الحقائق ج2 - كتاب الجعالة

كتاب الجعالة

وهي بتثليث الجيم، وكسرها أشهر، وعليه اقتصر جماعة، وآخرون على كسرها وفتحها كالجعل، والجعيلة لغة اسم لما يجعل للانسان على عمل شئ، وشرعا التزام عوض معلوم على عمل، والاصل فيها الاجماع قوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير) (1) والحاجة ماسة إليها، وفيه أبحاث وفي الابحاث مسائل.
البحث الاول قد اختلف الاصحاب وغيرهم في الجعالة، هل هي من قسم العقود فتتوقف على الايجاب والقبول ؟ أو من الايقاعات فلا تتوقف على القبول ؟ والمحقق في الشرايع والنافع جعلها من الايقاع وضعا وحكما حيث صرح بعدم افتقارها إلى القبول، وهو المطابق لتعريفهم لها كما سمعته، حيث جعلوها التزام كلي عوض على عمل، ويؤيده عدم اشتراط تعيين القابل، وإذا لم يكن معينا لا يتصور للعقد قبول، وعلى تقدير قبول بعض لا ينحصر فيه إجماعا. ومنهم من جعلها من العقود الجائزة، وجعل القبول الفعلي كافيا فيها كالو كالة، والمنفي هو القبول اللفظي، وهو ظاهر كلام المحقق في موضع من الشرايع حيث جعله عقدا جائزا، والظاهر أنه قد تجوز في العبارة، إذ لو كان عنده عقدا
(1) سورة يوسف – آية 72.
[ 116 ]
حقيقة لذكره في العقود لافي الايقاعات، ومع ذلك فالجانب الاخر محتمل لانه قد ذكر في قسم الايقاعات ما هو عقد قطعا كالكتابة، لكنه معذور في ذلك الاستطراد ذكرها مع العتق والتدبير، وهما إيقاع جزما، والعادة بين فقهائنا ذكر هذه الثلاثة في محل واحد فجرى على ذلك هو وغيره. وتظهر الفائدة فيما لو فعل للعامل بغير قصد العوض ولاقصد التبرع بعد الايجاب، فعلى الاول يستحق العوض لوجود المقتضي له وهو الايجاب مع العمل وعلى الثاني لا وإن كان قد عمل، لان المعتبر من القبول الفعلي ليس هو مجرد الفعل بل لابد معه من انضمام الرضا والرغبة فيه لاجله كما نبه عليه في كتاب الوكالة. واستقرب الشهيد في الدروس استحقاق العوض لو رد، بل لم يسمع الصيغة بقصد العوض إذا كانت الصيغة مشتملة، وهذا وإن كان محتملا للامرين إلا أنه بالاول أشبه، لان قصد العوض ممن لم يسمع الايجاب لا يعد عندهم قبولا مطلقا وإنما فائدة قصد العوض فيه الاحتراز عما لو قصد التبرع، فإنه لا يستحق شيئا وإن سمع الصيغة، لكن يبقى مالو خلا عن الامرين ففعل لا بقصد التبرع ولا بقصد العوض والذي يناسب الاكتفاء بالايجاب استحقاقه هنا لوجود المقتضي له، وفي هذا المطلب مسائل:
الاولى: تصح الجعالة على كل مقصود محلل عند الشارع. والمراد بكونه مقصودا كونه ملحوظا في نظر العقلاء كالخياطة ورد الابق والضالة ونحو ذلك واحترر عما يجعل على فعل مجرد العبث كنزف البئر حيث لاغرض فيه وكالذهاب في طريق خطر بغير غاية مقصودة للعقلاه ونحو ذلك. والمراد بالمحلل هو الجائز بالمعنى الاعم فيدخل المباح والمندوب والمكروه ويخرج الواجب التي لا تصح النيابة فيه فلا تصح الجعالة كما لا تصح الاجارة.
[ 117 ]
أما ما تصح فيه الاجارة من الواجباب فتصح فيه الجعالة، ولو اريد بالمحلل المباح لخرج غيره مما تصح الجعالة عليه نصا وفتوى، ولابد من حمله على المعنى الاول.
الثانية: أنه كان الغرض من مشروعية الجعالة تحصيل الاعمال المجهولة غالبا كرد الابق والضالة ومسافة رد الابق لا تعرف غالبا فاغتفرت الجهالة في العمل لمسيس الحاجة كما اغتفرت في عامل المضاربة لدعوى الحاجة إلى ذلك، وإذا كانت الجهالة مغتفرة في القراض والمضاربة لتحصيل الزيادة فلان يحتملها في الجعالة لتحصيل أصل المال أولى، وكما تصح الجعالة على العمل المجهول تصح على المعلوم قطعا، خلافا لبعض العامة حيث خصها بالمجهول فجعل مورد المعلوم الاجارة، وليس بشئ لعموم الادلة فيها فهي شاملة للمعلوم والمجهول.
الثالثة: يعتبر فيها بالنسبة الى الجاعل اهلية الاستئجار والجعالة، وفي العامل امكان تحصيل العمل. والمراد ان يكون الجاعل مطلق التصرف غير محجور عليه باحد الاسباب الموجبة للحجر، وان العامل يعتبر فيه ذلك ايضا ويزيد عليه امكان تحصيل العمل، ويعتبر في الجعل الذي هو العوض ان يكون معلوما بالكيل أو الوزن أو العدد أو كان مما جرت العادة بعده، وهذا هو المشهور بين الاصحاب. وذهب البعض إلى اغتفار الجهالة فيه أيضا وكأنه اغتفروا ذلك لان مبنى الجعالة على الجهالة في أحد العوضين الذي هو العمل قطعا، فصار أمرها مبنيا على احتمال الغرر، وللاية المذكورة (ولمن جاء به حمل بعير) لان الحمل غير منضبط بأحد طرق المعلومية، ولقوله صلى الله عليه واله (1) (من قتل قتيلا فله سلبه) وهي الجعالة على عمل مجهول، وهذا أقوى.
(1) عوالي اللئالي ج 1 ص 403 ح 60.
