ج11 - أحكام صلاة المسافر
المطلب الثاني
والبحث يقع فيه في مسائل الأولى ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) في أنه لو نوى اقامة عشرة أيام فصاعدا في موضع ثم بدا له الرجوع عن
الإقامة فإنه يقصر إلا أن يكون قد صلى فريضة بتمام فإنه يجب عليه الإتمام حينئذ
حتى يخرج من موضع الإقامة ويقصد المسافة ، قال في المدارك : هذا الحكم ثابت
بإجماعنا.
والأصل في الحكم المذكور ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابى
ولاد الحناط (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام انى كنت نويت
حين دخلت المدينة ان أقيم بها عشرة أيام فأتم الصلاة ثم بدا لي بعد أن لا أقيم بها
فما ترى لي أتم أم قصر؟ فقال
__________________
(1) الوسائل الباب 18 من صلاة المسافر.
ان كنت دخلت المدينة وصليت بها صلاة
فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصر حتى تخرج منها ، وان كنت حين دخلتها على نيتك
التمام ولم تصل فيها صلاة فريضة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال
بالخيار ان شئت فانو المقام عشرا وأتم وان لم تنو المقام عشرا فقصر ما بينك وبين
شهر فإذا مضى لك شهر فأتم الصلاة.
ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ والصدوق عن حمزة بن عبد
الله الجعفري (1) قال : «لما
نفرت من منى نويت المقام بمكة فأتممت الصلاة حتى جاءني خبر من المنزل فلم أجد بدا
من المصير الى المنزل ولم أدر أتم أم أقصر وأبو الحسن عليهالسلام يومئذ بمكة
فأتيته وقصصت عليه القصة فقال ارجع الى التقصير».
فان الوجه فيه ان المراد بالجواب انما هو الأمر بالتقصير
بعد السفر والخروج فهو كناية عن الأمر له بالسفر بمعنى سافر وقصر ، إذ الظاهر ان
مراد السائل انما هو الاستفهام عن من نوى الإقامة هل يجوز له ابطالها والخروج
والقصر فيه أم لا بد من الإتمام ولو في الطريق الى أن يتم أيام الإقامة؟ كما
يتوهمه كثير ممن لم يقف على حكم المسألة فأجابه عليهالسلام بالأول وحينئذ
فلا اشكال.
وتحقيق الكلام في المقام يتوقف على بسطه في مواضع : الأول
ـ الظاهر من إطلاق قوله في صحيحة أبي ولاد المذكورة «حتى بدا لك أن لا تقيم» انه
بمجرد العدول عن نية الإقامة قبل الصلاة على التمام سواء كان بقصد المسافة أو
التردد في الإقامة وعدمها يلزم الرجوع الى التقصير ما لم ينو إقامة عشرة غير
الأولى ، وهذا هو المعروف من مذهب الأصحاب لا نعلم فيه خلافا.
لكن يظهر من كلام الشهيد الثاني (قدسسره) وجود الخلاف
في ذلك وان مجرد العدول عن النية السابقة قبل الصلاة لا يقتضي التقصير ما لم يقصد
مسافة ، لأنه قال : ويحتمل اشتراط المسافة بعد ذلك لا طلاق النص والفتوى ان نية
الإقامة تقطع السفر فيبطل حكم ما سبق كما لو وصل الى وطنه ، وبما قلناه
__________________
(1) الوسائل الباب 18 من صلاة المسافر.
افتى الشهيد في البيان. انتهى. وهو
كما ترى صريح في ما قلناه.
ورواية أبي ولاد المذكورة مطلقة كما ترى في العدول عن
نية الإقامة ، وحملها على قصد المسافة ـ بسبب احتمال ارادة الخروج إلى الكوفة لأن
الراوي كوفي كما ذكره (قدسسره) في شرح
الإرشاد ـ بعيد جدا فالمقام لا يخلو عن اشكال. كذا أفاده والدى (عطر الله مرقده)
في حواشيه على كتاب الاستبصار وهو جيد وجيه.
والظاهر ان ما احتمله شيخنا الشهيد الثاني من اشتراط
المسافة بعيد وفيه تقييد للنص المذكور من غير دليل ، وتخيل ان السائل كوفي فيحتمل
حمل الخبر على إرادته الخروج إلى الكوفة خيال بعيد ، ولو بنيت الأحكام الشرعية على
مثل هذه الخيالات البعيدة والاحتمالات السخيفة لا تسع المجال وكثر القيل والقال
وبطل الاستدلال إذ لا قول إلا وهو قابل للاحتمال وان بعد كما لا يخفى على ذوي
الكمال. والاحتجاج بإطلاق النص والفتوى بأن نية الإقامة تقطع السفر مسلم مع بقائها
واستصحابها ، وهذا هو الذي دل عليه النص والفتوى وبه يبطل حكم ما سبق كما ذكره ،
وأما مع العدول عن النية كما هو المفروض فان هذه الدعوى ممنوعة كما لا يخفى على
المتأمل المنصف.
قال شيخنا المجلسي (قدسسره) في كتاب
البحار بعد إيراد عبارة الفقه الرضوي التي هي في معنى الرواية المذكورة ما لفظه :
وظاهر الأصحاب انه لا يشترط في الرجوع الى التقصير في صورة العدول عن نية الإقامة
من غير صلاة كون الباقي مسافة ، وقواه الشهيد الثاني (قدسسره) واحتمل
الاشتراط ، وإطلاق هذه الرواية وغيرها يؤيد المشهور. انتهى.
وبما ذكرناه في المقام يظهر ضعف ما جنح إليه في الذخيرة
في هذه المسألة من الميل الى هذا الاحتمال.
الثاني ـ لا إشكال في الانقطاع بالصلاة المقصورة إذا
صلاها تماما بعد نية الإقامة أما لو صلى غيرها من ما لم يكن مقصورا كالصبح والمغرب
بعد النية فهل
يكفي في الانقطاع ووجوب استصحاب
التمام الى أن يقصد المسافة؟ إشكال ولم أقف على مصرح بذلك من الأصحاب (رضوان الله
عليهم) نفيا وإثباتا ، والرواية لا تخلو من الإجمال لأن قوله «بتمام» في الموضعين
محتمل لان يكون المراد «صليت فريضة مقصورة بتمام» وحينئذ فلا يثبت الحكم بغير
المقصورة إذا أتمها ، ويحتمل أن يكون المعنى صليت فريضة بعد قصد التمام في
المقصورات ، والظاهر بعده إذ لو كان مجرد صلاة الفريضة مقصورة أو غير مقصورة كافيا
بنية التمام لم يكن للإتيان بهذا القيد وجه يعتد به ، لأن نية الإقامة قد حصلت
بالاستقلال ومن شأنها الانتقال من حكم المسافر الى حكم الحاضر بالنسبة إلى الصلاة
والصوم والشرط معها صلاة فريضة ، فلو لم يعتبر في تلك الفريضة أن تكون من الفرائض
المقصورات التي هي عبارة عن ركعتين بأن يأتي بها أربعا كما هو ظاهر العبارة بل
يكفى مثل الصبح والمغرب لم يكن لضم هذا القيد في الكلام وجه بل يكفى أن يقول «صليت
صلاة فريضة» بقول مطلق ، لا سيما مع الاتفاق على انه لا يشترط قصد القصر والإتمام
ولا نيتهما في الإتيان بكل من المقصورة والتامة. ويعضد ما قلناه انه قد وقع ما
يقرب من هذه العبارة مرادا بها ما قلناه في صحيحة أبي ولاد المتقدمة في الشرط
الثالث من شروط التقصير حيث قال عليهالسلام : «فان عليك
أن تقضى كل صلاة صليتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام. الخبر».
وبالجملة فالظاهر عندي قصر الحكم على الصلاة المقصورة
وان يأتي بها تماما دون غيرها من ما لم يدخله التقصير. والله العالم.
الثالث ـ قد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في إلحاق
الصوم الواجب بالصلاة الفريضة في هذا المقام ، فقيل بالإلحاق بمجرد الشروع في
الصوم الواجب المشروط بالحضر. وهو اختيار العلامة في جملة من كتبه لوجود أثر
النية.
وقيل بذلك ايضا لكن يجب تقييده بما إذا زالت الشمس قبل
الرجوع عن نية الإقامة ، وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في الروض.
وقيل بعدم الإلحاق وقصر الحكم على الصلاة ، وهو اختيار
جمع من الأصحاب : منهم ـ الشهيد والمحقق الشيخ على والسيد السند في المدارك
والفاضل الخراساني في الذخيرة.
وهو الظاهر لان الحكم في النص وقع معلقا على الصلاة
وتعديته الى غيرها يحتاج الى دليل شرعي وإلا كان قياسا محضا وهو لا يوافق أصول
المذهب. ومقتضى النص المذكور رجوع التقصير بعد العدول عن نية الإقامة التي لم يصل
بها أعم من أن يكون صام بتلك النية أو لم يصم زالت الشمس أم لم تزل فيكون الحكم ثابتا
في جميع الصور المذكورة.
احتج شيخنا الشهيد الثاني في الروض بأنه لو فرض ان هذا
الصائم سافر بعد الزوال فلا يخلو إما ان يجب عليه الإفطار أو إتمام الصوم ، لا
سبيل إلى الأول للأخبار الصحيحة الشاملة بإطلاقها أو عمومها لهذا الفرد الدالة على
وجوب المضي على الصوم :
كصحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) «انه سئل عن
الرجل يخرج من بيته وهو يريد السفر وهو صائم؟ قال ان خرج قبل أن ينتصف النهار
فليفطر وليقض ذلك اليوم وان خرج بعد الزوال فليتم يومه».
وصحيحة محمد بن مسلم عنه عليهالسلام (2) «إذا سافر
الرجل في شهر رمضان فخرج بعد نصف النهار فعليه صيام ذلك اليوم». وغيرهما.
فيتعين الثاني وحينئذ فلا يخلو إما أن يحكم بانقطاع نية
الإقامة بالرجوع عنها بعد الزوال وقبل الخروج أولا ، لا سبيل إلى الأول لاستلزامه
وقوع الصوم الواجب سفرا بغير نية الإقامة وهو غير جائز إجماعا إلا ما استثنى من
الصوم المنذور على وجه وما ماثله وليس هذا منه ، فيثبت الآخر وهو عدم انقطاع نية
الإقامة بالرجوع عنها بعد الزوال سواء سافر حينئذ بالفعل أم لم يسافر ، إذ لا
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 5 ممن يصح منه الصوم.
مدخل للسفر في صحة الصوم وتحقق الإقامة
بل حقه أن يحقق عدمها وقد عرفت عدم تأثيره فيها فإذا لم يسافر بقي على التمام الى
أن يخرج إلى المسافة وهو المطلوب. انتهى ملخصا.
وفيه ما ذكره سبطه السيد السند (قدسسره) في المدارك
حيث قال بعد نقل ذلك عنه : ولقائل أن يقول لا نسلم وجوب إتمام الصوم والحال هذه ،
وما أشار إليه (قدسسره) من الروايات
المتضمنة لوجوب المضي في الصوم غير صريحة في ذلك بل ولا ظاهرة ، إذ المتبادر منها
تعلق الحكم بمن سافر من موضع يلزم فيه الإتمام وهو غير متحقق هنا فإنه نفس النزاع
، سلمنا وجوب الإتمام لكن لا نسلم اقتضاء ذلك لعدم انقطاع نية الإقامة بالرجوع
عنها في هذه الحالة ، واستلزام ذلك لوقوع الصوم الواجب سفرا لا محذور فيه لوقوع
بعضه في حال الإقامة ، ولأنه لا دليل على امتناع ذلك (فان قلت) انه يلزم من وجوب
إتمام الصوم إتمام الصلاة لعكس نقيض قوله عليهالسلام (1) : «إذا قصرت
أفطرت». (قلت) هذا بعد تسليم عمومه مخصوص بمنطوق الرواية المتقدمة المتضمنة للعود
الى القصر مع الرجوع عن نية الإقامة قبل إتمام الفريضة. انتهى.
أقول : الظاهر ان الجواب الحق هو ما ذكره أولا من منع
وجوب إتمام الصوم والحال هذه لما ذكره ، حيث ان المتبادر من الأخبار المشار إليها
الخروج من بلد يجب عليه الإتمام فيها وفرضه فيها التمام كبلد وطنه أو بلد إقامته
ثم أنشأ سفرا منها ، لأن هذا هو الفرد الغالب المتكثر الذي ينصرف إليه الإطلاق ،
وقد عرفت في غير موضع من ما تقدم ان إطلاق الأخبار إنما يحمل على الأفراد الشائعة
المتكثرة الغالبة فإنها هي التي يتبادر إليها الإطلاق ، وما نحن فيه ليس من هذا
القبيل فلا يدخل تحت الإطلاق ، مع انه محل البحث والنزاع وأول المسألة لأنه بنية
الإقامة ورجوعه عنها قبل الصلاة تماما لا يمكن الجزم بكونه مقيما فيدخل تحت إطلاق
الخبر ، وبمجرد سفره على هذه الحال لا يمكن الجزم بدخوله تحت إطلاق
__________________
(1) في صحيحة معاوية بن وهب المتقدمة ص 342.
الأخبار المشار إليها.
وبالجملة فإن ما ذكره (قدسسره) هنا جيد.
واما ما ذكره بعد تسليم وجوب الإتمام ومنع اقتضاء ذلك لعدم انقطاع نية الإقامة
بالرجوع عنها في هذه الحالة ـ من أن استلزام ذلك لوقوع الصوم الواجب سفرا لا محذور
فيه لوقوع بعضه حال الإقامة ـ فالظاهر أنه لا يخلو من خدش وان تبعه عليه في
الذخيرة ، فإن الأخبار الدالة على تحريم الصوم في السفر شاملة بإطلاقها وعمومها
لما وقع بعضه في حال الإقامة أم لم يقع ، فقوله «انه لا دليل على امتناع ذلك»
ممنوع فإن الأخبار عامة شاملة لما ذكره ودلالتها على ذلك بعمومها وإطلاقها واضحة
فلا معنى لمنعه الدليل على امتناع ذلك ، ويخرج ما ذكره ـ من عكس النقيض في قوله عليهالسلام : «إذا قصرت
أفطرت» بمعنى ان عدم جواز الإفطار يقتضي عدم جواز التقصير ـ شاهدا. وما تكلفه من
الجواب عنه لا يخلو من غموض كما لا يخفى على من راجع كلام صاحب الذخيرة في هذا
المقام.
الرابع ـ المفهوم من الخبر المتقدم ان وجوب الإتمام
واستصحابه معلق بعد نية الإقامة على أمور ثلاثة :
أحدها ـ الصلاة فلو لم يكن صلى ثم رجع عن نية الإقامة عاد
الى التقصير سواء كان قد دخل وقت الصلاة أم لم يدخل خرج وقتها ولم يصل عمدا أو
سهوا أم لا ، لان مناط الحكم الصلاة تماما ولم يحصل ، ونقل عن العلامة في التذكرة
انه قطع بكون الترك كالصلاة نظرا الى استقرارها في الذمة وتبعه المحقق الشيخ على
واستشكل العلامة في النهاية الحكم وكذا الشهيد في الذكرى. ولو كان ترك الصلاة لعذر
مسقط للقضاء كالجنون والإغماء فلا إشكال ولا خلاف في كونه كمن لم يصل.
وثانيها ـ كون الصلاة فريضة فلو رجع عن نية الإقامة بعد
صلاة نافلة فإن كانت من النوافل المشروعة في السفر كنافلة المغرب فلا خلاف في عدم
تأثيرها وإلا فقولان أظهرهما عدم التأثير أيضا لما عرفت من تعليق الحكم على
الفريضة ، وهو
مختار جماعة من الأصحاب ومنهم الشهيد
في الذكرى ، ونقل عن العلامة في النهاية انه ذهب الى الاجتزاء بها ، واليه يميل
كلام الشهيد الثاني في الروض حيث قال بعد نقل القول الأول عن الذكرى : ويحتمل قويا
الاجتزاء بها لأنها من آثار الإقامة ، وما تقدم من الدليل على الاكتفاء بالصوم آت
هنا وهو مختار المصنف في النهاية. انتهى. وفيه ما عرفت في إلحاقه الصوم وهو قياس
على قياس غير خال من ظلمة الالتباس.
وثالثها ـ كون الصلاة تماما فلا تأثير الصلاة لقصر ، وهل
يشترط كون التمام بنية الإقامة أم يكفي مطلق التمام ولو سهوا؟ فيه وجهان ، يحتمل
الأول لأن ذلك هو أكثر أفراد الإقامة بل هو مقتضى ظاهر الرواية لأن السؤال فيها
وقع عن من نوى الإقامة عشرا ، ويحتمل الثاني عملا بإطلاق التمام. والأقرب الأول.
قالوا : وتظهر الفائدة في مواضع : منها ـ ما لو صلى فرضا
تماما ناسيا قبل نية الإقامة سواء خرج الوقت أم لا.
أقول : الظاهر ان الصلاة على هذه الكيفية لا تأثير لها
إذا المفهوم من النص المتقدم هو نية الإقامة أو لا ثم الصلاة تماما بعد النية كما
يشير اليه قوله عليهالسلام (1) : «ان شئت
فانو المقام عشرا وأتم وان لم تنو المقام عشرا فقصر». حيث رتب الصلاة على النية
أولا.
قالوا : ومنها ـ ما لو صلى تماما في أماكن التخيير بعد
النية لشرف البقعة ، اما لو نوى التمام لأجل الإقامة فلا إشكال في التأثير ، ولو
ذهل عن الوجه ففي اعتبارها وجهان ، من إطلاق الرواية حيث علق الحكم فيها على صلاة
الفريضة تماما مع ان الإقامة كانت بالمدينة فقد حصل الشرط. ومن ان التمام كان
سائغا له بحكم البقعة فلم يؤثر.
أقول : لا يخفى ان النص كما عرفت قد دل على نية الإقامة
عشرا ثم الصلاة
__________________
(1) في صحيح ابى ولاد المتقدم ص 415.
تماما بتلك النية وهو أعم من أن يكون
في مواضع التخيير أو غيرها ، وحينئذ فلا يجزئ مجرد الإتمام لشرف البقعة ، وكون
الخبر هنا مورده المدينة وهي من المواضع المذكورة لا وجه له ، إذ الظاهر ان كلامه عليهالسلام بمنزلة
القاعدة الكلية في هذا المقام لا اختصاص له ببلد دون بلد وهو قد علق الحكم فيه على
نية الإقامة ورتب الصلاة عليها. وبذلك يظهر انه لو أتم جاهلا الوجه فإنه لا عبرة
بإتمامه ما لم تحصل نية الإقامة وقصدها ثم الصلاة بتلك النية والقصد كما هو مؤدى
الخبر وكلام الأصحاب في الباب.
قالوا : ومنها ـ ما لو نوى الإقامة عشرا في أثناء الصلاة
قصرا فأتمها ثم رجع عن الإقامة بعد الفراغ فإنه يحتمل حينئذ الاجتزاء بهذه الصلاة
لصدق التمام بعد النية ، ولأن الزيادة إنما حصلت بسببها فكانت من آثارها كما مر ،
وعدمه لان ظاهر الرواية كون جميع الصلاة تماما بعد النية وقبل الرجوع عنها ولم
يحصل.
أقول : ظاهر جمع من الأصحاب هنا : منهم ـ الشيخ الشهيد
في الذكرى وشيخنا الشهيد الثاني في الروض وشيخنا المجلسي في البحار هو اختيار
الوجه الأول ، وهو الأقرب لصدق الصلاة تماما والمؤثر في الحقيقة ليس إلا العدد
الزائد عن الركعتين وقد حصل هنا.
وأما ما تعلقوا به للوجه الآخر ـ من ان ظاهر الرواية كون
جميع الصلاة تماما بعد النية ـ ففيه انه وان كان كذلك بالنسبة الى هذه الرواية إلا
انه قد ورد ايضا ما يدل على وجوب الإتمام بالنية في أثناء الصلاة :
كما في صحيحة على بن يقطين عن ابى الحسن عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن الرجل يخرج في السفر ثم يبدو له في الإقامة وهو في الصلاة؟ قال يتم إذا بدت له
الإقامة».
ورواية محمد بن سهل عن أبيه (2) قال «سألت أبا
الحسن عليهالسلام عن الرجل
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 20 من صلاة المسافر.
يخرج في سفر ثم تبدو له الإقامة وهو
في صلاته أيتم أم يقصر؟ قال يتم إذا بدت له الإقامة».
وحينئذ فلا فرق في استصحاب التمام ووجوب البقاء عليه بعد
النية والصلاة تماما بين أن تكون النية متقدمة على الصلاة أو في أثنائها كما دل
عليه الخبران المذكوران
الخامس ـ المفهوم من الخبر المذكوران المعتبر في قطع
السفر واستصحاب التمام إتمام الصلاة بعد نية الإقامة ، فلو شرع في الصلاة بنية
الإقامة ثم رجع عن الإقامة في أثنائها لم يكف ذلك في قطع السفر والخروج عن ما هو
عليه وان كان بعد ركوع الثالثة.
وبه صرح في المنتهى حيث قال : لو نوى المقام ثم قام فصلى
ثم تغيرت نيته الى السفر في الأثناء قيل يتم والوجه عندي انه يقصر لان الشرط وهو
الصلاة على التمام لم يحصل. وقال الشيخ في المبسوط لو نوى المقام عشرا ودخل في
الصلاة بنية التمام ثم عن له الخروج لم يجز له القصر الى ان يخرج مسافرا ، ونحوه
ابن الجنيد حيث قال : لو كان مسافرا قد دخل في الصلاة بنية القصر ثم نوى الإقامة
أتم على ما كان صلاه ، وان كان مقيما فدخل في صلاته بنية الإتمام ثم نوى السفر قبل
الفراغ منها لم يكن له القصر. وقال ابن البراج : لو بدا له في المقام وقد صلى منها
ركعة أو ركعتين وجب التمام لانه دخلها بنية مقيم. وصريح كلام هؤلاء هو وجوب
الإتمام وان لم يتم الصلاة بل وان لم يتجاوز فرض القصر.
