ج21 - كتاب المساقاة
المطلب الثاني
وهي معاملة على أصول ثابتة بحصة من ثمرها ، فالمعاملة
بمنزلة الجنس ، لتناولها لجميع عقود المعاوضات ، وقولنا على الأصول بمنزلة الفصل ،
ويخرج به المزارعة ، وقولنا ثابتة لإخراج مالا ثبوت لأصله ، وعرقه في الأرض مثل
الخضروات ، والورد الذي لم يغرس ، والمغروس قبل ثبوت عروقه واستقرارها ، ونقل في
المختلف عن الشيخ أنه يجوز المساقات على البقل جرة بعد جرة للأصل ، ثم رده فقال :
والأقرب المنع ، لأنها معاملة على مجهول ، فتصح في موضع الإجماع ، انتهى.
وقولنا : بحصة من ثمرها يخرج به الإجارة ، فإنها وان صحت
على الأصول الثابتة لكن لا بحصة من الثمرة ، بل بأجرة معينة معلومة أو مضمونة ،
وهل المراد بالثمرة هنا المعنى المتبادر ، أو ما يدخل فيه النماء للشجرة ، فتصح
المساقاة على ما يقصد ورده ، وورقه ، كشجرة الحناء والتوت اشكال ، ولعل الأرجح
الأول ، حملا للفظ على المعنى المعهود المتبادر من اللفظ ، فلا تصح المساقاة الا
على أصول لها ثمرة متعارفة ، ويؤيده عدم وجود نص في المساقاة على ما كان كذلك ،
والأصل العدم ، وأما دليل صحة هذه المعاملة فالإجماع والنصوص.
ومنها صحيحة يعقوب بن شعيب (1) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) وفيها قال :
سألته عن الرجل يعطى الرجل أرضه وفيها الرمان والنخل والفاكهة ويقول اسق هذا من
الماء وأعمره ولك نصف مما خرج ، قال : لا بأس».
وصحيحة الحلبي (2) عن أبى عبد الله (عليهالسلام) «أن أباه
حدثه أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أعطى خيبر
بالنصف أرضها ونخلها» الحديث.
والمراد أنه ، أعطى أرضها بالمزارعة ونخلها بالمساقاة ،
ونحوه غيره من أخبار خيبر ، إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في فصلين.
الفصل الأول في الأركان :
وهي خمسة ، العقد ، والمحل الذي تقع المساقاة عليه ،
والمدة ، والعمل ، والفائدة ، وحينئذ فالبحث يقع في مقامات خمسة :
الأول ـ العقد ، وحيث
كانت المساقاة عندهم من العقود اللازمة ، صرحوا فيها بما يشترط في غيرها من العقود
اللازمة ، كالبيع وأمثاله ، فأوجبوا فيها الإيجاب والقبول ، بأن يقول : ساقيتك
وعاملتك أو سلمت إليك ، وعقدت معك عقد المساقاة ، وقبلتك عملها ، ونحو ذلك من
الألفاظ الدالة على الإنشاء بلفظ الماضي.
قالوا : واللفظ الصريح من ذلك لفظ ساقيتك ، وزاد في
التذكرة على ما تقدم من الألفاظ أتعهد نخلي بكذا وكذا ، وأعمل فيه كذا وكذا.
قال في المسالك بعد نقل ذلك عنه : ويشكل بما مر في نظيره
من عدم صراحة الأمر في الإنشاء ، ولا وجه لإخراج هذا العقد اللازم من نظائره ، وقد
نوقش في الاكتفاء به في المزارعة بلفظ الأمر مع الاستناد فيها الى النص ، وهو
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 268 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 198 ح 22 ، الوسائل
ج 13 ص 202 ح 2.
(2) الكافي ج 5 ص 266 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 193 ح 1 ، الوسائل ج
13 ص 199 ح 2.
منتف هنا ، وجريان المعاطاة هنا بعيد
، لاشتمال هذا العقد على الغرر وجهالة العوض ، بخلاف البيع والإجارة ، فينبغي
الاقتصار فيه على موضع اليقين ، انتهى.
وأنت خبير بما فيه مما أسلفنا بيانه في غير مقام مما
تقدم ، ولا سيما في كتاب البيع (1) وبالجملة فالمستفاد من الاخبار على
وجه لا يعتريه شائبة الإنكار ، هو الاكتفاء بالألفاظ الدالة على التراضي بذلك على
أى نحو اتفق.
ومنها صحيحة يعقوب بن شعيب المتقدمة ، فإن ما اشتملت
عليه من قول المالك «اسق هذا من الماء وأعمره ولك نصف ما خرج» هو عقد المساقاة
الذي أوجبوا ترتب أحكام المساقاة عليه ، وهو ظاهر أيضا في أنه يكفى في القبول
الرضا الفعلي ، دون القولي كما تقدم نظيره في المزارعة ، والمفهوم أيضا من أخبار
خيبر ودفع النبي (صلىاللهعليهوآله) أرضها ونخلها
لهم بالنصف ، هو مجرد التراضي على ذلك بقول أو فعل بأي نحو كان ذلك.
على أن ما ادعوه من لفظ المساقاة في هذه المعاملة ـ وتسميتها
بهذا الاسم فضلا عن كونه أصرح ألفاظها ـ لم يرد في خبر من الاخبار بالكلية ، وانما
هو شيء اصطلحوا عليه ، وتبعوا العامة في التسمية بهذا الاسم ، ولفظ المزارعة وان
وجد في الاخبار الا أن هذا اللفظ لم نقف عليه في خبر منها بالكلية ، والذي وجدناه
من أخبارها هو ما قدمناه وربما أطلق عليها في بعض الاخبار لفظ القبالة.
وبالجملة فإن ما ذكروه في المقام كما ذكروه في غير نفخ
في غير ضرام لعدم ثبوته في شيء من أخبارهم (عليهمالسلام) التي هي
المعتمد ، وعليها المعول في النقض والإبرام.
تنبيهات :
الأول ـ الظاهر أنه
لا خلاف بينهم في أنه يكون عقد المساقاة من العقود اللازمة ، واستندوا في ذلك الى
الأدلة العامة ، مثل قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (2)
__________________
(1) ج 18 ص 348.
(2) سورة المائدة ـ الاية 1.
«والمسلمون عند شروطهم» (1). فلا يجوز
لأحدهما فسخه الا مع التراضي والتقايل من الطرفين.
نعم ربما يعرض له البطلان بأسباب آخر من خارج ، مثل عدم
حصول شرط ، والبطلان لعدم الانتفاع ، مثل انقطاع الماء ونحوه مما تقدم في
المزارعة.
الثاني ـ لا خلاف في صحة المساقاة قبل ظهور الثمرة
بالكلية ، لظهور تأثير العمل في استحقاق الحصة ، مضافا إلى عموم الأدلة المشار
إليها آنفا ، وكذا لا خلاف في عدم الصحة بعدم الظهور على وجه لا يفيد العمل فيها
زيادة.
وانما الخلاف فيها لو كان بعد الظهور ، وقد بقي عمل يحصل
به الزيادة والنماء في الثمرة ، فقيل : بالصحة وهو اختيار المحقق بعد التردد في
المسئلة واستجوده في المسالك ، وبه صرح العلامة في التذكرة ، قال (رحمهالله) في الكتاب
المذكور : لا تصح المساقاة على ثمرة قد وجدت وبد إصلاحها ، واستغنت عن السقي ، ولم
يبق لعمل العامل فيها مستزاد إجماعا ، لأنها والحال هذه قد ملكها رب البستان ، ولم
يحصل بالمساقاة زيادة الثمار ، والغرض بها تحصيل الثمار أو جودة أنواعها ، وإذا لم
يحصل الغرض ، خلا العقد من الفائدة ، فيكون باطلا ، وأما إذا كانت الثمار قد ظهرت
ولم يبدو صلاحها ، فإن بقي للعامل ما فيه مستزاد الثمرة كالتأبير والسقي وإصلاح
الثمرة جازت المساقاة ، تحصيلا لتلك الفائدة ، انتهى.
وأيد القول بالصحة في المسالك أيضا ، قال ولان العقد
حينئذ أبعد عن الغرر للوثوق بالثمرة فيكون أولى مما لو كانت معدومة انتهى واليه
يميل كلام المحقق الأردبيلي أيضا ، والظاهر أنه المشهور وقيل : بعدم الجواز نظرا
الى أن الثمرة إذا ظهرت فقد حصل المقصود فصار بمنزلة القراض بعد ظهور الربح ، ولان
المقصود من المساقاة ظهور الثمرة بعمله ، قال : في المسالك بعد نقل ذلك : وفيها
منع
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 127 ج 5 ، الوسائل ج 12 ص 353 ح 1.
ظاهر ، والمسئلة لا تخلو من نوع توقف
، لعدم النص وان كان القول الأول لا يخلو من قوة ورجحان ، والله العالم.
الثالث ـ المشهور بين الأصحاب أنه لا تبطل المساقاة بموت
المساقى ولا بموت العامل ، ولا بموتهما معا.
وقال الشيخ في المبسوط : إذا مات أحدهما أو ماتا انفسخت
المساقاة ، كالإجارة عندنا ، ومن خالف في الإجارة خالف هنا.
والظاهر هو القول المشهور ، لان ذلك هو مقتضى لزوم العقد
حتى يقوم دليل على البطلان ، الا أن يكون المالك قد شرط على العامل العمل بنفسه ،
فإنها تبطل بموت العامل قبل ظهور الثمرة ، بلا اشكال.
وأما بعد ظهورها فإشكال ينشأ من حصول ملكه ، لما ظهر
منها بالعمل السابق ، فلا يزول بموته ، ومن أن الظاهر من إطلاق المساقاة هو أن
الملك مشروط بإكمال العمل ولم يحصل ، فيكون الملك قبل ذلك بمنزلة المتزلزل ، وأطلق
جمع من الأصحاب البطلان إذا شرط عليه العمل بنفسه.