[ 118 ]
وأما ما قيل من أن الجهالة فيها مؤدى إلى الغرر ولا يكاد أحد يرغب فيها حيث لا يعلم بالجعل فلا يحصل مقصود العقلاء فمدفوع بالمنع تارة لان الحاجة قد تمس إلى جهالة العوض بأن لا يريد بذل شئ آخر غير المجعول عليه حيث لا يتفق ذلك بأن يريد تحصيل الابق لبعضه وعمل الزرع لبعضه ونحو ذلك. وأيضا لا نسلم أن ذلك لا يرغب فيه فإن العادة قاضية باطراد حصول الرغبة في أعمال كثيرة مجهولة بجزء منها مجهول، وإنما التوقف في صحة ذلك شرعا ولا طباقهم على صحة الجعالة مع عدم تعين الجعل ولزوم اجرة المثل مع أن العمل الذي يثبت اجرة مثله غير معلوم عند العقد، فالاقوى إذا ما ذهب إليه البعض من اغتفار الجهالة في العوض، حيث لا يمنع من التسليم كنصف العبد الابق إذا رده ومنه سلب المقتول من غير تعيين، فإن ذلك معين في حد ذاته في الجملة ولا يفضي إلى التنازع، بخلاف العرض ثوبا ودابة ونحو ذلك مما ذلك مما يختلف كثيرا أو تتفاوت أفراده قيمة تفاوتا عظيما يؤدي إلى التنازع والتجاذب. وإذا تقرر ذلك فالمعتبر من العلم بالعوض عند مثبتيه ما يعتبر في عوض الاجارة، فيكفي فيه المشاهدة عن اعتباره بأحد الامور الثلاثة حيث يكتفى بها في الاجارة بطريق أولى، وحيث كان العوض مجهولا ولم نقل يصحته فسد العقد ويثبت بالعمل اجرة المثل. ومثله مالو قال: إن فعلت كذا فأنا ارضيك أو اعطيك شيئا ونحو ذلك من العبارات المشتملة على جهالة العوض. وربما قيل: بعدم فساد العقد بذلك وأن اجرة المثل حينئذ هو العوض اللازم للعوض بواسطة الجعالة، وهو بعيد. وقد اختلف الاصحاب في ما يعتبر من الشرائط في الحامل من مراعاة البلوغ والكمال وعدمه، والمقطوع به ما مر وإن كان المشهور عدم اشتراط الكمال بالبلوغ والتمييز. فلو رد الصبي المميز ولو بدون إذن وليه والمحجور عليه استحق الجعل
[ 119 ]
وإن كان الخلاف في غير المميز والمجنون أظهر وأجلى، لان الغرض منها حصول المجعول عليه وعدم مراعاة القصد إلى العوض. نعم يشترط فيه إمكان تحصيل العمل بنفسه إن شرط عليه المباشرة أو مطلقا إن لم يشترط. والمراد بالامكان ما يشمل العقلي والشرعي والعادي ليخرج منه الكافر لو كان الحمل المجعول عليه استيفاء الدين من المسلم. ولو كان رد عبد مسلم ففي تناوله للذمي وجهان: من اقتضاء إثبات يده عليه الموجب للسبيل المنفي بالاية والرواية، ومن ضعف السبيل بمجرد رده، وإن كان الاقوى الجواب لعدم السبيل شرعا وعرفا بمجرد ذلك الرد ما لم يكن الجعل ممتنعا في حقه بأن كان العوض بعضه. ولو عين الجعالة لواحد فرد غيره كان عمله ضائعا، لانه يتبرع حيث لم يبذل له اجرة ولا لمن يشمله، وذلك لانه قد شرط على المجعول له العمل بنفسه أو قصد الراد العمل بنفسه أو أطلق. أما لو رده نيابة عن المجهول له حيث يتناول لامر النيابة كان الجعل لمن جعل له. ولو تبرع أجنبي بالجعل وجب عليه الجعل مع الرد كما يصح بذل المال عن العمل للباذل يصح عن غيره، لان ذلك أمر مقصود للعقلاء قيتناوله الادن في الجعالة، بخلاف المعاوضة للغير بماله، وحينئذ فيلزم الباذل ما جعله مع رده الى المالك أو إليه حسب ما شرط، ولا يلزم المالك شئ من ذلك لا للعامل ولا للباذل.
