح الشيخ في كتابي الأخبار والخلاف والجمل وهو اختيار
السيد المرتضى وابن أبي عقيل وأبي الصلاح وابن البراج وابن إدريس وغيرهم وعليه
أكثر المتأخرين. وذهب الشيخ في النهاية إلى الاستحباب وهو اختيار ابن الجنيد وسلار
ومال إليه في المعتبر والمنتهى وعليه جمع من متأخري المتأخرين كالسيد السند في
المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة وغيرهما.
والواجب أولا نقل الأخبار المتعلقة بالمقام وتذييلها بما
يفهم من مضامينها من الأحكام ليتضح به الحال وما هو الاولى بالاختيار في هذا
المجال :
فأقول وبالله سبحانه التوفيق لبلوغ المأمول : من الأخبار
المذكورة التي استدل بها على الاستحباب ما رواه الشيخ عن علي بن رئاب في الصحيح عن
أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «سمعته
يقول ان فاتحة الكتاب تجوز وحدها في الفريضة».
وفي الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «ان
فاتحة الكتاب وحدها تجزئ في الفريضة».
أقول : وهاتان الروايتان من أقوى أدلة القول بالاستحباب
وعليهما اعتمد في المدارك لصحتهما وصراحتهما بزعمه ، قال والتعريف في الفريضة ليس
للعهد لعدم تقدم معهود ولا للحقيقة لاستحالة إرادته ولا للعهد الذهني لانتفاء
فائدته فيكون للاستغراق. انتهى
والشيخ قد حمل هذين الخبرين في التهذيبين على حال
الضرورة دون الاختيار وهو أقرب قريب في المقام لما رواه في الصحيح عن الحلبي عن
أبي عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «لا بأس
بأن يقرأ الرجل في الفريضة بفاتحة الكتاب في الركعتين الأوليين إذا ما أعجلت به
حاجة أو تخوف شيئا». وبمضمونها أخبار أخر ، وقضية إطلاق الخبرين الأولين وتقييد
هذه الأخبار حمل الخبرين الأولين على هذه الأخبار كما هو القاعدة.
وبما ذكرنا هنا صرح العلامة في المنتهى حيث نقل عن الشيخ
الاحتجاج على الاستحباب بصحيحة الحلبي المذكورة في كلام السيد السند وأجاب عنها
بالحمل على حال الضرورة والاستعجال وأورد الأخبار الدالة على جواز الاقتصار على
الحمد في الحالين المذكورين.
ومع الإغماض عن ذلك فاحتمال التقية فيهما مما لا ريب فيه
ولا مرية تعتريه ، ومن ذلك يظهر لك ضعف الاستدلال بالخبرين المذكورين لقيام ما
ذكرنا من الاحتمالين في البين ومنها ـ صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن
الرضا (عليهالسلام) (4)
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 2 من القراءة.
(4) الوسائل الباب 4 من القراءة.
قال : «سألته عن رجل قرأ في ركعة
الحمد ونصف سورة هل يجزئه في الثانية ان لا يقرأ الحمد ويقرأ ما بقي من السورة؟
قال يقرأ الحمد ثم يقرأ ما بقي من السورة».
وصحيحة زرارة (1) قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) رجل قرأ سورة
في ركعة فغلط أيدع المكان الذي غلط فيه ويمضي في قراءته أو يدع تلك السورة ويتحول
عنها إلى غيرها؟ قال كل ذلك لا بأس به وان قرأ آية واحدة فشاء ان يركع بها ركع».
وصحيحة إسماعيل بن الفضل (2) قال : «صلى
بنا أبو عبد الله أو أبو جعفر (عليهالسلام) فقرأ بفاتحة
الكتاب وآخر سورة المائدة فلما سلم التفت إلينا فقال اما إني أردت أن أعلمكم».
ونحو ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن عمر بن يزيد (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) أيقرأ الرجل
السورة الواحدة في الركعتين من الفريضة؟ قال لا بأس إذا كانت أكثر من ثلاث آيات».
وهي وان احتملت الحمل على تكرار السورة في الركعتين إلا
ان التقييد بأكثر من ثلاث آيات لا يظهر له معنى إلا حمل الخبر على قسمة السورة في
الركعتين.
وأصرح منه ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابان بن عثمان عن
من أخبره عن أحدهما (عليهماالسلام) (4) قال : «سألته
هل تقسم السورة في ركعتين؟ فقال نعم اقسمها كيف شئت».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (5) «انه سئل عن
السورة أيصلي الرجل بها في ركعتين من الفريضة؟ قال نعم إذا كانت ست آيات قرأ بالنصف
منها في الركعة الاولى والنصف الآخر في الركعة الثانية».
وهذه الرواية نقلها المحقق في المعتبر (6) عن حريز بن
عبد الله عن أبي بصير
__________________
(1 و 4) الوسائل الباب 4 من القراءة.
(2 و 5) الوسائل الباب 5 من القراءة.
(3) الوسائل الباب 6 من القراءة.
(6) ص 174.
والظاهر انه نقلها من كتاب حريز.
وصحيحة علي بن يقطين (1) قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن تبعيض
السورة فقال اكره ذلك ولا بأس به في النافلة».
وقد تقدم في ما يدخل في سلك هذه الأخبار صحيحة محمد بن
مسلم وصحيحة الحلبيين وحسنة مسمع أو موثقته السابقات في الحكم الثالث من المسألة
المتقدمة.
أقول : وهذه الأخبار وان دلت بحسب ما يتراءى منها على ما
ذكروه إلا ان باب الاحتمال فيها مفتوح ، فإن إطلاق جملة منها قابل للحمل على
النافلة وما هو صريح في الفريضة أو ظاهر فيها فحمله على التقية أقرب قريب وكذلك
باقي الأخبار. وبالجملة فإن اتفاق العامة على استحباب السورة وجواز تبعيضها (2) مما أوهن
الاستناد إليها وأضعف الاعتماد عليها إلا ان أصحابنا (سامحهم الله تعالى بغفرانه)
لما اطرحوا هذه القواعد المنصوصة عن أئمتهم (عليهمالسلام) ونبذوها وراء
ظهورهم ـ كما قدمنا بيانه في غير مقام مما تقدم ـ اتسع لهم المجال في مثل هذه
الأقوال ، والله العالم بحقيقة الحال.
وعلى هذا فالمراد بقوله (عليهالسلام) في صحيحة
إسماعيل بن الفضل «إنما أردت أن أعلمكم» يعني جواز التبعيض للتقية ، وقوله (عليهالسلام) في صحيحة علي
بن يقطين «اكره ذلك» انما هو بمعنى التحريم لا المعنى المصطلح فإنه اصطلاح عرفي
طارئ وورود الكراهة بمعنى التحريم في الأخبار أكثر كثير كما اعترف به جملة من
الأصحاب وقد تقدم بيانه في غير مقام. هذا ما يتعلق بالكلام على الأخبار الدالة على
الاستحباب واما الأدلة التي استدلوا بها على الوجوب فمنها الآية أعني قوله عزوجل «فَاقْرَؤُا
ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» (3) فإن الأمر
حقيقة في الوجوب.
ومنها ـ صحيحة منصور بن حازم (4) قال : «قال
أبو عبد الله (عليهالسلام)
__________________
(1 و 4) الوسائل الباب 4 من القراءة.
(2) المغني ج 1 ص 491 وص 493.
(3) سورة المزمل ، الآية 20.
لا تقرأ في المكتوبة بأقل من سورة ولا
بأكثر».
وأجاب في المدارك عن الآية بأنه لا دلالة لها على المدعى
بوجه لأن موردها التهجد ليلا كما يدل عليه السياق ، ولأن الظاهر ان «ما» ليست اسما
موصولا بل نكرة تامة فلا تفيد العموم بل يكون حاصل المعنى اقرأوا مقدار ما أردتم
وأحببتم. واما الرواية فلا تخلو من ضعف في السند والدلالة لأن في طريقها محمد بن
عبد الحميد وهو غير موثق مع ان النهي فيها وقع عن قراءة الأقل من سورة والأكثر وهو
في الأكثر محمول على الكراهة كما سنبينه فيكون في الأقل كذلك حذرا من استعمال
اللفظ في حقيقته ومجازه. انتهى
أقول : ما ذكره في معنى الآية وان أمكن المناقشة فيه بما
يطول به الكلام إلا ان الظاهر ان الآية لا تصلح هنا للاستدلال لما هي عليه من
التشابه وقيام الاحتمال.
واما ما ذكره في الجواب عن صحيحة منصور من الطعن في
السند والدلالة فهو مردود ، اما الطعن من جهة السند ففيه ان منعه من توثيق محمد بن
عبد الحميد ممنوع ، والظاهر انه اعتمد في ذلك على عبارة العلامة في الخلاصة وما
كتبه جده (قدس الله أرواحهم) في حواشيها ، حيث قال العلامة في الخلاصة : محمد بن
عبد الحميد بن سالم العطار أبو جعفر روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (عليهالسلام) وكان ثقة من
أصحابنا الكوفيين. انتهى. فكتب شيخنا الشهيد الثاني في الحاشية : هذه عبارة
النجاشي وظاهرها ان الموثق الأب لا الابن. انتهى.
وأنت خبير بان ما ذكره في المدارك وان احتمل بالنسبة إلى
عبارة العلامة في الخلاصة إلا انه لا يتم في عبارة النجاشي التي أخذ منها العلامة
هذه العبارة فإن هذه العبارة بعينها في كتاب النجاشي وبعدها بلا فصل : له كتاب
النوادر. الى آخره. وحينئذ فمرجع ضمير «له» هو مرجع ضمير «كان» كما لا يخفى على
العارف بأسلوب الكلام من الأعيان ، ولا معنى لرجوع الضمير الأول إلى الأب والثاني
إلى الابن للزوم التفكيك في الضمائر وهو معيب في كلام الفصحاء بل من قبيل التعمية
والألغاز. ويؤيده أيضا ان محمد صاحب
الترجمة فجميع ما يذكر فيها يرجع اليه
إلا مع قرينة خلافه ، ولهذا عد العلامة في الخلاصة طريق الصدوق إلى منصور بن حازم
في الصحيح مع ان محمد المشار إليه في الطريق ، وجزم بتوثيقه جملة من علمائنا
الأعلام منهم الميرزا محمد صاحب كتاب الرجال وشيخنا المجلسي في الوجيزة وشيخنا أبو
الحسن في البلغة وغيرهم.
ومن مواضع الاشتباه في مثل ذلك ما ذكره النجاشي في ترجمة
الحسن بن علي بن النعمان حيث قال الحسن بن علي بن النعمان مولى بني هاشم أبوه علي
بن النعمان ثقة ثبت له كتاب نوادر صحيح الحديث كثير الفوائد. إلخ. والسيد السند
صاحب المدارك كتب في حواشيه على الخلاصة على هذا الموضع حيث نقل العلامة فيها هذه
العبارة ما صورته : استفاد منه بعض مشايخنا توثيقه وعندي في ذلك توقف والمصنف (قدسسره) جعل حديثه في
الصحيح في المنتهى في بحث التخيير في المواضع الأربعة وكأنه ظهر له توثيقه ولا
يبعد استفادته من هذه العبارة. انتهى.
أقول : والذي وقفت عليه في كلام أصحابنا (رضوان الله
عليهم) من علماء الرجال وغيرهم هو توثيق الحسن بن علي بن النعمان المذكور ولم
يتوقف أحد منهم في ذلك ، وهو بناء منهم على انه إذا كانت الترجمة لرجل فجميع ما
يذكر فيها انما يعود اليه كما هو في كتب الرجال المعول عليها إلا مع قرينة خلافه
كما أشرنا آنفا اليه ، وحينئذ فما توهمه (قدسسره) في هذا المقام
ظاهر السقوط عند علمائنا الاعلام.
واما الطعن في الرواية من حيث الدلالة بأن النهي عن
الأكثر محمول على الكراهة ففيه ان ما وجه به الكراهة ـ وهو الذي أشار إليه بقوله «سنبينه»
من قيام الدليل عنده على جواز القران في الفريضة فتحمل هذه الرواية ونحوها مما دل
على النهي عن القران على الكراهة جمعا ـ مدفوع بما سيجيء تحقيقه ان شاء الله
تعالى في المسألة من ان المستفاد من الأخبار هو التحريم. نعم يمكن توجيه ذلك بغير
ما وجهه (قدسسره) وهو ان ظاهر
الأخبار الكثيرة الدالة ـ كما قلنا ـ على تحريم القران هو انه عبارة عن الجمع
بين سورتين بعد الحمد لا مجرد الزيادة
على سورة. ولو ادعى أيضا شمول القران لذلك بمجرد هذه الرواية كما ذهب اليه البعض
فيمكن توجيه الكراهة حينئذ باستفاضة الروايات واتفاق الأصحاب على جواز العدول عن
سورة إلى أخرى في الجملة وان اختلفوا في تحديده فإنه يدل على جواز قراءة ما زاد
على سورة فيجب حمل النهي هنا عما زاد على الكراهة البتة وبذلك يضعف الاعتماد في
الوجوب عليها.
ومنها ـ صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «من غلط
في سورة فليقرأ قل هو الله أحد. ثم ليركع». حتى انه يفهم من بعضهم وجوب قراءة «قل
هو الله أحد» في هذه الصورة.
