ج10 - شروط الجمعة-الإمام والعدد
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المطلب الثاني
وهي أمور : أحدها الامام ، وثانيها
العدد ، وثالثها الخطبتان ، ورابعها الجماعة ، وخامسها ان لا يكون هناك جمعة اخرى
دون ثلاثة أميال ، وسادسها الوقت ، فالكلام في هذا المطلب يقتضي بسطه في مقاصد :
(الأول) في الإمام ويشترط فيه أمور (الأول) ـ البلوغ فلا
تصح إمامة الصبي وان كان مميزا ، وقال العلامة في المنتهى انه لا خلاف فيه ، مع ان
المنقول عن الشيخ في الخلاف والمبسوط جواز إمامة الصبي المراهق المميز العاقل في
الفرائض وهو ظاهر في ثبوت الخلاف في المسألة ، واما ما اوله به في المدارك من
الحمل على غير الجمعة ـ حيث قال : والظاهر ان مراده بالفرائض ما عدا الجمعة ـ فلا
يظهر له وجه سيما مع دلالة ظواهر جملة من الأخبار على ذلك :
ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الكافي في الحسن أو
الصحيح بإبراهيم بن هاشم عن عبد الله بن المغيرة عن غياث بن إبراهيم البتري الثقة
عن ابى عبد الله
(عليهالسلام) (1) قال : «لا بأس
بالغلام الذي لم يبلغ الحلم أن يؤم القوم وان يؤذن».
وفي الموثق عن سماعة بن مهران عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «تجوز
صدقة الغلام وعتقه ويؤم الناس إذا كان له عشر سنين».
وفي رواية طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن على (عليهمالسلام) (3) قال : «لا بأس
ان يؤذن الغلام الذي لم يحتلم وان يؤم».
وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة الدلالة في ما نقل عن الشيخ
وبها يترجح ما ذهب اليه.
قال في المدارك بعد تأويله كلام الشيخ بما قدمنا نقله
عنه : وكيف كان فالأصح اعتبار البلوغ مطلقا لأصالة عدم سقوط التكليف بالقراءة بفعل
الصبي ، ولان غير المكلف لا يؤمن من إخلاله بواجب أو فعل محرم فلا يتحقق الامتثال
، ويؤيده رواية إسحاق بن عمار عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن على (عليهمالسلام) (4) انه قال : «لا
بأس ان يؤذن الغلام قبل أن يحتلم ولا يؤم حتى يحتلم».
أقول : لا يخفى ان ما ذكره من التعليلات لا وجه له في
مقابلة ما نقلناه من الروايات وهل هو إلا من قبيل الاجتهاد في مقابلة النص ، واما
ما ذكره من الأصل فيجب الخروج عنه بالدليل وقد عرفته. بقي الكلام في الخبر الذي
نقله ويمكن حمله على غير المميز.
وظاهر المحقق الأردبيلي (قدسسره) تقوية هذا
القول لولا الإجماع المدعى من العلامة في المنتهى ، قال : ولولا الإجماع المنقول
في المنتهى لأمكن القول بصحة إمامة الصبي المميز مع الاعتماد عليه لان عبادته
شرعية ، وقد صرح به في المنتهى في كتاب الصوم وغيره. انتهى.
أقول : قد عرفت في المطلب المتقدم ما في هذه الإجماعات
وانه ليس فيها إلا تكثير السواد وإضاعة المداد ولا سيما في مقابلة الأخبار الظاهرة
في المراد.
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 14 من صلاة الجماعة.
ثم ان في هذه الرواية التي اعتمد عليها في المدارك زيادة
مؤكدة لما اراده ولم ينقلها حيث قال بعد قوله : «ولا يؤم حتى يحتلم» : «فإن أم
جازت صلاته وفسدت صلاة من خلفه» ويمكن حملها ايضا على تأكد الكراهة جمعا بين
الأخبار كما هي قاعدتهم في هذا المضمار.
وبالجملة فالظاهر عندي هو قوة ما ذهب اليه الشيخ وان كان
الاحتياط في ما ذهبوا اليه. والله العالم.
الثاني ـ العقل فلا تنعقد امامة المجنون قولا واحدا لعدم
الاعتداد بفعله. بقي الكلام في ما لو كان يعتريه الجنون أدوارا فهل تجوز إمامته في
حال الإفاقة؟ الظاهر ذلك وهو المشهور وبه صرح العلامة في باب الجماعة من التذكرة
على ما نقل عنه إلا انه قطع في باب الجمعة من التذكرة على ما حكى عنه بالمنع من
إمامته مستندا إلى إمكان عروضه حال الصلاة له ، ولأنه لا يؤمن احتلامه في حينه
بغير شعوره فقد روى ان المجنون يمني في حال جنونه (1) ولهذه العلة
نقل عن العلامة في النهاية انه يستحب له الغسل بعد الإفاقة. ولا يخفى ضعف ما استند
اليه من التعليلين المذكورين
الثالث ـ الايمان وهو عبارة عن الإقرار بالأصول الخمسة
التي من جملتها إمامة الأئمة الاثني عشر (عليهمالسلام) ولا خلاف بين
الأصحاب في اشتراطه.
وعليه تدل الأخبار المتظافرة ، ومنها ما رواه في الكافي
عن زرارة بإسنادين أحدهما من الصحاح أو الحسان بإبراهيم بن هاشم (2) قال : «كنت
جالسا عند أبى جعفر (عليهالسلام) ذات يوم إذ
جاءه رجل فدخل عليه فقال له جعلت فداك انى رجل
__________________
(1) علل في التذكرة ـ في المسألة 3 من البحث الثاني في السلطان
من صلاة الجمعة ـ منع إمامة الأدواري بوجوه ثلاثة وهي الوجهان المتقدمان في المتن
وانه ناقص عن المراتب الجليلة. واما الرواية فهي من كلام السبزواري في الذخيرة في
شروط النائب ولم يستند إليها في التذكرة.
(2) الوسائل الباب 5 من صلاة الجماعة.
جار مسجد لقومي فإذا انا لم أصل معهم
وقعوا في وقالوا هو هكذا وهكذا؟ فقال اما لئن قلت ذاك لقد قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) : من سمع
النداء فلم يجبه من غير علة فلا صلاة له. فخرج الرجل فقال له لا تدع الصلاة معهم
وخلف كل امام. فلما خرج قلت له جعلت فداك كبر على قولك لهذا الرجل حين استفتاك فان
لم يكونوا مؤمنين؟ قال فضحك (عليهالسلام) ثم قال ما
أراك بعد إلا ههنا يا زرارة فأية علة تريد أعظم من انه لا يؤتم به؟ ثم قال يا
زرارة ا ما تراني قلت صلوا في مساجدكم وصلوا مع أئمتكم؟».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن ابي عبد الله البرقي (1) قال «كتبت إلى
ابى جعفر (عليهالسلام) جعلت فداك أيجوز
الصلاة خلف من وقف على أبيك وجدك (صلوات الله عليهما)؟ فأجاب لا تصل وراءه».
وما رواه في الفقيه والتهذيب في الصحيح عن إسماعيل
الجعفي (2) قال : «قلت
لأبي جعفر (عليهالسلام) رجل يحب أمير
المؤمنين (عليهالسلام) ولا يتبرأ من
عدوه ويقول هو أحب الى ممن خالفه؟ فقال هذا مخلط وهو عدو فلا تصل خلفه ولا كرامة
إلا ان تتقيه».
وما رواه في التهذيب عن إبراهيم بن شيبة (3) قال : «كتبت
الى ابى جعفر (عليهالسلام) اسأله عن
الصلاة خلف من يتولى أمير المؤمنين (عليهالسلام) وهو يرى
المسح على الخفين أو خلف من يحرم المسح وهو يمسح؟ فكتب ان جامعك وإياهم موضع فلم
تجد بدا من الصلاة فأذن لنفسك وأقم فإن سبقك إلى القراءة فسبح».
وما رواه الكليني في الحسن عن زرارة (4) قال : «سألت
أبا جعفر (عليهالسلام) عن الصلاة
خلف المخالفين؟ فقال ما هم عندي إلا بمنزلة الجدر».
وعن ابى على بن راشد (5) قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) ان مواليك قد
اختلفوا فأصلي خلفهم جميعا؟ فقال لا تصل إلا خلف من تثق بدينه».
__________________
(1 و 2 و 4 و 5) الوسائل الباب 10 من صلاة الجماعة.
(3) الوسائل الباب 33 من صلاة الجماعة.
وما رواه الكشي في كتاب الرجال عن يزيد بن حماد عن ابى
الحسن (عليهالسلام) (1) قال : «قلت له
أصلي خلف من لا اعرف؟ فقال لا تصل إلا خلف من تثق بدينه».
الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة مما يدل على بطلان عبادة
المخالفين وعدم الاعتداد بالصلاة خلفهم.
الرابع ـ طهارة المولد وهو ان لا يعلم كونه ابن زنا ،
وهو مذهب الأصحاب من غير خلاف ينقل. ويدل عليه
ما رواه في الفقيه عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) مرسلا ورواه
الشيخ في التهذيب في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر (عليهالسلام) (2) قال : «قال
أمير المؤمنين (عليهالسلام) لا يصلين
أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا والأعرابي لا يؤم
المهاجرين».
وما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن ابى بصير ـ والظاهر
انه ليث المرادي بقرينة رواية عبد الله بن مسكان عنه ـ عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «خمسة
لا يؤمون الناس على كل حال : المجذوم والأبرص والمجنون وولد الزنا والأعرابي».
وما رواه في الفقيه عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليهالسلام) (4) انه قال : «خمسة
لا يؤمون الناس ولا يصلون بهم صلاة فريضة في جماعة : الأبرص والمجذوم وولد الزنا
والأعرابي حتى يهاجر والمحدود».
ولا عبرة بمن تناله الألسن وكذا لا تقدح ولادة الشبهة
ولا كونه مجهول الأب كما صرح به جملة من الأصحاب ، لأصالة عدم المانع مع وجود
المقتضى. وربما قيل بالكراهة لنفرة النفس من من هذا شأنه الموجبة لعدم كمال
الإقبال على العبادة ،
__________________
(1) الوسائل الباب 12 من صلاة الجماعة.
(2) الوسائل الباب 15 من صلاة الجماعة عن الكافي والفقيه وكذا
في الوافي باب (صفة إمام الجماعة.) ولم نعثر عليه في التهذيب في مظانه.
(3 و 4) الوسائل الباب 15 من صلاة الجماعة.
قال في الذكرى : وفي كراهة الائتمام بهؤلاء قول لا بأس
به لنقصهم وعدم كمال الانقياد الى متابعتهم. انتهى.
الخامس ـ الذكورة فلا تصح إمامة المرأة ولا الخنثى لعدم
جواز إمامتهما للرجال كما سيأتي في باب الجماعة ان شاء الله تعالى ، قال في
التذكرة يشترط في إمامة الرجال الذكورة عند علمائنا اجمع وبه قال عامة العلماء (1) ولا ريب في
اشتراطها بناء على ان الجمعة لا تنعقد بالمرأة ولا بالخنثى.
السادس ـ السلامة من البرص والجذام والحد الشرعي
والاعرابية ، أما الأول والثاني فاختلف الأصحاب في جواز إمامتهما ، فقال الشيخ في
النهاية والخلاف بالمنع من ذلك مطلقا وهو اختيار العلامة في المنتهى والسيد السند
في المدارك ، وقال المرتضى في الانتصار وابن حمزة بالكراهة ، وقال الشيخ في
المبسوط وابن البراج وابن زهرة بالمنع من إمامتهما إلا بمثلهما ، وقال ابن إدريس
يكره إمامتهما في ما عدا الجمعة والعيد واما فيهما فلا يجوز.
والذي وقفت عليه من اخبار المسألة ما تقدم (2) من صحيحتي
زرارة وابى بصير ورواية محمد بن مسلم الدال جميعه على النهى عن الصلاة خلفهما.
ومنها ـ ما رواه الشيخ عن إبراهيم بن عبد الحميد عن ابى
الحسن (عليهالسلام) (3) قال : «لا
يصلى بالناس من في وجهه آثار».
وما رواه الشيخ عن عبد الله بن يزيد (4) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المجذوم
والأبرص يؤمان المسلمين؟ قال نعم. قلت هل يبتلى الله بهما المؤمن؟ قال نعم
__________________
(1) في المغني ج 2 ص 199 «لا يصح ان يأتم الرجل بالمرأة بحال
في فرض ولا نافلة في قول عامة الفقهاء» وفي بدائع الصنائع ج 1 ص 262 «المرأة لا
تصلح للإمامة في سائر الصلوات ففي الجمعة أولى» وفي ص 227 صرح بعدم صلوح المرأة
لامامة الرجال. وفي بداية المجتهد ج 1 ص 132 «الجمهور على انه لا يجوز ان تؤم
المرأة الرجال».
(2) ص 6.
(3 و 4) الوسائل الباب 15 من صلاة الجماعة.
وهل كتب الله البلاء إلا على المؤمن».
وما رواه احمد بن محمد بن خالد البرقي في كتاب المحاسن
في الحسن عن الحسين بن ابى العلاء عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن المجذوم والأبرص منا أيؤمان المسلمين؟
قال نعم وهل يبتلى الله بهذا إلا المؤمن وهل كتب الله
البلاء إلا على المؤمنين». وروى الصدوق في كتاب الخصال في الصحيح على الأظهر عن
الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) (2) قال : «ستة لا
ينبغي ان يؤموا الناس : ولد الزنا والمرتد والأعرابي بعد الهجرة وشارب الخمر
والمحدود والأغلف». ولفظ «لا ينبغي» في الخبر المذكور مراد به التحريم كما هو شائع
في الأخبار.
وجملة من المتأخرين جمعوا بين الأخبار بحمل الأخبار
الأولة على الكراهة. والشيخ حمل رواية عبد الله بن يزيد على الضرورة في الجماعة
بان لا يوجد غيرهما أو يكونا إمامين لأمثالهما. ولا يخلو من بعد.
وظاهر صاحب المدارك بل صريحه العمل بالروايات الأولة حيث
ان فيها الصحيح وهو يدور مداره غالبا ، وطعن في رواية عبد الله بن يزيد بضعف السند
بجهالة الراوي ، ثم قال بعد كلام في البين : نعم لو صح السند لأمكن حمل النهى
الواقع في الأخبار المتقدمة على الكراهة كما هو مذهب المرتضى (قدسسره).
وقال في الذكرى بعد نقل الجمع بين الأخبار بحمل الأخبار
الأولة على الكراهة : ويلزم منه استعمال المشترك في معنييه لأن النهي في ولد الزنا
والمجنون محمول على المنع من النقيض قطعا فلو حمل على المنع لا من النقيض في
غيرهما لزم المحذور. ويمكن ان يقال لا مانع من استعمال المشترك في معنييه ، وان
سلم فهو مجاز لا مانع من ارتكابه. انتهى.
أقول : والمسألة عندي لا تخلو من شوب التوقف فإن الأخبار
المتقدمة مع
__________________
(1) الوسائل الباب 15 من صلاة الجماعة وفي المحاسن ص 326.
(2) الوسائل الباب 14 من صلاة الجماعة «وهل كتب البلاء».
صحة سند أكثرها صريحة في التحريم
والحمل على الكراهة مجاز لا يصار اليه إلا مع القرينة ولا قرينة فيها تؤذن بذلك ،
ووجود المخالف ليس قرينة إذ يحتمل الحمل على معنى آخر من تقية ونحوها. ويحتمل
العكس ايضا. وبالجملة فإنه لا يحضرني الآن مذهب المخالفين في هذه المسألة (1) ولعل أخبار
أحد الطرفين انما خرج مخرج التقية واما القولان الآخران فلم نقف لهما على دليل.
والله العالم.
واما الثالث وهو المحدود فان كان قبل التوبة فلا إشكال
في عدم جواز الائتمام به لفسقه ، وان كان بعدها فقد حكم الأكثر بكراهة إمامته ،
وعلله في المعتبر بنقص رتبته عن منصب الإمامة وان زال فسقه بالتوبة. ونقل عن ابى
الصلاح انه منع من امامة المحدود بعد التوبة إلا بمثله. ورده الأكثر بأن المحدود
ليس اسوأ حالا من الكافر وبالتوبة واستجماع الشرائط تصح إمامته. أقول : ومما ردوا
به كلام ابى الصالح يعلم الرد لما ذكروه من الكراهة أيضا فإن الظاهر انهم لا
يقولون بكراهة الائتمام بالكافر بعد الإسلام إذا استجمع شرائط الإمامة فالمحدود
بطريق اولى بمقتضى ما ذكروه. والظاهر حمل الأخبار المتقدمة الدالة على النهى عن
الائتمام به على ما قبل التوبة لظهور الفسق المانع من ذلك.
واما الرابع وهو الأعرابي فالمراد به الأعرابي بعد
الهجرة كما أفصح به خبر الأصبغ بن نباتة وخبر محمد بن مسلم وعليهما يحمل ما أطلق
في غيرهما ، والوجه في المنع من إمامته ظاهر لإخلاله بالواجب عليه وهو الهجرة
وإصراره على الترك بغير عذر شرعي ، وسيأتي ان شاء الله تعالى في جملة من الأخبار
الدالة على عدد الكبائر ان من جملتها التعرب بعد الهجرة إلا ان تحققه في مثل هذه
الأزمنة غير معلوم.
والأصحاب في هذه المسألة منهم من أطلق المنع كالشيخ
وجماعة ومنهم من أطلق الكراهة.
__________________
(1) في بدائع الصنائع ج 1 ص 156 «تجوز امامة العبد والأعرابي
والأعمى وولد الزنا وعليه قول العامة لقوله (ص) : صلوا خلف من قال لا إله إلا الله».
وفصل في المعتبر في ذلك بما يرجع الى الفرق بين من لا
يعرف محاسن الإسلام ولا وصفها فالأمر كما ذكروه من المنع وبين من وصل اليه ما
يكفيه اعتماده ويدين به ولم يكن تلزمه المهاجرة وجوبا جاز ان يؤم.
وفيه ان ما ذكره لا اختصاص له بالأعرابي كما لا يخفى بل
الأظهر كما عرفت انما هو ما قلناه لأنه الذي دلت عليه الاخبار المذكورة.
نعم قد روى الحميري في كتاب قرب الاسناد بإسناده عن جعفر
بن محمد عن أبيه عن على (عليهالسلام) (1) في حديث قال :
«وكره ان يؤم الأعرابي لجفائه عن الوضوء والصلاة».
وملخص الكلام في ما يفهم من هذه الاخبار هو المنع
والتحريم في من ترك الهجرة مع وجوبها عليه والجواز على كراهة في من لم يكن كذلك مع
عدم كماله في معرفة أحكام الطهارة والصلاة. ويحتمل حمل أخبار المنع على ما إذا كان
يؤم بالمهاجرين كما يستفاد من صحيح زرارة المتقدم في اشتراط طهارة المولد.
السابع ـ العدالة وهي مما طال فيها الكلام بين علمائنا
الأعلام بإبرام النقض ونقض الإبرام وصنفت فيها رسائل وتعارضت فيها الدلائل فلا جرم
انا ارخينا للقلم عنانة في هذا الميدان وأعطينا المسألة حقها من البيان بما لم
يسبق اليه سابق من علمائنا الأعيان :
والكلام فيها يقع في مقامات
(الأول) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
اشتراط عدالة إمام الجماعة مطلقا ونقل إجماعهم على ذلك جمع كثير منهم ، بل نقل ذلك
عن بعض المخالفين وهو أبو عبد الله البصري محتجا بإجماع أهل البيت (عليهمالسلام) (2) وان إجماعهم
حجة.
__________________
(1) الوسائل الباب 14 من صلاة الجماعة.
(2) ذكر ذلك الشيخ في الخلاف ص 82 نقلا عن السيد المرتضى ولم
يتعرض له السيد في الانتصار والناصريات وأبو عبد الله البصري ـ كما في المنتظم
لابن الجوزي ج 7.
واحتج الأصحاب على ذلك بقوله عزوجل «وَلا
تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» (1) والفاسق ظالم لقوله تعالى «وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» (2) والائتمام ركون لان معنى الركون هو
الميل القلبي.
أقول : لا يخفى ان غاية ما يدل عليه هذا الدليل هو عدم
جواز امامة الفاسق خاصة وهو أخص من المدعى إذ المدعى اعتبار العدالة بأحد المعاني
الآتية ان شاء الله تعالى المؤذن بعدم ثبوتها لمجهول الحال أيضا والدليل المذكور
لا يشمله.
والعمدة في الاستدلال على ذلك انما هي الأخبار الواضحة
المنار ، ومنها ما رواه الشيخ عن خلف بن حماد عن رجل عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «لا تصل
خلف الغالي وان كان يقول بقولك والمجهول والمجاهر بالفسق وان كان مقتصدا».
ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا (4) وفي أوله «ثلاثة
لا يصلى خلفهم. الى آخر ما ذكر».
وما رواه الشيخ في الصحيح الى سعد بن إسماعيل عن أبيه (5) قال : «قلت
للرضا (عليهالسلام) رجل يقارف
الذنوب وهو عارف بهذا الأمر أصلي خلفه؟ قال لا». ومعنى «يقارف» اى يقارب ، قال في
النهاية : قارف الذنب وغيره إذا داناه ولاصقه وهو كناية عن فعل الذنوب.
وما رواه الكليني والشيخ عن ابى على بن راشد (6) قال : «قلت
لأبي جعفر
__________________
ص 107 ـ يعرف بالجعل سكن بغداد وكان من شيوخ المعتزلة وصنف على
مذاهبهم وانتحل في الفروع مذهب أهل العراق. وذكر المصنف «قدسسره» في لؤلؤة البحرين عند ذكر الشيخ
المفيد نقلا عن الشيخ ورام ان الشيخ المفيد اشتغل بالعربية على الشيخ ابى عبد الله
المعروف بجعل.
(1) سورة هود الآية 115.
(2) سورة الطلاق الآية 1.
(3 و 6) الوسائل الباب 10 من صلاة الجماعة وكلمة «وأمانته» في
التهذيب.
(4) الوسائل الباب 11 من صلاة الجماعة وفي الخصال ج 1 ص 74.
(5) الوسائل الباب 11 من صلاة الجماعة.
(عليهالسلام) ان مواليك قد
اختلفوا فأصلي خلفهم جميعا؟ فقال لا تصل إلا خلف من تثق بدينه وأمانته».
وما رواه الشيخ عن إبراهيم بن على المرافقي وابى أحمد
عمرو بن الربيع البصري عن جعفر بن محمد (عليهماالسلام) (1) «انه سئل عن
القراءة خلف الامام فقال إذا كنت خلف الامام تولاه وتثق به فإنه يجزيك قراءته ،
وان أحببت أن تقرأ فاقرأ في ما يخافت فيه فإذا جهر فأنصت قال الله تعالى «وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (2) قال فقيل له
فان لم أكن أثق به فأصلي خلفه واقرأ؟ قال لا صل قبله أو بعده. الحديث».
وما رواه في الفقيه عنه (صلىاللهعليهوآله) (3) «امام القوم
وافدهم فقدموا أفضلكم». قال وقال على (عليهالسلام) (4) «ان سركم ان
تزكوا صلاتكم فقدموا خياركم».