الرابعة: أن الجعالة جائزة قبل التلبس بالعمل، فإن تلبس استصحب الجواز أيضا من جهة العامل ولازمة من طرف الجاعل إلا أن يدفع اجرة ما عمل ولا خلاف في أن الجعالة في نفسها من الامور الجائزة من الطرفين، بمعنى تسلط كل من المالك والعامل على فسخها قبل التلبس بالعمل وبعده، سواء جعلناها عقدا أم إيقاعا من حيث عدم اشتراط القبول من العامل فيها بمنزلة أمر الغير بعمل له اجرة، فلا يجب المضي فيه من الجانبين فمقتضاها ذلك، إن كان الفسخ
[ 120 ]
قبل التلبس فلا شئ للعامل، إذ ليس هناك عمل يقابل بعوض سواء كان الفسخ من قبله أم من قبل المالك، وإن كان بعد التلبس وكان الفسخ من العامل فلاشئ له لان المالك إنما جعل له العوض في مقابلة مجموع العمل من حيث هو مجموع فلا يستحق على إبعاضه ولان غرض المالك لم يحصل وقد أسقط العامل حق نفسه حيث لم يأت بحق ما شرط عليه العوض كماسخ المضاربة قبل ظهور الربح بخلاف الاجارة. والفرق أنها لازمة تجب الاجرة فيها بالعقد ويستقر شيئا، بخلاف الجعالة فإنها بجوازها لا يثبت عليه للعامل عوض ما عمل لانه إنما تلبس بالعمل بعوض لم يسلم له ولا تقصير من جهته، والاصل في العمل المحترم الصادر بأمر المالك أن يقابل بالعوض. وقد اختلف في أن العوض الواجب له حينئذ اجرة مثل ما عمل ؟ أم بنسبة ما فعل إلى المجموع من العوض المبذول ؟ قولان أظهرهما الثاني، لانه العوض الذي اتفقا عليه. ووجه الاول أنه بالفسخ بطل ثمرة العقد وحيث كان العمل محترما جبر باجرة المثل كما لو فسخ المالك المضاربة. ويرد عليه بأن تراضيهما إنما وقع على العوض العين فلا يلزم غيره، خصوصا مع زيادة اجرة المثل عنه لقدومه حينئذ على أن لا يستحق سواه. والفرق بينه وبين عامل المضاربة بين لان المشروط له فيها جزء من الربح، فقبل ظهوره لا وجود له ولا معلومية حتى ينسب إليه ما فعل، بخلاف عامل الجعالة فإنه مضبوط على وجه يمكن الاعتماد على نسبته، هكذا قرروا اللزوم من طرف الجاعل بعد التلبس. وفيه أن لزوم اجرة ما مضى من العمل عليه لا يقتضي اللزوم لان المراد من العقود الجائزة والايقاعات كذلك هو جواز تسلط كل منهما على فسخها سواء
[ 121 ]
ترتب على ذلك عوض في مقابلة العمل أم لا، والامر هنا كذلك. ومجرد افتراق الحكم في فسخه من قبلهما بوجوب العوض حيث يكون الفاسخ المالك دون العامل لا يقتضي اللزوم من طرفه كما في المضاربة فإنها عقد اتفاقا، مع أن المالك لو فسخ قبل ظهور الربح وجب عليه اجرة ما عمل اتفاقا وإن أو همته عبارة الشرايع، بل متى فسخ لزمه الاجرة بطل أثر العقد وحكمه من حين الفسخ حيث يعلم العامل به سواء دفع الاجرة أم لا. ولو لم يعلم العامل بفسخه إلى أن أكمل استحق تمام العوض كالوكيل إذا لم يعمل بالعزل. وربما استشكل البعض هذا الحكم بعدم وجوب العوض لما بعد الفسخ فيما إذا كان الجعل على رد الضالة ثم فسخها وقد صارت بيده، فإنه لا يكاد يتحقق للفسخ معنى حينئذ، أو لا يجوز له تركها بل يجب تسليمها إلى المالك أو لمن يقوم مقامه شرعا فقد تم العمل. ويمكن رد ذلك بأن فائدة البطلان مع الفسخ حينئذ أنه لا يجب عليه السعي إلى إيصالها إلى المالك وإنما يجب عليه إعلامه بها، فإن كان قد بقي لردها مقدار يعتد به من العوض ظهرت الفائدة، وإن لم يكن قد بقي ما يعتد به فالساقط هو ما قبل ذلك المتخلف، ولا يحصل به نقص يعتد به على العامل. ولو توقف إيصالها أو خبرها إلى المالك على عمل يقابل باجرة أمكن ثبوت اجرة المثل بذلك العمل، لانه عمل محترم مأذون فيه شرعا مبتدأ فيه بإذن المالك فلا يجوز تضييعه على العامل، فيظهر للفسخ معنى على التقديرين.
وبقي في المسألة امور:
(منها) ما استثناه أول الشهيدين في الدروس من عدم وجوب شئ لو كان عدم إمكان العمل من قبل العامل كما إذا كان الجعل على نحو خياطة ثوب فخاط بعضه
[ 122 ]
ثم مات أو منعه ظالم فإنه له حصته من العوض ثم احتمل ثبوتها مطلقا. وكذلك استوجه القول بالاستحقاق وقواه مع الموت، ولا بأس به. أما نحو رد العبد فلا إشكال في عدم استحقاق شئ، لانه أمر واحد لا يقسط العوض على أجزائه بخلاف خياطة الثوب. ومثلها ما لو كانت الجعالة على بناء حائط أو تعليم القرآن، وفي حكم موت العامل هنا موت المتعلم. ولو تلف الثوب في الاثناء وإن كان في يد الخياط لم يستحق شيئا لكون الاستحقاق مشروطا بتسليمه ولم يحصل، وإن تلف في يد مالك الثوب استحق من العوض بنسبة ما عمل. والفرق بينه وبين موت الصبي أن الصبي انتفع بالتعلم بخلاف الثوب.
(ومنها) ما لو فسخ العامل ثم أراد بالجمل فهل ينفسخ العقد ؟ أم يستمر إيجاب الجاعل ؟ وجهان مبنيان على أن الجعالة هل هي عقد أم لا ؟ وقد مر تحقيقه، وأنها بالايقاعات أشبه. فعلى الاول يحتمل الانفساخ لان ذلك مقتضى العقد الجائز، فلا يستحق بالعمل بعد ذلك شيئا سواء علم المالك بفسخه أم لا ؟ ويحتمل عدمه لان العبرة بإيجاب المالك وإذنه في العمل بعوض، وذلك أمر لا قدرة للعامل على فسخه، وإنما صار تركه العمل في معنى الفسخ. ومثله ما لو فسخ الوكيل الوكالة ثم فعل مقتضاها. ويمكن الفرق بين ما لو عمل قبل علم المالك بفسخه وبعده، ومثل هذا الخلاف جار في الوكالة. وعلى الثاني يتجه عدم بطلانها بفسخه واستحقاقه العوض بالفعل لانها عبارة عن الايجاب والاذن في الفعل، وحكمه بيد الاذن لابيد غيره، ومعنى قولهم (يجوز للعامل الفسخ) معناه أنه لا يجب عليه الوفاء بالعمل سواء شرع فيه أم لا، بل يجوز له تركه متى شاء وإن بقي حكم الاذن.
[ 123 ]
(ومنها) أنه يترتب على جوازها بطلانها بموت كل منهما، فإن كان ذلك قبل العمل فلاشئ وإن كان بعد الشروع فيه فللعامل بنسبة ما عمل إن كان العمل مما تتوزع على أجزائه الاجرة، وإن كان مثل رد الابق وقد حصل في يده قبل الموت فكذلك، وإن لم يحصل فلا شئ، قد تقدم.