وفيه ان هذه الرواية معارضة بصحيحة زرارة (2) قال : «قلت
لأبي جعفر (عليهالسلام) رجل قرأ سورة
في ركعة فغلط أيدع المكان الذي غلط فيه ويمضي في قراءته أو يدع تلك السورة ويتحول
منها إلى غيرها؟ فقال كل ذلك لا بأس به وان قرأ آية واحدة فشاء ان يركع بها ركع». والاحتمال
المخرج عن الاستدلال قائم من الطرفين وجار في الروايتين.
ومنها ـ صحيحة محمد بن إسماعيل (3) قال : «سألته
قلت أكون في طريق مكة فننزل للصلاة في مواضع فيها الاعراب أنصلي المكتوبة على
الأرض فنقرأ أم الكتاب وحدها أم نصلي على الراحلة فنقرأ فاتحة الكتاب والسورة؟
فقال إذا خفت فصل على الراحلة المكتوبة وغيرها وإذا قرأت الحمد وسورة أحب الي ولا
أرى بالذي فعلت بأسا».
وهذه الرواية مما استدل به المحدث الشيخ محمد بن الحسن
الحر العاملي في كتاب الوسائل على الوجوب حيث انه اختار فيه ذلك وهي بالدلالة على
العدم أشبه ، قال (قدسسره) بعد نقلها :
أقول لو لا وجوب السورة لما جاز لأجله ترك الواجب من القيام وغيره. انتهى.
__________________
(1) الوسائل الباب 43 من القراءة.
(2 و 3) الوسائل الباب 4 من القراءة.
وفيه ان معنى الرواية انما هو ان السائل لما سأل انه إذا
تعارضت الصلاة على الأرض مع ترك السورة للخوف مع الصلاة في المحمل وقراءة السورة
فأيهما يختار؟ أجاب (عليهالسلام) بأنك إذا خفت
فالصلاة في المحمل اولى. وليس في ذلك دلالة على انه من حيث المحافظة على السورة
وإن كان ذلك هو مراد السائل ومفهوم السؤال إلا انهم (عليهمالسلام) قد يجيبون
بما هو أعم من السؤال بل قد يجيبون بقواعد كلية للمسؤول عنه وغيره ومن الظاهر بل
الأظهر ان أولوية الصلاة في المحمل انما هو من حيث الإقبال على العبادة وفراغ
البال الذي هو روحها. ويؤيد الاستحباب هنا قوله : «وإذا قرأت الحمد وسورة ـ يعني
في صلاتك في المحمل ـ فهو أحب الي» فان مرمى هذه العبارة انما هو الاستحباب.
ومنها ـ جملة من الأخبار قد تضمنت نفى البأس عن الاقتصار
على الفاتحة لمن أعجلت به حاجة ، وهو يدل بمفهومه على ثبوت البأس لمن ليس كذلك.
وفيه (أولا) ان ثبوت البأس أعم من التحريم. و (ثانيا) ان
ما دل على الاستحباب ـ كما تقدم ـ صريح الدلالة على ذلك بمنطوقه والمفهوم لا يعارض
المنطوق.
وربما يستدل على الوجوب بالأخبار الدالة على النهي عن
القران في الفريضة بأن يقال النهي حقيقة في التحريم ولا وجه لتحريم ذلك إلا من حيث
انه يلزم زيادة واجب في الصلاة عمدا وهو مبطل لها.
وفيه (أولا) ـ ان ذلك مبني على تحريم القران فلا يقوم
هذا الدليل حجة على من يحكم بالكراهة.
و (ثانيا) ـ ان العبادة واجبة كانت أو مستحبة توقيفية من
الشارع فمن الجائز كون السورة مستحبة والنهي عن الإتيان بها ثانية لكونه خلاف
الموظف شرعا ، وكما ان التشريع يحصل بزيادة الواجب باعتقاد انه واجب ومشروع كذلك
يحصل باعتقاد زيادة المستحب باعتقاد توظيفه واستحبابه في ذلك المكان أو زمان من
الأزمان ، واما
من حيث كونه قرانا فلا تبطل به سواء
قلنا بوجوب السورة أو استحبابها.
نعم ربما يمكن الاستدلال على ذلك بالأخبار الدالة على
تحريم العدول من سورة التوحيد والجحد إلى ما عدا سورتي الجمعة والمنافقين واتفاق
جمهور الأصحاب على ذلك.
ومن تلك الأخبار صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «إذا
افتتحت صلاتك بقل هو الله أحد وأنت تريد أن تقرأ غيرها فامض فيها ولا ترجع إلا ان
تكون في يوم الجمعة. الحديث».
وصحيحة ابن أبي نصر (2) قال : «يرجع من كل سورة إلا من قل هو
الله أحد وقل يا ايها الكافرون». إلى غير ذلك من الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى
في موضعها
وجه الاستدلال بها انه لو لا وجوب السورة هنا لما حرم
العدول عنها وليس وجوبها ناشئا عن مجرد الشروع فيها ، إذ لا شيء من المستحب يجب
بالشروع فيه إلا ما خرج بدليل خاص كالحج ، ومتى حرم العدول عنها وجب إتمامها ،
ومتى ثبت الوجوب في هاتين السورتين ثبت في غيرهما إذ لا قائل بالفصل ، وجواز
العدول في غيرهما مع الإتيان بسورة كاملة بعد ذلك لا ينافي أصل الوجوب بل يؤكده.
وهذا أقوى ما يمكن ان يستدل به على الوجوب وان كان بعض مقدماته لا يخلو من
المناقشة.
وبما قررناه وأوضحناه يظهر لك ان المسألة محل توقف
واشكال وان الاحتياط فيها لازم على كل حال ، فان ما استدل به على الوجوب كما عرفت
لا ينهض بالدلالة الواضحة التي يمكن بناء حكم شرعي عليها ، وما استدل به على
الاستحباب وان كان واضح الدلالة إلا ان اتفاق العامة على القول بمضمونها يضعف
الاعتماد عليها والرجوع إليها لما استفاض في الأخبار من الأمر بمخالفتهم ولو في
غير مقام اختلاف الأخبار. والله العالم
فروع
(الأول) ـ يجب الترتيب بين الحمد والسورة بتقديم الحمد
أولا ثم السورة
__________________
(1) الوسائل الباب 69 من القراءة.
(2) الوسائل الباب 35 من القراءة.
فلو أخل أعاد السورة بعدها أو غيرها.
وقد وقع الخلاف هنا في موضعين (أحدهما) انه لو قدم
السورة عامدا فهل تبطل الصلاة أم يجب استئناف السورة أو غيرها وتصح صلاته؟ قولان ،
صرح جماعة من الأصحاب بالأول : منهم ـ الشهيد في كتبه الثلاثة والشهيد الثاني في
المسالك والعلامة في المنتهى والقواعد وهو ظاهر المحقق الشيخ علي في الشرح حيث علل
ذلك بثبوت النهي في المأتي به جزء من الصلاة المقتضي للفساد ، وبالجملة فالظاهر
انه المشهور. وظاهر إطلاق عبارة المحقق في الشرائع الثاني واختاره في المدارك ولم
أقف على مصرح به سواه حيث قال ـ بعد قول المصنف : ولو قدم السورة على الحمد أعادها
أو غيرها ـ ما لفظه : إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في ذلك بين العامد والناسي
وهو كذلك ، وجزم الشارح (قدسسره) ببطلان
الصلاة مع العمد وهو غير واضح. أقول : وتخصيصه المخالفة بالشارح فيه نوع إشعار بأن
الأكثر على خلافه مع ان الأمر ليس كذلك فان ما ذكره جده هو الذي صرح به جملة من
وقفت على كلامه في المسألة ولم أقف على من صرح بخلافه سواه في كتابه المذكور.
بقي الكلام في الدليل على البطلان وقد عرفت ما ذكره
المحقق الشيخ على من الدليل على ذلك ، وعلله العلامة في المنتهى بان المنقول عن
النبي (صلىاللهعليهوآله) وأفعال
الأئمة (عليهمالسلام) الترتيب وهذه
الأمور انما ثبتت توقيفا. انتهى.
وكل من التعليلين لا يخلو من النظر الظاهر كما لا يخفى
على الخبير الماهر (اما الأول) فلان النهي هنا غير موجود إذ لا نص في المسألة إلا
ان يبنى على المسألة الأصولية وهو ان الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده الخاص وهو
مأمور هنا بقراءة السورة بعد الحمد. والقول بمقتضى هذه القاعدة عندنا غير ثابت إذ
لا دليل عليه كما تقدم تحقيقه.
و (اما الثاني) فمرجعه إلى انه لم يأت بالمأمور به على
وجهه فيبقى تحت عهدة
التكليف ، وفيه ان ذلك لا يستلزم
بطلان الصلاة لإمكان تداركه ما لم يركع فيجب عليه قراءة تلك السورة أو سورة أخرى
بعد الحمد وتصح صلاته. ولو قيل ـ بأنه مع اعتقاده الترتيب على الوجه الذي اتى به
يكون مشرعا فتبطل صلاته مع تعمده للنهي عن ذلك القصد ـ فالجواب انه متى تدارك ذلك
قبل الركوع كما ذكرنا فقد حصل امتثال الأمر بالترتيب والنهي انما توجه إلى أمر
خارج عن الصلاة وهو القصد فلا يكون موجبا لبطلانها.
وربما قيل هنا بالتفصيل بين ما إذا كان عازما على
إعادتها فتصح الصلاة أو لا فتبطل ، ووجهه غير ظاهر.
الثاني ـ انه لو قدم السورة ساهيا فظاهرهم الاتفاق على
عدم إعادة الصلاة وانه يجب إعادة السورة أو غيرها بعد الحمد وانما الخلاف في انه
هل يجب اعادة الحمد أيضا أم لا؟ قولان ، قال المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بعد
قول المصنف : «ونسيانا يستأنف القراءة» ما لفظه : ظاهر هذه العبارة وغيرها كعبارته
في التذكرة والنهاية استئناف القراءة من أولها فيعيد الحمد والسورة معا. وهو بعيد
لأن الحمد إذا وقعت بعد السورة كانت قراءتها صحيحة فلا مقتضى لوجوب إعادتها بل
يبنى عليها ويعيد السورة خاصة. انتهى. وهو جيد. وظاهر عبارة المدارك في هذا المقام
ان هذا الخلاف في صورة تقديم السورة عامدا ، والظاهر انه غفلة منه (قدسسره) فان الموجود
في كلامهم كما سمعت من كلام المحقق المذكور ان هذا الخلاف انما هو في صورة التقديم
ناسيا واما في صورة التقديم عامدا فهو كما قدمنا بيانه. ثم انه قد صرح غير واحد
منهم بان الجاهل هنا كالعامد. هذا كله على تقدير وجوب السورة كما لا يخفى.
(الثاني) ـ قد صرح الأصحاب بأنه لا يجوز ان يقرأ من
السور ما يفوت بقراءته الوقت بأن يقرأ سورة طويلة مع علمه بان الوقت لا يسع لها ،
قالوا فإنه إذا كان عامدا تبطل صلاته لثبوت النهي عن فواتها المقتضى للفساد إذا
خرج شيء من الصلاة وان قل عن وقتها ، وان
كان ناسيا بان قرأ سورة طويلة بظن طول
الوقت ثم تبين الضيق وجب العدول إلى غيرها وان تجاوز النصف محافظة على فعل الصلاة
في وقتها.
ولا يخفى ان الحكم المذكور مبني على القول بوجوب السورة
وتحريم ما زاد عليها وإلا فلا يتجه المنع ، اما على القول بالاستحباب فظاهر لجواز
قطعها اختيارا واما على القول بالوجوب مع تجويز الزيادة فلأنه يعدل إلى سورة قصيرة
وما اتى به من القراءة غير مضر. ولم أقف في أصل المسألة على نص مضافا إلى ما عرفت
من الإشكال في وجوب السورة وعدمه.
(الثالث) ـ يعتبر في السورة على تقدير القول بالوجوب ما
قدمنا ذكره في الفاتحة من وجوب التعلم لو لم يحسن سورة ، فلو تعلم بعضها وضاق
الوقت فقد صرحوا بأنه يأتي بما تعلمه.
واما وجوب التعويض بالتكرار وغيره انما هو في ما لو جهل
الفاتحة فإنها الأصل في القراءة فلا يجوز خلو الصلاة منها أو بدلها اما لو علمها
بتمامها وانما جهل السورة فإنه يقرأ ما تيسر منها من غير تعويض عن الفائت بقرآن أو
ذكر لسقوط اعتبارها مع الضرورة كما عرفت ، والجهل بها مع ضيق الوقت قريب منها ان
لم يكن اولى ، ولأن التعويض على خلاف الأصل فيقتصر فيه على موضع الوفاق.
ومنه يعلم انه لو جهلها رأسا سقط اعتبارها مع ضيق الوقت
وأجزأت الفاتحة. وفي المنتهى ان الحكم إجماعي فلا مساغ للتوقف فيه.
وكذا الكلام في الوجوب عن ظهر القلب وجواز ذلك من المصحف
اختيارا أو اضطرارا على الخلاف الذي تقدم ذكره في الفاتحة. وكذا وجوب القراءة
بالعربية فلا تجزئ الترجمة على ما تقدم ذكره والاعراب أيضا حسبما تقدم.
