ج7 - أحكام المساجد
قد استفاضت الاخبار بفضل بناء المساجد والسعي إليها
والصلاة فيها ، قال الله تعالى «إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ
آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ
يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» (2).
وروى ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابي
عبيدة الحذاء (3)
__________________
(1) ص 256.
(2) سورة التوبة ، الآية 18.
(3) الوسائل الباب 8 من أحكام المساجد.
قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول من بنى
مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة قال أبو عبيدة فمر بي أبو عبد الله (عليهالسلام) في طريق مكة
وقد سويت بأحجار مسجدا فقلت له جعلت فداك نرجو ان يكون هذا من ذاك؟ فقال نعم».
وروى في الفقيه بإسناده عن ابي عبيدة الحذاء عن ابي جعفر
(عليهالسلام) (1) انه قال : «من
بنى مسجدا كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة. قال أبو عبيدة ومر بي وانا بين
مكة والمدينة أضع الأحجار فقلت هذا من ذلك؟ فقال نعم».
وروى الصدوق في كتاب ثواب الأعمال بسنده عن السكوني عن
جعفر بن محمد عن آبائه (عليهمالسلام) (2) قال : «ان
الله إذا أراد ان يصيب أهل الأرض بعذاب قال لو لا الذين يتحابون في ويعمرون مساجدي
ويستغفرون بالأسحار لو لا هم لأنزلت عذابي».
وروى احمد بن محمد البرقي في المحاسن بسنده عن هاشم
الحلال (3) قال : «دخلت
انا وأبو الصباح على ابي عبد الله (عليهالسلام) فقال له أبو الصباح
ما تقول في هذه المساجد التي بنتها الحاج في طريق مكة؟ فقال بخ بخ تلك أفضل
المساجد ، من بنى مسجدا كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة».
وروى الشيخ في التهذيب عن علي بن الحكم عن رجل عن ابي
عبد الله (عليهالسلام) (4) قال : «من مشى
الى المسجد لم يضع رجلا على رطب ولا يابس إلا سبحت له الأرض إلى الأرض السابعة».
وروى في كتاب عقاب الأعمال بسنده فيه عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) (5) قال : «من مشى
الى مسجد من مساجد الله تعالى فله بكل خطوة خطاها حتى يرجع الى منزله عشر حسنات
ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات».
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 8 من أحكام المساجد.
(4 و 5) الوسائل الباب 4 من أحكام المساجد.
وروى الشيخ في التهذيب بسنده عن الأصبغ عن علي بن أبي
طالب (عليهالسلام) (1) قال : «كان
يقول من اختلف الى المسجد أصاب إحدى الثمان : أخا مستفادا في الله أو علما مستطرفا
أو آية محكمة أو يسمع كلمة تدله على هدى أو رحمة منتظرة أو كلمة ترده عن ردى أو
يترك ذنبا خشية أو حياء».
وروى في الكافي في الصحيح عن جابر عن ابي جعفر (عليهالسلام) (2) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لجبرئيل يا
جبرئيل أي البقاع أحب الى الله تعالى؟ قال المساجد ، وأحب أهلها الى الله أولهم
دخولا وآخرهم خروجا منها».
وقال في الفقيه (3) : «وروى ان الله تبارك وتعالى ليريد
عذاب أهل الأرض حتى لا يحاشي منهم أحدا فإذا نظر الى الشيب ناقلي أقدامهم إلى
الصلوات والولدان يتعلمون القرآن رحمهمالله فاخر ذلك عنهم».
وروى الشيخ في التهذيب عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (4) قال : «قال
النبي (صلىاللهعليهوآله) من كان
القرآن حديثه والمسجد بيته بنى الله له بيتا في الجنة».
وعن طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) (5) قال : «لا صلاة
لمن لم يشهد الصلوات المكتوبات من جيران المسجد إذا كان فارغا صحيحا».
وروى شيخ الطائفة في كتاب المجالس عن ابي ذر (رضياللهعنه)
في حديثه الطويل مما أوصاه به رسول الله (صلىاللهعليهوآله) (6) قال : «يا أبا
ذر من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة. فقلت بأبي
أنت وأمي
__________________
(1 و 3 و 4) الوسائل الباب 3 من أحكام المساجد.
(2) الوسائل الباب 68 من أحكام المساجد.
(5) الوسائل الباب 2 من أحكام المساجد.
(6) البحار ج 18 الصلاة ص 132 وفي الوسائل الباب 17 من أحكام
المساجد و 2 من المواقيت.
يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كيف يعمر
مساجد الله؟ قال لا ترفع فيها الأصوات ولا يخاض فيها بالباطل ولا يشترى فيها ولا
يباع واترك اللغو ما دمت فيها فان لم تفعل فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك ، يا
أبا ذر ان الله يعطيك ما دمت جالسا في المسجد بكل نفس تتنفس فيه درجة في الجنة
وتصلى عليك الملائكة ويكتب لك بكل نفس تنفست فيه عشر حسنات ويمحى عنك عشر سيئات.
يا أبا ذر يقول الله ان أحب العباد الي المتحابون بجلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد
المستغفرون بالأسحار أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم ،
يا أبا ذر كل جلوس في المسجد لغو إلا ثلاثة : قراءة مصل أو ذاكر الله تعالى أو
مسائل عن علم. الحديث».
وروى في كتاب الهداية مرسلا (1) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) في التوراة
مكتوب ان بيوتي في الأرض المساجد فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي إلا ان
على المزور كرامة الزائر ألا بشر المشاءين في الظلمات الى المساجد بالنور الساطع
يوم القيامة».
وروى الشيخ في كتاب المجالس بسنده فيه عن زريق بن الزبير
الخلقاني (2) قال : «سمعت
أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول شكت
المساجد الى الله تعالى الذين لا يشهدونها من جيرانها فأوحى الله تعالى إليها
وعزتي وجلالي لا قبلت لهم صلاة واحدة ولا أظهرت لهم في الناس عدالة ولا نالتهم
رحمتي ولا جاوروني في جنتي».
أقول : يمكن حمل هذا الخبر على ظاهره بالنسبة الى من هجر
المساجد تهاونا بحرمتها واستخفافا بما حث الله تعالى عليه من إتيانها ، ومثله في
الاخبار غير عزيز وإلا فحمله على ظاهره مطلقا مشكل.
وروى الشيخان ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب
في الصحيح أو الحسن
__________________
(1) مستدرك الوسائل الباب 30 من أحكام المساجد.
(2) الوسائل الباب 2 من أحكام المساجد.
عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «سمعته
يقول ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بنى مسجده
بالسميط ، ثم ان المسلمين كثروا فقالوا يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لو أمرت
بالمسجد فزيد فيه فقال نعم فأمر به فزيد فيه وبناه بالسعيدة ، ثم ان المسلمين
كثروا فقالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لو أمرت بالمسجد فزيد فيه فقال
نعم فأمر به فزيد فيه وبنى جداره بالأنثى والذكر ، ثم اشتد عليهم الحر فقالوا يا
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لو أمرت
بالمسجد فظلل فقال نعم فأمر به فأقيمت فيه سواري من جذوع النخل ثم طرحت عليه
العوارض والخصف والإذخر فعاشوا فيه حتى أصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف عليهم
فقالوا يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لو أمرت
بالمسجد فطين فقال لهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لا ، عريش
كعريش موسى (عليهالسلام) فلم يزل كذلك
حتى قبض رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وكان جداره
قبل ان يظلل قامة فكان إذا كان الفيء ذراعا وهو قدر مربض عنز صلى الظهر فإذا كان
ضعف ذلك صلى العصر. وقال السميط لبنة لبنة والسعيدة لبنة ونصف والأنثى والذكر
لبنتان متخالفتان».
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) قد
ذكروا للمساجد أحكاما : مستحبات ومحرمات ومكروهات وغيرها ، فالواجب ذكر الجميع في
مقامات أربعة :
(الأول) في المستحبات : ومنها ـ اتخاذ المساجد مكشوفة ،
أما اتخاذها فقد عرفت استفاضة الاخبار به مضافا الى الإجماع من الخاصة والعامة ،
واما استحباب كونها مكشوفة فاستدلوا عليه بما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن عن
الحلبي (2) قال : «سئل
أبو عبد الله (عليهالسلام) عن المساجد
المظلمة أيكره الصلاة فيها؟ قال نعم ولكن لا يضركم اليوم ولو قد كان العدل لرأيتم
كيف يصنع في ذلك».
أقول : فيه ان ظاهر صحيحة عبد الله بن سنان أو حسنته
المتقدمة هو استحباب
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 9 من أحكام المساجد.
التظليل وهو الذي فعله (صلىاللهعليهوآله) لما شكوا
إليه شدة الحر والمكروه انما هو التسقيف وهو الذي امتنع منه لما شكوا اليه المطر.
وشيخنا الشهيد في الذكرى بعد ان ذكر الحكم المذكور
استشعر ما ذكرناه فقال في الجمع بين الخبرين المذكورين جاعلا التأويل في جانب خبر
الحلبي : ولعل المراد به تظليل جميع المسجد أو تظليل خاص أو في بعض البلدان وإلا
فالحاجة ماسة إلى التظليل لدفع الحر والقر. وعلى هذا نسج من تأخر عنه.
أقول : الظاهر ان وجه الجمع بين الخبرين انما هو حمل
التظليل في خبر الحلبي على التسقيف الذي ظهر كراهته من خبر عبد الله بن سنان ،
ويؤيده انه هو الذي صار معمولا عليه بعد موته (صلىاللهعليهوآله) إذ المستفاد
من الاخبار ان المساجد في زمن خلفاء الجور من الأموية والعباسية كانت مسقفة بل
مزخرفة كما ستأتي الإشارة اليه ان شاء الله تعالى ، واليه يشير قوله (عليهالسلام) : «ولو كان
العدل لرأيتم. إلخ» إشارة إلى كسر تلك السقوف بعد قيام القائم (عجل الله فرجه) كما
يدل عليه ما رواه في الفقيه مرسلا عن ابي جعفر (عليهالسلام) (1) انه قال : «أول
ما يبدأ به قائمنا سقوف المساجد فيكسرها ويأمر بها فتجعل عريشا كعريش موسى عليهالسلام». وما رواه
الشيخ في كتاب الغيبة بسنده عن ابي بصير (2) قال : «إذا قام القائم (عليهالسلام) دخل الكوفة
وأمر بهدم المساجد الأربعة حتى يبلغ أساسها ويصيرها عريشا كعريش موسى عليهالسلام.». أقول : قال
الجوهري العرش والعريش ما يستظل به. ومن ذلك يظهر ان المراد بالتظليل في خبر
الحلبي انما هو السقوف فإنها هي التي يكسرها (عليهالسلام) لا التظليل
فإنه يجعل تلك المساجد بعد خراب السقوف مظللة. وهذا بحمد الله سبحانه أظهر ظاهر
لكل ناظر.
ومنها ـ جعل الميضاة على أبوابها ، والمراد بالميضاة
الموضع الذي يتطهر فيه من
__________________
(1) الوسائل الباب 9 من أحكام المساجد.
(2) مستدرك الوسائل الباب 7 من أحكام المساجد.
البول والغائط وهو كناية عن مواضع قذف
النجاسة والتطهير منها.
ويدل على ذلك ما رواه الشيخ عن إبراهيم بن عبد الحميد عن
أبي إبراهيم (عليهالسلام) (1) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) جنبوا
مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم».
ونقل في البحار (2) عن أصل من أصول أصحابنا بسنده فيه عن
السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ضعوا المطاهر
على أبواب المساجد».
ونقل في البحار (3) عن الراوندي في النوادر بإسناده عن
موسى بن جعفر عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) جنبوا
مساجدكم مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم إلا بذكر الله تعالى وبيعكم وشراءكم
وسلاحكم وجمروها في كل سبعة أيام وضعوا المطاهر على أبوابها».
وأيد بعض الأصحاب الحكم المذكور بأنها لو جعلت داخلها
لتأذى المسلمون برائحتها وهو مطلوب الترك.
ونقل عن ابن إدريس انه منع من جعل الميضاة في وسط المسجد
قال في الذكرى : وهو حق ان لم تسبق المسجد وهو جيد لانه متى بنى المسجد بعد تقدم
المطهرة وجعل حولها بحيث تكون في وسطه فإنه لا موجب للمنع إلا من حيث عدم رعاية
الأدب والاحترام المطلوب في هذا المكان.
واما حكم الوضوء في المسجد فقد تقدم في المسألة الثامنة
عشرة من المسائل الملحقة بالوضوء من كتاب الطهارة إلا انه قال السيد السند هنا في
المدارك : ولم يتعرض المصنف لحكم الوضوء في المسجد وقد قطع العلامة ومن تأخر عنه
بكراهته من البول والغائط لما
__________________
(1) الوسائل الباب 27 و 25 من أحكام المساجد والراوي في كتب
الحديث هو (عبد الحميد).
(2) ج 18 الصلاة ص 136.
(3) ج 18 الصلاة ص 107.
رواه الشيخ في الصحيح عن رفاعة (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الوضوء في
المسجد فكرهه من الغائط والبول». ويمكن حمل الوضوء فيها على الاستنجاء أو على ما
يتناوله كما أومأ إليه في المعتبر. انتهى.
أقول : ظاهره انه مع حمل الوضوء في الخبر على الاستنجاء
فغاية ما يدل عليه هو الكراهة. وهو على إطلاقه مشكل لأنهم وان صرحوا بطهارة ماء
الاستنجاء إلا ان ذلك مشروط بشروط مذكورة ثمة وليس كل استنجاء يكون كذلك بل المعلوم
عادة هو اختلال بعض الشروط وحينئذ فيكون نجسا ، وظاهر الأصحاب الاتفاق على تحريم
إدخال النجاسة المتعدية الى المسجد وآلاته وبه صرح هو ايضا ، واليه يشير جملة من
الاخبار مثل رواية تعاهد النعلين عند دخول المسجد (2) ورواية أمر
النبي (صلىاللهعليهوآله) بتطهير بول
الأعرابي في المسجد (3) وظاهر قوله عزوجل «. ﴿ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ﴾.» (4) وعلى هذا
فالأظهر بناء على حمل الوضوء على الاستنجاء هو حمل الكراهة في الخبر على التحريم
فإن إطلاقها بهذا المعنى أكثر كثير كما أشرنا إليه في غير موضع وبه اعترف السيد
المشار إليه في مواضع من شرحه. والله العالم.
ومنها ـ تجمير المساجد في كل سبعة أيام وهذا الحكم وان
لم يذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) إلا انه مدلول خبر الراوندي المذكور في سابق
هذا الموضع ونحوه في كتاب دعائم الإسلام حيث قال عن علي (عليهالسلام) (5) قال : «جنبوا
مساجدكم رفع أصواتكم وبيعكم وشراءكم وسلاحكم وجمروها في كل سبعة أيام وضعوا فيها
المطاهر». وأصحابنا يكتفون في أدلة السنن بأمثال هذه الاخبار بل ما هو أضعف. وما
تضمنه هذا الخبر من قوله : «وضعوا فيها المطاهر» الظاهر جعل «في» تعليلية مثل قوله
(صلى الله
__________________
(1) الوسائل الباب 57 من الوضوء.
(2) الوسائل الباب 24 من أحكام المساجد.
(3) ج 1 ص 309.
(4) سورة التوبة ، الآية 28.
(5) البحار ج 18 الصلاة ص 136.
عليه وآله) (1) «دخلت امرأة
النار في هرة ربطتها». فلا ينافي ما تقدم من استحباب جعلها على أبواب المساجد.
ومنها ـ جعل المنارة في الحائط لا في وسط المسجد ، وعلله
العلامة في النهاية بما فيه من التوسعة ورفع الحجاب بين المصلين ، وأطلق الشيخ في
النهاية المنع من جعل المنارة في وسط المسجد. قيل وهو حق ان تقدمت المسجدية على
بنائها.
أقول : لم أقف في هذا المقام على خبر عنهم (عليهمالسلام) نعم ورد ما
يدل على النهي عن ارتفاع المنارة وبه قال الأصحاب أيضا حيث صرحوا بكراهة ارتفاع
المنارة زيادة على سطح المسجد لئلا يشرف المؤذنون على جيران المسجد ، ويدل عليه ما
رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) (2) «ان عليا (عليهالسلام) مر على منارة
طويلة فأمر بهدمها ثم قال لا ترفع المنارة إلا مع سطح المسجد». ونقل شيخنا في
البحار (3) عن كتاب كشف
الغمة نقلا من دلائل الحميري عن ابي هاشم الجعفري قال : «كنت عند ابي محمد (عليهالسلام) فقال إذا خرج
القائم أمر بهدم المنار والمقاصير التي في المساجد فقلت في نفسي لأي معنى هذا؟
فاقبل علي فقال معنى هذا أنها محدثة مبتدعة لم يبنها نبي ولا حجة».
أقول : قد ذكر بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) ان تطويل
المنارة من بدع عمر. ويؤيده ما رواه الشيخ في الموثق عن علي بن جعفر (4) قال : «سألت أبا
الحسن (عليهالسلام) عن الأذان في
المنارة أسنة هو؟ فقال انما كان يؤذن للنبي (صلىاللهعليهوآله) في الأرض ولم
يكن يومئذ منارة». واما المقاصير وهي المحاريب الداخلة كما يأتي بيانه ان شاء الله
تعالى فهي من بدع الأموية.
__________________
(1) تيسير الوصول ج 2 ص 114 عن ابن عمر قال : «قال رسول الله (ص)
دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» ..
(2 و 4) الوسائل الباب 25 من أحكام المساجد.
(3) ج 18 الصلاة ص 134.
ومنها ـ تقديم الرجل اليمنى للدخول والرجل اليسرى للخروج
، قال في المدارك علله في المعتبر بان اليمين أشرف فيدخل بها الى الموضع الشريف
وبعكسه الخروج. أقول : ظاهر اقتصار هذين الفاضلين على هذا التعليل عدم وقوفهما على
نص يدل على ذلك مع انه روى ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن يونس عنهم (عليهمالسلام) (1) قال قال : «الفضل
في دخول المسجد ان تبدأ برجلك اليمنى إذا دخلت وباليسرى إذا خرجت».
ومنها ـ تعاهد نعله عند الدخول لما رواه الشيخ عن عبد
الله بن ميمون القداح عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (2) «قال قال النبي
(صلىاللهعليهوآله) تعاهدوا
نعالكم عند أبواب مساجدكم».