الخامسة: لو عقب الجعالة على عمل معين باخرى وزاد في العوض أو نقص عمل بالاخيرة، كما يجوز فسخ المالك أصل الجعالة وإهمالها رأسا يجوز في قيودها من المكان والزمان وصفات الجعل بالزيادة والنقصان والجنس، والوصف قبل التلبس بالعمل وبعده قبل إكماله، فإذا عقب الجعالة على عمل باخرى وزاد أو نقص أو غير ذلك. كما إذا كان قد قال: من رد عبدي فله مائة درهم ثم قال: من رده فله خمسون أو فله دينار فقد فسخ الجعالة الاولى وجعل بدلها اخرى، فإن كان قبل أن يشرع في عمل الاولى عمل بالاخيرة ويعينه على الرد من غير أن يتسلم العبد، كما لو كان قبل العمل لانه هنا هو الرد والذهاب إليه من مقاماته لا منه نفسه ولو كان في الاثناء. وكما إذا كان قد قال: من خاط ثوبي أو إن خطته فلك دينار فله من المائة بنسبة ما عمل قبل الجعالة الثانية ومن الدينار بنسبته إذا كمل العمل، ولو ترك العمل بعد جعالته الثانية فله بنسبة ما مضى إيضا لما تقرر فيما سبق أن مثل ذلك رجوع عن الاولى من جهة المالك فيوجب ذلك الحكم كما مر. هذا كله إذا كان قد سمع العامل الجعالتين معا. أما لو سمع أحدهما خاصة فالعبرة بما سمع منهما لاغير، ومن أوجب مع الفسخ في الاثنين الانتقال إلى اجرة المثل لما مضى من العمل أوجبه هنا، ويبقى في وجوب العوض للثانية بنسبة ما بقي إشكال تقدم وجهه. وحيث إنه إنما جعل العوض الثاني على مجموع العمل لم يحصل، ويفارق
[ 124 ]
الحكم الاول بالنسبة من جهة حصول الفسخ فيها من قبل المالك، فلايضيع عمل العامل، بخلاف الثانية حيث لم يقع فيها فسخ خصوصا مع علم العامل بالحال، فإن علمه للمتخلف واقع بغير عوض مبذول من المالك في مقابلته لان الجعالة لا تقابل بالاجزاء إلا فيما استثنيناه سابقا وهذا ليس منه. ويمكن أن يوجه بأن عمل العامل بأمر من المالك بذلك العوض المعين فقد أتمه، ولا سبيل إلى وجوب الاول خاصة لتحقق الرجوع عنه، ولا الى مجموع الثانية لانه لم يعمل العمل بعد امره به ولا سبيل الى الرجوع إلى اجرة المثل لان العوض معين، فلم يبق إلا الحكم بالتوزيع ولو كان التعيين في الثانية بالزمان والمكان. كما إذا كان قد قال: من رد عبدي من الشام فله مائة ثم قال: من رده من بغداد فله دينار أو قال: من رده يوم الجمعة فله مائة ثم قال: من رده يوم السبت فله دينار ونحو ذلك فالظاهر عدم المنافاة، فيلزم ماعين لكل واحد من الوصفين لمن عمل فيه. ومثله مالو كان الاول مطلقا كأن يقول: من رده فله مائة والثاني مقيدا بزمان أو مكان، فإن كان عوض الاول أقل فلا تنافي بينهما لجواز اختصاص القيد بأمر اقتضاء الزيادة. ومثله إيضا لو كان الجنس مختلفا وإن اتفق في المقدار وكان المقيد أنقص احتمل كونه رجوعا، لانه إذا رده مع القيد فقد رده مطلقا، ولو استحق الزائد لذلك لزم أن يلغو القيد وأن يجمع بينهما بحمل المطلق على غير صورة المقيد وهو الاظهر، وإن كان في بعض صوره لا يخلو من نظر وإشكال لدلالة القرينة كما إذا كان المكان أو الزمان أقرب من المقيد. وأطلق الاصحاب هنا كون الثانية رجوعا من غير تفصيل فيشمل جميع ذلك، لكنه محمول على حالتي الاطلاق فيهما معا، أما مع التقييد فلا بد من التفصيل.
[ 125 ]
السادسة: لا يستحق العامل الاجرة إلا إذا بذلها الجاعل أولا ثم حصلت بيد العامل تلك الضالة، فلو حصلت الضالة في يد إنسان قبل الجعالة أو عمل غيرها من الاعمال كان كالمتبرع بعمله، فلا يستحق عليه اجرة لما مضى لذلك ولا التسليم لوجوبه عليه إما بالرد أو إعلام المالك بحالها أو التخلية بينه وبينها. وفصل العلامة في التذكرة تفصيلا حسنا فقال: إذا رده من كل المال بيده قبل الجعالة فإن كان في رده زيادة كلفة ومؤونة كالعبد الابق استحق الجعل، وإن لم يكن كذلك كالدارهم والدنانير فلا استحقاق لشئ منه لان ما لا كلفة فيه لا يقابل بالعوض. وكذا لو سمي في التحصيل تبرعا سواء حصل قبل الجعل أو بعده، حيث إن العامل إنما نوى التبرع إما لكونه لم يسمع الجعالة أو لكونه سمعها ولكن قصد عدم العوض بسعيه، فإنه لا شئ له على التقديرين، وإنما المعتبر مع الجعالة عمله بنية الاجرة أو مطلقا على ما يأتي في هذا القسم.