وما رواه في كتاب قرب الاسناد في الموثق عن جعفر بن محمد
عن آبائه (عليهمالسلام) (5) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) قال ان
أئمتكم وفدكم الى الله تعالى فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم».
وعن ابى ذر (6) «ان امامك
شفيعك الى الله عزوجل فلا تجعل
شفيعك سفيها ولا فاسقا». الى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع.
(المقام الثاني) ـ في بيان معنى العدالة وانها عبارة عما
ذا ونقل أقوال جملة من علمائنا الأعلام رفع الله تعالى أقدارهم في دار المقام :
فنقول : اعلم ان العدالة لغة مأخوذة من العدل وهو القصد
في الأمور ضد الجور» وقيل من العدالة بمعنى الاستواء والاستقامة كما يقال «هذا عدل
هذا» أي
__________________
(1) الوسائل الباب 31 و 6 من صلاة الجماعة. والراوي الثاني
عنون في كتب الرجال في «عمر» بلا واو.
(2) سورة الأعراف الآية 203.
(3 و 4 و 5) الوسائل الباب 26 من صلاة الجماعة. والحديث «4» عن
النبي (صلىاللهعليهوآله).
(6) الوسائل الباب 11 من صلاة الجماعة.
مساو له ، واعتدل الشيئان اى تساويا ،
وفي اصطلاح أرباب الحكمة وأهل العرفان عبارة عن تعديل قوى النفس وتقويم أفعالها
بحيث لا يغلب بعض على بعض. وتوضيح ذلك ان للنفس الإنسانية قوة عاقلة هي مبدأ الفكر
والتمييز والشوق الى النظر في الحقائق والتأمل في الدقائق ، وقوة غضبية هي مبدأ
الغضب والجرأة لدفع المضار والاقدام على الأهوال والشوق الى التسلط على الرجال ،
وقوة شهوية هي مبدأ طلب الشهوة واللذات من المآكل والمشارب والمناكح وسائر الملاذ
البدنية والشهوات الحسية ، وهذه القوى متباينة جدا فمتى غلب أحدها انقهرت الباقيات
وربما أبطل بعضها فعل بعض ، والفضيلة البشرية تعديل هذه القوي لأن لكل من هذه
القوى طرفي إفراط وتفريط ، فاما القوة العاقلة فالسفاهة والبلاهة والقوة الغضبية
التهور والجبن والقوة الشهوية الشره وخمود الشهوة ، فألقوه العاقلة تحصل من
تعديلها فضيلة العلم والحكمة والغضبية تحصل من تعديلها فضيلة الشجاعة والقوة
الشهوية تحصل من تعديلها فضيلة العفة ، وإذا حصلت هذه الفضائل الثلاث التي هي في
حاق الاواساط وتعادلت حصل منها فضيلة رابعة وملكة راسخة هي أم الفضائل وهي المعبر
عنها بالعدالة ، فهي إذا ملكة نفسانية تصدر عنها المساواة في الأمور الصادرة عن
صاحبها ، وتحت كل واحدة من هذه الفضائل الثلاث المتقدمة فضائل أخرى وكلها داخلة
تحت العدالة فهي دائرة الكمال وجماع الفضائل على الإجمال.
واما في اصطلاح أهل الشرع الذي هو المقصود الذاتي بالبحث
فأقوال : (الأول) ما هو المشهور بين أصحابنا المتأخرين من انها ملكة نفسانية تبعث
على ملازمة التقوى والمروة ، واحترزوا بالملكة عما ليس كذلك من الأحوال المنتقلة
بسرعة كحمرة الخجل وصفرة الوجل بمعنى ان الاتصاف بالوصف المذكور لا بد ان يكون من
الملكات الراسخة التي يعسر زوالها.
واختلف كلامهم في معنى التقوى ، فقيل هي اجتناب الكبائر
والصغائر من المكلف العاقل ، ونسبه شيخنا الشهيد الثاني إلى جماعة من أجلاء
الأصحاب كالشيخ
المفيد والتقى ابى الصلاح الحلبي
والقاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي وابى عبد الله محمد بن منصور بن إدريس
الحلي العجلي (1) وابى الفضائل
الطبرسي حاكيا ذلك عن
__________________
(1) بمناسبة تعرض المصنف «قدسسره» لذكر ابن إدريس بهذا النحو رأيت ان
التعرض في المقام لما ذكره صاحب كشف الظنون عند تعرضه للكتب المؤلفة في الفقه على
مذهب الإمامية ج 2 ص 1286 فإنه علق على هذا العنوان في ذيل الصفحة هكذا : يطلقون
ابن إدريس على الشافعي. ثم قال في بيان الكتب هكذا : البيان والذكرى شرائع الإسلام
وحاشيته القواعد النهاية. ثم قال : ومن أقوالهم الباطلة عدم وجوب الوضوء للصلاة
المندوبة. إلى آخر ما ذكره من الأحكام الباطلة بنظره ، وعد منها استحباب غسل يوم
الغدير وهو العاشر من ذي الحجة. وقال ج 2 ص 1281 : والكتب المؤلفة على مذهب
الإمامية الذين ينتسبون الى مذهب ابن إدريس اعنى الشافعي كثيرة : منها ـ شرائع
الإسلام وحاشيته والبيان والذكرى والقواعد والنهاية. أقول ما أدرى من أين اتى هذا
المتتبع المحقق بهذا التحقيق النفيس وكيف أدى تحقيقه وتتبعه الى إغفال محمد بن
إدريس العجلي الحلي من قائمة علماء الإمامية وإغفال كتابه السرائر من قائمة كتبهم
حتى حكم بان المراد ب (ابن إدريس) في كلامهم هو محمد بن إدريس الشافعي القرشي
وليته رجع على الأقل إلى لسان الميزان لابن حجر العسقلاني ج 5 ص 65 حيث يقول محمد
بن إدريس العجلي الحلي فقيه الشيعة وعالمهم له تصانيف في فقه الإمامية ولم يكن
للشيعة في وقته مثله مات سنة سبع وتسعين وخمسمائة. انتهى. نعم ليس هذا بغريب ممن
يكتب ويؤلف ويحكم بما تشتهيه نفسه ويقتضيه تعصبه ويتجنب ما يفرضه الوجدان
والضمير من التتبع والتحقيق ليفهم من هو ابن إدريس في كلام الإمامية وليفهم انه لا
علاقة لمذهب الإمامية بمذهب الشافعي إلا التضاد كغيره من المذاهب فإن أساسه ومنبعه
هو ما خلفه النبي «ص» في الأمة واوصى باتباعه والتمسك به وجعله المرجع في أمور
الدين وأناط به الأمن من الضلال من بعده وهو الكتاب والعترة كما هو نص حديث
الثقلين الثابت من الطريقين راجع ج 9 ص 360 من الحدائق ، فمذهب الإمامية يستقى
أحكامه من منبع الكتاب والعترة ولا ارتباط له بمذهب الشافعي أصلا وإنما يذكر قوله
كغيره بعنوان «الشافعي» عند نقل الأقوال. ومما ذكرناه تظهر قيمة منقولاته الأخر
كنسبة عدم وجوب الوضوء للصلاة المندوبة إلى الإمامية الذي هو
أصحابنا من غير تفصيل. وقيل باجتناب الكبائر كلها وعدم الإصرار
على الصغائر أو عدم كونها أغلب فلا تقدح الصغيرة النادرة ، وألحقوا بها ما يؤول
إليها بالعرض وان غايرها بالأصل كترك المندوبات المؤدي إلى التهاون بالسنن في أظهر
الوجهين ونسبه شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين إلى الأصحاب.
وكذا اختلفت أقوالهم في الكبائر وسيأتي الكلام فيها ان
شاء الله تعالى في المقام الثالث مفصلا مشروحا.
وفسروا المروة باتباع محاسن العادات واجتناب مساويها وما
تنفر عنه النفس من المباحات ويؤذن بدناءة النفس وخستها كالأكل في الأسواق والمجامع
والبول في الشوارع وقت سلوك الناس وكشف الرأس في المجامع وتقبيل زوجته وأمته في
المحاضر ولبس الفقيه لباس الجندي والمضايقة في اليسير الذي لا يناسب حاله ونقل
الماء والأطعمة بنفسه ممن ليس أهلا لذلك إذا كان عن شح وظنة ونحو ذلك ،
__________________
افتراء محض عليهم وهذه كتب الشيعة منتشرة في البلاد ، وكجعل
الغدير اليوم العاشر من ذي الحجة ، كما يظهر انه لا قيمة لحكمه وحكم غيره ببطلان
أقوالهم بعد ابتنائها على الأساس الذي أسسه مشرع الشريعة (ص) والرجوع فيها الى
المرجع الذي عينه في حديث الثقلين وغيره. ولتزداد بصيرة في ما قلناه راجع ج 1 ص
452 من كشف الظنون حيث يقول : تفسير الطوسي ـ هو أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي
فقيه الشيعة الشافعي «كان ينتمي إلى مذهب الشافعي» المتوفى سنة ستين وأربعمائة
(561) سماه مجمع البيان لعلوم القرآن واختصر الكشاف وسماه جوامع الجامع وابتدأ
بتأليفه في سنة 542 قال السبكى وقد أحرقت كتبه عدة نوب بمحضر من الناس. فانظر كيف
صار مجمع البيان للشيخ الطوسي بدل التبيان وكيف صار فقيه الشيعة شافعيا ، وراجع ج
2 ص 1602 منه حيث يقول مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ ابى على فضل بن الحسين
الطبرسي المشهدي الشيعي. ثم إن في ريحانة الأدب ج 5 ص 246 ما ترجمته : ابن إدريس
محمد بن أحمد أو محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس بن حسين المكنى ب «ابى عبد الله».
وبالمراجعة لرجال الشيخ المامقاني «قدسسره» ج 2 باب (محمد) يتضح وجه الترديد في
نسبه.
ويختلف ذلك بحسب اختلاف الأشخاص
والأعصار والأمصار والمقامات.
والحق ـ كما ذكره جملة من أفاضل متأخري المتأخرين ـ انه
لا دليل على اعتبار المروة في معنى العدالة ، بل الظاهر ان تعريف العدالة بالملكة
المذكورة لا مستند له من الأخبار ايضا ولذا لم يذكره القدماء وانما وقع ذلك في
كلام العلامة ومن تأخر عنه والظاهر انه اقتفى في ذلك العامة حيث انهم عرفوها بذلك (1).
قال في الذخيرة بعد ذكر التعريف المشار اليه : ولم أجد
ذلك في كلام من تقدم على المصنف وليس في الأخبار منه اثر ولا شاهد عليه في ما أعلم
وكأنهم اقتفوا في ذلك أثر العامة حيث يعتبرون ذلك في مفهوم العدالة ويوردونه في
كتبهم. انتهى
أقول : وما ذكروه في معنى المروة مع كونه لا دليل عليه
من الأخبار يدفعه ما ورد عنه (صلىاللهعليهوآله) (2) انه كان يركب
الحمار العاري ويردف خلفه وانه كان يأكل ماشيا إلى الصلاة بمجمع من الناس في
المسجد وانه كان يحلب الشاة. ونحو ذلك.
ولا يخفى انه قد ورد هنا جملة من الأخبار في معنى المروة
وليس في شيء منها
__________________
(1) في المغني ج 9 ص 167 «العدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه
وأفعاله ففي الدين لا يرتكب كبيرة ولا يداوم على صغيرة واما المروءة فيجتنب الأمور
الدنيئة المزرية به كأن ينصب مائدة في السوق ويأكل والناس ينظرون اليه أو يمد
رجليه بحضرتهم أو يخاطب أهله بالخطاب الفاحش ، ومن ذلك ارتكاب الصناعات الدنيئة
كالكناسة وأمثالها» وفي بدائع الصنائع ج 6 ص 268 ذكر خلافا في تعريفها فعند بعضهم
العدل من لم يطعن عليه في بطن أو فرج وعند آخر من لم يعرف عليه جريمة في دينه وعند
ثالث من غلبت حسناته سيئاته.
(2) في أخلاق النبي «ص» ص 61 «كان رسول الله «ص» يركب الحمار
بغير سرج» وفي ص 63 «عاد سعدا وأردف خلفه أسامة بن زيد وكان يجلس على الأرض ويأكل
على الأرض» وفي المواهب اللدنية كما في شرحها للزرقانى ج 4 ص 264 «كان (ص) يحلب
شاته وكان انس رديف رسول الله «ص» عند رجوعهم من خيبر» وقد أورد جميع ذلك في
البحار ج 6 باب مكارم أخلاقه «ص» إلا انا لم نعثر على ما ذكره من أكله ماشيا.
ما ذكروه ، ومنها ما رواه الكليني في
روضة الكافي (1) بإسناده عن
جويرية قال : «اشتددت خلف أمير المؤمنين (عليهالسلام) فقال لي يا
جويرية انه لم يهلك هؤلاء الحمقى إلا بخفق النعال خلفهم ما جاء بك؟ قلت جئت أسألك
عن ثلاث : عن الشرف وعن المروة وعن العقل؟ قال : اما الشرف فمن شرفه السلطان واما
المروة فإصلاح المعيشة واما العقل فمن اتقى الله عقل».
وما روى عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهمالسلام) (2) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ستة من
المروة ثلاثة منها في الحضر وثلاثة منها في السفر ، فأما التي في الحضر فتلاوة
كتاب الله وعمارة مساجد الله واتخاذ الإخوان في الله واما التي في السفر فبذل
الزاد وحسن الخلق والمزاح في غير معاصي الله تعالى».
وما رواه الصدوق في الفقيه في باب المروة في السفر عن
الصادق (عليهالسلام) (3) حيث قال فيه :
«المروة والله ان يضع الرجل خوانه بفناء داره ، والمروة مروتان مروة في الحضر
ومروة في السفر ، فأما التي في الحضر فتلاوة القرآن ولزوم المساجد والمشي مع
الإخوان في الحوائج والنعمة ترى على الخادم انها تسر الصديق وتكبت العدو ، واما
التي في السفر فكثرة الزاد وطيبه وبذله لمن كان معك وكتمانك على القوم أمرهم بعد
مفارقتك إياهم وكثرة المزاح في غير ما يسخط الله».
ثم انه لا يخفى انه قد ورد في بعض الاخبار ما يدل على
اعتبار المروة في العدالة لكن لا بالمعنى الذي ذكروه وهو ما روى عن ابى الحسن
الرضا عن آبائه عن على (عليهمالسلام) (4) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من عامل
الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروته وظهرت
عدالته ووجبت اخوته وحرمت غيبته». فإن المروة هنا لم يعتبر فيها إلا الخصال الثلاث
وهي واجبة بناء على وجوب الوفاء كما هو الظاهر ، وهو اختيار شيخنا أبى الحسن
__________________
(1) ص 241.
(2 و 3) الوسائل الباب 49 من آداب السفر.
(4) الوسائل الباب 1 من الشهادات.
الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ،
وقد نقل انه كتب رسالة شريفة في وجوب الوفاء بالوعد ولم أقف عليها. وما ذكره (قدسسره) هو ظاهر
الآية الشريفة أعني قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا
تَفْعَلُونَ» (1).
ونقل شيخنا المشار إليه في رسالته الصلاتية عن بعض
معاصريه ـ وكتب في الحاشية إنه المحقق المدقق الشيخ احمد بن محمد بن يوسف البحراني
ـ انه استدل على اعتبار المروة في معنى العدالة بقول الكاظم (عليهالسلام) في حديث هشام
بن الحكم المروي في الكافي (2) «لا دين لمن لا
مروة له ولا مروة لمن لا عقل له». واعترضه بأنه خفي عليه ان استعمال المروة
بالمعنى الذي ذكره الأصحاب غير معروف في كلامهم (عليهمالسلام) وحينئذ
فالأظهر حملها على بعض المعاني المروية عنهم (عليهمالسلام) في تفسيرها.
وهو جيد ، وأشار بالمعاني المروية عنهم (عليهمالسلام) الى ما قدمنا
ذكره من الأخبار الواردة بتفسيرها. ثم قال ، ويمكن حملها على كمال الإنسانية وهو
فعل ما يليق وترك ما لا يليق.
أقول : ويؤيده أن المروة لا تعتبر في أصل الدين إجماعا
فلا بد ان يحمل نفى الدين عن من لا مروة له على نفى الكمال فتحمل المروة على كمال
الإنسانية كما فسرها به بعض شارحي الكتاب.
(الثاني) ـ القول بأنها عبارة عن مجرد الإسلام مع عدم
ظهور الفسق ؛ ونقل هذا القول عن جماعة من المتقدمين كابن الجنيد والشيخ في الخلاف
والشيخ المفيد في كتاب الاشراف بل ادعى في الخلاف الإجماع عليه ودلالة الأخبار ،
وقال (3) البحث عن
عدالة الشهود ما كان في أيام النبي (صلىاللهعليهوآله) ولا أيام
الصحابة
__________________
(1) سورة الصف الآية 2 و 3.
(2) الأصول ج 1 ص 19 الطبع الحديث.
(3) في كتاب آداب القضاء من الخلاف ص 231.
ولا أيام التابعين وانما هو شيء
أحدثه شريك بن عبد الله القاضي (1) ولو كان شرطا لما أجمع أهل الأمصار
على تركه. انتهى.
أقول : وممن انتصر لهذا القول وبلغ في ترجيحه الغاية
الشهيد الثاني في المسالك وتبعه فيه جملة ممن تأخر عنه سيما سبطه السيد السند في
المدارك والمحدث الكاشاني والفاضل الخراساني صاحب الذخيرة والكفاية.
أقول : وهذا القول وما قبله وقعا على طرفي الإفراط
والتفريط في المقام لأن العدالة بالمعنى الأول لا تكاد توجد إلا في المعصوم أو من
قرب من مرتبته كما لا يخفى على ذوي الأفهام ، مع انه لا يمكن الاطلاع عليها إلا
بعد مدة مديدة ومخالطة أكيدة وتعمق شديد ولربما لا يتيسر ذلك وبه تنسد أبواب
الأمور المشروطة بالعدالة مثل الجمعات والجماعات والفتاوى والشهادات ، واما
العدالة بالمعنى الثاني فقد انجر الأمر فيها إلى إثباتها للمخالفين وأعداء الدين
والنصاب الذين هم أشد نجاسة من الكلاب كما وردت به الرواية عن أهل بيت النبوة
الأطياب (2) وسيظهر ذلك في
ما يأتي قريبا ان شاء الله تعالى في المقام.
وقال شيخنا المشار إليه في كتاب المسالك : إذا شهد عند
الحاكم شهود فان عرف فسقهم فلا خلاف في رد شهادتهم من غير احتياج الى بحث وان عرف
عدالتهم قبل شهادتهم ولا حاجة الى التعديل وان لم يعرف حالهم في الفسق والعدالة
فان لم يعرف إسلامهم وجب البحث ايضا وهذا كله مما لا خلاف فيه ، وان عرف إسلامهم
ولم يعرف شيئا آخر من جرح ولا تعديل فهذا مما اختلف فيه الأصحاب والمشهور بينهم
خصوصا المتأخرين منهم انه يجب البحث عن عدالتهم ولا يجوز
__________________
(1) ذكر صاحب الوسائل في عنوان الباب 6 من أبواب كيفية الحكم
ان الحاكم إذا اشتبه عليه عدالة الشهود وفسقهم سأل عنهم حتى يعرفهم وذكر في الباب
حديثا عن تفسير الإمام العسكري (ع) يتضمن ان رسول الله (ص) كان يبحث عن عدالة
الشهود إذا لم يعرفهم.
(2) ج 5 ص 187.
الاعتماد على ظاهر الإسلام. ثم أورد
الآية (1) ورواية ابن
ابى يعفور بطريق الشيخ في التهذيب (2) دليلا لهم وطعن في دلالة الآية وسند
الرواية ، ثم نقل عن الشيخ في الخلاف وابن الجنيد والمفيد في كتاب الاشراف ظاهرا
الاكتفاء بمجرد الإسلام ثم قال : وباقي المتقدمين لم يصرحوا في عباراتهم بأحد
الأمرين بل كلامهم محتمل لهما ، ثم أورد جملة من الروايات الدالة بظاهرها على مجرد
الاكتفاء بظاهر الإسلام وسننقلها جميعا ان شاء الله تعالى في المقام ، ثم قال :
وهذا القول امتن دليلا وأكثر رواية وحال السلف يشهد به وبدونه لا تكاد تنتظم
الأحكام للحكام خصوصا في المدن الكبيرة والقاضي القادم إليها من بعد لكن المشهور
الآن بل المذهب خلافه. انتهى ملخصا.
أقول : فيه (أولا) ـ ما أشرنا إليه آنفا من أنه قد انجر
الأمر بناء على هذا القول من هذا القائل ومن تبعه فيه الى الحكم بعدالة المخالفين
والنصاب من ذوي الأذناب ؛ وهذا من البطلان أظهر من ان يخفى على أحد من ذوي الإيمان
فضلا عن العلماء الأعيان كما يأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى قريبا.
و (ثانيا) ـ دلالة ظاهر الآية الشريفة على خلاف ما يدعيه
اعنى قوله عزوجل «وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» (3) فإنها صريحة
الدلالة في اعتبار أمر آخر وراء الإسلام لأن الخطاب فيها للمسلمين وضمير «مِنْكُمْ» راجع إليهم فهي
دالة على إسلام الشاهدين فيكون قوله «ذَوَيْ عَدْلٍ» دالا على
العدالة بعد حصول الإسلام فهي أمر زائد على مجرد الإسلام.
واما ما أجاب به (قدسسره) في المسالك ـ
وان اقتفاه فيه من تبعه في ذلك من أن غاية ما تدل عليه الآية الاتصاف بأمر زائد
على مجرد الإسلام فنحمله على عدم ظهور الفسق ـ
ففيه انه لا ريب ان المتبادر من لفظ العدالة لغة وعرفا
وشرعا ـ كما سيظهر
__________________
(1 و 3) سورة الطلاق الآية 2.
(2) ستأتي ص 25.
لك ان شاء الله تعالى من الأخبار ـ عبارة
عن أمر وجودي وصفة ثبوتية ولا سيما صحيح ابن ابى يعفور فإنه ظاهر في ذلك غاية
الظهور لا مجرد أمر عدمي ، فإذا قيل «فلان عدل أو ذو عدالة» فإنما يراد به ان له
أوصافا وجودية توجب صدق هذا العنوان عليه وهو كونه معروفا بالصلاح والتقوى والعفاف
ونحو ذلك.
ويؤيد ما ذكرناه ما روى في تفسير الإمام العسكري (عليهالسلام) بسنده عن
النبي (صلىاللهعليهوآله) (1) قال في قوله
تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (2) قال «ليكونا
من المسلمين منكم فان الله تعالى انما شرف المسلمين العدول بقبول شهاداتهم وجعل
ذلك من الشرف العاجل لهم ومن ثواب دنياهم».
وعن أمير المؤمنين (عليهالسلام) (3) في قوله عزوجل (مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (4) قال : «ممن
ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته وتيقظه في ما يشهد به وتحصيله وتمييزه فما كل
صالح مميز ولا كل محصل مميز».