وفيه ما عرفت ، ولعله بناء منهم على ما أشرنا إليه من أن
ملك الحصة انما يستقر بإتمام العمل ، والا نسب بما تقدم ـ من جواز المساقاة بعد
ظهور الثمرة مع بقاء عمل يحصل به الزيادة فيها كما هو ظاهر المشهور ـ هو الأول من
وجهي الإشكال هنا ، لاشتراكهما في التبعض ، وعدم الإكمال.
ثم انه ان كان الميت المالك استمر العامل على عمله ،
وقاسم الوارث ، لما عرفت من عدم بطلانها بموت أحد منهما ، وان كان الميت هو العامل
، رجع الأمر إلى التفصيل المتقدم من أنه مع شرط العمل عليه بنفسه ، هل موته قبل
ظهور الثمرة ، أو بعدها ، وقد عرفت الكلام في ذلك.
وانما بقي الكلام فيما لم يشترط عليه العمل بنفسه ، بل
هو في ذمته ، فإنه يقوم وارثه مقامه في العمل ، الا أنه صرح في المسالك بأنه ليس
للمالك منعه
في هذه الحال ، ولا إجباره لو امتنع من العمل ، قال :
لان الوارث لا يلزمه حق لزم المورث الا ما أمكنه دفعه من ماله ، والعمل ليس بمال
المورث ، فلا يجب على الوارث ، كما لا يؤدى الحقوق من مال نفسه ، ثم ان خلف العامل
تركة تخير الوارث بين العمل ، وبين الاستيجار عليه من التركة ، فإن امتنع منهما
استأجر الحاكم عليه من التركة ، فان لم يتفق ذلك تخير المالك بين الفسخ والإنفاق
من ماله ، بنية الرجوع كما سيأتي تحقيقه فيما لو هرب العامل ، انتهى.
المقام الثاني ـ في المحل
الذي يرد عليه عقد المساقاة وهو كل أصل ثابت له ثمرة ينتفع بها مع بقائه ، والمراد
بالأصل الثابت كالنخل ، والشجر الذي له ساق ، فلا تصح المساقاة على نحو البطيخ
والباذنجان والقطن وقصب السكر والبقول قال في التذكرة : لا يثبت المساقاة عليها
إجماعا ، لأن أصول هذه لا بقاء لها غالبا واضمحلالها معلوم عادة ، ولا عبرة
بالنادر إذا ثبت في بعضها.
بقي الكلام هنا في موضعين أحدهما ـ ما لا ثمرة له ، انما
له ورق ينتفع به ، أو ورد ، أو نحو ذلك كالحناء وشجر الورد والتوت ونحوها وقد تردد
المحقق في صحة المساقاة على ذلك ، ولم يرجح شيئا ووجه الشارح في المسالك التردد
المذكور بان منشأه من أن هذه المعاملة باشتمالها على ضرب من الغرر ، بجهالة العوض
على خلاف الأصل ، فيقتصر بها على محل الوفاق ، وهو شجر الثمر ، ومن أن الورق
المقصود كالثمرة في المعنى فيكون مقصود المساقاة حاصلا به ، قال : وفي بعض الاخبار
ما يقتضي دخوله ، ثم قال : والقول بالجواز لا يخلو من قوة ، ومثله ما يقصد زهره
كالورد ، انتهى ، والعلامة في القواعد بعد أن استشكل في الحكم المذكور مال الى
الجواز.
أقول : ما ذكره في المسالك من أن في بعض الاخبار ما
يقتضي دخوله لم أقف عليه ، فان ثبت ذلك فلا معدل عنه ، والا فالحكم مشكل ، وترجيح
العدم كما قدمنا ذكره في صدر البحث أقرب ، ولم أقف في الاخبار على ما يتضمن
جواز هذا العقد ، الا على الخبرين
المتقدمين ، ونحوهما أخبار خيبر ، ومورد الجميع الشجر والنخل.
وبمثل ما ذكرنا صرح المحقق الأردبيلي أيضا ، فقال بعد أن
نقل عن المسالك ذلك : ما رأيت شيئا خاصا الا ما يدل على عموم الفواكه في الجملة ،
ولعله يريد العمومات كما أشرنا إليه ، لكنها موجودة في الكتاب أيضا ، انتهى.
ثم انه لا يخفى أن التوت المذكور مع الحناء في كلامهم
وأنه محل الاشكال والتردد ، مراد به الذكر منه ، وهو الذي لا يقصد ثمرته ، أما
الأنثى المقصود منه الثمرة فإنه لا اشكال ولا خلاف في جواز المساقاة عليه.
قال في التذكرة : أما التوت الأنثى فإنه يجوز المساقاة
عليه عندنا ، لانه مثمر ، وأما التوت الذكر وما أشبهه مما يقصد ورقه كالحناء وشبهه
ففي جواز المساقاة عليه خلاف ، والأقرب جوازها ، لان الورق في معنى الثمرة ،
ولكونه مما يتكرر في كل عام ، ويمكن أخذه ، والمساقاة عليه بجزء منه ، فيثبت له
مثل حكم غيره ، وكذا شجر الخلاف لاغصانها التي تقصد كل سنة أو سنتين ، والأقرب
الجواز في التوت بنوعيه ، وكلما يقصد ورقه أو ورده كالنيلوفر والياسمين والأس
وأشباه ذلك ، وكذا في فحول النخل ، لان لها طلع يصلح كشا للتلقيح ، فأشبهه الثمرة.
قال المحقق الأردبيلي بعد نقل ذلك عنه : ولا يبعد قرب ما
قربه ، لعموم «أَوْفُوا» (1)
و «المسلمون عند شروطهم» (2). و «لان الناس
مسلطون على أموالهم» (3). فلهم ما
يفعلون الا ما منع ، ثم أطال بنحو ذلك من التقريبات الى أن قال : ولو لا نقل
الإجماع المذكور ـ في شرح الشرائع في عدمها في غير
__________________
(1) سورة المائدة ـ الاية 1.
(2) الكافي ج 5 ص 169 ح 1 ، الفقيه ج 3 ص 127 ح 5 ، الوسائل ج
12 ص 353 ح 1.
(3) البحار ج 2 ص 272 ح 7.
المغروس ونحوه ـ لكان القول بالجواز
فيه متجها لما تقدم ، انتهى.
وبالجملة فالمسئلة لما عرفت غير خالية من شوب الاشكال ،
قال في المسالك : والتوت بالتائين المثناتين من فوق وفي لغة نادرة بالثاء المثلثة
أخيرا وردها الجوهري.
أقول : قال في القاموس في باب الثاء المثلثة التوت
الفرصاد لغة في المثناة ، حكاه ابن فارس.
الثاني : أنهم قالوا لو ساقاه على ودى أو شجر غير ثابت
لم يصح ، اقتصارا على موضع الوفاق ، أما لو ساقاه على ودى مغروس إلى مدة يحمل مثله
فيها غالبا صح ولو لم يحمل فيها ، وان قصرت المدة المشترطة عن ذلك غالبا أو كان
الاحتمال على السواء لم يصح.
أقول : الودي بفتح الواو وكسر الدال المهملة وتشديد
الياء كغني : فسيل النخل ، قبل أن يغرس ، كذا ذكره في المسالك ، والذي في القاموس
وكذا في المصباح المنير للفيومى أنه صغار الفسيل ، وقال في كتاب مجمع البحرين : والودي
بالياء المشددة : هو صغار النخل قبل أن يحمل ، الواحدة ودية ، ومنه لو ساقاه على
ودى غير مغروس ففاسد ، انتهى.
والفسيل على ما ذكره في كتاب المصباح هو ما ينبت مع
النخل ويقطع منها ، قال : الفسيل صغار النخل ، وهي الودي والجمع فسلان ، مثل رغيف
ورغفان ، الواحدة فسيلة ، وهي التي تقطع من الأم أو تقلع من الأرض ، فتغرس ، وهو
ظاهر في أن إطلاق الفسيلة عليها انما هو بعد القلع أو القطع ، وبه يظهر أن إطلاقه
في المجمع تفسير الودي بصغار النخل قبل أن يحمل لا يخلو من تسامح.
ثم ان ما أشار إليه من الحديث الدال على فساد المساقاة
على الودي لم نقف عليه في أخبارنا ، ولا نقله غيره في ما أعلم من الأصحاب ، إذا
عرفت هذا فاعلم أنه لو ساقاه على ودى أو شجر غير ثابت لم يصح بلا خلاف نصا وفتوى.
أما لو كان مغروسا ثابتا فإنه قد اشتمل على شرط الصحة من
جهة المحل ، ولكن بقي الاشكال وتطرق الاختلال من جهة المدة التي توجد فيها الثمرة
، فإن ساقاه إلى مدة معينة لا يثمر ، مثل هذا الودي فيها علما أو ظنا متاخما له
بالنظر الى العرف والعادة ، أو يكون الاحتمالان متساويين في وجود الثمر تلك المدة
وعدمه ، فإنها تكون باطلة لجهالة المدة ، وعدم الجزم بحصول الثمرة.
ولو فرض تخلف الظن بأن حصلت الثمرة في المدة ، فلا يبعد
صحة العقد لحصول الاحتمال وقت العقد ، مع مطابقته الواقع فيأخذ العامل الحصة
وحينئذ ينبغي تقييد ما ذكروه بعدم الحصول فإنه كما عرفت لو حصلت لا يبعد الحكم
بالصحة ، وعلى تقدير البطلان فان كان العامل عالما بذلك فليس له أجرة المثل ، لانه
متبرع كمن زارع على أن لا يكون له شيء أو استأجر على أن لا يكون له أجرة.