وفصل العلامة في التذكرة والمختلف بأنه ان كان قد تجاوز
في صلاته فرض القصر بان صلى ثلاث ركعات تعين الإتمام وإلا جاز له القصر ، قال في
الذكرى : وفصل الفاضل بتجاوز محل القصر فلا يرجع وبعدم تجاوزه فيرجع ، لانه مع
التجاوز يلزم من الرجوع إبطال العمل المنهي عنه ومع عدم التجاوز صدق انه لم يصل
بتمام. انتهى.
وتردد المحقق في المسألة نظرا الى افتتاح الصلاة وقد ورد
في الخبر (1) انها على ما
افتتحت عليه ، والى عدم الإتيان بالشرط حقيقة.
وقال في الذخيرة : وحكى عن المصنف وغيره الاكتفاء بها
إذا كان الرجوع بعد ركوع الثالثة وانهم اختلفوا إذا كان الرجوع بعد القيام إلى
الثالثة. انتهى.
أقول : الظاهر من كلام من ذهب الى التفصيل ان الحد الذي
به يتجاوز محل التقصير هو ركوع الثالثة كما قدمنا نقله عن العلامة في المختلف
والتذكرة ، وذلك لان ما قبل الركوع من الواجبات لا يكون موجبا للتجاوز لإمكان جعله
من قبيل زيادة الواجب سهوا وانما الاعتبار بالركن المبطل فعله عمدا وسهوا ، فما
ذكره في الذخيرة من الحكاية المذكورة لم أقف عليه ولا أعرف له وجها.
ثم أقول وبالله التوفيق : انه لا يخفى أن مقتضى الخبر
المذكور كما اعترفوا به ان الشرط في وجوب الإتمام والاستمرار عليه هو الإتيان بعد
نية الإقامة بالصلاة التامة كاملة وأن تكون نية الإقامة مستمرة الى أن يفرغ منها ،
فلو رجع عن نية الإقامة في أثنائها في أي جزء منها تجاوز محل القصر أو لم يتجاوز
فالواجب عليه بمقتضى اختلاف الشرط المذكور هو التقصير. والاعتماد في وجوب الإتمام
بمجرد الدخول في الصلاة على خبر «الصلاة على ما افتتحت عليه» لا يخلو من مجازفة
لعدم ثبوت الخبر من طريقنا ، ومع تسليمه فتناوله لموضع النزاع وعمومه له ممنوع
لدلالة الصحيحة المذكورة على وجوب التقصير في الصورة المذكورة ، إذ مقتضاها ذلك
حيث دلت على ان الشرط في وجوب التمام واستصحابه حصول صلاة كاملة بالتمام ولم تحصل
وبفوات الشرط يفوت المشروط فيتعين القصر ، وحينئذ فمع
__________________
(1) يمكن أن يريد به حديث معاوية بن عمار الوارد في من قام
للفريضة فظن أنها نافلة سهوا وبالعكس المروي في الوسائل في الباب 2 من النية من
كتاب الصلاة وقد تقدم في ج 2 ص 217 وبمضمونه حديثان آخران ، وبه يظهر ما في قوله «قدسسره» في ما سيأتي «لعدم ثبوت الخبر من
طريقنا» وقد تعرض المسألة بمناسبة العدول في ج 2 ص 209.
ثبوت الخبر المذكور يجب تخصيصه بما
ذكرنا وتستثنى هذه الصورة من عمومه بذلك كما خرجوا عن عمومه في مواضع لا تحصى من
الأحكام.
بقي الكلام في ما إذا حصل الرجوع بعد تجاوز محل القصر
بان صلى ثلاث ركعات ، والظاهر هنا الإعادة لوقوع الزيادة المبطلة.
وأما ما احتج به القائل بالتفصيل كما ذكره في الذكرى من
لزوم إبطال العمل المنهي عنه فعليل ، لعدم دليل لهم على هذه الدعوى سوى ما ذكروه
من ظاهر الآية (1) الذي قد قدح
فيه غير واحد منهم. ومع تسليمه فانا نقول ان مقتضى ما قررنا من الدليل هو الحكم
بالإبطال ، لأن الواجب في حال الرجوع عن نية الإقامة قبل الإتمام بمقتضى الخبر
المذكور هو البقاء على التقصير لعدم حصول شرط الإتمام وحينئذ فلا يكون من قبيل ما
ذكروه ، فان المتبادر من النهى عن إبطال العمل إنما هو إبطاله من غير سبب شرعي
يقتضي الابطال ، وما نحن فيه ليس كذلك كما عرفت حيث ان مقتضى الدليل هنا إبطاله لا
ان المكلف يبطله من غير سبب يقتضي الإبطال كما هو ظاهر دليلهم. والله العالم.
المسألة الثانية ـ لو أتم مع استكمال الشروط المتقدمة
فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو جاهلا أو ناسيا ، وكذا لو كان فرضه التمام فقصر.
فههنا مقامات أربعة الأول ـ أن يتم عالما عامدا ولا خلاف
في وجوب الإعادة عليه وقتا وخارجا.
وعليه تدل صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المتقدمة في صدر
المقصد (2) لقوله عليهالسلام فيها بعد ان
سأله الراويان المذكوران فقالا «قلنا فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال ان
كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد وان لم يكن قرئت عليه ولم
يعلمها فلا اعادة عليه».
__________________
(1) «وَلا
تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» سورة محمد الآية 33.
(2) ص 296.
ويعضدها صحيحة ليث المرادي عن الصادق عليهالسلام (1) قال : «إذا
سافر الرجل في شهر رمضان أفطر وان صامه بجهالة لم يقضه».
واستدل عليه في المدارك ايضا بما رواه الشيخ في الصحيح
عن الحلبي (2) قال «قلت لأبي
عبد الله عليهالسلام صليت الظهر
أربع ركعات وأنا في سفر؟ قال أعد».
وعندي في الاستدلال على هذا الحكم بهذه الرواية إشكال
فإن صدور الإتمام عالما عامدا من مثل الحلبي الذي هو من الثقات الأجلاء المشهورين
غير متصور ولا جائز ، ثم مع فرض ذلك عنه عمدا كيف يسأل عنه؟ وقرينة السؤال مؤذنة
بكون الترك إنما كان نسيانا أو جهلا والثاني أيضا بعيد بالنسبة اليه ، وبه يظهر ان
الأظهر حمل الخبر على النسيان وإلا فمتى كان عالما بالوجوب وتعمد الإخلال بذلك فأي
معنى لهذا السؤال؟ وبالجملة فإن قدر الرجل المذكور أجل من أن يترك الواجب عليه
عامدا عالما وإلا لأخل بعدالته واحتاج الى معلومية توبته فكيف يعدون حديثه في
الصحيح من غير خلاف؟ فالأظهر كما عرفت حمل الرواية وان كانت مجملة على كون الإتمام
وقع منه نسيانا.
بقي الكلام في دلالة الخبر على الإعادة مطلقا على هذا
التقدير وهو مذهب الشيخ كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى في المسألة ويأتي الكلام
ان شاء الله تعالى في الجميع بين أخبارها.
قال شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في الروض ـ بعد
الاستدلال على بطلان الصلاة مع العمد بصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم ـ ما صورته :
ويعلم من هذا ان الخروج من الصلاة عند من لا يوجب التسليم لا يتحقق بمجرد الفراغ
من التشهد بل لا بد معه من نية الخروج أو فعل ما به يحصل كالتسليم وإلا لصحت
الصلاة هنا عند من لا يوجب التسليم لوقوع الزيادة خارج الصلاة ، وقد تقدم في باب
التسليم
__________________
(1) الوسائل الباب 2 ممن يصح منه الصوم.
(2) الوسائل الباب 17 من صلاة المسافر.
الإشارة الى ذلك. انتهى.
أقول : الظاهر من هذا الكلام ان الغرض منه الجواب عن
اشكال يرد في هذا المقام على القول بندب التسليم وهو ان الرواية الصحيحة (1) قد دلت على
بطلان صلاة من حكمه الركعتان قصرا لو صلاها أربعا متعمدا ، وهذا على تقدير القول
بوجوب التسليم ظاهر لانه قد زاد في الصلاة ركعتين حيث انه انما يخرج من الصلاة
بالتسليم ، وأما على القول بكونه مندوبا أو واجبا خارجا كما هو أحد الأقوال في
المسألة أيضا فإن اللازم هنا صحة الصلاة لأن الصلاة قد تمت بالتشهد على الركعتين
فهاتان الركعتان الأخيرتان وقعتا خارج الصلاة والصلاة صحيحة مع ان النص واتفاق
الأصحاب على البطلان.
وحاصل جواب شيخنا المشار اليه ان القائل بندب التسليم
إنما تتم الصلاة عنده بنية الخروج أو بالتسليم وان كان مستحبا أو بفعل المنافي ،
وعلى هذا فتكون الركعتان الواقعتان بقصد التمام قد وقعتا قبل تمام الصلاة فتبطل
الصلاة حينئذ لذلك.
وفيه انه وان ذكروا ذلك تفصيا عن هذا الإشكال إلا ان ما
ذكروه لا دليل عليه. وأيضا فإنه لا يحسم مادة الإشكال بالنسبة إلى القول بكونه
واجبا خارجا وان كان لم يتعرض اليه.
وأجيب أيضا عن الإشكال المذكور بان المبطل هنا قصد عدم
الخروج فلا يلزم وجوب قصد الخروج أو الإتيان بالمخرج.
والتحقيق في الجواب انما هو التفصيل في المقام بأنه ان
كانت صلاة الأربع الركعات هنا وقعت بقصد ارادة التمام من أول الأمر فالصلاة باطلة
، وهذا هو الذي دلت عليه الرواية ووقع الاتفاق عليه لحصول المخالفة ، لأن الشارع
انما أوجب عليه ركعتين وهو قد قصد الى مخالفته بقصده الأربع من أول الأمر ، وان
كان انما قصد الصلاة ركعتين كما هو المأمور به شرعا لكن حصلت الزيادة بعد الفراغ
من الصلاة الواجبة فلا بطلان هنا إلا على تقدير القول بوجوب التسليم
__________________
(1) ص 426.
واما على تقدير القول باستحبابه أو
كونه واجبا خارجا فلا ، ومدعى البطلان عليه الدليل وليس فليس.
المقام الثاني ـ أن يتم جاهلا والأشهر الأظهر الصحة كما
دلت عليه صحيحة زرارة ومحمد ابن مسلم المتقدمة (1) لقوله عليهالسلام «وان لم يكن
قرئت عليه ولم يعلمها فلا اعادة عليه».
ونقل عن ابن الجنيد وابى الصلاح أنهما أوجبا الإعادة في
الوقت ، وعن ظاهر ابن ابى عقيل الإعادة مطلقا ، وهما ضعيفان مردودان بالخبر
المذكور.
وربما احتج للقول بالإعادة في الوقت بصحيحة العيص عن ابى
عبد الله عليهالسلام (2) قال : «سألته
عن رجل صلى وهو مسافر فأتم الصلاة؟ قال ان كان في وقت فليعد وان كان الوقت قد مضى
فلا».
وفيه انها محمولة على الناسي جمعا بين الأخبار ، فإنها
وان دلت بإطلاقها على العامد والجاهل والناسي إلا انه قد قام الدليل في الأولين
على خلاف ما دلت عليه فوجب تخصيصها بالناسي لعدم المعارض.
وحكى الشهيد في الذكرى ان السيد الرضي سأل أخاه المرتضى (رضى
الله عنهما) عن هذه المسألة فقال : الإجماع منعقد على ان من صلى صلاة لا يعلم
أحكامها فهي غير مجزئة والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزئة؟ وأجاب
المرتضى (رضى الله عنه) بجواز تغير الحكم الشرعي بسبب الجهل وان كان الجاهل غير
معذور.
أقول : قد اختلف كلام جملة من الأصحاب في توجيه كلام
السيد (رضى الله عنه) فقال في الروض : وحاصل الجواب يرجع الى النص الدال على عذره
والقول به متعين. انتهى.
وقيل ان الظاهر من كلام السيد (قدسسره) ان مراده ان
الأحكام الشرعية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فيجوز أن يكون حكم الجاهل
__________________
(1) ص 296.
(2) الوسائل الباب 17 من صلاة المسافر.
بالقصر وجوب الإتمام عليه وان كان
مقصرا غير معذور بترك التعلم ، وحينئذ فهو آت بالمأمور به في تلك الحال فيكون
مجزئا.
وقيل انه يمكن أن يكون مقصوده (قدسسره) انه قد يختلف
الحكم من الشارع بالنسبة إلى الجاهل المطلق والى الجاهل العالم في الجملة كمن عرف
أن للصلاة أحكاما تجب معرفتها ولم يعرفها فتصح تلك الصلاة من الأول منهما دون
الثاني وان دعوى الإجماع على الطلاق غير واضح.
وقال في المدارك : وكأن المراد انه يجوز اختلاف الحكم
الشرعي بسبب الجهل فيكون الجاهل مكلفا بالتمام والعالم مكلفا بالقصر ، واختلاف
الحكم هنا على هذا الوجه لا يقتضي عذر الجاهل. انتهى. والظاهر أنه يرجع الى القول
الثاني من الأقوال المنقولة.
أقول : قد نقل العلامة في كتاب المختلف عن السيد (رضى
الله عنه) في أجوبة المسائل الرسية الجواب عن هذه المسألة بوجه أوضح من ما أجاب به
أخاه (قدس الله روحيهما) حيث قال له السائل : ما الوجه في ما تفتي به الطائفة من
سقوط فرض القضاء عن من صلى من المقصرين صلاة متمم بعد خروج الوقت إذا كان جاهلا
بالحكم في ذلك مع علمنا بان الجهل بأعداد الركعات لا يصح معه العلم بتفصيل أحكامها
ووجوهها ، إذ من البعيد أن يعلم بالتفصيل من جهل الجملة التي هي الأصل ، وللإجماع
على ان من صلى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزئة وما لا يجزئ من الصلاة يجب
قضاؤه ، فكيف تجوز الفتيا بسقوط القضاء عن من صلى صلاة لا تجزئه؟ فأجاب بأن الجهل
وان لم يعذر صاحبه وهو مذموم جاز أن يتغير معه الحكم الشرعي ويكون حكم العالم
بخلاف حكم الجاهل. انتهى.
وأنت خبير بان ما أوضحه هنا من الجواب وهو الذي عليه
المعمول كاشف عن نقاب الإجمال في الجواب الأول ويرجع الى الاحتمال الثاني من
الاحتمالات الثلاثة المتقدمة ، ومنه يظهر حينئذ ان مذهب السيد (قدسسره) ان تكليف
الجاهل من حيث هو جاهل في جميع
الموارد ليس كتكليف العالم وان الحكم مع الجهل ليس كالحكم مع العلم ، وفيه حينئذ
رد للإجماع المدعى في المقام. وهو مطابق لما حققناه في المسألة كما تقدم في
المقدمة الخامسة من مقدمات الكتاب. ولا خصوصية له بالصورة المذكورة كما فهمه شيخنا
الشهيد الثاني في ما قدمنا نقله عنه من كلامه في الروض ليوافق ما ذهب اليه هو
وغيره في المسألة من عدم معذورية الجاهل إلا في هذا الموضع ومسألة الجهر والإخفات.
ثم ان ما ذكره العلامة (قدسسره) في المختلف
بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه ـ من أن كلام السيد (رضى الله عنه) يدل بمفهومه على
الإعادة في الوقت من حيث ان سؤال السائل تضمن تخصيص سقوط فرض القضاء بخروج الوقت ،
وهو يدل بمفهومه على الإعادة في الوقت والسيد (قدسسره) لم ينكره ـ فظني
انه بعيد إذ الظاهر ان مطمح نظر السيد (رحمهالله) انما هو الى
الجواب عن أصل الإشكال من غير نظر الى الخصوصية المذكورة وصحة ما ذكره السائل أو
بطلانه.
وقال في المدارك في هذا المقام : وهل المراد بالجاهل
الجاهل بوجوب القصر من أصله أو مطلق الجاهل ليندرج فيه الجاهل ببعض أحكام السفر
كمن لا يعلم انقطاع كثرة السفر بإقامة العشرة؟ فيه وجهان منشأهما اختصاص النص
المتضمن لعدم الإعادة (1) بالأول ،
والاشتراك في العذر المسوغ لذلك وهو الجهل. انتهى.
أقول : ظاهر كلامه (قدسسره) التوقف هنا
ومثله نقل عن العلامة في النهاية. وأنت خبير بأنه لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه
، وذلك لأن المشهور في كلام الأصحاب من غير أن يداخله الشك والارتياب هو أن الجاهل
بالأحكام الشرعية عندهم غير معذور إلا في مسألتي الجهر والإخفات والجهل بوجوب
القصر كما هو مورد الصحيحة المتقدمة فإنها هي مستندهم في الاستثناء من القاعدة
المذكورة ، وأما ما عدا هذين الفردين من مطلق الجاهل بأحكام القصر فهو عندهم غير
معذور لدخوله
__________________
(1) ص 429.
في مطلق الجاهل الذي اتفقوا على عدم
معذوريته. وتعليله ـ احتمال مطلق الجاهل بالقصر بالاشتراك في العذر المسوغ لذلك
وهو الجهل ـ آت في الجهل بالأحكام الشرعية مطلقا من أحكام السفر وغيره صلاة كانت
أو غيرها وهم لا يقولون به. وبالجملة فإن مرادهم بالجاهل هنا إنما هو الفرد الأول
من غير اشكال ولا يصح ان يحمل كلامهم على الفرد الثاني.
وكأن منشأ هذا التردد هو ان المسألة التي استثنوها من
قاعدة عدم معذورية الجاهل هل هي عبارة عن الجاهل بوجوب القصر من أصله أو مطلق
الجاهل بالقصر في كل موضع يجب فيه القصر ككثير السفر متى أقام عشرة ونحوه؟
وفيه ان الظاهر من كلامهم إنما هو الأول الذي هو مورد
النص كما لا يخفى ، وأما الجاهل في غير هذه الصورة من صور التمام فيرجع الى
معذورية جاهل الحكم وعدمها والمشهور العدم ، وبالمعذورية هنا صرح المحقق الأردبيلي
(قدسسره) في شرح
الإرشاد. والله العالم.
المقام الثالث ـ أن يتم ناسيا والمشهور بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) وجوب الإعادة في الوقت خاصة ، ونقل عن الشيخ على بن بابويه والشيخ في
المبسوط انه يعيد مطلقا ، وعن الصدوق في المقنع انه يعيد ان ذكر في يومه وان مضى
اليوم فلا اعادة.
واستدل من قال بالقول المشهور برواية أبي بصير عن ابى
عبد الله عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن الرجل ينسى فيصلي في السفر اربع ركعات؟ قال ان ذكر في ذلك اليوم فليعد وان لم
يذكر حتى يمضى ذلك اليوم فلا اعادة عليه».
واعترض في المدارك على الاستدلال بهذه الرواية بعد الطعن
في السند بأنها مجملة المتن ، لان اليوم ان كان المراد به بياض النهار كان حكم
العشاء غير مذكور في الرواية ، وان كان المراد به بياض النهار والليلة المستقبلة
كان ما تضمنه مخالفا للمشهور
__________________
(1) الوسائل الباب 17 من صلاة المسافر.
وأجاب في الذخيرة بأن المراد باليوم بياض النهار وان حكم
العشاء غير مستفاد من الرواية ، إنما المستفاد منها حكم الظهرين وينسحب الحكم في
العشاء بمعونة دعوى عدم القائل بالفصل ، لكن في إثباته إشكال. انتهى.
أقول : ويحتمل ان اليوم وان لم يدخل تحته إلا الظهر ان
إلا انه خرج مخرج التمثيل وجعل كناية عن خروج الوقت. والأقرب عندي ان التعبير
باليوم في الرواية المذكورة إنما خرج مخرج التجوز عبارة عن الوقت. فكأنه قال ان
ذكر في ذلك الوقت فليعد وان لم يذكر حتى يمضى ذلك الوقت فلا اعادة. وبه تنطبق
الرواية المذكورة على المدعى ، وشيوع التجوز في أمثال ذلك أظهر من أن ينكر. وبه
يظهر ان ما ذكره في المقنع راجع الى ما ذكرناه ، وما أطالوا به من الاعتراضات في
المقام لا طائل تحته بعد ما عرفت.
ويدل على القول المذكور أيضا صحيحة العيص المتقدمة (1) والتقريب فيها
ما عرفت من انها وان كانت أعم من أن يكون الإتمام عمدا أو جهلا أو نسيانا إلا انك
قد عرفت خروج العامد بوجوب الإعادة عليه مطلقا فلا يدخل تحت هذا التفصيل ، وخروج
الجاهل بقيام الأدلة على عدم وجوب الإعادة عليه مطلقا ، فيتحتم حملها على الناسي
البتة. ومع الإغماض عن ذلك يكفي في الاستدلال بها هنا مجرد دخول الناسي تحت العموم
فتكون دالة عليه بطريق العموم ، وبالتقريب الأول تكون دلالتها بطريق الخصوص.
وقال عليهالسلام في كتاب الفقه
الرضوي (2) «وان كنت صليت
في السفر صلاة تامة فذكرتها وأنت في وقتها فعليك الإعادة ، وان ذكرتها بعد خروج
الوقت فلا شيء عليك ، وان أتممتها بجهالة فليس عليك في ما مضى شيء ولا اعادة
عليك إلا ان تكون قد سمعت بالحديث».
والتقريب في هذا الكلام هو ظهور تخصيص التفصيل ـ وان
كانت العبارة
__________________
(1) ص 429.
(2) ص 16.
مجملة ـ بصورة النسيان ، لأنه ذكر بعد
ذلك حكم الجاهل والعامد وانه لا اعادة على الأول بل على الثاني.
وهذه الأخبار إذا ضمت بعضها الى بعض لا يبقى مجال للشك
في الحكم المذكور.