وبالجملة فإطلاق العدالة على مجرد عدم ظهور الفسق أمر لا
يفهم من حاق اللفظ ولا يتبادر الى فهم فاهم بالكلية فالحمل عليه انما هو من قبيل
المعميات والألغاز الذي هو بعيد بمراحل عن الحقيقة بل المجاز ، ولو قامت هذه
التأويلات السخيفة البعيدة في مقابلة الظواهر المتبادرة إلى الأفهام لم يبق دليل
على حكم من الأحكام من أصول وفروع إذ لا لفظ إلا وهو قابل للاحتمال ولا قول إلا
وللقائل فيه مجال ، فبما ذا يقيمون الحجج على المخالفين في الإمامة بل منكري
التوحيد والنبوة إذا قامت مثل هذه التأويلات الغثة وعورض بها ما يتبادر من الأدلة؟
و (ثالثا) ان ما طعن به على الرواية المذكورة بضعف السند
مردود ـ بناء على صحة هذا الاصطلاح ـ بأنه وان كان السند كذلك في التهذيب إلا ان
الرواية المذكورة في الفقيه (5) صحيحة وهي
صريحة في رد ما ذهب اليه فتكون
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 41 من الشهادات.
(2 و 4) سورة البقرة الآية 282.
(5) ستأتي ص 15.
من أقوى الحجج عليه.
و (رابعا) ان ما نقله ـ من القول بالإسلام عن هؤلاء
الثلاثة الذين ذكرهم وان ما عداهم من المتقدمين لم يصرحوا في عباراتهم بأحد
الأمرين ـ مردود بأن هؤلاء الثلاثة وان صرحوا بما ذكره في هذه الكتب التي أشار
إليها إلا انهم صرحوا في غيرها بخلافه وقد تعارضت أقوالهم فتساقطت ، وإلا فإنه كما
يتمسك هو بأقوالهم في هذه الكتب كذلك يتمسك خصمه بأقوالهم التي بخلافها في غير هذه
الكتب. ودعوى ان غيرهم لم يصرحوا بأحد الأمرين مردود بما سيظهر لك ان شاء الله
تعالى في البين.
وها نحن ننقل جملة من عبائر من وصل إلينا كلامهم لتقف على
حقيقة الحال وتكون ممن يعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.
فنقول : قال الشيخ في النهاية : العدل الذي يجوز قبول
شهادته للمسلمين وعليهم هو ان يكون ظاهره ظاهر الإيمان ثم يعرف بالستر والصلاح
والعفاف والكف عن البطن والفرج واليد واللسان ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد
الله عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف
وغير ذلك الساتر لجميع عيوبه ويكون متعاهدا للصلوات الخمس مواظبا عليهن حافظا
لمواقيتهن متوفرا على حضور جماعة المسلمين غير متخلف عنهم إلا لمرض أو علة أو عذر.
وقال الشيخ المفيد : العدل من كان معروفا بالدين والورع
عن محارم الله تعالى.
وقال ابن البراج : العدالة معتبرة في صحة الشهادة على
المسلم وتثبت في الإنسان بشروط وهي البلوغ وكمال العقل والحصول على ظاهر الإيمان
والستر والعفاف واجتناب القبائح ونفى التهمة والظنة والحسد والعداوة.
وقال أبو الصلاح : العدالة شرط في قبول الشهادة على
المسلم ويثبت حكمها بالبلوغ وكمال العقل والايمان واجتناب القبائح اجمع وانتفاء
الظنة بالعداوة والحسد والمنافسة وقال ابن الجنيد : فإذا كان الشاهد حرا بالغا
مؤمنا عاقلا بصيرا معروف النسب
مرضيا غير مشهور بكذب في شهادته ولا
بارتكاب كبيرة ولا مقام على صغيرة حسن التيقظ عالما بمعاني الأقوال عارفا بأحكام
الشهادة غير معروف بحيف على معامل ولا بتهاون بواجب من علم أو عمل ولا معروف
بمباشرة أهل الباطل ولا الدخول في جملتهم ولا بالحرص على الدنيا ولا بساقط المروة
بريئا من أقوال أهل البدع التي توجب على المؤمنين البراءة من أهلها فهو من أهل
العدالة المقبولة شهادتهم.
وقال الشيخ في المبسوط : العدالة في اللغة أن يكون
الإنسان متعادل الأحوال متساويا ، وفي الشريعة هو من كان عدلا في دينه عدلا في
مروته عدلا في أحكامه ، فالعدل في الدين أن يكون مسلما لا يعرف منه شيء من أسباب
الفسق ، وفي المروة أن يكون مجتنبا للأمور التي تسقط المروة مثل الأكل في الطرقات
ومد الأرجل بين الناس ولبس الثياب المصبغة ، والعدل في الأحكام أن يكون بالغا
عاقلا ، فمن كان عدلا في جميع ذلك قبلت شهادته ومن لم يكن عدلا لم تقبل شهادته.
نقل جميع هذه الأقوال العلامة في المختلف ، قال :
والتحقيق ان العدالة كيفية نفسانية راسخة تبعث المتصف بها على ملازمة التقوى
والمروة وتتحقق باجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر. انتهى.
وأنت خبير بان هذه العبارات عدا عبارتي المبسوط والمختلف
كلها ظاهرة الدلالة في القول الثالث الذي سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى وهو
المختار من بين هذه الأقوال ، وبه يظهر لك صحة ما ذكرناه من تعارض أقوال هؤلاء
الثلاثة الذين تقدم النقل عنهم وتصريح جملة من غيرهم بما ذكرناه من العدالة التي
هي أمر زائد على مجرد الإسلام.
و (خامسا) ان ما استند اليه من الأخبار معارض بما هو
أوضح وأصرح مع قبول ما ذكره للتأويل والرجوع الى الروايات الدالة على ما ادعيناه
كما سيأتي ذكر ذلك ان شاء الله تعالى مشروحا مبرهنا.
(الثالث) من الأقوال في المسألة انها عبارة عن حسن
الظاهر وهو قول أكثر متأخري المتأخرين مستندين فيه صحيح ابن ابى يعفور الآتي ان
شاء
الله تعالى (1) إلا انهم
اكتفوا من حسن الظاهر بما هو القشر الظاهر ولم يعطوا التأمل حقه في الرواية
المذكورة وما تدل عليه مما سنكشف عنه نقاب الإبهام ان شاء الله تعالى لكل ناظر.
وظاهر كلامهم أن المراد بحسن الظاهر هو ان لا يظهر منه
ما يوجب الفسق من ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر. وأنت خبير بان هذا المعنى
لا يخرج عن القول الثاني فإن القائلين بالإسلام اعتبروا عدم ظهور الفسق.
ومن العجب انهم يستندون في هذا القول الى صحيح ابن ابى
يعفور مع انه بالتعمق في معناه ـ كما سنوضحه لك ان شاء الله تعالى ـ بعيد عن هذا
المعنى الذي ذكروه بمراحل.
ومن هذه الأقوال الثلاثة يظهر وجه الخلاف الذي ذكروه في
أن الأصل في المسلم هل هو العدالة أو الفسق أو التوقف؟ فذهب بعضهم الى ان الأصل
فيه العدالة ، وهذا مما يتفرع على تفسير العدالة بمجرد الإسلام كما هو القول
الثاني ، ويعرف مستنده من الأخبار الواردة في ذلك وقد عرفت وستعرف ان شاء الله
تعالى الجواب عنها ، وذهب آخرون الى ان الأصل فيه الفسق استنادا الى ان الأصل
التكليف واشتغال الذمة بالعبادات والتكاليف ، والأصل عدم خروجه عن عهدتها حتى يعلم
قيامه بها ، وهذا مناسب للقول الأول لأن الأصل عدم حصول الملكة المذكورة حتى يحصل
الاطلاع عليها ولكنه بمحل من الضعف لدلالة الأخبار على حسن الظن بالمؤمن وحمل
أفعاله على الصحة والمشروعية.
والتحقيق في المسألة هو القول الثالث وهو التوقف حتى
يعلم أحد الأمرين من عدالة أو فسق ، وهذا هو الأنسب بالقول الثالث الذي اخترناه.
وكيف كان فلنشتغل بنقل الأخبار الواردة في المقام ليظهر
لك صحة ما ذكرناه من هذا الكلام فنقول :
__________________
(1) ص 25.
المقام الثالث ـ في نقل الأخبار الواردة ، وها نحن ننقل
ما وصل إلينا منها مبتدئين بما يدل على ما اخترناه وينادى بما قلناه عاطفين الكلام
على نقل الأخبار التي استند إليها أولئك الأعلام مذيلين لها بما يقتضيه المقام من
نقض وإبرام بتوفيق الملك العلام وبركة أهل البيت (عليهمالسلام) :
فنقول : من الأخبار الدالة على ما اخترناه صحيحة عبد
الله بن ابى يعفور ، وهذه الرواية رواها الصدوق في الصحيح والشيخ في التهذيب بطريق
غير صحيح (1) وفي المتن في
الكتابين تفاوت بالزيادة والنقصان ونحن ننقلها كما نقلها في الوافي (2) عن الكتابين
معلما لموضع الاختصاص بعلامة وموضع الاشتراك بما يدل على ذلك :
فرويا بسنديهما عن عبد الله بن ابى يعفور قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) بم تعرف
عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال ان تعرفوه بالستر
والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان ، وتعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله
عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك
، والدلالة على ذلك كله ان يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما
وراء ذلك من عثراته وعيوبه ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ويكون منه
التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين وان
لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة (فقيه) فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند
حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا ما رأينا منه إلا خيرا
مواظبا على الصلاة متعاهدا لأوقاتها في مصلاه فان ذلك يجيز شهادته وعدالته بين
المسلمين (ش) (3) وذلك ان
الصلاة ستر وكفارة للذنوب (فقيه) وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلى إذا كان
لا يحضر مصلاه ويتعاهد جماعة المسلمين ، وانما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة
__________________
(1) الوسائل الباب 41 من الشهادات.
(2) ج 9 ص 149.
(3) إشارة إلى مورد الاشتراك بين الكتابين.
لكي يعرف من يصلى ممن لا يصلى ومن
يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع (ش) ولولا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح لان
من لا يصلى لا صلاح له بين المسلمين (يب) لان الحكم جرى من الله تعالى ورسوله (صلىاللهعليهوآله) بالحرق في
جوف بيته (فقيه) فان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) هم بان يحرق
قوما في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين وقد كان فيهم من يصلى في بيته فلم
يقبل منه ذلك وكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من الله ومن
رسوله (صلىاللهعليهوآله) فيه بالحرق
في جوف بيته بالنار (ش) وقد كان (صلىاللهعليهوآله) يقول لا صلاة
لمن لا يصلى في المسجد مع المسلمين إلا من علة (يب) وقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لا غيبة إلا
لمن صلى في بيته ورغب عن جماعتنا ، ومن رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين
غيبته وسقطت بينهم عدالته ووجب هجرانه وإذا رفع الى امام المسلمين أنذره وحذره فان
حضر جماعة المسلمين وإلا أحرق عليه بيته ومن لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته وثبتت
عدالته بينهم».
أقول : لا يخفى ان هذه الرواية قد اشتملت على شيئين في
حصول العدالة وانها عبارة عنهما (الأول) ـ انه لا بد في ثبوتها من معرفته بالستر
والعفاف وكف البطن والفرج. الى آخره ، والعطف هنا من قبيل عطف الخاص على العام
تفصيلا للإجمال في المقام ، ولا ريب ان اشتراط معرفته بالكف عن هذه الأشياء يتوقف
على نوع معاشرة واختبار مطلع على باطن الأحوال ، وذلك انك لا تقول «فلان معروف
بالشجاعة» إلا بعد أن تعرف حاله في ميدان القتال ومنازلة الابطال فإذا كان ممن
يقتل الرجال ولا يولى الدبر في موضع النزال ويقاوم الشجعان ويصادم الفرسان صح وصفه
بالشجاعة وان تفاوتت إفرادها شدة وضعفا وهكذا لا تقول «فلان معروف بالطب والحكمة
في الأبدان» إلا إذا كان ممن علم تأثير أدويته وجودة قريحته في شفاء المرضى
والاطلاع على معرفة العلل والأدواء ونحو ذلك ، وحينئذ فلا يقال فلان معروف بكف
البطن والفرج واليد واللسان ونحو ذلك إلا بعد اختباره بالمعاملات والمحاورات
الجارية بين الناس كما لو وقع في
يده مال لغيره أمانة أو تجارة أو نحو
ذلك ، أو جرى بينه وبين غيره خصومة أو نزاع وان اعتدى عليه ، فان كان ممن لا يتعدى
في ذلك الحدود الشرعية والنواميس المرعية فهو هو وإلا فلا ، واما من لم يحصل
الاطلاع على باطن أحواله بوجه وان رؤي ملازما على الصلاة أو الدرس أو التدريس
والإفتاء فضلا عن ان يكون من الغثاء فهو من قبيل مجهول الحال لا يصدق عليه انه
يعرف بذلك بل يحتمل أن يكون كذلك وان لا يكون ، وكم قد رأينا في زماننا من هو
ملازم للصلاة والدعاء وسائر العبادات بل التصدر للتدريس والفتوى وامامة الجماعة
حتى إذا صار بينه وبين أحد معاملة الدرهم والدينار أو وقع في يده مال طفل أو مسجد
أو وقف أو نحو ذلك انقلب الى حالة اخرى وصار همه التوصل بالغلبة والاستيلاء بكل
وجه ممكن وان تفاوتت في ذلك افراد الناس باعتبار تفاوت المقامات ، ونحو ذلك فيما
إذا اعتدى عليه معتد باللسان أو سلب المال فربما قابله بأزيد مما اعتدى عليه وربما
استنكف عن ذلك حياء من الناس في الظاهر ولكن يتربص به الغوائل وينصب له شباك
العداوة ولو انه قابل بالصفح والحلم والعفو لكان هو هو.
وبالجملة فإنه إنما تعرف أحوال الناس وما هم عليه من هذه
الأشياء المذكورة في الخبر وحسن وقبح وعدالة وفسق بالابتلاء والامتحان في
المعاملات والمحاورات والمخاصمات ، فيجب ان ينظر حاله لو كان له على غيره مال في
الاقتضاء ولو كان لغيره عليه مال في القضاء وكيف حاله في الغضب ان اعتدى أحد عليه
وما الذي يجري منه لو أساء أحد اليه ونحو ذلك ، فان كان في جميع ذلك انما يقابل
بالرضا والانقضاء وحسن المعاملة في القضاء والاقتضاء والجري على قواعد الشريعة
المحمدية ولا يستفزه الغضب في الخروج عن تلك الطريقة العلية فهو هو وإلا فليس
بذلك.
وهذا هو الذي لحظه (عليهالسلام) في الخبر وبه
تشهد رؤية العيان وعدول الوجدان ولا سيما في هذا الزمان ، وهذا هو الذي يتبادر من
العبارة المذكورة أعني قولنا ان العدالة عبارة عن حسن الظاهر أى حسن ما يظهر منه
بعد الابتلاء والامتحان
والاختبار بما ذكرنا ونحوه. واما مجرد
رؤية الرجل على ظاهر الايمان عالما فاضلا أو جاهلا خاملا وان لم يظهر منه ما يوجب
الفسق فهو مجهول الحال ولم يظهر منه ما يوجب وصفه بالعدالة المذكورة في هذا الخبر
، فان عدم ظهور ما يوجب الفسق لا يدل على العدم والشرط كما عرفت من الرواية ظهور
العدم لا عدم الظهور والفرق بين المقامين واضح.
ومما يؤيد ما ذكرناه من الفحص والمعاشرة قوله (عليهالسلام) «فإذا سئل
عنه في قبيلته ومحلته. الى آخره» فإنه صريح كما ترى في وجوب السؤال ، وتخصيص
القبيلة والمحلة من حيث انهم أقرب الى الاطلاع على أحواله بالمعاشرة والمخالطة كما
لا يخفى.
(فان قيل) انه يصدق على من لم يظهر منه ما يوجب الفسق
انه معروف بالتقوى والعفاف (قلنا) هذا كلام مجمل ، فإن أريد من لم يظهر منه في
موضع تقضى العادة الجارية بين الناس بالإظهار فهو عين ما نقوله فمرحبا بالوفاق ،
فان من اعتدى عليه بيد أو لسان أو سلب مال وكف لسانه ويده عن الاعتداء ولم يتجاوز
الحدود الشرعية في الاقتضاء أو وقع في يده شيء من الحطام الحرام فكف نفسه عنه
فهذا هو الذي ندعيه ، واما من لم يكن كذلك بان لم تصل يده الى شيء أو لم يحصل له
من يعتدى عليه فلا يوصف بالكف لان الكف انما يقال في موضع يقتضي البسط ألا ترى انه
لا يقال للزاهد في الدنيا من حيث انها زاهدة فيه انه زاهد حقيقة ويترتب عليه ما
أعده الله للزاهدين وانما يقال لمن تمكن منها ووقعت في يده فكف يده عنها ومنع نفسه
من الدخول فيها والتعرض لها؟ ثم ألا ترى ان شر خلق الله الكلاب والسباع وأنت إذا
قابلتها باللطف والإكرام تكون معك في تمام الألفة والصحبة وإذا قابلتها بالتعدي
ترى ما يظهر منها من الشر والجرأة؟
(فإن قيل) ان قوله (عليهالسلام) في الخبر «والدلالة
على ذلك أن يكون ساترا لجميع عيوبه» ظاهر في انه يكفى في الحكم بعدالته انه يظهر
من حاله انه ساتر لعيوبه بمعنى انه لم يظهر منه فسق كما أشار إليه في المدارك ،
قال (قدسسره) في الكتاب
المذكور بعد ذكر الرواية : ويستفاد من
هذه الرواية انه يقدح في العدالة فعل الكبيرة التي أوعد الله عليها النار وانه
يكفى في الحكم بها ان يظهر من حال المكلف كونه ساترا لعيوبه ملازما لجماعة
المسلمين. انتهى.
أقول : كما انه يستفاد من الرواية قدح فعل الكبيرة في
العدالة كذلك يستفاد منها قدح فعل الصغيرة فلا وجه لتخصيص الكبيرة بالذكر بل ربما
أوهم ان فعل الصغيرة غير مخل بالعدالة وهو وان وافق مذهبه في اكتفائه في معنى
العدالة بمجرد الإسلام إلا ان الخبر ظاهر في ما قلناه من قدح فعل الصغيرة ، فإن
قوله (عليهالسلام) «ان تعرفوه
بالستر والعفاف وكف البطن. الى آخره» راجع الى اجتناب الصغائر ثم عطف عليها اجتناب
الكبائر ، وملخصه انه يجب ان يعرف بالتقوى والعفاف عن كل صغيرة وكبيرة ، ولا يخفى
انه لا يمكن ذلك إلا بالمعاشرة والاطلاع على أحواله كما قدمنا ذكره.
واما ما ذكره ـ بقوله «ويكفي في الحكم بها ان يظهر من
حال المكلف كونه ساترا لعيوبه» إشارة الى ما يدعونه من ان حسن الظاهر عبارة عن ان
لا يظهر منه عيب للناس ولا فسق ـ فقد عرفت ما فيه وانه كلام مجمل ولكنه ليس هو
المراد هنا من كلامه وانما كلامه (عليهالسلام) هنا وقع من
قبيل الإجمال بعد التفصيل ، فإنه بعد أن فسر العدالة بأنها عبارة عن ان يعرف بكذا
وكذا الراجع إلى انه لا بد من العلم بتقواه وكفه عن هذه الأشياء أجمل ذلك فقال :
ومجملة ان لا يقف أحد على عيب يذم به بل يكون صلاحه وتقواه وما علم منه ساترا
لعيوبه بغلبته عليها واضمحلالها به فلا يجوز لهم بعد ذلك البحث والتفتيش عن انه هل
له عثرات وعيوب أم لا؟
وأنت إذا أعطيت التأمل حقه في معنى هذه الرواية كما
شرحناه وأوضحناه وجدتها قريبة من القول المشهور بين المتأخرين وانه لا فرق بينها
وبين ما ذهبوا اليه إلا من حيث اعتبارهم كون التقوى ملكة وقد عرفت انه لا دليل
عليه وإلا فاشتراط العلم بالصلاح والتقوى والعفاف وعدم الإخلال بالواجبات واجتناب
المحرمات مما لا شك فيه وهو الذي صرحت
به أيضا عبائر المتقدمين التي قدمنا نقلها الثاني ـ التعاهد للصلوات الخمس بالحضور
مع جماعة المسلمين ، وهذا الشرط وان لم يذكره أحد من الأصحاب بل ربما صرحوا بأن
الإخلال بالمندوبات لا يقدح في وصف العدالة واستثنى بعضهم ما إذا كان على وجه يؤذن
بالتهاون وعدم المبالاة بكمالات الشرع فجعله قادحا ، إلا ان هذا الخبر كما عرفت قد
تضمن هذا الشرط على أبلغ وجه واوكده فيجب القول به ويتعين العمل عليه ونحن تبع
لأقوالهم (عليهمالسلام) لا لأقوال
الفقهاء إلا ان تعتضد بأخبارهم في المقام. وبذلك ايضا صرح شيخنا المحدث الصالح
الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (نور الله مرقده) في بعض أجوبته.
ثم ان الظاهر انه (عليهالسلام) انما آثر
الصلاة جماعة في كونها مظهرا للعدالة ودليلا عليها من حيث استفاضة الأخبار بان
الصلاة عمود الدين (1). وان بقبولها
تقبل سائر الأعمال وان كانت باطلة وبردها ترد سائر الأعمال وان كانت صحيحة (2) وانها معيار
الكفر والايمان (3) وانها متى اتى
بها في وقتها بحدودها كانت كفارة للذنوب الواقعة في ذلك اليوم (4) وانها كما قال
عزوجل «تَنْهى
عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (5) واعتبار حضور الجماعة فيها ليعلم
الإتيان بها ويمكن الحكم على الآتي بها بالعدالة كما صرح به في الخبر.
ومن الأخبار الدالة على ما اخترناه زيادة على هذه
الصحيحة الصريحة في المراد العارية عن وصمة الاعتراض والإيراد ما ذكره الإمام
العسكري (عليهالسلام)
__________________
(1) الوسائل الباب 6 و 8 من أعداد الفرائض ونوافلها.
(2) الوسائل الباب 8 من أعداد الفرائض ونوافلها.
(3) الوسائل الباب 11 من أعداد الفرائض ونوافلها.
(4) الوسائل الباب 2 و 7 من أعداد الفرائض ونوافلها.
(5) سورة العنكبوت الآية 44.
في تفسيره (1) في تفسير قوله
تعالى «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» (2) قال : «يعنى ممن ترضون دينه وأمانته
وصلاحه وعفته وتيقظه في ما يشهد به وتحصيله وتمييزه فما كل صالح مميز ولا محصل ولا
كل محصل مميز صالح ، وان من عباد الله لمن هو أهل لصلاحه وعفته ولو شهد لم تقبل
شهادته لقلة تمييزه ، فإذا كان صالحا عفيفا مميزا محصلا مجانبا للعصبية والهوى
والميل والتحامل فذلك الرجل الفاضل. الحديث». وهو جار على ما تقدم في جملة من
عبارات أصحابنا المتقدمين التي قدمناها والخبر المذكور ظاهر الدلالة واضح المقالة
في ما ادعيناه.