وروى الحسن بن الفضل الطبرسي في كتاب مكارم الأخلاق عن
النبي (صلىاللهعليهوآله) (3) «في قوله تعالى
﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ (4). قال تعاهدوا
نعالكم عند أبواب المساجد».
والمشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو تفسير
التعاهد باستعلام حالها عند الدخول استظهارا للطهارة. واحتمل بعض مشايخنا ان
المراد بتعاهد النعل ان يودعه عند أمين ونحوه لئلا يشتغل قلبه في حال الصلاة به.
والظاهر بعده ، قال الجوهري : التعهد التحفظ بالشيء وتجديد العهد به وهو أفصح من
قولك تعاهدت لان التعاهد انما يكون بين اثنين. قال شيخنا في البحار بعد نقل ذلك
عنه : أقول ورود الرواية عن أفصح الفصحاء يدل على خطأ الجوهري بل يطلق التفاعل في
ما لم يكن بين اثنين للمبالغة إذ ما يكون بين اثنين يكون المبالغة والاهتمام فيه
أكثر. أقول : لا يخفى ان لفظ التعاهد قد ورد كثيرا في الاخبار وكلام البلغاء بمعنى
التعهد كما ورد في تعاهد
__________________
(1) الوسائل الباب 40 من أحكام المساجد.
(2 و 3) الوسائل الباب 24 من أحكام المساجد.
(4) سورة التوبة ، الآية 29.
الجيران وتعاهد القرآن وقولك فلان
يتعاهدنا اي يراعينا ويحنو علينا ، وبالجملة فإن استعمال التعاهد بمعنى التعهد
كثير شائع فلا منافاة بين ما ذكره الجوهري وبين وروده في الاخبار ولا ضرورة إلى
تخطئة الجوهري فإن استعمال المجاز شائع في القرآن والاخبار أكثر من استعمال
الحقائق ، فالتعاهد وان كان من حيث الأصل والحقيقة لا يستعمل إلا بين اثنين كما هو
قاعدة باب التفاعل إلا انه يستعمل بمعنى التعهد مجازا شائعا.
ومنها ـ الدعاء عند دخول المسجد وعند الخروج منه واستحباب
الوقوف والدعاء بعد الخروج فروى ثقة الإسلام في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابي
عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «إذا
دخلت المسجد فصل على النبي (صلىاللهعليهوآله) وإذا خرجت
فافعل ذلك».
وروى الشيخ في الموثق عن سماعة (2) قال : «إذا
دخلت المسجد فقل بسم الله والسلام على رسول الله (ص) ان الله وملائكته يصلون على
محمد وآل محمد والسلام عليهم ورحمة الله وبركاته رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب
فضلك. وإذا خرجت فقل مثل ذلك».
وعن عبد الله بن الحسن (3) قال : «إذا
دخلت المسجد فقل اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرجت فقل اللهم اغفر لي
وافتح لي أبواب فضلك».
ورواه الحسن بن الشيخ الطوسي في مجالسه بسنده عن عبد
الله بن الحسن عن امه فاطمة عن جدته فاطمة (عليهاالسلام) (4) قالت : «كان
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا دخل
المسجد صلى على النبي وقال اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج من
الباب صلى على النبي (صلىاللهعليهوآله) وقال اللهم
اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك». أقول : ومن هذا الخبر يعلم ان عبد الله بن
الحسن في رواية التهذيب هو عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهماالسلام) وامه فاطمة
__________________
(1) الوسائل الباب 40 من أحكام المساجد.
(2 و 3) الوسائل الباب 39 من أحكام المساجد.
(4) الوسائل الباب 41 من أحكام المساجد.
بنت الحسين (عليهالسلام) وجدته فاطمة
الزهراء (عليهاالسلام).
وروى في الكافي عن ابي حفص العطار شيخ من أهل المدينة (1) قال : «سمعت
أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا صلى
أحدكم المكتوبة وخرج من المسجد فليقف بباب المسجد ثم ليقل اللهم دعوتني فأجبت
دعوتك وصليت مكتوبتك وانتشرت في أرضك كما أمرتني فأسألك من فضلك العمل بطاعتك
واجتناب سخطك والكفاف من الرزق برحمتك».
ومنها ـ التطهير لدخول المسجد فروى الصدوق (2) قال : «روى ان
في التوراة مكتوبا ان بيوتي في الأرض المساجد فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في
بيتي. الحديث». وقد تقدم نقلا عن هداية الصدوق ، ورواه أيضا في ثواب الأعمال وفي
العلل (3) كما مر.
وروى الشيخ في التهذيب بسنده عن العلاء بن الفضيل عن من
رواه عن ابي جعفر (عليهالسلام) (4) قال : «إذا
دخلت المسجد وأنت تريد ان تجلس فلا تدخله إلا طاهرا وإذا دخلته فاستقبل القبلة ثم
ادع الله واسأله وسم حين تدخله واحمد الله وصل على النبي صلىاللهعليهوآله.
ومنها ـ كنسها وإخراج الكناسة ولا سيما يوم الخميس وليلة
الجمعة لما رواه الشيخ عن عبد الحميد عن أبي إبراهيم (عليهالسلام) (5) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من كنس
المسجد يوم الخميس وليلة الجمعة فاخرج منه من التراب ما يذر في العين غفر الله له».
ورواه الصدوق في كتبه مسندا في بعض ومرسلا في آخر (6).
وروى في الأمالي بسنده عن سلام بن غانم عن الصادق عن
آبائه (عليهمالسلام) (7) «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال من قم
مسجدا كتب الله له عتق رقبة ومن اخرج منه
__________________
(1) الوسائل الباب 41 من أحكام المساجد.
(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 39 من أحكام المساجد.
(5 و 6 و 7) الوسائل الباب 32 من أحكام المساجد.
ما يقذي عينا كتب الله عزوجل له ﴿
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾». ورواه
البرقي في المحاسن مثله.
ومنها ـ الإسراج فيها لما رواه الشيخ في التهذيب بسنده
عن انس (1) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من أسرج في
مسجد من مساجد الله سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك
المسجد ضوء من ذلك السراج». ورواه الصدوق في كتبه مرسلا في بعض ومسندا في آخر (2) وإطلاق الخبر
أعم من ان يكون في المسجد من يصلى أم لا وبه صرح بعض الأصحاب.
قالوا ولا يتوقف ذلك على اذن الناظر إذا كان ما يسرج به
من مال المسرج نعم لو كان من مال المسجد توقف عليه. ولو لم يكن له ناظر معين وتعذر
استئذان الحاكم جاز لآحاد ثقات المؤمنين تولى ذلك فعلا وإذنا كما في سائر الأمور
الحسبية.
ومنها ـ تحية المسجد لما رواه الصدوق في كتاب معاني
الاخبار والخصال بسنده فيهما عن ابي ذر (رضياللهعنه) (3) قال : «دخلت
على رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وهو في
المسجد جالس فقال يا أبا ذر ان للمسجد تحية. قلت وما تحيته؟ قال ركعتان تركعهما.
الحديث».
وروى الصدوق في الفقيه عن الحسين بن زيد عن الصادق عن
آبائه (عليهمالسلام) (4) في حديث
المناهي قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لا تجعلوا
المساجد طرقا حتى تصلوا فيها ركعتين».
وروى في الذكرى عن أبي قتادة عن النبي (صلىاللهعليهوآله) (5) قال : «إذا
دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع» وليدع الله تعالى عقيبهما وليصل على النبي (صلىاللهعليهوآله) وان لم يصل
جلس مستقبل القبلة وحمد الله وصلى على النبي ودعا
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 34 من أحكام المساجد.
(3) الوسائل الباب 42 من أحكام المساجد.
(4) الوسائل الباب 67 من أحكام المساجد.
(5) ارجع الى التعليقة 1 ص 276.
الله وسأل حاجته. أقول : لا يبعد ان
يكون هذا الخبر من طريق العامة (1) فإني لم أقف عليه في كتب أخبارنا ولا
سيما البحار الجامع لجميع الاخبار.
ومنها ـ التطيب ولبس الثياب الفاخرة عند قصد المسجد
والدعاء فيه لما رواه في الكافي عن الحسين بن يزيد عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «ان علي
بن الحسين (عليهماالسلام) استقبله مولى
له في ليلة باردة وعليه جبة خز ومطرف خز وعمامة خز وهو متغلف بالغالية فقال جعلت
فداك في مثل هذه الساعة على هذه الهيئة إلى أين؟ فقال الى مسجد جدي رسول الله (صلىاللهعليهوآله) اخطب الحور
العين الى الله عزوجل».
وعن محمد بن جعفر بن محمد (عليهماالسلام) (3) قال : «خرج
علي بن الحسين (عليهماالسلام) ليلة وعليه
جبة خز وكساء خز قد غلف لحيته بالغالية فقالوا في هذه الساعة في هذه الهيئة إلى
أين؟ فقال اني أريد أن أخطب الحور العين الى الله عزوجل في هذه الليلة».
ومنها ـ تعدد الصلاة في بقاع المسجد لما رواه الصدوق في
كتاب المجالس (4) عن مرازم عن
الصادق (عليهالسلام) انه قال : «عليكم
بإتيان المساجد فإنها بيوت الله في الأرض ومن أتاها متطهرا طهره الله من ذنوبه
وكتب من زواره فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء وصلوا من المساجد في بقاع مختلفة
فإن كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة».
(المقام الثاني) ـ في المحرمات وهي ـ على ما ذكره
الأصحاب ـ أمور :
__________________
(1) في صحيح مسلم ج 5 ص 226 عن أبي قتادة «إذا دخل أحدكم
المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين» ..
(2 و 3) الوسائل الباب 23 من أحكام المساجد.
(4) ص 216 وفي الوسائل في الباب 10 من الوضوء و 42 من مكان
المصلي.
(الأول) إدخال النجاسة إليها ، وقد تقدم البحث في ذلك في
صدر البحث الثاني من المقصد الثاني من الباب الخامس من كتاب الطهارة ، وقد أوضحنا
ثمة انهم لا دليل لهم وراء الإجماع بالنسبة إلى النجاسة المتعدية إلا ان في اخبار
تعاهد النعل عند دخول المسجد ما يشير الى ذلك والاحتياط ظاهر. وذكر جملة منهم
تحريم إزالة النجاسة فيها وعلله في المعتبر بان ذلك يعود إليها بالتنجيس. ومقتضاه
اختصاص التحريم بما إذا استلزمت الإزالة تنجيس المسجد ، ونقل عن المحقق الشيخ على
عموم المنع وان كانت الإزالة في ما لا ينفعل كالكثير لما فيه من الامتهان المنافي لقوله
(صلىاللهعليهوآله) (1) «جنبوا مساجدكم
النجاسة». وهو ضعيف.
و (الثاني) ـ زخرفتها ونقشها بالصور ، والمراد بالزخرفة
النقش بالزخرف وهو الذهب وبالصور ما هو أعم من ذوات الأرواح وغيرها ، وبعضهم
كالمحقق في المعتبر والشهيد في الذكرى عبر بالنقش مطلقا ، والشهيد في البيان حرم
زخرفتها ونقشها وتصويرها بما فيه روح وكره غيره كالشجرة ، وفي الدروس كره الجميع.
واستدل عليه في المعتبر والمنتهى بأنه بدعة لم يفعل في
زمن النبي (صلىاللهعليهوآله) ولا أحد من
الصحابة ، وبما رواه الشيخ عن عمرو بن جميع (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الصلاة في
المساجد المصورة فقال اكره ذلك ولكن لا يضركم ذلك اليوم ولو قد قام العدل لرأيتم
كيف يصنع في ذلك».
ورده جملة من المتأخرين ـ الظاهر ان أولهم السيد السند
في المدارك ـ بضعف سند الرواية المذكورة لاشتماله على عدة من المجاهيل والضعفاء ،
قال والتعليل الأول لا يعطى أزيد من الكراهة.
__________________
(1) قال في الوسائل في الباب 24 من أحكام المساجد : روى جماعة
من أصحابنا في كتب الاستدلال عن النبي «ص» انه قال «جنبوا مساجدكم النجاسة» ..
(2) الوسائل الباب 15 من أحكام المساجد.
أقول : ما ذكره في الجواب عن الأول جيد. واما الجواب عن
الرواية فالأظهر ان يقال انما اشتملت على لفظ الكراهة وهو أعم من التحريم فلا تقوم
حجة على التحريم ويعضد ذلك ما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد بإسناده عن علي بن
جعفر عن أخيه (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن المسجد يكتب في القبلة القرآن أو شيء من ذكر الله قال لا بأس. وسألته عن
المسجد ينقش في قبلته بجص أو اصباغ قال لا بأس». فإنه ظاهر في جواز النقش مطلقا.
وما ذكره في الخبر من جواز كتابة القرآن والذكر في قبلة المسجد لا ينافي كراهة
النظر اليه حال الصلاة كما تقدم. وبذلك يظهر لك ان ما ذكروه من التحريم هنا لا
مستند له يعتمد عليه ، نعم الظاهر هو الكراهة في الصور واما النقش فلا.
و (الثالث) ـ بيع آلاتها وقيده جملة منهم بعدم الحاجة
الى بيعها لعمارته أو عمارة غيره من المساجد فلو بدت الحاجة الى ذلك لما ذكر لم
يحرم بيعها وكذا لو اقتضت المصلحة بيعها كما لو خيف عليها التلف أو كانت رثة لا
ينتفع بها في المسجد ، قالوا وكما يجوز بيعها لعمارة مسجد آخر يجوز صرفها فيه
بطريق اولى لاتحاد المالك وهو الله تعالى. أقول : والمسألة وان كانت عارية عن
النصوص على الخصوص لكن كلامهم (رضوان الله عليهم) لا يخرج عن مقتضى الأصول المقررة
والقواعد المعتبرة.
و (الرابع) ـ اتخاذها أو بعضها في ملك أو طريق بان يتملك
ويتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم أو يتخذ طريقا دائما بحيث تنمحي صورة المسجدية
على كلا الأمرين ، ولا ريب في التحريم حينئذ لأن ذلك تغيير للوقف وتخريب لموضع
العبادة وكلاهما محرم لقوله سبحانه «وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي
خَرابِها ... الآية» (2) وحينئذ فيجب
عليه إعادتها الى ما كانت عليه بل يجب ذلك على كل ذي قدرة ويد مبسوطة. واما جعلها
طريقا مع بقاء المسجدية فسيأتي
__________________
(1) الوسائل الباب 15 من أحكام المساجد.
(2) سورة البقرة ، الآية 108.
ذكره ان شاء الله تعالى في المكروهات.
وكذا لو زالت آثار المسجدية بالكلية فإنه لا يجوز تملكها لأن العرصة لا تخرج عن
الوقف وما كانت عليه من المسجدية بزوال العمارة وخراب البناء بل أحكام المسجدية
ثابتة لها وان كانت كذلك من غير شك ولا اشكال.
و (الخامس) ـ تمكين اليهود والنصارى من دخولها فروى
الراوندي بسنده عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهمالسلام) (1) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ليمنعن أحدكم
مساجدكم يهودكم ونصاراكم وصبيانكم ومجانينكم أو ليمسخن الله تعالى قردة وخنازير
ركعا سجدا».
وروى في كتاب دعائم الإسلام عن علي (عليهالسلام) (2) انه قال : «لتمنعن
مساجدكم يهودكم ونصاراكم وصبيانكم ومجانينكم أو ليمسخنكم الله تعالى قردة وخنازير
ركعا سجدا».
وظاهر الأصحاب ان منعهم على جهة الوجوب ، قال في الذكرى
لا يجوز لأحد من المشركين الدخول في المساجد على الإطلاق ولا عبرة بإذن المسلم له
لان المانع نجاسته للآية (3) (فإن قلت) لا
تلويث هنا (قلت) معرض له غالبا وجاز اختصاص هذا التغليظ بالكافر وقول النبي (صلىاللهعليهوآله) (4) «من دخل المسجد
فهو آمن». منسوخ بالآية وكذا ربط ثمامة في المسجد ان صح (5). انتهى. قال
شيخنا في البحار ويحتمل ان يكون القوم الممسوخة من النصاب والمخالفين وقد مسخوا
الآن معنى بتركهم الولاية فلم يبق فيهم شيء من الإنسانية وقد مسح الصادق (عليهالسلام) يده على عين
بعض شيعته فرآهم في الطواف بصور القردة والخنازير (6). انتهى. أقول
: وحينئذ فما ورد في هذين الخبرين من اضافة المجانين والصبيان محمول على
__________________
(1 و 2) البحار ج 18 الصلاة ص 127 و 136.
(3) ص 270.
(4) الكامل لابن الأثير ج 2 ص 66 في فتح مكة.
(5) أسد الغابة ج 1 ص 246.
(6) البحار ج 11 ص 74 والحديث بين الباقر «ع» وابى بصير.
الكراهة كما سيأتي في المقام الثالث
ان شاء الله تعالى ويكون النهي هنا مستعملا في التحريم والكراهة ، واستعمال اللفظ
في حقيقته ومجازه كثير في الاخبار وقد تقدم أمثاله في غير موضع.
و (السادس) ـ إخراج الحصى وقيدها بعضهم بما إذا كانت تعد
من اجزاء المسجد أو من آلاته اما لو كانت قمامة كان إخراجها مستحبا. واستدل
القائلون بالتحريم على ذلك بما رواه وهب بن وهب عن الصادق عن أبيه (عليهماالسلام) (1) قال : «إذا
أخرج أحدكم الحصاة من المسجد فليردها مكانها أو في مسجد آخر فإنها تسبح». وردها
جملة من متأخري المتأخرين : أولهم ـ صاحب المدارك بضعف وهب بن وهب المذكور وانه لا
تعويل على روايته (2) وظاهرهم نفى
الحكم بالكلية وان كان على جهة الكراهة ، واختار المحقق في المعتبر وجماعة كراهة
ذلك. والأكثر حكموا بوجوب الإعادة الى ذلك المسجد ، وقال الشيخ لو ردها الى غيره
من المساجد أجزأ كما دل عليه الخبر. ولعل قوله (عليهالسلام) في الخبر «فإنها
تسبح» إشارة إلى قوله عزوجل «وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (3) وكأن المراد
بهذا الكلام التنبيه على انكم لا تقولوا انها جماد لا يضر إخراجها بل هي من
المسبحين الذاكرين الله عزوجل فلا ينبغي
إخراجها وأخلاء المسجد من تسبيحها «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ
مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» (4).