المطلب الثاني في ما تفرع من الفروع والاحكام بعد تحقق الجعالة وفيه مسائل:
الاولى: إذا بذلك المالك جعلا فإن عينه فعليه تسليمه بعينه مع الرد، وإن لم يعينه لزمه مع الرد اجرة المثل، وذلك لان المالك عند تعيينه الجعل بأن يصفه بما يرفع الجهالة كقوله: من رد عبدي فله دينار فلا يلزمه سواه، أما إذا أطلق العوض مع التعرض لذكره كقوله: من رد علي عبدي فله علي اجرة أو عوض ونحو ذلك لزمه اجرة المثل إما لفساد العقد أو بدونه على ما مر تحقيقه إلا في موضع واحد وسيأتي بيانه واستثناؤه، وإن استدعى الرد من غير أن يتعرض للاجرة أو لا فليس سوى الاجرة أيضا. والمسألة المستثناة هي رد الابق كذلك
[ 126 ]
مع الطلاق أو مع التعرض للجعل فإنه يثبت برده ما قرره الشارع، وهو أنه إذا رد من المصر كان له دينار ومن غيره كائنا ما كان فأربعة دنانير من غير المصر وأخذ به المشهور. ومستنده خبر مسمع بن عبد الملك أبي سيار (1) عن الصادق عليه السلام (قال: قال: إن النبي صلى الله عليه واله جعل في رد الابق دينارا إذا اخذ في مصره وإن إخذ في غير مصره فأربعة دنانير). وفي طريق هذه الرواية في الاصطلاح الجديد ضعف شديد قد غرهم فيه التسديد لاشتمال سنده على محمد بن شمون فإنه غال وضاع ملعون، وما هو في الضعف أعظم وهو عبد الرحمن الاصم، وسهل بن زياد وحاله مشهور، وقد نزلها الشيخ في المبسوط على الاستحباب، ونفى البأس عنه غير واحد من متأخري الاصحاب للتساهل في دليل السنن والفضل. والمحقق وجماعة ممن تأخر عنه قد عملوا بمضونها وإن نقصت قيمة العبد عن ذلك العوض للرد نظرا إلى إطلاق النص وصونا له عن الاطراح والرد، وضعفه في الاصطلاح الجديد يمنع من التهجم على هذا القول البعيد. وتمادى الشيخان في المقنعة والنهاية فأبعدا فيه الغاية فأثبتا ذلك وإن لم يستدع المالك لرده تمسكا بإطلاق الرواية. وأعجب من هذا كله موافقة ابن إدريس مع إطراحه لاخبار الاحاد فجمد على اصل هذا الحكم في غير صورة التبرع، وكأنه قد تمسك في تلك بالشهرة وهي الجابرة لكسره والموجبة لعدوله عن طريقته وأمره، وإلا فمن يجتري على صحاح الاخبار بإطراحها لدعوى الاحاد كيف يقدم على العمل بمثل هذا الخبر مع ضعف روايته ؟ وتحقق الانفراد بعده من القواعد والاطراد. وبعضهم قد جمع بينه وبينهما يرد من الاشكال (2) على إطلاقة فأوجب أقل الامرين من المقدر
(1) التهذيب ج 6 ص 398 ح 43. (2) كذا في النسخة.
[ 127 ]
المذكور فيه وقيمة العبد حذرا من التزام المالك بزيادة عن ماله لاجل تحصيله. وأعرض المحقق الثاني والشهيد الثاني عن هذا الحكم أصلا لما ذكره من ضعف المستند واختلاف الاصحاب في الحكم على وجه لا ينجبر ضعفه على قواعدهم التي قرروها في الاصول. وذلك في محله، لان متن الخبر بعد الاعراض عن ضعف سنده لا يفي بحكم الجعالة لا جهاله من جميع الوجوه، فالرجوع إلى اجرة المثل أولى وأحوط واحتماله للاستحباب قاسم لان المعبر عنه بلفظ الخبر أعم من الواجب، وأنت قد عرفت أن جماعة من الاصحاب منهم الشيخ في المبسوط قد حملوه على الاستحباب. وأعلم أنه على القول بمضمونه بالتقدير الشرعي لا فرق في العبد بين الصغير والكبير والمسلم والكافر والصحيح والمعيب ولا يتعد إلى الامة. وقد ألحق المفيد في مقنعته بالعبد البعير، واعتبر فيه هذا التقدير وأسنده إلى الرواية، ولم نقف عليها، ولهذا عدل عنها المشهور وأنكروا المستند، فوجب إطراح هذا المرسل وإلحاقه بما يوجب اجرة المثل مع عدم تعيين الفرض.
الثانية: لو استدعى الرد ولم يبذل اجرة لم يكن للراد شئ لانه متبرع بالعمل، وهذا الحكم شامل لمسألة الابق وغيرها، والتنبيه فيها على خلاف الشيخين حيث قد نقل عنهما إلزامه بالمقدر شرعا للراد أن رده تبرعا. ووجه عدم لزوم الاجرة حينئذ عدم الالتزام بها والاصل براءة ذمته منها وطلبه أعم من كونه باجرة ومجانا، فلا يجب شئ لان العامل حينئذ متبرع حيث أقدم عليه من غير بذل. هكذا قاله الاكثر. وفيه منع كونه متبرعا بعد الاستدعاء للرد وعمل العامل بالامر، والفرض أن لمثله اجرة، فيجب هناك ما مر في الاجارة من أن من امر غيره بعمل له اجرة في العادة يلزمه مع العمل اجرته. والمحقق وافق على ذلك فيما سبق، وهذا من أفراده، فوجوب الاجرة
[ 128 ]
متى طلب القول به أقوى ما لم يصرح بالتبرع أو يقصده العامل.