ويعضد ذلك جملة من الأخبار وان لم تكن مثل هذين في
الوضوح والظهور السالم من الإنكار :
منها ـ ما رواه الشيخ الصدوق في الخصال عن الرضا عن
آبائه عن على (عليهمالسلام) (3) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من عامل
الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروته وظهرت
عدالته ووجبت اخوته وحرمت غيبته».
وما رواه فيه ايضا بسنده عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) (4) قال «ثلاث من
كن فيه أوجبت له أربعا على الناس : من إذا حدثهم لم يكذبهم وإذا وعدهم لم يخلفهم
وإذا خالطهم لم يظلمهم ، وجب أن تظهر في الناس عدالته وتظهر فيهم مروته وان تحرم
عليهم غيبته وان تجب عليهم أخوته».
أقول : لا يخفى عليك ما في دلالة هذين الخبرين على ما
ادعيناه زيادة على الصحيحة المتقدمة من اعتبار المعاشرة والمخالطة في معرفة العدالة
لتصريحهما بأن العدالة تثبت بهذه الأمور المعدودة فيهما ومن الظاهر ان هذه الأمور
لا تحصل إلا
__________________
(1) تفسير الصافي في تفسير الآية وفي الوسائل في الباب 41 من
الشهادات.
(2) سورة البقرة الآية 282.
(3 و 4) الوسائل الباب 41 من الشهادات.
بالمخالطة والمعاشرة حسبما قدمنا
تحقيقه ، وبالجملة فإنهما واضحان كالخبرين السابقين في المراد عاريان عن وصمة
الإيراد إلا عند من أعمى الله بصر بصيرته بالعناد واللداد.
ومنها ـ ما رواه أبو بصير في الموثق عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «لا بأس
بشهادة الضيف إذا كان عفيفا صائنا».
ومنها ـ رواية العلاء بن سيابة عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (2) «في المكاري
والملاح والجمال؟ قال : وما بأس بهم تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء».
ورواية عمار بن مروان (3) «في الرجل يشهد
لابنه والابن لأبيه والرجل لامرأته؟ قال : لا بأس بذلك إذا كان خيرا».
ورواية سماعة (4) قال : «سألته عن رجل مات وله بنون
وبنات صغار وكبار من غير وصية وله خدم ومماليك وعقد كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك
الميراث؟ قال أن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس».
والتقريب فيها ـ كما ذكره الأصحاب ـ ان هذا من الأمور
الحسبية الراجعة إلى الحاكم الشرعي أو عدول المؤمنين وهو (عليهالسلام) قد ناط ذلك
بالثقة خاصة لا من اتصف بمجرد الإسلام.
ورواية هشام بن سالم عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (5) في حديث في
الوكالة قال (عليهالسلام) «والوكالة
ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة».
والتقريب بنحو ما تقدم حيث ان الوكيل لا ينعزل عن
الوكالة إلا بعد العلم بالعزل كما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم) وهو (عليهالسلام) قد جعل خبر
الثقة قائما مقام المشافهة ، ولفظ الثقة هنا يساوق لفظ العدل في الأخبار المتقدمة
فهي بمعنى العدل.
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 41 من الشهادات.
(2) الوسائل الباب 34 من الشهادات. وأبو عبد الله يروى عن ابى
جعفر (ع).
(4) الوسائل الباب 88 من الوصايا. وفي نسخ الحدائق (رفاعة).
(5) الوسائل الباب 2 من الوكالة.
وصحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «لو كان
الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس».
ورواية محمد بن مسلم (2) قال : «قدم رجل الى أمير المؤمنين (عليهالسلام) بالكوفة فقال
انى طلقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل ان أجامعها؟ فقال أمير المؤمنين (عليهالسلام) أشهدت رجلين
ذوي عدل كما قال الله تعالى؟ فقال : لا. فقال اذهب فإن طلاقك ليس بشيء».
ورواية جابر عن ابى جعفر (عليهالسلام) (3) قال : «شهادة
القابلة جائزة على انه استهل أو برز ميتا إذا سئل عنها فعدلت».
الى غير ذلك من الأخبار الدالة على اعتبار عدالة الشاهد
كما لا يخفى على من راجعها من مظانها مثل مسألة رؤية الهلال والطلاق والشهادات
والدين ونحوها وان اختلفت في تأدية ذلك إجمالا وتفصيلا ، فربما عبر في بعضها
بالشاهدين بقول مطلق وربما عبر بالعدلين وربما عبر بالأوصاف التي هي شرط في حصول العدالة
إجمالا أو تفصيلا.
ولا ريب ان ضم الأخبار بعضها الى بعض وحمل مطلقها على
مقيدها ومجملها على مفصلها يقتضي ان العدالة أمر زائد على مجرد الإسلام أو
الايمان.
ولا يخفى ايضا ان مقتضى العمل بتلك الأخبار التي استندوا
في الاكتفاء بمجرد الإسلام إليها طرح هذه الأخبار مع اعتضادها بالآية الشريفة
حسبما قدمناه وعمل جملة من متقدمي الأصحاب كما قدمنا من نقل عباراتهم ، على ان تلك
الأخبار التي استندوا إليها غير واضحة الدلالة كما سنكشف عنه ان شاء الله تعالى
نقاب الإبهام في المقام بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهمالسلام).
__________________
(1) الوسائل الباب 14 من كيفية الحكم و 41 من الشهادات.
(2) الوسائل الباب 10 من مقدمات الطلاق وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 24 و 41 من الشهادات.
وها نحن نسوقها لك على التفصيل مذيلين لها بما لا يخفى
صحته وقوته على ذوي الفهم من ذوي التحصيل فنقول :
(الاولى والثانية) صحيحة حريز عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) «في أربعة
شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدل منهم اثنان ولم يعدل الآخران؟ قال إذا كانوا أربعة
من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعا وأقيم الحد على الذي
شهدوا عليه ، انما عليهم ان يشهدوا بما أبصروا وعلموا وعلى الوالي ان يجيز شهادتهم
إلا ان يكونوا معروفين بالفسق».
وما رواه الصدوق في كتاب المجالس بإسناده عن صالح بن
علقمة عن أبيه (2) قال : «قال
الصادق جعفر بن محمد (عليهماالسلام) وقد قلت له
يا ابن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أخبرني عن من
تقبل شهادته ومن لا تقبل؟ فقال يا علقمة كل من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته.
قال فقلت له تقبل شهادة المقترف للذنوب؟ فقال يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين
للذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء والأوصياء لأنهم هم المعصومون دون سائر الخلق
، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة
والستر وشهادته مقبولة وان كان في نفسه مذنبا. الحديث».
وهذان الخبران أظهر ما استدل به للقول المذكور وأنت خبير
بان الخبر الثاني ضعيف باصطلاحهم فلا يصلح للاستدلال ولا يمكنهم الاحتجاج به إلا
انه حيث كان الأمر عندنا خلاف ما اصطلحوا عليه أوردناه دليلا لهم وتكلفنا الجواب
عنه حسما لمادة الشبهة.
والجواب عنهما (أولا) انهما لا يبلغان قوة في معارضة
الأخبار التي قدمناها المترجحة بالآية المتقدمة ، وقد ورد عنهم (عليهمالسلام) في القواعد
المقررة والضوابط المعتبرة التي قرروها انه مع اختلاف الأخبار يجب عرضها على كتاب
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 41 من الشهادات.
الله تعالى والأخذ بما وافقه ورمى ما
خالفه ، ولا ريب ان الروايات المتقدمة موافقة للآية في اشتراط العدالة التي هي أمر
زائد على مجرد الإسلام كما تقدم إيضاحه ، وهذان الخبران على خلاف ما دلت عليه
الآية فيجب طرحهما وردهما إلى قائلهما بمقتضى القاعدة المذكورة.
و (ثانيا) ـ بالحمل على التقية التي هي في الأحكام
الشرعية أصل كل بلية ، ويعضده ما ذكره بعض أصحابنا من أن بعض العامة يذهب الى ان
الأصل في المسلم العدالة (1) ويعضده ايضا
ما ذكره الشيخ في الخلاف من ان البحث عن عدالة الشهود ما كان في أيام النبي (صلىاللهعليهوآله) ولا أيام
الصحابة ولا أيام التابعين وانما هو شيء أحدثه شريك بن عبد الله القاضي (2) ولو كان شرطا
لما أجمع أهل الأمصار على تركه. فإنه دال بأوضح دلالة على ان قضاة العامة من وقت
الصحابة إلى وقت شريك المذكور كانوا على الحكم بالعدالة بمجرد الإسلام ، ومن
الظاهر ان القضاء والحكم بعد موت النبي (صلىاللهعليهوآله) إنما كان في
أيديهم ومتى ثبت ذلك اتجه حمل ما دل من
__________________
(1) في المغني ج 9 ص 64 في مسألة قبول شهادة مجهول الحال عن
احمد ان ظاهر المسلمين العدالة فيحكم بشهادتهما إذا عرفت إسلامهما بظاهر الحال ،
وقال عمر : المسلمون عدول بعضهم على بعض. ثم ذكر ان أعرابيا جاء إلى النبي «ص»
فشهد برؤية الهلال فقال له النبي «ص» أتشهد ان لا إله إلا الله؟ فقال نعم. فقال أتشهد
انى رسول الله؟ قال نعم فصام وأمر الناس بالصيام. ثم اختار ابن قدامة كون العدالة
شرطا فيجب البحث عنها وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد. وفي بدائع الصنائع ج 6 ص
270 ان أبا حنيفة يعتبر العدالة الظاهرة لا الحقيقية ودليله قوله تعالى «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» اى عدلا فوصف سبحانه مؤمني هذه الأمة
بالوساطة وهي العدالة وقال عمر «عدول بعضهم على بعض» فصارت العدالة أصلا في
المؤمنين وزوالها بعارض. وفي البحر الرائق ج 7 ص 69 عن أبي حنيفة يقتصر الحاكم على
ظاهر العدالة في المسلم ولا يسأل حتى يطعن الخصم لقوله «ص» الناس عدول بعضهم على
بعض.
(2) ارجع الى التعليقة 3 ص 18 و 1 ص 19.
أخبارنا على مجرد الاكتفاء بالإسلام
على التقية. واما ما يوجد في كلام متأخري علمائهم من تفسير العدالة بالملكة فلعله
حدث أخيرا من زمن شريك ونحوه كما حدث ذلك لمن تبعهم من متأخري أصحابنا (رضوان الله
عليهم) مع عدم وجوده في كلام متقدميهم.
و (ثالثا) انه متى قيل بما دل عليه الخبران المذكوران
ونحوهما من ان العدالة عبارة عن مجرد الإسلام فاللازم من ذلك طرح تلك الأخبار
الصحيحة الصريحة في أن العدالة عبارة عن أمر زائد على مجرد الإسلام من التقوى
والصلاح والعفاف ونحو ذلك من تلك الأوصاف وكذا مخالفة الآية وهو مما يلتزمه محصل ،
فالواجب حمل الخبرين المذكورين على ما ذكرناه من التقية وإلا فطرحهما بموجب تلك
القاعدة المتقدمة الواضحة.
و (رابعا) انه يحتمل تقييد الخبرين المذكورين بما قدمنا
من الأخبار وذلك فإن غاية هذين الخبرين أن يكونا مطلقين بالنسبة إلى اشتراط
العدالة وطريق الجمع في مثل هذا المقام حمل المطلق على المقيد ، والى ذلك يشير
كلام المحدث الكاشاني في الوافي حيث انه نقل في أول الباب صحيحة ابن ابى يعفور
المتقدمة (1) ثم نقل بعدها
رواية اللاعب بالحمام المتضمنة لنفي البأس عن قبول شهادته إذا لم يعرف بفسق (2) ثم نقل خبر
حريز المذكور ومرسلة يونس الآتية ان شاء الله تعالى ثم قال ما صورته : والجمع بين
هذه الأخبار يقتضي تقييد مطلقها بمقيدها اعنى تقييد ما سوى الأول بما في الأول من
التعاهد للصلوات والمواظبة على الجماعات إلا من علة وانه الميزان في معرفة
العدالة. إلخ.
(الثالثة) مرسلة يونس عن بعض رجاله عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «خمسة
أشياء يجب على الناس ان يأخذوا فيها بظاهر الحكم : الولايات والتناكح والمواريث
والذبائح والشهادات ، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه».
__________________
(1) ص 25.
(2) الوسائل الباب 41 من الشهادات.
(3) الوسائل الباب 22 من كيفية الحكم.
والجواب (أولا) بضعف السند الذي به يضعف عن معارضة ما
قدمنا من الآية والأخبار.
و (ثانيا) بان قوله (عليهالسلام) في آخر الخبر
«فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته» بالدلالة على ما ندعيه أشبه ، ولعله
استدراك منه (عليهالسلام) بالنسبة إلى
الشهادة دون تلك الأشياء المعدودة ، وذلك فإنه إنما يحكم على ظاهره بالمأمونية مع
العلم بما يوجب ذلك من الصفات المتقدمة في تلك الروايات المكنى بها عن العدالة
وإلا فمجهول الحال الذي إنما رؤي حال الحضور عند الحاكم الشرعي للشهادة مثلا كيف
يوصف بكون ظاهره مأمونا وهو مجهول ، إذ مجرد الإسلام لا يكفي في المأمونية لأن
الظاهر الذي يوجب الحكم عليه بالمأمونية إنما هو معرفته في عباداته ومعاملاته ونحو
ذلك لا الظاهر الذي هو عبارة عن رؤية شخصه وكونه مسلما.
ولو قيل : ان المراد إنما هو ظاهر الإسلام لأن الأصل في
المسلم الستر والعفاف (قلنا) هذا الأصل ممنوع وضرورة العيان وعدول الوجدان في
أبناء نوع الإنسان ولا سيما في هذه الأزمان أعدل شاهد في البيان بل الأصل انما هو
مجهولية الحال حتى يظهر أحد الأمرين من العدالة والفسق.
و (ثالثا) ما ذكره المحدث الكاشاني في معنى الخبر
المذكور حيث قال في كتاب الوافي بعد نقله ما صورته : بيان ـ يعنى ان المتولي لأمور
غيره إذا ادعى نيابته مثلا أو وصايته والمباشر لامرأة إذا ادعى زواجها والمتصرف في
تركة الميت إذا ادعى نسبه وبائع اللحم إذا ادعى تذكيته والشاهد على أمر إذا ادعى
العلم به ولا معارض لأحد من هؤلاء تقبل أقوالهم ولا يفتش عن صدقهم حتى يظهر خلافه
بشرط ان يكون مأمونا بحسب الظاهر. انتهى. وحاصله الرجوع الى قبول قول من ادعى شيئا
ولا معارض له وهي مسألة أخرى خارجة عن ما نحن فيه.
(الرابعة) موثقة عبد الله بن ابى يعفور عن أخيه عبد
الكريم عن ابى جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «تقبل
شهادة المرأة والنسوة إذا كن مستورات من أهل البيوتات معروفات
__________________
(1) الوسائل الباب 41 من الشهادات.
بالستر والعفاف مطيعات للأزواج تاركات
للبذاء والتبرج الى الرجال في أنديتهم».
والجواب ان هذه الرواية لما ندعيه أقرب وبما ذهبنا إليه
انسب فإنه (عليهالسلام) قد شرط في
صحة شهادتهن أمورا زائدة على الإسلام لا بد ان يعرف اتصافهن بها وهي العفاف والتقوى
وترك المعاصي والمحرمات التي ربما صدر منهن في تلك المقامات
(الخامسة والسادسة) رواية عبد الرحيم القصير (1) قال : «سمعت
أبا جعفر (عليهالسلام) يقول إذا كان
الرجل لا تعرفه يؤم الناس فقرأ القرآن فلا تقرأ خلفه واعتد بصلاته».
ومرسلة ابن ابى عمير عن بعض أصحابه عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (2) «في قوم خرجوا
من خراسان أو بعض الجبال وكان يؤمهم رجل فلما صاروا إلى الكوفة علموا أنه يهودي؟ قال
لا يعيدون».
والجواب ان هذين الخبرين معارضان عموما بما تقدم من
صحيحة ابن ابى يعفور وغيرها الدالة على اشتراط العدالة وموردها وان كان الشاهد إلا
ان الظاهر كما صرح به جملة من الأصحاب ان العدالة المعتبرة بأي معنى أخذت فإنه لا
فرق فيها بين الشاهد والامام ونحوهما ، وخصوصا بجملة من الأخبار : منها رواية ابى
على بن راشد ورواية خلف بن حماد ورواية إبراهيم بن على المرافقي وابى أحمد عمرو بن
الربيع البصري ونحوها من الروايات المتقدم جميع ذلك في المقام الأول.
وبالجملة فما ذكرناه من الروايات عموما وخصوصا ان لم يكن
أرجح ولا سيما مع اعتضادها بعمل الطائفة المحقة سلفا وخلفا في الإمامة فلا أقل أن
يكون معارضا لهما فلا يمكن التعلق بهما ، وحملهما على التقية أقرب قريب لاتفاق
العامة على جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر (3) فكيف المجهول الحال.
__________________
(1) الوسائل الباب 12 من صلاة الجماعة.
(2) الوسائل الباب 37 من صلاة الجماعة.
(3) في المغني ج 2 ص 189 «الجمع والأعياد تصلى خلف كل بر وفاجر
وقد كان احمد يشهدهما مع المعتزلة وكذلك العلماء الذين في عصره ، ولان هذه الصلاة
من شعائر
وبهذين
الخبرين مع رواية عمر بن يزيد الآتية ان شاء الله تعالى استدل شيخنا المحدث الصالح
الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (قدسسره) في أجوبة المسائل الشوشترية على ما
اختاره من أن العدالة عبارة عن حسن الظاهر ، وهو مؤذن بصحة ما قدمنا نقله عنهم من
انهم انما جمدوا على القشر الظاهر من هذا اللفظ ولم يعطوا التأمل حقه كما لا يخفى
على الخبير الماهر ، وان قولهم بذلك يرجع الى مذهب المفسرين للعدالة بمجرد الإسلام
، مع انهم زعموا كونه قولا ثالثا في المقام والحال كما ترى مما هو ظاهر لذوي
الأفهام ، على انه ايضا يمكن تأويل رواية عبد الرحيم بأن صلاة الناس خلفه بمنزلة
الشهادة على عدالته سيما إذا كان فيهم من يعتقد عدالته وان كان ظاهر الأصحاب انه
لا يجوز ذلك إلا بعد الفحص والسؤال وحمل مرسلة ابن ابى عمير على ان ذلك اليهودي
أظهر لهم الصلاح حتى حصل لهم الاعتقاد بعدالته.
(السابعة) رواية عمر بن يزيد (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن امام لا
بأس به في جميع أموره عارف غير انه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما اقرأ
خلفه؟ قال لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا».
والجواب انه لا ريب ان هذا الخبر بظاهره دال على عدم
ثبوت العقوق بإسماع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما ولا شك ولا إشكال في ثبوت
العقوق بذلك لأن
__________________
الإسلام الظاهرة وتليها الأئمة دون غيرهم فتركها خلفهم يفضى
الى تركها بالكلية» وفي بدائع الصنائع ج 1 ص 156 «تجوز الصلاة خلف الفاسق في قول
العامة لما روى من قوله «ص» «صلوا خلف كل بر وفاجر» والحديث وان ورد في الجمع
والأعياد لتعلقهما بالأمراء وأكثرهم فساق لكنه بظاهره حجة في ما نحن فيه إذ العبرة
بعموم اللفظ لا خصوص السبب» وفي البداية لابن رشد ج 1 ص 123 طبع سنة 1339 «اختلفوا
في إمامة الفاسق فردها قوم بإطلاق وأجازها قوم بإطلاق وفرق قوم بين ان يكون فسقه
مقطوعا به أو غير مقطوع به ففي مقطوع الفسق تعاد الصلاة خلفه واستحبت الإعادة في
مظنون الفسق في الوقت.».
(1) الوسائل الباب 11 من صلاة الجماعة.
الآية الشريفة (1) دلت على تحريم
التأفيف الذي هو كناية عن مجرد التضجر ، وفي الخبر عنه (عليهالسلام) «لو علم الله
شيئا هو أدنى من أف لنهى عنه» رواه في الكافي (2). ورواه ايضا بطريق آخر (3) وزاد فيه «وهو
من ادنى العقوق ومن العقوق ان ينظر الرجل الى والديه فيحد النظر إليهما». وروى فيه
ايضا عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (4) قال «من نظر
الى أبويه نظر ماقت وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة».
وحينئذ فيجب الحكم بفسق الامام المذكور ، وسيأتي ان شاء
الله تعالى عد العقوق في الكبائر بل هو من أكبرها ، وبذلك يظهر ان الخبر المذكور
على ظاهره لا يجوز الاعتماد عليه ولا الاستناد في حكم شرعي اليه. ويمكن تأويله بأن
يكون المراد بقوله (عليهالسلام) «ما لم يكن
عاقا قاطعا» بمعنى مصرا على ذلك من غير توبة إلى أبويه وان يسترضيهما ويصلحهما
ويعتذر إليهما بحيث يرضيان عنه. وبالجملة فإن الخبر المذكور لما عرفت مطرح ولا بأس
بارتكاب التأويل فيه وان بعد تفاديا من طرحه.
(الثامنة والتاسعة) ما رواه الصدوق بإسناد ظاهره الصحة
عن عبد الله بن المغيرة (5) قال : «قلت
للرضا (عليهالسلام) رجل طلق
امرأته واشهد شاهدين ناصبيين؟ قال كل من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت
شهادته».
وحسنة البزنطي عن ابى الحسن (عليهالسلام) (6) انه قال له «جعلت
فداك كيف طلاق السنة؟ فقال يطلقها إذا طهرت من حيضها قبل ان يغشاها بشاهدين عدلين
كما قال الله في كتابه فإن خالف ذلك رد الى كتاب الله. فقلت فإن أشهد رجلين
ناصبيين على الطلاق
__________________
(1) «فَلا
تَقُلْ لَهُما أُفٍّ» سورة بني إسرائيل الآية 24.
(2) الأصول باب العقوق ولفظه هكذا «ادنى العقوق أف ولو علم
الله شيئا أهون منه لنهى عنه» وفي آخر «أيسر» بدل «أهون».
(3) الأصول باب العقوق واللفظ كما ذكر في المتن.
(4) الأصول باب العقوق.
(5) الوسائل الباب 41 من الشهادات.
(6) الوسائل الباب 10 من مقدمات الطلاق وشرائطه.
أيكون طلاقا؟ فقال من ولد على الفطرة
أجيزت شهادته على الطلاق بعد ان يعرف منه خير».