وأما ما نقل عن الشيخ على بن بابويه والشيخ في المبسوط
فلم نقف له على مستند ، قيل : ولعل مستندهما القطع بتحقق الزيادة مع قصور كل من روايتي
العيص وابى بصير المذكورتين بالطعن الذي تقدم ذكره. وفيه ان هذا الطعن الذي قد
عرفت الجواب عنه إنما يجرى على مذاق المتأخرين سيما صحيحة العيص ، فان دلالتها على
حكم الناسي وانه كما تضمنته من ما لا إشكال فيه إنما الكلام في حملها عليه خاصة
وعدم احتمال غيره كما وجهناه وبيناه وبه تكون مختصة به ، أو شمولها لغيره فعلى كل
تقدير فهي دالة عليه.
قال في الذكرى : ويتخرج على القول بان من زاد خامسة في
الصلاة وكان قد قعد مقدار التشهد تسلم له الصلاة صحة الصلاة هنا لأن التشهد حائل
بين ذلك وبين الزيادة.
واستحسنه الشهيد الثاني في روض الجنان وقال : انه كان
ينبغي لمثبت تلك المسألة القول بها هنا ولا يمكن التخلص من ذلك إلا بأحد أمور :
إما إلغاء ذلك الحكم كما ذهب إليه أكثر الأصحاب ، أو القول باختصاصه بالزيادة على
الرابعة كما هو مورد النص فلا يتعدى الى الثلاثية والثنائية فلا تتحقق المعارضة
هنا ، أو اختصاصه بزيادة ركعة لا غير كما ورد به النص هناك ولا يتعدى الى الزائد
كما عداه بعض الأصحاب ، أو القول بان ذلك في غير المسافر جمعا بين الأخبار لكن
يبقى فيه سؤال الفرق مع اتحاد المحل. انتهى.
وقال في المدارك بعد نقل كلام جده المذكور : وأقول انه
لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما قررناه في تلك المسألة ضعف هذه الطرق كلها وانها غير
مخلصة من هذا الإشكال ، والذي يقتضيه النظر ان النسيان والزيادة ان حصلا بعد
الفراغ من
التشهد كانت هذه المسألة جزئية من
جزئيات من زاد في صلاته ركعة فصاعدا بعد التشهد نسيانا ، وقد بينا ان الأصح ان ذلك
غير مبطل للصلاة مطلقا لاستحباب التسليم ، وان حصل النسيان قبل ذلك بحيث أوقع
الصلاة أو بعضها على وجه التمام اتجه القول بالإعادة في الوقت دون خارجه كما
اختاره الأكثر لما تقدم. انتهى.
أقول وبالله التوفيق : انه لا يخفى عليك ان مبنى هذه المسألة
التي نحن فيها ـ وتقسيمها إلى الأقسام الثلاثة من كون الصلاة تماما التي أوقعها
المسافر إما عن عمد فتبطل أو جهل فتصح أو نسيان فالتفصيل المتقدم ـ إنما هو على
كون المصلى قد قصد من أول الدخول في الصلاة الى الإتمام ، ولهذا حكم بالإبطال مع
العمد للوجه الذي بيناه سابقا وجعلناه وجه الفرق بينه وبين ما إذا قصد الزيادة بعد
الدخول في الصلاة بنية القصر ثم زاد بعد تمام صلاته المقصورة فحكمنا بصحة الصلاة
لذلك وحكم بالصحة مع الجهل للمعذورية ، وحينئذ فما ذكره الشهيد (قدسسره) من التخريج ـ
ووافقه عليه في الروض وزعم انه لا مخرج منه إلا بإحدى تلك الوجوه ـ لا أعرف له
وجها للفرق بين هذه المسألة التي نحن فيها وبين تلك المسألة ، فإن مبنى تلك
المسألة على ان المصلى إنما دخل في الصلاة قاصدا إلى الإتيان بما هو المفروض عليه
شرعا من الأربع كما هو مورد نص تلك المسألة أو أقل كما هو قول من ألحق بالرباعية
غيرها ، غاية الأمر أنه بعد أن أكمل ما هو الواجب عليه عرض له السهو فزاد ركعة ،
وقد عرفت الخلاف ثمة بأن هذه الزيادة بعد الجلوس بمقدار التشهد ولما يتشهد أو بعد
التشهد بالفعل كما اخترناه وحققناه ثمة ، فالفرق بين المسألتين ظاهر بالنظر الى مبدإ
الدخول في الصلاة كما عرفت ، والنسيان الذي بنى عليه التفصيل في هذه المسألة ووردت
به الأخبار إنما هو من أول الدخول في الصلاة بأن نسي أن فرضه القصر وصلى تماما
بزعم ان فرضه التمام نسيانا ، والنسيان الذي في تلك المسألة انما هو بعد الإتيان
بما هو فرضه شرعا وأصل القصد انما توجه الى فرض مشروع إلا انه عرض له النسيان بعد
تمامه فزاد تلك الركعة فالنسيان انما
تعلق بتلك الركعة المزادة ، ووجه
الفرق ظاهر بين بحمد الله سبحانه ، فيتعين الوقوف في كل مسألة منهما على ما حكم به
فيها وعدم تداخل المسألتين ولا إلحاق إحداهما بالأخرى ، فتخريج هذه المسألة على
تلك وإلحاقها بها ـ حتى انه يتجه على من قال بالصحة في تلك المسألة القول بها هنا
كما يشير اليه كلام الشهيدين (روح الله روحيهما) هنا ـ لا وجه له كما عرفت. هذا هو
التحقيق عندي في المقام والله سبحانه وأولياؤه العالمون بحقائق الأحكام.
المقام الرابع ـ لو قصر من فرضه التمام فان كان عالما
عامدا فلا ريب في وجوب الإعادة ، ولو كان جاهلا فالمشهور وجوب الإعادة لعدم تحقق
الامتثال وعدم معذورية الجاهل عندهم إلا في الموضعين المشهورين.
وقد وقع الخلاف في صورة ما لو قصر بعد نية الإقامة
الموجبة للتمام جاهلا فظاهر المشهور وجوب الإعادة كما هو في غير هذه الصورة من صور
الجهل ، ونقل عن الشيخ نجيب الدين في الجامع العدم.
ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن منصور بن حازم عن
ابى عبد الله عليهالسلام (1) قال : «إذا
أتيت بلدة فأزمعت المقام عشرة أيام فأتم الصلاة فإن تركه رجل جاهل فليس عليه اعادة».
والقول بها متجه لعدم المعارض بل وجود المؤيد لها من
الأخبار الدالة على معذورية الجاهل في مواضع عديدة تقدم تفصيلها في مقدمات الكتاب.
بل يمكن القول بمعذورية الجاهل في هذا المقام مطلقا كما
اختاره بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين حيث قال في شرح له على كتاب
المفاتيح : ثم ان الظاهر من الأخبار كون الجاهل معذورا في هذا المقام مطلقا أعني
في جميع ما يتعلق بالقصر والإتمام في السفر حتى القصر في مواضع التمام والتمام في
بعض مواضع القصر وان كان عالما بأصل القصر كما هو مفاد ظاهر عبارة المصنف وفتوى
نجيب الدين
__________________
(1) الوسائل الباب 17 من صلاة المسافر.
في جامعه ، خلافا للمشهور فإنهم خصوا
الحكم بالجاهل بوجوب التقصير من أصله. ثم أطال الكلام في ذلك الى أن قال : فمن
الأخبار ما رواه الشيخ بسند صحيح والصدوق في الفقيه بأسانيد صحاح كلها عن محمد بن
إسحاق الثقة عن ابى الحسن عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن امرأة كانت معنا في السفر وكانت تصلى المغرب ركعتين ذاهبة وجائية؟ قال ليس
عليها قضاء. أو ليس عليها اعادة». على اختلاف الروايات. ثم أورد رواية منصور بن
حازم المنقولة ثم أيد ذلك بإطلاق صحيحتي عيص وليث المرادي عن الصادق عليهالسلام (2) قال : «إذا
سافر الرجل في شهر رمضان أفطر وان صامه بجهالة لم يقضه». ثم قال : هذا مع عدم وجود
المعارض الصريح من الأخبار بالكلية ، فلا حاجة الى ارتكاب تكلف حمل صحيحة محمد بن
إسحاق على الشذوذ كما فعل الشيخ مع اعتماد الصدوق عليها ، وكذا ارتكاب حملها على
الاستفهام الإنكاري أو على كون المراد نافلة المغرب وأمثال ذلك من الخيالات
الضعيفة. انتهى. وهو جيد لكن الظاهر الرجوع الى التفصيل الذي قدمناه في المقدمة
التي في معذورية الجاهل من مقدمات الكتاب.
وبالجملة فإن الجاهل في الصورة التي هي مورد صحيحة منصور
المذكورة من ما لا شك في الحكم بمعذوريته للرواية المذكورة.
وأما الناسي للإقامة فقيل بإلحاقه بالجاهل لها وانه لا
اعادة عليه وهو خروج عن موضع النص المذكور ، والظاهر هو وجوب الإعادة.
ويدل عليه ما ذكره الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه
الرضوي (3) حيث قال : «وان
قصرت في قريتك ناسيا ثم ذكرت وأنت في وقتها أو غير وقتها فعليك قضاء ما فاتك منها».
__________________
(1) الوسائل الباب 17 من صلاة المسافر. والمسؤول في الاستبصار
ج 1 ص 220 «أبو عبد الله «ع» وفي الفقيه ج 1 ص 287 «أبو الحسن الرضا «ع».
(2) الوسائل الباب 2 ممن يصح منه الصوم.
(3) ص 16.
وفيه دلالة على ان التقصير نسيانا في موضع يجب الإتمام
فيه موجب للإعادة وقتا وخارجا كما هو ظاهر فتوى الأصحاب. والله العالم.
المسألة الثالثة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
حكم صلاة المسافر في المواضع الأربعة المشهورة ، فالمشهور التخيير بين القصر
والإتمام مع أفضلية الإتمام ، ولم ينقل الخلاف هنا إلا عن الصدوق والمرتضى وابن
الجنيد ، اما الصدوق فإنه ذهب كما هو مذهب المخالفين إلى مساواة هذه المواضع
الأربعة لغيرها من البلدان التي يتحقق السفر إليها في وجوب التقصير ما لم ينقطع
سفره بأحد القواطع المتقدمة إلا انه جعل الأفضل له نية المقام فيها والصلاة تماما
، وسيأتي نقل كلامه في ذلك ان شاء الله تعالى. وأما المرتضى وابن الجنيد فظاهر
كلاميهما المنع من التقصير في هذه المواضع الأربعة وألحقا بها في ذلك ايضا المشاهد
المشرفة والضرائح المنورة. والظاهر عندي من الأقوال هو ما عليه الأكثر من علمائنا
الإبدال كما استفاضت به اخبار الآل عليهم صلوات ذي الجلال.
وها أنا أذكر ما وصل الى من الأخبار المتعلقة بهذه
المسألة من ما في الكتب المشهورة وغيرها مذيلا لها بما يكشف عن معانيها نقاب
الإبهام ويجلو عن مضامينها غشاوة الإبهام لما ذهب إليه أولئك الأعلام بتحقيق شاف
لم يسبق اليه سابق وبيان وأف للنصوص المعصومية مطابق وموافق فأقول وبالله سبحانه
التوفيق والإعانة لإدراك المأمول :
الأول ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن حماد بن عيسى (1) وكذا رواه
الصدوق عنه في الخصال (2)
وابن قولويه في المزار بالإسناد المذكور (3) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام من مخزون علم
الله الإتمام في أربعة مواطن : حرم الله وحرم رسول الله صلىاللهعليهوآله وحرم أمير
المؤمنين عليهالسلام وحرم الحسين
بن على عليهالسلام».
الثاني ـ ما رواه في الصحيح عن مسمع عن أبي إبراهيم عليهالسلام (4) قال : «كان
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر.
أبى يرى لهذين الحرمين ما لا يراه
لغيرهما ويقول ان الإتمام فيهما من الأمر المذخور».
الثالث ـ عن معاوية بن عمار عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) قال : «ان من
الأمر المذخور الإتمام في الحرمين».
الرابع ـ ما رواه في الفقيه عن الصادق عليهالسلام مرسلا (2) قال : «من
الأمر المذخور إتمام الصلاة في أربعة مواطن : مكة والمدينة ومسجد الكوفة وحائر
الحسين عليهالسلام». وروى هذه
الرواية ابن قولويه في كتاب كامل الزيارات بسند صحيح عن حماد بن عيسى عن بعض
أصحابنا عن ابى عبد الله عليهالسلام (3).
أقول : أنت خبير بما في هذه الاخبار من وضوح الدلالة على
القول المشهور وهو المؤيد المنصور ، والتقريب فيها أن كون الإتمام فيها من الأمر
المذخور ومن مخزون علم الله إنما يتجه على القول المذكور من أفضلية التمام بمجرد
الوصول إليها من غير توقف على نية الإقامة ، ولو خص ذلك بما كان عن نية الإقامة لم
تتجه المزية لهذه المواضع على غيرها حتى يدعى انه من مخزون علم الله وانه من الأمر
المذخور ، فان المسافر حيثما أقام وجب عليه التمام فالإتمام دائر مدار الإقامة في
هذه أو غيرها ، ومن الظاهر ان هذه المزية إنما تتوجه على ترتب الإتمام على مجرد
وصولها ودخولها لمزيد مشرفها.
وفي الأخبار المذكورة إشارة إلى حمل ما خالف هذه الأخبار
على التقية أو الاتقاء ، وان الإتمام في هذه المواضع من الأسرار المختصة بأهل
البيت (عليهمالسلام) وشيعتهم
التابعين لهم والناسجين على منوالهم ، وهو خاص بهم لم يوفق له سواهم من أعدائهم
المخالفين ، وانه من ما ادخره الله تعالى لهم وصار مخزونا عن غيرهم حيث لم يوفقوا
له ولم يطلعهم الله تعالى عليه كما ورد نظيره في الصلاة بعد العصر (4).
وبالجملة فإنها في الدلالة على المراد من ما لا يعتريها
وصمة الإيراد ، وبه يظهر
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر.
(4) الوسائل الباب 38 من مواقيت الصلاة.
لك ما في كلام الصدوق في الفقيه ونحوه
في كتاب الخصال من تقييد هذه الأخبار بالإقامة عشرة ، وكأنه زعم بذلك الجمع بين
أخبار المسألة ، وسيأتي بعد تمام نقل الأخبار ان شاء الله تعالى التعرض لكلامه
وبيان ما في نقضه وإبرامه.
الخامس ـ صحيحة على بن مهزيار (1) قال : «كتبت
الى ابى جعفر الثاني عليهالسلام ان الرواية قد
اختلفت عن آبائك (عليهمالسلام) في الإتمام
والتقصير في الحرمين ، فمنها أن يتم الصلاة ولو صلاة واحدة ، ومنها أن يقصر ما لم
ينو مقام عشرة أيام ، ولم أزل على الإتمام فيهما الى أن صدرنا في حجنا في عامنا
هذا فان فقهاء أصحابنا أشاروا على بالتقصير إذا كنت لا انوى مقام عشرة أيام فصرت
الى التقصير ، وقد ضقت بذلك حتى أعرف رأيك؟ فكتب الى بخطه عليهالسلام : قد علمت
يرحمك الله فضل الصلاة في الحرمين على غيرهما فأنا أحب لك إذا دخلتهما أن لا تقصير
وتكثر فيهما الصلاة. فقلت له بعد ذلك بسنتين مشافهة : انى كتبت إليك بكذا وأجبتني
بكذا؟ فقال نعم. فقلت فأي شيء تعني بالحرمين؟ فقال مكة والمدينة».
السادس ـ رواية عثمان بن عيسى (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن إتمام
الصلاة والصيام في الحرمين؟ فقال أتمها ولو صلاة واحدة».
السابع ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن التمام
بمكة والمدينة؟ قال أتم وان لم تصل فيهما إلا صلاة واحدة».
الثامن ـ رواية فائد الحناط المروية في كتاب كامل
الزيارات لابن قولويه عن ابى الحسن الماضي عليهالسلام (4) قال : «سألته
عن الصلاة في الحرمين؟ قال أتم ولو مررت به مارا».
أقول : وهذه الأخبار كما ترى ناصة على الإتمام في
الحرمين من حيث خصوصية المكان ، ولا مجال فيها لاحتمال التقييد بنية الإقامة بوجه
كما يدعيه الصدوق (قدسسره) ومن قال
بمقالته.
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر.
(2) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر. والمسؤول في الحديث أبو
الحسن «ع».
والمفهوم من صحيحة على بن مهزيار المذكورة ان الخلاف في
هذه المسألة كان في ذلك الوقت ايضا ، بل ظاهرها ان التقصير ربما كان أشهر يومئذ
حيث نقل عن فقهاء أصحابنا يومئذ انهم أمروه بالتقصير ما لم ينو مقام عشرة أيام.
ويؤيده ما رواه جعفر بن محمد بن قولويه في كتاب كامل
الزيارات (1) عن أبيه عن
سعد بن عبد الله قال : «سألت أيوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد : مكة
والمدينة والكوفة وقبر الحسين عليهالسلام الأربعة والذي
روى فيها؟ فقال انا اقصر وكان صفوان يقصر وابن ابى عمير وجميع أصحابنا يقصرون».
وأجاب شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار عن
خبر أيوب ابن نوح المذكور بأنه لا ينافي التخيير فإنهم اختاروا هذا الفرد. وعندي
في هذا الجواب نظر لانه وان سلم انه لا ينافي التخيير كما ذكره لكنه ينافي أفضلية
الإتمام التي دلت عليها أخبار التمام ورغبت فيها وحثت عليها وصرحت بأنه من المذخور
والمخزون في علم الله سبحانه ، ومن البعيد كل البعيد أن يرغب عنه هؤلاء الأفاضل مع
ثبوت هذه الفضيلة بل جميع أصحابنا كما نقله أيوب بن نوح.
والذي يظهر لي ان هذا الخبر ونحوه من الأخبار الآتية
الدالة على التقصير في هذه الأماكن إنما خرجت ناصة على تحتم التقصير وتعينه مع عدم
نية الإقامة وانه لا يسوغ الإتمام إلا بنية الإقامة ، فما أجاب به أصحاب القول
المشهور عن اخبار القصر ـ من انها لا تنافي بينها وبين أخبار التمام بحملها على
اختيار أحد الفردين كما ذكره شيخنا المشار اليه هنا ـ ليس في محله.
ويرشدك الى ذلك حكاية على بن مهزيار فإنها تعطى ان
الاختلاف واقع في تلك الأيام وان اختلاف الرواية عنهم (عليهمالسلام) إنما هو في
تعين القصر وتحتمه في هذه المواضع كغيرها من سائر البلدان ، إذ لو كان التخيير
ثابتا يومئذ مع أرجحية التمام كما هو القول المشهور لما أشار عليه فقهاء أصحابنا
يومئذ بالتقصير مع عدم نية الإقامة بل لا أقل ان يقولوا له أنت مخير ولما ضاق ذرعا
بذلك
__________________
(1) مستدرك الوسائل الباب 18 من صلاة المسافر.
لأنه إذا كان الحكم بالتخيير متفقا
عليه عندهم ومعلوما لديهم والأخبار عندهم مجتمعة عليه وان لم تثبت أفضلية التمام
فما وجه ضيقه بذلك وكتابته اليه عليهالسلام؟ بل الحق
الصريح الذي لا يحتاج الى تكلف ولا تصحيح هو ما ذكرناه من أن روايات التقصير انما
خرجت ناصة على تعين القصر إلا مع نية الإقامة وهو الذي فهمه منها أصحابنا في ذلك
الوقت ولذا عكفوا على التقصير ، وهو السبب الذي ضاق به على بن مهزيار حيث أنه قد
روى له سابقا قبل حجته المشار إليها من الأخبار ما يدل على أفضلية التمام وقد كان
يتم لذلك حتى صدر في حجه ذلك ، فأشار عليه الأصحاب بالتقصير الموجب لبطلان ما عمل
عليه سابقا فضاق بذلك صدرا من حيث رغبته في الإتمام لتحصيل تلك الفضيلة التي وردت
في أخبار الإتمام وهؤلاء منعوه من ذلك وافهموه انه غير مشروع إلا مع نية الإقامة
فكتب لهذه الحيرة الى الامام عليهالسلام.
وحينئذ فمع تعارض الأخبار على هذا الوجه وعدم إمكان ما
ذكروه من الجمع في المقام فلا بد من النظر في ما يترجح به أخبار الطرفين ليصير
العمل عليه في البين ، وحينئذ فلقائل أن يقول ان صحيحة على بن مهزيار المذكورة قد
اشتملت على سؤاله عليهالسلام عن ذينك
القولين وعرض اخبار الطرفين وهو عليهالسلام قد أمر مع ذلك
بالتمام فلا مندوحة عن الحكم بمقتضاها والعمل بفتواها. نعم يبقى الكلام في وجه
تحمل عليه أخبار القصر وأظهر الوجوه فيها الحمل على التقية كما تقدمت الإشارة إليه
ذيل الأخبار الأربعة المتقدمة في صدر البحث لاختصاص الإتمام في هذه البقاع بمذهب
الإمامية ، وسيأتي مزيد بسط الكلام في المقام بعد ذكر الأخبار المشار إليها ان شاء
الله تعالى.
التاسع ـ صحيحة مسمع عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) قال قال لي : «إذا
دخلت مكة فأتم يوم تدخل».
العاشر ـ رواية عمر بن رياح (2) قال : «قلت
لأبي الحسن عليهالسلام أقدم مكة
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر.
أتم أو أقصر؟ قال أتم. قلت وأمر على
المدينة فأتم الصلاة أو أقصر؟ قال أتم».