(المقام الثالث) ـ في المكروهات وهي أمور منها ـ ان يجعل
لها شرفا بضم الشين وفتح الراء جمع شرفة بسكون الراء كغرف وغرفة لما رواه الشيخ عن
طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) (5) «انه رأى مسجدا
بالكوفة قد شرف فقال كأنه بيعة وقال ان المساجد تبنى جما لا تشرف». ورواه الصدوق
في
__________________
(1) الوسائل الباب 26 من أحكام المساجد.
(2) ارجع الى التعليقة 1 ص 81 ج 2.
(3) سورة بني إسرائيل ، الآية 46.
(4) سورة البقرة ، الآية 108.
(5) الوسائل الباب 15 من أحكام المساجد.
العلل بسنده عن طلحة بن زيد مثله (1).
وروى الشيخ المفيد في الإرشاد عن ابي بصير عن ابي جعفر (عليهالسلام) (2) قال : «إذا
قام القائم (عليهالسلام) لم يبق مسجد
على وجه الأرض له شرف إلا هدمها وجعلها جما».
والشرف ما يجعل في أعلى الجدران فتخرج عن الاستواء ، قال
في النهاية : الجماء التي لا قرن لها ومنه حديث ابن عباس «أمرنا أن نبني المدائن
شرفا والمساجد جما» الشرف التي طولت أبنيتها بالشرف واحدتها شرفة ، والجم التي لا
شرف لها ، وجم جمع أجم ، شبه الشرف بالقرون.
ومنها ـ اتخاذ المحاريب في المسجد وقيدها جملة من
الأصحاب (رضوان الله عليهم) بالداخلة في الحائط ، قال في المدارك بعد ذكر ما ذكرناه
: هذا الحكم ذكره الشيخ وجمع من الأصحاب واستدل عليه في المعتبر بما رواه الشيخ عن
طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) (3) «انه كان يكسر
المحاريب إذا رآها في المساجد ويقول كأنها مذابح اليهود». وهذه الرواية غير صريحة
في كراهة المحاريب الداخلة في الحائط بل الظاهر منها كراهة المحاريب الداخلة في
المسجد لأنها التي تقبل الكسر ، وذكر الشارح ان المراد بالمحاريب الداخلة في
الحائط الداخلة كثيرا ولم أقف على نص يتضمن كراهة المحاريب الداخلة بهذا المعنى
مطلقا. انتهى كلامه زيد مقامه. وهو جيد.
أقول : قد تقدم خبر ابي هاشم الجعفري عن ابي محمد (عليهالسلام) (4) الدال على ان
القائم (عليهالسلام) إذا قام أمر
بهدم المنابر والمقاصير التي في المساجد فيمكن حمل خبر طلحة المذكور على هذا ويختص
الحكم حينئذ بالمقاصير وهي التي تبنى في المسجد دون المحاريب الداخلة في الحائط
ويعضده أنه الأنسب بالكسر.
__________________
(1 و 2) البحار ج 18 الصلاة ص 128 و 132 وفي الوسائل الباب 15
من أحكام المساجد.
(3) الوسائل الباب 31 من أحكام المساجد.
(4) ص 271.
وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : وكذا يكره المحاريب
الداخلة في الحائط كثيرا أو في المسجد ، اما الأول فذكره جماعة من الأصحاب (رضوان
الله عليهم). منهم ـ المصنف ، واما الثاني فهو الظاهر من الرواية الدالة على
الكراهة ، ثم ذكر مضمون رواية طلحة. وفيه انه متى كان ظاهر الرواية انما هو المعنى
الثاني فاللازم خلو الأول من المستند إذ ليس إلا هذه الرواية فكيف قال بالكراهة
على كلا المعنيين؟ إلا بان يكون مجرد المتابعة لما ورد نقله عن الجماعة المذكورين
كما هو ظاهر كلامه ، وفيه ما لا يخفى.
قال شيخنا المجلسي (قدسسره) في البحار :
حكم الأصحاب بكراهة المحاريب الداخلة وهي قسمان (الأول) الداخلة في المسجد بان
يبنى جداران في قبلة المسجد ويسقف ليدخله الامام وكان خلفاء الجور يفعلون ذلك خوفا
من أعاديهم. و (الثاني) الداخلة في البناء بان يبنى في أصل حائط المسجد موضع يدخله
الامام ، والكسر الوارد في الخبر بالأول أنسب وان احتمل الثاني أيضا بهدم الجدار
والأكثر اقتصروا على الثاني مع ان الأول أولى بالمنع ، والشهيد الثاني (قدسسره) عمم الحكم
بالنسبة إليهما وقيد الدخول في الحائط بكونه كثيرا ، وبعض المتأخرين قصروا الحكم
بالكراهة على الأول ولعله أوجه وان كان الأحوط تركهما. انتهى.
أقول : المفهوم من تتبع السير والاخبار وكلام جملة
العلماء ولا سيما علمائنا الأبرار هو استحباب المحاريب في المساجد واستحباب صلاة
الإمام فيه لا كراهته ، ومما يشير الى ذلك ما ذكروه في بحث القبلة من التعويل على
محاريب المساجد وان محراب المعصوم (عليهالسلام) موجب للعلم
بالقبلة دون الظن ، وقد تقدم في بحث القبلة بالنسبة إلى محراب مسجد النبي (صلىاللهعليهوآله) كلام شيخنا
الشهيد انه روى «انه لما أراد نصبه زويت له الأرض فجعله بإزاء الميزاب» (1).
ويعضد ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن منصور بن حازم (2) قال :
__________________
(1) ج 6 ص 295.
(2) الوسائل الباب 61 من صلاة الجماعة.
«قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) اني أصلي في
الطاق يعني المحراب؟ فقال لا بأس إذا كنت تتوسع به».
وما رواه جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) : منهم ـ صاحب
بصائر الدرجات وصاحب الخرائج والجرائح بسنديهما عن ابان بن تغلب عن ابي عبد الله (عليهالسلام) في حديث رؤية
ابي بكر لرسول الله (صلىاللهعليهوآله) بعد موته في
مسجد قبا في المحراب لما احتج عليه أمير المؤمنين (عليهالسلام) بنص الرسول (صلىاللهعليهوآله) عليه فأنكر
أبو بكر فقال له أترضى برسول الله (صلىاللهعليهوآله)؟ قال ومن لي
به؟ قال فأخذ بيده فمضى به حتى ادخله مسجد قبا فإذا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قاعد في
المحراب. الحديث (1).
وقد تقدم في اخبار استحباب السترة قول الرجل له (عليهالسلام) (2) «يا ابن رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) خطر بينك
وبين المحراب».
وهذا كله انما يترتب على استحباب المحاريب في المساجد لا
على كراهتها المؤذنة بمرجوحية فعلها وجعلها في المساجد.
وقد ورد في حديث وفاة النبي (صلىاللهعليهوآله) المنقول في
كتاب إرشاد الديلمي في خروج النبي في مرضه للصلاة لما علم ان أبا بكر يصلي بالناس (3) ما هذا لفظه :
«فأخذ بيد علي بن أبي طالب (عليهالسلام) والفضل بن
العباس فاعتمدهما ورجلاه يخطان على الأرض من الضعف فلما خرج الى المسجد وجد أبا
بكر قد سبق الى المحراب فاومأ اليه بيده فتأخر أبو بكر وقام رسول الله صلىاللهعليهوآله. الحديث». وهو
صريح في استحباب المحراب كما ذكرنا.
وقال الله عزوجل «فَخَرَجَ
عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ» (4) وقال سبحانه «كُلَّما
__________________
(1) الخرائج والجرائح ص 132 طبعة 1301.
(2) ص 241.
(3) ج 2 ص 174.
(4) سورة مريم ، الآية 12.
دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ
﴾. الآية» (1).
والاخبار الدالة على اشتمال المساجد على المحاريب أكثر
من ان تحصر وأشهر من ان تذكر ، وحينئذ فالواجب في هذا المقام تحقيق المعنى المراد
بالمحراب وانه عبارة عما ذا فأقول قال في القاموس : المحراب الغرفة. وصدر البيت ،
وأكرم مواضعه ، ومقام الامام من المسجد ، والموضع ينفرد فيه الملك فيتباعد عن
الناس ، ومحاريب بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها. وقال في كتاب مجمع
البحرين بعد ذكر المعاني المتقدمة : وعن الأصمعي سمعي القصر محرابا لان المحراب
مقدم المجالس وأشرفها وكذا من المسجد وعن ابن الأنباري سمى محرابا لانفراد الامام
فيه وبعده من القوم ، يقال دخل الأسد محرابه اي غيلة والامام إذا دخل فيه يأمن من
ان يلحق فهو حائز مكانا كأنه مأوى الأسد ، ويقال محراب المصلى مأخوذ من المحاربة
لأن المصلي يحارب الشيطان ويحارب نفسه بإحضار قلبه. انتهى.
أقول : قد ظهر مما ذكرنا ان أحد معاني المحراب لغة هو
المكان الذي ينفرد فيه الامام عن المأمومين ويدخله فهو حينئذ دائر بين أحد
المعنيين المتقدمين إلا انه لما دلت أخبارنا على ان هذه المقاصير إنما أحدثت من
خلفاء الجور ـ كما أشار إليه في خبر ابي هاشم الجعفري بقوله (عليهالسلام) (2) «انها محدثة
مبتدعة لم يبنها نبي ولا حجة». وصحيح زرارة الوارد في صلاة المأموم خلف المقاصير (3) قال (عليهالسلام): «هذه
المقاصير لم تكن في زمن أحد من الناس وانما أحدثها الجبارون وليس لمن صلى خلفها
مقتديا بصلاة من فيها صلاة». ـ تعين حمل المحراب المستحب على المعنى الآخر وهو
الداخل في الحائط.
بقي الكلام في قوله (عليهالسلام) في خبر طلحة
: «كأنها مذابح اليهود» قال
__________________
(1) سورة آل عمران ، الآية 32.
(2) ص 271.
(3) الوسائل الباب 59 من صلاة الجماعة.
في كتاب مجمع البحرين : والمذبح
بالفتح الحلقوم ومذبح الكنيسة كمحراب المسجد والجمع المذابح سميت بذلك للقرابين.
وفي النهاية المذبح واحد المذابح وهي المقاصير وقيل المحاريب. وقال في القاموس
المذابح المحاريب والمقاصير وبيوت كتب النصارى ، الواحد كمسكين. انتهى. والواجب
بمعونة ما ذكرناه من ثبوت استحباب المحاريب بالمعنى المتقدم حمل هذه المحاريب التي
رآها (عليهالسلام) في حديث طلحة
على المقاصير. والله العالم.
ومنها ـ ان يتخذ طريقا ، وانما يكره الاستطراق إذا لم
يستلزم تغيير صورة المسجد وخروجه عن المسجدية وإلا حرم كما تقدم ، ويدل على أصل
الحكم حديث المناهي المتقدم في استحباب صلاة التحية.
ومنها ـ البيع والشراء وتمكين المجانين والصبيان ورفع
الصوت ، وقيد بعضهم الصبيان بالذين لا يوثق بهم في التحفظ من النجاسات ، وكأنهم
فهموا ان العلة في النهي عنهم من حيث كونهم مظنة النجاسات ، ويجوز ان يكون الوجه
في المنع منهم ايضا هو اللعب في المسجد المنافي لتوقيره واحتشامه.
والذي يدل على أصل الحكم ما رواه الشيخ في الموثق عن علي
بن أسباط عن بعض رجاله (1) قال : «قال
أبو عبد الله (عليهالسلام) جنبوا
مساجدكم البيع والشراء والمجانين والصبيان والأحكام والضالة والحدود ورفع الصوت».
وعن عبد الحميد عن أبي إبراهيم (عليهالسلام) (2) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) جنبوا
مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم. الحديث».
وقد تقدم في المقام الأول في استحباب جعل الميضاة على
أبواب المساجد خبر الراوندي الدال على ذلك ايضا ، وفيه ما في الحديث الأول وزيادة
السلاح ورفع الأصوات إلا بذكر الله.
قال شيخنا (قدسسره) في البحار في
شرح هذا الخبر الأخير : لا خلاف
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 27 من أحكام المساجد.
في كراهة تمكين المجانين والصبيان
لدخول المساجد ، وربما يقيد الصبي بمن لا يوثق به اما من علم منه ما يقتضي الوثوق
به لمحافظته على التنزه من النجاسات وأداء الصلوات فإنه لا يكره تمكينه بل يستحب
تمرينه ولا بأس به. والمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) كراهة رفع الصوت في
المسجد مطلقا وان كان في القرآن للاخبار المطلقة واستثنى في هذا الخبر ذكر الله
وكذا فعله ابن الجنيد ، ولعله المراد في سائر الأخبار لحسن رفع الصوت بالأذان
والتكبير والخطب والمواعظ فيها وان كان الأحوط عدم رفع الصوت في ما لم يتوقف
الانتفاع به عليه ومعه يقتصر على ما تتأدى به الضرورة. والمشهور كراهة البيع
والشراء فان زاحم المصلين أو تضمن تغيير هيئة المسجد فلا يبعد التحريم وبه قطع
جماعة. واما السلاح فالمراد به تشهيره أو عمله والأحوط تركهما ، وروى الشيخ عن
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) قال : «نهى
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن سل السيف
في المسجد وعن بري النبل في المسجد وقال انما بنى لغير ذلك». وقال ابن الجنيد ولا
يشهر فيه السلاح. واستحباب التجمير لم أره في غير هذا الخبر والدعائم ولا بأس
بالعمل به. انتهى.
ومنها ـ القضاء بين الناس وإنفاذ الأحكام واقامة الحدود ،
واستدل عليه برواية علي بن أسباط المتقدمة. والحكم بالكراهة هو المشهور وحكم الشيخ
في الخلاف وابن إدريس بعدم الكراهة واستقر به في المختلف محتجا بان الحكم طاعة
فجاز إيقاعها في المساجد الموضوعة للطاعات ، وبان أمير المؤمنين (عليهالسلام) حكم في مسجد
الكوفة وقضى فيه بين الناس ودكة القضاء معروفة فيه الى يومنا هذا (2) وأجاب عن
الرواية بالطعن في السند واحتمال ان يكون متعلق النهي إنفاذ الأحكام كالحبس على
الحقوق والملازمة عليها في المساجد. قال في المدارك بعد نقل ذلك : وهو حسن. وخص
الراوندي الحكم المنهي عنه بما كان فيه جدل وخصومة. وربما قيل بتخصيص ذلك بدوام
الحكم
__________________
(1) الوسائل الباب 17 من أحكام المساجد.
(2) الخلاف ج 2 ص 230.
فيها واما إذا اتفق في بعض الأحيان
فلا ، أو تخصيص الكراهة بما يكون الجلوس لأجل ذلك بخلاف ما لو كان الجلوس للعبادة
فاتفق صدور الدعوى. والظاهر من خبر دكة القضاء يدفع هذين الوجهين الأخيرين إذ
الظاهر من دكة القضاء والمشهور في جملة من الاخبار الدالة على تحاكم الناس اليه (عليهالسلام) في المسجد (1) وقوع ذلك
غالبا بل لم يذكر موضع آخر في جلوسه للحكومة بين الناس. واحتمل بعض مشايخنا تخصيص
المنع بأوقات الصلاة فإنها توجب شغل خواطر المصلين أو بغير المعصوم (عليهالسلام) فإنه يحتمل
منهم الخطأ. ولا بأس به. واما كراهة إقامة الحدود كما تضمنه الخبر المشار اليه
فلعله لاحتمال تلويث المسجد بخروج الحدث كما ذكره في المنتهى.
ومنها ـ تعريف الضالة وطلبها في المسجد كما ذكره الأصحاب
وخبر علي بن أسباط المتقدم محتمل لهما بل يشملهما.
ويدل على خصوص الثاني ما رواه في الفقيه مرسلا (2) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) سمع رجلا
ينشد ضالة في المسجد فقال قولوا له لا رد الله عليك ، فإنها لغير هذا بنيت».
وروى في العلل في الصحيح عن الأشعري رفعه (3) «ان رجلا جاء
الى المسجد ينشد ضالة فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قولوا له لا
رد الله عليك فإنها لغير هذا بنيت». قال (4) : ورفع الصوت في المساجد مكروه وان
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) مر برجل يبرى
مشاقص له في المسجد فنهاه وقال انها لغير هذا بنيت.
وروى في الفقيه في حديث المناهي المذكور في آخر الكتاب
عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه (عليهمالسلام) (5) قال : «نهى
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان ينشد
الشعر أو تنشد الضالة في المسجد».
__________________
(1) خلاف الشيخ ج 2 ص 230 وقد عقد الشيخ المفيد في إرشاده فصلا
لقضاياه.
(2 و 3 و 5) الوسائل الباب 28 من أحكام المساجد.
(4) العلل ص 114.
ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ عن علي بن جعفر عن أخيه
موسى (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن الشعر أيصلح ان ينشد في المسجد؟ فقال لا بأس. وسألته عن الضالة أيصلح ان تنشد
في المسجد؟ قال لا بأس». ورواه علي بن جعفر في كتابه والحميري في كتاب قرب الاسناد
بسنده عنه (2) فإنه دال على
الجواز وان كان على كراهة.
وروى في كتاب دعائم الإسلام (3) عن علي (عليهالسلام) قال : «نهى
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان تقام
الحدود في المساجد وان يرفع فيها الأصوات وان تنشد فيها الضالة أو يسل فيها السيف
ويرمى فيها بالنبل أو يباع فيها أو يشترى أو يعلق في القبلة منها سلاح أو يبرئ نبل».
ولم أقف في الاخبار على خبر صريح في تعريف الضالة كراهة
أو جوازا بغير كراهة إلا على إطلاق خبر علي بن أسباط المتقدم ولعله كاف في ذلك.
ومنها ـ إنشاد الشعر لما رواه الكليني في الصحيح عن عبد
الرحمن بن الحجاج عن جعفر بن إبراهيم ـ وكأنه الجعفري ـ عن علي بن الحسين (عليهماالسلام) (4) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من سمعتموه
ينشد الشعر في المساجد فقولوا له فض الله فاك انما نصبت المساجد للقرآن». وقد تقدم
في حديث المناهي عنه (صلىاللهعليهوآله) «انه نهى ان
ينشد الشعر» وقد تقدم في رواية علي بن جعفر نفى البأس عن ذلك وهو غير مناف
للكراهة.