قال في المسالك بعد إيراد الخبر الثاني في كتاب الطلاق :
وهذه الرواية واضحة الاسناد والدلالة على الاكتفاء بشهادة المسلم في الطلاق. ولا
يرد ان قوله «بعد ان يعرف منه خير» ينافي ذلك لأن الخير قد يعرف من المؤمن وغيره
وهو نكرة في سياق الإثبات لا يقتضي العموم فلا ينافيه مع معرفة الخير منه بالذي
أظهره من الشهادتين والصلاة والصيام وغيرهما من أركان الإسلام ان يعلم منه ما
يخالف الاعتقاد الصحيح لصدق معرفة الخير منه معه. وفي الخبر ـ مع تصديره باشتراط
شهادة العدلين ثم الاكتفاء بما ذكر ـ تنبيه على ان العدالة هي الإسلام فإذا أضيف
الى ذلك أن لا يظهر الفسق كان اولى. انتهى.
واقتفاه في هذه المقالة سبطه السيد السند في شرح النافع
فقال بعد نقل كلامه المذكور وذكر الرواية الأولى ما صورته : وهو جيد والرواية
الاولى مع صحة سندها دالة على ذلك أيضا فإن الظاهر ان التعريف في قوله (عليهالسلام) فيها «وعرف
بالصلاح في نفسه» للجنس لا للاستغراق ، وهاتان الروايتان مع صحتهما سالمتان من المعارض
فيتجه العمل بهما. انتهى.
واقتفاهما في ذلك المحدث الكاشاني في المفاتيح والفاضل
الخراساني كما هي عادتهما غالبا.
أقول : وهذا ما أشرنا إليه آنفا من انه قد انجر الأمر من
القول بمجرد الإسلام إلى الحكم بعدالة النصاب وذوي الأذناب.
وكيف كان فهذا الكلام باطل ومردود من وجوه (الأول) ما
قدمنا بيانه من الآية والأخبار المتقدمة الدالة على ان العدالة أمر زائد على مجرد
الإسلام مع دلالة جملة منها على ان ذلك عبارة عن التقوى والصلاح والعفاف ونحوها.
وبذلك يظهر لك ما في قول سبطه السيد السند انهما سالمتان من المعارض فيتجه العمل
بهما.
(الثاني) انه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) من
هؤلاء القائلين بهذا القول وغيرهم في كفر الناصب ونجاسته وحل دمه وماله وان حكمه
حكم الكافر الحربي ، وانما الخلاف في المخالف الغير الناصب هل يحكم بإسلامه كما هو
المشهور بين المتأخرين أم بكفره كما هو المشهور بين المتقدمين؟ والروايتان قد
اشتملتا على السؤال عن شهادة الناصبين على الطلاق فكيف يتم الحكم بالإسلام ثم صحة
الطلاق فرعا على ذلك مع الاتفاق نصا وفتوى على الكفر كما عرفت؟ إلا ان يريدوا
بالإسلام مجرد الانتحال للإسلام وحينئذ فتدخل فيه الخوارج والمجسمة والمشبهة فتكون
ظلمات بعضها فوق بعض.
ثم لو تنزلنا عن ذلك وحملنا الناصب في الخبرين على
المخالف كما ربما يدعيه الخصم حيث ان مذهبهم الحكم بإسلام المخالفين فانا نقول ان
قبول شهادة المخالف مخالف للأدلة الشرعية كتابا وسنة الدالة على عدم قبول شهادة
الفاسق والظالم (1) واى فسق وظلم
أظهر من الخروج من الإيمان والإصرار على ذلك الاعتقاد الفاسد المترتب عليه ما لا
يخفى من المفاسد.
واما ما أجاب به المحدث الكاشاني في المفاتيح تبعا
للمسالك ـ من ان الفسق انما يتحقق بفعل المعصية مع اعتقاد كونها معصية لا مع
اعتقاد كونها طاعة والظلم انما يتحقق بمعاندة الحق مع العلم به ـ فهو مردود بأنه
لو تم هذا الكلام المنحل الزمام المموه الفاسد الناشئ من عدم إعطاء التأمل حقه في
هذه المقاصد لاقتضى قيام العذر للمخالفين وعدم استحقاق العذاب في الآخرة ولا أظن
هؤلاء القائلين يلتزمونه ، وذلك فان المكلف إذا بذل جده وجهده في طلب الحق وأتعب
الفكر والنظر في ذلك واداه نظره الى ما كان باطلا في الواقع لعروض الشبهة له فلا
ريب في انه يكون
__________________
(1) اما الكتاب فقوله تعالى في سورة الحجرات الآية 6 «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا).» وقوله تعالى في سورة هود الآية 115 «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا»
واما السنة فيرجع فيها الى الوسائل الباب 30 من الشهادات.
معذورا عقلا ونقلا لعدم تقصيره في
السعي لطلب الحق وتحصيله الذي أمر به وكذا يقوم العذر لمنكري النبوات وأهل الملل
والأديان وهذا في البطلان أظهر من ان يحتاج الى بيان. وبالجملة فإنه ان كان هذا
الاعتقاد الذي جعله طاعة وعدم العلم بالحق الذي ذكره انما نشأ عن بحث ونظر يقوم
بهما العذر شرعا عند الله فلا مناص عن ما ذكرناه وإلا فلا معنى لكلامه بالكلية كما
هو الظاهر لكل ذي عقل وروية.
(الثالث) انه قد استفاضت الروايات والاخبار عن الأئمة
الأبرار (عليهمالسلام) ـ كما بسطنا
عليه الكلام في كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب ـ بكفر المخالفين ونصبهم
وشركهم وان الكلب واليهودي خير منهم (1). وهذا مما لا يجامع الإسلام البتة
فضلا عن العدالة ، واستفاضت ايضا بأنهم ليسوا من الحنيفية على شيء (2). وانهم ليسوا
إلا مثل الجدر المنصوبة (3). وانه لم يبق
في يدهم إلا مجرد استقبال القبلة (4). واستفاضت بعرض الأخبار على مذهبهم
والأخذ بخلافه (5) واستفاضت ايضا
ببطلان أعمالهم (6) وأمثال ذلك
مما يدل على خروجهم عن الملة المحمدية والشريعة النبوية بالكلية والحكم بعدالتهم
لا يجامع شيئا من ذلك كما لا يخفى.
(الرابع) انه يلزم من ما ذكره ـ من ان الخير نكرة في
سياق الإثبات فلا يعم وكذا قول سبطه : ان التعريف في قوله (عليهالسلام) «وعرف
بالصلاح في نفسه» للجنس لا للاستغراق ـ دخول أكثر الفسقة والمردة في هذا التعريف
إذ ما من فاسق في الغالب إلا وفيه صفة من صفات الخير فإذا جاز اجتماع العدالة مع
فساد العقيدة
__________________
(1) ارجع الى ج 5 ص 185 و 187.
(2 و 5) الوسائل الباب 9 من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.
(3) الوسائل الباب 10 من صلاة الجماعة.
(4) في الفصول المهمة للحر العاملي ص 74 الباب 29 عن ابى عبد
الله «ع» قال «والله ما بقي في أيديهم شيء من الحق الا استقبال القبلة» ....
(6) الوسائل الباب 29 من مقدمة العبادات.
جاز مع شرب الخمر والزنا واللواط ونحو
ذلك بطريق أولى ، بل يدخل في ذلك الخوارج والمرجئة وأمثالهما من الفرق التي لا
خلاف في كفرها حيث ان الخير بهذا المعنى حاصل فيهم فتثبت عدالتهم بذلك وان كانوا
فاسدي العقيدة نعوذ بالله من زلل الاقدام وطغيان الأقلام.
(الخامس) قوله «ان الخير يعرف من المؤمن. إلى قوله لصدق
معرفة الخير منه» فان فيه زيادة على ما تقدم ان الأخبار الصحيحة الصريحة قد
استفاضت ببطلان عبادة المخالفين لاشتراط صحة العبادة بالإقرار بالولاية بل ورد عن
الصادق (عليهالسلام) (1) «سواء على
الناصب صلى أم زنى». والمراد بالناصب هو مطلق المخالف كما حققناه في كتاب الشهاب
الثاقب وحينئذ فأي خيرية في أعمال من قام الدليل على بطلانها وانها في حكم العدم ،
وكونها في الظاهر بصورة العبادة لا يجدى نفعا لأن خيرية الخير وشرية الشر انما هو
باعتبار ما يترتب على كل منهما من النفع والضرر كما ينادى به الحديث النبوي (2) «لا خير بخير
بعده النار ولا شر بشر بعده الجنة».
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الذي ظهر لي في معنى الخبرين
المذكورين أنهما إنما خرجا مخرج التقية ، وتوضيح ذلك انه قد ظهر بما قدمناه من
الوجوه ان المخالف ناصبيا كان بالمعنى الذي يدعونه أو غيره لا خير فيه بوجه من
الوجوه فخرج من البين بذلك ، ولو حمل الخير في الخبر على مطلق الخير كما ادعاه في
المسالك لجامع الفسق البتة إذ لا فاسق متى كان مسلما إلا وفيه خير وهو باطل إجماعا
نصا وفتوى لدلالة الآية (3) والرواية (4) على رد خبر
الفاسق ، فلا بد من حمل الخير على أمر
__________________
(1) روضة الكافي ص 160 «لا يبالي الناصب صلى أم زنى».
(2) المفردات للراغب مادة «خير» وفي تاج العروس مادة «خير»
نقلا من المفردات للراغب والبصائر لصاحب القاموس.
(3) قوله تعالى في سورة الحجرات الآية 6 «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا ...».
(4) الوسائل الباب 30 من الشهادات.
زائد على مجرد الإسلام ، ووجه الإجمال
في هذه العبارة في الخبرين انما هو التقية التي هي في الأحكام الشرعية أصل كل بلية
، وذلك ان السائل في الخبر الثاني لما سأله عن كيفية طلاق السنة أجاب (عليهالسلام) بالحكم
الشرعي الواضح وهو ان يطلقها إذا طهرت من حيضها قبل ان يغشاها بشاهدين عدلين كما
قال الله عزوجل في كتابه (1) فإن خالف ذلك
رد الى الكتاب بمعنى انه يبطل ما اتى به من الطلاق لمخالفته الكتاب ، ولا ريب ان
الطلاق بشهادة الناصب باطل بمقتضى هذا التقرير عند كل ذي انس باخبار أهل البيت
ومعرفة مذهبهم (عليهمالسلام) وما يعتقدونه
في مخالفيهم من الكفر والشرك والعداوة والنصب فيجب رد من أشهدهما على طلاق الى
كتاب الله الدال على بطلان هذا الطلاق لاشتراط عدالة الشاهد بنص الكتاب لكن لما
سأل السائل بعد ذلك عن خصوص ذلك وكان المقام لا يقتضي الإفصاح بالجواب ب «لا أو
نعم» أجمل (عليهالسلام) في الجواب
بما فيه إشارة إلى انه لا يجوز ذلك بعبارة موهمة للجواز فقال (عليهالسلام) «كل من ولد
على الفطرة الإسلامية وعرف فيه خير جازت شهادته». وهذا في بادئ النظر يعطى ما
توهمه هؤلاء من كون الناصب تجوز شهادته لانه ولد على فطرة الإسلام وفيه خير إلا
انه لما كان الناصب بمقتضى مذهبهم (عليهمالسلام) من أخبارهم
وتتبع سيرهم لا خير فيه ولا صلاح بالكلية لما أسلفنا ذكره وجب إخراجه في المقام
وحمل العبارة المذكورة على من عداه. ومن ما ذكرنا يعلم الكلام في الرواية الاولى.
وبذلك يظهر لك زيادة على ما قدمناه ما في كلام السيد السند وقوله ان الروايتين
سالمتان من المعارض.
وبالجملة فان الواجب في الاستدلال بالخبر في هذا الموضع
وغيره النظر الى انطباق موضع الاستدلال على مقتضى القواعد المعتبرة والقوانين
المقررة في الأخبار فمتى كان الخبر مخالفا لها وخارجا عنها وجب طرحه وامتنع الاستناد
اليه وان كان صحيح السند صريح الدلالة لاستفاضة أخبارهم (عليهمالسلام) بعرض
__________________
(1) قوله تعالى في سورة الطلاق الآية 2 «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ».
الأخبار على كتاب الله تعالى والسنة
النبوية ولكن عادة أصحاب هذا الاصطلاح ولا سيما السيد صاحب المدارك الدوران مدار
صحة السند فمتى كان السند صحيحا لم ينظر الى ما دل في متن الخبر من العلل كما
قدمنا التنبيه عليه في غير موضع من ما تقدم. وبالجملة فكلام هؤلاء الأعيان في هذا
المكان أظهر في البطلان من أن يحتاج إلى زيادة على ما ذكرنا من البيان. والله
العالم.
(المقام الرابع) في الكبائر وعددها وانها عبارة عما ذا
وانه هل جميع الذنوب كبائر أو بعضها صغائر وبعضها كبائر؟
والكلام هنا يقع في موضعين (الأول) في الكبائر وعددها ،
اعلم انه قد اختلفت كلمة العلماء في تفسير الكبيرة على أقوال منتشرة ، فقال قوم هي
كل ذنب توعد الله تعالى عليه بالعقاب في الكتاب العزيز ، وقال آخرون هي كل ذنب رتب
عليه الشارع حدا أو صرح بالوعيد ، وقال طائفة هي كل معصية تؤذن بقلة اكتراث فاعلها
بالدين ، وقال جماعة هي كل ذنب علمت حرمته بدليل قاطع ، وقيل كل ما توعد عليه
توعدا شديدا في الكتاب أو السنة ، وقيل هي ما نهى الله عنه في سورة النساء من
أولها إلى قوله تعالى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ ... الآية» (1) وقال قوم انها
سبع : الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم والربا
والفرار من الزحف وعقوق الوالدين ، وقيل انها تسع بزيادة السحر والإلحاد في بيت
الله أى الظلم فيه ، الى غير ذلك من الأقوال الكثيرة المنسوبة إلى العامة (2).
والمختار من هذه الأقوال الأول والظاهر انه المشهور بين
أصحابنا بل قال
__________________
(1) الآية 35.
(2) في بدائع الصنائع ج 6 ص 268 «اختلف في ماهية الكبائر
والصغائر فقال بعضهم ما فيه حد في كتاب الله فهو كبيرة وما ليس فيه حد فهو صغيرة ،
وقال بعضهم ما يوجب الحد كبيرة وما لا يوجبه صغيرة ، وقال بعضهم كل ما جاء مقرونا
بوعيد فهو كبيرة».
بعض أفاضل متأخري المتأخرين بعد نسبة
هذا القول إلى الشهرة بينهم : ولم أجد في كلامهم اختيار قول آخر.
ويدل على هذا القول جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه
ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح عن الحسن بن محبوب (1) قال : «كتب
معى بعض أصحابنا الى ابى الحسن (عليهالسلام) يسأله عن
الكبائر كم هي وما هي؟ فكتب الكبائر من اجتنب ما وعد الله عليه النار كفر عنه
سيئاته إذا كان مؤمنا ، والسبع الموجبات : قتل النفس الحرام وعقوق الوالدين وأكل
الربا والتعرب بعد الهجرة وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف».
قال بعض مشايخنا المعاصرين قوله (عليهالسلام) : «والسبع
الموجبات» معناه أنها أكبر الكبائر وأشدها حتى انها أوجبت النار لفاعلها ، ومن
المستبين ان الإيجاب والحتم أمر آخر فوق الإيعاد لا يتطرق اليه الإخلاف بخلاف
الوعيد المطلق فان اخلافه حسن كما تقرر في الكلام ، فهذه السبع لعظمها كأنها أوجبت
النار فلا ينافي ما تضمنه صدر الخبر من تفسيرها بما وعد الله عليه النار.
ومنها ـ ما رواه في الكتاب المذكور عن الحلبي عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) (2) «في قول الله عزوجل (إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)؟ قال : الكبائر
التي أوجب الله عزوجل عليها النار».
ومثله في تفسير العياشي عن كثير النواء عن الباقر (عليهالسلام) (3).
وما رواه في الفقيه عن عباد بن كثير النواء (4) قال : «سألت
أبا جعفر (عليهالسلام) عن الكبائر
فقال كل ما أوعد الله عليه النار».
__________________
(1 و 4) الوسائل الباب 45 من جهاد النفس.
(2) الوسائل الباب 44 من جهاد النفس. وفي الطبعة القديمة ورد
هذا الحديث بهذا اللفظ عن أبي جميلة أيضا وهو تكرار له بهذا العنوان إذ لا حديث
لأبي جميلة في الكافي غير حديث الحلبي وانما يرويه أبو جميلة عن الحلبي.
(3) مستدرك الوسائل الباب 46 من جهاد النفس.
ومنها ـ صحيحة ابن ابى يعفور المتقدمة (1) وقوله (عليهالسلام) فيها «وتعرف
باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر. الى آخر ما تقدم».
وروى الثقة الجليل على بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الكبائر التي قال الله عزوجل (إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)؟ قال التي
أوجب عليها النار».
واما ما اشتمل على الحصر في عدد معين ـ مثل ما رواه في
الكافي عن محمد بن مسلم عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «سمعته
يقول الكبائر سبع : قتل المؤمن متعمدا وقذف المحصنة والفرار من الزحف والتعرب بعد
الهجرة وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا بعد البينة وكل ما أوجب الله تعالى عليه
النار».
وعن عبيد بن زرارة في الحسن (4) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الكبائر
فقال هن في كتاب على (عليهالسلام) سبع : الكفر
بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وأكل الربا بعد البينة وأكل مال اليتيم ظلما
والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة. قال فقلت فهذا أكبر المعاصي؟ قال نعم. قلت
فأكل درهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم ترك الصلاة؟ قال ترك الصلاة. قلت : فما عددت
ترك الصلاة في الكبائر؟ فقال اى شيء أول ما قلت لك؟ قال قلت الكفر. قال فان تارك
الصلاة كافر يعنى من غير علة».
وعن مسعدة بن صدقة (5) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول الكبائر
القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وقتل النفس التي حرم
الله وعقوق الوالدين وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا بعد البينة والتعرب بعد
الهجرة وقذف المحصنة والفرار من الزحف».
أقول : هذا الخبر قد اشتمل على عشر من الكبائر واحتمل
بعض المحدثين
__________________
(1) ص 25.
(2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 45 من جهاد النفس.
ان عطف قوله : «اليأس» على القنوط عطف
بيان ، قال : لعدم التغاير بينهما في المعنى إذ لا فرق بينا بين اليأس والقنوط ولا
بين الروح والرحمة. انتهى.
وعن ابى بصير عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «سمعته
يقول : الكبائر سبعة منها قتل النفس متعمدا والشرك بالله العظيم وقذف المحصنة وأكل
الربا بعد البينة والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة وعقوق الوالدين وأكل مال
اليتيم ظلما قال : والتعرب والشرك واحد».
أقول : قوله «والتعرب والشرك واحد» لعله اعتذار عن ما
يتراءى من المخالفة بين قوله «سبعة» والتفصيل لكونها ثمانية ـ فيمكن دفع المنافاة
بينه وبين ما تقدم بان مراتب الكبائر مختلفة وان السبع المذكورة في هذه الأخبار
أكبر من ما عداها ، ولا ينافي ذلك ان كل ما أوعد الله عليه النار كبيرة. ويحتمل
حمل هذه الأخبار الأخيرة على التمثيل لا الحصر ويؤيده اختلافها في بعض الأفراد
المعدودة فيها.
ويؤيد ما قلنا من أن ذكر هذه السبع ونحوها انما هو من
حيث كونها أكبر ما رواه في التهذيب عن ابى الصامت عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «أكبر
الكبائر سبع : الشرك بالله العظيم وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل
مال اليتيم وعقوق الوالدين وقذف المحصنات والفرار من الزحف وإنكار ما انزل الله عزوجل».
هذا ، وقد روى في الكافي والفقيه عن عبد العظيم بن عبد
الله الحسنى (3) قال : «حدثني
أبو جعفر الثاني (عليهالسلام) قال سمعت ابى
(عليهالسلام) يقول سمعت
ابى موسى بن جعفر (عليهالسلام) يقول : دخل
عمرو بن عبيد على ابى عبد الله (عليهالسلام) فلما سلم
وجلس تلا هذه الآية «الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش» (4) ثم أمسك فقال
له أبو عبد الله (عليهالسلام) ما أسكتك؟
قال أحب ان أعرف الكبائر من كتاب الله تعالى فقال نعم يا عمرو أكبر الكبائر
الإشراك بالله يقول الله تعالى «مَنْ
يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 45 من جهاد النفس.
(4) النجم الآية 33.
الْجَنَّةَ» (1) وبعده الإياس من روح الله لان الله
تعالى يقول «لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (2) ثم الأمن لمكر الله لان الله تعالى
يقول «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (3) ومنها عقوق الوالدين لان الله تعالى
جعل العاق جبارا شقيا (4) وقتل النفس
التي حرم الله إلا بالحق لان الله تعالى يقول «فَجَزاؤُهُ
جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ... الى آخر الآية» (5) وقذف المحصنة
لأن الله تعالى يقول «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (6) وأكل مال اليتيم لان الله تعالى يقول
«إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً»
(7) والفرار من
الزحف لان الله تعالى يقول «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ
مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (8) وأكل الربا لان الله تعالى يقول «الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» (9) والسحر لان
الله تعالى يقول «وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ خَلاقٍ» (10) والزنا لان
الله تعالى يقول «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً» (11) واليمين الغموس الفاجرة لأن الله
تعالى يقول :
«الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً
قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ» (12) والغلول لان الله تعالى يقول «وَمَنْ
يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (13) ومنع الزكاة المفروضة لأن الله تعالى
يقول «فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ» (14)
__________________
(1) سورة المائدة الآية 76.
(2) سورة يوسف الآية 87.
(3) سورة الأعراف الآية 97.
(4) سورة مريم الآية 32.
(5) سورة النساء الآية 95.
(6) سورة النور الآية 23.
(7) سورة النساء الآية 11.
(8) سورة الأنفال الآية 16.
(9) سورة البقرة الآية 276.
(10) سورة البقرة الآية 96.
(11) سورة الفرقان الآية 68 و 69.
(12) سورة آل عمران الآية 71.
(13) سورة آل عمران الآية 155.
(14) سورة التوبة الآية 35.
وشهادة الزور وكتمان الشهادة لأن الله
يقول «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» (1) وشرب الخمر لان الله تعالى نهى عنها (2) كما نهى عن
عبادة الأوثان (3) وترك الصلاة
متعمدا أو شيئا مما فرض الله تعالى لأن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال : «من
ترك الصلاة متعمدا فقد بريء من ذمة الله وذمة رسول الله (صلىاللهعليهوآله)» ونقض العهد
وقطيعة الرحم لان الله تعالى يقول «أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ
سُوءُ الدّارِ» (4) قال فخرج عمرو
وله صراخ من بكائه وهو يقول هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم».