(الرابع) ـ قال في الذكرى : قراءة الأخرس تحريك لسانه
بها مهما أمكن
وعقد قلبه بمعناها لأن الميسور لا
يسقط بالمعسور (1). وروى في
الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «تلبية
الأخرس وتشهده وقراءته للقرآن في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه». وهذا يدل
على اعتبار الإشارة بالإصبع في القراءة كما مر في التكبير. ولو تعذر إفهامه جميع
معانيها افهم البعض وحرك لسانه به وأمر بتحريك اللسان بقدر الباقي تقريبا وان لم
يفهم معناه مفصلا. وهذه لم أر فيها نصا. والتمتام والفأفاء والألثغ والأليغ يجب
عليهم السعي في إصلاح اللسان ولا يجوز لهم الصلاة مع سعة الوقت مهما أمكن التعلم
فان تعذر ذلك صحت القراءة بما يقدرون عليه ، والأقرب عدم وجوب الائتمام عليهم لأن
صلاتهم مشروعة. انتهى. أقول وبنحو ذلك صرح غيره.
وأنت خبير بأنه لا إشكال في ما ذكروه من وجوب تحريك
اللسان للنص المذكور ويعضده ان الواجب في القراءة شيئان أحدهما تحريك اللسان
والثاني القراءة على الوجه المخصوص فمع تعذر القراءة يبقى وجوب تحريك اللسان
بحاله. واما وجوب عقد القلب بمعناها فهو وان كان مشهورا في كلامهم إلا انه خال من
الدليل. ونقل في المنتهى عن الشيخ الاكتفاء بتحريك اللسان.
والمراد بعقد القلب بها على ما يستفاد من كلام جمع :
منهم ـ العلامة وغيره هو ان يقصد كون هذه الحركة حركة قراءة لتتميز بذلك عن حركته
في غيرها ، وكأنهم لحظوا أن حركة اللسان أعم من القراءة فلا تنصرف إليها إلا
بالقصد والنية. والمفهوم من كلام الشهيد في الدروس والبيان ـ وهو صريحه في هذا
الكلام المنقول هنا ـ ان المراد بعقد القلب قصد معاني الحمد والسورة وتصورها بقلبه
حيث صرح في أثناء الكلام توضيحا لما قدمه أولا بأنه لو تعذر إفهامه جميع معانيها
افهم البعض وحرك لسانه به وأمر بتحريك اللسان بقدر الباقي وان لم يفهم معناه
مفصلا. والظاهر بعده لعدم الدليل عليه كما اعترف به من انه لم
__________________
(1) عوائد النراقي ص 88 وعناوين مير فتاح ص 146 عن عوالي
اللئالي عن على «ع».
(2) الوسائل الباب 59 من القراءة.
ير به نصا بل لم يقم دليل على ذلك في
الصحيح فضلا عن الأخرس. وبالجملة فهذا من قبيل «اسكتوا عما سكت الله عنه». كما
تقدم ذكره في مقدمات الكتاب (1) وقد مر مزيد
بيان له أيضا
بقي هنا شيء وهو ان ظاهر النص إضافة الإشارة بإصبعه إلى
تحريك لسانه الذي هو بدل عن قراءته وتكبيره وتشهده فيصير داخلا في البدلية. والخبر
لا معارض له في ذلك وظاهر عبارة شيخنا المشار إليه أيضا ذلك ولا بأس به.
واما ما ذكره بالنسبة إلى التمتام والفأفاء والألثغ
والأليغ فهو جيد ، ويدل عليه ما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن هارون بن
مسلم عن مسعدة بن صدقة (2) قال : «سمعت
جعفر بن محمد (عليهماالسلام) يقول انك قد
ترى من المحرم من العجم لا يراد منه ما يراد من العالم الفصيح وكذلك الأخرس في
القراءة في الصلاة والتشهد وما أشبه ذلك فهذا بمنزلة العجم المحرم لا يراد منه ما
يراد من العاقل المتكلم الفصيح ولو ذهب العالم المتكلم الفصيح حتى يدع ما قد علم
انه يلزمه ويعمل به وينبغي له ان يقوم به حتى يكون ذلك منه بالنبطية والفارسية
لحيل بينه وبين ذلك بالأدب حتى يعود إلى ما قد علمه وعقله ، قال ولو ذهب من لم يكن
في مثل حال الأعجم المحرم ففعل فعال الأعجمي والأخرس على ما قد وصفنا إذا لم يكن
أحد فاعلا لشيء من الخير ولا يعرف الجاهل من العالم».
أقول : في النهاية فيه «فأرسل إلى ناقة محرمة» أي التي
لم تركب ولم تذلل. وفي الصحاح جلد محرم اي لم تتم دباغته وسوط محرم اي لم يلن بعد
وناقة محرمة اي لم تتم رياضتها بعد ، وقال كل من لا يقدر على الكلام أصلا فهو أعجم
ومستعجم ، والأعجم الذي لا يفصح ولا يبين كلامه. انتهى.
أقول : ومنه يعلم ان إطلاق المحرم في الخبر على من لا
يمكنه الإتيان بالقراءة
__________________
(1) ج 1 ص 50 وقد رواه القاضي محمد بن سلامة المغربي الشافعي
في كتابه الشهاب في الحكم والآداب في باب الالف المقطوع والموصول.
(2) الوسائل الباب 67 من القراءة.
ونحوها على وجهها من إخراج الحروف من
مخارجها أولا يفصح به لشبهه بالدابة ونحوها من الأشياء المعدودة في عدم لين لسانه
وتذليله بالنطق. وحاصل معنى الخبر الفرق بين من يمكنه الإتيان بالقراءة والأذكار
والأدعية في صلاة أو غيرها على وجهها ولو بالتعلم وبين من لا يمكنه ، وان القادر
على الإتيان بذلك على وجهه ولو بالتعلم لا يجزئه غير ذلك وجهله مع إمكان التعلم
ليس بعذر شرعي.
والمستفاد من بعض الأخبار ان من لا يقدر على إصلاح لسانه
ويقرأ ويدعو على تلك الحال فان الله سبحانه بمزيد فضله وكرمه يوكل الملائكة
بإصلاحه فلا يرفع اليه إلا على الهيئة والكيفية المأمور بها :
روى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن
السكوني عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «قال
النبي (صلىاللهعليهوآله) ان الرجل
الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجميته فترفعه الملائكة على عربيته».
وقد ورد في الحديث المشهور عنه (صلىاللهعليهوآله) (2) «ان سين بلال
عند الله شين».
(المسألة الثالثة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) من متقدميهم ومتأخريهم وجوب الجهر في الصبح وأوليي المغرب والعشاء والإخفات
في الباقي فإن عكس عامدا عالما وجبت عليه إعادة الصلاة ، ونقل عن ابن الجنيد انه
يجوز العكس ولكن يستحب ان لا يفعله وهو قول السيد المرتضى في المصباح. وإلى هذا
القول مال جملة من متأخري المتأخرين : أولهم ـ على الظاهر السيد السند (قدسسره) في المدارك
وتبعه فيه جملة ممن تأخر عنه كما هي عادتهم غالبا.
والأظهر عندي هو القول المشهور ، ولنكتف هنا في بيان ما
اخترناه بنقل ما ذكره
__________________
(1) الوسائل الباب 30 من قراءة القرآن.
(2) الشهاب في الحكم والآداب للقاضي محمد بن سلامة المغربي
الشافعي المتوفى 454 باب الالف المقطوع والموصول.
السيد المشار اليه والكلام على كلامه
وبيان ضعفه في نقضه وإبرامه :
قال (قدسسره) بعد نقل
القولين المذكورين : احتج الشيخ (قدسسره) بما رواه
زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «قلت له
رجل جهر بالقراءة في ما لا ينبغي ان يجهر فيه أو أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه؟
فقال اي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا
أو لا يدري فلا شيء عليه». وجه الدلالة قوله (عليهالسلام) «اي ذلك فعل
متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة» فإن «نقض» بالضاد المعجمة كناية عن البطلان
والإعادة انما تثبت مع اشتمال الاولى على نوع من الخلل. واحتج الشهيد في الذكرى
على الوجوب أيضا بفعل النبي (صلىاللهعليهوآله) والتأسي به
واجب. وهو ضعيف جدا فإن التأسي في ما لا يعلم وجهه مستحب لا واجب كما قرر في محله.
واحتج القائلون بالاستحباب بأصالة البراءة من الوجوب ، وقوله تعالى «وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً» (2) وجه الدلالة
ان النهي لا يجوز تعلقه بحقيقة الجهر والإخفات لامتناع انفكاك الصوت عنهما بل
المراد ـ والله اعلم ـ ما ورد عن الصادق (عليهالسلام) (3) في تفسير
الآية وهو تعلق النهي بالجهر العالي الزائد عن المعتاد والإخفات الكثير الذي يقصر
عن الأسماع والأمر بالقراءة المتوسطة بين الأمرين وهو شامل للصلوات كلها. وما رواه
علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى (عليهالسلام) (4) قال : «سألته
عن الرجل يصلي من الفرائض ما يجهر فيه بالقراءة هل عليه ان لا يجهر؟ قال ان شاء
جهر وان شاء لم يجهر». وأجاب عنها الشيخ بالحمل على التقية لموافقتها لمذهب العامة
(5) قال المصنف (قدسسره) وهو تحكم من
الشيخ فان بعض
__________________
(1) الوسائل الباب 26 من القراءة.
(2) سورة بني إسرائيل ، الآية 110.
(3) الوسائل الباب 33 من القراءة.
(4) الوسائل الباب 25 من القراءة.
(5) في البحر الرائق ج 1 ص 302 «الجهر في الصلاة الجهرية واجب
على الامام فقط وهو أفضل في حق المنفرد وهي صلاة الصبح والركعتان الأوليان من
المغرب والعشاء.».
الأصحاب لا يرى وجوب الجهر بل يستحبه
مؤكدا. والتحقيق انه يمكن الجمع بين الخبرين بحمل الأول على الاستحباب أو حمل
الثاني على التقية ، ولعل الأول أرجح لأن الثانية أوضح سندا وأظهر دلالة مع
اعتضادها بالأصل وظاهر القرآن. انتهى.
أقول : وعندي فيه نظر من وجوه (أحدها) ـ نقله رواية
زرارة عارية عن وصف الصحة حيث انه نقلها عن الشيخ وهي وان كانت في كتابيه كذلك
لكنها من روايات الصدوق في الفقيه وطريقه إلى زرارة في أعلى مراتب الصحة فتكون
الرواية صحيحة ، وبه يظهر ضعف ما ذكره أخيرا من دعواه كون صحيحة علي بن جعفر أوضح
سندا بناء على نقله لها عن الشيخ (قدسسره).
و (ثانيها) ـ انه مما يدل على هذا القول أيضا صحيحة زرارة
الأخرى عنه (عليهالسلام) (1) قال : «قلت له
رجل جهر بالقراءة في ما لا ينبغي الجهر فيه أو أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه ،
وترك القراءة في ما ينبغي القراءة فيه أو قرأ في ما لا ينبغي القراءة فيه؟ فقال اي
ذلك فعل ناسيا أو ساهيا فلا شيء عليه».
وما رواه في الفقيه في علل الفضل بن شاذان عن الرضا (عليهالسلام) (2) «ان الصلوات
التي يجهر فيها انما هي في أوقات مظلمة فوجب ان يجهر فيها ليعلم المار ان هناك
جماعة. الحديث».
ومثله ما رواه الصدوق أيضا في حكاية صلاة النبي (صلىاللهعليهوآله) بالملائكة في
ابتداء الصلاة (3) قال : «سأل
محمد بن عمران أبا عبد الله (عليهالسلام) قال لأي علة
يجهر في صلاة الجمعة وصلاة المغرب وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الغداة وسائر الصلوات
الظهر والعصر لا يجهر فيهما؟ قال لأن النبي (صلىاللهعليهوآله) لما اسرى به
إلى السماء كان أول صلاة فرض الله عليه الظهر يوم الجمعة فأضاف إليه الملائكة تصلي
خلفه وأمر نبيه (صلىاللهعليهوآله) ان يجهر
بالقراءة ليبين لهم فضله ثم فرض عليه العصر ولم يضف إليه أحدا
__________________
(1) الوسائل الباب 26 من القراءة.
(2 و 3) الوسائل الباب 25 من القراءة.
من الملائكة وامره ان يخفى القراءة
لأنه لم يكن وراءه أحد ، ثم فرض عليه المغرب وأضاف إليه الملائكة فأمره بالإجهار
وكذلك العشاء الآخرة ، فلما كان قرب الفجر نزل ففرض الله عليه الفجر فأمره
بالإجهار ليبين للناس فضله كما بين للملائكة فلهذه العلة يجهر فيها. الحديث».
والتقريب في خبر الفضل ظاهر لتصريحه بالوجوب وفي خبر
محمد بن عمران لتضمنه الأمر من الله سبحانه لنبيه (صلىاللهعليهوآله) بالجهر
والإخفات في تلك الصلوات ، وأوامره ونواهيه عزوجل للوجوب
والتحريم بلا خلاف ، وانما الخلاف في الأوامر والنواهي التي في السنة «فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ» (1) ومتى ثبت
الحكم في حقه (صلىاللهعليهوآله) ثبت في أمته
بدليل استدلال الصادق (عليهالسلام) بذلك على أصل
الحكم المذكور ، وهو بحمد الله سبحانه ظاهر لكل ناظر.