الثالثة: إذا قال من رد علي عبدي فله دينار ثم رده جماعة كان ذلك الدينار مشتركا بينهم بالسوية لان العمل حصل من الجميع لامن كل واحد فإن (من) عامة فتشمل ما إذا رد واحد وأكثر، والرد لا يتعدد فهو مشترك بين الراد وليس إلا عوض واحد وهو ما عينه لعدم قبوله الفعل للتعدد. أما لو كان الفعل يقبل التعدد كدخول الدار والصنعة ففعل كل واحد منهم ذلك الفعل استحق كل واحد منهم العوض لعموم الصيغة ولصدق الاسم على كل واحد منهم أنه دخل الدار، ولا يصدق على كل واحد أنه رد الابق بل الفعل مستند إلى المجموع من حيث هو مجموع وفعل واحد، ولا بد من اعتبار غاية يعتد بها في الجعل على دخول الدار كما هو شرط في صحة الجعالة وإلا لم يصح كما سلف من اعتبار ذلك في أصل الجعالة. ويدل عليه من الاخبار سوى ما دل بعمومه صحيحة محمد بن قيس (1) عن أبي جعفر عليه السلام (قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل أكل وأصحاب له شاة فقال: إن أكلتموها فهي لكم وإن لم تأكلوها فعليكم كذا وكذا، فقضى فيه أن ذلك باطل لا شئ في المؤاكلة من الطعام ما قل منه وما كثر ومنع غرامته فيه). وأما الاخبار الدالة على اشتراط إباحة العمل بعد العمومات السابقة فصحيح على بن جعفر (2) عن أخيه أبي الحسن عليه السلام كما في الكافي (قال: سألته عن جعل الابق والضالة قال: لا باس به). ورواه علي بن جعفر في الصحيح في كتاب المسائل، ورواه في قرب الاسناد من الضعيف لاشتمال سنده على عبد الله (3) (وأنا أسمع فقال:
(1) الكافي ج 7 ص 428 ح 11، الوسائل ج 16 ص 139 ب 5 ح 1. (2) الكافي ج 6 ص 201 ح 9، قرب الاسناد ص 121، بحار الانوار ج 10 ص 264، الوسائل ح 16 ص 136 ب 1 ح 1. (3) لا يخفي عليك سقوط بعض العبارات هنا.
[ 129 ]
ربما أمرنا الرجل فيشتري لنا الارض والدار والغلام والجارية ويجعل له جعلا، قال (لا بأس). ومثله خبره (1) كما في التهذيب. ومنها ما دل على جواز الجعالة على تعليم العمل وعلى الشركة مثل صحيح علي بن جعفر (2) كما في كتاب المسائل عن أخيه موسى عليه السلام (قال: سألته عن رجل قال لرجل: اعطيك عشرة دراهم وتعلمني علمك وتشاركني، هل يحل ذلك له ؟ قال: إذا رضي فلا بأس). وكذلك أخبار ما يجعل للحجام والنائحة والماشطة والحافظة ومن وجد اللقطة وقد تقدمت في كتاب المكاسب وقد جاءت أخبار في كسب الحجام الشاملة للجعالة لعموم كثير منها وإطلاقه، وهي مما تشعر بأن كل عمل محلل تصح فيه الجعالة كما قررناه فيما سبق وإن لم نذكر هذه الادلة اعتمادا على ما هنا. ولو قال: من رد عبدا من عبيدي فله دينار فرد كل واحد منهم عبدا فإن كل واحد يستحق الدينار لوجود الفعل من كل واحد على انفراده، فيصير الرد هنا متعددا لتعدد العبيد فتسوي هذه الصورة وصورة من دخل داري في تعدد الجعل سواء في الاستحقاق.
الرابعة: لو جعل لكل واحد من ثلاثة جعلا أزيد من الاخر فجاؤانه جميعا كان لكل واحد ثلث ما جعل له، ولو كانوا أربعة كان له الربع أو خمسة فله الخمس، وكذا لو ساووا بينهم في الجعل. وكذا لو جعل لكل واحد جعالة منفردة على عمل فعند المساواة بينهم
(1) التهذيب ج 8 ص 247 ح 125، الوسائل ج 16 ص 64 ب 50 ح 1. (2) قرب الاسناد ص 114 وفيه (علمني علمك واعطيك ستة دراهم وشاركني، قال: اذل رضى فلا بأس)، الوسائل ج 16 ص 139 ب 6 ح 1 وفيه (عملك).
[ 130 ]
في الجعل فالامر واضح، وعند المخالفة بالزيادة والنقصان والجنس أو بأن يعين لبعضهم ويطلق لبعض، والفعل مع ذلك إما أن يقبل الاختلاف في العمل كخياطة الثوب أو يقبل كرد العبد، فمع الاشتراط في العمل الذي لا يختلف فلكل واحد منهم بنسبة ما جعل له من مجموع العامل، وإن اختلف فلكل واحد بنسبة عمله من المجموع. وإن لم يعين له كان له من اجرة المثل بنسبة ذلك. فلو قال لواحد: إن رددت عبدي فلك دينا ر، وقال لاخر: إن رددته فلك ديناران، وقال لثالث: إن رددته فلك ثلاثة دنانير، وقال لرابع: رد عبدي وعلي العوض، فإن رده واحد تعين منهما نصف ما عين له، وإن لم يعين له اجرة المثل، وإن رده اثنان كان لكل منهما نصف ما عين له، وإن رده ثلاثة فلكل واحد ثلث ما جعل له، وهكذا في الاربعة الربع وفي الخمسة الخمس وهكذا فصاعدا. ولو كان الجعل على خياطة الثوب فخاطه الاربعة فلكل واحد منهم بنسبة ما عمل إلى مجموع العمل مما عين له، وإن لم يعين فله من اجرة المثل بنسبة ما عمل من المجموع، ولا نظر هنا إلى العدد. هذا كله إذا عمل كل واحد لنفسه. أما لو قال أحدهم: أعنت صاحبي فلانا فلاشئ له أو للباقين بالنسبة. ولو قال: ما عدا واحدا عملنا لاعانته فله مجموع ما عين واجرة المثل فيما لم يعين ولا شئ لغيره، ولو عمل معهم متبرعا على المالك سقط بنسبة عمله من حصة كل واحد ولو أعان بعض العاملة من حصته بمقدار عمل اثنين. وهكذا لو جعل لبعض الثلاثة جعلا معلوما ولبعضهم مجهولا فجاؤا به جميعا كان لصاحب المعلوم ثلث ما جعل له والمجهول ثلث اجرة مثله، ولو كان العمل مما يختلف باختلاف الاشخاص فلمن يعين بنسبة عمله من اجرة المثل سواء زاد عن الثلث أو نقص.