إلا انه قد صرح جمع من الأصحاب باستثناء بعض الاشعار ،
قال في الذكرى بعد إيراد خبر علي بن جعفر : وليس ببعيد حمل إباحة إنشاد الشعر على
ما يقل منه وتكثر
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 14 و 28 من أحكام المساجد.
(3) ج 1 ص 180 طبعة مصر 1370.
(4) الوسائل الباب 14 من أحكام المساجد.
منفعته كبيت حكمة أو شاهد على لغة في
كتاب الله أو سنة نبيه (صلىاللهعليهوآله) وشبهه لأن من
المعلوم ان النبي (صلىاللهعليهوآله) كان ينشد بين
يديه البيت والأبيات من الشعر في المسجد ولم ينكر ذلك. والحق به المحقق الشيخ علي (قدسسره) مدح النبي
ومرائي الحسين (صلوات الله عليهم) قال في المدارك : ولا بأس بذلك كله لصحيحة علي
بن يقطين (1) «انه سأل أبا
الحسن (عليهالسلام) عن إنشاد
الشعر في الطواف فقال ما كان من الشعر لا بأس به فلا بأس به». وقال في البحار بعد
نقل ما ذكره الشهيد والشيخ علي : أقول ما ذكراه لا يخلو من قوة ويؤيده استشهاد
أمير المؤمنين (عليهالسلام) بالاشعار في
الخطب وكانت غالبا في المسجد وما نقل من إنشاد المداحين كحسان وغيره أشعارهم عندهم
(عليهمالسلام) ولان مدحهم (عليهمالسلام) عبادة عظيمة
والمسجد محلها فيخص المنع بالشعر الباطل لما روى في الصحيح ، ثم نقل صحيحة علي بن
يقطين المذكورة.
أقول ويؤيد ما ذكروه ما رواه الصدوق في كتاب إكمال الدين
وإتمام النعمة (2) قال : حدثني
ابي قال حدثنا سعد بن عبد الله عن احمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن
العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «بينا
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ذات يوم
بفناء الكعبة يوم افتتح مكة إذ أقبل إليه وفد فسلموا عليه فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من القوم؟
قالوا وفد بكر ابن وائل فقال وهل عندكم علم من خبر قس بن ساعدة الأيادي؟ قالوا بلى
يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال فما فعل؟
قالوا مات ، ثم ساق الحديث الى ان قال : ثم قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) رحم الله قسا
يحشر يوم القيامة أمة واحدة ، قال هل فيكم أحد يحسن من شعره شيئا؟ فقال بعضهم
سمعته يقول :
في الأولين الذاهبين |
|
من القرون لنا بصائر |
__________________
(1) الوسائل الباب 54 من الطواف.
(2) ص 99.
لما رأيت مواردا |
|
للموت ليس لها مصادر |
ورأيت قومي نحوها |
|
تمضي الأصاغر والأكابر |
لا يرجع الماضي الي |
|
ولا من الباقين غابر |
أيقنت اني لا محالة |
|
حيث صار القوم صائر ... الحديث |
انظر الى صراحة هذا الخبر مع صحة سنده في جواز الإنشاد
في المسجد الحرام الذي هو أشرف البقاع بين يديه (صلىاللهعليهوآله) وطلبه لذلك ،
وبذلك يظهر لك قوة ما ذكره أولئك الفضلاء (رضوان الله عليهم).
ومنها ـ البصاق والتنخم لما رواه الشيخ عن غياث بن
إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) (1) : «ان عليا (عليهالسلام) قال البزاق
في المسجد خطيئة وكفارته دفنه».
وعن عبد الله بن سنان (2) قال : «سمعت
أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : من
تنخع في المسجد ثم ردها في جوفه لم تمر بداء في جوفه إلا أبرأته».
وعن إسماعيل بن مسلم الشعيري عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) (3) قال : «من وقر
بنخامته المسجد لقي الله يوم القيامة ضاحكا قد اعطى كتابه بيمينه».
وروى السيد الرضي في كتاب المجازات النبوية (4) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان المسجد
لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة من النار إذا انقبضت واجتمعت». قال في النهاية
: لينزوي اي ينضم وينقبض ، وقيل أراد أهل المسجد وهم الملائكة. انتهى.
وروى في كتاب دعائم الإسلام عن علي (عليهالسلام) (5) قال : «من وقر
__________________
(1) الوسائل الباب 19 من أحكام المساجد.
(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 20 من أحكام المساجد.
(5) مستدرك الوسائل الباب 15 من أحكام المساجد.
المسجد من نخامته لقي الله يوم
القيامة ضاحكا قد اعطى كتابه بيمينه ، وان المسجد ليلتوي عند النخامة كتلوي أحدكم
بالخيزران إذا وقع به».
وروى في كتاب ثواب الأعمال بسنده عن طلحة بن زيد عن
الصادق عن أبيه (عليهماالسلام) (1) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من رد ريقه
تعظيما لحق المسجد جعل الله ريقه صحة في بدنه وعوفي من بلوى في جسده».
وروى في كتاب المحاسن عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن
أبيه (عليهماالسلام) (2) قال : «من رد
ريقه تعظيما لحق المسجد جعل الله ذلك قوة في بدنه وكتب له بها حسنة وحط عنه بها
سيئة ، وقال لا تمر بداء في جوفه إلا أبرأته».
وروى في ثواب الأعمال عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد
الله (عليهالسلام) (3) قال : «من
تنخع في مسجد ثم ردها في جوفه لم تمر بداء إلا أبرأته».
وبإزاء هذه الاخبار جملة من الاخبار الدالة على الجواز
مثل ما رواه الشيخ عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (4) قال : «قلت له
الرجل يكون في المسجد في الصلاة فيريد ان يبصق؟ فقال عن يساره وان كان في غير صلاة
فلا يبزق حذاء القبلة ويبزق عن يمينه وشماله».
وعن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهماالسلام) (5) قال : «لا
يبزقن أحدكم في الصلاة قبل وجهه ولا عن يمينه وليبزق عن يساره وتحت قدمه اليسرى».
وروى في الفقيه (6) مرسلا قال : «نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن البزاق في
القبلة ،. قال ورأى (صلىاللهعليهوآله) نخامة في
المسجد فمشى إليها بعرجون من عراجين ابن
__________________
(1 و 2 و 4 و 5) الوسائل الباب 19 من أحكام المساجد.
(3) الوسائل الباب 20 من أحكام المساجد.
(6) ج 1 ص 179 وفي الوسائل الباب 44 من مكان المصلى و 26 من
قواطع الصلاة.
طاب فحكها ثم رجع القهقرى فنى على
صلاته». قال «وقال الصادق (عليهالسلام) وهذا يفتح من
الصلاة أبوابا كثيرة».
وروى الشيخ عن عبيد بن زرارة (1) قال : «سمعت
أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول كان أبو
جعفر (عليهالسلام) يصلى في
المسجد فيبصق امامه وعن يمينه وعن شماله وخلفه على الحصى ولا يغطيه». وعن محمد بن
علي بن مهزيار (2) قال : «رأيت
أبا جعفر الثاني (عليهالسلام) تفل في
المسجد الحرام في ما بين الركن اليماني والحجر الأسود ولم يدفنه».
ومورد هذه الاخبار الأخيرة البصاق خاصة ، وربما صار بعض
الأصحاب الى عدم كراهته لهذه الاخبار وضعف ما دل على الكراهة ترجيحا لهذه الاخبار
وخص الكراهة بالتنخم لسلامة أخبار النهي عن المعارض.
قال في الذخيرة بعد نقل جملة من هذه الاخبار : ولا يخفى
ان ما دل على كراهة التنخم سالمة عن المعارض واما البصاق فيعارضه الروايات
المذكورة مع كونها أكثر وأقوى منه فالحكم بكراهته محل تأمل.
أقول : لا يخفى انه لا منافاة بين ما دل على الجواز وبين
ما دل على الكراهة لأن المرجع إلى انه جائز على كراهة ، ومجرد كثرة الأخبار الدالة
على الجواز زيادة على ما قابلها لا يستلزم المنع من تقييدها بما دل على الكراهة
وان قل كما هو القاعدة الجارية في غير مقام ، إذ متى صحت الاخبار في الباب فالعمل
بها كملا بحسب الإمكان أولى من طرح بعضها ، نعم يفهم من ذلك ان البصاق أخف كراهة
من التنخم ، على ان ما دل من هذه الاخبار على فعل الأئمة (عليهمالسلام) يمكن
استثناؤه وعدم تطرق الكراهة اليه واختصاص هذا الحكم بهم (صلوات الله عليهم) لتشرف
المسجد ببصاقهم فلا كراهة في حقهم أو على بيان الجواز.
ومنها ـ قتل القمل ذكره الأصحاب ، قال في الذكرى بعد ان
عد في المكروهات
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 19 من أحكام المساجد.
ترك قصع القمل : قاله الجماعة. وهو
مؤذن بعدم الوقوف فيه على نص. وقال في المدارك واما كراهة قتل القمل واستحباب ستره
بالتراب فلم أقف فيه على نص وأسنده في الذكرى الى الجماعة ولا بأس به لان فيه
استقذارا تكرهه النفس فينبغي تركه وتغطيته بالتراب مع فعله.
أقول : روى الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) قال : «كان
أبو جعفر (عليهالسلام) إذا وجد قملة
في المسجد دفنها في الحصى».
وعن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «إذا
وجدت قملة وأنت تصلي فادفنها في الحصى».
ويمكن الاستدلال بهما للأصحاب على كراهة قتل القملة حيث
انه (عليهالسلام) بعد رؤيته
لها لم يقتلها ولم بأمر بقتلها بل دفنها في الحصى وأمر بدفنها ففيه اشعار بما
ذكروه ، فالأولى ان يجعل الحكم هكذا : ويكره قتل القمل بل ينبغي ان يدفن بالتراب
حسبما دل عليه الخبر ، والأصحاب جعلوا الدفن بالتراب بعد القتل.
ومنها ـ النوم على المشهور في كلام المتقدمين ، واستدل
عليه في المعتبر بما رواه الشيخ عن أبي أسامة زيد الشحام (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) قول الله عزوجل ﴿ لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ﴾ (4)؟ قال سكر
النوم».
واعترضها جملة من المتأخرين : منهم ـ السيد السند في
المدارك بأنها ضعيفة السند قاصرة الدلالة قال : والأجود قصر الكراهة على النوم في
المسجد الحرام ومسجد النبي (صلىاللهعليهوآله) للأصل وما
رواه الشيخ في الحسن عن زرارة (5) قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) ما تقول في
النوم في المساجد؟ فقال لا بأس
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 20 من قواطع الصلاة.
(3) الوسائل الباب 1 و 35 من قواطع الصلاة.
(4) سورة النساء ، الآية 46.
(5) الوسائل الباب 18 من أحكام المساجد.
إلا في المسجدين مسجد النبي (صلىاللهعليهوآله) والمسجد
الحرام. قال وكان يأخذ بيدي في بعض الليل فيتنحى ناحية ثم يجلس فيتحدث في المسجد
الحرام فربما نام فقلت له في ذلك فقال انما يكره ان ينام في المسجد الذي كان على
عهد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فأما الذي في
هذا الموضع فليس به بأس». انتهى.
وظاهره ـ كما ترى ـ عدم وجود دليل للقول المشهور بل
الدليل على خلافه واضح الظهور لقوله (عليهالسلام) في هذا الخبر
لما سأله عن النوم في المساجد «لا بأس» ومن ثم قال في الذكرى بعد ذكر الحكم
المذكور «قاله الجماعة» ثم ذكر حسنة زرارة المذكورة إيذانا بالطعن في القول
المذكور.
أقول لا يخفى على من راجع الأخبار الواردة في هذا المقام
انها لا تخلو من الاشكال الظاهر لذوي الأفهام لا بالنسبة إلى أصل الحكم المذكور
فانا لم نقف فيه على دليل حسبما ذكره المتأخرون بل في موضعين مما تضمنته الحسنة
المذكورة :
(أحدهما) ـ ما تضمنته من كراهية النوم في المسجدين فان
فيه انه قد روى ثقة الإسلام في الكافي عن معاوية بن وهب (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن النوم في
المسجد الحرام والمسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله)؟ قال نعم
فأين ينام الناس».
ونقل شيخنا المجلسي في كتاب البحار (2) عن كتاب محمد
بن المثنى انه روى عن جعفر بن محمد بن شريح عن ذريح المحاربي قال : «سألت أبا عبد
الله (عليهالسلام) عن النوم في
المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) فقال نعم».
وروى عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد عن
محمد بن خالد الطيالسي عن إسماعيل بن عبد الخالق (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام)
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 18 من أحكام المساجد.
(3) الوسائل الباب 18 من أحكام المساجد.
عن النوم في المسجد الحرام فقال هل
للناس بد ان يناموا في المسجد الحرام؟ لا بأس به. قلت الريح تخرج من الإنسان؟ قال
لا بأس».
وعن السندي بن محمد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد عن
أبيه (عليهماالسلام) (1) «ان المساكين
كانوا يبيتون في المسجد على عهد رسول الله (صلىاللهعليهوآله). الحديث».
وعن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن النوم في المسجد الحرام قال لا بأس وسألته عن النوم في المسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) قال لا يصلح».
وهذه الاخبار كلها ـ كما ترى ـ دالة على الجواز وظاهرها
عدم الكراهة إلا انها ربما أشعرت بكون ذلك ضرورة ولا سيما حديث المساكين في المسجد
الرسول (صلىاللهعليهوآله) ولعل ذلك قبل
بناء الصفة لهم.
و (ثانيهما) ـ ما تضمنته من قوله (عليهالسلام) «انما يكره
ان ينام في المسجد الذي كان على عهد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فأما الذي في
هذا الموضع فليس به بأس» فإنه يؤذن بجواز النوم في هذه الزوائد التي زادتها
الأموية في المسجد الحرام على ما كان في زمن النبي (صلىاللهعليهوآله) مع ان جملة
من الاخبار قد دلت على ان هذه الزيادة لم تبلغ بعد مسجد إبراهيم وإسماعيل (عليهماالسلام) :
ومنها ـ رواية جميل بن دراج (3) قال : «قال له
الطيار وانا حاضر هذا الذي زيد هو من المسجد؟ قال نعم انهم لم يبلغوا بعد مسجد
إبراهيم وإسماعيل عليهماالسلام». وروى في
الكافي عن الحسن بن النعمان (4) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عما زادوا في
المسجد الحرام فقال ان إبراهيم وإسماعيل (عليهماالسلام) حدا
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 18 من أحكام المساجد.
(3 و 4) الوسائل الباب 55 من أحكام المساجد.
المسجد الحرام ما بين الصفا والمروة».
قال : وفي رواية أخرى عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «خط
إبراهيم (عليهالسلام) بمكة ما بين
الحزورة إلى المسعى فذلك الذي خط إبراهيم يعني المسجد».
وروى في التهذيب عن الحسين بن نعيم (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عما زادوا في
المسجد الحرام عن الصلاة فيه؟ فقال ان إبراهيم وإسماعيل (عليهماالسلام) حدا المسجد
الحرام ما بين الصفا والمروة فكال الناس يحجون من المسجد الى الصفا».
وهذه الاخبار ـ كما ترى ـ ظاهرة في كون هذه الزيادة التي
وقع النوم فيها من المسجد القديم فتخصيصه (عليهالسلام) حكم المسجدية
بما كان على عهد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) دون المسجد
القديم مشكل إلا ان يقال بزوال حكم المسجدية عن ذلك المسجد القديم وتخصيص ذلك بما
كان في زمانه (صلىاللهعليهوآله) وهو أشكل
لدلالة الأخبار المذكورة ولا سيما رواية جميل على بقاء المسجدية في الموضع الذي
خطه إبراهيم وإسماعيل (عليهماالسلام). وبالجملة
فإني لا يحضرني الآن الجواب عن هذا الاشكال ولم أعثر على من تعرض اليه من أصحابنا
في هذا المجال.
ومنها ـ دخول من في فمه رائحة مؤذية من ثوم أو بصل أو
نحوهما وتتأكد الكراهة في الثوم حتى روى إعادة الصلاة بأكله (3).
والذي يدل على أصل الحكم جملة من الاخبار : منها ـ ما
رواه الشيخ في التهذيب عن ابي بصير عن ابي عبد الله عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) (4) قال : «من أكل
شيئا من المؤذيات ريحها فلا يقربن المسجد».
ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن محمد
بن مسلم عن ابي جعفر (عليهالسلام) (5) قال : «سألته
عن أكل الثوم فقال انما نهى رسول الله
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 55 من أحكام المساجد.
(3) يأتي في الحديث الأخير.
(4 و 5) الوسائل الباب 22 من أحكام المساجد.
(صلىاللهعليهوآله) عنه لريحه
فقال من أكل هذه البقلة الخبيثة فلا يقرب مسجدنا فاما من اكله ولم يأت المسجد فلا
بأس».
وعن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) «انه سئل عن
أكل الثوم والبصل والكراث فقال لا بأس بأكله نيا وفي القدور ، ولا بأس بأن يتداوى
بالثوم ولكن إذا أكل ذلك أحدكم فلا يخرج الى المسجد».
وعن الحسن الزيات (2) قال : «لما ان قضيت نسكي مررت
بالمدينة فسألت عن ابي جعفر (عليهالسلام) فقالوا هو
بينبع فأتيت ينبع فقال لي يا حسن مشيت الى ههنا؟ فقلت نعم جعلت فداك كرهت ان اخرج
ولا أراك فقال اني أكلت من هذه البقلة يعني الثوم فأردت أن أتنحى عن مسجد رسول
الله صلىاللهعليهوآله».
وروى احمد بن محمد بن خالد البرقي في المحاسن عن الوشاء
عن ابن سنان (3) قال «سألت أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن الكراث
فقال لا بأس بأكله مطبوخا وغير مطبوخ ولكن ان أكل منه شيئا له أذى فلا يخرج الى
المسجد كراهية أذاه من يجالس». ورواه الصدوق في العلل (4) إلا انه قال :
«عن أكل البصل والكراث».