أقول : وهذان الخبران ظاهر الدلالة على الإتمام أيضا
بمجرد الوصول كما يشير اليه قوله في الرواية الأولى «إذا دخلت مكة فأتم» ومن الظاهر
ان الدخول للحج وهو أعم من أن يكون يوم الخروج منها للحج أو قبله بما لا يسع مقام
عشرة أو يسع ، ويشير إليه في الرواية الثانية «أمر على المدينة» بل ربما يدعى كونه
كالصريح في عدم الإقامة ، إذ المراد بالمرور هو اتخاذها طريقا من غير توقف ولا
اقامة فيها ونحوها في ذلك رواية فائد الحناط المتقدمة.
الحادي عشر ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (1) قال : «قلت
لأبي الحسن عليهالسلام ان هشاما روى
عنك انك أمرته بالتمام في الحرمين وذلك من أجل الناس؟ قال لا كنت أنا ومن مضى من
آبائي إذا وردنا مكة أتممنا الصلاة واستترنا من الناس».
أقول : هذا الخبر لا يخلو من الإجمال الموجب لتعدد
الاحتمال ، وأظهر ما ينبغي أن يحمل عليه هو أنه لما كان مذهب أهل البيت (عليهمالسلام) واتباعهم من
تحتم القصر في السفر ما لم ينو مقام عشرة أيام معلوما عند عامة أهل زمانهم فكانوا
إذا رأوا أحدا منهم يتم في الحرمين بدون الإقامة سيما مكة التي إنما يحصل القدوم
فيها قبل التروية بقليل كانوا إذا أرادوا التمام لتحصيل شرف البقعة استتروا خوفا
من التشنيع عليهم بالإتمام الذي هو خلاف مذهبهم لعدم علمهم بأفضلية الإتمام لشرف
هذه البقاع ، حيث انهم حجب عنهم كما تقدمت الإشارة إليه في الأخبار الأربعة الأولة
، فلا جل دفع هذه المفسدة كانوا يستترون بذلك.
الثاني عشر ـ رواية إبراهيم بن شيبة (2) قال : «كتبت
الى ابى جعفر عليهالسلام اسأله عن
إتمام الصلاة في الحرمين فكتب الى كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يحب إكثار
الصلاة في الحرمين فأكثر فيهما وأتم».
الثالث عشر ـ رواية على بن يقطين (3) قال : «سألت
أبا إبراهيم عليهالسلام عن التقصير
بمكة فقال أتم وليس بواجب إلا انى أحب لك مثل الذي أحب لنفسي».
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر.
الرابع عشر ـ رواية سماعة بن مهران رواها شيخنا المجلسي
في كتاب البحار (1) نقلا من كتاب
عبد الله بن يحيى الكاهلي عن العبد الصالح عليهالسلام قال قال لي «أتم
الصلاة في الحرمين مكة والمدينة».
الخامس عشر ـ رواية عمرو بن مرزوق (2) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن الصلاة في
الحرمين وعند قبر الحسين عليهالسلام قال أتم
الصلاة فيها».
أقول : التقريب في هذه الروايات وأمثالها انه من الظاهر
البين الظهور ان وجوب القصر على المسافر مع عدم نية الإقامة ووجوب الإتمام عليه مع
نيتها كان أمرا معلوما عند أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) في تلك
الأزمان ، بل ربما يدعى انه من ضروريات الدين بين أولئك الأعيان ، وان ذلك حكم عام
في جميع البلدان لا اختصاص له بمكان دون مكان ، وهو صريح الأدلة الواردة بذلك كما
لا يخفى على ذوي الأفهام والأذهان ، وحينئذ فلو كان الإتمام في هذه الاخبار مقيدا
بإقامة العشرة كما يدعيه الصدوق ومن قال بمقالته لكان لا وجه لتكرار هذه الأسئلة
في هذه الأخبار العديدة عن الإتمام أو التقصير في هذه المواضع المخصوصة ولا سيما
الحرمين لزيادة التردد لهما على غيرهما لوضوح أمر المسألة كما ذكرنا ، فالحق ان
هذه الأسئلة ما خرجت من هؤلاء السائلين في خصوصية هذه المواضع إلا من حيث انهم
سمعوا ان لها خصوصية زائدة على غيرها وحكما مختصا بها دون ما سواها وهو رجحان
الإتمام فيها وان لم يكن بنية الإقامة خلاف ما يعهدونه من مسألة القصر ، والأئمة (صلوات
الله عليهم) قد أجابوا عن هذه الأسئلة تارة بالأمر بالإتمام وتارة بالتخيير وتارة بالتقصير
، وبذلك ارداد الإشكال الموجب لكثرة السؤال والسعى في تحقيق الحال وكشف ذلك الداء
العضال ، وينبهك على ذلك صحيحة على بن مهزيار المتقدمة ورواية على بن حديد الآتية (3) ان شاء الله
تعالى.
__________________
(1) ج 18 الصلاة ص 695.
(2) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر.
(3) ص 448.
السادس عشر ـ رواية عمران بن حمران (1) قال : «قلت
لأبي الحسن عليهالسلام أقصر في
المسجد الحرام أو أتم؟ قال ان قصرت فذاك وان أتممت فهو خير وزيادة الخير خير».
السابع عشر ـ رواية الحسين بن المختار عن أبي إبراهيم عليهالسلام (2) قال : «قلت له
انا إذا دخلنا مكة والمدينة نتم أو نقصر؟ قال ان قصرت فذاك وان أتممت فهو خير
تزداد».
الثامن عشر ـ صحيحة على بن يقطين عن ابى الحسن عليهالسلام (3) «في الصلاة
بمكة؟ قال من شاء أتم ومن شاء قصر».
والتقريب في هذه الأخبار ما تقدم في سابقها إلا انه قد
وقع الجواب هنا بالتخيير مع أفضلية الإتمام كما عليه جل علمائنا الاعلام ، وهذه
الأخبار هي مستندهم في ذلك.
فان قيل : ان هذه الأخبار انما دلت على التخيير في
الحرمين وأما حرم الحسين عليهالسلام والكوفة فلا
دلالة فيها عليهما.
قلنا : لا ريب في صحة ما ذكرت إلا ان الظاهر ان مستند
التخيير في هذين الموضعين انما هو الجمع بين ما دل على الإتمام وبين ما دل على
التقصير من الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى في الملحقات ، لان اخبار التمام
ظاهرها تعين الإتمام ووجوبه وتلك الاخبار صريحة في جواز التقصير فلا بد في الجمع
بينها من حمل اخبار التمام على التخيير مع أفضليته جمعا بين الجميع.
التاسع عشر ـ رواية أبي بصير عن ابى عبد الله عليهالسلام (4) قال : «سمعته
يقول تتم الصلاة في أربعة مواطن : في المسجد الحرام ومسجد الرسول صلىاللهعليهوآله ومسجد الكوفة
وحرم الحسين عليهالسلام».
العشرون ـ رواية عبد الحميد خادم إسماعيل بن جعفر عن ابى
عبد الله عليهالسلام (5) قال :
«تتم الصلاة في أربعة مواطن : المسجد الحرام ومسجد
الرسول صلىاللهعليهوآله ومسجد
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر.
الكوفة وحرم الحسين عليهالسلام.
الحادي والعشرون ـ رواية إبراهيم بن ابى البلاد عن رجل
من أصحابنا يقال له حسين عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) قال : «تتم
الصلاة في ثلاثة مواطن : في المسجد الحرام ومسجد الرسول الله صلىاللهعليهوآله وعند قبر
الحسين عليهالسلام».
الثاني والعشرون ـ رواية زياد القندي (2) قال «قال أبو
الحسن عليهالسلام يا زياد أحب
لك ما أحب لنفسي واكره لك ما أكره لنفسي أتم الصلاة في الحرمين وبالكوفة وعند قبر
الحسين عليهالسلام». والتقريب في
هذه الأخبار ما تقدم.
الثالث والعشرون ـ رواية أبي شبل (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام أزور قبر
الحسين عليهالسلام؟ قال نعم زر
الطيب وأتم الصلاة فيه. قلت فان بعض أصحابنا يرون التقصير فيه؟ قال انما يفعل ذلك
الضعفة».
أقول : قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب
البحار : اما قوله «انما يفعل ذلك الضعفة» فيحتمل ان يكون المراد به الضعفة في
الدين الجاهلين بالأحكام أو من له ضعف لا يمكنه الإتمام أو يشق عليه فيختار الأسهل
وان كان مرجوحا ، والوجه الأخير يؤيد ما اخترناه وهو أظهر ، والأول لا ينافيه إذ
يمكن ان يكون الضعف في الدين باعتبار اختيار المرجوح. انتهى.
أقول : وعلى كل من هذه الاحتمالات لا سيما الأول فهو
مناف لما تقدم نقله من كتاب كامل الزيارات عن أيوب بن نوح من اختياره مع من نقل
عنه ثمة التقصير ، وكذا ما تضمنته صحيحة على بن مهزيار من أمر فقهاء أصحابنا يومئذ
على بن مهزيار بذلك ، وكأن شيخنا المشار اليه غفل عن ذلك وما في توجيهه المذكور لهذا
الخبر من الإشكال في المقام بمخالفة أولئك الأعلام الذين لا يمكن نسبة هذه الوجوه
إليهم كما لا يخفى على ذوي الأفهام ، اللهم إلا ان يحمل الخبر المذكور على من علم
بالحكم في هذه المسألة وان الأفضل التمام ثم مع هذا يصلى قصرا فإنه
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر.
لا يكون إلا عن أحد الوجهين المذكورين
، واما أولئك الأجلاء فإنه بسبب ورود اخبار التقصير عليهم وترجحها لديهم لم يحصل
لهم العلم بالحكم المذكور ، ومن ثم ذهب الصدوق (قدسسره) في المسألة
إلى وجوب التقصير ايضا.
الرابع والعشرون ـ صحيحة معاوية بن وهب (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن التقصير في
الحرمين والتمام؟ قال لا تتم حتى تجمع على مقام عشرة أيام. فقلت ان أصحابنا رووا
عنك انك أمرتهم بالتمام؟ فقال ان أصحابك كانوا يدخلون المسجد فيصلون ويأخذون
نعالهم ويخرجون والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد للصلاة فأمرتهم بالتمام».
الخامس والعشرون ـ رواية محمد بن إبراهيم الحضيني (2) قال : «استأمرت
أبا جعفر عليهالسلام في الإتمام
والتقصير قال إذا دخلت الحرمين فانو عشرة أيام وأتم الصلاة. فقلت له انى أقدم مكة
قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة؟ قال انو مقام عشرة أيام وأتم الصلاة».
أقول : لا يخلو ظاهر هذا الخبر من الإشكال حيث ان ظاهره
الإتمام بمجرد نية العشرة وان علم انه لا يقيم العشرة.
وأجيب عنه بالتزام ذلك وانه من خصائص هذا المكان كما
ذكره الشيخ ومن تبعه. وبعده ظاهر.
والأظهر عندي في الجواب هو انه لما كان الاختلاف في
التقصير في هذا المكان يومئذ موجودا كما حققناه آنفا استأمره السائل في ذلك وسأله
عن الحكم المذكور فأمره بالإتمام بعد نية الإقامة فرجع السائل وأخبره وانه ربما
قدم في مدة لا يمكن فيها الإقامة لضيق الوقت عن الحج ، ويظهر من مراجعته ان مراده
ان يرخص له في التمام من غير نية إقامة كما وقع في حديث على بن حديد الآتي (3) من قوله «وكان
محبتي أن يأمرني بالإتمام». فأجابه عليهالسلام بأن الإتمام
لا يكون إلا بعد نية الإقامة
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر.
(3) ص 448.
وحاصله بيان تعليق الإتمام على نية
الإقامة لا ان مراده عليهالسلام الأمر
بالإقامة والإتمام على تلك الحال كما فهموه. وبالجملة فهذه العبارة مثل قوله عليهالسلام في حديث على
بن حديد «لا يكون الإتمام إلا أن تجمع على إقامة عشرة أيام» إلا ان هذه مجملة في
ذلك وحملها على ما ذكرناه لا بعد فيه.
السادس والعشرون ـ صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (1) قال : «سألت
الرضا عليهالسلام عن الصلاة
بمكة والمدينة بتقصير أو إتمام؟ فقال قصر ما لم تعزم على مقام عشرة».
السابع والعشرون ـ رواية على بن حديد (2) قال : «سألت
الرضا عليهالسلام فقلت ان
أصحابنا اختلفوا في الحرمين فبعضهم يقصر وبعضهم يتم وانا ممن يتم ، على رواية قد
رواها أصحابنا في التمام؟ وذكرت عبد الله بن جندب وانه كان يتم قال رحم الله ابن
جندب. ثم قال لي لا يكون الإتمام إلا ان تجمع على إقامة عشرة أيام وصل النوافل ما
شئت. قال ابن حديد وكان محبتي أن يأمرني بالإتمام».
الثامن والعشرون ـ صحيحة معاوية بن عمار (3) قال : سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل قدم
مكة فأقام على إحرامه؟ قال فليقصر الصلاة ما دام محرما».
التاسع والعشرون ـ صحيحة معاوية بن وهب المروية في كتاب
العلل (4) قال : «قلت لأبي
عبد الله عليهالسلام مكة والمدينة
كسائر البلدان؟ قال نعم. قلت روى عنك بعض أصحابنا انك قلت لهم أتموا بالمدينة لخمس؟
فقال ان أصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون فيخرجون من المسجد عند الصلاة فكرهت ذلك لهم
فلهذا قلته».
الثلاثون ـ رواية عمار بن موسى المروية في كتاب كامل
الزيارات لابن قولويه (5) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الصلاة في
الحائر قال ليس الصلاة إلا الفرض بالتقصير ولا تصل النوافل».
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر.
(5) الوسائل الباب 26 من صلاة المسافر.
أقول : هذا ما وقفت عليه من اخبار المسألة ، وأنت خبير
بان هذه الأخبار السبعة الأخيرة من الأدلة الدالة على ما ذهب اليه الصدوق ومن قال
بمقالته.
قال (قدسسره) في كتاب
الفقيه بعد ذكر الرواية الرابعة ما هذا لفظه : قال مصنف هذا الكتاب (رحمهالله) يعنى بذلك أن
يعزم على مقام عشرة أيام في هذه المواطن حتى يتم ، وتصديق ذلك ما رواه محمد بن
إسماعيل بن بزيع. ثم ساق الرواية وهي الخامسة والعشرون (1).
وقال في كتاب الخصال بعد نقل صحيحة حماد بن عيسى وهي
الأولى ما لفظه : يعنى أن ينوي الإنسان في حرمهم (عليهمالسلام) مقام عشرة
أيام ويتم ولا ينوي دون مقام عشرة أيام فيقصر ، وليس ما يقوله غير أهل الاستبصار
بشيء انه يتم في هذه المواضع على كل حال. انتهى.
أقول : قد عرفت من ما حققناه سابقا ان اخبار التقصير
انما خرجت ناصة على التقصير كما ذهب اليه (قدسسره) وتأويل
الأصحاب لها بما قدمنا نقله عنهم بعيد غاية البعد عن مضامين أكثرها وقرائن أحوالها
بل غير مستقيم كما لا يخفى على من أعطى التأمل حقه في ما قدمناه.
وانما يبقى الكلام معه في تأويل اخبار التمام بما ذكره ،
وفيه أولا ـ انه لا يخفى ان الأخبار التي استند إليها في وجوب التقصير موردها انما
هو الحرمان خاصة فالمعارضة إنما وقعت في اخبار الحرمين ومدعاه وجوب التقصير في
المواضع الأربعة مع ان اخبار التمام التي وردت في الحرمين الآخرين لا معارض لها ،
ولم نقف في الأخبار على خبر ناص على التقصير فيهما إلا على خبر عمار وهو الثلاثون
من الأخبار المتقدمة بالنسبة إلى الحائر الحسيني ، وهو ـ مع انحصار دلالته في
الحائر مع بقاء اخبار الكوفة بلا معارض بالكلية ، واشتماله على خلاف ما صرح به
الأصحاب واستفاضت به الأخبار كما سيأتي ان شاء الله تعالى من المنع من صلاة
__________________
(1) بل هي السادسة والعشرون.
النوافل ـ مردود بضعفه وندوره وعدم
قيامه بمعارضة تلك الأخبار الصحيحة الصريحة في الإتمام في الحائر الشريف ، مضافا
الى ما عرفته في روايات عمار من تفرده بالغرائب في اخباره والشواذ كما طعن عليه في
الوافي في غير موضع بذلك.
وكيف كان فالكوفة كما عرفت لا معارض لاخبار التمام فيها
بالكلية فبأي جهة يخرج عن أخبار التمام فيها ، فان استند الى اخبار القصر المطلقة
فهو مردود بان مقتضى القاعدة تقييد إطلاقها بهذه الأخبار فلا يتم الاستناد إليها
كما لا يخفى على ذوي الأفكار.
وثانيا ـ ان تأويله هذا وان أمكن في بعض الأخبار المجملة
كالخبرين المذكورين في كلامه إلا انه لا يتم في جملة منها كاخبار «يتم ولو صلاة
واحدة» (1) وقوله في آخر «ولو
مررت به مارا» (2) ونحوهما من ما
قدمنا بيانه وشددنا أركانه. وحينئذ فما ذكره (قدسسره) لا يصلح لأن
يكون حاسما لمادة الإشكال في جميع أخبار المسألة.
وثالثا ـ ما تقدم من التقريب ذيل الرواية الثانية عشرة
والثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة.
وبالجملة فان الحق الذي لا شك فيه ولا مرية تعتريه ان
هذه الأخبار الواردة في هذه المسألة متصادمة لا يمكن حمل بعضها على بعض لا بما
ذكره (قدسسره) من تأويل
روايات التمام بنية إقامة العشرة ولا ما ذكره الأصحاب من تأويل روايات القصر بكونه
أحد فردي المخير.
وتوضيحه زيادة على ما تقدم ان المفهوم من صحيحة على بن
مهزيار ورواية على بن حديد ان المراد من القصر في ما ورد به من الأخبار انما هو ما
كان عزيمة كسائر المواضع إلا مع نية الإقامة ، وان المراد من الإتمام في ما ورد به
من الاخبار انما هو ما لم يكن عن نية إقامة ، إذ لو كان المراد من اخبار القصر
انما هو ما تأولوها به من الحمل على اختيار أحد فردي الواجب المخير ـ وان التخيير
حكم مشهور في تلك
__________________
(1 و 2) ص 440.
المواضع كما يقولون به ومن اخبار
التمام التقييد بنية الإقامة كما يقول الصدوق مع ان ذلك حكم عام في جميع الأماكن ـ
لكان لا معنى للخلاف بين أصحابنا الذين في وقتهم (عليهمالسلام) حتى ان بعضهم
يختار القصر وينهى عن التمام وبعضها بالعكس ، ولما ضاق على بن مهزيار بذلك ولما
قال على بن حديد «وكان محبتي أن يأمرني بالإتمام» أما على الأول فلأنه مخير
واختيار أحد فردي الواجب المخير لا يوجب اختلافا ولا ينسب صاحبه إلى المخالفة ، مع
ان الإتمام أفضل وأرجح فكيف يعدل عنه الى المفضول والمرجوح؟ وأما على الثاني فلان
الإتمام بنية الإقامة لا ينافي القصر مع عدم النية المذكورة حتى ينسب من يختار
أحدهما الى مخالفة من يختار الآخر ، ولكان لا معنى لقول على بن حديد «وكان محبتي
أن يأمرني بالإتمام» كما لا يخفى على ذوي البصائر والافهام.
وحينئذ فلا بد من النظر في المرجحات لأخبار أحد الطرفين
ليكون العمل عليه في البين ، والظاهر ان الترجيح في أخبار الإتمام لوجوده :
الأول ـ صحيحة على بن مهزيار بالتقريب الذي تقدم في
ذيلها وهو عرض الاختلاف يومئذ على الامام عليهالسلام وامره
بالإتمام.
فإن قيل : ان رواية على بن حديد قد تضمنت ايضا عرض
القولين على الرضا عليهالسلام ومع ذلك منع
من الإتمام إلا مع إقامة عشرة أيام.
قلت : يمكن الجواب عن ذلك بعد الإغماض عن عدم معارضة
رواية على بن حديد لصحيحة على بن مهزيار من حيث السند بان يقال انه قد ورد عنهم (عليهمالسلام) انه إذا أتى
حديث عن أولهم وحديث عن آخرهم أو عن واحد منهم ثم اتى عنه بعد ذلك ما ينافيه انه
يؤخذ بالأخير في الموضعين :
روى ذلك ثقة الإسلام في الكافي عن المعلى بن خنيس (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام إذا جاء حديث
عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما تأخذ؟ فقال
__________________
(1) الوسائل الباب 9 من صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به.
خذوا به حتى يبلغكم عن الحي فإن بلغكم
عن الحي فخذوا بقوله».
وروى في حديث آخر عنه عليهالسلام (1) «انه قال لبعض
أصحابه : أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت
تأخذ؟ قال قلت كنت آخذ بالأخير. فقال لي رحمك الله».
ويؤيد ذلك ترحم الرضا عليهالسلام على عبد الله
بن جندب في رواية على بن حديد بعد أن نقل عنه انه يتم ، وفيه أشعار بكونه على الحق
في ذلك وان الأمر بالتقصير هنا انما هو المصلحة.
الثاني ـ ان اخبار القصر في هذه المواضع أقرب الى موافقة
العامة واخبار التخيير لا توافقهم ، وذلك لان التخيير هنا من خواص مذهب الشيعة إذ
العامة بين معين للقصر مطلقا وبين مخير مطلقا مع أفضلية التقصير (2) مع كون
المعلوم عندهم من مذهب الشيعة هو وجوب القصر عزيمة على المسافر ، وحينئذ فكل ما
ورد من ما يدل على تحتم القصر وعدم جواز التخيير في هذه الأماكن يتعين حمله على
التقية لما تقرر عنهم عليهمالسلام من القواعد
التي من جملتها عرض الأخبار في مقام الاختلاف على مذهب العامة والأخذ بخلافه (3) وروايات
التمام في هذه المواضع مخالفة لمذهب العامة فيتحتم الأخذ بها.