[ 131 ]
الخامسة: لو جعل لواحد جعلا على الرد فشاركه آخر في الرد كان للمجعول له نصف الاجرة لانه عمل نصف العمل، وليس للاخر شئ لانه متبرع، وإنما كان كذلك لانه قد قصد العمل للمالك أو لنفسه، أما لو قصد مساعدة العامل فالجميع له. والحكم على الاول باستحقاق العامل النصف أو بنسبة عمله إن قبل التجزئة هو القول الاصح. أما استحقاقه في الجملة فلحصول غرض المالك، وأما كونه بالنسبة فلعدم استقلاله بالفعل. وأما قول الشيخ في المبسوط باستحقاق المشارك نصف اجرة المثل مع عدم دخوله في الجعالة فضعفه واضح لا يحتاج إلى بيان لانه لو استبد بالفعل لم يستحق شيئا إجماعا لانه متبرع بالعمل فلا يستحق شيئا فكيف يستحق مع المشاركة. وللعلامة – قدس سره – قول باستحقاق العامل الجميع لحصول غرض المالك ورد بان مطلق حصول غرض المالك لا يوجب استحقاق الجميع بل مع عمله، كما أنه لو رده الاجنبي لابنية مساعدة العامل لا يستحق العامل شيئا فماذ كرناه أربط بقواعد الجعاله من هذين القولين لما تقرر من أن العامل لا يستحق إلا بتمام العمل ولم يحصل مع المساعدة.
السادسة: لو جعل جعلا معينا على رده من مسافة معينه فرده من بعضها كان له من الجعل بنسبة المسافة لانه لم يجعل جميع العمل المشروط، فكان له من الجعل ما قابل عمله حسبه وسقط الباقي، وهذا الحكم مجمع عليه بين الاصحاب وغيرهم من فرق المسلمين، ولا يخلو من نظر على قاعدة الجعالة. ولو رده من أزيد من المسافة فإن دخل المعين استحق الاجر المعين أو اجرة المثل له، ولا شئ له على الزائد لان المالك لم يلتزمه ولم يلتفت إليه وكان العامل فيه متبرعا فلا عوض له عنه، ولو لم يدخل فيه لا شئ له وإن كان أبعد لانه لم يجعل في رده من غيره شيئا كما لو جعل على رد شئ ورد غيره.
[ 132 ]
المطلب الثالث في بقية أحكام الجعالة عند اختلاف العامل والجاعل وفيه مسائل: لو قال العامل: شارطني وقال المالك: لم اشارطه فالقول قول المالك مع يمينه. والمراد بالمشارطة أن يجعل له جعلا على الفعل سواء كان معينا أو مجملا يوجب اجرة المثل، فإذا ادعى العامل وأنكر المالك ذلك وادعى تبرع العامل كان عملا مجانا، فالقول قوله لاصالة عدم الجعالة وبراءة ذمته، أما لو كان النزاع في أن المالك هل شارطه على شئ بعينه أو أمره على وجه يوجب اجرة المثل ؟ فقد اتفقا على ثبوت شئ في ذمة المالك وإنما اختلفا في تعينه فكان كالاختلاف في القدر والجنس، وسيأتي بيانه. وكذا القول قوله لوجاء بأحد الابقين فقال المالك: لم أقصد هذا وإنما قصدت الذي لم تأت به لان مرجع هذا الاختلاف إلى دعوى العامل شرط المالك له على هذا الايق الذي رده والمالك ينكر الجعل عليه، فكان القول قوله لاصالة عدم الشرط عليه وإن كان قد اتفقا على أصله في الجملة، وبهذا خالف الفرع السابق. ومثله مالو قال المالك: شرطت العوض على ردهما معا قال العامل: بل على أحدهما أو على هذا الحاضر المعين فيقدم قول المالك لاصالة براءة ذمته من المجموع. وهل يثبت للعامل قسط من رده من المجموع ؟ يظهر من التذكرة للعلامة. وفيه نظر، لان المجعول عليه المجموع لا الابعاض. ومثله مالو اتفق على وقوع الجعالة عليهما فرد أحدهما خاصة.
الثانية: لو اختلفا في قدر الجعل بأن قال المالك: بذلت خمسين فقال العامل بل مائة مع اتفاقهما على الجنس والوصف وفيه أقوال:
[ 133 ]
أحدها: أن القول قول المالك، فإذا حلف على نفي ما يدعيه العامل يثبت اجرة المثل، وهو قول الشيخ وجماعة. أما تقديم قوله فلان الاختلاف في فعله فيقدم فيه كما يقدم في أصل الجعل، ولانه ينكر ما يدعيه العامل فيكون معه أصالة عدم بذله وبراءة ذمته منه. وأما ثبوت اجرة المثل فلانه قد حلف على نفي ما يدعيه العامل، فإذا انتفى ما يدعيه العامل ولم يثبت ما يدعيه هو يثبت اجرة المثل للاتفاق على وقوع العمل بعوض، واجرة المثل عوض مالا يثبت فيه مقدر. واستوجه هنا جماعة بعد الحلف ثبوت أقل فقد انتفى ما يدعيه العامل بيمين المالك فتثبت اجرة المثل لما ذكر في القول الاول، وإن كان ما يدعيه أقل من الاجرة فلاعترافه بعدم استحقاق الزيادة وبراءة المالك منها فكيف تثبت له ؟ وبهذا تبين لك ضعف إطلاق القول الاول، وهذا الذي اختاره المحقق والعلامة في التذكرة والتحرير وهو ثاني الاقوال في المسألة.
الثالث منها: تقديم قوله لكن يثبت مع يمينه أقل الامرين من اجرة المثل ومدعى العامل وإكثر الامرين منها ومن مدعى المالك. أما الاولان فقد تبين وجههما، وأما الاخير فلان ما يدعيه المالك إن كان أكثر من اجرة المثل فهو يعترف بثبوته في ذمته للعامل فيؤاخذ بإقراره والعامل لا ينكره وقد ثبت باتفاقهما وبهذا يظهر قوة هذا القول على الاولين. لكن يبقى الاشكال فيهما من حيث توقف ثبوت ذلك على يمين المالك، لانه مع مساواة ما يعترف فيه المالك من اجرة المثل أو زيادته عليها لا يظهر لليمين فائدة لانه ثابت باتفاقهما من غير يمين، واليمين لا يثبت غيره فلا فائدة فيها. وأما مع نقصان ما يدعيه من اجرة المثل فقد تظهر فائدة يمينه في إسقاط الزائد عنه فيما يدعيه فيتجه يمينه لذلك.