وروى في كتاب العلل عن داود بن فرقد عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (5) قال «قال رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) من أكل هذه
البقلة فلا يقرب مسجدنا ، ولم يقل انه حرام».
وروى الشيخ في الاستبصار بسند صحيح عن زرارة (6) قال : «حدثني
من أصدق من أصحابنا قال سألت أحدهما (عليهماالسلام) عن الثوم
فقال أعد كل صلاة صليتها ما دمت تأكله». ثم قال فالوجه في هذا الخبر ان نحمله على
ضرب من التغليظ في
__________________
(1 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 32 من أحكام المساجد.
(2) الوسائل الباب 22 من أحكام المساجد و 128 من الأطعمة
المحرمة.
(6) الوسائل الباب 128 من الأطعمة المحرمة.
كراهته دون الحظر الذي يكون من أكل
ذلك يقتضي استحقاقه الذم والعقاب بدلالة الأخبار الأولة والإجماع الواقع على ان
أكل هذه الأشياء لا يوجب إعادة الصلاة. انتهى.
ومنها ـ عمل الصنائع لما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد
بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) قال : «نهى
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن سل السيف
في المسجد وعن بري النبل في المسجد ، قال انما بنى لغير ذلك». قالوا ويستفاد من
هذا التعليل كراهة عمل جميع الصناعات.
أقول : لم أقف لهذا الحكم على دليل ظاهر ولهذا نسبه في
الذكرى الى الأصحاب مؤذنا بعدم الدليل عليه فقال في عد المكروهات : وترك عمل
الصنائع مطلقا قاله الأصحاب وعليه نبه حديث بري النبل. انتهى. وأنت خبير بأنه قد
مر هذا التعليل في غير خبر مما تقدم ولا ريب في إشعاره بذلك ولعله كاف في إثبات
الحكم المذكور.
ومنها ـ سل السيف وتعليق السلاح ذكرهما جملة من الأصحاب (رضوان
الله عليهم) : منهم ـ الشهيد في البيان ، وفي الذكرى خص الكراهة بتعليق السلاح في
المسجد الأكبر».
أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار في ذلك صحيحة محمد بن
مسلم المتقدمة الدالة على النهي عن سل السيف في المسجد.
وصحيحة الحلبي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «سألته أيعلق
الرجل السلاح في المسجد؟ فقال نعم واما في المسجد الأكبر فلا فإن جدي (صلىاللهعليهوآله) نهى رجلا بري
مشقصا في المسجد».
وروى في كتاب قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
عن السيف هل يصلح ان يعلق في المسجد؟ قال اما في القبلة فلا واما في
__________________
(1) الوسائل الباب 17 من أحكام المساجد.
(2 و 3) الوسائل الباب 13 من أحكام المساجد.
جانب فلا بأس». ورواه علي بن جعفر في
كتابه مثله (1).
وفي حديث المناهي المذكور في آخر كتاب الفقيه (2) «نهى رسول الله
(صلىاللهعليهوآله) ان يسل السيف
في المسجد». ورواه في الأمالي مثله (3).
أقول : المستفاد من هذه الاخبار باعتبار ضم بعضها الى
بعض هو كراهة سل السيف في المسجد وتعليق السيف في القبلة خاصة واما في سائر جوانبه
فلا بأس. واما تعليق السلاح الذي هو أعم من السيف والقوس والعصا ونحوها مما يتخذ
سلاحا فجائز في المساجد إلا في المسجد الأكبر وفاقا للذكرى وخلافا للبيان ، وظاهر
التعليل في صحيحة الحلبي ان النهي عن بري المشقص انما كان لكونه سلاحا لا لكونه
صنعة كما تقدم في خبر محمد بن مسلم ، وكل من الخبرين المذكورين محمول على ظاهره.
وهل المراد بالمسجد الأكبر المسجد الحرام أو جامع البلد؟ كل محتمل.
ومنها ـ كشف العورة مع عدم المطلع وإلا حرم والرمي
بالحصى ورطانة الأعاجم. اما الأول فلما رواه في التهذيب عن السكوني عن جعفر عن
أبيه (عليهماالسلام) (4) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) قال كشف
السرة والفخذ والركبة في المسجد من العورة».
وهذا الخبر يدل على كراهة كشف هذه الأشياء المذكورة في
المسجد وهي ليست من العورة على الأشهر الأظهر كما تقدم تحقيقه ولكنه جعلها في حكم
العورة تأكيدا للكراهة ، وحينئذ فالظاهر ان المراد بالعورة انما هو ما يستحب ستره
لا ما يجب.
واما الثاني فلما رواه الشيخ عن السكوني عنه عن آبائه (عليهمالسلام) (5) «ان
__________________
(1) الوسائل الباب 13 من أحكام المساجد.
(2 و 3) الوسائل الباب 17 من أحكام المساجد.
(4) الوسائل الباب 37 من أحكام المساجد.
(5) الوسائل الباب 36 من أحكام المساجد.
النبي (صلىاللهعليهوآله) أبصر رجلا
يخذف بحصاة في المسجد فقال ما زالت تلعن حتى وقعت ، ثم قال الخذف في النادي من
أخلاق قوم لوط ثم تلا «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (1) قال هو الخذف».
ويستفاد من هذا الخبر كراهة الخذف في غير المسجد ايضا ،
ويدل عليه ما رواه الشيخ عن زياد بن المنذر عن ابي جعفر (عليهالسلام) (2) في جملة حديث
قال : «ان حل الأزرار في الصلاة والخذف بالحصى ومضغ الكندر في المجالس وعلى ظهر
الطريق من عمل قوم لوط». ونقل في الروض عن الشيخ القول بالتحريم هنا.
وقال في الروض : المراد بالخذف هنا رمى الحصى بالكف كيف
اتفق وان لم يكن على الوجه المذكور في رمى حصاة الجمار ، قال في الصحاح الخذف
بالحصى الرمي به بالأصابع. انتهى. واعترضه في الذخيرة بأن كلام أهل اللغة يخالف
ذلك ثم نقل جملة من عبارتهم الدالة على نوع مخصوص كما سيأتي ان شاء الله تعالى في
كتاب الحج. أقول : ظاهر عبارة شيخنا المشار إليه انه لا يمنع ولا يخالف في كون
الخذف عبارة عن هذا المعنى الذي نقله عن أهل اللغة وانما غرضه بيان ان هذه
الخصوصية لا يترتب عليها معنى في هذا المقام ، فالقول بالتعميم أظهر لأن الظاهر ان
النهي عنه من حيث كونه عبثا ولعبا منافيا للوقار والسكينة المطلوبين من المؤمن
وحينئذ فلا يرد عليه ما أورده.
واما الثالث فلما رواه الشيخ ايضا عن السكوني عن جعفر عن
أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) (3) قال : «نهى
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن رطانة
الأعاجم في المساجد». ورواه في الكافي عن مسمع بن عبد الملك عن ابي عبد الله (عليهالسلام) مثله (4).
قال في الوافي : الرطانة بفتح الراء وكسرها والتراطن
كلام لا يفهمه الجمهور وانما
__________________
(1) سورة العنكبوت ، الآية 28.
(2) الوسائل الباب 24 من لباس المصلي.
(3 و 4) الوسائل الباب 16 من أحكام المساجد.
هو مواضعة بين اثنين أو جماعة والعرب
تخص بها غالبا كلام العجم. أقول : لا يخفى ان ما ذكره من المعنى للرطانة معنى غريب
لم يذكره أحد في ما اعلم وكأنه إنما تكلفه فرارا عما نقله أخيرا عن العرب والمنقول
في كلام أهل اللغة انما هو ما نقله عن العرب ، قال في القاموس الرطانة ويكسر
الكلام بالأعجمية ، ورطن له وراطنه كلمه بها ، وتراطنوا تكلموا بها. انتهى. وحينئذ
ففي الخبر المذكور ما يشير إلى كراهة الدعاء بالأعجمية لأن المساجد مواضع الدعوات
وطلب الحاجات فإذا كان الكلام فيها بالأعجمية مكروها تعين الكلام في ما يأتي به من
الدعوات بالعربية. والله العالم.
(المقام الرابع) ـ في بقية الأحكام المتعلقة بالمساجد وفيه
مسائل :
(الأولى) ـ المفهوم من كلام جملة من متأخري الأصحاب أنه
لا بد في ثبوت المسجدية وترتب أحكامها من صيغة الوقف الشرعية ليحصل بها الانتقال
عن ملك المالك ونحوه ويختص بالجهة الموقوف عليها.
ولم أر من تعرض لبسط الكلام في هذا المقام إلا شيخنا
الشهيد في الذكرى حيث قال : الخامس عشر ـ انما تصير البقعة مسجدا بالوقف اما بصيغة
«وقفت» وشبهها واما بقوله : «جعلته مسجدا» ويأذن بالصلاة فيه فإذا صلى فيه واحد تم
الوقف ، ولو قبضه الحاكم أو اذن في قبضه فالأقرب انه كذلك لان له الولاية العامة ،
ولو صلى فيه الواقف فالأقرب الاكتفاء بعد العقد ، ولو بناه بنية المسجد لم يصر
مسجدا نعم لو اذن للناس بالصلاة فيه بنية المسجدية ثم صلوا أمكن صيرورته مسجدا لان
معظم المساجد في الإسلام على هذه الصورة وقال الشيخ في المبسوط إذا بنى مسجدا خارج
داره في ملكه فان نوى به ان يكون مسجدا يصلى فيه كل من أراد زال ملكه عنه وان لم
ينو ذلك فملكه باق عليه سواء صلى فيه أو لم يصل. وظاهره الاكتفاء بالنية ، واولى
منه إذا صلى فيه وليس في كلامه دلالة على التلفظ ولعله الأقرب. وقال ابن إدريس ان
وقفه ونوى القربة وصلى فيه الناس ودخلوه زال ملكه عنه. انتهى كلام شيخنا المذكور.
أقول : لا يخفى على من راجع الأخبار الواردة في هذا
المقام عن الأئمة الأطهار
(صلوات الله عليهم آناء الليل والنهار)
ان ما ذكره الشيخ في المبسوط هو الأقرب الى ما دلت عليه والأنسب بما ندبت اليه ،
وما ذكره غيره من اشتراط صيغة الوقف فلم أقف على خبر يشير اليه فضلا عن الدلالة
عليه بل هي بالدلالة على خلافه أشبه.
فمن ذلك ما تقدم في صدر البحث من حسنتي ابي عبيدة
الدالتين على جمعه الأحجار في الطريق بين المدينة ومكة ليبنى مسجدا ، ومنهما يظهر
ان ما ذكره شيخنا المشار اليه من قوله : «ولو بناه بنية المسجد لم يصر مسجدا. إلخ»
(1) فإن الإمامين (عليهماالسلام) في هذين
الخبرين قد اقرأ أبا عبيدة على حصول الثواب المذكور له بمجرد وضع هذه الأحجار لذلك
وجعلها على هيئة المسجد والتحجير بها وقصده المسجدية
ومنها ـ ما رواه البرقي في كتاب المحاسن عن هاشم الحلال
قال : «دخلت انا وأبو الصباح الكناني. الحديث». وقد تقدم أيضا في صدر البحث.
ومنها ـ صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة ثمة أيضا في
بناء مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) حيث لم يتعرض
لحكاية الوقف في أصل المسجد ولا في هذه الزيادات في كل مرة ، ولو كان ذلك شرطا في
المسجدية لكان أولى بالحكاية والنقل من تلك الأمور المنقولة لما يترتب عليها من
الأحكام بزعم أولئك الاعلام.
وقد ورد في بعض الاخبار التي لا يحضرني الآن موضعها (2) انه (صلىاللهعليهوآله) بعد وروده
المدينة اشترى تلك الأرض أو أعطاه إياها بعض المسلمين فخط فيها بيوته وموضع مسجده.
وتقييد إطلاق هذه الاخبار بصيغة الوقف بمعنى انه لا يكون
مسجدا إلا بقول «وقفت» ونحوه يحتاج الى دليل وليس فليس ، بل هو أبعد بعيد من ظواهر
تلك الاخبار ويشير الى ما ذكرنا قوله (عليهالسلام) في غير خبر
من الاخبار المتقدمة «فإنها لغير
__________________
(1) هكذا العبارة في النسخ ولا يخفى نقصها.
(2) السيرة الحلبية ج 2 ص 70 كانت ارض المسجد ليتيمين فابتاعها
رسول الله «ص» بعشرة دنانير.
هذا بنيت» ولم يقل «وقفت».
وكأنهم تمسكوا بأن الأصل بقاء الملك ما لم يحصل ناقل
شرعي كالبيع والصدقة والوقف ونحوها ولم يثبت ان مجرد النية مع تصرف المسلمين موجب
للخروج عن الملك. وهو اجتهاد في مقابلة النصوص واي مانع يمنع منه بعد دلالة
الأخبار عليه كما عرفت؟ سيما مع تصريحهم بانتقال الملك في الهدايا والعطايا
بالتصرف في العين وكذا في بيع المعاطاة مع عدم إدخالهم له في البيوع الناقلة.
ومما يعضد ما قدمناه من الاخبار الواضحة في ما ادعيناه
الأخبار المتقدمة قريبا في حكم كراهة النوم في المساجد الدالة على تحديد إبراهيم
وإسماعيل (عليهماالسلام) وخطهما
للمسجد الحرام فإنها ظاهرة في انه بمجرد خطهما وتحجيرهما على هذا الموضع بقصد جعله
مسجدا صار مسجدا ، ولو كان الوقف شرطا في ذلك لكان اولى بالتنبيه عليه والذكر
لتوقف حصول المسجدية عليه وزوالها بدونه كما يدعونه.
وبالجملة فالأمر في هذا الباب أوسع مما ذكروه (رضوان
الله عليهم) وظاهر شيخنا الشهيد الترجيح لما ذكره الشيخ من غير جزم به ولو تأمل ما
ذكرناه من هذه الاخبار لم يتخالجه وصمة الشك في ذلك ولا الإنكار. والله العالم.
(المسألة الثانية) قد ورد في جملة من الأخبار استحباب
اتخاذ الإنسان مسجدا في بيته ليصلي فيه ، وصرحت بأنه يجوز له تغييره وتبديله وانه
ليس الحكم فيه كالمساجد العامة ، والظاهر ان الوجه فيه انه ليس إلا عبارة عن قطع
جزء من البيت وأفراده للصلاة والخلوة فيه عن أهل البيت للتوجه والإقبال على
العبادة وإطلاق المسجدية عليه تجوز.
والذي وقفت عليه من الاخبار في ذلك ما رواه في الكافي عن
حريز عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال «اتخذ
مسجدا في بيتك. الحديث».
وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه في الصحيح عن عبيد
الله بن علي
__________________
(1) الوسائل الباب 69 من أحكام المساجد.
الحلبي (1) «انه سأل أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن مسجد يكون
في الدار فيبدو لأهله أن يتوسعوا بطائفة منه أو يحولوه عن مكانه؟ فقال لا بأس
بذلك. الحديث».
وروى في الكافي عن ابي الجارود (2) قال : «سألت
أبا جعفر (عليهالسلام) عن المسجد
يكون في البيت فيريد أهل البيت ان يتوسعوا بطائفة منه أو يحولوه الى غير مكانه؟
قال لا بأس بذلك. الحديث».
وعن عبد الله بن سنان في الصحيح (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المسجد
يكون في الدار وفي البيت فيبدو لأهله أن يتوسعوا بطائفة منه أو يحولوه الى غير
مكانه؟ قال لا بأس بهذا كله. الحديث».
وروى عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد عن
محمد بن خالد الطيالسي عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (4) قال : «كان
علي (عليهالسلام) قد اتخذ بيتا
في داره ليس بالكبير ولا بالصغير وكان إذا أراد ان يصلي في آخر الليل أخذ معه صبيا
لا يحتشم منه ثم يذهب الى ذلك البيت فيصلي».
وروى في المحاسن عن ابن بكير عن عبيد بن زرارة عن أبي
عبد الله (عليهالسلام) (5) قال : «كان
علي (عليهالسلام) قد جعل بيتا
في داره ليس بالصغير ولا بالكبير لصلاته وكان إذا كان الليل ذهب معه بصبي لا يبيت
معه فيصلي فيه».
قال بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) يدل على استحباب ان
لا يكون في البيت وحده في الليل وان كان في الصلاة كما دل عليه غيره بل يكون معه
أحد وان كان صبيا أو الطفل متعين إذا كان مصليا لبعده عن الرياء وعدم منافاته
لكمال الخشوع والإقبال على العبادة لعدم الاحتشام منه ، ويؤيده قوله في رواية
الطيالسي «أخذ صبيا لا يحتشم منه» قوله (عليهالسلام) «لا يبيت معه»
اى لم يكن في سائر الليل عنده لانه (عليهالسلام) كان مع
أزواجه وسراياه ولم يكن يناسب كونه نائما معهن. انتهى.
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 10 من أحكام المساجد والحديث 3 في
التهذيب دون الكافي.
(4 و 5) الوسائل الباب 69 من أحكام المساجد.
وروى ابن إدريس في السرائر نقلا من جامع البزنطي عن علي
بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن رجل كان له مسجد في بعض بيوته أو داره هل يصلح له ان يجعله كنيفا؟ قال لا بأس».
ورواه في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر مثله (2).
وروى في قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة (3) قال : «سمعت
جعفر بن محمد (عليهماالسلام) وسئل عن
الدار والبيت يكون فيه مسجد فيبدو لأصحابه ان يتسعوا بطائفة منه ويبنوا مكانه
ويهدموا البنية؟ قال لا بأس بذلك».
قال شيخنا الشهيد في الذكرى : لو اتخذ في داره مسجدا له
ولعياله ولم يتلفظ بالوقف ولا نواه جاز له تغييره وتوسيعه وتضييقه لما رواه أبو
الجارود عن ابي جعفر (عليهالسلام) ثم ذكر
الرواية المتقدمة. قال في البحار بعد نقل ذلك : وقال الوالد (قدسسره) يمكن تخصيص
العمومات بتلك الأخبار الصحيحة لكن الأحوط عدم التغيير مع الصيغة. انتهى. وقال
العلامة في التذكرة : من كان له في داره مسجد قد جعله للصلاة جاز له تغييره
وتبديله وتضييقه وتوسيعه حسبما يكون أصلح له لانه لم يجعله عاما وانما قصد اختصاصه
بنفسه واهله ، ولرواية أبي الجارود وهل تلحقه أحكام المساجد من تحريم إدخال
النجاسة اليه ومنع الجنب من استيطانه وغير ذلك؟ الأقرب المنع لنقص المعنى فيه.