وان كان جاهلا فله أجرة المثل ، خصوصا مع علم صاحب الأرض
، فإن ذلك مقتضى قاعدتهم المصرح بها في كلامهم من أنه متى بطل العقد فللعامل أجرة
المثل ، لان الحاصل لصاحب الأرض خاصة لبطلان العقد ، فلا بد للعامل في مقابلة عمله
من عوض ، وهو المراد بأجرة المثل وان ساقاه إلى مدة يحمل مثله غالبا صح وان لم
يحصل الحمل على خلاف العادة. لأن مناط الصحة تجويز ظهور الثمرة ، وظنه بحسب العادة
فإذا حصل المقتضى صح ، وان تخلف الغرض منها كما لو ساقاه على شجر كثير فاتفق أنه
لم يحمل تلك المدة ، وظاهرهم أنه ليس له أجرة المثل هنا على جميع العمل ، لقدومه
على ذلك ، وأنه يجب عليه إتمام العمل وان علم الانقطاع قبله ، فان عدم الثمرة غير
قادح في صحة المساقاة إذا كان حصولها مظنونا عادة وقت العقد ، إذ هو المناط في
الصحة كما عرفت ونظيره ما لو تلفت الثمرة كلها أو أكلها الجراد أو غصبها غاصب ،
فإنه في جميع ذلك يجب على العامل إتمام العمل ؛ ولا أجرة له وان تضرر كما يجب على
عامل المضاربة انضاض المال وان ظهر الخسران ، بل هنا أقوى ، للزوم العقد ووجوب
العمل.
واستشكل الحكم المذكور في التذكرة ، واحتمل انفساخ العقد
لو تلف الثمار بأسرها ، وأيده المحقق الأردبيلي بعد نقل ملخص كلامه المذكور.
وفيه اشكال كما نقل عن التذكرة ، والظاهر العدم ، فان
الظاهر أنه كالمعاوضة ، فمع عدم العوض لا ينبغي التكليف ، فإنه مثل تلف المبيع قبل
القبض ولو سلم في القراض ما ذكر لدليل ، فلا يقاس والا يجيء المنع فيه أيضا مع
إمكان الفرق فتأمل ، انتهى.
وبالجملة فالمسئلة لعدم الدليل الواضح فيها لا يخلو من
شوب الاشكال ، كما في أمثالها من هذا المجال ، والله العالم.
المقام الثالث في المدة ـ المشهور بين
الأصحاب اشتراط مدة معينة وأجل مضبوط في عقد المساقاة بما لا يحتمل الزيادة
والنقصان ، كقدوم الحاج وإدراك الغلة وان كانت الغلة المعامل عليها وقوفا فيما
خالف الأصل ، واحتمل الغرر والجهالة على موضع اليقين ، وقال ابن الجنيد : ولا بأس
بمساقاة النخل وما شاكله سنة وأكثر من ذلك إذا حضرت المدة أو لم تحصر كذا نقل عنه
في المختلف.
ونقل عنه في المسالك أنه اكتفى بتقديرها بالثمرة المساقى
عليها نظرا إلى أنه بالنسبة إلى ثبوته عادة ، كالمفهوم ، ولان المقصود منها هو
العمل الى كمالها ولان العقد مبنى على الغرر والجهالة ، فلا يقدحان فيه ، ثم قال :
والأجود الأول وان كان كلامه لا يخلو من وجه.
أقول : لا يخفى أن العبارة المنقولة عنه أعم مما نقله
عنه في المسالك ، الا أن يحمل إطلاق عبارته على ذلك.
ومن ثم أنه احتج له في المختلف بعد نقل عبارته المذكورة
فقال : احتج بأن ضبط الثمار يكفى عن الأجل ، إذ القصد ذلك.
وما رواه يعقوب بن شعيب (1) في الصحيح عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 268 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 198 ح 22 ، الوسائل
ج 13 ص 202 ح 2.
سألته عن الرجل يعطى الرجل أرضه فيها
الرمان والنخل والفاكهة ، فيقول : اسق هذا من الماء وأعمره ولك نصف ما خرج قال :
لا بأس».
ثم أجاب عن ذلك قال : والجواب المنع ، وعن الحديث أن نفى
البأس لا يستلزم اللزوم ، انتهى.
وقال في المسالك : واعلم أن الاتفاق على اشتراط تقديرها
في الجملة كما قررناه ، وأما تركها رأسا فيبطل العقد قولا واحدا ، ولان عقد
المساقاة لازم كما تقدم ، ولا معنى لوجوب الوفاء به دائما ، ولا إلى مدة غير
معلومة ، ولا بسنة واحدة ، لاستحالة الترجيح بلا مرجح.
أقول : ان ثبت كون عقد المساقاة من العقود اللازمة كما
ادعوه ، فما ذكره جيد لا حيود عنه الا أنى لا أعرف لهم دليلا على هذه الدعوى زيادة
على ما يظهر من اتفاقهم على ذلك.
وربما كان الظاهر من عبارة ابن الجنيد المنقولة عن
المختلف انما هو الجواز كما قال به جملة من العامة ، ثم أنه مع تسليم ذلك فإنه لا
يخفى أن المقصود من المساقاة هو أخذ العامل الحصة من الحاصل ، بعد القيام بالعمل.
وحينئذ فلو اتفقا على المساقاة على ثمرة عام واحد
فالظاهر أنه لا يحتاج في التحديد إلى أزيد من التحديد بالثمرة المساقى عليها كما
تقدم نقله عن ابن الجنيد ، وعليه يحمل صحيحة يعقوب بن شعيب المذكورة ، فكأنه قيل :
فيها اسق هذا النخل والرمان والفاكهة الى أن تأخذ حصتك من الثمرة وهو النصف.
فإنك قد عرفت مما أسلفناه أن ما اشتملت عليه من هذا
اللفظ هو صورة عقد المساقاة ، إذ ليس في الخبر ما يدل على زيادة على ذلك ، وهو
بحسب ظاهره غير مشتمل على المدة التي أوجبوها في العقد ، فاللازم أما كونه جائزا
كما قدمنا ذكره ، فلا ينافيه الإخلال بالمدة ، لجواز الفسخ متى شاء أحدهما ، أو
انه لازم كما صرحوا به ، فلا بد من اعتبار ما ذكرناه ، وتقدير ما قدرناه ليتم ما
ذكروه.
وأما قول العلامة في المختلف في الجواب عن الرواية بعد
استدلاله بها لابن الجنيد أن نفى البأس لا يستلزم اللزوم فليس بموجه ، لأنه ان سلم
كون هذا عقدا كما هو ظاهر الرواية ، فلا بد له من الحكم بلزومه ، ونفى البأس إنما
أريد به ذلك : بمعنى أنه عقد صحيح ، وان منع كونه عقدا فلا معنى لنفي البأس عنه ،
حيث أنه لغو من القول ، لا معنى له ولا ثمرة يترتب عليه.
ثم انه لو لم يقع التحديد على الوجه المشهور ولا الوجه
المنقول في المسالك عن ابن الجنيد فظاهر كلامه الاتفاق على بطلان العقد ، الا أن
ظاهر عبارة ابن الجنيد المتقدم نقلها عن المختلف هو الصحة في الصورة المذكورة ،
والظاهر بعده ، الا أن يحمل كلامه على حكمه بجواز عقد المساقاة دون لزومه ، كما
تقدمت الإشارة اليه.
ولو اتفقا على المساقاة على أزيد من ذلك العام فإنه لا
خلاف ولا إشكال في وجوب تعيين المدة بسنتين أو ثلاث أو أزيد أو أقل على حسب ما
يتفقان عليه ووجهه ما تقدم في عبارته في المسالك ، والله العالم.
المقام الرابع في العمل ـ اعلم أن
الظاهر من كلامهم في هذا المقام أن بعض الأعمال مع الإطلاق يختص بالعامل وبعضها
يختص بالمالك ، وجعلوا لكل منهما قاعدة فالذي يختص بالعامل هو كل عمل يتكرر كل سنة
مما يحصل به نفس الثمرة وجودتها وزيادتها ، ومنها إصلاح الأرض بالحرث والحفر حيث
يحتاج اليه وما يتوقف عليه من الآلات وتنقية الأجاجين ، جمع الاجاجه بالكسر
والتشديد والمراد بها هنا الحفر التي يقف فيها الماء في أصول الشجر التي تحتاج إلى
السقي.
وكذا تنقية الأنهار ، وازالة الحشيش المضر وتهذيب جرائد
النخل بقطع ما يحتاج الى قطعه منه كالأجزاء النابتة من كرم العنب والأغصان اليابسة
المضمرة من الأشجار ، بل ولو كانت رطبة مع حصول الضرر بها ، كما في شجر الكرم مما
يجرى به العادة.