أقول : وهذه الرواية قد اشتملت من عدد الكبائر على احدى
وعشرين والكلام فيها ينبغي أن يكون على نحو ما قدمناه من أن الكبائر كثيرة وإيثار
هذه الاعداد بالذكر لكونها أكبر من البواقي أو يحمل على ان وقوعها أكثر فوق
الاهتمام بذكرها ليحترزوا عنها وان تفاوتت هذه الأعداد أيضا في ذلك بالشدة والضعف
، مع ان في أكثرها إشارة إجمالية إلى غيرها لاشتراكها في العلة وهي الوعيد. ومن ما
يعضده ما نقله جملة من أصحابنا عن ابن عباس ان الكبيرة ما نهى الله سبحانه عنه قيل
، هي سبع قال : هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية إلى السبعمائة.
(الموضع الثاني) ـ قد اختلف أصحابنا (رضوان الله عليهم)
في انه هل يكون كل معصية كبيرة وان إطلاق الصغيرة على بعضها انما هو مجاز بالإضافة
الى ما فوقها أو انها حقيقة في القسمين فمنها ما يكون كبيرة ومنها ما يكون صغيرة؟
قولان ذهب الى الأول جمع من الأصحاب ونقل عن الشيخ المفيد وابن البراج وابى الصلاح
والشيخ في العدة والشيخ ابى على الطبرسي وابن إدريس ، فكل ذنب عندهم كبيرة
لاشتراكها في مخالفة أمر الله تعالى إلا انه ربما أطلق الصغيرة على بعض الذنوب
بالإضافة الى ما فوقه كالقبلة مثلا بالنسبة إلى الزنا وان كانت كبيرة بالنسبة إلى
مجرد النظر.
__________________
(1) سورة البقرة الآية 283.
(2) سورة المائدة الآية 92.
(3) سورة الحج الآية 31.
(4) سورة الرعد الآية 25.
قال الشيخ أبو على المذكور في تفسيره مجمع البيان (1) بعد نقله هذا
القول : والى هذا ذهب أصحابنا فإنهم قالوا المعاصي كلها كبيرة لكن بعضها أكبر من
بعض وليس في الذنوب صغيرة وانما يكون صغيرا بالإضافة الى ما هو أكبر منه ويستحق
العقاب عليه أكثر.
وظاهر عبارته ان ذلك اتفاقي بين من تقدم عليه من أصحابنا
وربما ظهر ذلك ايضا من كلام الشيخ في العدة وابن إدريس.
قال شيخنا البهائي (زاده الله بهاء وشرفا) في كتاب
الأربعين بعد نقل ذلك عنه : لا يخفى ان كلام الشيخ الطبرسي مشعر بان القول بان
الذنوب كلها كبائر متفق عليه بين الإمامية وكفى بالشيخ ناقلا :
«إذا
قالت حذام فصدقوها |
|
فان القول ما قالت حذام» |
قيل : ولهذا القول شواهد في الأخبار مثل ما دل على ان كل
معصية شديدة (2). وما دل على
ان كل معصية قد توجب لصاحبها النار (3) وما دل على التحذير من استحقار الذنب
واستصغاره (4) وأمثال ذلك.
ويؤيده ما رواه الكليني عن عبد الله بن سنان بإسناد
يحتمل الصحة عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (5) قال : «لا
صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار».
وما رواه ابن بابويه بإسناد ضعيف عن النبي (صلىاللهعليهوآله) (6) قال : «لا
تحتقروا شيئا من الشر وان صغر في أعينكم ولا تستكثروا شيئا من الخير وان كثر في
أعينكم فإنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار».
وجه التأييد ان المراد بالإصرار الإقامة على الذنب لعدم
التوبة والاستغفار كما قال جماعة من المفسرين في قوله تعالى «وَلَمْ
يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا» (7).
__________________
(1) ج 3 ص 38.
(2) الوسائل الباب 38 من جهاد النفس.
(3) الوسائل الباب 38 و 39 من جهاد النفس.
(4 و 6) الوسائل الباب 42 من جهاد النفس.
(5) الوسائل الباب 47 من جهاد النفس.
(7) سورة آل عمران 129.
أقول : يمكن تطرق النظر الى ما ذكره بان يقال (أولا) ان
ما ذكره من هذه الأدلة معارض بما سيأتي ان شاء الله تعالى في أدلة القول الآخر مما
هو أوضح دلالة.
و (ثانيا) انه يمكن ان يقال ان احتقار الذنب واستصغاره
أمر زائد على أصل الذنب فلعله بانضمام ذلك الى أصل الذنب يكون كبيرة ، ويؤيده ما
يظهر من كلام أهل اللغة ، قال الجوهري «أصررت على الشيء أي أقمت ودمت» وقال ابن
الأثير : «أصر على الشيء إصرارا إذا لزمه وداومه وثبت عليه» وفي القاموس «أصر على
الأمر لزمه» فان ظاهر هذا الكلام ان الإصرار عبارة عن العزم على المعاودة
والمداومة على ذلك الذنب.
وقال شيخنا الشهيد في قواعده على ما نقله بعض الأصحاب
بعد تقسيمه الإصرار إلى فعلى وحكمي : الفعلي هو الدوام على نوع واحد من الصغائر
بلا توبة أو الإكثار من جنسها بلا توبة والحكمي هو العزم على تلك الصغيرة بعد
الفراغ منها ، اما لو فعل الصغيرة ولم يخطر بباله بعدها توبة ولا عزم على فعلها
فالظاهر انه غير مصر. انتهى. وهو ظاهر فيما قلناه وواضح في ما ادعيناه.
إلا انه قد روى في الكافي عن جابر عن ابى جعفر (عليهالسلام) (1) «في قول الله
تعالى (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (2) قال الإصرار
أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار».
فإن ظاهره ان الإصرار يتحقق بالذنب مع عدم التوبة
والاستغفار وهو ظاهر في ان من لا يخطر بباله بعد الذنب توبة ولا عزم على فعلها
يكون مصرا ، وحينئذ تكون كبيرة بمقتضى الأخبار الدالة على انه لا صغيرة مع الإصرار
(3) ويكون دليلا
ظاهرا لهذا القول.
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 47 من جهاد النفس.
(2) سورة آل عمران الآية 129.
وفيه انه وان كان الأمر كذلك إلا انه مع ضعف سنده معارض
بما سيأتي ان شاء الله تعالى من الأدلة الدالة على القول الآخر الظاهرة في الرجحان
عليه.
هذا ، ولهم في تفسير الإصرار أقوال مختلفة ، فقيل انه
عبارة عن الإكثار من الصغائر سواء كان من نوع واحد أو من أنواع مختلفة ، وقيل انه
عبارة عن المداومة على نوع واحد منها ، ونقل بعضهم قولا بان المراد به عدم التوبة
، قال في البحار بعد نقله : وهو ضعيف وقد تقدم في كلام شيخنا الشهيد في قواعده
تقسيم الإصرار إلى فعلى وحكمي. إلى آخر ما قدمناه من كلامه ، قال في البحار
وارتضاه جماعة من المتأخرين. وأنت خبير بان النصوص خالية من بيان خصوص ذلك صريحا
إلا ما يفهم من رواية جابر وظاهر جملة من الأصحاب الاعراض عن ما دلت عليه والميل
الى ما اخترناه من المعنى المذكور المأخوذ فيه العزم على العود.
قال بعض المحققين من متأخري المتأخرين : وبالجملة ظاهر
الجمع بين الروايات والأخبار الواردة في هذا الباب ان العدل واقعا من يكون ارتكابه
للمعاصي على سبيل الندرة بحيث يكون عامة أو قامة متجانبا عنها بحيث ان صدر منه شيء
تذكر واستغفر كما قال سبحانه «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً
أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ» (1) فحينئذ ان صدر منه صغيرة ولو غير مرة
وغفل عن توبته لا يضره ذلك ولم يصر بذلك مصرا. انتهى.
الثاني من القولين المذكورين هو ان الذنوب تنقسم إلى
كبائر وصغائر ، ونقل عن الشيخ في المبسوط وابن حمزة والفاضلين وجمهور المتأخرين ،
والظاهر انه الأقرب ويشهد له قوله تعالى «إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» (2) فإنها ظاهرة في ان اجتناب الكبائر
مكفر للصغائر. واما على مذهب من ذهب الى ان الذنوب كلها كبائر فلا معنى للآية إذ
ليس هنا ذنب غير الكبائر.
وأجيب عن ذلك بان من عن له ذنبان أحدهما أكبر من الآخر
ودعت نفسه
__________________
(1) سورة آل عمران الآية 129.
(2) سورة النساء الآية 35.
إليهما بحيث لا يتمالك فترك الأكبر
وفعل الأصغر فإنه يكفر عنه الأصغر لما استحقه من الثواب على ترك الأكبر كمن عن له
التقبيل والنظر بشهوة فكف عن التقبيل وارتكب النظر.
وهذا الجواب ذكره في كنز العرفان وأورده البيضاوي في
تفسيره ونقله شيخنا البهائي في كتاب الأربعين وأمر بالتأمل فيه ، ثم انه بين وجه
التأمل في حاشية الكتاب بما هو ظاهر في بطلان هذا الجواب ، فحيث قال : انه يلزم
منه ان من كف نفسه عن قتل شخص وقطع يده مثلا يكون مرتكبا للصغيرة وتكون مكفرة عنه
، اللهمّ إلا ان يراد بالأصغر ما لا أصغر منه وهو في هذا المثال أقل ما يصدق عليه
الضرر لا قطع اليد. وفيه ما فيه فليتأمل. انتهى. وهو جيد وجيه.
ويدل على ذلك ايضا ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا (1) قال : «قال
الصادق (عليهالسلام) من اجتنب
الكبائر كفر الله عنه جميع ذنوبه وذلك قول الله عزوجل (إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)» (2).
ويشهد له ايضا قوله تعالى «الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ» (3) واللمم عبارة عن الصغائر أو نوع خاص
منها :
ففي الكافي (4) عن محمد بن مسلم في الصحيح عن ابى
عبد الله (عليهالسلام) قال : «هو
الذنب يلم به الرجل فيمكث ما شاء الله تعالى ثم يلم به بعد».
وعنه (عليهالسلام) (5) في تفسير
الآية المذكورة قال : «الهنة بعد الهنة أي الذنب بعد الذنب يلم به العبد».
قال في كتاب مجمع البحرين ومطلع النيرين : قال ابن عرفة
اللمم عند العرب ان يفعل الإنسان الشيء في الحين لا يكون له عادة ، ويقال اللمم
هو ما يلم به العبد من
__________________
(1) الوسائل الباب 44 من جهاد النفس.
(2) سورة النساء الآية 35.
(3) سورة النجم الآية 33.
(4 و 5) الأصول ج 2 ص 441 باب اللمم. والحديث «5» عن أحدهما «ع».
ذنوب صغار بجهالة ثم يندم ويستغفر
ويتوب فيغفر له ، وفي الحديث (1) «اللمم ما بين
الحدين حد الدنيا والآخرة». وفسر حد الدنيا بما فيه الحدود كالسرقة والزنا والقذف
وحد الآخرة بما فيه العذاب كالقتل وعقوق الوالدين وأكل الربا ، فأراد أن اللمم ما
لم يوجب عليه حدا ولا عذابا ، قيل والاستثناء منقطع. ويجوز ان يكون إلا اللمم صفة
أى كبائر الإثم والفواحش غير اللمم. انتهى كلامه زيد إكرامه.
ويدل على هذا القول ايضا ما ورد في جملة من الأخبار في
ثواب بعض الأعمال أنه يكفر الذنوب ما عدا الكبائر ، وتشهد له أيضا الأخبار الكثيرة
الدالة على تفسير الكبائر وانها ما أوعد الله عليها النار وتفصيلها وعدها في أشياء
مخصوصة (2) وما ورد عنه (صلىاللهعليهوآله) في حديث «انما
شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». رواه الصدوق في الفقيه (3) مرسلا عنه (صلىاللهعليهوآله) الى غير ذلك
من الأخبار التي يقف عليها المتتگبع.
إذا عرفت ذلك فاعلم انه متى زالت العدالة بارتكاب بعض
الذنوب فإنه لا خلاف في انها تعود بالتوبة وكذا من حد في معصية ثم تاب فإنه يرجع
الى العدالة ونقل عن بعض الأصحاب دعوى الإجماع على ذلك.
وانما الخلاف في أن مجرد إظهار التوبة والندم هل يكفي في
ذلك أم لا؟ فالمشهور على ما نقله بعض الأصحاب انه لا يكفي في ذلك مجرد إظهار
التوبة إذ لا يؤمن ان يكون له في الإظهار غرض فاسد بل لا بد من الاختبار مدة يغلب
معها الظن بأنه أصلح سريرته وانه صادق في توبته ، وقيل انه يعتبر إصلاح العمل وانه
يكفى في ذلك عمل صالح ولو ذكر أو تسبيح ، وقيل انه يكفى في ذلك تكرير إظهار التوبة
والندم ومجرد استمراره على التوبة.
وذهب الشيخ في المبسوط الى الاكتفاء في قبول الشهادة
بإظهار التوبة عقيب
__________________
(1) نهاية ابن الأثير مادة «لمم».
(2) الوسائل الباب 45 من جهاد النفس.
(3) الوسائل الباب 46 من جهاد النفس.
قول الحاكم له «تب أقبل شهادتك» لصدق
التوبة المقتضي لعود العدالة. ورد بأن المقتضي لعود العدالة التوبة المعتبرة شرعا
لا مطلق التوبة.
أقول : الظاهر من الأخبار الواردة في المقام هو قوة ما
ذكره الشيخ :
منها ـ ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن عبد الله بن
سنان (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المحدود
ان تاب تقبل شهادته؟ فقال إذا تاب ـ وتوبته أن يرجع من ما قال ويكذب نفسه عند
الامام وعند المسلمين فإذا فعل ـ فان على الامام ان يقبل شهادته بعد ذلك».
وعن ابى الصباح الكناني بسند معتبر (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن القاذف
بعد ما يقام عليه الحد ما توبته؟ قال يكذب نفسه. قلت أرأيت ان أكذب نفسه وتاب
أتقبل شهادته؟ قال نعم».
وما رواه الشيخ عن ابى الصباح ايضا (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن القاذف
إذا أكذب نفسه وتاب أتقبل شهادته؟ قال نعم».
وما رواه في التهذيب والكافي عن يونس عن بعض أصحابه عن
أحدهما (عليهماالسلام) (4) قال : «سألته
عن الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته بعد الحد إذا تاب؟ قال نعم. قلت وما توبته؟ قال
يجيء فيكذب نفسه عند الامام ويقول قد افتريت على فلانة ويتوب من ما قال».
وبالجملة فإن هذا القول هو الظاهر من هذه الأخبار كما
ترى وان كان الاحتياط سيما بالنظر الى أحوال أبناء الزمان هو القول المشهور. وقول
ذلك القائل ـ في رد كلام الشيخ «ان المقتضى لعود العدالة التوبة المعتبرة شرعا لا
مجرد التوبة» مشيرا الى ان التوبة المعتبرة شرعا هي ما ذكروه في القول المشهور من
انه لا بد من الاختبار مدة ـ جيد لو كان ما ذكروه مستندا الى دليل شرعي مع انا لم
نقف في الأخبار على
__________________
(1) الوسائل الباب 37 من الشهادات.
(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 36 من الشهادات.
ما يدل عليه بل الذي نقلناه من
الأخبار بخلافه كما رأيت. والله العالم.
(المقام الخامس) ـ اعلم انه قد صرح جملة من أصحابنا :
منهم ـ شيخنا العلامة المجلسي في كتاب البحار وشيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن
عبد الله البحراني وتلميذه المحدث الشيخ عبد الله بن صالح البحراني بأن العدالة
المشترطة في الإمامة والشهادة والقضاء والفتوى أمر واحد بأي الأقوال الثلاثة
المتقدمة فسرت كان جميع من ذكر مشتركين فيها ، وقد جرينا على هذا القول سابقا في
جملة من زبرنا ورسائلنا ، والذي ظهر لنا الآن بعد التأمل في الأخبار بعين الفكر
والاعتبار ان العدالة في الحاكم الشرعي من قاض ومفت أخص من ما ذكر من معنى العدالة
بأي المعاني المتقدمة اعتبرت لأنه نائب عن الامام (عليهالسلام) وجالس في
مجلس النبوة والإمامة ومتصدر للقيام بتلك الزعامة فلا بد فيه من مناسبة للمنوب عنه
بما يستحق به النيابة وذلك بان يكون متصفا بعلم الأخلاق الذي هو السبب الكلى
المقرب من الملك الخلاق وهو تحلية النفس بالفضائل وتخليتها من الرذائل وان كان هذا
العلم الآن قد عفت مراسمه وانطمست في هذه الأزمنة معالمه وانما المدار بين الناس
الآن على العلم بهذه العلوم الرسمية المجامعة للفسق في جل من تسمى بها.
ويكفيك في صحة ما ذكرناه قول أمير المؤمنين (عليهالسلام) لشريح (1) «يا شريح جلست
مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي».
ويدل على ما ذكرناه جملة من الأخبار ، ومنها ما رواه
الثقة الجليل أبو منصور احمد بن ابى طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج (2) بسنده الى
الامام العسكري (عليهالسلام) ـ وهو موجود
أيضا في تفسيره ـ عن الرضا (عليهالسلام) قال : «قال
على بن الحسين (عليهالسلام) إذا رأيتم
الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويدا لا يغرنكم فما
أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف
__________________
(1) الوسائل الباب 3 من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.
(2) ص 164.
نيته ومهانته وجبن قلبه فينصب الدين
فخا له فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فان تمكن من حرام اقتحمه ، فإذا وجدتموه يعف
عن الحرام فرويدا لا يغرنكم فان شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال
الحرام وان كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما ، فإذا وجدتموه يعف
عن ذلك فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا ما عقله فما أكثر من ترك ذلك اجمع ثم لا يرجع
الى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر من ما يصلحه بعقله فإذا وجدتم عقله متينا
فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا مع هواه يكون على عقله أم يكون مع عقله على هواه وكيف
محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها فان في الناس من خسر الدنيا والآخرة يترك
الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة
المحللة فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة حتى «إِذا
قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ
وَلَبِئْسَ الْمِهادُ» (1) فهو يخبط خبط
عشواء يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه
في طغيانه فهو يحل ما حرم الله تعالى ويحرم ما أحل الله لا يبالي بما فات من دينه
إذا سلمت له رئاسته التي قد شقي من أجلها «فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم
وأعد لهم عذابا مهينا» (2) ولكن الرجل كل
الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله تعالى وقواه مبذولة في رضى الله
يرى الذل مع الحق أقرب الى عز الأبد من العز في الباطل ويعلم ان قليل ما يحتمله من
ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد وان كثير ما يلحقه من
سرائها ان اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال ، فذلكم الرجل نعم
الرجل فيه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا والى ربكم به فتوسلوا فإنه لا ترد له دعوة ولا
تخيب له طلبة».
__________________
(1) سورة البقرة الآية 202.
(2) يمكن ان يكون من تطبيق الآية 83 و 84 من سورة البقرة عليه
وهي قوله تعالى (وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ). الى قوله (وَلِلْكافِرِينَ
عَذابٌ مُهِينٌ).
أقول : وقد اضطرب في التفصي عن هذا الخبر شيخنا الشيخ
سليمان وتلميذه المحدث المتقدم ذكرهما بناء على ما قدمنا نقله عنهما من حكمهما
باتحاد معنى العدالة في كل من اشترط اتصافه بها ، فقال المحدث الصالح المذكور ـ في
كتاب منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين بعد الكلام في العدالة وما به تتحقق
ونقل هذا الخبر ـ ما صورته : انه محمول على تعريف الامام والولي ومن يحذو حذوهما
من خواص الصلحاء وخلص أهل الإيمان الذين لا تسمح الأعصار منهم إلا بأفراد شاذة
وآحاد نادرة ، ويرشد اليه قوله (عليهالسلام) : «فذلكم
الرجل نعم الرجل فبه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا» بل لا يبعد أن يكون مراده الإمام
خاصة ، ويرشد اليه قوله في آخر الحديث «فإنه لا ترد له دعوة ولا تخيب له طلبة»
ويكون غرضه الرد على الزيدية ومن حذا حذوهم من القائلين بالاكتفاء في الإمام بظهور
الصلاح والورع ، كيف وما ذكر لا يتحقق إلا في الأولياء الكمل فلو اعتبر ذلك لعظم
الخطب واختل النظام وانسد باب القضاء والفتيا والتقليد والشهادات والجمعة
والجماعات والطلاق وغير ذلك. هكذا حققه شيخنا في الكتاب المذكور وهو متين جدا.
أقول : أشار بذلك الى ما نقله في أثناء كلامه المتقدم في المسألة عن شيخه المذكور
في كتابه العشرة الكاملة.
ثم قال (قدسسره) وأقول : ان
سياق الحديث دال بجملته على ان المراد تصعيب أمر الإمامة وتشديد أمرها وقرينة
الرئاسة عليه شهادة كما لا يخفى ، وإلا فلا يستقيم حمله على غيره أصلا قطعا لما
تقدم في رواية ابن ابى يعفور (1) من المعارضة
الصريحة من قوله (عليهالسلام) «حتى يحرم
على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته
في الناس». وما تقدم في رواية علقمة وغيرها مما هو صريح في المعارضة واضح في
المناقضة ، ولا يجوز التعارض في كلامهم (عليهمالسلام) ولا التناقض
، مع ان هذه الرواية شاذة فالترجيح للأكثر
__________________
(1) ص 25.
المشهور بين الأصحاب المتلقاة بينهم
بالقبول المعتمد عليها في الفتوى ، وقد أجمعوا على ترك العمل بظاهر هذه الرواية ، وقد
قال الصادق (عليهالسلام) (1) «خذ بما اشتهر
بين أصحابك ودع الشاذ الذي ليس بمشهور فان المجمع عليه لا ريب فيه». والله الهادي.
انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول : لا ريب ان الذي أوجب لهما (نور الله مرقديهما)
ارتكاب هذه التأويلات البعيدة والتمحلات السخيفة الغير السديدة انما هو صعوبة المخرج
من هذه الشروط المذكورة التي اشتمل عليها الخبر وعدم سهولة القيام بها كما أمر
سيما مع قولهم بعموم ذلك في إمام الجماعة والشاهد ، وإلا فمع تخصيص الخبر بالنائب
عنهم (عليهمالسلام) في القضاء
والفتوى لا استبعاد فيه عند من تأمل في غيره من الأخبار المؤيدة له كما سيظهر لك
ان شاء الله تعالى. وصعوبة الأمر بالنسبة إلى القضاء والفتوى اللذين هما من خواص
النائب عنهم (عليهمالسلام) لا يوجب طعنا
في الخبر فإنه انما نشأ من المكلفين بإخلالهم بما أخذ عليهم في الجلوس في هذا
المجلس الشريف والمحل المنيف فإنه مقام خطير ومنصب كبير كما سيظهر لك ان شاء الله
تعالى وأكد الشبهة المذكورة ما اشتهر بين الناس في أكثر الأعصار والأمصار من ان
النائب عنهم (عليهمالسلام) هو كل من
كانت له اليد الطولى والمرتبة العليا في هذه العلوم الرسمية وان لم يتصف بشيء من
علم الأخلاق سيما ان هذا العلم اندرست مراسمه وانطمست معالمه كما أشرنا إليه آنفا.