و (ثالثها) ـ استدلاله بالآية فإنه وان كان الأمر كما
ذكره وقرره إلا ان هذا الإجمال الذي دلت عليه الآية غير معمول عليه لاتفاق الأخبار
وكلمة الأصحاب على انقسام الصلاة إلى جهرية وإخفاتية وتعيين الجهرية في صلوات
مخصوصة والإخفاتية في صلوات مخصوصة ، وقد دلت الأخبار المتقدمة على وجوب الجهر في
الجهرية والإخفات في الإخفاتية فلا بد من تخصيص هذا الإجمال بهذه الأخبار المشار
إليها ، وحينئذ فيصير معنى الآية لا تجهر في الجهرية جهرا عاليا زائدا على المعتاد
ولا تخافت في الإخفاتية إخفاتا لا تسمع نفسك. واللازم من ذلك الجهر في الجهرية
بدون الحد المذكور والإخفات في الإخفاتية فوق الحد المذكور ، ومنه يظهر عدم جواز
الاستناد إلى الآية في المقام لما هي عليه من الإجمال المنافي لما فصلته اخبارهم (عليهمالسلام).
ومن الأخبار الواردة بتفسير الآية المذكورة ما رواه
العياشي عن سماعة بن
__________________
(1) سورة النور ، الآية 63.
مهران عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) «في قول الله عزوجل (وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) (2)؟ قال المخافتة
ما دون سمعك والجهر ان ترفع صوتك شديدا».
وما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره عن
إسحاق بن عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (3) «في قوله تعالى
(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها)؟ قال الجهر
بها رفع الصوت والتخافت ما لم تسمع بإذنك واقرأ ما بين ذلك».
وبهذا الاسناد عنه (عليهالسلام) (4) قال : «الإجهار
رفع الصوت عاليا والمخافتة ما لم تسمع نفسك».
وروى العياشي في سبب النزول عن زرارة وحمران ومحمد بن
مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهماالسلام) (5) «في قوله (وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ). الآية؟ قال
كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا كان بمكة
جهر بصلاته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه فأنزلت هذه الآية عند ذلك». ونحوه
روى الطبرسي عنهما (عليهماالسلام) (6).
أقول : وهذه الأخبار وان كان فيها أيضا نوع إجمال
بالنسبة إلى الوسط الذي بين الجهر والإخفات المنهي عنهما إلا انه قد علم من
الأخبار المشار إليها آنفا ان هذا الحد الوسط له فردان : (أحدهما) الجهر في
الجهرية دون الحد المنهي عنه. و (ثانيهما) الإخفات في الإخفاتية فوق الحد المنهي
عنه ، لان الجهر والإخفات ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى تحقيقه ـ حقيقتان
متضادتان ، وبالجملة فإنك إذا ضممت أخبار المسألة كملا بعضها إلى بعض فإنه لا
مندوحة عن التخصيص في كل من الموضعين بما ذكرنا.
قال شيخنا المجلسي (قدس الله روحه) في كتاب البحار في
معنى الآية : يحتمل ان يكون الغرض بيان حد الجهر في الصلاة مطلقا أو للإمام ، وهذا
وجه قريب لتفسير الآية
__________________
(1 و 4 و 5) مستدرك الوسائل الباب 26 من القراءة.
(2) سورة بني إسرائيل ، الآية 110.
(3) الوسائل الباب 33 من القراءة.
(6) ج 3 ص 446.
اي ينبغي أن يقرأ في ما يجهر فيه من
الصلوات بحيث لا يتجاوز الحد في العلو ولا يكون بحيث لا يسمعه من قرب منه فيكون
إخفاتا أو لا يسمعه المأمومون فيكون مكروها. انتهى وبذلك يظهر لك ما في قوله أخيرا
«وهو شامل للصلوات كلها» فإنه ناشىء عن عدم ملاحظة الأخبار الواردة في المقام وما
اشتملت عليه مما يوجب تقييد هذا الإجمال كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
و (رابعها) ما ذكره من الوجهين في الجمع بين الخبرين
المنقولين في كلامه واختياره الاستحباب منهما ، فان فيه ما عرفت في غير مقام مما
سبق أنه (أولا) لم يقم عليه دليل وان اشتهر بينهم (رضوان الله عليهم) جيلا بعد
جيل. و (ثانيا) ان الاستحباب حكم شرعي لا يصار اليه إلا بدليل واضح ومجرد اختلاف
الأخبار ليس بدليل على ذلك و (ثالثا) ان الاستحباب مجاز لا يصار اليه إلا بالقرينة
ومجرد اختلاف الأخبار ليس من قرائن المجاز ، ومن المعلوم انه لو لا وجود صحيحة علي
بن جعفر في البين لما كان معدل عن الحكم بمقتضى صحيحة زرارة المذكورة والقول
بالوجوب كما لا يخفى. و (رابعا) انه من الجائز بل هو المتعين ان يجعل التأويل في
جانب صحيحة علي بن جعفر بان تحمل على التقية وهو مقتضى القاعدة المنصوصة عن أهل
العصمة (عليهمالسلام) في مقام
اختلاف الأخبار فإن العامة كلهم على الاستحباب كما هو مذهب ابن الجنيد على ما نقله
في المعتبر ، ولكنهم (رضوان الله عليهم) الغوا هذه القواعد الواردة عن أئمتهم (عليهمالسلام) واتخذوا
قواعد لا أصل لها في الشريعة. و (خامسا) تأيد صحيحة زرارة بالروايات التي قدمناها.
و (خامسها) ـ ما ذكره من أظهرية دلالة صحيحة علي بن جعفر
فإنه في الضعف والبطلان أظهر من ان ينكر ، وكيف لا وصحيحة زرارة دلت على ان
الإخفاتية لا يجوز الجهر فيها والجهرية لا يجوز الإخفات فيها ، وهذا وان كان في
كلام السائل إلا ان الامام (عليهالسلام) قرره عليه
واجابه بما يطابقه ويدل عليه ، ودلت أيضا على وجوب
الإعادة بعد حكمه بكون ذلك نقضا
للصلاة إذا كانت المخالفة والإخلال عن عمد. وكل واحد من هذه الوجوه يكفي في
الدلالة لو انفرد فكيف مع الاجتماع ، وحينئذ فلا وجه لدعواه ان صحيحة علي بن جعفر
أظهر دلالة ، ومن المعلوم ان ترك المستحبات لا يوجب الإعادة من رأس.
و (سادسها) ـ ما ذكره من الاعتضاد بالأصل وظاهر القران ،
فان في الأول منهما ان الأصل يجب الخروج عنه مع قيام الدليل على خلافه وقد عرفت
الدليل من الصحيحة المذكورة وصحيحته الثانية والأخبار التي معها. وفي الثاني انه
بمقتضى ما أوضحناه ان الآية لا دلالة لها على ما ادعاه.
هذا. واما ما ذكره الفاضل الخراساني في الذخيرة في هذا
المقام ـ حيث انه ممن تبع السيد السند كما هي عادته في أغلب الأحكام فزاد في تأييد
مقالته ما زعمه من الإبرام من ظهور لفظ «لا ينبغي» في الاستحباب وان «نقص» في
الرواية بالصاد المهملة أي نقص ثوابه وانه يحتمل حمل الأمر بالإعادة على الاستحباب
فيكون المراد المبالغة في استحبابه ـ فهو من جملة تشكيكاته الضعيفة واحتمالاته
السخيفة ، ولو قامت مثل هذه التكلفات في الأخبار والتمحلات التي تبعد عن مذاق
الأفكار لم يبق دليل يعتمد عليه إلا وللقائل فيه مقال وان سخف وبعد ذلك الاحتمال ،
ومع هذا فانا نوضح بطلان ما اعتمده بأوضح بيان :
فنقول : اما ما ذكره من ظهور لفظ «لا ينبغي» في
الاستحباب ان أراد في عرف الناس فهو كذلك ولكن لا ينفعه ، وان أراد في عرفهم (عليهمالسلام) فهو ممنوع
أشد المنع كما لا يخفى على من غاص بحار الأخبار وجاس خلال تلك الديار ، وبذلك
اعترف جملة من علمائنا الأبرار ، وقد حضرني الآن من الأخبار التي استعمل فيها لفظ «ينبغي
ولا ينبغي» في الوجوب والتحريم ما ينيف على ثلاثين حديثا. والتحقيق في المقام هو
ما قدمنا ذكره من ان هذا اللفظ من الألفاظ المتشابهة في كلامهم (عليهمالسلام) فلا يحمل على
أحد معنييه
إلا بقرينة ظاهرة والقرينة في ما
ندعيه من المعنى واضحة من الجواب كما لا يخفى على ذوي الألباب.
واما ما ذكره من لفظ «نقص» وانه بالصاد فإنه مع تسليم
صحته فهو مؤيد لما ندعيه ، وذلك فان المتبادر من النقص في الشيء انما هو عدم
الإتيان به تاما فمعنى نقص الصلاة عدم الإتيان بها تامة ، وهذا هو المعنى الذي
ينطبق عليه الأمر بالإعادة كما لا يخفى على من اتخذ الإنصاف سجية وعادة. واما حمل
النقص على نقص الثواب كما زعم فهو معنى مجازي خلاف الظاهر لا يصار اليه إلا مع
المعارض الراجح كما لا يخفى على الخبير الماهر. واما حمل الإعادة على الاستحباب
فقد عرفت ما فيه.
وبالجملة فإنك إذا رجعت إلى القواعد الشرعية الواردة عن
الذرية المصطفوية (عليهم أفضل الصلاة والتحية) يظهر لك ان القول المشهور هو المؤيد
المنصور وان القول الآخر بمحل من الضعف والقصور.
واما ما ذكره المحقق ـ ردا على الشيخ في حمله صحيحة علي
بن جعفر على التقية من انه تحكم لأن بعض الأصحاب ذهب إلى القول بمضمونها ـ ففيه ان
ظاهر هذا الكلام يعطي انه لا يصح حمل الخبر على التقية إلا إذا كان ذلك الخبر
مطرحا عند جميع الأصحاب بحيث لا يقول به قائل في ذلك الباب ، وهذا غريب من مثل هذا
المحقق التحرير وتحكم محض بل سهو في هذا التحرير ، ولعله لهذا اطرحوا قاعدة عرض
الأخبار في مقام الاختلاف على التقية مع انها في اختلاف الأخبار هي أصل كل بلية
كما نبهنا عليه في مقدمات الكتاب ، ولا يخفى ان الأخبار الخارجة عنهم (عليهمالسلام) بالاختلاف في
الأحكام لا وجه للاختلاف فيها سوى التقية كما حققناه في مقدمات الكتاب ، ولكن
العامل بذلك الخبر الخارج مخرج التقية إنما عمل به من حيث ثبوته عنهم (عليهمالسلام) ولا علم له
بكونه خرج مخرج التقية ، ولهذا وردت الأخبار عنهم (عليهمالسلام) بالرخصة
بالعمل بالأخبار الخارجة مخرج التقية حتى يعلم بأنها إنما خرجت كذلك فيكون حينئذ
مخاطبا بترك العمل بها إذا لم تلجئه
التقية للعمل بها وما نحن فيه من هذا القبيل. وبالجملة فإن الأخبار المستفيضة
بالترجيح بمخالفة العامة في مقام اختلاف الأخبار أعم مما ذكره فإنه متى ما وافق
أحد الخبرين العامة وخالفهم الآخر وجب تركه عمل به أو لم يعمل به ولهذا ترى
الأصحاب في مقام البحث والترجيح يستدل أحدهم بخبر ويجيب عنه الآخر بالحمل على
التقية. والله العالم.
تنبيهات
(الأول) ـ قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق وابن
إدريس والعلامة والشهيد وغيرهم بأن أقل الجهر ان يسمع القريب منه تحقيقا أو تقديرا
وأقل الإخفات ان يسمع نفسه لو كان سامعا ، وادعى عليه الفاضلان في المعتبر
والمنتهى الإجماع وقال الشهيد في الذكرى : أقل الجهر ان يسمع من قرب منه إذا كان يسمع وحد
الإخفات إسماع نفسه ان كان يسمع وإلا تقديرا ، قال في المعتبر وهو إجماع العلماء
ولأن ما لا يسمع لا يعد كلاما ولا قراءة.
وقال ابن إدريس في السرائر : وادنى حد الجهر ان تسمع من
على يمينك أو شمالك ولو علا صوته فوق ذلك لم تبطل صلاته ، وحد الإخفات أعلاه ان
تسمع أذناك القراءة وليس له حد ادنى بل ان لم تسمع أدناه القراءة فلا صلاة له وان
سمع من على يمينه أو شماله صار جهرا فإذا فعله عامدا بطلت صلاته. انتهى.
وقال السيد السند في المدارك بعد قول المصنف «وأقل الجهر
ان يسمعه القريب الصحيح السمع إذا استمع والإخفات ان يسمع نفسه ان كان يسمع» : هذا
الضابط ربما أوهم بظاهره تصادق الجهر والإخفات في بعض الافراد وهو معلوم البطلان
لاختصاص الجهر ببعض الصلوات والإخفات ببعض وجوبا أو استحبابا. والحق ان الجهر
والإخفات حقيقتان متضادتان يمتنع تصادقهما في شيء من الافراد. ولا يحتاج في كشف
مدلولهما إلى شيء زائد على الحوالة على العرف انتهى.