ومنها السقي ومقدماته المتكررة ، كالدلو والرشاء وإصلاح
طريق الماء ، وتنقيتها من الحمأة ونحوها ، واستقاء الماء وأداة الدولاب إذا كان
السقي من بئر ونحوه وتلقيح الأنثى من الذكر ، على الوجه المعتاد والمعتبر ، وتعديل
الثمرة أى إصلاحها بإزالة ما يضرها من الأغصان والورق ، ليصل إليها الهواء أو
الشمس أو لتيسر قطعها عند ارادة ذلك ، ووضع الحشيش ونحوه فوق العناقيد صونا لها عن
الشمس المضمرة بها ، ورفعها من الأرض حيث تضربها ونحو ذلك ومنها اللقاط بفتح اللام
وكسرها وهو لقاط الثمرة أى أخذها في أوانها عن محلها بحسب العادة وحسب نوعها
ووقتها فما يؤخذ عنبا ، أو رطبا ففي وقتهما ، وما يؤخذ للزبيب يجب قطعه عند حلاوته
في الوقت الصالح له ، وما يعمل دبسا فكذلك في الوقت الصالح ، ويحتمل أن يراد
باللقاط ارادة ما سقط من الشجر على الأرض ، بمعنى التقاطه ، الا أن الأشهر في
كلامهم هو الأول ، ومنها أيضا إصلاح موضع التشميس وهو الموضع الذي يجعل فيه الثمرة
للشمس لأجل يبسها ان كانت العادة فيها ذلك ، كما في بعض البلدان خصوصا البحرين ،
ونقل الثمرة الى ذلك الموضع ، وحفظها الى وقت القسمة ، وهل نقلها الى منزل المالك
ان لم يتول المالك ذلك على العامل؟ يحتمل ، ـ لانه من تمام العمل ، ولعموم «على
اليد ما أخذت حتى تؤدى» (1) ـ وعدمه ، لانه
ليس من أعمال الثمرة ، والأظهر الرجوع في ذلك الى عرف البلد وعادة أهلها في ذلك.
قالوا : والضابط أنه يجب العمل الى وقت القسمة ، هذا كله
مع الإطلاق ، أما لو شرط بعضها على المالك فلا إشكال في لزومه إذا لم يكن منافيا
لمقتضى العقد ، عملا بما دل على وجوب الوفاء بالشروط.
قالوا : لو أخل العامل بشيء مما يجب عليه فان كان وجوبه
بطريق الشرط تخير المالك بين فسخ العقد وإلزامه ، بمثل أجرة العمل ، فان فسخ قبل
عمل شيء
__________________
(1) المستدرك ج 2 ص 504.
فلا شيء له ، وان كان بعده فله
الأجرة ، سواء كان قبل ظهور الثمرة أم بعده ، قضية للشرط ، وان كان وجوبه من حيث
الإطلاق ، فالظاهر أنه يكون كذلك قبل ظهور الثمرة ، أما بعده ففيه نظر ، ولا يبعد
الجواز ، ولو حصل على الأصل نقص بسبب التقصير لزمه الأرش ، والظاهر أن الثمرة كذلك
، انتهى هذا بالنسبة إلى العامل.
وأما المالك فالضابط في ما يجب عليه عندهم هو ما لا
يتكرر في كل سنة ، وان عرض له في بعض الأحوال التكرر مما يتعلق نفعه بالأصول
بالذات وان حصل النفع منه للثمرة عرضا فإنه على المالك دون العامل.
ومن ذلك حفر الابار والأنهار التي منها وبها تسقى الأصول
، وبناء الحائط ، قال في المسالك : ولا فرق في بناء الحائط بين جميعه وبعضه ، وفي
حكمه وضع الشوك ونحوه على رأسه ، قاله في التذكرة ، ويشكل لو كان مما يتكرر كل سنة
عادة طردا لضابطين ، انتهى.
أقول : لا يخفى أن بناء هذه الأفراد المعدودة في كل من
الموضعين وجعلها ضابطين انما هو على العرف والعادة ، والا فإنه ليس هنا تحديد شرعي
في كل من الموضعين ، فينبغي أن يكون مناط الحكم في كل من الموضعين هو ذلك.
ومنها عمل ما يستقى به من دولاب وأدواته ونحو ذلك من
آلات السقي مما لا يتكرر غالبا ، دون ما يتكرر غالبا كالدلو والرشاء ، فإنه قد
تقدم أن ذلك على العامل ، خلافا لابن إدريس (رحمهالله) حيث أوجب
الجميع على العامل ، والمشهور وبه صرح الشيخ ان الكش على المالك ، والعامل انما
عليه التلقيح ، واستندوا في ذلك الى أن الكش ليس بعمل ، وانما هو من الأعيان
والعامل انما عليه العمل ، وأن الأصل البراءة من وجوبه على العامل.
ونقل عن ابن إدريس أنه على العامل ، واستحسنه في الشرائع
، ونقل عن ابن إدريس التعليل بأنه مما يتم به نماء الثمرة وصلاحها الواجبين على العامل.
قال في المسالك : والاولى الرجوع الى العادة ومع عدم
اطرادها في شيء فالأولى التعيين ، انتهى.
قال في التذكرة : ان شراء الزبل وأجرة نقله على رب المال
، لانه ليس من العمل ، فجرى مجرى ما يلقح به ، وتفريق ذلك على الأرض على العامل ،
كالتلقيح انتهى.
وبالجملة فالظاهر أن الكش مثل الخيوط بالنسبة إلى الخياط
، والمداد والقرطاس للكاتب في كون الجميع على المالك ، وانما على العامل العمل
بذلك ، الا أن تجري العادة بخلاف ذلك لما أشرنا إليه آنفا من بناء الضابطتين
المتقدمتين على العرف والعادة.
بقي الكلام هنا في مواضع الأول ـ قد تقدمت الإشارة الى
أن جميع ما ذكر سابقا مما يجب على المالك والعامل انما هو من حيث اقتضاء الإطلاق
ذلك ، فلو وقع الشرط منهما على خلاف ذلك بأن شرط ما على المالك من تلك الأعمال على
العامل ، فالمشهور الصحة بعد أن يكون ذلك معلوما بينهما على وجه لا يحتمل الضرر ،
وكذا لو شرط بعضه بطريق أولى.
قال الشيخ في المبسوط : وعلى المالك ما فيه حفظ الأصل ،
وهو سد الحيطان ، وإنشاء الأنهار ، فإن شرط على العامل ذلك أو بعضه قال قوم : تبطل
المساقاة ، لأنه شرط ليس من مصلحة العقد ، وينافي مقتضاه ، والذي يقوى في نفسي أنه
لا يمنع من صحة هذا الشرط مانع ، انتهى.
وقال ابن الجنيد : ليس لصاحب الأرض أن يشترط على المساقي
إحداث أصل جديد من حفر بئر وغرس يأتي به لا يكون للمساقي في ثمرته حق ، ولو جعل له
على ذلك عوضا في قسطه ، لان ذلك بيع المثمرة قبل خروجها فان جعله بعد ما يحل بيع
الثمرة جاز.
قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : والوجه ما
قواه الشيخ ، لقوله (عليهالسلام) (1) «المؤمنون عند
شروطهم». سواء جعل له زيادة قسط أم لا وليس ذلك بيعا ، انتهى وهو جيد.
__________________
(1) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.
ولو شرط ما يجب على العامل على المالك ، فان كان المشروط
جميع العمل ، فالظاهر أنه لا خلاف في بطلان المساقاة ، لأن الحصة انما يستحقها
العامل في مقابلة العمل فإذا لم يعمل شيئا لم يستحق شيئا ، وأيضا فإنها تصير
كالبيع بغير ثمن ، والإجارة بغير مال في مقابلتها ، وبالجملة فإنها من عقود
المعاوضات يترتب صحتها على وصول العوض لكل من الطرفين.
نعم لو كان المشروط بعض العمل وأبقى لنفسه منه شيئا ،
وكان مما يحصل به الزيادة في الثمرة ، فإنه لا مانع منه ، ولعموم أدلة لزوم الشرط
، وتكون الحصة حينئذ في مقابلة ذلك.
وظاهر الشيخ في المبسوط الخلاف هنا ، حيث قال : إذا
ساقاه بالنصف على أن يعمل رب المال معه ، فالمساقاة باطلة ، لأن موضوع المساقاة أن
من رب المال المال ، ومن العامل العمل ، كالقراض ، فإذا شرط على رب المال العمل
بطل كالقراض.
ورده العلامة في المختلف بأنه قد سوغ أن يشترط العامل
على المالك أن يعمل معه غلامه ، وأن يكون على المالك بعض العمل ، وقواه لانه لا
مانع منه ، وهذا نفس ذاك ، انتهى وهو جيد.
ونقل أيضا أنه قال في المبسوط : إذا ساقاه على أن أجرة
الأجراء الذين يعملون ويستعان بهم من الثمرة ، فالعقد فاسد ، لأن المساقاة موضوعة
على أن من رب المال المال ، ومن العامل العمل ، فإذا شرط أن يكون أجرة الاجراء من
الثمرة كان على رب المال المال ، والعمل معا ، وهذا لا يجوز ، ثم رده بأن الأقوى
الجواز إذا بقي للعامل عمل لما بيناه ، انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر إطلاق كلام العلامة هو ترتب
الصحة على بقاء شيء من العمل ـ اللازم للعامل ـ أعم من أن يكون مما يترتب عليه
الزيادة في الثمرة أو لا بأن يكون كمجرد الحفظ لها ، والذي صرح به في المسالك هو
ما
قدمناه من أنه لا بد من أن يكون مما
يحصل به الزيادة في الثمرة ، ولا يكفى ما فيه مجرد الحفظ ، قال : ولو بقي للعامل
ما لا يحصل به مستزاد الثمرة كالحفظ لم تصح ، أيضا ، لمنافاة وضع المساقاة ، كما
لو ساقاه وقد بقي من العمل ذلك. نعم لو جعلا ذلك بلفظ الإجارة مع ضبط المدة صح ،
انتهى.
وظاهر ابن فهد في المهذب الاكتفاء بمجرد العمل ، كالحفظ
والتشميس والكيس في الظروف ونحو ذلك ، وظاهره جواز المساقاة بمجرد بقاء هذه
الأعمال ، والأظهر الأول ، فإنه هو المستفاد من الأدلة ، وغيره لا دليل عليه والله
العالم.
الثاني : قالوا : لو
شرط العامل أن يعمل غلام المالك معه جاز ، أما لو شرط أن يعمل الغلام لخاص مال
العامل ففيه تردد ، والأشبه الجواز.