الثالث ـ انه مع العمل باخبار التمام كما اخترناه
واختاره جمهور أصحابنا يمكن حمل أخبار التقصير على التقية كما ذكرنا ، ولو عملنا
على أخبار القصر لزم طرح أخبار التمام رأسا مع استفاضتها وكثرتها وصحة أكثرها
وصراحتها وذلك لعدم قبولها لما ذكره الصدوق من الحمل المتقدم نقله كما أوضحناه ،
وفي طرحها ـ مع ما عرفت مضافا الى قول الطائفة بها سلفا وخلفا إلا الشاذ النادر ـ من
الشناعة ما لا يخفى.
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 9 من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.
(2) المغني ج 2 ص 267 الى 270 والام ج 1 ص 159 والمهذب ج 1 ص
101 وبدائع الصنائع ج 1 ص 91 وبداية المجتهد ج 1 ص 152.
فان قيل : انه يمكن حمل أخبار الإتمام على التقية لقول
العامة بالإتمام كما تقدم قلنا : فيه انه وان قال العامة بالإتمام في مطلق السفر
في الجملة وان كان مرجوحا إلا انه لا يتمشى في أخبار هذه الأماكن :
أما أولا ـ فلتصريح جملة منها بأن العلة في الإتمام إنما
هو تحصيل الثواب بكثرة الصلاة في هذه الأماكن وانه من المخزون والمذخور ونحو ذلك
من ما يدل على ان العلة في الإتمام إنما هو شرف هذه البقاع ، ولو كانت العلة في
الإتمام إنما هي التقية لما كان لخروج هذا الكلام وجه بالكلية.
وأما ثانيا ـ فلما عرفت آنفا من أن كثرة الأسئلة عن هذه
البقاع بأنه هل يصلى فيها تماما أو قصرا ـ مع معلومية وجوب القصر على المسافر
ووجوب التمام على ناوي الإقامة ووجوب العمل بالتقية كيف اقتضته ، بل ربما صارت هذه
المسائل من ضروريات مذهب أهل البيت عليهمالسلام ـ من ما لا
وجه له ، وأى وجه اشكال وخفاء فيه حتى تكثر فيه السؤالات عنه؟ وأي خصوصية لتعلق
هذه الأسئلة بهذه الأماكن وهي كغيرها من ما يجب على المسافر فيه التقصير والإتمام
على ناوي الإقامة والعمل بما اقتضته التقية. وبذلك يظهر ان الأمر بالتمام إنما وقع
من حيث شرف هذه البقاع.
وأما ثالثا ـ فلما عرفت في صحيحة على بن مهزيار من عمله
على التمام مدة مديدة لما روى له فيه ثم عدوله الى التقصير لما أفتوه به ووقوعه
بسبب ذلك في الضيق والحيرة حتى كتب الى الامام عليهالسلام ، وأي حيرة
وضيق في الإتمام إذا نوى الإقامة أو اقتضته التقية؟ بل صريح اشارة الفقهاء عليه
بالتقصير يومئذ ان إتمامه لم يكن عن نية إقامة ولا تقية كما لا يخفى على أدنى ذي
فهم. ونحو ذلك ما تضمنته رواية على بن حديد.
وبالجملة فالحاذق البصير بل من له أدنى روية وفكر يسير
لا يخفى عليه ان العلة في الإتمام في هذه الأخبار إنما هو شرف البقعة والوصول الى
محل الزلفى والرفعة.
فإن قيل : المفهوم من صحيحة معاوية بن وهب وهي الرابعة
والعشرون ان
الأمر بالإتمام إنما وقع تقية وكذلك
صحيحته الأخيرة وهي التاسعة والعشرون.
قلت : لا يخفى ان هاتين الروايتين من جملة الروايات
الدالة على وجوب التقصير حتما كما في سائر المواضع ، وقد تقدم البحث فيهما في
المقام الأول من الشرط الرابع من شروط التقصير (1).
وبيانه زيادة على ما تقدم انه لما أجابه الامام عليهالسلام في الصحيحة
الأولى بأنه لا يتم في الحرمين حتى يجمع على مقام عشرة أيام اعترضه السائل بأن
أصحابنا قد رووا عنك انك أمرتهم بالتمام في ذينك الموضعين وان لم يقيموا عشرة أجاب
عليهالسلام بأني لم آمرهم
بالتمام في هذه الصورة من حيث شرف البقعة الموجب للتمام في جملة الأيام وانما
أمرتهم بذلك لمصلحة أخرى وهو دفع الضرر عنهم بما كانوا يفعلونه يومئذ ، حيث انهم
مع عدم إقامة العشرة كانوا يقصرون فيخرجون من المسجد والناس يستقبلونهم داخلين
للصلاة وهذا من ما يوجب الضرر عليهم فأمرتهم بالإتمام وان لم يقيموا عشرة لدفع ذلك
عنهم. ومنه يعلم ان الإتمام هنا غير الإتمام المدعى في أصل المسألة لأن هذا خاص
بهؤلاء المذكورين لهذه العلة وذلك الإتمام الذي في أصل المسألة عام.
قال الشيخ (رحمهالله) بعد نقل
الخبر الأول من هذين الخبرين وكلام في البين ما لفظه : ويكون قوله عليهالسلام لمن كان يخرج
عند الصلاة من المسجد ولا يصلى مع الناس أمرا على الوجوب ولا يجوز تركه لمن كان
هذا سبيله لان فيه دفعا للتقية وإغراء بالنفس وتشنيعا على المذهب. انتهى. ومرجعه
الى ان الإتمام المأمور به في أصل المسألة تخييري وانه أفضل الفردين وهذا الإتمام
المذكور في هذين الخبرين حتمي لا يجوز تركه لما ذكره (قدسسره).
فان قلت : ان حمل الإتمام على التقية في هذين الخبرين
ينافي ما ذكرتم من حمل التقصير على التقية ومن جملة ما دل على ذلك صدر الخبرين
المذكورين.
__________________
(1) ص 350.
قلت : لا مانع من أن تكون العلة في التقصير في هذه
المواضع هو التقية وانه قد يتبدل الحكم بوجود عارض وأمر آخر كما في هاتين
الروايتين من الخروج من المسجد على هذه الحال ، وحينئذ فيكون الإتمام هنا مخصوصا
بهؤلاء الذين كانوا يفعلون ذلك ، ومن الظاهر ان التقية هنا أشد لان خروجهم عند
دخول المخالفين ربما كان موجبا لهم الخروج عن الدين في اعتقاد أولئك المعاندين
فلذا أمرهم عليهالسلام بالإتمام الذي
هو أقل مفسدة ، ولا يخفى ان اجوبتهم عليهمالسلام تدور مدار
المصالح التي تقتضيها الحال ، فلا إشكال في هذا المجال كما لا يخفى على ذوي
الكمال.
ثم ان من جملة من رجح ما رجحناه واختار ما اخترناه من
حمل اخبار القصر في هذه المسألة على التقية جملة من مشايخنا المحققين من متأخري
المتأخرين : منهم ـ شيخنا المجلسي في البحار ونقله فيه ايضا عن الفاضل العلامة
المحقق المولى عبد الله الشوشتري ، واختاره ايضا المحدث الكاشاني في الوافي والشيخ
محمد بن الحسن الحر العاملي في الوسائل ، ولكن أحدا منهم لم يعط المسألة حقها من
التحقيق كما أوضحناه بحمد الله سبحانه مانح التوفيق ، ولا تجد لأمثال هذه
التحقيقات ذكرا في غير كتبنا وزبرنا ، ولله سبحانه الحمد والمنة بذلك. والله
العالم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.
تنبيهات
الأول ـ في تحقيق المكان الذي يستحب فيه الإتمام من هذه
المواضع الأربعة والكلام هنا يقع في مواضع ثلاثة :
الأول ـ في الحرمين الشريفين ، وقد اختلف كلام الأصحاب
هنا في انه البلد في كل منهما أو المسجد كذلك أو الحرم؟ المشهور الأول ، وذهب ابن
إدريس الى الثاني فحص الحكم بالمسجدين وهو مختار العلامة في المختلف والشهيدين في
اللمعة وشرحها والروض ، وظاهر كلام الشيخ في التهذيب الثالث حيث قال : ويستحب
إتمام الصلاة في الحرمين فان فيه فضلا كثيرا. ثم قال ومن حصل بعرفات فلا يجوز
له الإتمام على حال. انتهى. وبه يظهر
ما في كلام بعض مشايخنا المعاصرين من إنكار القول بذلك حيث قال : ولم نظفر على
قائل مصرح بالشمول لجميع حرم الله ورسوله صلىاللهعليهوآله فضلا عن
غيرهما. والظاهر انه نشأ من غفلة عن ملاحظة العبارة المذكورة.
ومن الظاهر ان الأصل في الخلاف المذكور اختلاف الأخبار
الواردة في المقام ، فإن جملة من الأخبار المتقدمة منها ما تضمن التعبير عن ذلك
بالحرمين كالرواية الأولى والثانية والثالثة والخامسة والسادسة والثامنة والحادية
عشرة والثانية عشرة والرابعة عشرة (1) والثانية والعشرين والصحيح منها أربع
روايات ، ومنها ما تضمن التعبير بمكة والمدينة كالرواية الرابعة والسابعة والتاسعة
والعاشرة والثالثة عشرة والسابعة عشرة (2) والصحيح منها ثلاث روايات ، ومنها ما
تضمن التعبير بالمسجدين كالرواية السادسة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين (3) وكلها ضعيفة
السند وحينئذ فإن عملنا باخبار الحرمين ـ وهي أكثر الأخبار كما عرفت وهو ظاهر
التهذيب في ما قدمنا من عبارته ـ كان محل الإتمام فيهما أعم من البلدين.
وظاهر الأصحاب انهم حملوا الحرمين في تلك الأخبار على
البلدين وهو غير بعيد ، ويؤيده ما ورد عن الصادق عليهالسلام (4) انه قال : «مكة
حرم الله وحرم رسوله صلىاللهعليهوآله وحرم أمير
المؤمنين على بن ابى طالب عليهالسلام والمدينة حرم
الله وحرم رسوله صلىاللهعليهوآله وحرم على بن
ابى طالب عليهالسلام والكوفة حرم
الله وحرم رسوله صلىاللهعليهوآله وحرم على بن
ابى طالب عليهالسلام.
وما رواه الشيخ في الأمالي بسند موثق عن عاصم بن عبد
الواحد وهو مهمل (5) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : مكة
حرم الله والمدينة حرم محمد
__________________
(1) والخامسة عشرة.
(2) والثامنة عشرة وهي الصحيحة الثالثة.
(3) والحادية والعشرين.
(4) الوسائل الباب 44 من أحكام المساجد.
(5) البحار ج 21 ص 30.
صلىاللهعليهوآله والكوفة حرم
على بن ابى طالب عليهالسلام ان عليا حرم
من الكوفة ما حرم إبراهيم من مكة وما حرم محمد صلىاللهعليهوآله من المدينة».
ويعضد ذلك ايضا قوله في آخر صحيحة على بن مهزيار وهي
الرواية الخامسة «أي شيء تعني بالحرمين؟ فقال مكة والمدينة».
وقد أفصح عليهالسلام هنا بذلك ،
وبه يظهر قوة القول المشهور وانه المؤيد المنصور وقوفا في ما خالف أخبار القصر
العامة على القدر المتيقن من هذه الأخبار.
وأما القول بالاقتصار على المسجدين كما ذهب اليه جمع ممن
قدمنا ذكره وغيرهم فعللوه بكون الحكم على خلاف الأصل والخروج عن العهدة بالقصر
حاصل إجماعا ، إذ غاية الحكم بالإتمام التخيير فالقصر في البلدين مجزئ إجماعا على
التقديرين بخلاف الإتمام.
قال العلامة في المختلف بعد اختيار قول ابن إدريس : لنا
ـ ان الأصل وجوب القصر فيصار الى خلافه في موضع الوفاق.
أقول : فيه مع الإغماض عن المناقشة في بعض هذه المقدمات
انه ان كان التخصيص بالمسجدين على جهة الأولوية والاحتياط فلا بأس ، وان كان على
جهة الترجيح والاختيار والحكم بعدم اجزاء ما خرج عنهما كما هو صريح كلام ابن إدريس
فإن اللازم اطراح تلك الأخبار الجمعة المتكاثرة مع كثرتها وصحة جملة منها وصراحتها
والاعتماد عليها في أصل المسألة وضعف سند ما دل على اعتبار المسجدين باصطلاحهم كما
قدمنا ذكره ، مع ان قاعدتهم سيما شيخنا الشهيد الثاني ومن يحذو حذوه رد الأخبار
الموثقة فضلا عن الضعيفة.
وأما ما أجاب به العلامة في المختلف ـ حيث قال بعد ذكر
ما قدمنا نقله عنه : احتجوا بما تقدم من الروايات الدالة على الإتمام في الحرمين ،
والجواب بالحمل على نفس المسجدين جمعا بين الأدلة ـ
ففيه أولا ـ مع الإغماض عن المناقشة بعد هذا الإطلاق ان
المخالفة غير
منحصرة في أخبار الحرمين بل مثلها في
أخبار البلدين بلفظ مكة والمدينة ، وإطلاق هذين اللفظين على المسجدين أبعد.
وثانيا ـ ان صحيحة على بن مهزيار تضمنت سؤال الإمام عليهالسلام عن الحرمين
الذين أمر بالإتمام فيهما فأجاب بمكة والمدينة ولو كان ما يدعونه حقا لأجاب عليهالسلام بالمسجدين دون
البلدين.
وبالجملة فالظاهر ان التخصيص بالمسجدين في تلك الروايات
انما خرجت لمزيد الشرف وان الغالب والمتعارف هو الصلاة في المسجد.
ومن ما يؤيد الحمل على البلد زيادة على ما تقدم لكن
بالنسبة إلى مكة ما ورد في بعض الأخبار الاعتكاف من أن البلد كلها في حكم المسجد :
مثل ما في صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليهالسلام (1) قال : «المعتكف
بمكة يصلى في أي بيوتها شاء سواء عليه في المسجد صلى أو في بيوتها».
وفي بعضها (2) «ولا يصلى
المعتكف في بيت غير المسجد الذي اعتكف فيه إلا بمكة فإنه يعتكف بمكة حيث شاء لأنها
كلها حرم الله».
ثم انه على تقدير قصر الحكم على المسجد فهل المعتبر في
المسجد الحرام المسجد القديم الذي كان في زمن النبي صلىاللهعليهوآله أو هذا المسجد
الموجود الآن؟ اشكال قد تقدم بيانه في مسألة كراهة النوم في المسجد في المقدمة
السادسة في المكان (3).
وأما مسجد الرسول صلىاللهعليهوآله فالظاهر
اختصاص الحكم بما كان في زمنه صلىاللهعليهوآله دون ما زيد
فيه لأن الحكم بالتمام هنا وقع على خلاف الأصل فيقتصر فيه على القدر المتيقن.
ويعضد ذلك إضافته إليه صلىاللهعليهوآله في الاخبار
فيخص بما كان في زمانه إذ
__________________
(1) الوسائل الباب 8 من الاعتكاف.
(2) الوسائل الباب 8 من الاعتكاف ، وهو حديث عبد الله بطريق
الشيخ.
(3) ج 7 ص 295.
لا يضاف اليه ما فعله غيره بعده خصوصا
ما أحدثه الثاني من غصب بعض الدور وجعلها في المسجد كما صرحت به الأخبار (1).
وقد ورد في تحديده من الأخبار صحيحة محمد بن مسلم (2) قال : «سألته
عن حد مسجد الرسول الله صلىاللهعليهوآله قال الأسطوانة
التي عند رأس القبر إلى الأسطوانتين من وراء المنبر عن يمين القبلة ، وكان من وراء
المنبر طريق تمر فيه الشاة ويمر فيه الرجل منحرفا ، وكان ساحة المسجد من البلاط
الى الصحن». ونحوها صحيحة أبي بصير المرادي (3).
وثانيها ـ في الكوفة وقد اختلف أيضا في محل الإتمام هنا
هل هو مختص بالمسجد أو يعم البلد؟ فنقل جمع من متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم)
عن الشيخ (قدسسره) انه قال :
إذا ثبت الحكم في الحرمين من غير اختصاص بالمسجد يكون الحكم كذلك في الكوفة لعدم
القائل بالفصل. ونقل الشهيد في الدروس عن المحقق انه حكم في كتاب له في السفر
بالتخيير في البلدان الأربعة حتى الحائر ، ورجح المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد
عموم الإتمام في الكوفة ، وصرح جمع من المتأخرين باختصاص الحكم بالمسجد ، قال في
المعتبر : ينبغي تنزيل حرم أمير المؤمنين عليهالسلام على مسجد
الكوفة خاصة أخذا بالمتيقن. انتهى.
وظاهر الشيخ في المبسوط تعدية الحكم إلى الغري أيضا حيث
قال : ويستحب الإتمام في أربعة مواطن في السفر : بمكة والمدينة ومسجد الكوفة
والحائر على ساكنه أفضل التحية والسلام وقد روى الإتمام في حرم الله وحرم الرسول صلىاللهعليهوآله وحرم أمير
المؤمنين وحرم الحسين عليهماالسلام (4) فعلى هذه
الرواية يجوز
__________________
(1) وفاء الوفاء للسمهودى ج 1 ص 342 إلا انه لم يذكر الغصب بل
انه كان بنحو الاشتراء والاسترضاء.
(2 و 3) الوسائل الباب 58 من أحكام المساجد.
(4) في حديث حماد ص 438.
الإتمام خارج مسجد الكوفة وبالنجف.
انتهى.
وقال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) بعد نقل ذلك عنه :
وكأنه نظر الى ان حرم أمير المؤمنين عليهالسلام ما صار محترما
بسببه واحترام الغري به أكثر من غيره. ولا يخلو من وجه ويومئ اليه بعض الأخبار ،
ثم قال (قدسسره) والأحوط في
غير المسجد القصر. انتهى.
فاما الأخبار الواردة هنا فان بعضها تضمن التعبير بحرم
أمير المؤمنين عليهالسلام وهي الرواية
الأولى وبعضا تضمن التعبير بالكوفة وهي الرواية الثانية والعشرون وبعضا بالمسجد
وهي الرواية الرابعة والتاسعة عشرة والعشرون.
وقد طعن بعض المتأخرين في الرواية الواردة بحرم أمير
المؤمنين عليهالسلام بان فيها إجمالا
لعدم معلومية الحرم ثمة ، ثم نقل عن المعتبر كما أسلفنا تنزيله على المسجد.
وأنت خبير من ما أسلفنا من الروايتين الدالتين على أن
الكوفة حرم أمير المؤمنين عليهالسلام ونحوهما
غيرهما انه لا مجال للطعن بهذا الإجمال لتفسير الحرم في تلك الأخبار بالكوفة.
وحينئذ فيمكن القول بان موضع الإتمام هو البلد وتحمل
رواية الحرم على ذلك ، وتحمل رواية المسجد على ما ذكرنا سابقا من حيث مزيد الشرف
واعتياد العبادة فيه. ويحتمل التخصيص بالمسجد لكثرة الروايات الواردة به وتخصيص
الحرم به كما ذكره في المعتبر. ولعل الأول أقرب وان كان الثاني أحوط.
ثم انه على تقدير الصلاة في المسجد خصوصا أو احتياطا فهل
يختص الحكم بالموجود الآن أو المسجد القديم لما دلت عليه جملة من الأخبار من حصول
التغيير فيه عن ما كان عليه سابقا؟ اشكال.
ومن الأخبار الدالة على ما قلناه من نقصان هذا المسجد عن
المسجد القديم ما رواه العياشي في تفسيره عن المفضل بن عمر (1) قال «كنت مع
ابى عبد الله عليهالسلام
__________________
(1) مستدرك الوسائل الباب 35 من أحكام المساجد.
بالكوفة أيام قدم على ابى العباس فلما
انتهينا إلى الكناسة نظر عن يساره ثم قال يا مفضل ههنا صلب عمى زيد (رحمهالله) ثم مضى حتى
أتى طاق الرواسين وهو آخر السراجين فنزل فقال لي انزل فإن هذا الموضع كان مسجد
الكوفة الأول الذي خطه آدم عليهالسلام وانا أكره أن
أدخله راكبا. فقلت له فمن غيره عن خطته؟ فقال أما أول ذلك فالطوفان في زمن نوح عليهالسلام ثم غيره أصحاب
كسرى والنعمان بن المنذر ثم غيره زياد بن ابى سفيان. فقلت له جعلت فداك وكانت
الكوفة ومسجدها في زمن نوح؟ فقال نعم يا مفضل. الحديث».
وما رواه في الكافي بسنده فيه عن أمير المؤمنين عليهالسلام (1) وانه كان يقوم
على باب المسجد ثم يرمى بسهم فيقع في موضع التمارين فيقول ذلك من المسجد وكان يقول
قد نقص من أساس المسجد مثل ما نقص في تربيعه».
وما رواه شيخنا المجلسي (رحمهالله) في كتاب
البحار (2) نقلا من كتاب
المزار الكبير بسنده فيه الى على عليهالسلام في حديث يتضمن
فضل مسجد الكوفة قال في آخره «ولقد نقص منه اثنا عشر الف ذراع».
وما رواه في الكتاب المذكور ايضا (3) عن حذيفة في
حديث قال فيه «ولقد نقص من ذرعه من الأساس الأول اثنا عشر الف ذراع ، وان البركة
منه على اثنى عشر ميلا من أى الجواب جئته».
وما رواه في الكافي عن وهيب بن حفص عن ابى بصير عن ابى
عبد الله عليهالسلام (4) قال : «ان
القائم إذا قام رد البيت الحرام إلى أساسه ومسجد الرسول صلىاللهعليهوآله إلى أساسه
ومسجد الكوفة إلى أساسه. وقال أبو بصير الى موضع التمارين من المسجد».