والذي يدل على ما قلناه من خروج هذا الخبر بالنسبة إلى
النائب عنهم (عليهمالسلام) (أولا) ما
ذكره الإمام العسكري (صلوات الله عليه) في التفسير المتقدم ذكره من الكلام قبل هذا
الخبر ثم صب عليه هذا الخبر وصاحب الاحتجاج إنما أخذه من الكتاب المذكور :
__________________
(1) في مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الوسائل الباب 9 من
صفات القاضي.
قال (عليهالسلام) (1) : «حدثني ابى
عن جدي عن أبيه عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان الله
تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء فإذا لم
ينزل عالم الى عالم يصرف عنه طلاب حطام الدنيا وحرامها ويمنعون الحق أهله ويجعلونه
لغير أهله واتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. وقال
أمير المؤمنين (عليهالسلام) يا معشر
شيعتنا المنتحلين لمودتنا إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن تفلتت منهم
الأحاديث ان يحفظوها وأعيتهم السنة ان يعوها فاتخذوا عباد الله خولا وماله دولا
فذلت لهم الرقاب وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب ونازعوا الحق اهله وتمثلوا بالأئمة
الصادقين (عليهمالسلام) وهم من
الكفار الملاعين فسئلوا فأنفوا ان يعترفوا بأنهم لا يعلمون فعارضوا الدين بآرائهم
فضلوا وأضلوا ، اما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين اولى بالمسح من
ظاهرهما. وقال الرضا (عليهالسلام) قال على بن
الحسين (عليهماالسلام) : إذا رأيتم
الرجل. الحديث الى آخره».
وهو كما ترى واضح في ما ادعيناه ، وسياق كلامه (عليهالسلام) وان كان
بالنسبة إلى علماء العامة إلا انه شامل لمن حذا حذوهم في الإخلال بتلك الشروط سيما
مع ما في الرواية المذكورة والدخول في هذا الأمر الخطير مع الاتصاف بتلك الأمور
المذكورة.
و (ثانيا) ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن ابى
عبد الله عن أمير المؤمنين (عليهماالسلام) (2) انه كان يقول «يا
طالب العلم ان العلم ذو فضائل كثيرة فراسة التواضع وعينه البراءة من الحسد واذنه
الفهم ولسانه الصدق وحفظه الفحص وقلبه حسن النية وعقله معرفة الأشياء والأمور ويده
الرحمة ورجله زيارة العلماء وهمته السلامة وحكمته الورع ومستقره النجاة وقائده
العافية ومركبة الوفاء وسلاحه لين الكلام وسيفه الرضا وقوسه المداراة وجيشه محاورة
العلماء ومآله الأدب وذخيرته اجتناب الذنوب وزاده المعروف ومأواه الموادعة ودليله
الهدى
__________________
(1) مستدرك الوسائل الباب 10 رقم 6 والباب 6 رقم 33 من صفات
القاضي.
(2) الأصول ج 1 ص 48.
ورفيقه محبة الأخيار».
أقول : انظر أيدك الله تعالى الى ما دل عليه هذا الخبر
الشريف من جعله هذه الأخلاق الملكوتية أجزاء من العلم وآلات له وأسبابا وأعوانا
فكيف يكتفى في علم العالم والرجوع اليه والاعتماد في الأحكام الشرعية عليه بمجرد
اتصافه بالعلوم الرسمية وعدم اتصافه بهذه الأخلاق الملكوتية.
قال المحقق المدقق ملا محمد صالح المازندراني في شرحه
على الكتاب ما صورته : نبههم على ان العلم إذا لم تكن معه هذه الفضائل التي بها
تظهر آثاره فهو ليس بعلم حقيقة ولا يعد صاحبه عالما. الى ان قال ـ بعد شرح الفضائل
المذكورة ـ ما لفظه : وهي أربعة وعشرون فضيلة من فضائل العلم ، فمن اتصف بالعلم
واتصف علمه بهذه الفضائل فهو عالم رباني وعلمه نور إلهى متصل بنور الحق مشاهد
لعالم التوحيد بعين اليقين ، ومن لم يتصف بالعلم أو اتصف به ولم يتصف علمه بشيء
من هذه الفضائل فهو جاهل ظالم لنفسه بعيد عن عالم الحق وعلمه جهل وظلمة يرده إلى
أسفل السافلين ، وما بينهما مراتب كثيرة متفاوتة بحسب تفاوت التركيبات في القلة
والكثرة وبحسب ذلك يتفاوت قربهم وبعدهم عن الحق ، والكل في مشيئة الله تعالى ان
شاء قربهم ورحمهم وان شاء طردهم وعذبهم. انتهى كلامه علت في الخلد اقدامه. وهو كما
ترى صريح في ما قلناه واضح في ما ادعيناه.
وروى في الكتاب المذكور (1) بسنده الى ابى
عبد الله (عليهالسلام) قال : «طلبة
العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم : فصنف يطلبه للجهل وصنف يطلبه للاستطالة
والختل وصنف يطلبه للفقه والعقل ، فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار متعرض للمقال في
أندية الرجال يتذاكر العلم وصفة الحلم قد تسربل بالخشوع وتخلى من الورع فدق الله
تعالى من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه ، وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق يستطيل
على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء
__________________
(1) الأصول ج 1 ص 49.
من دونه فهو لحلوائهم هاضم ولدينه
حاطم فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره ، وصاحب الفقه والعقل ذو
كآبة وحزن وسهر قد تحنك في برنسه وقام الليل في حندسه يعمل ويخشى وجلا داعيا مشفقا
مقبلا على شأنه عارفا بأهل زمانه مستوحشا من أوثق إخوانه فشد الله من هذا أركانه
وأعطاه يوم القيامة أمانة». الى غير ذلك من الأخبار المذكورة في الكتاب المذكور
وغيره.
أقول : وحينئذ فإذا كانت العلماء كما ذكره (عليهالسلام) من هذه
الصفات الذميمة والأخلاق الغير القويمة فكيف يكتفى بمجرد ظاهر الاتصاف بهذه العلوم
الرسمية وعدم استنباط أحوالهم وتمييز الفرد الذي يجوز الاقتداء به؟ وهل كلام
الامام زين العابدين (عليهالسلام) في ذلك إلا
لاستعلام هذا الفرد المشار إليه في هذا الخبر من هذين الفردين المشابهين له في
بادئ النظر؟ ولا ريب انه لاشتراكهم في بادئ الأمر في الخضوع والخشوع والاتصاف بهذه
العلوم الرسمية يدق الفرق ويحتاج الى مزيد تلطف وتأمل.
ويؤيد ما قلناه ما ذكره المحدث الكاشاني في بعض رسائله
حيث قال : ان من أهل الشقاء لمن يبطن شقاءه فيلتبس أمره على الذين لا يعلمون ، ثم
انه ليتوغل في الخفاء لتوغله في الشقاء فيذهب على الألباء أولى الذكاء حتى انهم
يحسبون انهم مهتدون ، لشدة الشبه بين الفريقين وكثرة الشبه بين النجدين ولبس
النفاق بالإذعان لمكان النفاق في نوع الإنسان ، وكلما كان أحد المتقابلين من الآخر
أبعد كان الاشتباه أكثر وأشد فإن أرباب الرئاسة الدينية أمرهم في الأغلب غير مبين
لمكان المرائين ، وهذه هي المصيبة الكبرى في الدين والفتنة العظمى لبيضة المسلمين
وهي التي أوقعت الجماهير في الحرج وامالتهم عن سبيل المخرج ، إذ من الواجب اتباع
الأذناب للرأس والرأس قد خفي في نفاق الناس ولذلك تقاتل الفئة التي تبغي حتى تفيء
إلى أمر الله. انتهى.
وبالجملة فإنه لما كان علم الأخلاق الذي هو عبارة عن
تحلية النفس بالفضائل
وتخليتها من الرذائل أحد أفراد العلوم
بل هو أصلها وأساسها الذي عليه مدارها بل هو رأسها وهو الممدوح في الآيات والأخبار
بقوله تعالى «إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (1) وقوله «فَلَوْ
لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ). الآية» (2) فإن الخشية
والإنذار إنما يترتب على علوم الآخرة لا هذه العلوم الرسمية وكذلك الاخبار ، وقد
عرفت من الأخبار وكلام جملة من علمائنا الأبرار ان من العلماء من هو خال من تلك
العلوم أو متصف بأضدادها مع تلبسه بلباس العلماء الأبرار وإظهار الخشوع والخضوع
والانكسار وقد دلت الأخبار على الحث والتأكيد على المنع عن الركون الى هؤلاء
والانخداع بما يظهرونه والاغترار فالواجب حينئذ هو البحث والفحص عن أحوال العلماء
والتمييز بين الفسقة منهم والأبرار كما نص عليه الخبر المشار اليه وغيره من
الأخبار الجارية في هذا المضمار. وأيضا فإنه لا تتحقق نيابة هذا العالم وصحة
تقليده ووجوب متابعته إلا بوجود شروطها ومن جملتها العلم باتصافه بتلك الصفات
الجليلة والتخلي من كل منقصة ورذيلة
والأخبار التي دلت على الاكتفاء في العدالة بحسن الظاهر
كما هو الأظهر أو الإسلام إنما موردها الشاهد والامام ولا دلالة فيها على التعرض
للنائب عنهم (عليهمالسلام) الذي هو محل
البحث في المقام ، وحينئذ فلا معارض لهذا الخبر وأمثاله في ما ادعيناه ولا مناقض
له في ما قلناه.
وبذلك يظهر لك ما في كلام ذينك الفاضلين من القصور لعدم
اعطائهما التأمل حقه في الأخبار وما أطال ذلك الشيخ الصالح بعد نقل كلام أستاذه من
المعارضة بصحيحة عبد الله بن ابى يعفور ونحوها وطعنه في الخبر المذكور بالشذوذ مع
ما عرفت من تأيده بالأخبار الواضحة المنار وكلام جملة من علمائنا الأبرار.
ومن أراد الوقوف على صحة ما ذكرناه زيادة على ما رسمناه
في هذا الكتاب فليرجع الى كتابنا الدرر النجفية (3) فإنه قد أحاط
بأطراف الكلام بإبرام النقض ونقض
__________________
(1) سورة الفاطر الآية 25.
(2) سورة التوبة الآية 123.
(3) سيأتي في الاستدراكات ما يتعلق بالمقام ان شاء الله تعالى.
الإبرام في هذا المقام ونقل جملة
وافرة من اخبارهم (عليهمالسلام) وجملة من
كلمات علمائنا الأعلام الجارية على وفق تلك الأخبار المذكورة في المقام. والله
الهادي لمن يشاء.
(المقام السادس) إذا علم المكلف من نفسه الفسق مع كونه
على ظاهر العدالة بين الناس فهل يجوز له الدخول في الأمور المشروطة بالعدالة من
الإمامة في الجمعة والجماعة والشهادة والحكم بين الناس والفتوى ونحو ذلك أم لا؟
ظاهر جملة من الأصحاب : منهم ـ شيخنا الشهيد الثاني في
المسالك الأول ، قال في الكتاب المذكور ـ في الكلام على شاهدي الطلاق بعد ان ذكر
انه لا يقدح فسقهما واقعا مع ظهور عدالتهما بالنسبة إلى غيرهما ـ ما صورته : وهل
يقدح فسقهما في نفس الأمر بالنسبة إليهما حتى انه لا يصح لأحدهما أن يتزوج بها أم
لا نظرا الى حصول شرط الطلاق وهو العدالة ظاهرا؟ وجهان ، وكذا لو علم الزوج فسقهما
مع ظهور عدالتهما ففي الحكم بوقوع الطلاق بالنسبة إليه حتى تسقط عنه حقوق الزوجية
ويستبيح أختها والخامسة وجهان ، والحكم بصحته فيهما لا يخلو من قوة.
وظاهر شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله
البحراني موافقته في ذلك حيث انه في بعض أجوبة المسائل سئل عن ذلك فأجاب بعد
الاستشكال وقال بالنسبة إلى الحكم الأول الذي تقدم في عبارة المسالك : واما
بالنسبة إليهما ففيه كلام والحكم بالصحة لا يخلو من قوة. وقال بعد الحكم الثاني :
وللتوقف في المسألة مجال وان كانت الصحة غير بعيدة. وظاهر الفاضل المولى محمد باقر
الخراساني في الكفاية موافقته في الأول دون الثاني.
وأنت خبير بان مقتضى كلامهم هنا جواز الإمامة في الجمعة
والجماعة والفتوى والحكم وجواز اقتداء من علم الفسق مع ظهور العدالة لأن الجميع من
باب واحد.
وظاهر المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح حيث انه من
رؤوس الأخباريين
التوقف في المقام حيث قال : ولو نواها
ـ يعني الإمامة ـ وعد نفسه من أحد الشاهدين وكان تائبا عن المعاصي جاز له ذلك اما
لو كان مصرا على المعاصي مرتكبا للكبائر فإشكال وللأصحاب فيه قولان : أحدهما
الجواز لان المدار انما هو على اعتقاد المؤتم أو المطلق وبناء الأمور على الظاهر
دون الباطن ، ومن حيث انه إغراء بالقبيح لأنه عالم بفسق نفسه فكيف يتقلد ما ليس له
خصوصا في الجماعة الواجبة كالجمعة. والأحكام الشرعية انما جرت على الظاهر إذا لم
يكن الاطلاع على الباطن وهو مطلع على حقيقة الأمر. والأول أوفق بالقواعد الأصولية
إلا انه لما لم يكن نص في المسألة واعتقادنا ان لا مناط في الأحكام الشرعية سواه
وجب الوقوف عن الحكم والعمل بالاحتياط في العلم والعمل ورد ما لم يأتنا به علم من
أهل العصمة (عليهمالسلام) لقول الصادق (عليهالسلام) (1) «ارجه حتى تلقى
إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». انتهى.
أقول ـ وبالله سبحانه الاستعانة ومنه التوفيق لبلوغ كل
مأمول ـ لا يخفى ان ما ذكروه (قدس الله أسرارهم) من جواز تقلد العالم بفسق نفسه
للأمور المشروطة بالعدالة وان كان مما يتراءى في بادئ النظر صحته بناء على ما ذكره
المحدث المذكور من ان المدار في الصحة والبطلان انما هو على اعتقاد المؤتم أو
المطلق وان الأمور انما بنيت على الظاهر ، ويؤيده أيضا تحريم أو كراهة إظهار
الإنسان عيوب نفسه للناس ووجوب أو استحباب سترها ووجوب ستر غيره عليه لو اطلع على
معصية منه ، إلا ان الذي ظهر لي من التأمل في المقام ومراجعة أخبارهم (عليهمالسلام) خلاف ذلك
وتوضيح ذلك ان ظاهر الآية (2) والأخبار
الدالة على النهى عن قبول خبر الفاسق (3) والنهى عن
الصلاة خلفه (4) انما هو من
حيث الفسق لان التعليق على
__________________
(1) في مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الوسائل الباب 9 من
صفات القاضي.
(2) قوله تعالى «إِنْ
جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ...» في سورة الحجرات الآية 6.
(3) الوسائل الباب 30 من الشهادات.
(4) الوسائل الباب 11 من صلاة الجماعة.
الوصف يشعر بالعلية وهو مشعر بان
الفاسق ليس أهلا لهذا المقام ولا صالحا لتقلد هذه الأحكام ، وإذا كان الشارع لم
يره أهلا لذلك ولا صالحا لسلوك هذه المسالك فهو في معنى منعه له عن ذلك فادخاله
نفسه في ما لم يره الله أهلا له وتعرضه له موجب لمخالفته له (عزوجل) ومجرد تدليس
وتلبيس حمله عليه إبليس. وجواز اقتداء الناس به وقبول شهادته من حيث عدم ظهور فسقه
لهم لا يدل على جواز الدخول لان حكم الناس في ذلك على حده وحكمه هو في نفسه على
حدة والكلام انما هو في الثاني وأحدهما لا يستلزم الآخر. ونظيره في الأحكام
الشرعية غير عزيز فان لحم الميتة حكمه في حد ذاته الحرمة وعدم جواز أكله وبالنسبة
الى من لا يعلم بكونه ميتة جواز اكله.
ويؤيد ما قلناه ظواهر جملة من الأخبار مثل صحيحة أبي
بصير عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «خمسة
لا يؤمون الناس على كل حال : المجذوم والأبرص والمجنون وولد الزنا والأعرابي». ونحوها
صحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليهالسلام) وقد تقدمت (2).
والتقريب فيهما ان ظاهرهما توجه النهي إلى هؤلاء عن
الإمامة بالناس لأنهم ليسوا من أهلها باعتبار ما هم عليه من الأمور المذكورة المانعة
من أهلية الإمامة ، وبعض الأخبار وان ورد أيضا في نهى الناس عن الائتمام بهم إلا
انه انما يتوجه إلى المؤتمين واما في هذين الخبرين الصحيحين فإنما هو متوجه الى
الامام بان لا يكون من أحد هؤلاء ، فلو فرضنا عدم علم الناس بما هم عليه من هذه
الصفات المانعة من الائتمام مع اعتقادهم العدالة فيهم فإنه يجوز لهم الاقتداء بهم
بناء على الظاهر إلا انه بمقتضى هاتين الصحيحتين لا يجوز لهم الإمامة لما هم عليه
من الموانع المذكورة وان خفيت على الناس ، ولا أظن أحدا يخالف في ما قلناه. وهذا
بعينه جار في الفاسق الذي هو محل البحث بان كان عالما بفسق نفسه وان خفي على
الناس.
__________________
(1) الوسائل الباب 15 من صلاة الجماعة.
(2) ص 6.
ويؤيد ما ذكرنا ما ورد في اخبار الفتوى والحكم مثل ما
تقدم قريبا من قول أمير المؤمنين (عليهالسلام) (1) لشريح «يا
شريح جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي». وقول ابى عبد الله (عليهالسلام) (2) «اتقوا الحكومة
فإن الحكومة انما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين كنبي أو وصى نبي». والأخبار
المانعة من تقليد العلماء واتباعهم إلا بعد معرفة عدالتهم كحديث على بن الحسين (عليهالسلام) المتقدم ذكره
(3) ونحوه ، فان
الجميع ظاهر في النهي عن من لم يكن مستكملا لأسباب النيابة وشرائطها وأهلية الحكم
والفتوى ، ولا ريب ان من أعظم الأسباب المانعة الفسق فهي ظاهرة في منع الفاسق من
الجلوس في هذا المقام وان كان ظاهر العدالة بين الأنام وعدم جواز تقلده للاحكام.
وجواز تقليد الناس له من حيث عدم ظهور فسقه لهم لا يدل على جوازه له لانه عالم بان
الشارع قد منع الناس من اتباع الفاسق وتقليده وليس الا من حيث فسقه ، فالفسق صفة
مانعة من تقلد هذه الأمور عند الله جل شأنه فكيف يجوز له مخالفة ذلك وتقلد الأمور
بناء على ظن الناس العدالة فيه؟ وقد عرفت ان حكم الناس غير حكمه في حد ذاته.
وكلام من قدمنا كلامه وان كان مخصوصا بمسألة الشهادة
والإمامة إلا ان الحكم في المواضع الثلاثة واحد ، فان مبنى الكلام هو انه هل يكتفى
بظهور العدالة في جواز التقلد للأمور المشروطة بها وان لم يكن كذلك واقعا أم لا بد
من ثبوتها واقعا؟ فالإشكال والكلام جار في جميع ما يشترط فيه العدالة وهذا أحدها ،
وحينئذ فما ذكروه انما جرى مجرى التمثيل لا الحصر.
ومن أظهر الأدلة على ما قلناه ما رواه ابن إدريس في
مستطرفات السرائر نقلا من كتاب السياري (4) قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) قوم من
مواليك
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 3 من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.
(3) ص 58.
(4) الوسائل الباب 11 من صلاة الجماعة.
يجتمعون فتحضر الصلاة فيقدم بعضهم
فيصلي بهم جماعة؟ فقال ان كان الذي يؤم بهم ليس بينه وبين الله طلبة فليفعل».
وهو كما ترى ظاهر الدلالة صريح المقالة في انه لا يجوز
الإمامة لمن علم من نفسه الفسق حتى يتوب توبة نصوحا ويقلع عنه إقلاعا صحيحا. ومورد
الخبر وان كان الإمامة إلا انه جار في غيرها بالتقريب الذي تقدم ذكره.
(فان قلت) انكم قد فسرتم العدالة في ما سبق بحسن الظاهر
المجامع للفسق باطنا وكلامكم هنا يشعر بأن العدالة لا يجوز مجامعتها للفسق باطنا
لمنعكم له من الدخول في الأمور المشروطة بالعدالة إذا علم من نفسه الفسق؟
(قلت) لا يخفى ان العدالة بالنسبة إلى المكلف المتصف بها
غيرها بالنسبة إلى غيره ممن يتبعه ، فإنها بالنسبة إليه عبارة عن عدم اتصافه بما
يوجب الفسق والخروج عن العدالة وهو الذي أشار إليه صحيح ابن ابى يعفور من اتصافه
بالستر والعفاف الى آخر تلك الأوصاف كما تقدم إيضاحه ، وبالنسبة إلى غيره عبارة عن
عدم ظهور ما يوجب الفسق منضما الى معرفته بتلك الأوصاف المذكورة في الخبر ، وعلى
هذا فمن ظهر منه ذلك مع كونه واقعا ليس كذلك يكون عدلا في الظاهر يجوز قبول شهادته
والائتمام به وامتثال أوامره وأحكامه وفتاويه وان كان فاسقا في الباطن يحرم عليه
الدخول في تلك الأمور ويأثم ويؤاخذ بالدخول فيها وان صح اتباع الناس له فهو له حكم
في حد ذاته وللناس معه حكم آخر ، نظير من صلى بالناس على غير طهارة متعمدا مع
اعتقاد الناس فيه العدالة فإن صلاتهم تكون صحيحة لحصول شرطها المذكور وصلاته هو
تكون باطلة لفوات شرطها بالنسبة اليه ، وصحة صلاتهم خلفه لا توجب له جواز الإمامة
بهم بناء على اعتقادهم فيه العدالة فكذا ما نحن فيه. ومنشأ الوهم في كلام الجماعة
المتقدم ذكرهم انهم رتبوا العدالة والاتصاف بها على اعتقاد الغير من مطلق مثلا
ومؤتم ومستفت ونحوهم وغفلوا عنها بالنسبة الى من يتصف بها ، وقد عرفت من ما حققناه
ان لها اعتبارا بالنسبة الى من يتصف بها غيره
بالنسبة إلى غيره من هؤلاء المذكورين
ونحوهم.
ومما يؤيد ما ذكرنا أيضا صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (1) قال : «مات
رجل من أصحابنا ولم يوص فرفع امره الى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله
وكان الرجل خلف ورثة صغارا ومتاعا وجواري فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع
الجواري ضعف قلبه في بيعهن إذ لم يكن الميت صير اليه وصية وكان قيامه بهذا بأمر
القاضي لأنهن فروج ، قال فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليهالسلام) فقلت له يموت
الرجل من أصحابنا ولم يوص الى أحد ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منا ليبيعهن أو
قال يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج فما ترى في ذلك القيم؟ فقال إذا كان
القيم به مثلك ومثل عبد الحميد فلا بأس». فإن المراد منه المماثلة في الوثاقة
والعدالة.