أقول : هنا مقامان : أحدهما ـ أن يشترط العامل على
المالك عمل غلامه معه في مال المساقات ، وظاهر الأصحاب هو الجواز من غير ظهور
مخالف ، وانما المخالف فيه بعض العامة ، مستندا الى أن يد العبد كيد مالكه ، وعمله
كعمله ، فكما لا يصح اشتراط عمل المالك فكذلك غلامه المملوك له ، ولانه مخالف لوضع
المساقاة ، وهو أن يكون من المالك المال ، ومن العامل العمل.
وأجيب عن ذلك أولا بأن عمل غلام المالك مال له ، فهو ضم
مال الى مال ، كما أنه يجوز في القراض أن يدفع الى العامل بهيمة يحمل عليها ،
والفرق بين الغلام وسيده ظاهر ، فان عمل العبد يجوز أن يكون تابعا لعمل العامل ،
ولا يجوز أن يكون عمل المالك تابعا له ، لانه هو الأصل ويجوز في التابع مالا يجوز
في المنفرد.
وثانيا منع حكم الأصل لما عرفت آنفا من جواز أن يشترط
العامل على المالك أكثر العمل ، فإذا جاز ذلك بالنسبة إلى المالك فمملوكه أولى
بالجواز.
وثانيهما ـ أن يكون الشرط في عمل الغلام العمل في ملك
العامل خاصة ،
بأن يكون الأرض للعامل بخصوصه لا في
مال المساقاة ، كما هو المفروض أولا ، وظاهر المحقق والعلامة وقوع الخلاف هنا من
أصحابنا ، لتردد المحقق في الشرائع في ذلك ، وان رجح الجواز ، وكذا العلامة ، الا
أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك نبه هنا على أن الخلاف في هذا المقام انما هو
من الشافعي ، وظاهره أنه لا خلاف بين أصحابنا في الجواز ، حيث قال : والمعروف أن
المانع من ذلك الشافعي ، لكن المصنف (رحمهالله) والعلامة
ذكرا المسئلة على وجه يشعر بالخلاف عندنا ، وقد تكرر هذا منهما في مواضع كثيرة.
أقول : وفيه تأييد لما قدمناه من أن أصل هذه التفريعات
كلها أو جلها انما هي من العامة ، حيث أنه ليس لقدماء أصحابنا أثر في ذلك ، ثم ان
الشيخ تبعهم في ذلك ، واقتفى أثره من تأخر عنه ، ووجه الجواز عند أصحابنا أنه وجه
سائغ لا مانع من اشتراطه ، ولأنه إذا جاز أن يعمل في المشترك بينه وبين مولاه كما
في الفرض الأول ، فلان يجوز في المختص بطريق أولى.
ووجه المنع أنه شرط عملا في مقابلة عمله ، فصار في قوة
اشتراط جميع العمل على المالك ، وأجابوا عنه بأن فساده ظاهر.
أقول : ويمكن أن يقال : بناء على تعليلاتهم في أمثال هذا
المجال بأنه لا يصح ذلك لو فرض أن عمل الغلام أكثر أو مساو لعمل العامل في مال
المساقاة لأنه يلزم كون الحصة التي يأخذها العامل بغير عوض ، لان عمل العامل قد
وقع في مقابلة عمل الغلام في أرضه ، فلم يبق له عمل يستحق به الحصة ، ويصير عقد
المساقاة بلا عوض من جانب العامل ، فيلزم بطلانه ، وربما أمكن الجواب بأنه لا مانع
من جعل عمل الغلام وان كثر في مقابلة بعض عمل العامل وان قل ، وتصير الحصة في
مقابلة البعض الباقي ، ويؤيده الأدلة العامة من وجوب الإيفاء بالعقود والشروط.
وكيف كان فالركون في أمثال هذه الفروع الى هذه التعليلات
لا يخفى ما فيه كما أسلفنا التنبيه عليه في غير مقام مما تقدم ، والله العالم.
الثالث ـ المشهور
بينهم أنه لو شرط العامل على المالك أجرة الأجراء بأن يستأجر للعمل أجراء لإعانته
، ويدفع الأجرة من الثمرة على وجه يبقى له من العمل ما يحصل به الزيادة في الثمرة
، كما تقدم فلا بأس ، وقد تقدم في الموضع الأول نقل خلاف الشيخ في هذه المسئلة ،
وقد عرفت ضعفه.
ولو شرط العامل على المالك بأن يستأجر على جميع العمل
بحيث لا يبقى له الا استعمال الاجراء والقيام عليهم ، والسمسرة ، قال في المسالك :
في صحة هذا الشرط وجهان : أحدهما الجواز ، لان ذلك عمل تدعو الحاجة إليه ، فإن
المالك قد لا يهتدى إلى الدهقنة واستعمال الاجراء ، ولا يجد من يباشر الأعمال
ويأتمنه فتدعوه الحاجة أن يساقى من العرق ذلك لينوب عنه في الاستعمال.
وثانيهما المنع للشك في أن مثل ذلك يسمى عملا من أعمال المساقاة
الذي هو شرط في صحتها ، فان المتبادر من أعمالها خلاف ذلك ، والعقود انما تكون
بتوقيف الشارع ، خصوصا في هذا العقد الذي هو على خلاف الأصل ، انتهى.
أقول : لا يخفى ضعف الوجه الأول من الوجهين المذكورين ،
فالعمل على الثاني. والله العالم.
المقام الخامس في الفائدة ـ والكلام في
هذا المقام يقع في موارد :
الأول ـ الظاهر أنه
لا خلاف في أنه يشترط أن يكون للعامل جزء مشاع من الحاصل ليكون مساقاة كما مر في
تعريفها ، فهنا شيئان : أحدهما ـ الحصة ، والثاني ـ كونها شائعة في مجموع الحاصل ،
فلو لم تكن شايعة بل كانت معينة كان ذلك اجارة ، وان وقع العقد بلفظ المساقاة لصحة
ارتكاب التجوز في هذا الإطلاق ولو لم تكن حصة بالكلية كان العقد باطلا وكذا يبطل
لو شرط أحدهما الانفراد بالفائدة وفساد هذا الشرط متفرع على اشتراط التشريك ،
بمعنى أنه لما كان من شرط المساقاة أن تكون الفائدة شائعة في الحاصل فلو شرطها
أحدهما
وانفرد بها وميزها عن الحاصل في نخيل
مفردة أو أشجار معينة ، خرج ذلك عن وضع المساقاة ، وما بنيت عليه ، فيبطل العقد
حينئذ ، لكن يختلف الحكم في ذلك بين العامل والمالك ، فإنه ان كان شرط الفائدة على
الوجه المذكور وقع للعامل بطل العقد كما عرفت ، ومتى بطل لزم أن يكون الثمرة كلها
للمالك ، وللعامل أجرة المثل حينئذ ، كما يأتي بيانه ـ ان شاء الله ـ من أن كل
موضع حكم بالبطلان فللعامل أجرة المثل ، والوجه فيه أن العامل انما دخل في العمل
للحصة المعينة له ، وحيث لم تسلم له هنا لظهور بطلان العقد ، وجب الرجوع الى أجرة
المثل.
وان كان الشرط المذكور للمالك فالأقوى عندهم أنه لا أجرة
له لدخوله في العمل على وجه التبرع ، والمتبرع لا أجرة له ولا حصة ، كما تقدم
نظيره في القراض.
وربما احتمل ضعيفا استحقاق الأجرة لأن المساقاة يقتضي
العوض في الجملة ، فلا يسقط بالرضا بدونه ، وكذا يبطل لو شرط لنفسه شيئا معينا ،
وما زاد بينهما ، وكذا لو قدر لنفسه أرطالا أو ثمرة ، نخلات معينة.
أقول : وهذا كله مما يتفرع على اشتراط الشيوع في الحصة ،
والاشتراك المتفق عليه نصا وفتوى في عقد المساقاة ، فإن جميع هذه الصور خارجة عن
ذلك ، ويؤكد البطلان زيادة على ما عرفت أنه إذا اتفق عدم حصول شيء من الحاصل الا
ذلك المقدار المعين فلا يكون للآخر شيء بالكلية.
الثاني ـ قالوا :
يجوز أن يفرد كل نوع بحصة مخالفة للحصة من النوع الأخر إذا كان العامل عالما
بمقدار كل نوع ، لان الغرض ثبوت حصة معلومة كيف كان ولو لم يعلم مقدار أحد الأنواع
لم يصح ، لجهالة الحصة ، فإن المشروط فيه أقل الجزئين ، قد يكون أكثر الجزئين ،
فيحصل الغرر ، وكذا صرح به في المسالك.
أقول : ظاهر المحقق الأردبيلي (رحمهالله) المناقشة في
هذا المقام ،
حيث قال بعد ذكر عبارة المصنف في هذا
المقام : إذا كان في البستان الذي ساقاه عليه أنواع مختلفة من الثمرة واشترط الثلث
من أحدهما ، والنصف من الأخر مثلا صح المساقاة ، بشرط علم العامل بمقدار كل نوع من
تلك الأنواع ، ومفهوم الكلام يدل على عدم الصحة لو لم يعلم وجهه للجهالة ، وكذا
مفهومه الصحة لو لم يكن الحصة مختلفة ، بل إذا ساقاه على ذلك البستان بالنصف مثلا
صح مطلقا ، سواء علم مقدار الأنواع أم لا ، وهو مشكل فإن الجهالة واقعة ، فلو كانت
مانعة من الصحة لمنعت هنا أيضا ، وكونه مفهوما من الكلام غير واضح ، فلا يبعد عدم
الصحة بناء على اعتبار العلم وعدم الجهالة ، فتأمل ، انتهى وهو جيد.