والظاهر ان مبنى ما ذكره السيد (قدسسره) من الاعتراض
على الضابط المذكور هو انه فهم من عبارة الفاضلين والشهيد عطف الإخفات في عبائرهم
على المضاف إليه في قولهم «أقل الجهر ان يسمع القريب منه والإخفات» يعني أقل
الإخفات واللازم من هذا تصادق الجهر والإخفات في إسماع القريب بان يكون ذلك أعلى
مراتب الإخفات لأن أقله إسماع نفسه وأكثره إسماع القريب وأقل مراتب الجهر كما
صرحوا به ، وحينئذ فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه وتصير هذه الصورة مادة الاجتماع
والحال ان المفهوم من النصوص الدالة على انقسام الصلاة إلى جهرية وإخفاتية خلافه.
وأنت خبير بان كلام الجماعة المذكورين وان أوهم في بادئ
النظر ما ذكره إلا ان الظاهر ان ما ذكروه من تعريف الإخفات ليس بيانا للمرتبة
الدنيا منه بل انما هو بيان لمعنى حقيقة الإخفات وانه عبارة عما ذكروه وانه ليس
معطوفا على المضاف اليه بل على المضاف والواو للاستئناف. وبالجملة فالظاهر انهم
انما قصدوا بذلك بيان معنى الإخفات وانه عبارة عن إسماع الإنسان نفسه حقيقة أو
تقديرا واما ما زاد عليه فهو جهر تبطل الصلاة به كما هو صريح عبارة ابن إدريس
واليه يشير آخر عبارة العلامة في المنتهى حيث قال بعد تحديد الإخفات بأن يسمع نفسه
أو بحيث يسمع لو كان سامعا : وانما حد دناه بما قلنا لأن ما دونه لا يسمى كلاما
ولا قرآنا وما زاد عليه يسمى جهرا. انتهى. وهو ظاهر في ان إسماع القريب جهر عنده
لا إخفات بل الإخفات خاص بإسماع نفسه.
وقال المحقق الشيخ علي في شرح القواعد : الجهر والإخفات
حقيقتان متضادتان كما صرح به المصنف في النهاية عرفيتان يمتنع تصادقهما في شيء من
الافراد ولا يحتاج في كشف مدلولهما إلى شيء زائد على الحوالة على العرف. الى ان
قال ـ بعد ذكر تعريف المصنف له بأن أقل الجهر إسماع القريب تحقيقا أو تقديرا ـ ما
صورته : وينبغي ان يزاد فيه قيد آخر وهو تسميته جهرا عرفا وذلك بان يتضمن إظهار
الصوت على الوجه المعهود.
ثم قال بعد قوله : «وحد الإخفات إسماع
نفسه تحقيقا أو تقديرا» ولا بد من زيادة قيد آخر وهو تسميته مع ذلك إخفاتا بأن
يتضمن إخفات الصوت وهمسه وإلا لصدق هذا الحد على الجهر ، وليس المراد إسماع نفسه
خاصة لأن بعض الإخفات قد يسمعه القريب ولا يخرج بذلك عن كونه إخفاتا. انتهى.
وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : واعلم ان الجهر
والإخفات كيفيتان متضادتان لا يجتمعان في مادة كما نبه عليه في النهاية ، فأقل
السر ان يسمع نفسه لا غير تحقيقا أو تقديرا وأكثره ان لا يبلغ أقل الجهر ، وأقل
الجهر ان يسمع من قرب منه إذا كان صحيح السمع مع اشتمال القراءة على الصوت الموجب
لتسميته جهرا عرفا ، وأكثره ان لا يبلغ العلو المفرط وربما فهم بعضهم ان بين أكثر
السر وأقل الجهر تصادقا وهو فاسد لأدائه إلى عدم تعيين أحدهما لصلاة لإمكان
استعمال الفرد المشترك حينئذ في جميع الصلوات وهو خلاف الواقع لان التفصيل قاطع
للشركة. انتهى.
وظاهر كلام هذين الفاضلين أنه لا بد في صدق الجهر وحصوله
من اشتمال الكلام على الصوت وهذا هو منشأ الفرق بين الجهر والإخفات ، فإن اشتمل
الكلام على الصوت سمى جهرا اسمع قريبا أو لم يسمع وان لم يشتمل عليه سمي إخفاتا
كذلك. وبنحو ما ذكره الفاضلان المذكوران صرح المحقق الأردبيلي (قدسسره) والظاهر انه
قول كافة من تأخر عنهما.
وفيه من المخالفة لكلام أولئك الفضلاء ما لا يخفى فإنهم
ـ كما عرفت ـ جعلوا أقل مراتب الجهر ان يسمع من قرب منه اشتمل على صوت أو لم يشتمل
وان الإخفات عبارة عن إسماع نفسه اشتمل على صوت أو لم يشتمل وادعى الفاضلان على
ذلك الإجماع كما تقدم ، واللازم من ذلك ان من قرأ في الصلوات الإخفاتية بحيث يسمعه
من قرب منه وان لم يشتمل على صوت فان صلاته تبطل بذلك وهو صريح كلام ابن إدريس كما
تقدم ، مع ان صريح كلام هؤلاء المتأخرين هو انه متى كان كذلك فإن الصلاة صحيحة.
والعرف يساعد ما ذكره المتأخرون فإن مجرد سماع القريب مع
عدم الاشتمال على الصوت الظاهر انه لا يطلق عليه الجهر عرفا. وبالجملة فالمتبادر
عرفا من الجهر هو ما اشتمل على هذا الجرس الذي هو الصوت وان كان خفيا وما لم يشتمل
عليه فإنما يسمى إخفاتا وان سمعه القريب. واما ما ذكره شيخنا المشار إليه في آخر
كلامه بقوله : «وربما فهم بعضهم. إلخ» فقد عرفت وجهه مما تقدم.
وكيف كان فإنه لا يعتد في الإخفات بما دون إسماع نفسه
لما عرفت من الأخبار المتقدمة من تفسير الإخفات المنهي عنه بما لا يسمع نفسه.
ويؤيده ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن زرارة
عن ابي جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «لا
يكتب من القرآن والدعاء إلا ما اسمع نفسه».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
هل يقرأ الرجل في صلاته وثوبه على فيه؟ قال لا بأس بذلك إذا أسمع أذنيه الهمهمة».
واما ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه
موسى (عليهالسلام) ـ (3) قال : «سألته
عن الرجل يصلح له ان يقرأ في صلاته ويحرك لسانه بالقراءة في لهواته من غير ان يسمع
نفسه؟ قال لا بأس ان لا يحرك لسانه يتوهم توهما». ـ
فقد حمله الشيخ في التهذيب على من يصلي مع قوم لا يقتدي
بهم واستدل عليه بما رواه عن محمد بن أبي حمزة عن من ذكره (4) قال : «قال
أبو عبد الله (عليهالسلام) يجزئك من
القراءة معهم مثل حديث النفس».
أقول : وقريب منه أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي
بن يقطين (5) قال «سألت أبا
الحسن (عليهالسلام) عن الرجل
يصلي خلف من لا يقتدي بصلاته
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 33 من القراءة.
(4 و 5) الوسائل الباب 52 من القراءة.
والامام يجهر بالقراءة؟ قال اقرأ
لنفسك وان لم تسمع نفسك فلا بأس».
(الثاني) ـ المشهور في كلامهم انه لا جهر على النساء في
موضع الجهر بل الحكم مختص بالرجال ، وادعى عليه الفاضلان والشهيدان إجماع العلماء
، فيكفيها إسماع نفسها تحقيقا أو تقديرا. ولو جهرت ولم يسمعها الأجنبي فقد صرحوا
بصحة صلاتها لحصول الامتثال اما لو سمعها فالمشهور عندهم البطلان للنهي في العبادة
المستلزم للفساد.
والظاهر ان مرادهم بالنهي هنا هو ان صوت المرأة عورة فهي
منهية عن إسماعه الأجنبي وأنت خبير بأنه لم يقم عندنا ما يدل على ما ادعوه من كون
صوتها عورة وانها منهية عن إسماعه الأجنبي بل ظاهر الأخبار الدالة على تكلم فاطمة (عليهاالسلام) مع الصحابة
في مواضع عديدة ولا سيما في المخاصمة في طلب ميراثها والإتيان بتلك الخطبة الطويلة
المشهورة كما نقلناها بطولها في كتابنا سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد
وتكلم النساء في مجلس الأئمة (عليهمالسلام) هو خلاف ما
ذكروه.
ثم انه مع تسليم صحة ما ذكروه فالنهي هنا انما توجه إلى أمر
خارج عن الصلاة وان كان مقارنا كما تقدم البحث فيه في مسألة الصلاة في المكان
والثوب المغصوبين. وبالجملة فإن كلامهم هنا لا يخلو من ضعف لعدم الدليل عليه بل
قيام الدليل على خلافه كما عرفت
أقول : والذي وقفت عليه في هذا المقام من الأخبار ما
رواه الشيخ في القوى عن علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن المرأة تؤم النساء ما حد رفع صوتها بالقراءة والتكبير؟ فقال بقدر ما تسمع».
وعن علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى بن جعفر (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن المرأة تؤم النساء ما حد رفع صوتها بالقراءة والتكبير؟ قال قدر ما تسمع». وما
رواه في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه مثله (3) وزاد قال : «وسألته
عن النساء هل عليهن الجهر بالقراءة في الفريضة؟ قال
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 31 من القراءة.
لا إلا ان تكون امرأة تؤم النساء
فتجهر بقدر ما تسمع قراءتها».
أقول : ظاهر هذه الأخبار انه لا جهر على النساء كما ذكره
الأصحاب إلا إذا كانت تؤم النساء فإنها تجهر ولكن لا تجاوز بجهرها إسماع نفسها ،
وإطلاق الأخبار الأولة يحمل على الخبر الأخير. وهذه المرتبة وان كانت في عبارات
الفاضلين والشهيدين وابن إدريس كما تقدم من مراتب الإخفات وهي حد الإخفات عندهم
إلا انه بالنظر إلى كلام المتأخرين الذين جعلوا المدار في الفرق بين الجهر
والإخفات هو وجود الصوت وعدمه لا مانع من جعلها من مراتب الجهر إذا اقترنت بالصوت
وان كان خفيا. ويمكن حينئذ الفرق بين حال إمامتها وغيرها باعتبار الصوت وعدمه
بمعنى أنها تقرأ في الموضعين بقدر ما تسمع نفسها إلا انه في حال الإمامة يكون
مقرونا بصوت خفي وفي غيرها بغير صوت ، واما كون ذلك في مقام سماع الأجنبي أو عدمه
فغير معلوم من الأخبار وانما هو من تكلفات الأصحاب في هذا الباب. بقي الكلام في
انها لو أجهرت زيادة على ذلك فقضية الأصل جوازه وان كان خلاف الأفضل كما صرحوا به
في مقام عدم سماع الأجنبي لها. هذا بالنسبة إلى الصلاة الجهرية.
واما بالنسبة إلى الصلاة الإخفاتية فالظاهر من كلام
الأكثر وجوب الإخفات عليها في موضعه ولم أقف على مصرح به إلا انه يظهر من تخصيصهم
استثناء النساء بصورة وجوب الجهر على الرجل ، قيل وربما أشعر بعض عباراتهم بثبوت
التخيير لها مطلقا. وقال المحقق الأردبيلي (قدسسره) انه لا دليل
على وجوب الإخفات على المرأة في الإخفاتية ، واختاره جملة ممن تأخر عنه : منهم ـ الفاضل
الخراساني وشيخنا المجلسي ، وكيف كان فالأحوط العمل بالقول المشهور لحصول البراءة
اليقينية على تقديره.
(الثالث) ـ وجوب الجهر على تقدير القول به انما هو في
القراءة خاصة ولا يجب في شيء من أذكار الصلاة لأصالة العدم.
ولما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن يقطين عن أبي الحسن
موسى (عليه
السلام) (1) قال : «سألته
عن التشهد والقول في الركوع والسجود والقنوت للرجل ان يجهر به؟ قال ان شاء جهر وان
شاء لم يجهر».
والظاهر ان ذكر هذه الأشياء في الرواية انما هو على وجه
التمثيل فيكون الحكم شاملا لجميع أذكار الصلاة إلا ما خرج بالدليل ، ومنه القراءة
أو التسبيح في الأخيرتين فإن الحكم فيها ذلك إلا ان ظاهر الأصحاب وجوب الإخفات فيه
، وفي هذه الأزمان اشتهر بين جملة من أبناء هذا الزمان القول بوجوب الجهر فيه
والكل بمعزل عن الصواب وسيجيء ان شاء الله تحقيق المقام في الفصل الموضوع لهذه
المسألة. وبالجملة فالظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في ما عدا هذا الموضع في ان
المصلي مخير بين الجهر والإخفات نعم يستحب للإمام الجهر في هذه المواضع لما في
موثقة أبي بصير (2) من انه ينبغي
للإمام ان يسمع من خلفه كل ما يقول وللمأموم ان لا يسمع الإمام شيئا مما يقول.
(الرابع) ـ لا خلاف بين الأصحاب هنا في معذورية الجاهل
وهذا أحد الموضعين الذين خصوهما بالاستثناء في كلامهم ، ويدل على ذلك ما تقدم في
صحيحتي زرارة. ولو ذكر في الأثناء لم يجب عليه الاستئناف كما صرح به بعض الأصحاب ،
وإطلاق الصحيحتين المذكورتين دال عليه. والناسي أيضا كذلك كما دل عليه الصحيحان
المذكوران ، فلو خافت في موضع الجهر أو جهر في موضع الإخفات جاهلا أو ناسيا فلا شيء
عليه وصحت صلاته ولا يجب بالإخلال بهما سجود سهو لإطلاق الرواية. والظاهر انه لا
خلاف في جميع هذه الأحكام.