وحينئذ فعلى تقدير القول بالاقتصار على المسجد هل يكون
الحكم في ما خرج عن المسجد الآن من ما علم دخوله في هذه الحدود المذكورة في هذه
الروايات
__________________
(1) الوسائل الباب 44 من أحكام المساجد ، وهو حديث ابى بصير
رقم «2».
(2 و 3) ج 22 ص 88.
(4) الفروع ج 1 ص 313 باب النوادر.
حكم هذا المسجد؟ اشكال من دلالة هذه
الأخبار على كونه من المسجد ، ومن احتمال بناء حمل اللفظ الوارد عنهم (عليهمالسلام) على المعهود
المعروف يومئذ بين كافة الناس ، ولو أريد ما زاد على ذلك لكان ينبغي بيان الحال
حذرا من الإجمال الحاصل من تأخير البيان.
ويؤيد ذلك جعل البيوت في زمانه عليهالسلام بجنب المسجد
الموجود الآن كما هو الموجود الآن من آثار بيت أمير المؤمنين عليهالسلام ومن الظاهر
ايضا بيوت الناس في ذلك الوقت والأسواق ونحوها فإنها كلها واقعة في تلك الحدود
المستلزم البتة لوقوع النكاح فيها والبول والتغوط وازالة النجاسات ونحو ذلك من ما
يجب اجتنابه في المساجد.
ولم أقف لأحد من أصحابنا (رضوان الله عليهم على كلام
للتفصي عن هذا الإشكال ، وقد نقل لي بعض من أثق به من الاخوان حين تشرفت في
الأعوام السابقة بذلك المكان ان بعض العلماء المعاصرين المجاورين في النجف الأشرف
كان يمنع من ضرب الخلاء في تلك الصحراء من ما يدخل في تلك الحدود ، وحكى لي بعض
الاخوان أيضا عن بعض علماء ذلك الزمان تخصيص النقصان من المسجد بالجهة التي فيها
باب الفيل دون سائر الجهات ، قال وهو الذي يلي موضع التمارين.
وكيف كان فالأحوط الاقتصار على هذا المسجد الموجود الآن.
وقد تقدم الكلام في هذا المقام أيضا في التذنيب الملحق بالختام الذي في المساجد من
آخر المقدمة السادسة في المكان (1) والله سبحانه العالم.
وثالثها ـ في الحائر المقدس على مشرفه أفضل التحية
والسلام وقد اختلف ايضا فيه كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم وقد تقدم النقل عن
المحقق في كتابه المشار اليه آنفا انه جعل البلد محلا للتمام ، والمشهور بين أصحابنا
الاختصاص بالحائر وأما الروايات الواردة هنا. فمنها ما هو بلفظ الحائر وهي الرواية
الرابعة.
__________________
(1) ج 7 ص 323 و 324.
ومنها ما هو بلفظ الحرم وهي الرواية
الأولى والتاسعة عشرة والعشرون. ومنها ما هو بلفظ «عند القبر» وهي الرواية الحادية
والعشرون والثانية والعشرون والثالثة والعشرون.
ونقل عن المحقق في الكتاب المشار اليه آنفا انه استند في
ما ذهب اليه هنا من الإتمام في مجموع البلد الى الأخبار الواردة بلفظ حرم الحسين عليهالسلام قال : وقدر
بخمسة فراسخ وأربعة فراسخ والكل حرم وان تفاوتت في الفضيلة. انتهى.
ونفى عنه البعد شيخنا المجلسي (رحمهالله) في البحار (1) ثم نقل شطرا
من الأخبار الواردة في تقدير الحرم وفي بعضها فرسخ في فرسخ من أربع جوانب القبر
وفي بعض آخر خمسة فراسخ من أربعة جوانبه ، ونقل في جلد المزار من البحار (2) رواية تتضمن
انه فرسخ من كل جانب ، ولكن الكل مشترك في ضعف السند. ثم انه (قدسسره) قال :
والأحوط إيقاع الصلاة في الحائر وإذا أوقعها في غيره فيختار القصر.
أقول : والأقرب عندي هو القول المشهور وحمل الحرم في تلك
الروايات على الحائر باعتبار انه أخص أفراد الحرم وأشرفها ، وتؤيده الروايات الدالة
على انه عند القبر ، فإن إطلاق العندية على البلد لا يخلو من البعد وأما على
الحائر فهو قريب وان كان المتبادر من ذلك هو ما كان تحت القبة الشريفة خاصة إلا أن
إدخال الحائر تحت هذا اللفظ في مقام الجمع بين الأخبار غير بعيد ولا مستنكر مثل
إدخال البلد ويؤيده
ما ورد في بعض الأخبار عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) انه قال «قبر
الحسين عليهالسلام عشرون ذراعا
في عشرين ذراعا مكسرا روضة من رياض الجنة منه معراج الملائكة إلى السماء. الحديث».
وأظهر في ذلك تأييدا ان وجوب القصر ثابت على المسافر
بيقين ولا يرتفع إلا بدليل ثابت مثله ، وذلك في المشهد الشريف وهو الحائر المقدس
ثابت بما ذكرنا
__________________
(1) ج 18 الصلاة ص 703.
(2) البحار ج 22 ص 139 و 141 باب الحائر وفضله.
(3) البحار ج 22 ص 139 و 141 باب الحائر وفضله.
من الأدلة لاجتماع صدق الألفاظ
الثلاثة عليه ، وأما في غيره من أماكن البلد فلا لان المناط حينئذ إنما هو محض
احتمال كون المراد بالحرم هنا مطلق حرمه عليهالسلام واحتمال حمل
الحائر على ما وراء سور المشهد واحتمال التجوز في «عنده» بما يشمل البلد ، وكل هذه
الاحتمالات ولا سيما الأخير في غاية البعد والخروج عن الظاهر المتبادر ، فالخروج
عن يقين وجوب القصر بهذه الاحتمالات لا يخلو من مجازفة ظاهرة
وأما تحديد الحائر الشريف فقال ابن إدريس انه ما دار سور
المشهد والمسجد عليه دون ما دار سور البلد عليه ، لان ذلك هو الحائر حقيقة لأن
الحائر في لسان العرب الموضع المطئن الذي يحار فيه الماء ، وقد ذكر شيخنا الشهيد
ان في هذا الموضع حار الماء لما أمر المتوكل (لعنه الله) بإطلاقه على قبر الحسين عليهالسلام ليعفيه فكان
لا يبلغه. انتهى.
وقال شيخنا المجلسي (قدسسره) في كتاب
البحار بعد نقل كلام ابن إدريس المذكور : وأقول ذهب بعضهم الى ان الحائر مجموع الصحن
المقدس وبعضهم إلى أنه القبة السامية وبعضهم إلى أنه الروضة المقدسة وما أحاط بها
من العمارات المقدسة من الرواق والمقتل والخزانة وغيرها ، والأظهر عندي انه مجموع
الصحن القديم لا ما تجدد منه في الدولة الصفوية (شيد الله اركانهم والذي ظهر لي من
القرائن وسمعته من مشايخ تلك البلاد الشريفة انه لم يتغير الصحن من جهة القبلة ولا
من جهة اليمين ولا من جهة الشمال بل إنما زيد من خلاف جهة القبلة ، وكل ما انخفض
من الصحن وما دخل فيه من العمارات فهو الصحن القديم وما ارتفع منه فهو خارج عنه ،
ولعلهم انما تركوه كذلك ليتمايز القديم من الجديد. والتعليل المنقول عن ابن إدريس (قدسسره) ينطبق على
هذا وفي شموله لحجرات الصحن من الجهات الثلاثة إشكال. انتهى كلام شيخنا المذكور.
أقول : وقد أخبرني من أثق به من علماء تلك البلد وسكنة
ذلك المكان منذ مدة من الزمان لما تشرفت بتقبيل تلك الأعتاب وفاوضته في كلام شيخنا
المذكور
ونقله التغيير في الصحن في دبر القبلة
فقال ان سبب ذلك ان هذا المسجد الجامع الموجود الآن في ظهر القبة السامية لم يكن
قبل وانما أحدث في ما يقرب من مائتي سنة ولما أحدثوه أخروا جدار الصحن من تلك
الجهة لتتسع مثل باقي جهاته.
ثم ان ما اختاره شيخنا المتقدم ذكره ـ من تحديد الحائر
الشريف وانه عبارة عن الصحن لا خصوص القبة السامية أو هي وما اتصل بها من العمارات
ـ يدل عليه بعض اخبار الزيارات كما في رواية صفوان الطويلة (1) ونحوها من
الأخبار الدالة على سعة ما بين دخول الحائر ووصول القبر بحيث يزيد على الروضة
والعمارات المتصلة بها.
التنبيه الثاني ـ قد تقدم النقل عن المرتضى وابن الجنيد (رضى
الله عنهما) انهما ذهبا الى وجوب التمام في هذه المواضع الأربعة وألحقا بها
المشاهد المشرفة. هكذا نقله الأصحاب عنهما.
والذي وقفت عليه من كلاميهما ما نقله عنهما في المختلف ،
فنقل عن السيد في الجمل انه قال : لا يقصر في مكة ومسجد النبي صلىاللهعليهوآله ومشاهد الأئمة
القائمين مقامه عليهمالسلام. ونقل عن ابن
الجنيد انه قال : والمسجد الحرام لا يقصر فيه أحد لأن الله جعله سواء (الْعاكِفُ
فِيهِ وَالْبادِ) (2).
وهاتان العبارتان قاصرتان عن افادة ما نقل عنهما سيما
عبارة ابن الجنيد المختصة بالمسجد الحرام ، اللهمّ إلا أن يكون قد وقفوا لهما على
كلام غير هذا ، مع ان المحقق في المعتبر والعلامة في المختلف نقلا عن السيد القول
بالقول المشهور ، ويمكن حمل النهي في كلاميهما هنا على النهى عن تحتمه ردا على مثل
الصدوق القائل بتحتم القصر ، فإنهم كثيرا ما يجرون في التعبير على وفق ألفاظ
النصوص وان كانوا يفهمون ان المراد بها خلاف ظاهرها كما هو في كلام الشيخ والصدوق
شائع وكيف كان فهو على ظاهره مطروح غير معمول عليه. واما تعدية الحكم إلى سائر
__________________
(1) البحار ج 22 ص 158.
(2) في قوله تعالى في سورة الحج الآية 25.
المشاهد المشرفة فقال في الذكرى : انا
لم نقف لهما على مأخذ في ذلك والقياس عندنا باطل
الثالث ـ ظاهر أصحابنا (رضوان الله عليهم من غير خلاف
يعرف ان التخيير في هذه المواضع مخصوص بالصلاة دون الصوم لخلو الأخبار الواردة في
المسألة من التعرض له ، بل اشعار بعض الروايات المتقدمة وهي الرواية السادسة
بالعدم ، حيث سئل فيها عن إتمام الصلاة والصيام في الحرمين فأجاب عليهالسلام عن الصلاة
خاصة واضرب عن الصيام والظاهر انه لعدم جريان الحكم فيه. وما ربما يوجد في بعض
النسخ بلفظ ضمير التثنية فالظاهر انه غلط من النساخ بل الأظهر ما في أكثر النسخ
المعتمدة بضمير الافراد الراجع إلى الصلاة خاصة كما يؤيده قوله عليهالسلام : «ولو صلاة
واحدة».
ومن أظهر ما يدل على ذلك صحيحة أحمد بن محمد بن ابى نصر
البزنطي (1) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن الصيام
بمكة والمدينة ونحن في سفر فقال أفريضة؟ فقلت لا ولكنه تطوع كما يتطوع بالصلاة.
قال فقال تقول اليوم وغدا؟ فقلت نعم. فقال لا تصم». والتقريب فيها ان المنع عن
التطوع مستلزم للمنع عن الواجب بطريق أولى.
وما ربما يتوهم من جواز ذلك ـ استنادا إلى صحيحة معاوية
بن وهب عن ابى عبد الله عليهالسلام (2) قال : «قلت
دخلت بلدا أول يوم من شهر رمضان ولست أريد أن أقيم عشرا؟ قال قصر وأفطر. قلت فانى
مكثت كذلك أقول غدا أو بعد غد فأفطر الشهر كله واقصر؟ قال نعم هما واحد إذا قصرت
أفطرت وإذا أفطرت قصرت». وبهذا المضمون روايات أخر تقتضي جواز الصيام مع الإتمام ـ
فقد أجاب عنه شيخنا المجلسي في البحار بأنه يمكن أن يكون المراد به القصر على
الحتم كما هو الغالب. انتهى. وهو جيد لما عرفت في غير مقام من ما تقدم ان
__________________
(1) الوسائل الباب 12 ممن يصح منه الصوم.
(2) الوسائل الباب 15 من صلاة المسافر.
الأحكام المودعة في الأخبار انما تبنى
على الافراد المتكررة المتكثرة فإنها هي التي ينصرف إليها الإطلاق وتتبادر الى
الفهم.
ويحتمل ايضا تخصيص الخبر المذكور بغير ما نحن فيه كما
وقع تخصيصه في مواضع أخر أيضا : منها ـ ما سيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب الصيام
في من سافر بعد الظهر بدون تبيت النية على الخلاف الآتي ان شاء الله تعالى ،
وحينئذ فلا بد من حمله على ان ذلك من حيث اقتضاء السفر فلا ينافيه ما لو حصل
أحيانا التخلف لعارض ومن جهة أخرى كما نحن فيه ، إذ خروج القصر عن كونه عزيمة في
هذه المواطن إنما هو من جهة خصوصية فيها اقتضت ذلك بالأدلة القاطعة. هذا مع ان ما
نحن فيه دائر بين كونه الصيام أفضل من الإفطار وبين كونه حراما بخلاف الإفطار فإنه
دائر بين كونه واجبا حتميا أو تخييريا ، ومقتضى القواعد العقلية والنقلية في ما
إذا دار الفعل بين الاستحباب والتحريم هو ترك ذلك الفعل ، وأما الإفطار هنا فهو
موجب للخروج عن العهدة على كل من التقديرين. والله العالم.
الرابع ـ قد صرح جملة من الأصحاب ـ منهم الشهيد في
الذكرى والمحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد والفاضل الخراساني في الذخيرة وشيخنا
المجلسي في البحار والمحدث الكاشاني في المفاتيح ـ بجواز فعل النافلة الساقطة في
السفر في هذه الأماكن سواء اختار القصر أو الإتمام للتحريض والترغيب في كثرة
الصلاة فيها كما تقدم في الرواية الخامسة والرواية الثانية عشرة.
ومن ما يدل على ذلك مع اختيار القصر جملة من الأخبار
رواها ابن قولويه في كتاب كامل الزيارات : منها ـ ما رواه بسنده عن على بن أبي
حمزة (1) قال : «سألت
العبد الصالح عليهالسلام عن زيارة قبر
الحسين عليهالسلام فقال ما أحب
لك تركه. فقلت وما ترى في الصلاة عنده وأنا مقصر؟ قال صل في المسجد الحرام ما شئت
تطوعا وفي مسجد الرسول الله صلىاللهعليهوآله ما شئت تطوعا
وعند قبر الحسين عليهالسلام فإني أحب ذلك.
قال
__________________
(1) الوسائل الباب 26 من صلاة المسافر.
وسألته عن الصلاة بالنهار عند قبر
الحسين عليهالسلام ومشاهد النبي صلىاللهعليهوآله والحرمين
تطوعا ونحن نقصر؟ فقال نعم ما قدرت عليه».
وما رواه في الكتاب المذكور بسنده عن ابن ابى عمير عن
ابى الحسن عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن التطوع عند قبر الحسين عليهالسلام وبمكة
والمدينة وأنا مقصر؟ قال تطوع عنده وأنت مقصر ما شئت وفي المسجد الحرام وفي مسجد
الرسول صلىاللهعليهوآله وفي مشاهد
النبي صلىاللهعليهوآله فإنه خير».
وما رواه عن إسحاق بن عمار (2) قال : «قلت
لأبي الحسن عليهالسلام أتنفل في
الحرمين وعند قبر الحسين عليهالسلام وانا أقصر؟
قال نعم ما قدرت عليه».
وجه الدلالة انه إذا جاز التنفل مع القصر فمع الإتمام
أولى. أقول : لقائل أن يقول انه لا ريب في صراحة الأخبار الدالة على سقوط النافلة
الراتبة النهارية في السفر وهو حكم اتفاقي نصا وفتوى ، وهذه الأخبار غاية ما تدل
عليه الحث على التطوع وكثرة الصلاة ، وهو وان كان أعم من الراتبة وغيرها لكن
عارضها في الراتبة ما عرفت فيجب قصرها على غير الراتبة.
وبالجملة فإن الأحوط ترك الراتبة النهارية مع اختيار
القصر لعدم صراحة هذه الأخبار مع غض الطرف عن النظر في أسانيدها في جوازها على
التعيين وعدم تبادرها من حاق ألفاظها على اليقين. ودخولها في مطلق التطوع معارض
بما دل على سقوطها على الخصوص والتعيين مع قصر فرائضها ووجوب تقديم الخاص في
العمل.
نعم مع اختيار الإتمام الظاهر انه لا إشكال في جواز
الإتيان بها ، ويشير الى ذلك رواية أبي يحيى الحناط (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن صلاة
النافلة بالنهار في السفر؟ فقال يا بنى لو صلحت النافلة في السفر تمت الفريضة».
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 26 من صلاة المسافر.
(3) الوسائل الباب 21 من أعداد الفرائض ونوافلها.
وربما أيد الحمل هنا على غير الراتبة عد مشاهد النبي صلىاللهعليهوآله من تلك
المواضع في استحباب كثرة التطوع في حال السفر مع الصلاة قصرا مع انها ليست داخلة
في شيء من المواضع الأربعة.
وبالجملة فدليل سقوطها مع التقصير صحيح صريح متفق عليه
فلا يخرج عن مقتضاه إلا بدليل مثله ، سيما انا لم نعثر على مصرح بهذا الحكم من
المتقدمين.
إلا انه يمكن أن يقال ايضا ان سقوط الراتبة المذكورة
انما ثبت مع تعين التقصير وتحتمه وحينئذ فمع عدمه تبقى أدلتها الدالة على
استحبابها مطلقا وتوظيفها سالمة من المعارض ، وحينئذ فيمكن القول بجوازها اعتمادا
على تلك الأدلة دون هذه ، والاحتياط لا يخفى. والله العالم.
الخامس ـ قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق في
المعتبر وغيره بأنه لا يعتبر في الصلاة الواقعة في هذه الأماكن التعرض لنية القصر
والإتمام ، واستحسنه جماعة ممن تأخر عنه : منهم ـ السيد السند في المدارك وشيخنا
المجلسي في البحار وغيرهما في غيرهما ، والمفهوم من كلام شيخنا الشهيد في الدروس
والبيان وجوب التعرض لذلك في النية ، لكن صرح في البيان بأنه لا يخرج بذلك عن
التخيير والمشهور خلافه.
والظاهر ان مرادهم بالتعرض لنية القصر والإتمام أخذ ذلك
في قيود النية المشهور تصويرها في كتبهم بقول المصلى مثلا «أصلي فرض كذا. الى آخره»
التي هي عبارة عن الكلام النفسي والتصوير الفكري ، وإلا فلا ريب انه لا بد من
اعتبار ذلك بل لا يمكن بدونه لضرورة عدم انفكاك أفعال العقلاء عند توجه النفس إلى
شيء منها عن القيود المميزة ، ولهذا قيل لو كلفنا الله العمل بغير نية لكان
تكليفا بما لا يطاق ، وهذه هي النية الحقيقية كما تقدم تحقيقه في غير مقام من
مباحث النية.
والظاهر ان مرادهم ايضا بعدم تعيين أحدهما بالنسبة إليه
انه لو نوى الإتمام
مثلا جاز له الرجوع الى القصر ما لم
يتجاوز محل العدول ولا يتعين عليه المضي على الإتمام ، وكذا لو نوى القصر جاز له
العدول الى التمام ما لم يسلم على الركعتين مستصحبا للنية الأولى ، وإلا فلو كان
المراد الإتيان بأيهما كيف اتفق كما يفهم من ظاهر العبارة لأشكل ذلك في ما لو دخل
بنية الإتمام ثم سلم على الركعتين ساهيا أو دخل بنية القصر ثم صلى الركعتين
الأخيرتين ساهيا ، فان الحكم بالصحة بناء على انه مخير في الإتيان بهما وقد أتى
بأحدهما مشكل ، لأن الظاهر ان المكلف وان كان مخيرا بين الفردين إلا انه باختياره
أحدهما وقصده الامتثال به من غير عدول عنه في محل العدول يتعين في حقه وتترتب عليه
أحكامه من الابطال بزيادة ما تكون زيادته مبطلة ونقصان ما نقصانه مبطل ، وإلا لزم
الحكم بالصحة بناء على استحباب التسليم في ما لو صلى بنية التمام ثلاث ركعات ثم
سلم على الثالثة ساهيا ، فإنه قد أوجد الصلاة المقصورة في ضمن هذه الثلاث ركعات
وان كانت غير مقصودة فتكون مجزئة ، بل ولو سلم عامدا أو أحدث والحال هذه بعد إتمام
الركعتين الأخيرتين أو فعل ما يبطلهما بعد ذلك فإنه تكون صلاته صحيحة باعتبار
اشتمالها على الصلاة المقصورة في الجملة ، والحكم بالصحة في أمثال ذلك خارج عن
مقتضى القواعد والأصول المقررة.
وبذلك يظهر لك ما في كلام المحقق الأردبيلي في شرح
الإرشاد حيث قال : الظاهر انه لو نوى القصر ثم تممها نسيانا أو عمدا مع النقل تصح
الصلاة وبالعكس. انتهى.