وكيف كان فالمسئلة لخلوها عن النص لا يخلو الحكم فيها من
الاشكال ، كغيرها من الفروع التي أكثروا فيها المقال والأقوال ، فإن غاية ما
يستفاد من نصوص المساقاة هو الحصة من حاصل ما اشتمل عليه البستان ، نوعا واحدا كان
أو أنواعا عديدة ، علم كل منها على تقدير التعدد أم لم يعلم.
وأما صحة المساقاة مع تعدد الحصة بتعدد الأنواع سواء
كانت الأنواع معلومة أو مجهولة فلا دليل عليه ، ورجوعه بنوع من الاعتبار في بعض
الموارد إلى الأول لا يكفي في الحكم بالصحة ، إذ لعل ثمة مانعا لم نهتد اليه ،
سيما مع عدم الدليل عليه.
وملخص ذلك الرجوع في صحة العقود وبطلانها الى التوقيف ،
والله العالم.
الثالث ـ قالوا : لو
شرط مع الحصة من النماء حصة من الأصل الثابت احتمل الصحة ، لعموم الأمر بالوفاء
بالعقود ، والمؤمنون عند شروطهم (1) ، وان ذلك يجرى مجرى اشتراط شيء
غيره من ذهب أو فضة ، وهو جائز ، وان ذكروا البطلان نظرا الى أن مقتضى المساقاة
جعل الحصة من الفائدة وأن الحصة من الأصول تدخل في ملكه بالشرط المذكور ، فلا يكون
__________________
(1) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.
العمل المبذول في مقابلة الحصة واقعا
في ملك المالك ، ولا واجبا بالعقد ، إذ لا يعقل أن يشترط عليه العمل في ملك نفسه.
والى هذا الوجه مال في المسالك فقال : والقول بالمنع
أوجه ، وتردد المحقق في الشرائع بعد أن حكم بعدم الصحة ، واستشكل في القواعد مع
جزمه بالمنع في الإرشاد.
أقول : والظاهر هو المنع لما ذكر ، وزيادة ما قدمناه في
سابق هذا المورد.
الرابع ـ قالوا : يجوز
أن يشترط رب الأرض على العامل شيئا من ذهب أو فضة ، ويجب الوفاء به ، الا أن ذلك
مكروه ، وعللوا الحكم الأول بعموم ما دل على الوفاء بالعقود والشروط وأنه مع ذلك
غير مناف لمقتضى العقد ، لأن الثمرة مشتركة بينهما ، وهذا شرط زائد ، وأما الحكم
الثاني فلم أقف لهم فيه على مستند سوى ظهور اتفاقهم عليه.
قال في المسالك : وأما كراهته فهو المشهور بين الأصحاب
لا نعلم خلافا في ذلك ، ثم نقل عن العامة أنهم أطبقوا على منع هذا الشرط ، وأبطلوا
به المساقاة ، هذا مع سلامة الثمرة وعدم تلفها ، فلو تلفت أجمع أو لم تخرج ذلك
العام بالكلية ، فإن ظاهرهم الحكم بسقوط الشرط المذكور ، إذ لو لا الحكم بسقوطه
لكان اللازم أكل مال بالباطل ، فان العامل قد عمل ولم يحصل له عوض في مقابلة عمله
، فكيف يحكم عليه بوجوب الوفاء بالشرط المذكور ، فإنه ضرر منفي بالآية والرواية (1) ، وإيجاب
استحقاقه بالشرط انما وقع بناء على سلامة الحاصل وأخذه الحصة ، على أن ما حكموا به
من الصحة في أصل المسئلة غير خال من الاشكال سيما في صورة زيادة ما شرط من الذهب
أو الفضة على مقدار الحصة ، أو المساواة لاستلزام ذلك لذهاب عمله بغير عوض ، وهو
خارج عن أفعال العقلاء ومعاملاتهم
__________________
(1) الوسائل ج 17 ص 341 ح 3.
بل ربما أدى ذلك الى الحكم بعدم الرشد
، ولعله الى هذا نظر العامة فحرموا ذلك ، وأبطلوا به العقد كما تقدم ذكره.
نعم لو كان هناك غرض صحيح يمكن ترتب هذا العمل عليه يتم
ما ذكر ، وبالجملة فإن عندي في أصل الحكم المذكور أعني صحة هذا الشرط اشكالا لعدم
النص الواضح عليه ، وان احتمل ذلك بناء على ما ذكروه من العمومات ، الا أنه لخروجه
عما هو المعلوم من طريقة أرباب العقول ومعاملاتهم المحتمل للسفاهة محل إشكال ، أما
لو كان هذا الشرط من العامل على المالك مضافا الى الحصة المعينة ، فالظاهر أنه لا
اشكال فيه ، وبه صرح الأصحاب أيضا.
والظاهر أنه لا كراهة فيه أيضا ، وبطريق الاولى في
ارتفاع الاشكال لو ذهبت الثمرة أو لم تخرج ، فإنه بعد العمل والتعب وذهاب حصته
المقررة له لا وجه لسقوط هذا الشرط في حقه ، بل الاولى والأظهر في المعقول
والمنقول هو دفعه اليه جبرا لما فاته من ذهاب حصته ، وعوضا عن خدمته.
وربما قيل : بمساواته للأول وهو خيال ضعيف وتوهم سخيف
لما عرفت من الفرق بين الحالين ، والبون بين الصورتين ، ثم انه بالنسبة إلى الصورة
الاولى لو كان التالف البعض خاصة ، فالمختار عندهم عدم سقوط شيء من الشروط ،
لأصالة العدم ، ولان المعتبر حصول عوض العمل ، ولا اعتبار بكثرته وقلته ، ومن ثم
لا يسقط من شروط العمل شيء ، بتلف بعض الثمرة أو أكثرها.
ونقل عن العلامة في التذكرة أنه قال : يكره أن يشترط
أحدهما لنفسه شيئا من ذهب أو فضة ، وان شرط ذلك وجب الوفاء به مع السلامة ، وفيه
على إطلاقه بحث يعلم مما قدمناه ، ثم الظاهر أن ما ذكروه من الذهب والفضة إنما خرج
مخرج التمثيل في المقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام والله العالم.
الخامس ـ قال المحقق
في الشرائع : ولو ساقاه بالنصف ان سقى بالنواضح وبالثلث ان سقى بالسيح بطلت
المساقاة ، لأن الحصة لم تتعين وفيه تردد.
قال في المسالك : وجه البطلان واضح ، لان العمل مجهول ،
والنصيب مجهول ، فهو مثل بعتك بدينار مؤجلا وبنصفه حالا ، ويحتمل صحة ذلك لتعيين
الحصة على التقديرين ، كما تصح الإجارة إذا قال : ان خطته روميا فلك كذا ، وان
خطته فارسيا فلك كذا ، ومن ذلك يظهر منشأ التردد ، والأقوى البطلان ، ومسئلة
الإجارة ان ثبتت فهي خارجة بدليل خارج ، انتهى.
أقول : ما فرضه المحقق (رحمهالله) هنا في
المسئلة أظهر مما فرضه العلامة في الإرشاد ، حيث قال : «ولو شرط فيما سقت السماء
النصف ، وفيما سقى بالناضح الثلث ، أو شرط مع الحصة جزء من الأصل بطل» انتهى.
فان وجه البطلان على هذا الفرض غير ظاهر ، الا من حيث
الجهل بكل من النوعين ، كما تقدم في المورد الثاني ، فمع العلم بكل منهما في
الجملة يصح.
وبالجملة فإن هذا الفرض من أفراد تلك المسئلة فلا يكون
الحكم كليا ، كما هو ظاهر الأصحاب ، وبه يظهر أن ما فرضه في الشرائع ونحوه فرض
المسئلة في القواعد أيضا أظهر.
بقي الكلام في التردد المذكور في الفرض الأول ، فإنه لا
يبعد أن يقال بالصحة ، قوله ـ ان العمل مجهول ، والنصيب مجهول ـ قلنا : ان أريد
الجهل من كل وجه فهو ممنوع ، لانه على كل من التقديرين معلوم ، والاختيار إليه في
قبول أى العملين أراد ، وان أريد في الجملة أمكن أن يقال : انه غير مانع ، لان
بناء هذه المعاملة انما وقع أيضا مع المجهولية في الحصة كما صرحوا به ، فالجهل في
الجملة غير ضائر ، وقد تقدم نظيره في مسئلة البيع بثمن مال معجلا بأزيد منه مؤجلا
وان كان المشهور بينهم البطلان ثمة ، الا أن الرواية الصحيحة دلت على الصحة ، وان
كان فيها اشكال من وجه آخر كما تقدم تحقيقه في المسئلة المذكورة.
وبالجملة فالمسئلة لخلوها من النص الواضح غير خالية من
التردد ، والاشكال
وان كان الأقرب هو الصحة ، لما ذكرناه
، ويؤيده أيضا ما ذكره من صحة الإجارة في أمثال الخياطة ، والله العالم.
الفصل الثاني في الأحكام :
وفيه مسائل الأولى ـ المشهور في كلامهم أن كل موضع يحكم
بفساد المساقاة فيه فللعامل أجرة المثل ، وللمالك جميع الثمرة ، أما الثاني فلأنها
نماء ملكه ، ولم يحصل ما يوجب نقلها أو نقل شيء منها ، لظهور فساد العقد الموجب
لانتقال الحصة إلى العامل ، وأما الأول فلأنه لم يتبرع بعمله ، وانما دخل فيه بناء
على الحصة المشترطة له ، والحصة لم تسلم له لفساد العقد ، فلا بد لعمله من عوض وأجرة
، فوجب الرجوع الى أجرة المثل ، الا أنه ينبغي تقييده بأمرين : أحد هما ـ أن يكون
جاهلا بالفساد ، إذ لو كان عالما به ومع هذا أقدم على العمل كان متبرعا بعمله ،
والمتبرع لا شيء له شرعا ، وثانيهما أن لا يكون الفساد باشتراط المالك جميع
الثمرة له ، لانه مع فرض ذلك قد دخل على أن لا شيء له من الثمرة ، وان كان جاهلا
يكون ذلك مفسدا للعقد.
وبالجملة فإنه على الفرضين المذكورين قد أقدم على العمل
عالما بأنه لا يستحق أجرة ولا حصة ، ثم ان ما ذكرناه من وجوب أجرة المثل في صورة
الجهل بالفساد وعدم الفساد باشتراط المالك الثمرة لنفسه ، هو الظاهر من كلام جل
الأصحاب كما أشرنا إليه آنفا.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني أن الواجب أقل الأمرين من
الحصة المشترطة وأجرة المثل ، قال بعد الكلام في المسئلة : ينبغي على ما قررناه أن
يثبت للعامل أقل الأمرين من الحصة المشترطة ، وأجرة المثل ، لأن الأقل ان كان هو
الأجرة فظاهر ، لان فساد العقد أسقط الحصة ، فيرجع الى الأجرة ، وان كان الأقل هو
الحصة فالعامل أقدم على أن لا يكون له سواها في مقابلة عمله ، حتى لو كانت في
مقابلة عشر العمل ، لكان مسقطا للزائد ، فيكون متبرعا بالزائد على هذا التقدير ،
كما يتبرع على تقدير اشتراط جميع
الثمرة للمالك ، وعلى تقدير علمه بالفساد.
ثم قال : ويمكن أن يجاب بالفرق بين الموضعين فإنه على
هذا التقدير لم يقدم على التبرع بعمله أصلا ، بل كما يحتمل أن يكون الحصة قاصرة عن
مقابلة العمل ، يحتمل مساواتها له وزيادتها عليه أضعافا مضاعفة ، فهو قادم على عمل
محتمل للزيادة والنقصان ، فليس متبرعا به مطلقا وان احتمل قصوره في بعض الأحوال ،
بخلاف العالم وشرط جميع الحصة للمالك ، فإنه قادم في ابتداء الأمر على التبرع
المحض على كل تقدير.
وهذا الفرق لا بأس به ، وان كان ما اقتضاه البحث متوجها
أيضا ، وأكثر الأصحاب أطلقوا وجوب أجرة المثل مع الفساد ، وفيه تردد ، انتهى.
أقول : لقائل أن يقول في تأييد القول المشهور وبيان أنه
صحيح عار عن القصور : أن الحصة انما وجبت وتعينت بحيث لا يجوز الزيادة عليها ولا
النقصان من حيث اشتراطها في العقد ، ولما بطل العقد بطل التعلق بها والرجوع إليها
، وان كان المالك قد رضى بها في العقد على تقدير صحته ، وصار الحكم مبنيا على
قاعدة أخرى من كونه عملا موجبا للأجرة ، وأن الداخل فيه انما دخل بذلك ، ولكن لم
تسلم له لظهور استحقاقها أو فسادها فلا بد لعمله من أجرة ، ورضى العامل بتلك الحصة
على تقدير صحة العقد لا مدخل له هنا ، لان تلك المعاملة قد بطلت ، ورجعنا الى
مسئلة أخرى كما ذكرناه ، وهذا حق أوجبه له الشارع ، بناء على الغرض المذكور ،
ورضاه بأقل منه لو كان في تلك المال لا يوجب الحكم عليه به هنا ، الا أن يتجدد منه
رضا آخر بذلك.
وقد تقدم نظير ذلك في المزارعة في مسئلة ما لو اختلفا في
المزارعة أو العارية ، بأن ادعى المالك المزارعة وادعى العامل العارية ، والله
العالم.
الثانية ـ قالوا : إذا
استأجر المالك أجيرا للعمل بجزء من الثمرة ، فإن كان قبل ظهورها بطلت الإجارة من
غير خلاف ، لما قرر عند هم من أن عوض
الإجارة يجب أن يكون موجودا معلوما
كعوض المبيع ، والحال أنه هنا ليس كذلك كما هو المفروض ، وجواز ذلك في المساقاة ،
حيث أنهم قد اتفقوا على جواز العوض فيها مع الجهالة ، وعدم الوجود خرج بالنص
والإجماع ، مؤيدا بمساس الحاجة الى ذلك ، وان كان بعد ظهورها ، فان كان بعد بدو
صلاحها جاز بلا اشكال ولا خلاف ، وان كان قبل بدو الصلاح فإنهم بنوا الحكم هنا
فيها على جواز نقلها بالبيع في هذه الحال ، وقد تقدم الكلام في ذلك في الفصل
الثامن في بيع الثمار من كتاب البيع (1) وذكر الخلاف في جواز البيع مطلقا أو
عدم الجواز إلا بأحد أمور ثلاثة ضم ضميمة إليها ، أو شرط القطع ، أو عامين فصاعدا
، ومن ثم ان المحقق هنا اختار القول بالجواز بعد ظهورها ، وقبل بدو صلاحها ، بشرط
القطع ، حيث ان مذهبه في البيع ذلك ، الا أن الواجب عليه كان أن يذكر الضميمة ،
مضافة الى القطع ، والتخيير بينهما كما هو مذهبه ثمة.
ولهذا اعترضه في المسالك بذلك ثم اعتذر عنه بما هو مذكور
هناك ، والعلامة في القواعد صرح بالجواز مطلقا ، فقال : ولو استأجره على العمل
بحصة منها أو بجميعها بعد ظهورها ، والعلم بقدر العمل جاز ، والا فلا.
وأنت خبير بما في الحكم المذكور من الاشكال لعدم الدليل
الواضح في هذا المجال ، والحمل على البيع كما ذكروه محض قياس لا يوافق أصول
الشريعة ، سيما مع ما قدمنا من الإشكال ، في اشتراط القطع في مسئلة البيع.
بقي هنا اشكال آخر أيضا في هذه الصورة على تقدير كون
الأجرة جزء من الحاصل ، فإنه متى قيل بصحة الإجارة هنا بشرط القطع ، والحال أن
الثمرة مشتركة بين العامل والمالك ، فإن الشركة تمنع من التسلط على القطع ، فيتعذر
التسليم لتوقف جواز القطع على اذن الشريك ، ومن ثم قيل : في هذه الصورة بعدم الصحة
، وقيل : بالصحة وهو اختيار المحقق في الشرائع نظرا إلى إمكان
__________________
(1) ج 19 ص 325.
القطع والتسليم بالاذن ، كما في كل
مشترك ولو فرض امتناع الشريك من الاذن يمكن اذن الحاكم الشرعي ، والى هذا القول
مال الشارح أيضا فحكم بأنه الأصح ، أما لو كان الأجرة مجموع الحاصل فإنه لا اشكال
لاندفاع المحذور المذكور ، وكذا لو اكتفى بالضميمة عن اشتراط القطع كما أشرنا إليه
، فإنه يندفع ذلك أيضا ، إلا أنك قد عرفت ما فيه من الاشكال.
وكيف كان فإنه يشترط تعيين العمل المستأجر عليه كما هو
مقتضى قاعدة الإجارة ، واليه يشير قوله في القواعد «والعلم بقدر العمل» والله
العالم.
الثالثة ـ قال الشيخ في المبسوط : إذا قال : ساقيتك على
هذا الحائط بالنصف على أن أساقيك على هذا الأخر بالثلث بطلت ، لأنهما بيعان في
بيعة ، فإنه ما رضي أن يعطيه من هذا النصف الا أن يرضى منه بالثلث من الأخر ،
وهكذا في البيع إذا قال : بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني عبدك بخمس مأة ، فالكل
باطل ، لان قوله : على أن تبيعني عبدك بخمس مأة ، انما هو وعد من صاحب العبد بذلك
، وهو بالخيار بين الوفاء به وبين الترك ، فإذا لم يف به سقط ، وهذا ما رضي أن
يبيعه بألف الا أن يشترى منه العبد بخمس مأة ، فقد نقصه من الثمن لأجله ، فإذا بطل
ذلك رددنا الى الثمن ما نقصناه لأجله ، وذلك المردود مجهول ، والمجهول إذا أضيف
إلى معلوم كان الكل مجهولا ، فلهذا بطل ويفارق هذا إذا قال : ساقيتك على هذين
الحائطين بالنصف من هذا ، والثلث من هذا ، حيث يصح ، لأنه صفقة واحدة وعقد واحد ،
وليس كذلك هيهنا ، لأنهما صفقتان في صفقة ، ألا ترى أنه لو قال : بعتك داري هذه
بألف على أن تبيعني عبدك بمأة بطل الكل ، ولو قال : بعتك داري هذه وعبدي هذا معا
بألف ، الدار بستمأة والعبد بأربعمائة صح ، وكان الفصل بينهما ما مضى ، انتهى.
ورده جملة ممن تأخر عنه كالمحقق والعلامة وغيرهما ممن
تأخر عنهما بما سيأتي ذكره.
وابن الجنيد عكس الحكم الذي ذكره الشيخ فجوز ما منعه
الشيخ ، ومنع ما جوزه ، حيث قال : ولا اختار إيقاع المساقاة صفقة واحدة على قطع
متفرقة ، بعضها أشق عملا من بعض ، الا أن يعقد ذلك على واحدة ، ويشترط في العقد
على العقد الأخرى.
قال في المختلف بعد نقل كلامي الشيخ وابن الجنيد :
والوجه عندي جواز جميع هذه العقود في البيع والمساقاة ، وقد مضى البيع وبينا صحته
، والشيخ أيضا جوزه في موضع من المبسوط ، وهو الحق ولا جهالة هنا.