انتهى قال في البحار بعد نقله : وكلامه يشعر بالتردد مع الوقف كذلك ايضا كما
احتمله الوالد (قدسسره) انتهى.
أقول : قد عرفت في المسألة السابقة انه لا دليل على
اعتبار صيغة الوقف في المساجد العامة بل الأدلة ظاهرة في العدم وانما هذا أمر
ذهبوا اليه بالتقريب المتقدم ذكره ثمة ، وهذه الاخبار الواردة في هذا المقام ليس
فيها أزيد من الدلالة على اتخاذ موضع من داره للخلوة في الصلاة فيه وبذلك أطلق
عليه لفظ المسجد ، والناس ظنوا من إطلاقهم (عليهم
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 10 من أحكام المساجد.
السلام) لفظ المسجد عليه يومئذ انسحاب
أحكام المساجد العامة إليه فكثر السؤال عن تغييره وتبديله وجعله حشا ونحو ذلك ،
فأجابوا (عليهمالسلام) بنفي البأس
إيذانا بأنه ليس بمسجد حقيقة ولا يترتب عليه شيء من أحكام المسجدية بالكلية وانما
هو موضع اتخذ لذلك لقصد الفراغ والخلوة والتوجه للإقبال على العبادة ومتى أراد
صاحبه تغييره غيره الى ما يريده ولا وجه لذكر الوقف هنا بالكلية ولو سلمنا اشتراطه
في المساجد العامة لما عرفت من الغرض والسبب فيه ، ولكنهم (رضوان الله عليهم)
بتدقيق أنظارهم يتكلفون أشياء لا ضرورة لها ولا دليل عليها كما عرفت من تكلفهم
اشتراط الوقفية في المساجد العامة. وبالجملة فإنه ليس الفرق بين هذا المكان المسمى
مسجدا وبين المساجد العامة إلا باعتبار قصد بنائها لعامة الناس لأجل العبادة
وتسبيلها لهم وقصد القربة في ذلك بخلاف هذه فإنه لا يعتبر فيها أزيد مما ذكرناه.
والله العالم.
(المسألة الثالثة) ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان
الله عليهم) ان من سبق الى مكان من المسجد أو المشهد فهو اولى به ما دام باقيا فيه
، فلو فارقه ولو لحاجة كتجديد طهارة وازالة نجاسة بطل حقه وان كان ناويا للعود إلا
ان يكون رحله مثل شيء من أمتعته ولو سبحة ونحوها باقيا فيه ، وقيده الشهيد (قدسسره) مع ذلك بنية
العود وهو جيد فلو فارق لا بنيته سقط حقه وان كان رحله باقيا ، واحتمل الشهيد الثاني
بقاء الحق حينئذ لإطلاق النص والفتوى ، ثم تردد على تقدير سقوط حقه في جواز رفع
الرحل وعدمه وعلى تقدير الجواز في الضمان وعدمه ، ثم قال وعلى تقدير بقاء الحق
لبقائه أو بقاء رحله فان أزعجه مزعج فلا شبهة في إثمه وهل يصير اولى بعد ذلك؟
يحتمله لسقوط حق الأول بالمفارقة وعدمه للنهي فلا يترتب عليه حق ، ويتفرع على ذلك
صحة صلاة الثاني وعدمها. واشترط الشهيد في الذكرى في بقاء حقه مع بقاء الرحل ان لا
يطول المكث ، وفي التذكرة استقرب بقاء الحق مع المفارقة لعذر كإجابة داع وتجديد
وضوء وقضاء حاجة وان لم يكن له رحل قالوا ولو استبق اثنان دفعة الى مكان واحد ولم
يمكن الجمع بينهما أقرع ،
ومنهم من توقف في ذلك. وقال الشهيد
الثاني لا فرق في ذلك بين المعتاد لبقعة معينة وغيره وان كان اعتياد درس وامامة ،
ولا بين المفارق في أثناء الصلاة وغيره للعموم ، واستقرب في الدروس بقاء أولوية
المفارق في أثنائها اضطرارا إلا ان يجد مكانا مساويا للأول أو أولى منه محتجا
بأنها صلاة واحدة فلا يمنع من إتمامها. هذا ملخص ما ذكره الأصحاب (رضوان الله
عليهم) في هذا الباب.
واما الأخبار المتعلقة بذلك فالذي وقفت عليه منها ما
رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : قلت له
نكون بمكة أو بالمدينة أو الحير أو المواضع التي يرجى فيها الفضل فربما خرج الرجل
يتوضأ فيجيء آخر فيصير مكانه؟ فقال من سبق الى موضع فهو أحق به يومه وليلته».
وعن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «قال
أمير المؤمنين (عليهالسلام) سوق المسلمين
كمسجدهم فمن سبق الى مكان فهو أحق به الى الليل ، وكان لا يأخذ على بيوت السوق
كراء».
وروى بعض أصحابنا عن النبي (صلىاللهعليهوآله) (3) «إذا قام أحدكم
من محله في المسجد فهو أحق به الى الليل».
وظاهر الخبر الأول بقاء حقه في ذلك المكان مدة يوم
وليلة. واحتمل بعض الأصحاب كون الواو هنا بمعنى «أو» كما هو شائع الاستعمال ايضا
فيصير المعنى انه أحق بقية يومه ان كانت المفارقة في اليوم وبقية ليلته ان كانت
المفارقة في الليل ويؤيده الخبر الثاني والثالث ، وكيف كان فظاهر الأخبار الثلاثة
بقاء حقه في المدة المذكورة مطلقا سواء كان له رحل أم لا نوى المفارقة أم لا؟ وفيه
رد على القول المشهور من حكمهم بزوال حقه بالمفارقة وان كان ناويا للعود إلا ان
يكون له رحل. والظاهر تقييد الأخبار
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 56 من أحكام المساجد.
(3) في السراج المنير ج 1 ص 165 عن النبي «ص» «إذا قام الرجل
من مجلسه ثم رجع اليه فهو أحق به» وفي رواية (من المسجد).
المذكورة بعدم نية المفارقة وإلا فلو
نوى المفارقة ولم يضع رحلا يعلم به ارادة الرجوع ففي منع الغير عنه اشكال وإلا لزم
تعطيل المكان من المنتفعين بغير أمر موجب لذلك وهو بعيد ، ويشير الى ذلك السؤال في
الخبر الأول وكون الخروج للوضوء ونحوه. وقطع المحقق بعدم بطلان حقه لو كان قيامه
لضرورة كتجديد طهارة أو إزالة نجاسة أو ضرورة إلى التخلي وان لم يكن رحله باقيا.
وهو قوى موافق لظاهر الأخبار المذكورة.
بقي الإشكال في ما هو الآن معمول بين الناس من وضع ثوب
أو سجدة أو تسبيح في المسجد أو الروضة الشريفة ثم يمضي الى ان يأتي وقت الحاجة
اليه ، والظاهر التفصيل في ذلك بأنه ان كان قد جلس في المكان وتصرف فيه بالجلوس
والصلاة ونحوها فان حقه باق إلى المدة المعلومة بالتفصيل المتقدم وان كان لم يجلس
وانما وضع هذه العلامة لقصد التحجير عن تصرف الغير فوجهان أحدهما كالأول والثاني
العدم ، ومنشأ ذلك من الشك في لفظ السبق في الاخبار المتقدمة وان كان الأقرب
الأظهر هو السبق بمعنى الجلوس والتصرف على الوجه المتقدم وانما يقوم ويخرج عنه
لأجل الاعذار والأغراض المتقدمة ، وربما احتمل حصول ذلك بمجرد التحجير بوضع ثوب
ونحوه. وكيف كان فمع وضع الرحل وان كان قد جلس وتصرف لو اتفق ذلك في المسجد وأقيمت
الصلاة ولم يحضر فالظاهر جواز التصرف في محله عملا بالأخبار الدالة على النهي عن
الخلل والفرج في الصفوف واستحباب المسارعة إلى سدها فيقيد بها إطلاق هذه الاخبار
لكونها أقوى دلالة وأصرح مقالة في الحكم المذكور. وكذا لو وضع ثوبا ونحوه في
المشاهد المشرفة وغاب ينبغي التفصيل بما قلناه من التصرف بالجلوس وعدمه ولزوم
تعطيل الزوار والمصلين وعدمه. والله العالم.
(المسألة الرابعة) ـ المشهور في كلام الأصحاب جواز الوقف
على المساجد لأنه في الحقيقة وقف على المسلمين حيث انه يرجع الى مصالحهم كالوقف
على القناطر ونحوها
روى الشيخ في التهذيب والصدوق في كتاب العلل وكذا في
كتاب الوقف من
كتاب من لا يحضره الفقيه عن ابي
الصحاري عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «قلت
رجل اشترى دارا فبقيت عرصة فبناها بيت غلة أيوقفه على المسجد؟ قال ان المجوس
أوقفوا على بيت النار».
والظاهر ان المعنى ان المجوس وقفوا على بيت النار فأنتم
اولى بذلك على مساجدكم. وربما احتمل على بعد المنع بمعنى ان هذا من فعل المجوس
فليس لكم الاقتداء بهم والمتابعة لهم. ولعله على هذا الاحتمال بنى الصدوق في كتاب
الصلاة من كتاب من لا يحضره الفقيه فنقل الخبر بهذه الكيفية «وسئل عن الوقوف على
المساجد فقال لا يجوز فان المجوس وقفوا على بيوت النار» (2). وهذا أحد
المفاسد في نقل الخبر بالمعنى واحتمال كون ما نقله خبرا مستقلا بعيد جدا بقرينة ما
ذكرناه من ان الذي رواه هو في كتاب الوقف وكتاب العلل وغيره كالشيخ في التهذيب
انما هو الخبر الذي ذكرناه. إلا ان صاحب الوسائل ادعى ان بعض نسخ العلل تضمنت «لا»
بعد قوله : «أيوقفه على المسجد» قال «لا ان المجوس. إلخ» ولعله على ذلك بنى الصدوق
في ما نقله من قوله «لا يجوز» وكيف كان فيمكن حمل النهي عن الوقف مع ثبوت ما ذكر
من النهي على ان يكون الوقف بقصد تملك المسجد وهو ليس أهلا للملك بل لا بد من
تقييد ذلك بمصالح المسلمين ليكون الوقف عليهم بل لو أطلق فإنه ينصرف إليها.
قال شيخنا الشهيد في الذكرى : يستحب الوقف على المساجد
وهو من أعظم المثوبات لتوقف بقاء عمارتها غالبا عليه التي هي من أعظم مراد الشارع
، ثم ذكر رواية الفقيه في كتاب الصلاة المتضمنة لقوله «لا يجوز» وقال : وأجاب بعض
الأصحاب بأن الرواية مرسلة وبإمكان الحمل على ما هو محرم منها كالزخرفة والتصوير.
انتهى.
نعم ذكر المحدث الكاشاني في الوافي ـ بعد نقله رواية
الفقيه المذكورة وكذا الرواية الأخرى التي ذكرناها ـ ما صورته : المستفاد من
الخبرين تعليل المنع بالتشبه
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 66 من أحكام المساجد.
بالمجوس ولعل الأصل فيه خفة مؤنة
المساجد وعدم افتقارها الى الوقف إذا بنيت كما ينبغي وانما افتقرت اليه للتعدي عن
حدها. انتهى. وظاهره متابعة الصدوق في ما نقله من الرواية وحمل الرواية الأخرى
عليه بتقريب المعنى الثاني الذي أشرنا اليه ، وحينئذ فظاهر كلاميهما تحريم الوقف
على المساجد فيصير مخالفا لما عليه الأصحاب في هذه المسألة.
وكيف كان فإن المسألة عندي لا تخلو من شوب الإشكال
لإجمال الخبر المذكور وقرب قبوله للاحتمال بالتقريب الذي ذكره المحدث المشار اليه
ولما ذكره الأصحاب من الأدلة العامة في المقام. والله العالم.
(المسألة الخامسة) قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم)
بأنه يجوز نقض ما استهدم بفتح التاء والدال أي أشرف على الانهدام ، قالوا ولا ريب
في جوازه بل قد يجب إذا خيف انهدامه على أحد من المترددين ويستحب إعادته وتجديده.
قيل ويجوز النقض أيضا للتوسعة إذا احتيج إليها لأنه إحسان محض و «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (1).
أقول : الظاهر ان ما ذكروه لا اشكال فيه اما الأول فلما
ندب اليه من بناء المساجد وتعميرها. واما الثاني فلما تقدم في صحيحة عبد الله بن
سنان أو حسنته الواردة في مسجد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وتوسعته
مرتين (2).
وقال الشهيد في الذكرى : ولو أريد توسعة المسجد ففي جواز
النقض وجهان من عموم المنع ، ومن ان فيه احداث مسجد ، ولاستقرار قول الصحابة على
توسعة مسجد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بعد إنكارهم
ولم يبلغنا إنكار علي (عليهالسلام) وقد أوسع
السلف المسجد الحرام ولم يبلغنا إنكار علماء ذلك العصر. انتهى.
أقول : الأظهر هو الاستناد في الحكم المذكور إلى رواية
عبد الله بن سنان المذكورة فإنها ظاهرة في الجواز (3).
واما ما ذكره بالنسبة إلى مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) ـ وتوسعته
بعد
__________________
(1) سورة التوبة ، الآية 90.
(2 و 3) ص 266.
موته واستقرار قول الصحابة على ذلك
وان عليا (عليهالسلام) لم ينكره ـ ففيه
أنه غفلة منه عما ورد عنه (عليهالسلام) في إنكار ذلك
إلا انه انما أنكر من حيث غصب البيوت التي أدخلت في المسجد ، ومن ذلك ما رواه في
الكافي عن سليم بن قيس في خطبة أمير المؤمنين (عليهالسلام) (1) قال «خطب أمير
المؤمنين (عليهالسلام) ثم ساق كلامه
الى ان قال فيه : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله (صلىاللهعليهوآله). ولو حملت
الناس على تركها وحولتها الى موضعها والى ما كانت في عهد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لتفرق عني
جندي حتى أبقى وحدي ، ثم عد جملة من ذلك وقال : ورددت دار جعفر الى ورثته وهدمتها
من المسجد. الى ان قال : ورددت مسجد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الى ما كان
عليه. الحديث». وهو أظهر ظاهر في إنكار ذلك وان الزيادة التي أحدثوها كانت غصبا
كما ذكرنا ، والظاهر انه لو كانت الزيادة من الأراضي المباحة فلا اشكال. وقد ورد
في تحديد مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) ما رواه في
الفقيه عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (2) «انه سأله كم
كان طول مسجد رسول الله (صلىاللهعليهوآله)؟ قال كان
ثلاثة آلاف وستمائة ذراع مكسرا». والمعنى انه كان كل من طوله وعرضه ستين ذراعا
فإنه إذا ضرب ذلك حصل منه العدد المذكور في الخبر ، وهل الزائد على هذا المقدار
يثبت له حكم المسجدية في الجملة وان لم يكن في حكم مسجده (صلىاللهعليهوآله)؟ لا يبعد ذلك
إذا لم يكن مغصوبا.
واما بالنسبة الى المسجد الحرام فقد تقدم في حسنة زرارة (3) نوم الباقر (عليهالسلام) في المسجد
الحرام وقوله له لما سأله عن النوم ثمة : «إنما يكره ان ينام في المسجد الذي كان
على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله». فإنه يؤذن
بعدم ثبوت المسجدية في هذه الزيادة وعدم ترتب أحكام المسجدية عليها ، إلا انك قد
عرفت ما في ذلك من
__________________
(1) روضة الكافي ص 59 طبع سنة 1377.
(2) الوسائل الباب 58 من أحكام المساجد.
(3) ص 293.
الاشكال بالأخبار التي أوردناها دالة على
انها من المسجد القديم الذي خطه إبراهيم وإسماعيل (عليهماالسلام) ويمكن ان
يقال مع الإغماض عن الاشكال المذكور ان المسجد الحرام الذي يثبت له الاحترام زيادة
على غيره يقتصر فيه على ما رسمه المعصوم ولا يجوز الزيادة فيه بخلاف غيره من
المساجد التي وضعت لصلاة الناس فيها ويمكن اجراء هذا الكلام أيضا في مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) لاختصاصه
بمزيد شرف على سائر المساجد كما سيأتي ان شاء الله تعالى في فضل الصلاة فيه زيادة
على غيره فيمكن الحكم بتحريم الزيادة فيه وان لم يكن غصبا كما أشرنا إليه آنفا
وحينئذ فيبقى هذا الحكم مختصا بغير المسجدين المذكورين.
واما الاحتجاج بعدم إنكار علماء ذلك العصر فهو أوهن من
بيت العنكبوت وانه لا وهن البيوت ، لان البدع الصادرة عن خلفاء الجور الذين هم
أئمة الحق عندهم جائزة بل واجبة الاتباع فكيف ينكرها علماؤهم ، الا ترى إلى اعذار
علمائهم عن بدع الثلاثة المتقدمين بنحو ما قلناه من ان الخليفة له ان يعمل بما
يراه الأصلح والاولى في جميع الأمور. وبالجملة فالأمر أظهر من ان ينكر ومن أحب
تحقيق ذلك فليرجع الى كتابنا سلاسل الحديد في تقييد ابن ابي الحديد.
ثم انه صرح في الذكرى على تقدير جواز النقض بأنه لا ينقض
إلا بعد الظن الغالب بوجود العمارة ، ولو أخر النقض إلى إتمامها كان أولى إلا مع
الاحتياج الى الآلات واستحسنه جملة ممن تأخر عنه ولا بأس به.