(الخامس) ـ حكم القضاء حكم الأداء في ذلك بلا خلاف كما
ذكره في المنتهى
__________________
(1) الوسائل الباب 20 من القنوت ، واللفظ كما في التهذيب ج 1 ص
163 والوسائل والوافي باب الجهر والإخفات هكذا : «سألت أبا الحسن الماضي «ع» عن
الرجل هل يصلح له ان يجهر بالتشهد والقول في الركوع والسجود والقنوت؟ قال.».
(2) الوسائل الباب 52 من صلاة الجماعة.
سواء كان القضاء في ليل أو نهار ، قال
في المنتهى : قد أجمع أهل العلم على الإسرار في صلاة النهار إذا قضيت في ليل أو
نهار وكذا صلاة الليل إذا قضيت بالليل جهر بها وإذا قضاها بالنهار جهر بها عندنا ،
وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور وابن المنذر ، وقال الشافعي يسر بها (1). الى آخره.
بقي الكلام في ما لو كان يقضي عن غيره واختلف حكم القاضي
والمقضي عنه كالرجل يقضي عن المرأة والمرأة تقضى عن الرجل ، فان الرجل يجب عليه
الجهر في الجهرية والمرأة يجب عليها الإخفات في الجهرية في مقام سماع الأجنبي عند
الأصحاب ، فلو أرادت المرأة القضاء عن الرجل صلاته الجهرية في مقام يسمع صوتها
الأجانب فمقتضى القاعدة الأولة وجوب الجهر عليها كما فاتت ذلك الرجل ، ومقتضى ما
صرحوا به من عدم جواز الجهر لها بالنسبة إلى صلاتها انه يكون الحكم كذلك بالنسبة
إلى هذه الصلاة التي تقضيها عن الغير ، وكذا لو أراد الرجل ان يقضي عن المرأة صلاة
جهرية وجب عليه الإخفات فيها أو استحب فان مقتضى القاعدة أنه يقضيها إخفاتا لأن
الفائتة كانت كذلك ، ومقتضى إطلاق الأخبار الدالة على وجوب الجهر في هذه الصلاة
وان المرأة إنما وجب عليها الإخفات أو استحب لخصوص مادة وهو تحريم إسماع صوتها
الأجنبي أو كراهة ذلك مطلقا هو وجوب الجهر عملا بالإطلاق إذ المخصص المذكور غير
موجود هنا. ولم أقف في هذا المقام على كلام لأحد من علمائنا الاعلام والأقرب
الأنسب بالقواعد هنا هو الاعتبار بحال القاضي لا المقضي عنه لما عرفت في تعليل كل
من المسألتين هذا كله بناء على قواعد الأصحاب في تحريم سماع صوت المرأة واما على
ما ذكرناه واخترناه فلا اشكال.
(السادس) ـ المستحب في نوافل النهار الإخفات وفي نوافل
الليل الإجهار بالقراءة ، قال في المنتهى : وهو مذهب علمائنا اجمع.
__________________
(1) المغني ج 1 ص 570.
أقول : ويدل عليه جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه
الشيخ عن الحسن بن علي ابن فضال عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «السنة
في صلاة النهار بالإخفات والسنة في صلاة الليل بالإجهار».
ومما يدل على جواز الجهر نهارا وان كان خلاف الأفضل ما
رواه الشيخ في الموثق عن سماعة عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الرجل هل يجهر بقراءته في التطوع بالنهار؟ قال نعم».
(المسألة الرابعة) ـ اختلف الأصحاب في حكم القران بين
السورتين في الفريضة فقال الشيخ في النهاية والمبسوط انه غير جائز بل قال في
النهاية انه مفسد للصلاة ونحو منه كلامه في الخلاف ، واليه ذهب المرتضى في
الانتصار ونقل إجماع الفرقة عليه واختاره في المسائل المصرية الثالثة أيضا ، لكن
نقل في التذكرة عن المرتضى القول بكراهة القران ولعله في موضع آخر من مصنفاته.
والعلامة اختلف اختياره في هذه المسألة في كتبه فاختار التحريم في التحرير
والقواعد والإرشاد والمختلف ومال اليه الشهيد في رسالته واليه ذهب أبو الصلاح على
ما رأيته في كتابه الكافي حيث قال : ولا يجوز ان يقرأ مع فاتحة الكتاب بعض سورة
ولا أكثر من سورة. انتهى. وممن صرح بذلك الصدوق في الفقيه حيث قال : ولا تقرن بين
سورتين في فريضة فاما في النافلة فأقرن ما شئت. وذهب الشيخ في الاستبصار إلى
الكراهة واختاره ابن إدريس والمحقق وجمهور المتأخرين ومتأخريهم.
والظاهر عندي هو القول بالتحريم ، ومما يدل عليه صحيحة
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (3) قال : «سألته
عن الرجل يقرأ السورتين في الركعة فقال لا لكل سورة ركعة».
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 22 من القراءة.
(3) الوسائل الباب 8 من القراءة.
وصحيحة منصور بن حازم (1) قال : «قال
أبو عبد الله (عليهالسلام) لا تقرأ في
المكتوبة بأقل من سورة ولا بأكثر».
والسيد السند في المدارك حيث اختار القول المشهور بين
المتأخرين نقل هذه الصحيحة في أدلة القول بالتحريم عارية عن وصف الصحة ثم طعن فيها
في آخر كلامه بأنها ضعيفة الاسناد ، وسند هذه الرواية قد اشتمل على محمد بن عبد
الحميد وسيف بن عميرة. والظاهر ان طعنه فيها بالضعف لاشتمال سندها على محمد بن عبد
الحميد كما عرفت من كلامه فيه آنفا وقد تقدم الجواب عنه منقحا. ويحتمل أيضا بالنظر
إلى سيف بن عميرة حيث نقل ابن شهرآشوب انه ثقة واقفي وعليه فتكون الرواية في
الموثق والموثق عندهم من قسم الضعيف إلا ان المشهور خلافه ، وقد وثقه الشيخ
والعلامة والشهيد في كتاب نكت الإرشاد في بحث نكاح الأمة بإذن المولى ، قال بعد ان
نقل الطعن عليه بالضعف : والصحيح انه ثقة. وبه صرح خاتمة المحدثين المجلسي في
وجيزته وشيخنا الشيخ سليمان في بلغته ، فالحديث صحيح بلا شبهة ولا ريب.
ومن الأخبار الدالة على ذلك أيضا موثقة زرارة (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يقرن بين السورتين في الركعة فقال ان لكل سورة حقا فأعطها حقها من الركوع والسجود».
أقول : وحق السورة من الركوع والسجود هو ان يأتي بهما
بعد السورة بلا فصل فإذا قرن بين سورتين فقد ترك حق الاولى. وتوثيق هذا الخبر انما
هو بعبد الله بن بكير الذي قد عد في من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه فلا
يقصر خبره عن رتبة الصحيح بناء على اصطلاحهم.
ومن ذلك ما رواه الشيخ عن عمر بن يزيد (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) اقرأ سورتين
في ركعة؟ قال نعم. قلت أليس يقال أعط كل سورة حقها من
__________________
(1) الوسائل الباب 4 من القراءة.
(2 و 3) الوسائل الباب 8 من القراءة.
الركوع والسجود؟ فقال ذلك في الفريضة
فأما في النافلة فليس به بأس».
ومن ذلك ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب
حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «لا
تقرن بين سورتين في الفريضة في ركعة فإن ذلك أفضل». ولا يتوهم من قوله «فان ذلك
أفضل» الدلالة على الاستحباب فان استعمال افعل التفضيل بمعنى أصل الفعل شائع.
وما رواه في كتاب الخصال بسنده فيه إلى علي (عليهالسلام) في حديث
الأربعمائة (2) قال : «أعطوا
كل سورة حقها من الركوع والسجود».
وما رواه في كتاب قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه
موسى (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
عن رجل قرأ سورتين في ركعة؟ قال إذا كانت نافلة فلا بأس واما الفريضة فلا يصلح».
وما رواه في آخر السرائر بالسند المتقدم عن أبي جعفر (عليهالسلام) (4) قال : «لا
قران بين سورتين في ركعة ولا قران بين أسبوعين في فريضة ونافلة ولا قران بين صومين».
وما رواه في المعتبر والمنتهى من جامع البزنطي عن المفضل
(5) قال : «سمعت
أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول لا تجمع
بين سورتين في ركعة واحدة إلا الضحى وأ لم نشرح والفيل ولإيلاف».
وما رواه في كتاب الهداية للصدوق مرسلا (6) قال : «قال
الصادق (عليهالسلام) لا تقرن بين
السورتين في الفريضة واما في النافلة فلا بأس».
وقال في كتاب الفقه الرضوي (7) قال العالم (عليهالسلام) لا تجمع بين
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 8 من القراءة.
(5) المعتبر ص 178 والمنتهى ص 276 والوسائل الباب 10 من
القراءة.
(6) مستدرك الوسائل الباب 6 من القراءة.
(7) ص 11.
السورتين في الفريضة».
أقول : هذا مجموع ما وقفت عليه من الأخبار الدالة على
التحريم وهي في الدلالة والظهور كالنور على الطور.
احتج السيد السند في المدارك على القول بالكراهة حيث
اختاره بالأصل والعمومات وما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن يقطين (1) قال : «سألت
أبا الحسن (عليهالسلام) عن القران
بين السورتين في المكتوبة والنافلة قال لا بأس». وفي الموثق عن زرارة (2) قال : «قال
أبو جعفر (عليهالسلام) انما يكره ان
يجمع بين السورتين في الفريضة فاما النافلة فلا بأس». ثم نقل كلام ابن إدريس بأن
الإعادة وبطلان الصلاة يحتاج إلى دليل وأصحابنا قد ضبطوا قواطع الصلاة وما يوجب
الإعادة ولم يذكروا ذلك في جملتها والأصل صحة الصلاة والإعادة والبطلان يحتاج إلى
دليل ، ثم نقل عن القائلين بالتحريم الاحتجاج بصحيحة محمد بن مسلم التي قدمناها في
أول الأخبار ثم صحيحة منصور بن حازم معبرا عنها بلفظ رواية منصور ، ثم قال والجواب
الحمل على الكراهة جمعا بين الأدلة. اما البطلان فاحتج عليه في المختلف بان القارن
بين السورتين غير آت بالمأمور به على وجهه فيبقى في عهدة التكليف. وهو ضعيف فان
الامتثال حصل بقراءة السورة الواحدة والنهي عن الزيادة لو سلمنا انه للتحريم فهو
أمر خارج عن العبادة فلا يترتب عليه الفساد. انتهى.
وفيه نظر من وجوه : (الأول) ـ ان ما احتج به من الأصل
والعمومات وأيده بنقل كلام ابن إدريس المذكور فهو مردود بما ذكرناه من الأخبار
فإنها في ما ادعيناه واضحة المنار مع تعددها وكثرتها وهم يخرجون عن الأصل بأقل من
ذلك كما لا يخفى على الخبير المنصف.
(الثاني) ـ ان ما احتج به من صحيحة علي بن يقطين فهي
محمولة على التقية
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 8 من القراءة.
كما صرح به جملة من الأصحاب : منهم ـ شيخنا
المجلسي في البحار وان رجح القول بالكراهة تبعا للجماعة ، قال : ويمكن الجمع بين الأخبار
بوجهين (أحدهما) حمل اخبار المنع على الكراهة. و (ثانيهما) حمل اخبار الجواز على
التقية والأول أظهر والثاني أحوط. انتهى
أقول : لا اعرف لهذه الأظهرية وجها سوى متابعة المشهور
بين المتأخرين لما عرفت (أولا) مما حققناه في غير مقام مما سبق من ان الجمع بين الأخبار
بالكراهة والاستحباب مما لا مستند له من سنة ولا كتاب مع خروجه عن القواعد الشرعية
والضوابط المرعية ، لأن الحمل على ذلك مجاز لا يصار اليه إلا مع القرينة ولا قرينة
هنا سوى اختلاف أخبار المسألة وهذا ليس من قرائن المجاز سيما مع ظهور محمل سواه.
و (ثانيا) ان القاعدة المنصوصة عن أصحاب العصمة (عليهمالسلام) في أمثال هذا
المقام هو الترجيح بين الأخبار بالعرض على مذهب العامة والأخذ بخلافه ، والخروج عن
قواعدهم (عليهمالسلام) التي قرروها
وضوابطهم التي ذكروها بمجرد التشهي رد عليهم في ما ذكروه.
و (ثالثا) ان من ضوابطهم المقررة أنهم يعملون بالمرجحات
ويجعلون التأويل في طرف الخبر المرجوح ، ولا ريب ان ما ذكرناه من الأخبار وان لم
يتفطنوا لها ولم ينقلوها أكثر عددا وظهور رجحانها على هذه الرواية ظاهر ، فالواجب
جعل التأويل في جانب هذه الرواية ووجه التأويل بالحمل على التقية ظاهر فيها كما
اعترف به ، فأي أظهرية في ما ادعاه مع التأمل في ما ذكرناه؟ ما هذه إلا مجاز فات
نشأت من الاستعجال وعدم إعطاء النظر حقه في هذا المجال.