الرابع: تقديم قول المالك إلا إن الثابت بيمينه هو ما يدعيه لااجرة المثل
[ 134 ]
ولا الاقل، وهو قول الشيخ نجيب الدين محمد بن نما شيخ المحقق – رحمة الله -. ووجهه أنهما قد اتفقا على وقوع العقد وتشخصه بأحد العوضين، فإذا انتفى أحدهما وهو ما يدعيه العامل بيمين المالك ثبتت الاجرة لاتفاقهما على انتفائه ما سواه مضافا إلى أصالة براءة ذمته من الزائد عما يعترف به كما يقدم قول المستأجر في نفي الزائد من مال الاجارة. وبهذا يظهر جواب ما أورده عليه المحقق ونسبه بسببه إلى الخطأ من حيث إن المالك إنما يحلف على نفي ما يدعيه العامل لا على إثبات ما يدعيه هو فكيف يثبت مدعاه ؟ واجيب إنما ثبت بالانحصار المتفق عليه وكونه منكرا للزائد أو قد حلف على يمينه، وهو أقوى، وهو خيرة أول الشهيدين في الدروس.
الخامس: إنما يتحالفان لان كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فلا ترجيح لاحدهما فيحلف كل منهما على نفي ما يدعيه الاخر، ولان العقد الذي تشخص بالذي يدعيه المالك غير العقد الذي تشخص بما يدعيه العامل فكان الاختلاف فيه كالاختلاف في الجنس. وذهب إلى هذا القول العلامة في القواعد وتنظر فيه المحقق الثاني في شرحه على القواعد، وتبعه ثاني الشهيدين في المسالك بأن العقد متفق عليه عليه وإنما الاختلاف في زيادة العوض ونقصانه، فكان كالاختلاف في قدر الثمن في المبيع وقدر الاجرة في الاجارة. والقدر الذي يدعيه المالك متفق على ثبوته فيهما وإنما الاختلاف في الزائد فيقدم قول منكره، وقاعدة التخالف أن لا يجتمعا على شئ بل كل منهما منكر لما يدعيه الاخر. ثم إنه على تقدير التحالف اختلفوا ما الذي يثبت بعده ؟ وفيه الاوجه المتقدمة من اجرة المثل والاقل، واختار في القواعد ثبوت أقل الامرين ما لم يزد ما ادعاه المالك على اجرة المثل فثبتت الزيادة لما سبق من التقريب والدليل. ويبقى الاشكال في توقف ثبوت ما يدعيه المالك زائدا عن اجرة المثل أو مساويا
[ 135 ]
على اليمين كما مر. وإن اختلفا في جنس الجعل بأن قال العامل: قد جعلت دينارا وقال المالك: بل درهما ففيه قولان:
(أحدهما) وهو الذي قطع به المحقق وقبله الشيخ وجماعة تقدم قول المالك أيضا لان قوله في أصله، فكذا في جنسه وقدره لانه تابع له ولانه اختلاف في فعله فيرجع إليه فيه.
(والثاني) التحالف، فينتفي كل منهما بيمين الاخر ثم الرجوع إلى اجرة المثل لان كلا منهما منكر لما يدعيه الاخر، وليس هناك قدر يتفقان عليه ويختلفان فيما زاد عليه، بل مجموع كل ما يدعيه كل منهما ينكره الاخر وهي قاعدة التحالف، وهذا هو القول الاصح. وعلى الاول فإذا حلف المالك ثبتت اجرة المثل عند الشيخ، وأقل الامرين عند المحقق وأقلهما ما لم يزد ما ادعاه المالك عند العلامة، والاقوى تفريعا على ذلك ثبوت اجرة المثل مطلقا مع مغايرتها جنسا لما اختلفا في تعيينه، ومع موافقتها لدعوى العامل جنسا فأقل الامرين أوجه ومع موافقتها لدعوى المالك خاصة بأن كان النقد الغالب الذي يثبت به اجرة المثل هو الذي يدعيه المالك فثبوت الزائد عليه عن اجرة المثل إذا كان مدعاه الازيد أجود وما أخذ كل من الدعويين باعتبار القيمة ونسبتها إلى اجرة المثل، وإثبات الاقل أو الاكثر بعيد لعدم اتفاقهما على ما يوجب إلزامهما بالزائد بخلاف الموافق في الجنس.
الثالثة: لو اختلفا في السعي وعدمه بأن قال المالك: قد حصل في يدك قبل الجعل فلاجعل لك وقال العامل: بل بعده فلي الجعل فالقول قول المالك تمسكا بالاصل. وهذا مبني على ما تقدم من أنه إذا حصل بيده الابق قبل الجعل لا يستحق عليه شيئا وإن رده لوجوب الرد عليه، فإذا ادعاه المالك فقد أنكر استحقاقه الجعل وحصوله في يده قبله وإن كان خلاف الاصل، إلا أن الاصل براءة ذمة المالك أيضا، فلذلك قدم قوله.
[ 136 ]
ولو فرض تعارض الاصلين وتساقطهما لم يبق دليل على ثبوت شئ للعامل للشك في سببه وفي معنى حصوله في يده قبل الجعل حصوله بعده وقبل عمله به، وحصوله فيها من غير سعي مطلقا لانتفاء الاستحقاق على العمل ووجوب تسليمه حينئذ. وعلى ما تقدم نقله عن العلامة في التذكرة من أنه إذا حصل بيده قبل الجعل وتوقف تسليمه على مؤونة فإنه يستحقها، فلايتم هذا لاختلاف لاستحقاقه لها على التقديرين، وهذا منتهى كتاب الجعالة ويتلوه كتاب الايمان والنذور والعهود.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *