ج1 - في الماء المشتبه
المقام الثاني
في الماء المشتبه
وفيه صور :
(الأولى) ـ اشتباه الطاهر بالنجس ، والظاهر انه لا خلاف
بين ، الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان الماء إذا كان طاهرا وهو في إناء واشتبه
بماء نجس في إناء آخر فإنه يجب اجتنابهما معا ، نقل الإجماع على ذلك جماعة من
أجلاء الأصحاب منهم : الشيخ في الخلاف والمحقق في المعتبر والعلامة في المختلف.
واحتج في المعتبر ـ بعد نقل الاتفاق ـ بان يقين الطهارة
في كل منهما معارض بيقين النجاسة ، ولا رجحان ، فيتحقق المنع.
وأورد عليه في المعالم بان يقين الطهارة في كل واحد
بانفراده إنما يعارضه الشك في النجاسة لا اليقين.
ونقل السيد السند في المدارك عن العلامة انه احتج في
المختلف ايضا على ذلك بان اجتناب النجس واجب قطعا ، وهو لا يتم إلا باجتنابهما معا
، وما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب.
واعترضه بان اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلا مع تحققه
بعينه لا مع الشك فيه. واستبعاد سقوط حكم هذه النجاسة شرعا ـ إذا لم تحصل المباشرة
بجميع ما وقع فيه الاشتباه ـ غير ملتفت اليه ، وقد ثبت نظيره في حكم واجدي المني
في الثوب المشترك ، واعترف به الأصحاب في غير المحصور ايضا. والفرق بينه وبين
المحصور غير واضح عند التأمل. انتهى. وقد تقدمه في هذا الكلام شيخه المولى
الأردبيلي. وقد جرى
على هذا المنوال جملة ممن تأخر عنه من
علمائنا الأبدال. وما نقله (قدسسره) عن المختلف
لم نجده فيه في المسألة المذكورة ولعله في موضع آخر منه.
والتحقيق في هذا المقام ـ على ما يستفاد من أخبار أهل
الذكر (عليهمالسلام) ـ انه لا
يخفى ـ على من خلع عنقه من ربقة التقليد للرجال واعطى النظر حقه فيما ورد عن الآل
في هذا المجال ـ ان الشارع كما حكم بالنجاسة والحرمة فيما تحقق كونه نجسا أو حراما
، كذلك اعطى المشتبه بكل منهما في الافراد المحصورة حكم ما اشتبه به من النجاسة أو
التحريم ايضا ، بخلاف غير المحصورة ، فإنه حكم بطهر الجميع وحله دفعا للحرج
والمشقة والتكليف بما لا يطاق.
وحيث ان المسألة المذكورة مما لم يعطها حقها من التحقيق
أحد من الأصحاب ، ولم يميز القشر منها من اللباب ، مع تكثر أفرادها في الأحكام ،
فحري بنا ان نطيل فيها الكلام بما يقشع عنها غياهب الظلام ، ونبين ما في كلام
هؤلاء الاعلام من سقوط ما اعترضوا به في المقام.
فنقول (أولا) ـ لا يخفى ان القواعد الكلية الواردة عنهم (عليهمالسلام) في الأحكام
الشرعية ، كما تكون باشتمال القضية على سؤر الكلية ، كذلك تحصل بتتبع الجزئيات
الواردة عليهم (عليهمالسلام) كما في
القواعد النحوية. وما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حكم المحصور وغير
المحصور ـ مما اشتبه بالنجس أو الحرام ، حيث حكموا بالنجاسة والتحريم في الأول دون
الثاني ـ وان كان لم يرد في الاخبار بقاعدة كلية إلا أن المستفاد منها ـ على وجه
لا يزاحمه الريب في خصوصيات الأفراد التي تصلح للاندراج تحت كل من قاعدتي المحصور
وغير المحصور ـ هو ما ذكروه ، بل في بعض تلك الأخبار ـ كما سيأتيك ان شاء الله
تعالى ـ تصريح بكلية الحكم في بعض تلك الموارد.
وها أنا اذكر لك ما وقفت عليه من المواضع المتعلقة بكل
من تلك القاعدتين
ومما دل على حكم المحصور ـ وانه يلحق المشتبه فيه حكم ما
اشتبه به من نجاسة أو تحريم ـ ما نحن فيه من مسألة الإناءين ، فقد روى عمار في
الموثق عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه «سئل عن
رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء
غيره. قال : يهريقهما ويتيمم» (1) ومثله روى سماعة في الموثق عنه (عليهالسلام) (2) فإنهما كما ترى
صريحان في الحكم المذكور.
وطعن جملة من متأخري المتأخرين في الخبرين بضعف السند
بناء على الاصطلاح المحدث بينهم. وقد عرفت ما في هذا الاصطلاح في المقدمة الثانية
من مقدمات الكتاب. وبعض منهم جبر ذلك بقول الأصحاب للروايتين المذكورتين. وجملة
منهم انما اعتمدوا في هذا الباب على الإجماع المنقول في المسألة. والكل بمكان من
الضعف.
ومن ذلك الثوب الطاهر المشتبه بثوب آخر نجس ، فإنه لا
خلاف بين الأصحاب ـ (رضوان الله عليهم) ممن منع الصلاة عاريا ـ في انه يجب الصلاة
فيهما على جهة البدلية ، حتى من أولئك الفضلاء المنازعين في هذه المسألة ، ولم
يجوز أحد منهم الصلاة في واحد خاصة ، مع ان مقتضى ما قالوه في هذه المسألة جواز
ذلك.
ويدل على الحكم المذكور من النصوص حسنة صفوان بن يحيى عن
ابي الحسن (عليهالسلام) (3) انه «كتب إليه
يسأله عن رجل كان معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيهما هو ، وحضرت الصلاة
وخاف فوتها ، وليس عنده ماء ، كيف
__________________
(1 و 2) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 8 و 12 ـ من أبواب الماء
المطلق ، وفي الباب ـ 4 ـ من أبواب التيمم ، وفي الباب ـ 64 ـ من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 64 ـ من أبواب النجاسات.
والرواية ـ كما في الفقيه ص 161 والتهذيب ص 199 عن ابى الحسن (عليهالسلام) ، ولكن ما وقفنا عليه من نسخ الحدائق
تنص على انها عن ابى عبد الله (عليهالسلام).
يصنع؟ قال : يصلي فيهما جميعا» قال
شيخنا الصدوق (رضياللهعنه) في الفقيه
بعد نقل الرواية : «يعني على الانفراد».
قال في المدارك ـ بعد ان نقل القول بذلك عن الشيخ وأكثر
الأصحاب وقال : انه المعتمد. ونقل عن بعض الأصحاب انه يطرحهما ويصلي عريانا ـ ما
صورته : «ومتى امتنع الصلاة عاريا ثبت وجوب الصلاة في أحدهما أو في كل منهما ، إذ
المفروض انتفاء غيرهما. والأول منتف ، إذ لا قائل به ، فيثبت الثاني ، ويدل عليه
ما رواه صفوان.» ثم ساق الرواية.
وأقول : أنت خبير بما فيه ، فان مقتضى ما ذكره في مسألة
الإناءين واختاره فيها ـ وما ذكره أيضا في مسألة السجود مع حصول النجاسة في
المواضع المتسعة ، حيث قال بعد البحث في المسألة : «والذي يقتضيه النظر عدم الفرق
بين المحصور وغيره ، وانه لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة
إذا لم يستوعب المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه» انتهى ـ انه يجزي هنا الصلاة
في ثوب واحد. وتوقف القول به على وجود القائل جار في الموضعين الآخرين. فإنه لم
يخالف في تلك المسألتين أحد سواه ، ومن حذا حذوه واقتفاه.
والجواب عنه ـ بوجود النص المعتمد في الثوب النجس
المشتبه وعدم وجوده هناك ، لضعف النص في مسألة الإناءين ، وعدم النص في مسألة
السجود ـ ضعيف :
(أولا) ـ بأنه بالتأمل في النصوص الواردة في الأحكام
المتفرقة وضم بعضها الى بعض ـ كما سنوضحه ان شاء الله تعالى ـ يعلم ان ذلك حكم
كلي.
و (ثانيا) ـ ان ما ذكره من التعليل في الموضعين يعطي كون
الحكم عنده كليا في مسألة الطاهر المشتبه بالنجس مطلقا لا بخصوص تلك المسألتين.
ومن ذلك ـ الثوب النجس بعضه مع وقوع الاشتباه في جميع
اجزاء الثوب ، فإنه لا خلاف بين الأصحاب ـ حتى من هذا الفاضل ومن تبعه ـ في انه لا
يحكم بطهارة
الثوب إلا بغسلة كملا ، وبه استفاضت
الأخبار.
ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) انه قال في
المني يصيب الثوب : «فان عرفت مكانه فاغسله. وان خفي عليك فاغسله كله».
ومثلها صحيحة زرارة (2) وحسنة محمد بن
مسلم (3) ورواية ابن ابي
يعفور (4) وغيرها.
قال السيد في المدارك بعد نقل عبارة المصنف في ذلك : «هذا
قول علمائنا وأكثر العامة (5) قاله في
المعتبر ، واستدل عليه بان النجاسة موجودة على اليقين ، ولا يحصل اليقين بزوالها
إلا بغسل جميع ما وقع فيه الاشتباه ، ويشكل بان يقين النجاسة يرتفع بغسل جزء مما
وقع فيه الاشتباه يساوي قدر النجاسة وان لم يحصل القطع بغسل ذلك المحل بعينه»
انتهى.
وفيه (أولا) ـ ان الظاهر ان ما ذكره المحقق (قدسسره) من التعليل
__________________
(1 و 4) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 و 16 ـ من أبواب
النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 و 9 ـ من أبواب النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 و 16 ـ من أبواب
النجاسات.
(5) في بدائع الصنائع في الفقه الحنفي ج 1 ص 81 «لو ان ثوبا
أصابته النجاسة وهي كثيرة ، فجفت وخفي مكانها وذهب أثرها غسل جميع الثوب ، ولو
أصابت أحد الكمين ولا يدرى أيهما هو ، غسل جميعهما. والقول بغسل موضع من الثوب
والحكم بطهارة الباقي غير سديد ، لان موضع النجاسة غير معلوم ، وليس البعض بأولى
من البعض» وفي مجمع الانهر لشيخزاده الحنفي ج 1 ص 64 «لو تنجس طرف من الثوب فنسي
المحل المصاب بالنجاسة وغسل طرفا بلا تحر حكم بطهارته ، وفي متفرقات ركن الإسلام
لا يطهر وان تحرى ، وفي شرح الطحاوي إذا خفي موضع النجاسة يغسل جميع الثوب» وفي
فتح القدير لابن همام الحنفي ج 1 ص 132 عن الظهيرية «الثوب تكون فيه النجاسة فلا
يدرى مكانها ، يغسل الثوب كله» وفي الأم للشافعي ج 1 ص 47 «كل ما أصاب الثوب من
غائط رطب أو بول أو دم أو خمر فاستيقنه صاحبه فعليه غسله ، وان أشكل عليه موضعه لم
يجزه إلا غسل الثوب كله».
ـ هنا وفي مسألة الإناءين بل في سائر
المواضع ـ إنما هو على جهة التوجيه للنص وبيان حكمه الأمر فيه ، لانه مع وجود النص
فلا ضرورة تلجئ إلى التعليل بالوجوه العقلية. على ان أحكام الشرع توقيفية لا تعلل
بالعقول ، كما أطال به المحقق الكلام في أول كتاب المعتبر وغيره في غيره ، وحينئذ
فلا اشكال. نعم هذا الاشكال موافق لما اختاره في ذينك الموضعين المتقدمين ، ولكنه
وارد عليه في هذا الموضع ، حيث ان مقتضى ما اختاره ثمة الاكتفاء بغسل جزء من الثوب
كما ذكره ، ولكن النصوص تدفعه ، وهو دليل على ما ادعيناه وصريح فيما قلناه.
و (ثانيا) ـ انه متى كان يقين النجاسة هنا يرتفع بغسل
جزء مما وقع فيه الاشتباه ـ بمعنى انا لا نقطع حينئذ ببقاء النجاسة ، لجواز كونها
في ذلك الجزء الذي قد غسل ـ فانا نقول ايضا مثله في مسألة الإناءين : انه بعد وقوع
النجاسة في واحد منهما لا على التعيين فقد زال يقين الطهارة الحاصل أولا عن كل من
ذينك الإناءين ، وهكذا في الثوب والمكان المحصورين ، فإنه قد تساوى احتمال الملاقاة
وعدم الملاقاة في كل جزء جزء من تلك الاجزاء المشكوك فيها ، وهذا القدر يكفي في
زوال ذلك اليقين الحاصل قبل الملاقاة والخروج عن مقتضاه.
ومن ذلك ـ اللحم المختلط ذكية بميتة ، فقد ذهب الأصحاب
إلى تحريم الجميع من غير خلاف ، وعليه دلت الأخبار :
و (منها) ـ حسنة الحلبي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) انه «سئل عن
رجل كانت له غنم وبقر وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة ، ثم ان الميتة
والذكي اختلطا فكيف يصنع؟ قال : يبيعه ممن يستحل الميتة ويأكل ثمنه». ومثلها
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب (ان الميتة إذا اختلطت
بالمذكى جاز بيع الجميع ممن يستحل الميتة وأكل ثمنه) من أبواب الأطعمة المحرمة من
كتاب الأطعمة والأشربة.
حسنته الأخرى (1) أيضا. ويأتي ـ
بمقتضى ما ذكره السيد ومن تبعه ـ ان كل قطعة لاحظناها من هذا اللحم فهي حلال لا
يحكم بنجاستها ولا تحريم أكلها ، لأن الواجب إنما هو اجتناب ما تحقق تحريمه بعينه
لا ما اشتبه بالحرام ، والنصوص تدفعه. ولو قيل : انه يتمسك هنا بأصالة عدم
التذكية. قلنا : يعارضه التمسك بأصالة الطهارة وأصالة الحلية.
ومما ورد في حكم غير المحصور جملة من الأخبار في مواضع :
(منها) ـ الأخبار الدالة على ان كل شيء طاهر حتى تعلم
انه قذر (2) فان القدر
المعلوم منها ـ كما مر تحقيقه في المقدمة الحادية عشرة ـ ان كل صنف يكون فيه طاهر
ونجس ـ كالدم والبول وأمثالهما مما لم يميز الشارع بين فرديه بعلامة ـ فهو طاهر
حتى يعلم انه من الفرد النجس ، وفيه ـ كما ترى ـ دلالة على حكم غير المحصور بوجه
كلي.
و (منها) ـ الأخبار الدالة على ان كل شيء فيه حلال
وحرام فهو لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه (3).
ومنها ـ صحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (4) انه
__________________
(1) المروية في الوسائل في باب (ان الميتة إذا اختلطت بالمذكى
جاز بيع الجميع ممن يستحل الميتة وأكل ثمنه) من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب
الأطعمة والأشربة.
(2) تقدم بعضها في الصحيفة 134 ، وسيذكرها (قدسسره) في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة
الثانية من البحث الأول من أحكام النجاسات.
(3) تقدم ذكرها في قاعدة الحل في الصحيفة 140.
(4) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ. ولكن هذه الرواية ـ كما في
كتب الحديث ـ هي رواية عبد الله بن سليمان عن ابى جعفر (عليهالسلام) المتقدمة في قاعدة الحل في الصحيفة
141 وقد رواها الكليني في الكافي ج 2 ص 175. نعم الراوي عن عبد الله بن سليمان هو
عبد الله بن سنان. كما في المحاسن ايضا ج 2 ص 495 وقد رواها صاحب الوسائل في الباب
ـ 61 ـ من أبواب الأطعمة المباحة من كتاب الأطعمة والأشربة. ولم نجد في كتب الحديث
ـ بعد التتبع
«سأل عن الجبن. فقال : سألتني عن طعام
يعجبني ، ثم اعطى الغلام درهما فقال : يا غلام ابتع لنا جبنا ، ثم دعى بالغداء
فتغدينا معه ، فاتى بالجبن فأكل وأكلنا ، فلما فرغنا من الغداء قلت : ما تقول في
الجبن؟ قال : أو لم ترني أكلته؟ قلت : بلى ولكني أحب ان أسمعه منك. فقال : سأخبرك
عن الجبن وغيره ، كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه
فتدعه».
وما رواه في كتاب المحاسن (1) عن ابي
الجارود ، قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الجبن ،
فقلت له : أخبرني من رأى انه يجعل فيه الميتة. فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه
الميتة حرم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنه ميتة فلا تأكل ، وان لم تعلم فاشتر وبع
وكل ، والله انى لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظن كلهم
يسمون هذه البربر وهذه السودان». الى غير ذلك من الأخبار التي لا يأتي عليها قلم
الإحصاء في هذا المضمار.
وأنت خبير بان الحكم الوارد في هذه الأخبار على وجه كلي
، فكل شيء من الأشياء متى كان له افراد بعضها معلوم الحل وبعضها معلوم الحرمة.
ولم يميز الشارع أحدهما بعلامة ، وتلك الافراد مما يتعسر أو يتعذر ضبطها ـ كما
أشار إليه في رواية المحاسن بقوله : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع
الأرضين» ـ فالجميع حلال حتى يعرف الحرام بعينه فيجتنبه. وهذا من التوسعات والرخص
الواقعة في الشريعة المبنية على السهولة ، لرفع الحرج والمشقة اللازمين بوجوب
التكليف باجتناب ذلك ، بخلاف الافراد المحصورة ، فإنه لا حرج في التكليف
__________________
في المظان صحيحة لعبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) بهذا المتن. نعم لعبد الله بن سنان
صحيحة تتضمن الكلية المتقدمة في رواية عبد الله بن سليمان فقط ، وقد تقدمت في
الصحيفة 140.
(1) في الصحيفة 495 ، وفي الوسائل في الباب ـ 61 ـ من أبواب
الأطعمة المباحة من كتاب الأطعمة والأشربة.
باجتنابها كما لا يخفى. وهذه الاخبار
كما انها تدل على حكم غير المحصور بالنسبة إلى اشتباه الحلال بالحرام كذلك تدل
عليه بالنسبة إلى اشتباه الطاهر بالنجس ، فان التحريم الذي حصل الاشتباه به إنما
نشأ من حيث النجاسة كما لا يخفى.
و (منها) ـ جوائز الظالم ، فإنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) في حلها وجواز أكلها ، مع العلم واليقين بكون أكثرها حراما ، وبه
استفاضت الأخبار :
ومنها ـ صحيحة أبي ولاد (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : ما ترى في
رجل يلي أعمال السلطان ، ليس له مكسب إلا من أعمالهم ، وانا أمر به فانزل عليه
فيضيفني ويحسن إلي ، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة ، وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال
لي : كل وخذ منه فلك المهنا وعليه الوزر».
هذا ما خطر بالبال مما يدخل في هذا المجال.
وبذلك يتضح لك ما في كلام المحدث الكاشاني في المفاتيح
والفاضل الخراساني في الكفاية ، حيث ذهبا الى حل ما اختلط بالحرام وان كان محصورا
، استنادا إلى صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (2).
وفيه (أولا) ـ انك قد عرفت بمعونة ما قدمناه ان مورد
الرواية ـ كما هو ايضا مقتضى سياقها ـ إنما هو الأفراد الغير المحصورة ، وان ذلك
قاعدة كلية في الطهارة والنجاسة والحل والحرمة.
و (ثانيا) ـ ان الاخبار الدالة على وجوب الاجتناب للحرام
ـ عموما وخصوصا ـ متناولة لما نحن فيه ، وهو لا يتم هنا إلا باجتناب الجميع.
و (ثالثا) ـ ان جملة من الأخبار قد صرحت بالتحريم في
خصوص المحصور ،
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب (ان جوائز الظالم وطعامه
حلال. إلخ) من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة.
(2) راجع التعليقة 4 في الصحيفة 508.
كروايتي الحلبي المتقدمتين في اللحم
المختلط ذكية بميتة كما تقدم (1).
وما رواه الشيخ في التهذيب (2) بسنده عن ضريس
الكناسي قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن السمن
والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أناكله؟ فقال : اما ما علم انه قد خلطه الحرام
فلا تأكل ، واما ما لم تعلم فكله حتى تعلم انه حرام».
وما رواه عبد الله بن سنان (3) عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) قال : «كل شيء
لك حلال حتى يجيئك شاهدان ان فيه ميتة».
والجميع ـ كما ترى ـ صريح في الحكم بالتحريم. ولا ريب ان
طريق الجمع ـ بينها وبين صحيحة عبد الله بن سنان (4) وما في معناها
ـ إنما يتم بالحمل على الفرق بين المحصور وغير المحصور ، كما يقتضيه سياق كل من
تلك الاخبار. وسيجيء تحقيق هذه المسألة ان شاء الله تعالى وإعطاء البحث حقه مع
هذين الفاضلين في محله.
وبالجملة فإنك إذا أعطيت التأمل حقه فيما نقلنا من
الاخبار خاصها وعامها وضممت بعضها الى بعض ، فلا أراك تستريب فيما ذكرنا من صحة
تلك الكليتين وظهور تلك القاعدتين ، اعني كليتي المحصور وغير المحصور ، وان
الاخبار الدالة بعمومها على طهارة كل شيء حتى تعلم نجاسته وحلية كل شيء حتى تعلم
حرمته مقيدة باخبار
__________________
(1) في الصحيفة 507.
(2) في ج 2 ص 302 وفي الوسائل في باب (حكم السمن والجبن
وغيرهما إذا علم انه خلطه حرام) من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة
والأشربة.
(3) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة. والذي
وجدناه في كتب الحديث بهذا المضمون هي رواية عبد الله بن سليمان عن ابى عبد الله (عليهالسلام) في الجبن قال : «كل شيء لك حلال حتى
يجيئك شاهدان يشهدان عندك ان فيه ميتة». وقد رواها في الوسائل في الباب ـ 61 ـ من
أبواب الأطعمة المباحة.
(4) راجع التعليقة 4 في الصحيفة 508.
المحصور طهارة ونجاسة وحلية وحرمة.
ومن القواعد المتفق عليها عندهم تقديم العمل بالخاص ، وحينئذ فتخصيص اخبار أصالة
يقين الطهارة وأصالة يقين الحلية بغير موضع الاشتباه في الأشياء المعلومة بشخصها ،
فتأمله بعين البصيرة وتناوله بيد غير قصيرة ، ليظهر لك ما في الزوايا من الخبايا.
هذا. وما أورده في المعالم على المحقق فيندفع بما أشرنا
إليه آنفا من انه قد حصل لنا اليقين بنجاسة بعض تلك الأشياء المعلومة بشخصها ،
وهذا اليقين أوجب حدوث حالة متوسطة بين الطهارة والنجاسة ، وحينئذ فهو من باب نقض
اليقين بيقين مثله.
واما ما ذكره السيد السند ـ من ان اجتناب النجس لا يقطع
بوجوبه الا مع تحققه بعينه ـ فمردود بأن الاخبار كما دلت على وجوب الاجتناب مع
اليقين دلت على وجوب الاجتناب مع الاشتباه بمحصور. وقياسه هذه المسألة ونحوها على
مسألة واجدي المني في الثوب المشترك قياس مع الفارق ، لوجود النصوص الدالة على
الاجتناب في هذه المسألة ونظائرها ، وعدم النص في تلك المسألة على ما ذكروه فيها
من الأحكام.
وسيأتي ان شاء الله ما فيه تحقيق الحال ودفع الإشكال في
المسألة المذكورة.
وينبغي التنبيه هنا على فوائد :
(الاولى) ـ لو لاقى هذا الماء شيئا طاهرا فهل يحكم
بنجاسته أم لا؟ قولان مبنيان على ان هذا الماء هل يكون حكمه حكم النجس من كل وجه
أو بالنسبة الى عدم الاستعمال في الطهارة خاصة؟
وبالأول صرح العلامة في المنتهى ، فقال : «لو استعمل أحد
الإناءين وصلى به لم تصح صلاته ، ووجب عليه غسل ما اصابه المشتبه بماء متيقن
الطهارة كالنجس» ثم نقل عن بعض العامة انه نفى وجوب الغسل عنه ، معللا بان المحل
طاهر بيقين فلا يزول بالشك في النجاسة. وأجاب عنه بأنه لا فرق في المنع بين يقين
النجاسة وشكها هنا وان فرق بينهما في غيره.
وبالثاني صرح جملة من المتأخرين ومتأخريهم : منهم ـ السيد
السند في المدارك وجده في الروض.
واحتج عليه في المدارك بان احتمال ملاقاة النجاسة لا
يرفع يقين الطهارة ، فقال ـ في رد كلام العلامة بأن المشتبه بالنجس حكمه حكم النجس
ـ ما صورته : «وضعفه ظاهر ، للقطع بان موضع الملاقاة كان طاهرا في الأصل ، ولم
يعرض له ما يقتضي ظن ملاقاته للنجاسة فضلا عن اليقين. وقولهم بان المشتبه بالنجس
حكمه حكم النجس لا يريدون به من جميع الوجوه ، بل المراد صيرورته بحيث يمنع
استعماله في الطهارة خاصة. ولو صرحوا بإرادة المساواة من كل وجه كانت دعوى خالية
من الدليل» انتهى وأنت خبير بأنه بمقتضى ما نقلنا من الأخبار المتعلقة بحكم
المشتبه في الأفراد المحصورة مما ورد في هذه المسألة ونظائرها ، وان ذلك قاعدة
كلية. إعطاء المشتبه بالنجس حكم النجس على التفصيل الآتي ، والمشتبه بالحرام حكم
الحرام كذلك ، ألا ترى ان ملاقاة النجاسة لبعض الثوب مع الاشتباه بباقي اجزائه
موجب لغسله كملا كما تقدم في الأخبار. ومن الظاهر انه لا وجه لذلك إلا توقف يقين
طهارته الموجب لإجراء حكم الطاهر عليه ـ من صحة الصلاة فيه ومنع تعدي حكم النجاسة
منه الى ما يلاقيه برطوبة ـ على ذلك ، وبمقتضى ما ذهب اليه ـ من حكمه في هذه
المسألة بعدم وجوب تطهير الملاقي لهذا الماء ـ انه لا يجب تطهير ما لاقى بعض اجزاء
هذا الثوب برطوبة ، مع ان ظاهر النصوص الواردة بوجوب تطهيره كملا يدفعه ، لأن
إيجاب الشارع تطهيره كملا دال على ترتب حكم النجس عليه قبل التطهير. إلا ان هؤلاء
الفضلاء لما كان نظرهم في المسألة مقصورا على الموثقتين الواردتين فيها (1) ـ وهما إنما
تضمنتا المنع من الاستعمال في الطهارة خاصة ، مع كون الحكم فيهما جاريا على خلاف
__________________
(1) وهما موثقتا عمار وسماعة المتقدمتان في الصحيفة 504.
القوانين المقررة ـ اقتصروا على
موردهما على تقدير العمل بهما. وحينئذ فما ذكره العلامة في المنتهى من ان المشتبه
بالنجس حكمه حكم النجس ، ان أراد به من جميع الوجوه فهو مردود بحسنة صفوان (1) الواردة في
الثوبين المشتبه طاهرهما بنجسهما ، إذ لا تكرر الصلاة في الثوبين النجسين ولا
الطاهرين ، وان أراد من بعض الوجوه التي من جملتها ملاقاته برطوبة فصحيح.
وبالجملة فإن للمشتبه في هذه المسألة وأمثالها حالة
متوسطة ، فمن بعض الجهات ـ كالأكل والشرب والملاقاة برطوبة ـ حكمه حكم النجس ، ومن
بعض الجهات ـ كالصلاة في الثوبين المشتبهين باعتبار تكرارها فيهما ـ له حالة
ثالثة. والى ذلك يميل كلام المحدث الأسترآبادي (قدسسره) في كتاب
الفوائد المدنية في مسألة ما لو تنجس الماء مع الشك في بلوغه الكرية ، حيث قال ـ بعد
ان اختار فيه التوقف عن الحكم بالطهارة والنجاسة ـ ما صورته : «ثم اعلم ان هنا
أقساما ثلاثة : المحكوم عليه بالطهارة والمحكوم عليه بالنجاسة والمحكوم عليه بوجوب
التوقف عن الحكمين وبوجوب الاجتناب ومن المعلوم ان الملاقي لأحد الثلاثة حكمه حكم
أحد الثلاثة» انتهى.
والعجب منهم (نور الله تعالى مراقدهم) فيما ذهبوا اليه
هنا من الحكم بطهارة ما تعدى اليه هذا الماء. مع اتفاقهم ظاهرا في مسألة البلل
المشتبه الخارج بعد البول وقبل الاستبراء على نجاسة ذلك البلل ووجوب غسله. كما
سيأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ الكلام فيه في المسألة المذكورة. والمسألتان من باب واحد
كما لا يخفى.
(الثانية) ـ لو اشتبه ماء إناء طاهر يقينا بأحد الإناءين
، فهل يكون الحكم فيه كالحكم فيما اشتبه به من وجوب الاجتناب. أو يحكم بطهارتهما
معا ، بناء على ان مورد النص إنما هو اشتباه الطاهر يقينا بالنجس يقينا؟
__________________
(1) المتقدمة في الصحيفة 504.
لا ريب ان مقتضى كلام القائلين بتخصيص حكم الاشتباه
بالنجس بالطهارة خاصة دون سائر الاستعمالات هو الثاني. واما على تقدير القول
بإجراء حكم النجس على المشتبه به مطلقا فيحتمل الحكم بوجوب الاجتناب ، لان هذا بعض
الأحكام المترتبة على النجس ، وبذلك صرح العلامة في المنتهى ايضا. واعترضه في
المعالم بان ذلك خارج عن مورد النص ومحل الوفاق ، فلا بد له من دليل. ويحتمل العدم
وقوفا على مورد النص كما عرفت. والاحتياط لا يخفى.
(الثالثة) ـ نص كثير من الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ كالشيخين
والفاضلين وغيرهما ـ على عدم الفرق في وجوب الاجتناب مع الاشتباه بين ما لو كان
الماء في إناءين أو أكثر. بل نبه بعضهم على عدم الفرق بين كون ذلك إناءين أو
غديرين.
قال في المعالم ـ بعد نقل ذلك عنهم ، والاعتراض بان
الحديثين اللذين احتجوا بهما للحكم (1) إنما وردا في الإناءين ـ ما صورته : «ولو
تم الاحتجاج بالاعتبارات التي ذكروها لكانت دليلا في الجميع ، واما النص فخاص كما
علم ، فتتوقف التسوية التي ذكروها على الدليل ، ولعله الاتفاق مضافا الى الاعتبار»
انتهى. وعلى هذا الكلام جرى جملة ممن تأخر عنه.
وفيه ما قد عرفت من ان نظرهم لما كان مقصورا على الخبرين
المذكورين ـ مع ما عرفت من طعنهم فيهما ومناقشتهم في أصل المسألة ـ كان التعدي عن
موردهما يحتاج الى دليل.
ومن سرح بريد نظره فيما حققناه وتأمل ما شرحناه عرف ان
الحكم في ذلك أمر كلي وقاعدة مطردة لا يداخله شوب الإشكال في تعدي الحكم الى ما
ذكره أولئك الفضلاء. على ان التخصيص بالإناءين إنما وقع في كلام السائل ، وخصوص
السؤال لا يخصص كما تقرر عندهم.
__________________
(1) وهما موثقا عمار وسماعة المتقدمان في الصحيفة 504.
(الرابعة) ـ هل الأمر بالإراقة في النص (1) على جهة
الوجوب أم لمجرد الإباحة؟ ظاهر كلام الشيخين والصدوقين (عطر الله مراقدهم) الأول ،
إلا ان كلام الصدوقين ربما أشعر باختصاص الحكم بحال ارادة التيمم ، حيث قالا في
الرسالة والفقيه : «فان كان معك إناءان فوقع في أحدهما ما ينجس الماء ولم تعلم في
أيهما وقع فأهرقهما جميعا وتيمم» واما كلام الشيخين ـ سيما المفيد في المقنعة ـ فظاهر
في عدم التقييد بذلك ، حيث ذكر انه بعد الإهراق يتوضأ بماء سواهما.
وصريح كلام ابن إدريس ومن تأخر عنه الثاني ، وربما يؤيد
بورود الأمر بالإراقة في جملة من الأخبار ، كما تقدم في أدلة نجاسة الماء القليل
بالملاقاة ، مع انه لم يقل أحد بوجوب الإراقة ثمة ، قال في المعتبر : «وقد يكنى عن
النجاسة بالإراقة في كثير من الأخبار تفخيما للمنع» وهو جيد.
ونقل في المعتبر عن بعض الأصحاب ان علة الأمر بالإراقة
ليصح التيمم ، لانه مشروط بعدم الماء.
ورده بان وجود الماء الممنوع من استعماله لا يمنع التيمم
، كالمغصوب وما يمنع من استعماله مرض أو عدو ، ومنع الشارع أقوى الموانع. وهو
متجه.
وكيف كان فلا يخفى عليك ما في الأمر بالإراقة من الدلالة
على عدم الانتفاع بالماء المذكور وان وجوده في حكم العدم ، وبه يظهر لحوقه للنجس
في جملة أحكامه لا بخصوص الطهارة من الحدث كما ذكره أولئك الفضلاء (رضوان الله
عليهم) لانه متى جاز الانتفاع به في غير الطهارة من أكل وشرب ونحوهما فاراقته مما
يدخل في باب الإسراف المنهي عنه عموما وخصوصا. والحق ان التعبير بإراقته هنا دليل
ظاهر في لحوق أحكام النجس كملا كما لا يخفى.
(الخامسة) ـ قال السيد السند في المدارك بعد الكلام الذي
نقلناه في صدر
__________________
(1) وهو موثق عمار وموثق سماعة المتقدمان في الصحيفة 504.
المسألة : «ويستفاد من قواعد الأصحاب
انه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في الماء وخارجه لم ينجس الماء بذلك ولم يمنع من
استعماله ، وهو مؤيد لما ذكرناه» انتهى. أقول : وجه الفرق بين ما نحن فيه وبين ما
فرضه (قدسسره) ممكن ، فان
مقتضى القاعدة المستفادة من الأخبار بالنسبة إلى الاشتباه في المحصور ان تكون
افراد الاشتباه أمورا معلومة معينة بشخصها وبالنسبة الى غير المحصور ان لا تكون
كذلك ، وما ذكره من الصورة المشار إليها انما هو من الثاني لا الأول. على ان
القاعدة المذكورة إنما تتعلق بالأفراد المندرجة تحت ماهية واحدة ، والجزئيات التي
تحويها حقيقة واحدة ان اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرق فيها بين
المحصور وغير المحصور بما تضمنته تلك الأخبار لا وقوع الاشتباه كيف اتفق.
(السادسة) ـ الظاهر انه لا فرق في ترتب حكم الاشتباه
المذكور بين ان يكون الماءان طاهرين ثم يقع في أحدهما قذر ولا يعلم على التعيين ،
أو يكون أحدهما طاهرا والآخر نجسا ثم يشتبه أحدهما بالآخر ، أو يكونا كذلك ثم
ينقلب أحدهما ويشتبه الباقي بكونه هو الطاهر أو النجس.
(السابعة) ـ لو أمكن الصلاة بطهارة متيقنة من هذين
الماءين بان يتطهر بأحدهما ثم يصلي ثم يغسل أعضاءه مما لاقاه ماء الوضوء ثم يتوضأ
بالآخر ، فهل تصح الصلاة أم لا؟
الذي صرح به جمع من الأصحاب المنع ، وهو الظاهر ، قال في
المعتبر في توجيهه : «لانه ماء محكوم بالمنع منه فجرى استعماله مجرى النجس» انتهى.
وعلله بعضهم بأنه يصدق عليه بعد الطهارة الاولى انه
متيقن الحدث شاك في الطهارة ومن هذا شأنه لا يسوغ له الدخول في الصلاة نصا وإجماعا
، ووضوؤه الثاني يجوز ان يكون بالنجس فيكون قد صلى بنجاسة.
وعلله في المدارك بان هذين الماءين قد صارا محكوما
بنجاستهما شرعا ، واستعمال
النجس في الطهارة مما لا يمكن التقرب
به ، لأنه بدعة. ثم قال : «وفيه ما فيه».
والحق ما علله به في المعتبر. وكيف كان فالظاهر انه لا
خلاف في الحكم المذكور.
(الثامنة) ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم)
بأنه لا يجوز التحري في الاجتهاد بتحصيل الأمارات المرجحة لطهارة أحدهما. وهو كذلك
، لثبوت النهي عن استعمال هذا الماء. والقرينة التي لا تثمر اليقين غير كافية في
الخروج عن عهدة النهي الشرعي.
(الصورة الثانية) ـ الاشتباه بالمغصوب ، وقد صرح جمع من
الأصحاب بأن الحكم فيها كالاشتباه بالنجس.
واستشكله بعض أفاضل متأخري المتأخرين نظرا إلى صحيحة عبد
الله بن سنان (1) الدالة على ان
«كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه». وما في معناها.
وفيه نظر ، فان مورد هذه الرواية وما في معناها ـ كما
عرفت آنفا ـ إنما هو الافراد الغير المحصورة.
وحينئذ فما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو الظاهر ،
وقوفا على القاعدة الواردة في المحصور إذا اشتبه حلاله بحرامه كما عرفت ، فتحريم
الاستعمال مما لا ينبغي ان يستراب فيه.
لكن لو توضأ بهما وارتكب المحرم ، فهل تحصل له طهارة
صحيحة يجوز له الدخول بها في الصلاة أم لا؟
صرح بعض محققي متأخري المتأخرين بالأول ، قال : «لأن
أحدهما ماء
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 4 ـ من أبواب ما يكتسب به ،
وفي باب (حكم السمن والجبن وغيرهما إذا علم انه خلطه حرام) من أبواب الأطعمة
المحرمة. وقد تقدمت في الصحيفة (140).
مباح ولا شك انه قد وقعت الطهارة به ،
فيلزم ان تكون صحيحة» ثم انه اعترض على نفسه بان استعمال كل منهما حرام منهي عنه
والنهي في العبادة موجب للفساد. وأجاب بمنع كون النهي موجبا للفساد في العبادة.
ولم أقف لغيره على كلام في المقام الا ان الموافق لمذاق
الأصحاب بمقتضى القاعدة التي منعها ـ لاتفاقهم على العمل بها ـ هو البطلان.