والظاهر ان مراده بالعكس ما لو نوى التمام ثم سلم على
الركعتين الأولتين ساهيا أو أحدث بعد التشهد أو فعل غيره من المبطلات فإنه تكون
صلاته صحيحة. ومرجع كلامه الى اجزاء الإتيان بأحد الفردين واقعا وان لم يكن مقصودا
ولا مرادا له حال دخوله في الصلاة الى الفراغ منها ، وبطلانه أظهر من ان يذكر فان
العبادات تابعة للقصود والنيات ولكل من إفرادها أحكام خاصة مبنية على ذلك كما لا
يخفى
على من تأمل القواعد المستفادة من
الأخبار وكلام الأصحاب في هذا الباب. والله العالم
السادس ـ قد أورد بعض الأصحاب إشكالا في هذا المقام وما
شاكله من كل موضع حكم فيه بالتخيير بين واجبين مع أرجحية أحدهما ، كالحكم بالتخيير
بين التسبيح والفاتحة في الأخيرتين مع الحكم بأفضلية التسبيح ، والتخيير بين الظهر
والجمعة مع أفضلية الجمعة ، والحكم بالتخيير في الاستنجاء بين الماء والأحجار مع
عدم التعدي وأفضلية الماء ونحو ذلك ، وقد تقدم الكلام في بيان الاشكال المذكور
والجواب عنه والبحث في ذلك في الفصل الثامن في حكم الأخيرتين من الباب الثاني (1) وفي بحث النية
في الوضوء من كتاب الطهارة وغيرهما فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه.
السابع ـ قد صرح جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ المحقق
الأردبيلي والفاضل الخراساني وشيخنا المجلسي بأن الظاهر بقاء التخيير في فوائت هذه
الأمكنة فيتخير في قضائها بين الإتمام والقصر وان وقع القضاء في خارجها لعموم «من
فاتته صلاة فليقضها كما فاتته» (2). ثم احتملوا تعين القصر احتمالا
وجعله بعضهم أحوط اما لو أراد ان يقضى فيها ما فات في خارجها فظاهرهم عدم التخيير
للخبر المذكور.
الثامن ـ قال في المنتهى : من عليه صلاة فائتة هل يستحب
له الإتمام في هذه المواطن؟ الأقرب نعم عملا بالعموم ، وكان والدى (قدسسره) يمنع من ذلك لقوله
صلىاللهعليهوآله (3) «لا صلاة لمن
عليه صلاة». ولان من عليه فريضة لا يجوز له فعل النافلة. انتهى.
وقد نقل هذا القول عن والد العلامة جماعة وردوه بالضعف ،
وهو كذلك بناء على ما هو المشهور بين المتأخرين من جواز المواسعة في القضاء ، وأما
على
__________________
(1) ج 8 ص 428.
(2) تقدم في التعليقة 2 ص 22 والتعليقة 1 ص 26 ما يتعلق
بالمقام.
(3) مستدرك الوسائل الباب 46 من مواقيت الصلاة.
كلام جمهور المتقدمين من القول
بالمضايقة كما تقدم تحقيقه في محله فإنه لا يشرع له الإتيان بالحاضرة مطلقا إلا في
آخر وقتها في أي مكان كان.
وكيف كان فهذا القول لا يظهر له وجه على كل من القولين ،
فان ظاهره جواز الصلاة قصرا وانما منع من الركعتين الأخيرتين حيث انهما نافلة
ومستحبة وهي غير مشروعة لمن عليه فريضة واجبة. وفيه ان عموم الأخبار الدالة على
التخيير دال على الصحة في ما نحن فيه ، مع انا نمنع ما ذكره من الاستحباب بل هاتان
الركعتان باختيار الإتمام يكون من قبيل الواجب. وبالجملة فالظاهر ان كلامه لا وجه
له يعتمد عليه.
التاسع ـ لو ضاق الوقت إلا عن أربع ركعات فقيل بوجوب
القصر لتقع الصلاتان في الوقت ، واستظهره السيد السند في المدارك والفاضل
الخراساني في الذخيرة ، وقيل يجوز الإتيان بالعصر تماما في الوقت لاختصاصها بمقدار
الأربع ركعات من آخر الوقت وقضاء الظهر. والظاهر ضعفه فان اختصاص هذا المقدار بها
إنما يتم لو كانت يتعين الإتيان بها أربعا وليس كذلك. وقيل يجوز الإتمام في العصر
لعموم «من أدرك» (1) يعنى انه يصلى
الظهر قصرا أولا ثم يصلى العصر تماما وان وقع بعضها خارج الوقت لعموم الخبر
المذكور. وضعفه في المدارك بأنه وان تحقق بذلك إدراك الصلاة إلا انه لا يجوز تعمده
اختيارا لاقتضائه تأخير الصلاة عن وقتها المعين لها شرعا. انتهى. والله العالم.
المسألة الرابعة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
ما لو دخل عليه الوقت في الحضر ثم سافر قبل الصلاة حتى تجاوز محل الترخص ، فقيل
بوجوب الإتمام عليه مطلقا اعتبارا بحال الوجوب ، ونقل ذلك عن جمع من الأصحاب : منهم
ـ ابن ابى عقيل والصدوق في المقنع واختاره العلامة في جملة من كتبه وشيخنا الشهيد
الثاني في المسالك ، ونقل في الروض ان القول بالإتمام في هذه المسألة
__________________
(1) الوسائل الباب 30 من مواقيت الصلاة.
والمسألة الآتية هو المشهور بين
المتأخرين ، ثم نقل بقية الأقوال التي في المسألتين معا وقال بعد ذلك : والمسألة
من أشكل الأبواب. وظاهره التوقف في الحكم هنا. وقيل بوجوب التقصير اعتبارا بحال
الأداء ونقل عن الشيخ المفيد وابن إدريس والسيد المرتضى في المصباح والشيخ على بن
الحسين بن بابويه وجمع من الأصحاب : منهم ـ المحقق وهو اختيار جمع من أفاضل متأخري
المتأخرين ، وقيل بالتفصيل بين سعة الوقت وعدمها فان وسع التمام وجب وإلا صلى قصرا
، ونسب هذا القول الى الشيخ في النهاية وموضع من المبسوط وهو اختيار الصدوق في
الفقيه ، وقيل بالتخيير ونقل عن الشيخ في الخلاف. هذا ما وقفت عليه من الأقوال في
المسألة.
والأصل في اختلاف هذه الأقوال اختلاف أخبار المسألة
واختلاف الأفهام في المقام ، وها أنا أسوق لك ما وصل الى من روايات المسألة مذيلا
لكل منها بما يتعلق به من البحث والكلام لينجلى بذلك عنها غشاوة الإبهام فأقول :
الأول ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) قال : «سألت أبا
عبد الله عليهالسلام عن الرجل يدخل
من سفره وقد دخل وقت الصلاة وهو في الطريق قال يصلى ركعتين ، وان خرج الى سفره وقد
دخل وقت الصلاة فليصل أربعا».
أقول : وهذا الخبر أقوى ما استدل به العلامة في المختلف
على القول الأول إلا انه قابل للتأويل كما ذكره جملة من المتأخرين من إمكان حمل
قوله : «الرجل يدخل من سفره» على معنى انه يريد الدخول وحينئذ فصلاة الركعتين انما
هي في السفر ، وقوله : «وان خرج الى سفره» اى أراد الخروج الى سفره وقد دخل وقت
الصلاة فليصل أربعا يعني في الحضر. وهو قريب لان مثل هذا التجوز شائع في الآيات
والأخبار ومنه قوله عزوجل «إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» (2) وقوله : «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ...» (3) ونحو ذلك.
__________________
(1) الوسائل الباب 21 من صلاة المسافر.
(2) سورة المائدة الآية 8.
(3) سورة النحل الآية 99.
الثاني ـ رواية بشير النبال (1) قال : «خرجت
مع ابى عبد الله عليهالسلام حتى أتينا
الشجرة فقال لي أبو عبد الله عليهالسلام يا نبال قلت
لبيك قال انه لم يجب على أحد من أهل هذا العسكر ان يصلى أربعا غيري وغيرك ، وذلك
انه قد دخل وقت الصلاة قبل أن نخرج».
أقول : وهذه الرواية ظاهرة الدلالة على القول الأول ،
وردها المتأخرون بضعف السند وعدم قوة معارضتها لما يأتي من الأخبار الدالة على
التقصير في الصورة المذكورة. وما ذكره في الوسائل من حملها على انهما صليا في
المدينة بعيد جدا كما لا يخفى.
الثالث ـ صحيحة إسماعيل بن جابر (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام يدخل على وقت
الصلاة وانا في السفر فلا أصلي حتى أدخل أهلي؟ قال صل وأتم الصلاة قلت فدخل على
وقت الصلاة وأنا في أهلي أريد السفر فلا أصلي حتى أخرج؟ فقال فصل وقصر ، فان لم
تفعل فقد خالفت والله رسول الله صلىاللهعليهوآله».
أقول : وهذه الرواية صحيحة ظاهرة الدلالة على القول
الثاني وهو وجوب التقصير والاعتبار بحال الأداء في الموضعين مؤكدا ذلك بالقسم على
ان خلاف ذلك بأي نوع كان خلاف ما أمر به رسول الله صلىاللهعليهوآله ومن ثم قال في
المعتبر : وهذه الرواية أشهر وأظهر في العمل.
الرابع ـ صحيحة محمد بن مسلم (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام. الى أن قال
قلت الرجل يريد السفر فيخرج حين تزول الشمس؟ فقال إذا خرجت فصل ركعتين». والتقريب
فيها كما في سابقتها.
وأيد هذا القول زيادة على دلالة هاتين الصحيحتين انه في
هذا الوقت مسافر فيتناوله ما دل بعمومه أو إطلاقه على وجوب التقصير على المسافر ،
ويزيده تأييدا أيضا الأخبار الدالة على وجوب التقصير على المسافر إذا بلغ محل
الترخص ، فان
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 21 من صلاة المسافر.
إطلاقها شامل لما نحن فيه.
إلا ان هنا شيئا قل من تنبيه له وهو ان من قال بوجوب
الإتمام في هذه المسألة يشترط مضى وقت الصلاة كاملة الشرائط في الحضر ليحصل
استقرارها في الذمة فيجب الإتيان بها عليه تماما. وظاهرهم ان محل الخلاف في
المسألة مقصور موقوف على هذه الصورة فلو سافر قبل مضى الوقت المشار اليه لم يكن من
محل الخلاف في شيء بل الواجب هو التقصير ، ولهذا ان بعض الأصحاب احتمل في صحيحتي
محمد بن إسماعيل ومحمد بن مسلم المذكورتين حمل الأمر بالتقصير على الخروج من البلد
بعد دخول الوقت وقبل مضى الوقت المشار اليه وجعل هذا وجه جمع بين اخبار القولين
المذكورين ، وبه يشكل استدلال القائلين بالقول الثاني بهاتين الروايتين.
الخامس ـ رواية الوشاء (1) قال : «سمعت
الرضا عليهالسلام يقول إذا زالت
الشمس وأنت في المصر وأنت تريد السفر فأتم فإذا خرجت بعد الزوال قصر العصر».
أقول : هذا الخبر يحتمل حمله على أن يكون الإتمام فيه
بعد الخروج فيكون من أدلة القول الأول ، ويحتمل أن يكون الإتمام في المصر فلا
دلالة فيه. وأما تقصير العصر فهو في السفر البتة لكن إن كان مع صلاة الظهر في
المصر فيمكن ان يستدل به ايضا للقول الثاني وهو الاعتبار بحال الأداء وان كان مع
صلاة الظهر في السفر فيشكل ذلك كما لا يخفى ، ولعل الأمر بتقصير العصر هنا من ما
يعين الحمل على الاحتمال الثاني. وكيف كان فالظاهر انه لا يمكن الاستناد الى هذا
الخبر في شيء من أقوال المسألة لما عرفت من تشابهه وإجماله.
السادس ـ موثقة عمار الساباطي عن ابى عبد الله عليهالسلام (2) قال : «سئل عن
الرجل إذا زالت الشمس وهو في منزله ثم يخرج في سفر؟ قال يبدأ بالزوال فيصليها ثم
يصلى الأولى بتقصير ركعتين لأنه خرج من منزله قبل أن تحضر الأولى. وسئل
__________________
(1) الوسائل الباب 21 من صلاة المسافر.
(2) الوسائل الباب 23 من أعداد الفرائض ونوافلها.
فان خرج بعد ما حضرت الأولى؟ قال يصلى
الأولى أربع ركعات ثم يصلى بعد النوافل ثماني ركعات لأنه خرج من منزله بعد ما حضرت
الأولى ، فإذا حضرت العصر صلى العصر بتقصير وهي ركعتان لانه خرج في السفر قبل أن
تحضر العصر».
أقول : ظاهر هذا الخبر انه مع الخروج بعد مضى وقت
النافلة خاصة وهو الذراع يبدأ بالنافلة لدخول وقتها في الحضر ويصلى الظهر بتقصير
لعدم دخول وقتها ثمة وانما دخل بعد السفر ، وظاهره ان الوقت الموجب للإتيان بها في
السفر تماما انما هو وقت الفضيلة فإذا مضى عليه وقت الفضيلة في الحضر حتى سافر صلى
تماما دون وقت النافلة ، والمفهوم من كلام الأصحاب في هذا المقام كما تقدمت
الإشارة اليه ان الوقت المذكور انما هو من الزوال ، بمعنى انه لو زالت الشمس ومضى
وقت الصلاة بشروطها بحيث استقرت في الذمة ثم سافر فهل يصلى في السفر تماما أو قصرا؟
القولان المتقدمان ، وأما استحباب النافلة في السفر بعد مضى وقتها في الحضر فقد
ذكره الأصحاب أيضا لكن الظاهر ان المراد مضى وقت النافلة والفريضة معا.
ثم ان ظاهر قوله : «وسئل فإن خرج بعد ما حضرت الاولى.
الى آخره» انه متى خرج بعد مضى وقت النافلة والفريضة معا انه يبدأ بالفريضة أولا
فيصليها تماما حيث ان وقتها دخل عليه في الحضر ، والأمر بإتمام الفريضة هنا دال
على القول الأول وهو اعتبار حال الوجوب فتكون الرواية المذكورة من أدلته. إلا أن
الأمر بتأخير النافلة هنا عن الفريضة لا أعرف له وجها وجيها ولعله من التهافت الذي
يقع في روايات عمار.
واحتمل في الذخيرة الجمع بين روايات القصر والإتمام بهذه
الموثقة حيث قال : ويمكن الجمع بوجه آخر وهو أن يقال إذا خرج بعد دخول وقت الفضيلة
يتم وان كان بعد دخول وقت الإجزاء يقصر وعلى هذا تحمل صحيحة إسماعيل ، فالمراد
بالوقت في أحد الخبرين وقت الفضيلة وفي الآخر وقت الإجزاء ، ويشهد لهذا التأويل
موثقة
عمار المذكورة ، لكني لا أعرف أحدا من
الأصحاب ذكر هذا التفضيل والمسألة عندي محل اشكال. انتهى.
أقول : بل ظاهر كلامهم كما قدمنا الإشارة اليه انما هو
خلافه ، حيث انهم جعلوا محل الخلاف في القولين المذكورين انما هو مضى ما يسع
الفريضة بشروطها من الزوال في الحضر فإذا مضى هذا الوقت وسافر ولم يصل فهل يصلى في
السفر تماما أو قصرا؟ لان المدار على استقرار الفريضة في الذمة في الحضر وعدمه ،
ولا ريب انه بمضي قدر الأربع الركعات بشروطها من الزوال يستقر الفرض في الذمة
اتفاقا سواء كان ممن يصلى النافلة أم لا.
وبالجملة فإن الاعتماد على هذه الرواية ـ مع ما عرفت من
التهافت فيها كما أوضحناه لا يخلو من الإشكال.
السابع ـ ما نقله ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب
جميل عن زرارة عن أحدهما عليهماالسلام) (1) انه قال : «في
رجل مسافر نسي الظهر والعصر في السفر حتى دخل أهله؟ قال يصلى أربع ركعات. وقال لمن
نسي الظهر والعصر وهو مقيم حتى يخرج؟ قال يصلى اربع ركعات في سفره. وقال إذا دخل
على الرجل وقت الصلاة وهو مقيم ثم سافر صلى تلك الصلاة التي دخل وقتها عليه وهو
مقيم أربع ركعات في سفره».
أقول : وهذا الخبر صحيح السند وظاهره الإتمام في الدخول
والخروج إلا انه لا يخلو من نوع إجمال ، وتفصيل ما اشتمل عليه أن يقال انه قد
اشتمل على صور ثلاث : (إحداها) ـ قوله «في رجل مسافر. إلخ» وهو محتمل لأنه قد نسي
الظهر والعصر حتى خرج وقتهما وانه يصلى في أهله أربع ركعات قضاء وعلى هذا يكون
خارجا عن ما نحن فيه ، ويحتمل ولعله الأقرب أنه نسيهما في السفر مع بقاء الوقت الى
دخول أهله وانه يصلى أربعا ، وفيه دلالة على ما يأتي في المسألة
__________________
(1) الوسائل الباب 21 من صلاة المسافر.
الآتية من القول باعتبار الأداء كما
دل عليه صدر صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدمة. (الثانية) ـ قوله «وقال لمن نسي
الظهر والعصر. وفيه الاحتمالان المتقدمان ، على تقدير الثاني منهما وهو أن تكون
صلاته الأربع في السفر أداء يكون الخبر دالا على القول الأول في هذه المسألة وهو
الاعتبار بحال الوجوب (الثالثة) ـ قوله «وقال إذا دخل على الرجل. إلخ» والأقرب أنه
تعميم بعد تخصيص أو ان الأول على القضاء كما عرفت وهذا على الأداء ، وعلى أيهما
كان ففي هذه الصورة دلالة على القول المذكور وهو الاعتبار بحال الوجوب فيكون الخبر
المذكور من أدلته.
الثامن ـ ما نقله شيخنا المجلسي في كتاب البحار (1) من كتاب محمد
بن المثنى الحضرمي انه روى فيه عن جعفر بن محمد بن شريح عن ذريح المحاربي قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام إذا خرج الرجل
مسافرا وقد دخل وقت الصلاة كم يصلى؟ قال أربعا. قال قلت فان دخل وقت الصلاة وهو في
السفر؟ قال يصلى ركعتين قبل أن يدخل أهله وان دخل المصر فليصل أربعا».
أقول : وصدر هذا الخبر ايضا يدل على القول الأول بظاهره
وان احتمل تأويله بما تقدم في الخبر الأول من حمل الخروج على ارادة الخروج فتكون
صلاة الأربع في البلد.
التاسع ـ ما ذكره عليهالسلام في كتاب الفقه
الرضوي (2) حيث قال : وان
خرجت من منزلك وقد دخل عليك وقت الصلاة ولم تصل حتى خرجت فعليك التقصير ، وان دخل
عليك وقت الصلاة وأنت في السفر ولم تصل حتى تدخل أهلك فعليك التمام.
وظاهر هذه الرواية يساوق صحيحة إسماعيل بن جابر في
الدلالة على الاعتبار بحال الأداء في الموضعين المذكورين ، إلا انها ايضا قابلة
للاحتمال الذي قدمناه في الصحيحة المشار إليها بأن دخل وقت الصلاة قبل مضى وقت يسع
الإتيان بها بشرائطها
__________________
(1) ج 18 الصلاة ص 695.
(2) ص 16.
هذا ما حضرني من الروايات المتعلقة بكل من القولين وأما
باقي أخبار المسألة فتأتي في مطاوي البحث في هذه المسألة وفي المسألة الآتية ان
شاء الله تعالى.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان هذه الأخبار التي تلوناها انما
تصادمت في القول الأول والثاني ، وقد عرفت ما في ترجيح أحد القولين على الآخر من
الاشكال لتطرق البحث الى كل من روايات الطرفين والاحتمال ، وبه يشكل الترجيح في
هذا المجال فالاحتياط فيها لازم عندي على كل حال.
وأما القول الثالث فالظاهر ان مستنده الجمع بين الأخبار
كما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار ، حيث جمع بينها بحمل ما دل على التمام على سعة
الوقت والقصر على ضيقه.
واستدل على هذا الجمع بما رواه عن إسحاق بن عمار في
الموثق (1) قال : «سمعت
أبا الحسن عليهالسلام يقول في الرجل
يقدم من سفره في وقت الصلاة فقال ان كان لا يخاف فوت الوقت فليتم وان كان يخاف
خروج الوقت فليقصر».
وفيه أولا ـ ان الجمع بين الأخبار لا ينحصر في ما ذكره
لجوازه بوجوه أخر كما تقدم نقل بعضها.
وثانيا ـ ما ذكره السيد السند في المدارك حيث قال ـ بعد نقل
ما قدمناه عن الشيخ من الجمع المذكور واستدلاله عليه بالخبر المشار اليه ـ ما لفظه
: وهذه الرواية مع ضعف سندها انما تدل على التفصيل في صورة القدوم من السفر في
أثناء الوقت لا في صورة الخروج الى السفر.
وثالثا ـ ما سيأتي ان شاء الله تعالى في المسألة الآتية
في معنى الموثقة المذكورة وانها ليست على ما فهمه منها وان لم يهتد اليه (قدسسره) في هذا
المقام.
وأما القول الرابع فالظاهر ايضا ان مستنده هو الجمع بين
الاخبار ، ويرد عليه ما تقدم من عدم انحصار الجمع في الوجه المذكور.
وما استند اليه في هذا الجمع من صحيحة منصور بن حازم (2) قال : «سمعت
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 21 من صلاة المسافر.
أبا عبد الله عليهالسلام يقول إذا كان
في سفر فدخل عليه وقت الصلاة قبل أن يدخل أهله فسار حتى يدخل أهله فإن شاء قصر وان
شاء أتم والإتمام أحب الى».
وفيه أولا ـ ان مورد الرواية انما هو الدخول من السفر
فليست من محل البحث في شيء.
وثانيا ـ احتمال أن يكون المراد منها انه ان شاء صلى في
السفر قصرا وان شاء صبر حتى يدخل أهله ويصلى تماما وهو الأفضل ، وحينئذ ففيها
دلالة على ترجيح التأخير إلى دخول المنزل والصلاة تماما.
وثالثا ـ ما ذكره بعض مشايخنا من احتمال الحمل على
التقية. لأنه مذهب بعض العامة (1).