ورواية سماعة (2) قال : «سألته عن رجل مات وله بنون
وبنات صغار وكبار من غير وصية وله خدم ومماليك وعقد كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك
الميراث؟ قال ان قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس».
ولا ريب ان ما تضمنه هذان الخبران من جملة المواضع
المشترط فيها العدالة باتفاق الأصحاب لأن هذا من الأمور الحسبية التي صرحوا بأنها
ترجع الى الفقيه الجامع للشرائط وهو النائب عنهم (عليهمالسلام) ومع تعذره
يقوم بها عدول المؤمنين ، وهما ظاهران في اشتراط عدالة القائم بذلك في نفسه وحد
ذاته لا بالنظر الى الغير فإنه إنما رخص له الدخول بشرط اتصافه بذلك.
ويؤيد ذلك بأوضح تأييد ويشيده بأرفع تشييد ان الظاهر
المتبادر من الآية والأخبار المصرح فيها بالعدالة واشتراطها في الشاهد مثل قوله عزوجل «وَأَشْهِدُوا
__________________
(1) الوسائل الباب 16 من عقد البيع وشروطه.
(2) الوسائل الباب 88 من الوصايا. والراوي في نسخ الحدائق (رفاعة)
والصحيح ما هنا كما تقدم في ص 32.
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» (1) وقولهم (عليهمالسلام) (2) «يطلقها بحضور
عدلين» و «إذا أشهد عدلين». ونحو ذلك هو اتصاف الشاهد بالعدالة في حد نفسه وذاته
لا بالنظر الى غيره ، إذ لا يخفى ان قولنا فلان عدل وفلان ثقة مثل قولنا فلان عالم
وشجاع وجواد ونحو ذلك ، ومن المعلوم ان المراد في جميع ذلك انما هو اتصافه بهذه
الصفات في حد ذاته غاية الأمر انه قد يتطابق علم المكلف والواقع في ذلك وقد
يختلفان بان يكون كذلك في نظر المكلف وان لم يكن واقعا وحينئذ فيلزم كلا حكمه ،
فيلزم من اعتقد عدالته بحسب ما يظهر من حاله جواز الاقتداء به مثلا وقبول شهادته
ويلزمه هو عدم جواز الدخول في ذلك وكذا يلزم من اطلع على فسقه عدم جواز الاقتداء
به ، وحينئذ فإذا كان المراد من الآية والأخبار المشار إليها انما هو اتصافه في حد
ذاته فكيف يجعل المناط في حصول العدالة باعتبار الغير كما توهموه وبنوا عليه ما
بنوا من الفروع المذكورة؟ ولا ريب انه متى كان ذلك انما هو بالنسبة إليه في حد
ذاته فإنه لا يجوز له الدخول في ما هو مشروط بالعدالة البتة.
وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المسالك ومن تبعه من
الوهن والقصور ولا سيما في فرضه الثاني وهو ما إذا علم الزوج فسقهما فطلق بحضورهما
مع ظهور عدالتهما بين الناس فإنه أوهن من بيت العنكبوت وانه لأوهن البيوت ، ومقتضى
تجويزه الطلاق هنا جواز اقتداء من علم فسق الامام به في الصلاة مع ظهور عدالته بين
الناس وهكذا قبول فتواه وأحكامه ، والجميع في البطلان أوضح من أن يحتاج الى بيان
عند ذوي الأفهام والأذهان. والعجب من شيخنا الشيخ سليمان المتقدم ذكره في تردده
أولا ثم ميله الى ما في المسالك من غير إيراد دليل معتمد ولا بيان مستند إلا مجرد
التقليد لما في المسالك ، ونحوه الفاضل الآخر. وبالجملة فالطلاق في الصورتين
المفروضتين مما لا إشكال في بطلانه ولا سيما الثانية. والله العالم بحقائق أحكامه.
(المقصد الثاني) في العدد ، لا خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم)
__________________
(1) سورة الطلاق الآية 2.
(2) الوسائل الباب 10 من مقدمات الطلاق وشرائطه.
كما نقله غير واحد من معتمديهم ـ في
اعتبار العدد واشتراطه في صحة صلاة الجمعة ووجوبها ، انما الخلاف في أقله وفيه قولان
(أحدهما) ـ وهو المشهور انه خمسة الامام وأربعة معه من المتصفين بالصفات الآتية ان
شاء الله تعالى ، وهو قول الشيخ المفيد والمرتضى وابن الجنيد وابن ابى عقيل وابن
إدريس والمحقق والعلامة وغيرهم ، و (ثانيهما) ـ أنه سبعة في الوجوب العيني وخمسة
في الوجوب التخييري ذهب اليه الشيخ وابن البراج وابن زهرة وهو المنقول عن الصدوق
وإليه مال الشهيد في الذكرى.
واستدل للقول الأول بالآية (1) والتقريب فيها
ان الأمر للوجوب ثبت الاشتراط بالخمسة بالاتفاق عليها والأخبار الكثيرة (2) والزائد منتف
لفقد الدليل
وعندي ان الاستدلال بالآية في هذا المقام محل نظر ؛ فإن
الآية مطلقة وليس فيها اشارة فضلا عن التصريح باشتراط العدد ولا كميته ، وتقييدها
بأخبار الخمسة يرجع الى الاستدلال بأخبار الخمسة لا الى الآية من حيث هي.
والتحقيق ان المرجع في الاستدلال انما هو الأخبار وهي
مختلفة أيضا كما ستقف عليها ان شاء الله تعالى :
ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن منصور بن حازم عن
ابى عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «يجمع
القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زاد فان كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم».
وما رواه الكليني والشيخ في الصحيح أو الحسن عن زرارة (4) قال : «كان
أبو جعفر (عليهالسلام) يقول : لا
تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقل من خمسة رهط : الامام وأربعة».
__________________
(1) قوله تعالى في سورة الجمعة الآية 9 «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ).».
(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 2 من صلاة الجمعة.
وما رواه الشيخ في الموثق عن ابن ابى يعفور عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) (1) قال : «لا
تكون جمعة ما لم يكن القوم خمسة».
وعن الفضل بن عبد الملك في الصحيح (2) قال : «سمعت
أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول إذا كان
قوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات فان كان لهم من يخطب بهم جمعوا إذا كانوا خمسة
نفر. الحديث».
وما رواه الصدوق في الصحيح عن الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) (3) قال في صلاة
العيدين : «إذا كان القوم خمسة أو سبعة فإنهم يجمعون الصلاة كما يصنعون يوم الجمعة».
وعن زرارة في الصحيح (4) قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) على من تجب
الجمعة؟ قال تجب على سبعة نفر من المسلمين ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين
أحدهم الإمام فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم وخطبهم».
وما رواه في الخصال في الصحيح عن عاصم بن حميد عن ابى
بصير عن ابى جعفر (عليهالسلام) (5) قال : «لا
تكون الجمعة بأقل من خمسة».
وما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليهالسلام) (6) قال : «تجب
الجمعة على سبعة نفر من المسلمين ولا تجب على أقل منهم : الامام وقاضيه والمدعى
حقا والمدعى عليه والشاهدان والذي يضرب الحدود بين يدي الامام».
وعن عمر بن يزيد في الصحيح عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (7) قال : «إذا
كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلوا في جماعة».
وما رواه الكشي في كتاب الرجال عن على بن محمد بن قتيبة
عن الفضل بن شاذان عن ابن ابى عمير عن غير واحد من أصحابنا عن محمد بن حكيم وغيره
عن محمد بن مسلم عن محمد بن على عن أبيه عن جده عن النبي (صلىاللهعليهوآله) (8) في الجمعة قال
: «إذا اجتمع خمسة أحدهم الإمام فعليهم ان يجمعوا».
أقول : الظاهر من مجموع هذه الأخبار باعتبار ضم بعضها
الى بعض هو ما ذهب
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 8) الوسائل الباب 2 من صلاة
الجمعة.
إليه الشيخ فإنه الذي تجتمع عليه
الأخبار ، واما العمل بالقول المشهور فهو موجب لطرح أخبار السبعة من البين مع ما
يشير اليه بعضها من أن أخبار الخمسة إنما أريد بها التخيير مثل قوله (عليهالسلام) في رواية
محمد بن مسلم «تجب على سبعة نفر ولا تجب على أقل منهم» يعنى انها تجب عينا على
السبعة ولا تجب عينا على أقل منهم ، لان هذا المعنى هو الذي يجتمع به مع الأخبار
المتقدمة الدالة على الخمسة ، وقوله في صحيحة زرارة «تجب على سبعة نفر ولا جمعة
لأقل من خمسة» فان النفي هنا متوجه الى كل من العيني والتخييري بمعنى ان الأقل من
خمسة لا وجوب عليهم مطلقا ومفهومه ان الخمسة تجب عليهم مع حكمه أولا وأخيرا بتخصيص
الوجوب بالسبعة ولا وجه للجمع إلا باعتبار جعل الوجوب في جانب السبعة عينيا وفي
جانب الخمسة تخييريا ، ونحو ذلك التخيير بين الخمسة والسبعة في صحيحة الحلبي فإنه
لا وجه له إلا باعتبار ما ذكرناه. وصحيحة عمر بن يزيد قد اختصت بالسبعة ومفهوم
الشرط فيها يدل على نفى الوجوب عن الأقل من سبعة مع دلالة الأخبار المتقدمة على
الوجوب بالخمسة ولا وجه للجمع إلا ما ذكرناه. ولو جعل شرط الوجوب الخمسة خاصة كما هو
المشهور لكان ذكر السبعة في جميع هذه الأخبار لغوا بل مفسدا لمعنى الأخبار
المذكورة ، على ان اخبار الخمسة لا ظهور فيها فضلا عن الصراحة في الوجوب العيني
كما لا يخفى.
قال المحقق (قدسسره) في المعتبر ـ
بعد نقل رواية محمد بن مسلم دليلا لقول الشيخ بالسبعة وصحيحة زرارة الاولى وموثقة
ابن ابى يعفور دليلا للقول المشهور ـ ما صورته : ونحن نرى العمل على الوجوب مع
الخمسة لأنها أكثر ورودا ونقلة ومطابقة لدلالة القرآن. ولو قال ـ اخبار الخمسة لا
تتضمن الوجوب وليس البحث في الجواز بل في الوجوب ورواية محمد بن مسلم تتضمن سقوط الوجوب
عن من قل عددهم عن سبعة فكانت أدل على موضع النزاع ـ قلنا ما ذكرته وان كان ترجيحا
لكن روايتنا دالة على الجواز ومع الجواز تجب للآية فلو عمل
برواية محمد بن مسلم لزم تقييد الأمر
المطلق المتيقن بخبر الواحد ولا كذا مع العمل بالأخبار التي اخترناها ، على انه لا
يمكن العمل برواية محمد بن مسلم لانه خص السبعة بمن ليس حضورهم شرطا فسقط
اعتبارها. انتهى.
وأنت خبير بما فيه بعد ما عرفت فان دليل السبعة غير
منحصر في رواية محمد ابن مسلم المذكورة بل قد عرفت دلالة جملة من الروايات على ذلك
بالتقريب الذي ذكرناه واللازم من ما ذهب اليه هو طرحها على كثرتها وصحة بعضها وهو
بعيد عن جادة الإنصاف والصواب سيما مع إمكان الجمع بين الجميع بما ذكرناه. وأما
دعواه مطابقة أخبار الخمسة لظاهر القرآن فهو ممنوع لأن الآية كما عرفت لا اشعار
فيها باشتراط عدد فضلا عن كونه خمسة وانما هي مطلقة ، وتقييدها بالأخبار يتوقف
أولا على النظر في اخبار المسألة والجمع بينها على وجه يرفع التنافي بينها وتجتمع
عليه في البين فيخصص بها إطلاق الآية حينئذ ، وإلا فكما انه يدعى تقييدها بأخبار
الخمسة فللخصم أن يقيدها باخبار السبعة على الوجه الذي يقوله وهو الحق الحقيق بالاتباع
لانه هو الذي تجتمع عليه أخبار المسألة ويندفع به عنها التنافي والتدافع. واما
طعنه في رواية محمد بن مسلم بأنه خبر آحاد فهو وارد عليه في اخبار الخمسة أيضا
واما طعنه ـ بأنه خص السبعة بمن ليس حضورهم شرطا فسقط اعتبارها ـ فقد تقدم الجواب
عنه بان ذكر هؤلاء انما وقع على سبيل التمثيل كما تقدم تحقيقه ، على ان ذلك ايضا
وارد عليه في استناده الى هذه الرواية في اشتراط الوجوب العيني بحضور الإمام فإنه
أحد السبعة أيضا كما تقدم تحقيقه.
وأجاب العلامة عن قوله (عليهالسلام) في الرواية «ولا
تجب على أقل منهم» تارة بالحمل على ما كان أقل من خمسة ولا يخفى تعسفه ، وتارة
باستضعاف السند بالحكم بن مسكين. والله العالم.
قال شيخنا في الذكرى ـ ونعم ما قال ـ بعد نقل رواية
زرارة وصحيحة منصور الدالتين على القول المشهور ورواية محمد بن مسلم الدالة على
القول الآخر
ما لفظه : وهذان الخبران كالمتعارضين
فجمع الشيخ أبو جعفر بن بابويه والشيخ أبو جعفر الطوسي بالحمل على الوجوب العيني
في السبعة والوجوب التخييري في الخمسة وهو حمل حسن ويكون معنى قوله (عليهالسلام) «ولا تجب على
أقل منهم» نفى الوجوب الخاص أي العيني لا مطلق الوجوب لئلا يتناقض الخبران المرويان
بعدة أسانيد. والمحقق في المعتبر لحظ هذا ثم قال : هذا وان كان مرجحا لكن روايتنا
دالة على الجواز ومع الجواز تجب لقوله تعالى «فَاسْعَوْا
إِلى ذِكْرِ اللهِ ...» فلو عمل برواية محمد بن مسلم. الى
آخر ما قدمناه من عبارته. ثم قال (قدسسره) قلت : الجواز
لا يستلزم الوجوب وإلا لوجبت عينا حال الغيبة ، والاحتجاج بعموم القرآن وارد فيه ،
والأمر المطلق مسلم ولكن الإجماع على تقييده بعدد مخصوص حتى قال الشافعي واحمد
أربعون وأبو حنيفة أربعة أحدهم الامام (1) ومصير الأصحاب الى ذلك العدد مستند
الى الخبر وهو من الطرفين في حيز الآحاد فلا بد من التقييد به. (فان قال) ـ صاحب
السبعة موافق على الخمسة فاتفقا على التقييد بها فيؤخذ المتفق عليه ـ (قلنا) هذا
من باب الأخذ بأقل ما قيل وقد توهم بعض الأصوليين انه حجة بل إجماع وقد بينا ضعفه
في الأصول. انتهى. وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.
فروع
(الأول) مذهب الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف
يعرف ان اشتراط العدد انما هو في الابتداء لا في الاستدامة فلو أحرموا جميعا ثم
انفضوا إلا الإمام أو أحد العدد المعتبر أتمها جمعة.
وعللوه (أولا) بالنهي عن قطع العمل. و (ثانيا) بان
اشتراط استدامة العدد منفي بالأصل وانه لا يلزم من اشتراطه ابتداء اشتراطه استدامة
كالجماعة
__________________
(1) المغني لابن قدامة الحنبلي ج 2 ص 327 و 328 والبحر الرائق
لابن نجيم الحنفي ج 2 ص 150.
وكعدم الماء في حق المتيمم.
واعترف الشيخ في الخلاف بأنه لا نص لأصحابنا فيه ، قال
لكنه قضية المذهب لأنه دخل في الجمعة وانعقدت بطريقة معلومة فلا يجوز ابطالها إلا
بيقين.
أقول : لا ريب ان ما ذكروه هو مقتضى الاحتياط فينبغي أن
يجعل الدليل هو ذلك لا ما ذكروه من هذه التعليلات الواهية التي لا تصلح لتأسيس
الأحكام الشرعية. وقد تقدم في مقدمات الكتاب ان الاحتياط في مثل هذا المقام واجب
فإنه دليل شرعي كما دلت عليه جملة من الأخبار مؤيدا بأخبار الاحتياط العامة وتمام
الاحتياط صلاة الظهر بعدها.
ثم ان ظاهر عبارة شيخنا في الذكرى اعتبار إحرام الجميع
من الامام والمأمومين فلو حصل التفرق والانفضاض بعد ذلك وجب الإتمام جمعة على من
بقي وان كان واحدا ، وهو ظاهر كلام المحقق في الشرائع أيضا ، وظاهره في المعتبر
عدم اعتبار ذلك بل الاكتفاء بإحرام الإمام حيث قال : لو أحرم فانفض العدد المعتبر
أتم جمعة لا ظهرا. ثم استدل بأن الصلاة انعقدت ووجب الإتمام لتحقق شرائط الوجوب
ومنع اشتراط استدامة العدد. واليه مال في المدارك ، وهو جيد لانسحاب الدليل
المتقدم في هذا الموضع ايضا من ما ذكروه (رضوان الله عليهم) وما ذكرناه.
واما اعتبار بقاء واحد مع الإمام أو اثنين أو انفضاضهم
بعد صلاة ركعة تامة في وجوب الإتمام أو اعتبار بقاء جميع العدد فهو منسوب إلى
الشافعي (1) إلا أن
العلامة في التذكرة وافقه في اعتبار الركعة في وجوب الإتمام لقول النبي (صلىاللهعليهوآله) (2).
__________________
(1) المغني ج 2 ص 333 وفتح الباري ج 2 ص 290.
(2) في سنن ابن ماجة ج 1 ص 346 «قال رسول الله «ص» من أدرك من
الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى». وفي سنن البيهقي ج 3 ص 204 «إذا أدركت من الجمعة
ركعة فأضف إليها أخرى.» ....
«من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها
أخرى». ورده جملة ممن تأخر عنه بأنه لا دلالة له على المطلوب ، وهو جيد إذ لا
دلالة فيه على ان من لم يدرك ركعة قبل انفضاض العدد يقطع الصلاة. نعم لا عبرة
بانفضاض الزائد على العدد المعتبر مع بقاء ذلك العدد سواء شرعوا في الصلاة أم لا
اتفاقا.
(الثاني) لو انفضوا قبل تلبس الإمام بالصلاة أو انفض ما
يسقط به العدد المعتبر سقطت الجمعة سقوطا مراعى بعدم عودهم أو عدم حصول من تنعقد
به سواء كان في أثناء الخطبة أو قبلها أو بعدها قبل الدخول في الصلاة ، فلو عادوا
بعد انفضاضهم والوقت باق وجبت. قالوا ولو انفضوا في حال الخطبة بنى الامام على ما
تقدم منها وأتمها إذا لم يطل الفصل ومعه في أحد الوجهين لحصول مسمى الخطبة وأصالة
عدم اشتراط الموالاة ، ولو اتى غيرهم ممن لم يسمع الخطبة أعاد الخطبة من رأس. واستشكله
في الذكرى بأنه لا يؤمن انفضاضهم ثانيا لو اشتغل بالإعادة فيصير ذلك عذرا في ترك
الجمعة.
(الثالث) قال في الذكرى : لو حضر عدد آخر بعد التحريمة
فتحرموا ثم انفض الأولون لم يضر لان الانعقاد قد تم بالواردين. قاله في التذكرة ،
ويشكل بان من جملة الأولين الإمام فكيف تنعقد بدونه إلا أن يقال ينصبون الآن إماما
أو يكون قد انفض من عدا الإمام أو يكون ذلك على القول باعتبار الركعة لأنه لو لم
تعتبر الركعة في بقاء الصحة كان بقاء الامام وحده كافيا في الصحة ولا يكون في حضور
العدد الآخر فائدة تصحح الصلاة. انتهى.
أقول : لا يخفى ان هذا الإشكال انما يتجه لو قلنا بأنه
لو أحرم الإمام مع العدد المعتبر ثم انفض الامام مع بعض العدد فإنه لا يجب الإتمام
جمعة لعدم الامام كما هو ظاهر الذكرى حيث قال في أول المسألة : العدد انما هو شرط
في الابتداء لا في الاستدامة فلو تحرموا بها ثم انفضوا إلا الإمام أتمها جمعة
للنهى عن إبطال العمل. الى آخره. ونحوها عبارته في الدروس ، وربما كان فيه إشعار
بأنه لو انفض الامام مع بعض العدد
فإنه لا يجب على الباقين الإتمام جمعة كما هو صريح كلامه هنا والفرق بين العدد
الأول والثاني لا يظهر له وجه هنا. والمحقق في الشرائع قد صرح بوجوب الإتمام جمعة
بعد انفضاض العدد وان لم يبق إلا واحد سواء كان إماما أو مأموما. وبالجملة فإن
استشكاله هنا ان كان مبنيا على الفرق بين العددين فلا اعرف له وجها في البين ، وان
كان لما يشعر به كلامه الذي ذكرناه من تخصيص الإتمام بالإمام أو من بقي معه دون
بعض المأمومين فهو محتمل إلا ان كلام المحقق في الشرائع كما ترى صريح في خلافه
وكذا ظاهر كلامه في البيان ، وكذلك شيخنا الشهيد الثاني في المسالك صرح بأنه مع
انفضاض الامام وبقاء العدد كلا أو بعضا فإنهم يقدمون اماما يتم بهم ان أمكن والا
أتموا فرادى. وهو صريح في جواز الإتمام بغير امام مع تعذره.
فائدة ـ يحسن التنبيه عليها في المقام بل هي من أهم
المهام ، وهي انه متى كان العدد المذكور شرطا في وجوب الجمعة عينا وبدونه لا يحصل
الوجوب فاللازم من ذلك هو سقوط الجمعة رأسا لأنه بموجب ذلك لا تجب على هؤلاء
الخمسة أو السبعة الجمعة لعدم حصول الشرط المذكور ومتى لم تجب عليهم لم تجب على
غيرهم لان الوجوب على غيرهم مشروط بحضورهم والحال ان الحضور غير واجب عليهم ، هذا
خلف.
والجواب انه لا شك ان الوجوب العيني مشروط بحضورهم موضع الجمعة ولكن حضور العدد المذكور واجب وجوبا كفائيا على كافة المسلمين المتصفين بصفات المكلفين بوجوب الجمعة لا يختص به خمسة دون خمسة ولا سبعة دون سبعة فلو أخلوا جميعا بالحضور شملهم الإثم واستحقوا العقاب بترك الواجب المذكور ثم انه متى حضر العدد المذكور سقط بهم الوجوب الكفائي وتوجه الوجوب العيني إلى عامة المكلفين المتصفين بصفات التكليف بهذه الفريضة. وكذا القول في ما لو تعددت الأئمة فإنه يجب على واحد منهم الحضور في موضع إقامة الجمعة وجوبا كفائيا مع بقية العدد فإن أخلوا جميعا شملهم الإثم وان حضر واحد منهم صار الوجوب عينيا بالنسبة إلى كافة المكلفين.