أقول : ومع الإغماض عن ذلك فيمكن أن يقال :
(أولا) ـ ان التقرب بما نهى الشارع عنه نهى تحريم غير
معقول ، ولعل ذلك هو الوجه في القاعدة التي بنى عليها الأصحاب ، من ان النهى في
العبادة موجب لفسادها.
و (ثانيا) ـ ان هذه المسألة نظير المسألة التي مرت في
الفائدة السابعة. وقد عرفت انه لا خلاف في البطلان ثمة.
و (ثالثا) ـ ان هذا الماء باعتبار تحريم الشارع استعماله
يصير في حكم العدم ، وحينئذ ينتقل الفرض الى التيمم لو لم يوجد غيره ، ولا ريب انه
مع انتقال الفرض الى التيمم فلا يجزي الوضوء ، كما في سائر المواضع التي ينتقل
الفرض فيها الى التيمم وان كان الماء موجودا.
(الصورة الثالثة) ـ الاشتباه بالمضاف. وقد صرح الأصحاب (رضوان
الله عليهم) بأنه يجب الوضوء بكل منهما. وهو كذلك ، فإن المسألة هنا من قبيل
الصلاة في الثوبين المشتبه طاهرهما بنجسهما.
وما يتوهم في مثل هذه المسألة ـ من أنه لا بد من الجزم
بالنية ـ فلا دليل عليه ، بل الدليل قائم على خلافه ، لما ورد (1) من صحة صلاة
من نسي فريضة من الخمس ثنائية
__________________
(1) في روايتي علي بن أسباط والحسين بن سعيد عن ابى عبد الله (عليهالسلام) المرويتين في الوسائل في الباب ـ 11 ـ
من أبواب قضاء الصلوات.
وثلاثية ورباعية مرددة. ومع تسليم ما
ذكروه فهو مخصوص بصورة يتيسر فيها الجزم.
ثم انه هل تصح الطهارة بهذين الماءين المشتبهين مع وجود ماء
غير مشتبه أم لا؟ ظاهر الأصحاب الثاني كما صرح به جملة منهم ، وعلله شيخنا الشهيد
الثاني في الروض بالقدرة على الجزم التام في النية مع استعمال الآخر فلا يصح
بدونه.
ولو انقلب أحدهما فذهب ماؤه ، فالذي صرحوا به انه يجب
الوضوء بالآخر والتيمم مقدما للأول على الثاني.
واعترضه في المدارك بان الماء الذي يجب استعماله في
الطهارة ان كان هو ما علم كونه ماء مطلقا ، فالمتجه الاجتزاء بالتيمم وعدم وجوب
الوضوء به كما هو الظاهر ، وان كان هو ما لا يعلم كونه مضافا اكتفي بالوضوء ،
فالجمع بين الطهارتين غير واضح ومع ذلك فوجوب التيمم إنما هو لاحتمال كون المنقلب
هو المطلق ، فلا يكون الوضوء بالآخر مجزيا ، وهذا لا يتفاوت الحال فيه بين تقديم
التيمم وتأخيره كما هو واضح. انتهى.
وأجيب بأنه لما كان الحكم بالوضوء متعلقا بوجدان الماء
والحكم بالتيمم معلق بعدم وجدانه. فإذا وجد ما يشك في كونه ماء كان كل من وجوب
الوضوء والتيمم مشكوكا. إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر. فيجب الوضوء والتيمم معا
حتى يحصل اليقين بالبراءة. وهو جيد.
ويوضحه انه لما كان هذا الماء بالاشتباه بين ذينك
الفردين تعرض له حالة ثالثة يخرج بها عنهما كالمشتبه بالنجس على ما عرفت تحقيقه آنفا.
فلا يحكم بكونه مضافا ولا مطلقا بل محتمل لهما احتمالا متساوي الطرفين ، فيترتب
عليه ما يترتب على كل منهما من الوضوء والتيمم ، وحينئذ فلا معنى لترتب الحكم فيه
على فرض كون ما يتطهر به ماء مطلقا أو هو ما لا يعلم كونه مضافا كما ذكره المعترض.
نعم ما ذكره من إيجابهم تقديم الوضوء على التيمم لا يظهر له وجه.
(الصورة الرابعة) ـ الاشتباه المستند الى الشك في وقوع
النجاسة أو ظنه ، ولا خلاف في عدم البناء عليه في الأول ، وأولى منه الوهم.
نعم وقع الخلاف في الظن ، فلو ظن وقوع النجاسة في الماء
فهل يعمل عليه مطلقا أو لا مطلقا أو يفصل بين ما يستند الى سبب شرعي أم لا ، فعلى
الأول يكون كالأول وعلى الثاني كالثاني؟ أقوال : وقد تقدم تحقيق البحث في ذلك في
المقدمة الحادية عشرة (1) وأشبعنا
الكلام فيه في كتاب الدرر النجفية. نسأل الله تعالى التوفيق لإتمامه.
نعم يبقى الكلام هنا فيما لو تعارضت البينتان في الماء
بالطهارة والنجاسة ، وله صورتان :
(الاولى) ـ ان يقع التعارض في إناء واحد ، بان تشهد احدى
البينتين بعروض النجاسة له في وقت معين وتشهد الأخرى بعدمه في ذلك الوقت ،
لادعائها ملاحظته في ذلك الوقت والقطع بعدم حصول النجاسة. وقد اختلفت فيه أقوالهم
:
فقيل بإلحاقه بالمشتبه بالنجس ، وهو قول العلامة في
التذكرة والقواعد ، وجعله فخر المحققين في الشرح اولى ، ونقل في المعالم عن والده
انه قواه في بعض فوائده ، وعلله المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بتكافؤ البينتين.
وقيل بالطهارة ، إلا انه اختلف التعليل لذلك ، فبين من
عللها بالعمل ببينة الطهارة لاعتضادها بالأصل ، حكاه فخر المحققين عن بعض الأصحاب.
وبين من عللها بتساقط البينتين والرجوع الى حكم الأصل وهو الطهارة ، ذكره الشهيد
في البيان ، وقال انه قوي بعد ان قرب القول الأول ، ونسبه فخر المحققين الى الشيخ.
وقيل بالعمل ببينة النجاسة ، لأنها ناقلة عن حكم الأصل
وبينة الطهارة مقررة والناقل اولى من المقرر عند التعارض ، كما قرروه في الأصول في
البحث عن تعادل
__________________
(1) في الصحيفة 137.
الأدلة ، ولموافقتها للاحتياط ،
ولأنها في معنى الإثبات والطهارة في معنى النفي ، ويعزى هذا القول الى ابن إدريس ،
ونقل في المعالم عن بعض المتأخرين الميل اليه ، قال : «وهو أحوط غير ان القول
بالطهارة ـ للتساقط ـ أقرب» انتهى.
وما قربه (قدسسره) هو الأنسب
بقواعد الأصحاب ، لتطرق القدح الى ما عداه من الأقوال المذكورة.
(اما الأول) فيرد عليه انه لا دليل عليه ، لان الاشتباه
الملحق به دليله اما النص المتقدم كما حققناه أو الإجماع كما استند اليه آخرون ،
وكل منهما لا يتناول موضع النزاع. وشمول القاعدة المستفادة من النصوص لذلك محل
إشكال ، إذ ظاهر تلك النصوص هو استناد الاشتباه الموجب لاشتباه الحكم الى امتزاج
تلك الافراد واختلاطها على وجه لا يتميز طاهرها من نجسها ولا حلالها من حرامها ،
لا مجرد الاشتباه كيف اتفق. وتكافؤ البينتين ـ كما ذكره المحقق الشيخ علي ـ إنما
يكون موجبا لطرحهما ، لعدم إمكان الترجيح بغير مرجح. لا موجبا للعمل بهما.