ثم انه قد صرح الشهيدان (قدسسرهما) بأنه يجوز
احداث باب زائد لمصلحة عامة كازدحام المسلمين في الخروج والدخول فيوسع عليهم : ولو
كان لمصلحة خاصة كقرب المسافة على بعض المصلين احتمل جوازه ايضا لما فيه من
الإعانة على القربة وفعل الخير. وكذا يجوز فتح شباك وروزنة للمصلحة العامة وفي
جوازه للمصلحة الخاصة الوجهان
بقي الكلام في انه قد اشتهر في هذه الأعصار جواز حفر بئر
في المسجد لأجل
وضوء المصلين ، وفيه عندي إشكال إلا
ان تتقدم البئر على المسجدية فلا اشكال. ووجه ما ذكرناه من الاشكال سيما على قاعدة
الأصحاب من اشتراط الوقفية ظاهر حيث ان ذلك مناف للوقف و «الوقوف على ما وقفت عليه»
(1). ومع قطع
النظر عن ذلك فظواهر الأخبار الدالة على ان المساجد انما بنيت للعبادة وتلاوة
القرآن والدعاء ونحو ذلك وقولهم (عليهمالسلام) «انها لغير
هذا بنيت» (2). وتوهم تعليل
الجواز ـ بانقطاع أكثر المصلين لو لم يجز ذلك كما ذكره بعض ـ عليل لأن السنة
الماضية في القرون الخالية انما هو الوضوء في البيوت وحضور المساجد سيما في الصدر
الأول بمكة والمدينة لقلة المياه بهما يومئذ ولا يقاس هذا على ما تقدم من فتح باب
وروزنة فإن ذلك معلوم المصلحة وخال من المفسدة بخلاف هذا فإن المفسدة فيه بتحجير
المكان الذي فيه البئر عن الصلاة فيه ومنع الناس عن ذلك الموضع ظاهر. ولا يبعد
بناء على ما قلنا بطلان الصلاة بالوضوء من تلك البئر أيضا لأنه متى ثبت كون ذلك
على خلاف الوجه الشرعي كان من قبيل المغصوب فجميع التصرفات المترتبة على ذلك من
قبيل التصرف في المغصوب إذ متى زالت الإباحة بالمعنى الأعم فليس إلا الغصب
والاحتياط ظاهر. والله العالم.
(المسألة السادسة) ـ قد ذكر جمع من الأصحاب انه يجوز
استعمال آلاته في غيره من المساجد ، وقيد ذلك بعضهم بما إذا كانت تلك الآلة فاضلة
عن ذلك المسجد ومستغنى عنها فيه أو تعذر استعمالها فيه لاستيلاء الخراب عليه أو
كون الآخر أحوج إليها منه لكثرة المصلين ونحو ذلك ، لان المالك واحد وهو الله
سبحانه صرح بذلك الشهيدان ، وزاد شيخنا الشهيد الثاني فقال : واولى بالجواز صرف
وقفه ونذره على غيره بالشروط وليس كذلك المشهد فلا يجوز صرف ماله الى مشهد آخر ولا
مسجد ولا صرف مال المسجد اليه مطلقا. انتهى. قال في المدارك بعد نقل ذلك : وللنظر
في هذا الحكم من أصله مجال والمتجه عدم جواز صرف مال المسجد الى غيره مطلقا
كالمشهد لتعلق النذر أو الوقف
__________________
(1) الوسائل الباب 2 من الوقوف والصدقات.
(2) ص 287.
بذلك المحل المعين فيجب الاقتصار
عليه. نعم لو تعذر صرفه فيه أو علم استغناؤه عنه في الحال والمآل أمكن القول بجواز
صرفه في غيره من المساجد والمشاهد بل لا يبعد صرفه في مطلق القرب لان ذلك اولى من
بقائه الى ان يعرض له التلف فيكون صرفه في هذا الوجه إحسانا و «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (1) انتهى.
أقول : لم أقف في هذا المقام على شيء من الاخبار
الظاهرة في تنقيح الكلام وقطع مادة النقض والإبرام سوى أخبار الإهداء والنذر
والوصية إلى الكعبة الشريفة وسيجيء الكلام فيها ان شاء الله تعالى في كتاب الحج :
ومنها ـ رواية ياسين الضرير (2) «في رجل اوصى
بألف درهم للكعبة فسأل أبا جعفر (عليهالسلام) فقال ان
الكعبة غنية عن هذا انظر الى من أم هذا البيت فقطع به أو ذهبت نفقته أو ضلت راحلته
أو عجز ان يرجع الى أهله فادفعها إلى هؤلاء.».
وبمضمونه أخبار عديدة يأتي ذكرها ان شاء الله تعالى في
الموضع المشار اليه ، والظاهر ان الحكم في المشاهد والكعبة واحد.
ومقتضى الأخبار المذكورة ان الواجب صرفه في تعمير المشهد
والكعبة إذا احتيج الى ذلك وإلا فإنه يصرف في معونة الحجاج والزوار لذلك المشهد ،
وبذلك صرح السيد المشار إليه في كتاب النذر من شرح النافع فقال : ولو نذر شيء
لأحد المشاهد المشرفة صرف فيه على حسب ما قصده الناذر ومع الإطلاق يصرف في مصالح
المشهد ، ولو استغنى المشهد عنه في الحال والمآل فالظاهر صرفه في معونة الزوار لان
ذلك اولى من بقائه على حاله معرضا للتلف فيكون صرفه على هذا الوجه إحسانا و «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (3) انتهى. وبذلك
ايضا صرح جده (قدسسره) في كتاب
النذر من المسالك. ومن ذلك يظهر ما في قوله هنا «انه مع تعذر صرفه في ذلك المشهد
يجوز
__________________
(1 و 3) سورة التوبة ، الآية 92.
(2) الوسائل الباب 22 من مقدمات الطواف.
صرفه في غيره من المساجد والمشاهد بل
لا يبعد صرفه في مطلق القرب» فإنه بعيد كما عرفت والأقرب الى ما دلت عليه الاخبار
المشار إليها هو ما ذكرناه وما ذكره في شرح النافع هذا بالنسبة إلى المشاهد
المشرفة.
واما بالنسبة إلى المساجد لو حصل الاستغناء عمالها من
الأوقاف والآلات ونحوها وما ذكروه (رضوان الله عليهم) في المقام فهو عندي محل
اشكال لعدم الدليل الواضح والاستناد إلى إطلاق الآية المذكورة يتوقف على ثبوت كون
ذلك إحسانا وهو محل البحث. وكان بعض مشايخنا المعاصرين في بلاد البحرين يعمدون في
ما فضل من أموال المسجد عن تعميره الى التنمية وشراء العقارات بها وصرف حواصلها في
مصالح المسجد من الحصر والتعمير ونحو ذلك. والله سبحانه اعلم.
تذنيب
في فضل المساجد وفضل الصلاة فيها وبيان اختلافها في
الفضل :
ففي الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) في حديث «ان
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال الصلاة
في مسجدي كألف في غيره إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف
صلاة في مسجدي».
وعن معاوية بن وهب في الصحيح عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الصلاة في
مسجدي تعدل ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام فهو أفضل». وبهذا المضمون أخبار
عديدة.
وروى الكليني والصدوق عن خالد بن زياد القلانسي عن أبي
عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «مكة
حرم الله وحرم رسوله (صلىاللهعليهوآله) وحرم علي بن
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 57 من أحكام المساجد.
(3) الوسائل الباب 44 من أحكام المساجد. وفي الفقيه «ابن ماد» وهو
نفس «ابن زياد».
ابي طالب (عليهالسلام) الصلاة فيها
بمائة ألف صلاة والدرهم فيها بمائة ألف درهم ، والمدينة حرم الله وحرم رسوله (صلىاللهعليهوآله) وحرم علي بن
أبي طالب (عليهالسلام) الصلاة فيها
بعشرة آلاف صلاة والدرهم فيها بعشرة آلاف درهم ، والكوفة حرم الله وحرم رسوله (صلىاللهعليهوآله) وحرم علي بن
أبي طالب (عليهالسلام) الصلاة فيها
بألف صلاة. وسكت عن الدرهم (1)».
وعن أبي حمزة الثمالي عن ابي جعفر (عليهالسلام) (2) انه قال : «من
صلى في المسجد الحرام صلاة مكتوبة قبل الله منه كل صلاة صلاها منذ يوم وجبت عليه
الصلاة وكل صلاة يصليها الى ان يموت».
وعن الحسين بن خالد عن ابي الحسن الرضا عن آبائه (عليهمالسلام) (3) قال «قال محمد
بن علي الباقر (عليهالسلام) صلاة في
المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في غيره من المساجد».
وعن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (4) قال : «قال لي
يا هارون بن خارجة كم بينك وبين مسجد الكوفة يكون ميلا؟ قلت لا. قال أفتصلي فيه
الصلوات كلها؟ قلت لا. قال اما لو كنت بحضرته لرجوت ان لا تفوتني فيه صلاة ، أو
تدري ما فضل ذلك الموضع؟ ما من عبد صالح ولا نبي إلا وقد صلى في مسجد كوفان حتى ان
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لما اسرى
الله به قال له جبرئيل أتدري أين أنت يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الساعة؟ أنت
مقابل مسجد كوفان قال فاستأذن لي ربي عزوجل حتى آتيه
فأصلي فيه ركعتين فاستأذن الله عزوجل فاذن له ، وان
ميمنته لروضة من رياض الجنة وان وسطه لروضة من رياض الجنة وان مؤخره لروضة من رياض
الجنة ، وان الصلاة المكتوبة فيه لتعدل ألف صلاة وان النافلة فيه
__________________
(1) هذا في الفقيه دون الكافي.
(2 و 3) الوسائل الباب 52 من أحكام المساجد.
(4) الوسائل الباب 44 من أحكام المساجد.
لتعدل خمسمائة صلاة وان الجلوس فيه
بغير تلاوة ولا ذكر لعبادة ، ولو علم الناس ما فيه لأتوه ولو حبوا».
وفي الفقيه عن ابي بصير (1) قال : «سمعت
أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول نعم
المسجد مسجد الكوفة صلى فيه ألف نبي وألف وصي ومنه فار التنور وفيه نجرت السفينة
ميمنته رضوان الله ووسطه روضة من رياض الجنة وميسرته مكر يعني منازل الشيطان».
وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (2) قال : «قال
الصادق (عليهالسلام) حد مسجد
الكوفة آخر السراجين خطه آدم (عليهالسلام) وانا أكره ان
ادخله راكبا قيل له فمن غيره عن خطته قال اما أول ذلك فالطوفان في زمن نوح (عليهالسلام) ثم غيره
أصحاب كسرى والنعمان ثم غيره زياد بن ابي سفيان».
وروى في الفقيه مرسلا (3) قال : «قال
علي (عليهالسلام) صلاة في بيت
المقدس تعدل ألف صلاة وصلاة في المسجد الأعظم مائة صلاة وصلاة في مسجد القبيلة
تعدل خمسا وعشرين صلاة وصلاة في مسجد السوق تعدل اثنتي عشرة صلاة وصلاة الرجل في
بيته صلاة واحدة».
أقول : في هذه الاخبار فوائد لطيفة ونكات شريفة يحسن
التنبيه عليها في المقام بما تشتاقه الطباع وتلذه الافهام :
(الاولى) ـ ما تضمنه حديث القلانسي من قوله (عليهالسلام) «مكة حرم
الله وحرم رسوله. إلخ» لعل الوجه فيه ان كون مكة حرم الله عزوجل أي محترمة
ومعظمة لأجله فلأنها مقر بيته الحرام الذي أوجب السعي اليه على من استطاع اليه
الوصول من الأنام وأوجب تعظيمه وشرفه على سائر بقاع الإسلام ، واما كونه حرم
الرسول وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما) فاما باعتبار كونها بلدهما الأصلية
ومنشأهما ووطنهما أو
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 44 من أحكام المساجد.
(3) الوسائل الباب 64 من أحكام المساجد.
باعتبار ان ما كان لله عزوجل فهو ثابت لهما
بطريق النيابة فكل ما نسب اليه تعالى فهو ينسب إليهما وكل شيء ينسب إليهما ينسب
اليه عزوجل لاتحاده بهما
ومزيد قربهما منه كما قرن نفسه عزوجل بهما في جملة
من الآيات القرآنية نحو قوله تعالى «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾. الآية» (1) المفسر ذلك في
الاخبار بأمير المؤمنين (عليهالسلام) وقوله عزوجل «يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (2) إشارة الى ما
ذكرناه.
واما كون المدينة حرم الله عزوجل فمن حيث سكنى
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فيها واتخاذه
لها دار هجرة فعظمها لأجله وأوجب احترامها حتى بعدم قطع الشجر منها كما سيأتي في
كتاب الحج ان شاء الله تعالى. واما كونها حرم الرسول وعلي (عليهما الصلاة والسلام)
فلأنها منشأهما ومقرهما بعد الهجرة ومدفن الرسول (صلىاللهعليهوآله) حقيقة ومدفن
علي (عليهالسلام) تبعا حيث انه
نفس الرسول ويؤيده ما نقله بعض مشايخنا من ورود بعض الاخبار بان الله عزوجل نقله إليها ،
ولهذا يستحب زيارة أمير المؤمنين (عليهالسلام) عند الرسول (صلىاللهعليهوآله) واما الكوفة
فبالتقريب المتقدم في المدينة.
واما ان الصلاة في البلدان الثلاث بما ذكر في الخبر
فالظاهر ان إطلاق البلد في المواضع الثلاثة مجاز عن المساجد الثلاثة ليوافق جملة
الأخبار الواردة في الباب وان اختلفت زيادة ونقصانا إذ موردها انما هو المساجد.
ويعضد ذلك ئما رواه الشيخ عن عمار بن موسى في الموثق عن
أبي عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
عن الصلاة في المدينة هل هي مثل الصلاة في مسجد رسول الله (صلىاللهعليهوآله)؟ قال لا ، ان
الصلاة في مسجد رسول الله (صلىاللهعليهوآله)
__________________
(1) سورة المائدة ، الآية 60.
(2) سورة النساء ، الآية 62.
(3) الوسائل الباب 57 من أحكام المساجد.
ألف صلاة والصلاة في المدينة مثل
الصلاة في سائر البلدان».
واما ثواب التصدق فيمكن إبقاؤه على عمومه لعدم المعارض.
واما السكوت عن الدرهم في الكوفة فهو مشعر بأنها كغيرها من البلدان إلا انه روى
ابن قولويه في كتاب كامل الزيارات بسنده عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «نفقة
درهم بالكوفة تحسب بمائة درهم في ما سواها وركعتان فيها تحسب بمائة ركعة».
(الثانية) ـ لا يخفى ان الاخبار مما نقلناه هنا وما لم
ننقله قد اختلفت في ثواب الصلاة في كل من هذه المساجد زيادة ونقصانا والظاهر عندي
في الجمع بينها هو ان ذلك باعتبار اختلاف أحوال المصلين في صلاتهم وإقبالهم على
الصلاة وقربهم منه تعالى وعدم ذلك بمعنى ان جميع الصلوات مشتركة من حيث هذا المكان
وفضله في الطرف الأقل من الثواب الوارد في هذا المكان وهذه الزيادات إنما نشأت من
أمور زائدة في تلك الصلوات كما ذكرنا ، وعليه يحمل ايضا ما ورد في ثواب الحج
وزيارة الأئمة (عليهمالسلام) ولا سيما
زيارة الحسين (عليهالسلام) من تفاوت
الثواب قلة وكثرة والجميع محمول على تفاوت أحوال المكلفين في ما يأتون به. وما
تكلفه جملة من الأصحاب في هذا المقام فالظاهر بعده وعدم الحاجة إليه.
نعم روى الشيخ في التهذيب في الحسن عن الوشاء عن الرضا (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الصلاة في المسجد الحرام والصلاة في مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) في الفضل
سواء؟ فقال نعم والصلاة في ما بينهما تعدل ألف صلاة». فإنه ظاهر في مساواة مسجد
الرسول (صلىاللهعليهوآله) للمسجد
الحرام في الفضل مع ان الاخبار مما قدمناه وتركناه متكاثرة بزيادة المسجد الحرام
وان الصلاة فيه كألف صلاة في مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله).
__________________
(1) الوسائل الباب 44 من أحكام المساجد.
(2) الوسائل الباب 63 من أحكام المساجد.
ويمكن الجواب برجوع المساواة إلى أصل الفضيلة بمعنى ان
لهما الفضل على غيرهما من المساجد وان تفاوتا بالزيادة في أحدهما والنقيصة في
الآخر ويكون قوله : «والصلاة في ما بينهما. إلخ» إشارة الى ذلك بمعنى انهما
متساويان في أصل الفضل وان حصل التفاوت بينهما في ان الصلاة الواحدة في أحدهما
بألف في الآخر وهو وان كان مجملا بالنسبة الى صاحب الفضيلة منهما إلا انه باعتبار
ما ظهر في غير هذا الخبر من الأخبار الكثيرة الدالة على ان الفضل في جانب المسجد
الحرام ويحمل عليه هذا الإجمال فلا إشكال.
(الثالثة) ـ ما تضمنه حديث الثمالي ـ من ان كل من صلى في
المسجد الحرام صلاة مكتوبة قبل الله منه كل صلاة. إلخ ـ يحتمل حمله على عمومه من
قبول كل صلاة صلاها أو يصليها الى يوم موته وان كانت باطلة وليس ببعيد من فضله
سبحانه وكرمه ، واما ما لم يصلها بالكلية فلا تدخل في عموم الخبر. ويحتمل التخصيص
بما إذا كانت صحيحة مجزئة لكنها غير مقبولة من حيث عدم الإقبال عليها كلا أو بعضا
أو نحو ذلك من شروط القبول. ويحتمل ايضا انه لما كان الله عزوجل قد جعل صلاة
المكتوبة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة كما في خبر القلانسي وغيره فمن الظاهر
ان هذا العدد يأتي على صلاة الإنسان من أول عمره الى آخره غالبا فكل صلاة وقع
الخلل فيها من صلواته يقوم مقامها ويسدها بعض هذه الأفراد المضاعفة فيكون مستلزما
لقبول ما وقع الخلل فيه من صلواته بل ما تركه ايضا ، ورحمته سبحانه وفضله جل شأنه
أوسع من ذلك وهو وجه لطيف عرض لي حال التصنيف.
(الرابعة) ـ ما تضمنه خبر هارون بن خارجة وخبر ابي بصير
وما اشتملا عليه قد ورد مثله في عدة اخبار مثل ما رواه ثقة الإسلام في الكافي
والشيخ في التهذيب عن الحذاء عن ابي جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «مسجد
كوفان روضة من رياض الجنة صلى فيه ألف نبي وسبعون نبيا وميمنته رحمة وميسرته مكر ،
فيه عصا موسى وشجرة يقطين
__________________
(1) الوسائل الباب 44 من أحكام المساجد.