(الثالث) ـ ان ما احتج به من موثقة زرارة ـ مع قطع النظر
عن كونه يرد الأخبار الموثقة ويرميها بالضعف ويطرحها كما لا يخفى على من عرف
طريقته في الكتاب المذكور ـ مردود بأنه مبني على كون الكراهة في عرفهم (عليهمالسلام) بهذا المعنى
المصطلح وهو قد اعترف في غير موضع من شرحه وصرح بكون استعمالها في الأخبار بمعنى
التحريم شائعا كثيرا بل ربما ترجح على
المعنى الأصولي ، فكيف يتم له الاستدلال بالخبر المذكور والحال كما ترى؟
(الرابع) ـ ما أجاب به عن الروايتين المنقولتين في كلامه
حجة للقائلين بالتحريم من حملهما على الكراهة فإن فيه ما عرفت مما قدمنا ذكره على
كلام شيخنا المجلسي (قدسسره) ونزيده
تأكيدا بأن نقول انه إذا كان العمل عندهم في الجمع بين الأخبار في جميع الأحكام من
أول أبواب الفقه إلى آخرها انما هو على هذه القاعدة من حمل الأوامر على الاستحباب
والنواهي على الكراهة كما لا يخفى على الخائض في كلامهم والناظر في نقضهم وإبرامهم
فلمن خرجت هذه الأخبار المستفيضة بهذه القواعد المقررة عنهم (عليهمالسلام) في الأخبار
المتعارضة ، أهنأ شريعة غير هذه الشريعة أو خوطب بها أحد غيرهم؟ ما هذه إلا غفلة
عجيبة سامحنا الله وإياهم.
(الخامس) ـ قوله في رد كلام العلامة «وهو ضعيف. الى آخره»
فان فيه ما كتبه عليه الفاضل الشيخ محمد بن الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني في
حاشية الكتاب حيث قال ـ ونعم ما قال ـ لا يخلو كلام شيخنا من نظر ، لان الظاهر من
القران قصد الجمع بين السورتين لأن العدول لا ريب في جوازه مع الشرط المذكور فيه ،
وحينئذ فكلام العلامة متوجه لأن قصد السورتين يقتضي عدم الإتيان بالمأمور به إذ
المأمور به السورة وحدها. وقول شيخنا ـ ان النهي عن الزيادة نهى عن أمر خارج ـ انما
يتم لو تجدد فعل الزيادة بعد فعل الاولى قصدا للسورة الاولى منفردة واين هذا من
القران؟ انتهى.
وبما حررناه وأوضحناه يظهر لك قوة القول بالتحريم وان
القول بالكراهة انما نشأ عن عدم إعطاء التأمل حقه في الأخبار والتتبع لها والنظر
فيها بعين الفكر والاعتبار. والله العالم.
وفي المقام فوائد يجب التنبيه عليها (الاولى) قال شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك : ويتحقق القران بقراءة أزيد من سورة وان لم يكمل
الثانية بل بتكرار السورة الواحدة
أو بعضها ومثله تكرار الحمد. انتهى.
وفيه (أولا) ان اخبار القران التي قدمناها كلها قد
اشتملت على السورة بمعنى ان القران انما هو عبارة عن قراءة سورة ثانية تامة ، وليس
فيها ما ربما يحتمل ما ذكره إلا صحيحة منصور بن حازم لقوله (عليهالسلام) (1) «بأقل من سورة
ولا بأكثر». والواجب حمل إطلاقها على ما صرحت به تلك الأخبار العديدة من ان القران
هو الجمع بين السورتين. و (ثانيا) انه لا خلاف في جواز العدول في الجملة ولا ريب
في حصول الزيادة على سورة مع انه لا قائل بالتحريم. وبالجملة فالظاهر ضعف ما ذكره (قدسسره)
(الثانية) ـ الظاهر ان موضع الخلاف في القران جواز أو
تحريما بالسورة تامة أو ما دونها هو ما إذا قصد بقراءته كونه جزء من القراءة
الواجبة ، فإن الظاهر انه لا خلاف في جواز القنوت ببعض الآيات واجابة المسلم بلفظ
القرآن والاذن للمستأذن بقوله : «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» (2) ونحو ذلك.
(الثالثة) ـ ينبغي ان يعلم ان محل الخلاف بغير خلاف يعرف
هو الفريضة واما النافلة فلا بأس بالقران فيها كما تقدم التصريح به في رواية عمر
بن يزيد ورواية قرب الاسناد ومرسلة الصدوق في كتاب الهداية.
ويزيد ذلك تأكيدا ما رواه الشيخ عن عبد الله بن أبي
يعفور عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «لا بأس
ان تجمع في النافلة من السور ما شئت».
وعن محمد بن القاسم (4) قال : «سألت عبدا صالحا (عليهالسلام) هل يجوز ان
يقرأ في صلاة الليل بالسورتين والثلاث؟ فقال ما كان من صلاة الليل فاقرأ بالسورتين
والثلاث وما كان من صلاة النهار فلا تقرأ إلا بسورة سورة». وفيه دلالة على ترجيح
ترك القران في النافلة النهارية.
__________________
(1) ص 146.
(2) سورة الحجر ، الآية 46.
(3 و 4) الوسائل الباب 8 من القراءة.
(الرابعة) ـ يجب ان يستثني من الحكم بتحريم القران أو
كراهته في الفريضة صلاة الآيات لما سيأتي ان شاء الله تعالى بيانه من جواز تعدد
السورة فيها. والله العالم.
(المسألة الخامسة) ـ المشهور بين الأصحاب تحريم قراءة
العزائم الأربع في الفرائض بل نقل عليه الإجماع جملة من الأصحاب : منهم ـ المرتضى
في الانتصار والشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية والعلامة في النهاية. وخالف في
ذلك ابن الجنيد فقال لو قرأ سورة من العزائم في النافلة سجد وان كان في فريضة أومأ
فإذا فرغ قرأها وسجد.
ومن اخبار المسألة ما رواه ثقة الإسلام والشيخ عن زرارة
عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) قال : «لا
تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم فإن السجود زيادة في المكتوبة». وهذه الرواية
كما ترى صريحة في القول المشهور.
ما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد
الله (عليهالسلام) (2) «انه سئل عن
الرجل يقرأ بالسجدة في آخر السورة قال يسجد ثم يقوم فيقرأ فاتحة الكتاب ثم يركع
ويسجد».
ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله
(عليهالسلام) (3) قال : «ان
صليت مع قوم فقرأ الامام «اقرأ باسم ربك الذي خلق» أو شيئا من العزائم وفرغ من
قراءته ولم يسجد فأومى إيماء ، والحائض تسجد إذا سمعت السجدة».
ما رواه الشيخ في التهذيب عن سماعة (4) قال «من قرأ «اقرأ
باسم ربك» فإذا ختمها ، فليسجد فإذا قام فليقرأ فاتحة الكتاب وليركع. قال وان
ابتليت بها مع امام لا يسجد فيجزئك الإيماء والركوع ولا تقرأ في الفريضة اقرأ في
التطوع».
عن وهب بن وهب عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) (5) انه قال : «إذا
كان آخر السورة السجدة أجزأك أن تركع بها».
__________________
(1) الوسائل الباب 40 من القراءة.
(2 و 5) الوسائل الباب 37 من القراءة.
(3) الوسائل الباب 38 من القراءة.
(4) الوسائل الباب 37 و 40 من القراءة.
عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) قال : «سألته
عن الرجل يقرأ السجدة فينساها حتى يركع ويسجد قال يسجد إذا ذكر إذا كانت من
العزائم».
عن عمار بن موسى في الموثق عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (2) «عن الرجل يقرأ
في المكتوبة سورة فيها سجدة من العزائم؟ فقال إذا بلغ موضع السجدة فلا يقرأها وان
أحب ان يرجع فيقرأ سورة غيرها ويدع التي فيها السجدة فيرجع إلى غيرها. وعن الرجل
يصلي مع قوم لا يقتدي بهم فيصلي لنفسه وربما قرأوا آية من العزائم فلا يسجدون فيها
فكيف يصنع؟ قال لا يسجد».
عن علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
عن امام قوم قرأ السجدة فأحدث قبل ان يسجد كيف يصنع؟ قال يقدم غيره فيتشهد ويسجد
وينصرف هو وقد تمت صلاتهم». وروى الحميري في كتاب قرب الاسناد مثله (4) إلا انه قال :
«يقدم غيره فيسجد ويسجدون وينصرف فقد تمت صلاتهم».
ما رواه الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب
قرب الاسناد عن عبد الله ابن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) (5) قال : «سألته
عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة النجم أيركع بها أو يسجد ثم يقوم فيقرأ بغيرها؟ قال
يسجد ثم يقوم فيقرأ بفاتحة الكتاب ويركع ولا يعود يقرأ في الفريضة بسجدة». ورواه
علي بن جعفر في كتابه مثله (6) إلا انه قال :
«فيقرأ بفاتحة الكتاب ويركع وذلك زيادة في الفريضة فلا يعودن يقرأ السجدة في
الفريضة».
هذا ما حضرني من الأخبار في المسألة ولا يخفى ما هي عليه
من التدافع الظاهر لكل ناظر ، إلا انه يمكن ان يقال بتوفيق الملك المتعال وبركة
الآل عليهم صلوات ذي الجلال :
__________________
(1) الوسائل الباب 39 من القراءة.
(2) الوسائل الباب 30 و 38 من القراءة.
(3 و 4 و 5 و 6) الوسائل الباب 40 من القراءة.
اما الخبر الأول فإنه ظاهر ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ في
القول المشهور. واما الثاني فليس فيه تصريح بكون القراءة في الفريضة فيحمل على
النافلة لما سيأتي ان شاء الله تعالى من جواز ذلك فيها.
واما الثالث فيحمل على الصلاة خلف المخالف وانه مع
الإلجاء والضرورة يومئ إيماء ، ويؤيده ما في موثقة سماعة من الأمر بالإيماء في هذه
الصورة ، وما في آخر رواية عمار من الأمر له في هذه الصورة بعدم السجود لا ينافيه
الإيماء كما في هذين الخبرين فيجب تقييد إطلاق خبر عمار بهذين الخبرين.
واما الرابع فصدره كالخبر الثاني مطلق فيحمل على النافلة
كما حملنا عليه ذلك الخبر وعجزه يحمل على ما عرفت في الخبر الثالث ، وقوله في آخر
الخبر «لا تقرأ في الفريضة اقرأ في التطوع» صريح الدلالة على القول المشهور من
النهى عن القراءة في الفريضة وصريح في جواز ذلك في النافلة كما أشرنا إليه آنفا.
واما الخامس فقد حمله الشيخ (قدسسره) على ما إذا
كان مع قوم لا يتمكن معهم من السجود. ولا بأس به في مقام الجمع. واما السادس فهو
مطلق أيضا فيحمل على النافلة جمعا.
واما السابع فيمكن حمله على من شرع في السورة ساهيا ثم
ذكر قبل قراءة السجدة فان حكمه ان يقرأ سورة أخرى غيرها ان أوجبنا السورة وتغتفر
له هذه الزيادة وان اكتفينا بالتبعيض في السورة فإنه يكتفي بما قرأ ويتم صلاته.
وفي الخبر بناء على ما ذكرنا إيماء إلى عدم جواز قراءة السجدة في الصلاة ففيه
تأييد للقول المشهور.
واما الثامن فهو ظاهر في قراءة العزائم في الفريضة ،
وحمله على النافلة بعيد لعدم جواز الجماعة فيها إلا في مواضع نادرة. ويمكن الجواب
عنه بالحمل على النسيان كما قدمناه في الخبر السابع أو على التقية وهو الأقرب.
بقي الكلام في معنى الخبر وقد قال شيخنا (قدسسره) في البحار
انه يحتمل وجوها :
(الأول) ان يكون فاعل التشهد والسجود
والانصراف الامام الأول فيكون التشهد محمولا على الاستحباب للانصراف من الصلاة ،
والسجود للتلاوة لعدم اشتراط الطهارة فيه (الثاني) ان يكون فاعل الأولين الإمام
الثاني بناء على ان الامام قد ركع معهم فالمراد بقول السائل «قبل ان يسجد» قبل
سجود الصلاة لا سجود التلاوة. ولا يخفى بعده (الثالث) ان يكون فاعل التشهد الإمام
الثاني أي يتم الصلاة بهم ، وعبر عنه بالتشهد لانه آخر أفعالها ، ويسجد الإمام
الأول للتلاوة وينصرف. (الرابع) ان يكون فاعل الأولين الإمام الثاني ويكون المراد
بالتشهد إتمام الصلاة بهم وبالسجود سجود التلاوة أي يتم الصلاة بهم ويسجد للتلاوة
بعد الصلاة. واما على ما في قرب الاسناد فالمعنى يسجد الإمام الثاني بالقوم اما في
أثناء الصلاة كما هو الظاهر أو بعدها على احتمال بعيد وينصرف أي الإمام الأول بعد
السجود منفردا أو قبله بناء على اشتراط الطهارة فيه وهو أظهر من الخبر. انتهى.
واما الخبر التاسع فينبغي حمله على الناسي أو التقية ،
وفي خبر كتاب قرب الاسناد «ولا يعود يقرأ في الفريضة بسجدة» وقوله في خبر الكتاب «وذلك
زيادة في الفريضة فلا يعودن يقرأ السجدة في الفريضة» وهو مؤيد للقول المشهور ،
وخبر الكتاب أوضح دلالة في ذلك فإنه لو كان قراءته لها لا عن أحد الوجهين لم يكن
لذكر هذا الكلام مزيد فائدة ان لم يكن منافيا.