و (اما الثاني) ففيه ان ما ذكر من المقدمات المبنى عليها
دليله والتعليلات المذكورة وان ذكرها علماء الأصول إلا انها مما لم يقم على
الاعتماد عليها دليل معتمد ، فلا يخرج عن مجرد التطويل الذي لا يهدي الى سبيل ولا
يشفي العليل ولا يبرد الغليل ، فلا يمكن الاعتماد عليها في تأسيس حكم شرعي. واما
الاحتياط فليس بدليل شرعي عندهم بل غايته ثبوت الأولوية به.
هذا. والتحقيق في المقام ان المسألة لما كانت عارية عن
نصوص أهل الذكر (عليهمالسلام) فالحكم فيها
الوقوف على ساحل الاحتياط ، وهو العمل بالنجاسة ، وان كان القول الثاني ليس بذلك
البعيد باعتبار التعليل الثاني دون الأول ، لتطرق القدح إليه بأنه لا بد في المرجح
من ان يكون مما اعتبره الشارع مرجحا ، ولم يثبت هنا كونه كذلك.
(الصورة الثانية) ـ ان يتعارضا في إناءين ، بأن تشهد
احدى البينتين ، انه هذا وتشهد الأخرى بأنه الآخر.
وقد اختلفت فيها كلمتهم ايضا ، فذهب جمع ـ منهم : المحقق
في المعتبر والعلامة في التحرير والشهيد في الذكرى والشيخ علي في شرح القواعد
والشهيد الثاني في بعض فوائده على ما نقله ابنه عنه في المعالم ـ إلى أنهما
كالمشتبه بالنجس. ونقل عن الشيخ في الخلاف القول بسقوط الشهادتين والرجوع الى أصل
الطهارة.
وقال في المبسوط على ما نقل عنه في المختلف : «لا يجب
القبول سواء أمكن الجمع أو لم يمكن ، والماء على أصل الطهارة أو النجاسة ، فأيهما
كان معلوما عمل عليه.
وان قلنا : إذا أمكن الجمع بينهما قبل شهادتهما وحكم
بنجاسة الإناءين ، كان قويا ، لان وجوب قبول شهادة الشاهدين معلوم في الشرع ،
وليسا متنافيين» انتهى.
وقال العلامة في المختلف : «لو شهد عدلان بان النجس أحد
الإناءين وشهد عدلان بان النجس الآخر ، فان أمكن العمل بشهادتهما وجب ، وان تنافيا
اطرح الجميع وحكم بأصل الطهارة» ثم انه مال في آخر كلامه الى كونهما بمنزلة
الإناءين المشتبهين.
احتج الذاهبون الى القول الأول بأن الاتفاق حاصل من
البينتين على نجاسة أحد الإناءين ، والتعارض إنما هو في التعيين ، فيحكم بما لا
تعارض فيه ، ويتوقف في موضع التعارض.
واحتج الشيخ في الخلاف بان الماء على أصل الطهارة ، وليس
على وجوب القبول من الفريقين ولا من واحد منهما دليل ، فوجب طرحهما وبقي الماء على
حكم الأصل.
واحتج العلامة في المختلف بأنه مع إمكان الجمع يحصل
المقتضي لنجاسة الإناءين فيثبت الحكم ، ومع امتناع الجمع تكون كل واحدة من
الشهادتين منافية للأخرى ،
ويعلم قطعا كذب إحداهما ، وليس تكذيب
واحدة منهما بعينها اولى من تكذيب الأخرى. فيجب طرح الجميع والرجوع الى الأصل وهو
الطهارة.
وأنت خبير بان سياق حجة القول الأول ينادي بالاختصاص
بصورة عدم إمكان الجمع ، ولعلهم في صورة إمكان الجمع يحكمون بنجاسة الإناءين
باعتبار قبول الشهادتين كما هو ظاهر ، لان فرض قبول البينة في كل من الإناءين مع
الانفراد يقتضي القبول مع الاجتماع ، للقطع بعدم تأثير الاجتماع في اختلاف الحكم
حيث لا تنافي كما هو المفروض ، ولعله لظهوره لم يتعرضوا له. وظاهر كلام الشيخ في
الخلاف عدم الفرق بين صورتي إمكان الجمع وعدمه ، كما هو صريح صدر عبارته في
المبسوط.
وأورد على كلامه في الخلاف انه لا مقتضي للطرح إلا
التعارض ، وهو منفي بالنظر الى أحد الإناءين من غير تعيين ، وإنما وقع التعارض في
التعيين ، والإطراح فيه لا يقتضي الإطراح مطلقا فيبقى معنى الاشتباه موجودا. هذا
بالنظر الى صورة عدم إمكان الجمع. واما بالنظر الى صورة إمكانه فقد عرفت ان مقتضاه
هو الحكم بالنجاسة.
واما كلام العلامة في المختلف فما يتعلق منه بصورة إمكان
الجمع متجه كما تقدم وجهه ، واما ما يتعلق بصورة عدم الإمكان فيرد عليه ما يرد على
كلام الخلاف ، لاتفاقهما في الحكم بذلك. وكأنه (قدسسره) في المختلف
تنبه لورود المناقشة بذلك فقال بعد الكلام المتقدم : «لا يقال : يحكم بنجاسة أحد
الإناءين وصحة إحدى الشهادتين ، فيكون بمنزلة الإناءين المشتبهين. لأنا نقول :
نمنع حصول العلم بنجاسة أحد الإناءين وصحة إحدى الشهادتين ، لأن صحة الشهادة إنما تثبت
مع انتفاء الكذب ، اما مع وجوده فلا» وضعفه في المعالم بان التكذيب إنما وقع في
التعيين لا مطلقا. وكأنه لما كان مجال المناقشة مع هذا الجواب باقيا بحاله استدرك
في آخر كلامه ، فقال : «على انه لو قيل بذلك ـ يعني بمنزلة الإناءين المشتبهين ـ كان
وجها ، ولهذا يردهما المشتري سواء تعدد أو اتحد» انتهى. وحينئذ فيرجع كلامه الى ما
ذكره
الشيخ في المبسوط كما تقدم من عبارته
، وهو مؤذن بالتردد.
وكيف كان فالاحتياط في مثل هذه المسائل الغير المنصوصة
مما لا ينبغي تركه.
(الصورة الخامسة) ـ الاشتباه المستند الى اشتباه ما وقع
في الماء بكونه طاهرا أو نجسا.
والذي صرح به جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو
الحكم بطهارة الماء والبناء على يقين الطهارة حتى يثبت يقين النجاسة. إلا انك قد
عرفت في المقدمة الحادية عشرة (1) ان بعض الأصحاب قد منع جريان هذه
القاعدة في مثل هذا الموضع مدعيا ان المنع عن نقض اليقين بالشك مراد به الشك في
وجود الرافع ، يعني لا بد من ثبوت الرافعية له أولا ، فإذا شك في وجوده وعدمه فان
هذا الشك لا يعارض اليقين الثابت له أولا لا الشك في ثبوت الرافعية له. وتحقيق
القول في ذلك تقدم في المقدمة المشار إليها.
وبالجملة فكلام من وقفنا على كلامه من الأصحاب متفق هنا
في البناء على يقين الطهارة في الصورة المذكورة.
ولكن نقلوا الخلاف هنا في صورة واحدة ، وهي ما إذا وقع
صيد مجروح حلال اللحم نجس الميتة في ماء قليل ، وكان المحل الملاقي للماء منه
خاليا من النجاسة ، فمات فيه ولم يعلم استناد موته الى الجرح أو الماء ، فهل يحكم
بطهارة الماء حينئذ أو نجاسته؟ قولان :
نقل أولهما عن العلامة في بعض كتبه ، وبه صرح المحقق
الشيخ علي في شرح القواعد ، واختاره جملة ممن تأخر عنه.
واختار الثاني جمع من الأصحاب : منهم ـ العلامة في أكثر
كتبه وابنه
__________________
(1) في الصحيفة 143.
فخر المحققين في الشرح ، ونقل عن
الشهيدين ايضا. وتوقف المحقق في المعتبر.