وخاتم سليمان ومنه فار التنور ونجرت
السفينة وهي صرة بابل ومجمع الأنبياء».
وفي حديث الكاهلي المروي في الكافي والتهذيب عن أبي عبد
الله (عليهالسلام) (1) «يمينه يمن
ويساره مكر وفي وسطه عين من دهن وعين من لبن وعين من ماء شراب للمؤمنين وعين من
ماء طهر للمؤمنين. الى ان قال وصلى فيه سبعون نبيا وسبعون وصيا أنا أحدهم ، وقال
بيده في صدره».
وروى مؤلف المزار الكبير على ما نقله في البحار (2) بسنده عن حبة
العرني عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) في حديث قال
فيه «وصلى فيه ألف نبي وألف وصي وفيه عصا موسى وخاتم سليمان وشجرة يقطين ووسطه
روضة من رياض الجنة وفيه ثلاث أعين : عين من ماء وعين من دهن وعين من لبن. الى ان
قال ويحشر يوم القيامة منه سبعون ألفا ليس عليهم حساب ولا عذاب ، جانبه الأيمن ذكر
وجانبه الأيسر مكر».
أقول : لا تنافي بين هذه الأخبار باعتبار ذكر عدد من صلى
فيه من الأنبياء والأوصياء قلة وكثرة فجاز ان يذكرهم كلهم تارة وجاز ان يقتصر على
أفضلهم أخرى إذ لا دلالة على الحصر في عدد.
واما الروضة التي في وسط المسجد بناء على رواية أبي بصير
أو في وسطه ومقدمه وميمنته وميسرته ومؤخره بناء على الروايات الأخر فالظاهر انها
عبارة عن الجنات التي تظهر بعد خروج القائم (عليهالسلام) وينبغي حمل
المسجد في هذه الاخبار على المسجد الأصلي الذي يأتي ذكره قريبا وبيان وقوع النقص
فيه لما يستفاد من بعض الاخبار انه (عليهالسلام) بعد ظهوره
يعيده إلى أساسه الأصلي ويوسعه سعة زائدة ، وهذه العيون المذكورة من جملة ما في
تلك الروضات التي تظهر بظهوره (عليهالسلام).
ولا منافاة بين ما دل على ان ميسرته مكر وبين ما دل على
ان ميسرته روضة لان
__________________
(1) الوسائل الباب 45 من أحكام المساجد.
(2) ج 22 ص 88.
المراد بالأول ما خرج عن هذه المسجد
وبالثاني ما دخل في المسجد الأصلي من طرف اليسار
والظاهر ان تفسير المكر بمنازل الشيطان من كلام الصدوق (قدسسره) وهذا الخبر رواه
في الكافي عن علي بن أبي حمزة عن ابي بصير (1) وفيه بعد قوله مكر «فقلت لأبي بصير
ما يعني بقوله مكر؟ قال يعني منازل السلطان». وهذا الخبر ونحوه قد رواه العامة
أيضا ، قال ابن الأثير في نهايته (2) : أصل المكر الخداع ومنه حديث علي (ع)
في مسجد الكوفة «جانبه الأيسر مكر» قيل كانت السوق الى جانبه الأيسر وفيها يقع
المكر والخداع. انتهى. والأظهر ما ذكر في الخبرين من تفسير المكر بمنازل السلطان ،
والظاهر ان المراد به قصر الامارة الذي هو محل الحكم والأمر والنهي ، وعليه ينطبق
ايضا ما ذكره الصدوق لان منازل سلاطين الجور منازل الشياطين أو ان المراد
بالشياطين هم حكام الجور.
واما ما قابل الميسرة في هذا الخبر ونحوه مما كان خارجا
عن المسجد فيمكن حمله على الغري الذي هو موضع قبر أمير المؤمنين (عليهالسلام) والإشارة
إليه بذلك وقع تقية ، ومثله قوله (عليهالسلام) في حديث حبة
العرني «ويحشر منه يوم القيامة سبعون ألفا ليس عليهم حساب ولا عذاب». يعني يحشرون
من جنبه ، والمراد به الغري أيضا الذي قد استفاضت الأخبار بأنه قطعة من جنة عدن
تكون فيها أرواح المؤمنين في عالم البرزخ ، والإجمال في التعبير عن ذلك صريحا كله
للتقية.
واما ما دل على ان فيه عصا موسى (عليهالسلام) فيحتمل انها
مودعة فيه الى ظهور صاحب الزمان (عجل الله فرجه) وكذا خاتم سليمان (عليهالسلام) ويحتمل ان
العصا نبتت فيه ومنه أخذت ، وعليه يحمل ايضا «وفيه شجرة يقطين» يعني فيه نبتت ،
ويؤيده ما نقله بعض مشايخنا قال انه يظهر من بعض الاخبار ان يونس (عليهالسلام) خرج من
الفرات.
__________________
(1) الوسائل الباب 44 من أحكام المساجد.
(2) في مادة «مكر».
بقي الكلام في نجر السفينة في المسجد مع كراهة الصنائع
في المساجد ولا سيما هذا المسجد ، فيمكن الجواب بتخصيص هذا الحكم بهذه الشريعة أو
استثناء ذلك من الحكم المذكور
واما قوله في رواية الحذاء : «وهي صرة بابل» ففيه إشارة
الى ان الكوفة من أرض بابل إذ المراد بالصرة الكناية عن الشيء النفيس العزيز ،
لأن أصل الصرة بمعنى صرة الدراهم وهي أنفس الأموال وأعزها. والمفهوم من خبر رد
الشمس الى أمير المؤمنين (عليهالسلام) (1) ـ في أيام
رجوعه من حرب الخوارج وتركه الصلاة الى ان عبر الفرات فصلى في الجانب الآخر ـ اختصاص
بابل بذلك الجانب من الفرات ، ولعل الإضافة هنا مجاز باعتبار قربها من بابل وان
ارض الخسف من بابل التي يكره الصلاة فيها مخصوص بذلك الموضع الذي عبر (عليهالسلام) منه. والله
العالم.
(الخامسة) ـ ان ما دل عليه مرسل الفقيه من قول الصادق (عليهالسلام) «حد مسجد
الكوفة آخر السراجين. إلخ». مما يدل على وقوع النقص في المسجد والحديث بهذه
الكيفية قد رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن علي بن مهزيار بإسناد له (2) قال : «قال
أبو عبد الله (عليهالسلام) حد مسجد
الكوفة. الحديث». إلا ان الكليني في الروضة والعياشي في تفسيره قد نقلاه بوجه ابسط
عن المفضل بن عمر (3) قال : «كنت مع
أبي عبد الله (عليهالسلام) بالكوفة أيام
قدم علي ابي العباس فلما انتهينا إلى الكناسة نظر عن يساره ثم قال يا مفضل ههنا
قتل عمي زيد ثم مضى حتى اتى طاق الرواسين وهو آخر السراجين فنزل فقال لي انزل فإن
هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي خطه آدم (عليهالسلام) وانا أكره ان
ادخله راكبا فقلت له فمن غيره عن خطته؟ قال اما أول ذلك فالطوفان. الى آخر ما تقدم
في خبر الفقيه».
__________________
(1) البحار ج 18 الصلاة ص 121.
(2) الوسائل الباب 44 من أحكام المساجد.
(3) الروضة ص 279 ومستدرك الوسائل الباب 35 من أحكام المساجد.
ومما يدل على وقوع النقص في المسجد ما رواه في الكافي في
خبر عن ابي بصير عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال «وكان
أمير المؤمنين (عليهالسلام) يقوم على باب
المسجد ثم يرمي بسمة فيقع في موضع التمارين فيقول ذلك من المسجد ، وكان يقول قد نقص
من أساس مسجد الكوفة مثل ما نقص في تربيعه». وفي رواية أخرى نقلها في البحار (2) عن مؤلف
المزار الكبير قال «ولقد نقص منه اثنا عشر الف ذراع مما كان على عهدهم».
بقي الكلام في حكم هذا الناقص من المسجد الأول الزائد
على ما هو عليه الآن هل يثبت له حكم المسجدية؟ إشكال ينشأ من ان ظاهر حديث المفضل
ـ حيث ان الصادق (عليهالسلام) نزل لما بلغ
الى طاق الرواسين وأمر المفضل بالنزول معللا ذلك بأنه من المسجد وانه يكره دخوله
راكبا ـ اجراء حكم المسجدية في ذلك الزائد ، ومن ان ظاهر خبر ابي بصير ـ الدال على
ان عليا (عليهالسلام) رمى بسهمه
الى موضع التمارين وأخبر ان هذه المسافة كلها من المسجد مع انه لم ينقل عنه في
زمانه إدخالها في المسجد ولا الأمر باحترامها واجراء حكم المسجدية عليها ، بل
الظاهر انما هو العدم لتقريره الناس على تصرفهم في هذا الموضع بجعله سوقا وطريقا
ومنازل ونحوها من التصرفات ـ هو العدم ، ولعل الترجيح للأخير إلا انه يمكن تطرق
القدح اليه بعدم تمكنه (عليهالسلام) من تغيير ما
جرت عليه أئمة الجور قبله كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما كان عليه في أيام
خلافته وان جل رعيته انما يرونه بعين التبعية لمن تقدمه. وكيف كان فإنه يجب ان
يحمل فعل الصادق (عليهالسلام) على الفضل
والاستحباب.
والظاهر ان الكلام ههنا كالكلام في المسجد الحرام قبل
الزيادة التي زادتها بنو أمية ، فإن ظاهر خبر زرارة المتقدم (3) ـ المتضمن
لنوم الباقر (عليهالسلام) معه في تلك
الزيادة وتجويزه النوم فيها معللا ذلك بأنها ليست من المسجد الذي في زمنه (صلى
الله
__________________
(1) الوسائل الباب 44 من أحكام المساجد.
(2) ج 22 ص 88.
(3) ص 293.
عليه وآله) مع دلالة الأخبار الأخر
على انها من المسجد القديم ـ هو عدم اجراء حكم المسجدية على ذلك الزائد وان كان
داخلا في المسجد القديم ، وهو مؤيد لما ذكرناه من عدم ثبوت حكم المسجدية لما زاد
على المسجد الموجود في زمنه (عليهالسلام) وان كان
داخلا في المسجد القديم.
ويمكن ان يكون الوجه في الجميع ان الاعتبار في رعاية حكم
المسجدية على ما كان مسجدا في الإسلام بأن ثبت له المسجدية وسمى مسجدا بعد ظهور
الشريعة المحمدية ، فإن البيع والكنائس السابقة في الملل المتقدمة كانت في تلك
الملل يراعى فيها ما يراعى في المساجد من التوقير والتعظيم ، واما بعد الإسلام
بالنسبة إلى المسلمين فإنه لا يراعى فيها ذلك لأنها ليست من مساجد الإسلام ، ولهذا
ورد جواز نقضها وجعلها مساجد يجب احترامها كما يجب في المساجد المعمولة في الإسلام
فكذلك المساجد التي في زمان الكفر وتلك الملل السابقة ، بل الاعتبار بما جرى عليه
اسم المسجدية في الإسلام ، ويعضده تقرير النبي (صلىاللهعليهوآله) الناس على
مسجدية المسجد الحرام الموجود في زمنه دون ما زاد عليه. والله العالم.
نعم يبقى اشكال آخر بالنسبة إلى تغيير زياد ابن أبيه
الذي وقع بعد أمير المؤمنين (عليهالسلام) وثبوت
المسجدية للجميع الموجود يومئذ. ويمكن التفصي عن ذلك بأنه لعدم معلوميته لنا الآن
لا يلزمنا حكمه.
ويمكن تخصيص تغيير زياد باعتبار القبلة دون ارض المسجد
كما يشير اليه ما رواه الشيخ في كتاب الغيبة بسنده فيه عن الأصبغ بن نباتة (1) قال : «قال
أمير المؤمنين (عليهالسلام) في حديث له «حتى
انتهى الى مسجد الكوفة وكان مبنيا بخزف ودنان وطين فقال ويل لمن هدمك وويل لمن سهل
هدمك وويل لبانيك بالمطبوخ المغير قبلة
__________________
(1) البحار ج 13 ص 186.
نوح (عليهالسلام) طوبى لمن شهد
هدمك مع قائم أهل بيتي أولئك خيار الأمة مع أبرار العترة».
وروى محمد بن إبراهيم النعماني في كتاب الغيبة بسنده إلى
حبة العرني في حديث عنه (عليهالسلام) (1) قال : «كأني
انظر الى شيعتنا بمسجد الكوفة وقد ضربوا الفساطيط يعلمون الناس القرآن كما أنزل ،
اما إن قائمنا إذا قام كسره وسوى قبلته».
واما نسبته (عليهالسلام) في هذا الخبر
زيادا الى ابي سفيان فلعله خرج مخرج التقية لاشتهار ذلك بين الأموية حيث ان معاوية
استلحقه وجعله أخاه لأبيه وإلا فهو مشهور بين علماء التاريخ بنسبته الى امه سمية
أو يقال زياد ابن أبيه.
(السادسة) ـ ما تضمنه مرسل الفقيه عن علي (عليهالسلام) في فضل
الصلاة في المساجد المذكورة قد ورد مثله في ما رواه الشيخ في التهذيب عن السكوني
عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (2) إلا ان كتب
الاخبار قد اختلفت في قوله : «وصلاة في المسجد الأعظم تعدل مائة صلاة». ففي
التهذيب في حديث السكوني المذكور وكذا في كتاب المحاسن كما هنا ولكن في أكثر نسخ
الفقيه «مائة ألف صلاة» وكذا في كتاب ثواب الأعمال ، والظاهر زيادة لفظ «الف» من
النساخ في الصدر الأول أو أحد الرواة واستمر عليها النسخ ، وعلى تقديره فيحمل
المسجد الأعظم على المسجد الحرام ، وعلى تقدير النسخة الأخرى يحمل على المسجد
الجامع.
وبيت المقدس بتخفيف الدال بمعنى القدس والطهارة كأن من
يدخل فيه يطهر من الذنوب ، والمراد بكون الصلاة فيه تعدل ألف صلاة أي في البيوت
وغير المساجد ويحتمل الحمل على الترتيب بالنسبة إلى الجامع وكذا الجامع بالنسبة
إلى مسجد القبيلة وهكذا ولعل الأول أقرب.
والمراد بمسجد القبيلة هو مسجد المحلة المذكور في كلام
الأصحاب بعنوان المحلة ووجه خروج هذه التسمية في الخبر انه كان في تلك الأوقات ولا
سيما في الكوفة قبائل
__________________
(1) البحار ج 13 ص 192.
(2) الوسائل الباب 64 من أحكام المساجد.
العرب وكل قبيلة في محلة ولها مسجد
فيها فنسب المسجد إلى القبيلة.
والمراد بمسجد السوق ما كان لأهل السوق واقعا في السوق
أو الى جنبها لا ما اتصل بها وان كان جامعا أو مسجد قبيلة وإلا فكثير من المساجد
الجامعة متصلة بالسوق ولا سيما المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله).
وفي رواية التهذيب (1) «وصلاة الرجل
في بيته وحده صلاة واحدة». وكذا في بعض نسخ الفقيه وفي كتاب ثواب الأعمال ، قال
المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقله الخبر على ما في التهذيب : بيان ـ لفظة «وحده»
ليست في بعض نسخ الفقيه فان قلنا ان التضعيف في الأجر باعتبار الجماعة وكثرتها
فإثباتها أوضح في مقابلة الوحدة بالجماعة (وان قلنا) انه باعتبار فضل المسجد من
غير نظر الى الجماعة فاسقاطها أوضح في مقابلة كل من الوحدة والجماعة بمثله. انتهى.
أقول : قد روى الشيخ في كتاب المجالس عن الحسين بن عبيد
الله عن التلعكبري عن محمد بن همام عن عبد الله بن جعفر الحميري عن محمد بن خالد
الطيالسي عن زريق الخلقاني (2) قال : «سمعت
أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول صلاة الرجل
في منزله جماعة تعدل أربعا وعشرين صلاة وصلاة الرجل جماعة في المسجد تعدل ثمانيا
وأربعين صلاة مضاعفة في المسجد. وان الركعة في المسجد الحرام ألف ركعة في سواه من
المساجد وان الصلاة في المسجد فردا بأربع وعشرين صلاة. والصلاة في منزلك فردا هباء
منثور لا يصعد منها الى الله تعالى شيء. ومن صلى في بيته جماعة رغبة عن المساجد
فلا صلاة له ولا لمن صلى معه إلا من علة تمنع من المسجد».
وروى فيه ايضا بالسند المذكور عن زريق المذكور (3) قال : «سمعت
أبا عبد الله
__________________
(1) الوسائل الباب 64 من أحكام المساجد.
(2) الوسائل الباب 33 من أحكام المساجد.
(3) الوسائل الباب 2 من أحكام المساجد.
(عليهالسلام) يقول شكت
المساجد الى الله تعالى الذين لا يشهدونها من جيرانها فأوحى الله عزوجل إليها وعزتي
وجلالي لا قبلت لهم صلاة واحدة ولا أظهرت لهم في الناس عدالة ولا نالتهم رحمتي ولا
جاوروني في جنتي». وفي جملة من الاخبار «لا صلاة لجار المسجد إلا فيه» (1).
ووجه الجمع بينها وبين الخبر المذكور وأمثاله مما دل على
صحة الصلاة في البيت وجوازها اما حمل التخلف عن المسجد على ما إذا كان لمجرد
التهاون والاستخفاف وعدم المبالاة بما ورد في الصلاة فيه من الأجر والثواب واليه
يشير خبر زريق الأول ، أو على قلة الأجر والثواب المترتب عليها حتى كأنه في حكم
العدم ولعله الأظهر فإنهم (عليهمالسلام) كثيرا ما
يبالغون في الزجر عن المكروهات بما يكاد يلحقها بالمحرمات والحث على المستحبات بما
يكاد يدخلها في الواجبات.
وكيف كان فمع العذر يكون مستثنى من الحكم المذكور ، ويدل عليه ما رواه في كتاب قرب الاسناد عن الصادق عن أبيه (عليهماالسلام) (2) قال : «قال علي (عليهالسلام) ليس لجار المسجد صلاة إذا لم يشهد المكتوبة في المسجد إذا كان فارغا صحيحا». ومثله روى في التهذيب (3) ايضا. والله العالم.
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 2 من أحكام المساجد.
(4) سورة البقرة ، الآية 279.