وعلى ما ذكرناه تجتمع الأخبار المذكورة في المقام ويظهر
قوة القول المشهور بما لا يعتريه وصمة النقض والإبرام عند من يعمل بأخبار أهل
البيت (عليهمالسلام). واما ما
ذكره في المدارك ـ بعد طعنه في روايتي زرارة وموثقة سماعة بضعف السند من القول
بالجواز عملا بظاهر الصحاح المذكورة حيث انه ممن يدور مدار صحة الأسانيد ولا ينظر
إلى ما اشتملت عليه متون الأخبار من العلل كما بيناه غير مرة ـ فهو جيد على أصله
الغير الأصيل ، على ان صحيحة علي بن جعفر المنقولة في كتابه ظاهرة في ما
دلت عليه الروايتان المشار إليهما من
النهي عن قراءة العزيمة في الفريضة مع إجماع المخالفين واتفاقهم على الجواز كما
نقله في المعتبر.
وبالجملة فإنه مع العمل بجملة أخبار المسألة كما هو الحق
الحقيق بالاتباع فالحكم في المسألة هو ما أوضحناه وشرحناه وعليه تجتمع الأخبار على
وجه صحيح العيار واضح المنار إلا انه ينبغي الكلام هنا في مواضع
(الأول) ـ قال في المدارك ـ بعد ذكر عبارة المصنف الدالة
على انه لا يجوز ان يقرأ في الفرائض شيئا من سور العزائم ـ ما صورته : هذا هو
المشهور بين الأصحاب واحتجوا عليه بان ذلك مستلزم لأحد محذورين : اما الإخلال
بالواجب ان نهيناه عن السجود واما زيادة سجدة في الصلاة متعمدا إن أمرناه به. ولا
يخفى ان هذا مع ابتنائه على وجوب إكمال السورة وتحريم القران انما يتم إذا قلنا
بفورية السجود مطلقا وان زيادة السجدة مبطل كذلك وكل من هذه المقدمات لا يخلو من
نظر. انتهى.
أقول : بل الظاهر ان النظر انما هو في كلامه (قدسسره) لا في كلام
الأصحاب
(أما أولا) فإن ما ذكره من ابتناء ما ذكروه على وجوب
إكمال السورة وتحريم القران مما لا اعرف له وجها وجيها وان كان قد تقدمه فيه
المحقق في المعتبر ، وذلك لأن غاية ما دل عليه النهي ـ وهو ظاهر إطلاق الأصحاب ـ انه
لا يجوز قراءة سورة العزيمة في الصلاة لأحد محذورين سواء أوجبنا السورة أو جعلناها
مستحبة وذلك كما تقدم ان الأصحاب في السورة على قولين الوجوب والاستحباب ، والمراد
هنا ان هذه السورة التي تقرأ في هذا الموضع وجوبا أو استحبابا لا يجوز ان تكون
سورة من سور العزائم الأربع للزوم المحذور. هذا غاية ما يفهم من النص وإطلاق
كلامهم ولا ترتب لذلك على جواز القران ولا عدمه ، فلو قلنا ان السورة مستحبة فإن
هذه السورة لا تصلح للإتيان بوظيفة الاستحباب للعلة المذكورة ، وكذا لو قلنا بجواز
القران فإنه لا منافاة بالتقريب المذكور. وبالجملة فإن الغرض انما هو التنبيه على
ان هذه السورة لا يجوز قراءتها في الصلاة
كغيرها من سور القرآن بأي كيفية كانت
، وهذا معنى صحيح لا يترتب عليه شيء مما ذكره هو وغيره. بقي الكلام في انه لو قرأ
منها ما عدا موضع السجدة فهل تصح صلاته ويمضي فيها أم لا؟ وهي مسألة أخرى يترتب
الكلام فيها على وجوب السورة وعدمه ، وكذا لو عدل إلى سورة أخرى بعد ان قرأ منها
بعضا فهل تصح صلاته أيضا أم لا؟ وهي مسألة أخرى أيضا مبنية على تحريم القران وانه
أعم من زيادة سورة كاملة أو بعض منها وقد تقدم الكلام فيه ، وهذا هو مطمح نظره في
اعتراضه على كلام الأصحاب والحق ان هذا شيء خارج عما نحن فيه كما عرفت.
و (اما ثانيا) فان ما ذكره ـ من النظر في فورية سجود
التلاوة وفي الإبطال بزيادة السجدة ـ مردود ، أما فورية السجود فلانه لا خلاف بين
الأصحاب في الفورية مطلقا وهو ممن صرح بذلك فقال في بحث السجود وذكر سجدة التلاوة
بعد قول المصنف : «ولو نسيها اتى بها في ما بعد» ما هذا لفظه : أجمع الأصحاب على
ان سجود التلاوة واجب على الفور. إلخ. وقضية الوجوب فورا هو انه يجب عليه السجود
بعد قراءتها في الصلاة البتة والاستثناء في هذا المكان يحتاج إلى دليل وليس فليس ،
بل اعترف بذلك في هذا المقام في الرد على ابن الجنيد حيث نقل عنه انه يومئ إيماء
فإذا فرغ قرأها وسجد ، فقال في الرد عليه : وهو مشكل لفورية السجود. ولو تم ما
ذكره من النظر الذي أورده على كلام الأصحاب في الفورية فأي إشكال هنا يلزم به كلام
ابن الجنيد؟ فانظر إلى هذه المخالفات في مقام واحد ليس بين الكلامين إلا أسطر
يسيرة. واما الإبطال بالسجدة فقد صرحت به رواية زرارة المتقدمة بقوله «فان السجود
زيادة في المكتوبة» أي زيادة مبطلة وإلا فالزيادات فيها كثيرة ، وقوله في صحيحة
علي بن جعفر المذكورة في كتابه «فإن ذلك زيادة في الفريضة فلا يعودن يقرأ السجدة
في الفريضة» ويشير اليه قوله في موثقة عمار «إذا بلغ موضع السجدة فلا يقرأها. إلخ».
(الثاني) ـ قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض تفريعا على
القول بالتحريم مطلقا
ان قرأ العزيمة عمدا بطلت صلاته بمجرد
الشروع في السورة وان لم يبلغ موضع السجود للنهي المقتضي للفساد.
أقول : فيه ان الظاهر من الأخبار كما عرفت هو ان العلة
في التحريم انما هو محذور السجود وعدمه فإنه ان سجد لزم بطلان الصلاة بزيادة
السجدة وان لم يسجد لزم الإخلال بالواجب الفوري وبذلك علله الأصحاب أيضا ، وحينئذ
فالنهي في الحقيقة لم يتوجه إلى مجرد القراءة بل انما توجه إلى قراءة السجدة. نعم
يتجه ما ذكره لو أوجبنا السورة تامة وحرمنا الزيادة عليها لأن اللازم من قراءتها
باعتقاد كونها الواجب في هذا المكان مع عدم جواز السجود زيادة واجب ان اتى بسورة
بعدها والإخلال بواجب ان اقتصر عليها
(الثالث) ـ قال في الذكرى : لو قرأ العزيمة سهوا في
الفريضة ففي الرجوع عنها ما لم يتجاوز النصف وجهان مبنيان على ان الدوام كالابتداء
أولا؟ والأقرب الأول ، وان تجاوز ففي جواز الرجوع أيضا وجهان من تعارض عمومين
أحدهما المنع من الرجوع هنا مطلقا والثاني المنع من زيادة سجدة وهو أقرب ، وان
منعناه أومأ بالسجود ثم يقضيها ويحتمل وجوب الرجوع ما لم يتجاوز السجدة وهو قريب
أيضا مع قوة العدول مطلقا ما دام قائما. وابن إدريس قال : ان قرأها ناسيا مضى في
صلاته ثم قضى السجود بعدها وأطلق. انتهى.
وقال في الروض : ان قرأها سهوا فان ذكر قبل تجاوز السجدة
عدل إلى غيرها وجوبا سواء تجاوز النصف أم لا مع احتمال عدم الرجوع لو تجاوز النصف
لتعارض عمومي المنع من الرجوع بعده والمنع من زيادة سجدة فيومى للسجود بها ثم
يقضيها ، وان لم يذكر حتى تجاوز السجدة ففي الاعتداد بالسورة وقضاء السجدة بعد
الصلاة لانتفاء المانع أو وجوب العدول مطلقا ما لم يركع لعدم الاعتداد بالعزيمة في
قراءة الصلاة فيبقى وجوب السورة بحاله لعدم حصول المسقط لها وجهان ومال في الذكرى
إلى الثاني ، وعلى ما بيناه من ان الاعتماد في تحريم العزيمة على السجود يتجه
الاجتزاء بها حينئذ ، وقال ابن إدريس
ثم نقل قوله المتقدم ذكره.
أقول : لا يخفى ان المسألة المذكورة لما كانت عارية عن
النص كثرت فيها الاحتمالات قربا وبعدا واختلفت فيها الافهام نقضا وإبراما إلا أن
الأقرب إلى القواعد الشرعية والضوابط المرعية هو انا متى قلنا بوجوب سورة كاملة لا
زيادة عليها وقلنا بالنهي عن العزائم وبطلان الصلاة بها لما عرفت فان الواجب على
من قرأها ساهيا هو العدول عنها متى ذكر ولم يقرأ السجدة وان يقرأ غيرها ، وهذه
الزيادة مغتفرة لمكان السهو كسائر الزيادات الواقعة في الصلاة مما لا تبطل الصلاة
به تجاوز النصف أم لم يتجاوز وهذا هو الذي اختاره في الروض. واما احتماله فيه عدم
الرجوع لو تجاوز النصف ـ بناء على عموم الأخبار المانعة من جواز العدول من سورة
إلى أخرى مع تجاوز النصف ـ ففيه ان هذه الأخبار لا وجود لها وانما وقع ذلك في كلام
الأصحاب كما سيأتي ذكره قريبا ان شاء الله تعالى في مسألة العدول.
وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المدارك هنا أيضا ردا على جده حيث ان جده كما عرفت اختار ما اخترناه من العدول قبل بلوغ السجدة وان تجاوز النصف فاعترض عليه بأنه مشكل لإطلاق الأخبار المانعة من جواز العدول من سورة إلى أخرى مع تجاوز النصف. انتهى. وفيه انه قد اعترف في بحث صلاة الجمعة بعدم وجود النص المذكور في هذا المقام حيث ان المصنف ذكر انه يستحب العدول إلى سورة الجمعة والمنافقين ما لم يتجاوز نصف السورة فقال (قدسسره) : اما استحباب العدول مع عدم تجاوز النصف في غير هاتين السورتين فلا خلاف فيه بين الأصحاب ، إلى ان قال واما تقييد الجواز بعدم تجاوز النصف فلم أقف له على مستند واعترف الشهيد في الذكرى بعدم الوقوف عليه أيضا. انتهى. وحينئذ فأين هذه الأخبار المانعة من جواز العدول مع تجاوز النصف التي أورد بها الاشكال على جده؟ وبذلك يظهر لك ما في كلام الذكرى في هذا المقام.
وعلى ما ذكرناه هنا تحمل موثقة عمار كما أشرنا إليه آنفا من حملها على الساهي وانه يعدل إلى سورة أخرى. هذا كله في ما لو ذكر قبل قراءة السجدة واما لو قرأ السجدة أيضا ساهيا ولم يذكر إلا بعد قراءتها فإشكال لما ذكره من الاحتمالين في المقام. والله العالم.
(الرابع) ـ الظاهر انه لا خلاف في جواز قراءة العزائم في
النوافل وعلى ذلك تدل موثقة سماعة المتقدمة حيث قال فيها «ولا تقرأ في الفريضة
اقرأ في التطوع» وهو مبني على اغتفار زيادة السجدة في التطوع ، وحينئذ فإذا قرأها
في أثناء القراءة سجد ثم قام وأتم القراءة وركع ، ولو كانت السجدة في آخر السورة
فقد صرح بعضهم بأنه بعد السجود يقوم ثم يقرأ الحمد استحبابا ليكون ركوعه عن قراءة
واستند في ذلك إلى رواية الحلبي المتقدمة بحملها على النافلة ، ونقل عن الشيخ انه
يقرأ الحمد وسورة أو آية معها. ولو نسي السجدة حتى ركع سجد إذا ذكر لصحيحة محمد بن
مسلم بحملها على النافلة كما تقدم ، وبذلك صرح العلامة من غير خلاف يعرف ، ويعضده
ان السجود واجب وسقوطه يحتاج إلى دليل ، ومجرد السهو عنه في محله لا يصلح لأن يكون
دليلا على السقوط ويخرج النص شاهدا على ذلك.
(الخامس) ـ قال في المنتهى : يستحب له إذا رفع رأسه من
السجود ان يكبر رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «إذا
قرأت شيئا من العزائم التي يسجد فيها فلا تكبر قبل سجودك ولكن تكبر حين ترفع رأسك
، والعزائم أربعة. الحديث».
وروى في المنتهى عن الشيخ انه روى في الموثق عن سماعة قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) إذا قرأت السجدة فاسجد ولا تكبر حتى ترفع رأسك».
__________________
(1) رواها في الوافي في باب «سجدات القرآن وذكرها» وفي الوسائل
في الباب 42 من قراءة القرآن.
(2) ج 1 ص 219.