وجه القول الأول التمسك بأصالة طهارة الماء السالمة عن
معارضة يقين الرافع لها شرعا ، فان الشك في استناد الموت الى الجرح أو الماء يقتضي
الشك في عروض النجاسة فلم يعلم حصول الرافع ، فتبقى العمومات الدالة على طهارة
الماء سالمة عن المعارض ، كذا قرره في المعالم بعد ان اختار فيه القول بالطهارة.
ووجهه فخر المحققين في شرح القواعد ، فقال ـ بعد نقل كلام والده (قدسسرهما) باحتمال
العمل بالأصلين ، يعني أصالة الطهارة في الماء وأصالة التحريم في الصيد ـ ما لفظه
: «أقول : لأصل الطهارة حكمان : (الأول) ـ الحكم بها. (الثاني) ـ حل الصيد ،
ولأصالة الموت حكمان : (الأول) ـ لحوق أحكام الميت للصيد (الثاني) ـ نجاسة الماء ،
فيعمل كل منهما في نفسه لأصالته فيه ، دون الآخر لفرعيته فيه ، ولعدم العلم بحصول
سبب كل منهما ، والأصل عدمه. ولا تضاد ، لعدم تضاد سببيهما ، لان سبب الحكم
بالطهارة هو عدم العلم بموت الصيد حتف انفه ، وسبب تحريم الصيد عدم العلم بذكاته ،
وهما لا يتضادان ، لصدقهما هنا لانه التقدير. وكلما لم تتضاد الأسباب لم تتضاد
المسببات. ثم قال : والأقوى الحكم بنجاسة الماء ، لامتناع الخلو عن الملزومين ،
اعني موت الصيد بالجرح ولا بالجرح المستلزمين لحل الصيد ، فإنه لازم للأول ،
ونجاسة الماء فإنه لازم للثاني. وامتناع الخلو عن الملزومين مستلزم لامتناع الجمع
بين نقيضي اللازمين. وتحريم الصيد ثابت بالإجماع ، ولما رواه الحلبي في الصحيح عن
ابي عبد الله (عليهالسلام) انه «سئل عن
رجل رمى صيدا وهو على جبل أو حائط ، فيخرق فيه السهم فيموت؟ قال : كل منه ، وان
وقع في الماء من رميتك فمات فلا تأكل منه» (1). فيثبت الحكم بالنجاسة» انتهى.
وصاحب المعالم قرر دليل النجاسة بما لفظه : احتجوا بان
تحريم الصيد ثابت
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب ـ 20 ـ من أبواب الصيد.
بالإجماع وجملة من الأخبار : منها ـ صحيحة
الحلبي ، وساق الخبر كما تقدم. ثم قال : والحكم بتحريم اللحم يدل على عدم تحقق
الذكاة ، وذلك يقتضي الحكم بموته حتف انفه ، والنجاسة لازمة له. ثم أجاب بالمنع من
دلالة حرمة اللحم على عدم تحقق الذكاة. وإنما يدل على ذلك لو كان الحكم بالتحريم
موقوفا عليه ، وهو في حيز المنع ايضا ، لجواز استناده إلى جهالة الحال وحصول
الاشتباه ، فان التحريم حينئذ هو مقتضى الأصل ، لاشتراط الحل بأمر وجودي ، ولا ريب
ان الأصل في مثله العدم ، فيعمل بكل من أصلي طهارة الماء وحرمة اللحم. ثم قال :
وما يقال ـ من ان العمل بالأصلين إنما يصح مع إمكانه ، وهو منتف ، لانه كما يستحيل
اجتماع الشيء مع نقيضه كذلك يستحيل اجتماعه مع نقيض لازمه ـ فجوابه ان عدم
الإمكان إنما يتحقق إذا جعل التحريم مستندا الى العلم بعدم التذكية الذي هو عبارة
عن موته حتف انفه ، لا إذا جعل مسببا عن عدم العلم بالتذكية. والحكم بطهارة الماء
إنما يتوقف على عدم العلم بوجود النجاسة لا على العلم بعدمها ، إذ الشك في نجاسة
الرافع لا يقتضي نجاسة الماء قطعا. انتهى.
وعلى هذا المنوال جرى جمع ممن تقدمه وتأخر عنه في
الاستدلال ، وملخصه ان تحريم الصيد الذي ثبت بالإجماع والنصوص في الصورة المفروضة
إنما يستلزم نجاسة الماء لو كان العلة فيه عدم تذكية الصيد وموته حتف أنفه ، اما
لو كان العلة فيه عدم العلم بالتذكية فلا ، إذ النجاسة إنما تلزم العلة الأولى دون
الثانية ، فإن طهارة الماء عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة ، وههنا كذلك. للشك
في نجاسة الصيد باحتمال موته حتف انفه واحتمال تذكيته.
أقول : والذي يظهر لي ان كلام الجميع في هذا المجال غير
خال من الإجمال بل الاختلال ، إذ لا يخفى ان ثبوت النجاسة للماء وعدمها إنما نشأ
من الصيد والحكم بطهارته أو نجاسته ، فالواجب أولا بيان الحكم فيه بالطهارة أو
النجاسة ، ولا ريب
ان مقتضى أصالة عدم التذكية عندهم كما
تكون موجبة للتحريم كذلك تكون موجبة للنجاسة ، كما صرحوا به في جملة من المواضع :
منها ـ مسألة اللحم والجلد المطروحين ، حيث حكموا بالتحريم والنجاسة بناء على
الأصل المشار اليه ، وحينئذ فكما يكون العلم بعدم التذكية موجبا للتحريم والنجاسة
كذلك حال الاشتباه وعدم العلم بالتذكية موجب لهما. ولا ريب ان الصيد في الصورة المفروضة
مما اشتبه فيه الحال بالتذكية وعدمها ، والتمسك بأصالة عدم التذكية يوجب الحكم
بتحريمه ونجاسته ، ومتى ثبت نجاسته فوقوعه في الماء القليل موجب لتنجيسه عند
القائل بنجاسة القليل بالملاقاة ، فالنجاسة لا تختص بالترتب على العلم بعدم
التذكية خاصة الذي هو الموت حتف الأنف ، حتى يتم لهم ان النجاسة هنا مشكوك فيها
لاحتمال التذكية ، بل كما تترتب على ذلك تترتب على الشك أيضا في التذكية كما عرفت
، فإنه لما كان كل من حل الصيد وطهارته مترتبا على العلم بالتذكية ، كان انتفاؤهما
بانتفاء ذلك تحقيقا للسببية. وعدم العلم بالتذكية ـ كما عرفت ـ أعم من العلم
بالعدم.
وبالجملة فإن نجاسة الماء وطهارته في الصورة المفروضة دائرة مدار طهارة الصيد ونجاسته ، وقد عرفت ان عدم العلم بالتذكية كما يكون سببا في التحريم يكون سببا في النجاسة ، وحينئذ فقول المستدل ـ : ان الشك في استناد الموت الى الجرح أو الماء يقتضي الشك في عروض النجاسة ـ مسلم لو كانت النجاسة مرتبة على الموت حتف الأنف خاصة كما ذكروه. فاما إذا قلنا بترتبها ايضا على الشك في التذكية وعدم العلم بها فلا. وحينئذ فالظاهر هو القول بالنجاسة. وأصالة الطهارة التي استندوا إليها ممنوعة بوجود النجاسة يقينا. وبما ذكرناه تخرج هذه الصورة المذكورة عن فرض المسألة ، إذ موضوع المسألة وقوع شيء مشكوك في نجاسته أو طهارته في الماء القليل ، والصيد في الصورة المفروضة محكوم بنجاسته قطعا ، لعدم العلم بالتذكية ، فإنه موجب لتحريمه ونجاسته كما عرفت. نعم لو كان موجب النجاسة هو العلم بعدم التذكية خاصة اتجه ما ذكروه ، إلا انه ليس كذلك.