ورابعا ـ عدم قبول بعض الاخبار لهذا الحمل مثل صحيحة
إسماعيل بن جابر المشتملة على الحلف بأنه ان لم يفعل ما تضمنته فقد خالف رسول الله
صلىاللهعليهوآله وقوله عليهالسلام في رواية
النبال «لم يجب» المشعر بوجوب ذلك عليهما ، والمتبادر من الوجوب هو الحتمي كما لا
يخفى.
وبذلك يظهر لك بقاء المسألة في قالب الاشكال الموجب
للاحتياط على كل حال. والله العالم.
المسألة الخامسة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
ما لو دخل عليه الوقت في السفر ولم يصل حتى دخل بلده أو بيته ، فالمشهور بين
المتأخرين انه
__________________
(1) لم تجد الفرع في ما وقفنا عليه من كتبهم والذي حرر في
كتبهم السفر بعد دخول الوقت فقال في المغني ج 2 ص 283 : إذا سافر بعد دخول وقت
الصلاة فيه روايتان : له قصرها وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي لانه
سافر قبل خروج وقتها فأشبه ما لو سافر قبل وجوبها ، والرواية الثانية ليس له قصرها
لأنها وجبت عليه في الحضر فلزمه إتمامها. ويمكن استفادة التخيير في صورة الرجوع
الى أهله قبل خروج الوقت من الرواية الأولى عنه بل من الثانية أيضا بناء على ما هو
المشهور عنه من التخيير المسافر بين القصر والإتمام مطلقا كما في المغني ج 2 ص
267.
يتم في بلده أو منزله اعتبارا بحال
الأداء ، وقال في المختلف ذهب اليه المفيد (قدسسره) بناء على
أصله من ان الاعتبار بحال الأداء لا حال الوجوب ، وهو قول الشيخ على بن بابويه
بناء على هذا الأصل وكذا ابن إدريس. انتهى. أقول : وهو الظاهر هنا من الأخبار على
وجه لا يعتريه الشك والإنكار. وقيل بالتفصيل فيتم مع السعة هنا من الأخبار على وجه
لا يعتريه الشك والإنكار. وقيل بالتفصيل فيتم مع السعة ويقصر مع الضيق وهو مذهب
الشيخ في النهاية وكتابي الأخبار ، وقيل بالتخيير ونقل عن الشيخ ايضا وابن الجنيد
، وحكى الشهيدان قولا بالتقصير مطلقا.
والذي يدل على القول الأول وهو الذي عليه المعمول صحيحة
إسماعيل بن جابر المتقدمة (1) وهي صريحة غير
قابلة للتأويل بوجه.
وصحيحة العيص بن القاسم (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يدخل
عليه وقت الصلاة في السفر ثم يدخل بيته قبل أن يصليها؟ قال يصليها أربعا وقال لا
يزال يقصر حتى يدخل بيته». وهي صريحة كذلك.
ويدل عليه ايضا ما قدمناه في المسألة السابقة من عبارة
كتاب الفقه الرضوي أيضا وما سيأتي من صحيحة محمد بن مسلم.
واستدل على القول الثاني بموثقة عمار المتقدمة (3) والسيد السند
في المدارك في المسألة السابقة انما أجاب عنها بضعف السند وعدم دلالتها على ما
ادعاه الشيخ في تلك المسألة. وظاهر كلامه انه لو صح سندها لتم الاستدلال بها هنا.
وأنت خبير بان الطعن بضعف السند لا يقوم حجة على الشيخ
ونحوه من المتقدمين ممن لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم كما قدمناه في غير موضع ،
والأظهر في الجواب عنها إنما هو ما قدمنا الإشارة إليه من ان المعنى في الموثقة
المذكورة ليس ما ذكره بل الظاهر ان المراد منها انما هو أن من دخل عليه وقت الصلاة
وقت قدومه من السفر فان كان لا يخاف فوت الوقت بوصوله إلى منزله تركها حتى يدخل
وصلاها تماما في بلده أو منزله ، وان كان يخاف فوته بذلك صلى قصرا في السفر قبل
دخوله.
__________________
(1 و 3) ص 474 و 475.
(2) الوسائل الباب 21 من صلاة المسافر.
ومن ما هو ظاهر في هذا المعنى صحيحة محمد بن مسلم عن
أحدهما عليهماالسلام) (1) «في الرجل يقدم
من الغيبة فيدخل عليه وقت الصلاة؟ فقال ان كان لا يخاف أن يخرج الوقت فليدخل وليتم
وان كان يخاف أن يخرج الوقت قبل أن يدخل فليصل وليقصر». وهذه الرواية كما ترى
ظاهرة في ما اخترناه كما تقدمت الإشارة اليه.
ولعل من ذهب الى التقصير هنا نظر الى أن الصلاة قد
استقرت في الذمة بهذه الكيفية حال دخول الوقت في السفر. وفيه بعد ما عرفت من
النصوص الدالة على التمام انه اجتهاد محض في مقابلة النص ، على انه لو فرض دليل
يدل على هذا التعليل العليل لأمكن الجواب بأنه وان استقر وجوب القصر في تلك الحال
لكن يجوز أن يكون ذلك مراعى بالوصول وعدمه جمعا بين الدليلين.
ومن ما ذكرنا من التحقيق في المقام ظهر قوة ما اخترناه
من القول الأول وان ما عداه من هذه الأقوال لا معتمد عليه ولا معول.
وكيف كان فقد تلخص من الكلام في هاتين المسألتين وهو من
دخل عليه الوقت حاضرا ثم سافر وبالعكس ان أقوال الأصحاب فيهما خمسة : (أحدها) ـ الاعتبار
بحال الأداء في الموضعين فيتم في هذه المسألة ويقصر في المسألة الأولى ، وهو أقوى
الأقوال في هذه المسألة وكذا في المسألة الاولى لو سلمت صحيحة إسماعيل بن جابر وما
في معناها من ذلك الاحتمال ، ومن ثم اختاره جملة من المحققين في الموضعين حيث لم
يخطر لهم هذا الاحتمال بالبال. و (ثانيها) ـ القول بالتخيير في الموضعين. و (ثالثها)
ـ القول بالتفصيل بالسعة والضيق كذلك. و (رابعها) ـ الاعتبار بحال الوجوب في
المسألة الأولى وبحال الأداء في هذه المسألة فيتم في الموضعين وهو مذهب العلامة. و
(خامسها) ـ عكسه فيقصر في المسألتين. ويأتي بناء على ما ذكرناه ـ من الإشكال في
الأولى والتوقف وهو ظاهر الفاضل الخراساني في الذخيرة أيضا مع
__________________
(1) الوسائل الباب 21 من صلاة المسافر.
الجزم في هذه المسألة بما قدمنا ذكره
ـ قول سادس.
وأما لو فاتت الفريضة على احدى هاتين الصورتين فهل يقضى
باعتبار حال الوجوب أو حال الأداء؟ فقد تقدم البحث فيه في المقصد الأول في القضاء
من مقاصد هذا الباب.
المسألة السادسة ـ لو نوى الإقامة في موضع وصلى تماما ثم
خرج الى ما دون المسافة مع ارادة الرجوع الى موضع الإقامة ، وهذه المسألة من
مشكلات المسائل وأمهات المقاصد لتعدد الأقوال فيها والاحتمالات وتصادم التأويلات
والتخريجات مع خلو المسألة من الروايات حتى ان شيخنا الشهيد الثاني صنف فيها رسالة
مستقلة ونحن نتكلم فيها ههنا بما يقتضيه الحال من التفصيل دون الإجمال.
فنقول : اعلم ان هذه المسألة وما وقع فيها من الأبحاث
والشقوق والاحتمالات لم تقع في كلام أحد من المتقدمين وانما وقع البحث فيها بالنحو
الذي ذكرناه من المتأخرين ، نعم ذكرها الشيخ في المبسوط في فرض مخصوص على سبيل
التفريع على مسألة من أقام في بلد وصلى فيه تماما فإنه يجب عليه التمام فيه حتى
يقصد المسافة ، وهذه المسألة متفق عليها نصا وفتوى ، ومن عادته كما أشار إليه في
خطبة الكتاب المذكور التفريع على النصوص لتكثير الفروع الشرعية لتنبيه المخالفين
على ان إبطال القياس لا يوجب قلة فروعنا كما زعموه وشنعوا بذلك على الشيعة
وهو (قدسسره) قد فرضها في
الخروج من مكة الى عرفة فقال : إذا خرج حاجا إلى مكة وبينه وبينها مسافة تقصر فيها
الصلاة ونوى أن يقيم بها عشرا قصر في الطريق فإذا وصل إليها أتم ، وان خرج الى
عرفة يريد قضاء نسكه لا يريد المقام عشرة أيام إذا رجع الى مكة كان عليه القصر
لانه قد نقض مقامه بسفر بينه وبين بلده يقصر في مثله ، وان كان يريد إذا قضى نسكه
مقام عشرة أيام بمكة أتم بمنى وعرفة ومكة حتى يخرج من مكة مسافرا فيقصر. هذه
عبارته وهي أول ما ذكر في هذه المسألة ثم تبعه المتأخرون في ذلك وعمموا العبارة
وأكثروا فيها الشقوق
والتفريعات. وخالفه جماعة في وجوب
القصر بالذهاب الى عرفات في الصورة المفروضة وهو عدم الإقامة بعد العود الى محل
الإقامة كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى
وبذلك يظهر ان المسألة بجميع ما فيها من التفاريع
والشقوق والأحكام الآتية إنما استخرجها المجتهدون بأنظارهم وكل أفتى بما وصل اليه
علمه وفهمه ، وهي خالية من النص كما عرفت ومن أجل ذلك فللبحث في تفاصيلها مجال ،
والجزم بالفتوى في بعض شقوقها غير خلى من شوب الإشكال.
وتفصيل الحال بما يتضح به هذا الإجمال ان يقال ان الخارج
من موضع الإقامة بعد نية الإقامة والصلاة تماما سواء كان في ضمن العشرة أو بعد
تمامها لا يخلو أمره من أن يكون مريدا للعود الى موضع الإقامة أم لا ، وعلى الأول
فاما أن يكون بعد عوده قاصدا المقام عشرة أيام أم لا ، وعلى الثاني من الثاني فاما
أن يكون قاصدا للمفارقة أو ذاهلا أو مترددا ، وحينئذ فههنا صور خمس :
الأولى ـ ان يعزم على المفارقة وعدم العود الى موضع
الإقامة ، وظاهر الأصحاب المتعرضين للبحث في هذه المسألة الاتفاق على التقصير
وانما اختلفوا في انه يقصر بمجرد الخروج من البلد وان لم يتجاوز محل الترخص لصدق
السفر عليه والضرب في الأرض واختصاص توقفه على مجاوزة محل الترخص بموضع الوفاق وهو
بلد المسافر أو يتوقف على محل الترخص ومجاوزة الحدود لصيرورة موضع الإقامة بالنسبة
إليه بعد الإقامة والصلاة تماما في حكم البلد ، وكلامهم كما ترى هنا على إطلاقه
غير واضح لدلالة صحيحة أبي ولاد (1) على انه متى نوى الإقامة وصلى تماما
فإنه لا يقصر حتى يقصد المسافة ، والمفروض في المسألة ان المقصود أقل من المسافة
فوجوب التقصير لا وجه له وهو أظهر من أن يحتاج الى مزيد بيان.
وألحق بعض الأصحاب بهذه الصورة ما لو تردد الخارج على
الوجه المذكور في العود وعدمه ، وما لو ذهل عن القصد إلى المفارقة أو العود بنية
إقامة عشرة أو لا معها ، وهو في الإشكال مثل سابقه لعدم تحقق القصد إلى المسافة في
الجميع
__________________
(1) ص 415.
الذي هو شرط العود الى القصر.
الثانية ـ أن يعزم على العود الى موضع إقامته والإقامة
عشرة مستأنفة ، وهذا من ما لا خلاف ولا إشكال في كونه يتم ذاهبا وآبيا وفي موضع
قصده ، ووجهه ان فرضه التمام سابقا ولم يحصل له ما يوجب الخروج عنه فيجب استصحابه
والعمل عليه الى أن يتحقق المخرج.
الثالثة ـ أن يعزم على العود بدون إقامة عشرة بل إما مع
اقامة ما دونها أو بدون إقامة بالمرة.
وقد عرفت من ما تقدم من كلام الشيخ وجوب القصر في خروجه
من موضع الإقامة ويستمر عليه في ذهابه وفي مقصده وعوده ومحل إقامته وبه قال
العلامة وجماعة ، وقد تقدم تعليل الشيخ لذلك.
وعلله جماعة بأنه قد خرج من محل الإقامة وليس في نيته
إقامة أخرى فيعود اليه حكم السفر. وهذا الاستدلال كما ترى يقتضي ضم الرجوع الى ما
مضى من الذهاب ويأتي فيه القولان المتقدمات في التقصير بمجرد الخروج من البلد أو
اشتراط محل الترخص.
وذهب الشيخ وجملة من المتأخرين ـ كالمحقق الشيخ على
والشهيد والظاهر أنه المشهور وبه صرح جملة من متأخري المتأخرين ايضا ـ الى وجوب
التمام في الذهاب والمقصد والقصر في الرجوع.
واحتجوا على الأول بأنه إنما يخرج عن حكم الإقامة ووجوب
التمام بالقصد إلى المسافة وهي منتفية في الذهاب ، لان المفروض الخروج الى ما دون
المسافة. وعلى الثاني بأنه حال رجوعه قاصد المسافة حيث انه قاصد الى بلده في
الجملة إما الآن أو بعد مروره وتوقفه في بلد إقامته أياما دون العشرة والبلد الذي
كان مقيما فيه ساوى غيره بالنسبة اليه.
وأنت خبير بأن وجوب الإتمام في الذهاب كما أدعوه مبنى
على عدم ضم
الذهاب إلى الإياب ، وإلا فهذا
التعليل آت في الذهاب أيضا لزوال حكم الإقامة ببلوغ محل الترخص وتحقق قصد المسافة
على الوجه السابق ، وحينئذ فإن ثبت ما ادعوه من الإجماع على عدم جواز ضم أحدهما
إلى الآخر إلا في قصد الأربعة مع الرجوع ليومه أو لليلته وإلا فالقول الأول أظهر.
ثم أنت خبير بما في ثبوت الأحكام الشرعية بمثل هذه
الإجماعات من الإشكال وان كان ما ذكروه من الأمثلة لهذه المسألة لا يخلو من تأييد
إلا أنه لا يقطع مادة الإشكال ، ولهذا إن الفاضل الخراساني صاحب الذخيرة والكفاية
رجح وجوب القصر بالخروج عن محل الإقامة كما هو قول العلامة والشيخ.
وقد اضطرب كلام شيخنا الشهيد (قدسسره) في هذه
الصورة في ما إذا عزم على العود الى موضع الإقامة كما من غير قصد إقامة جديدة ،
فقطع في البيان بعوده الى التقصير بالخروج كما كمذهب الشيخ في المبسوط والعلامة ،
وذهب في الدروس الى القصر في العود كما نقلناه عنه ، إلا أن عبارته فيه لا تخلو من
إشكال ، حيث قال في الصورة المذكورة : إن فيه وجهين أقربهما القصر في الذهاب
ومقتضى ذلك التمام بالوصول الى المقصد. وظاهره وجوب القصر في المقصد وإن أقام
أياما إذ لا يدخل ذلك في الذهاب الذي أوجب فيه التمام ، وهذا يخالف ما ذكره أصحاب
هذا القول فإنهم يخصون القصر بوقت الرجوع وأما موضع القصد فإنه تابع للذهاب في
وجوب الإتمام فيه.
هذا ، ولا يخفى عليك ما في كلامهم في هذه الصورة أيضا من
أنه لا يخلو من نوع إجمال حيث رتبوا القصر على عدم قصد الإقامة بقول مطلق ، وينبغي
تقييده أيضا بما إذا كان من مبدأ عوده الى منتهى المقصد مسافة لأن وجوب القصر معلق
على قصد المسافة.
وقيده شيخنا الشهيد الثاني في رسالته أيضا بما إذا كان
بلد الإقامة التي يرجع إليها في سمعت منتهى القصد فالعود إليها مستلزم لقصد ذلك
المقصد ، أما لو كان
مخالفا له فالمتجه التمام بناء على أن
المسافة المعتبرة في القصر لا تكون ملفقة من الذهاب والإياب إلا في قصد الأربعة
كما تقدم. وفيه ما عرفت آنفا.
والمشهور في كلام الأصحاب الذين وقفت على كلامهم في هذه
الصورة هو ما قدمناه أو لا من القولين.
ويظهر من العلامة (قدسسره) في أجوبة
مسائل السيد السعيد مهنا بن سنان المدني اختيار قول ثالث وهو وجوب الإتمام في
الذهاب والإياب والمقصد وبلد الإقامة بعد الرجوع إليها حتى يخرج منها قاصدا للسفر
ويصل الى محل الترخص فيجب عليه القصر حينئذ تنزيلا لبلد إقامته منزلة بلد الوطن ،
فيصير اعتبار قصد المسافة إنما هو من بلد الإقامة لا ما قبله من الذهاب أو الرجوع.
وهو من حيث الاعتبار لا يخلو من وجه.
الرابعة ـ أن يعزم على العود ويتردد في إقامة العشرة
وعدمها ، وقد ذكر المحقق الشيخ على أن فيه وجهين : أحدهما ـ الإتمام مطلقا لانتفاء
المقتضى للتقصير وهو عزم المسافة ، قال وأصححهما الإتمام في الذهاب والتقصير في العود
، لأن حكم الإقامة يزول بمفارقة البلد وإنما يعود إليها بإقامة أخرى ولم تحصل
لمنافاته التردد. انتهى.
وفيه أن النص الصحيح في المسألة دل على أنه بنية الإقامة
في بلد والصلاة تماما يجب استصحاب التمام حتى يقصد المسافة وهذا متردد ليس قاصدا
للمسافة.
وما علل به التقصير في العود من أن حكم بلد الإقامة يزول
بالمفارقة وارد عليه في صورة الذهاب الذي أوجب فيه التمام فينبغي أن يجب القصر
بناء على هذا التعليل.
ولا يمكن الجواب هنا بما تقدم من أن الذهاب لا يضم إلى
الإياب في حصول المسافة ، لأن وجوبه هنا لم يعلل بقصد المسافة إذ لا قصد للمسافة
في الصورة المذكورة وإنما علل بمفارقة بلد الإقامة ومفارقة البلد حاصلة على كلتا
الحالتين ، وهو إنما صار الى التمام في الذهاب من حيث استصحاب حكم الإقامة السابقة
الموجبة للتمام
حتى يحصل المقتضى للقصر وهذا بعينه آت
في حال العود.
وبالجملة فكلامه (قدسسره) لا أعرف له
وجه استقامة يدفع عنه تطرق الإيراد ، وظاهر كلامه جعل هذه الصورة من قبيل الصورة
الثالثة في مجيء الوجهين المتقدمين ، والفرق ظاهر فان قصد المسافة في تلك الصورة
ظاهر كما عرفت دون هذه ، والأنسب بالقواعد في هذه الصورة هو الوجه الأول الذي ذكره
وهو الإتمام مطلقا عملا بظاهر النص المشار اليه. والله العالم.
الخامسة ـ الصورة بحالها وان يكون ذاهلا عن الإقامة
وعدمها بحيث يكون عادم القصد إلى شيء من الأمور المتقدمة ، وحكمها ما ذكرنا في
سابقتها من الإتمام مطلقا ، أو ما لو كان في أول خروجه عزم على وجه من الوجوه
وإنما حصل له الذهول أخيرا عمل على ذلك العزم المتقدم.
وحيث قد اتضح لك ما في المسألة من الشقوق والخلاف وتعليل
كل منهم ما ذهب اليه بما ظهر من الدليل لديه مع ما عرفت من خلو المسألة من النصوص
على العموم والخصوص فالواجب الرجوع الى الاحتياط في ما بعد تطبيقه على النص المشار
إليه أعني صحيحة أبي ولاد (1) من المواضع
التي أشرنا إليها. والله العالم.
فائدة
يستحب جبر المقصورات بالتسبيحات الأربع المشهورة في
دبرها لما رواه سليمان بن حفص المروزي (2) قال : «قال الفقيه العسكري عليهالسلام يجب على
المسافر أن يقول في دبر كل صلاة يقصر فيها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا
الله والله أكبر (ثلاثين مرة) لتمام الصلاة». ولفظ الوجوب في الخبر محتمل للمبالغة
في الاستحباب أو المعنى اللغوي.
اللهمّ أجر تقصيرنا بعفوك وإحسانك وعاملنا بجودك
ورضوانك. هذا آخر
__________________
(1) ص 415.
(2) الوسائل الباب 24 من صلاة المسافر.
الكلام في هذا المجلد وهو المجلد
الرابع (1) من كتاب
الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة وهو آخر كتاب الصلاة ، ويتلوه ان شاء
الله تعالى المجلد الخامس في كتاب الزكاة والصوم بتوفيق الله سبحانه وتعالى
وإعانته ، والحمد لله سبحانه على توفيقه للإتمام والفوز بسعادة الاختتام ، وصلى
الله على محمد وآله بدور التمام ومصابيح الظلام.
وكتب مؤلفه الحقير الجاني بيمناه الدائرة أعطاه الله
كتابه بها في الآخرة الفقير الى ربه الكريم يوسف بن احمد بن إبراهيم البحراني عفى
الله تعالى عنه وعن والدية في الأرض المقدسة كربلاء المعلى بجواز سيد الشهداء صلىاللهعليهوآله بتأريخ اليوم
السادس والعشرين من شهر ربيع المولود من سنة 1181 حامدا مصليا مستغفرا (2)
__________________
(1) هذا بحسب تقسيمه «قدسسره» وبحسب تقسيمنا هذا آخر الجزء الحادي
عشر ويتلوه الجزء الثاني عشر والحمد لله أولا وآخرا.
(2) أوردنا الختام والتأريخ على طبق النسخ الخطية.