وقال في المسالك بعد ذكر ملخص كلام الشيخ وكلام ابن
الجنيد : والأقوى صحة الجميع ، ونمنع الجهالة التي ادعاها الشيخ ، لعموم الأمر
بالوفاء بالعقود ، وما يتضمنه من الشرط كالجزء منه ، ووجوب الوفاء بالشرط ، ولو
فرض عدم الوفاء لا يقتضي ذلك رد الناقص من الثمن كما ادعاه ، بل يسلط المشروط له
على الفسخ ، كما في الإخلال بغيره من الشروط.
وأما ابن الجنيد (رحمهالله) فلم يذكر على
ما ادعاه دليلا ، ومقتضى الأصل جواز الأمرين ، معا ، انتهى وهو جيد.
وبالجملة فإن مقتضى الأصول والقواعد الشرعية صحة العقد
المذكور ، مع ما شرط فيه كغيره من العقود المشروطة بشروط سائغة فيصح العقد ويجب
الوفاء بالشرط بمعنى أنه يلزم ذلك لوقوعه في عقد لازم ، فلو لم يف بالشرط تسلط
الأخر على الفسخ على أحد القولين ، أو مع عدم إمكان جبره على القيام بالعقد وما
اشتمل عليه من الشرط كما هو القول الأول فيأثم على هذا القول بالإخلال بذلك كما
تقدم تحقيقه في كتاب البيع ، وأولى منه بالجواز ما منعه ابن الجنيد والله العالم.
الرابعة ـ لو كانت
الأصول لمالكين فساقيا واحدا إما بإيقاع العقد منهما معا أو من أحد هما أصالة
ووكالة ، فلا يخلو إما أن يكون الحصة المشترطة للعامل منهما سواء كالنصف أو الثلث
كان يقول أحدهما : ساقيتك على هذه الأصول أصالة ووكالة
بنصف حاصلها ولا إشكال في الصحة ،
سواء علم العامل بقدر حصة كل منهما أم لم يعلم ، لان حصته معلومة من الجميع ،
والجميع معلوم له أيضا ، فلا يضره الجهل بحصة كل منهما أو تكون متفاوتة ، بأن شرط
له أحدهما النصف ، والأخر الثلث فقال :
ساقيتك من نفسي وعن شريكي على هذه الأصول على أن لك من
حصتي النصف ومن حصة شريكي الثلث ، فلا بد في صحة العقد من علم العامل بحصة كل واحد
، لئلا يتجهل حصته لأنه بمنزلة عقدين فلو ساقاه والحال هذه بطلت المساقاة ، ورجعت
الثمرة إلى المالكين ، وكان للعامل أجرة المثل كما تقدم ذكره.
قال في المسالك بعد البحث في المقام : ولا فرق على تقدير
العلم بحق كل واحد بين الاثنين والزائد عليهما ، فلو كان بستانا واحدا بين ثلاثة
بالسوية فساقوا عليه واحدا يعلم بقدر النصيب على أن له من نصيب واحد النصف ، ومن
نصيب الثاني الربع ، ومن نصيب الثالث الثمن ، صح ، وتصح مسألتهم من أربعة وعشرين
مخرج السهام في عدد الشركاء ، لكل واحد منهم ثمانية ، فللعامل من حصة الأول أربع ،
ومن الثاني اثنان ، ومن الثالث واحد ، والباقي لهم على التفاوت المقرر ، ولو كانت
البستان لستة ملاك بالسوية وساقوا عليه على أن له من نصيب واحد النصف ، ومن نصيب
الثاني الربع ، ومن الثالث الثمن ، ومن الرابع الثلثين ومن الخامس الثلث ، ومن
السادس السدس ، صح وتصح مسألتهم من مائة وأربعة وأربعين لكل واحد منهم أربعة
وعشرون فيأخذ العامل ممن شرط له النصف اثنتي عشر ، ومن الثاني ستة ، ومن الثالث
ثلاثة ، ومن الرابع ستة عشر ، ومن الخامس ثمانية ، ومن السادس أربعة ، فيجتمع له
تسعة وأربعون ، وللمالك خمس وسبعون يتفاوتون فيها على ما تقرر ، وطريق بلوغها ذلك
أن مخارج الثلاثة الأولى متداخلة يكفي فيها مخرج الثمن ومخارج الثلاثة الأخيرة
متداخلة يكفي فيها مخرج السدس ، فتبقى ستة وثمانون ، وبينهما موافقة بالنصف تضرب
نصف أحدهما في الأخر ثم تضرب المرتفع ، وهو أربعة وعشرون في عدد الشركاء ، وقس على
هذا ما شئت من فروض المسئلة ذكرنا
منها هذا القدر للتدرب ، انتهى.
الخامسة ـ إذا هرب
العامل بعد العمل ، وقبل إتمامه قالوا : انه لا يصح للمالك الفسخ بمجرد ذلك ، لان
المساقاة من العقود اللازمة لا تنفسخ بمجرد هرب العامل ولا يتسلط المالك على فسخها
فيستصحب اللزوم حتى يثبت الفسخ كما لو امتنع عن العمل مع حضوره ، بل للمالك أن
يطلبه ويجبره على العمل فان أبى مع حضوره أو تعذر طلبه مع هربه فان حصل من يقوم
بالعمل تبرعا ولو كان المالك بنفسه ، والا رفع الأمر إلى الحاكم فيطلبه ويجبره ،
فان تعذر أخذ من ماله واستأجر عنه ، لإتمام العمل ، لانه مستحق عليه ، فان لم يكن
له مال يستأجر بالدين عليه الى وقت الحاصل أو يستأجر من بيت المال قرضا عليه ، ولو
تعذر جميع ذلك اما لعدم الحاكم ، أو لعدم من يعمل له أو لعدم بسط يده ، أو لعدم
إمكان إثبات الحق عنده ، تخير المالك بين فسخ المساقاة دفعا للضرر ، وبين إبقائها.
أقول : حيث كان الحكم المذكور غير منصوص لا بالعموم ولا
الخصوص فللمناقشة فيما ذكروه مجال ، وللقائل فيه مقال ، فإنه يمكن أن يتطرق اليه
الاحتمال بأن يقال : لو كان العقد يقتضي كون العمل من العامل خاصة أو أنه لا يوجب
العمل المشترط من غيره ، فينبغي جواز الفسخ للمالك ، للزوم الحرج والضرر لو لم يجز
له ذلك ، وان وجد باذل متبرع أو حاكم يعين من يقوم بالعمل فهو ظاهر بل يمكن القول
بجواز الفسخ له مع الإطلاق أيضا ، خصوصا مع عدم الباذل ، وما ذكروه من التكلفات
بالرجوع الى الحاكم وما أوجبوه على الحاكم كله منفي بالأصل ويؤيده أن حقه ثابت في
ذمة العامل ، فله أن لا يقبل من غيره ، ولا يجب عليه تحصيله من غيره وان أمكنه ،
ولأن الحصة انما جعلت له بشرط العمل فإذا امتنع عنه سقط حقه كما قالوا في البيع من
أن لأحد المتبايعين الامتناع من حق الأخر على تقدير امتناع ذلك الأخر ، وكذا
الإجارة.
ويعضده أيضا أن شرط العمل هنا ليس بأقل من الشروط
المذكورة في
العقود ، وهم قد صرحوا بأن فائدة
الشرط على تقدير عدم الإتيان به ممن شرط عليه تسلط الأخر على الفسخ.
وبالجملة فإن ما ذكروه من الحكم الذي قدمنا نقله عنهم لا
يخلو من شوب الاشكال لما عرفت ، ثم انهم قالوا في صورة تخير المالك بين الفسخ
وإبقاء العقد مع تعذر العمل ـ على الوجه المتقدم تفصيله في كلامهم ـ : انه ان فسخ
المالك صارت الثمرة له ، وعليه أجرة المثل لذلك العمل الذي عمله العامل قبل هربه ،
لانه عمل محترم صدر باذن المالك في مقابلة عوض ، وقد فات العوض بالفسخ ، فيجب
قيمته وهو المراد من أجرة المثل.
لكن انما يفسخ إذا كان ذلك قبل ظهور الثمرة ، أو بعده
إذا لم يمكن بيعها أو بعضها للإنفاق على العمل ان لم يف به ، والا باعها أو بعضها
ان أمكن الاجتزاء به ، والا فسخ لزوال الضرر ، ولو لم يوجد راغب في البعض مع
الاكتفاء به في العمل باع الجميع ، وحفظ الباقي للعامل ، وان لم يفسخ ـ واختار
البقاء على العقد والحال على ما عرفت فقد اختلف كلامهم هنا ، فقيل : ان له أن
يستأجر على بقية العمل ، ويشهد على ذلك ، ويرجع به على العامل ، ولو لم يشهد لم
يرجع سواء أمكنه الاشهاد أم لم يمكن ، لأن الإشهاد شرط في جواز الرجوع ، كإذن
الحاكم فينتفى بدونه.
وظاهر المحقق الأردبيلي أنه يرجع أيضا في صورة تعذر
الاشهاد دفعا للضرر ، وللزوم العقد ، وحمل الإطلاق في كلام من قال بهذا القول على
التقييد بالإمكان ، والمحقق في الشرائع قد جزم هنا بأنه لو لم يشهد لم يرجع ،
وتردد في الرجوع مع الاشهاد ، فقال : ولو لم يفسخ وتعذر الوصول الى الحاكم كان له
أن يشهد انه استأجر عنه ، ويرجع عليه على تردد ، ولو لم يشهد لم يرجع.
قال في المسالك : في توجيه التردد : من لزوم الضرر بدون
ذلك ، وهو منفي بالآية والرواية ، ومن أصالة عدم التسلط على مال الغير ، وثبوت شيء
في ذمته بغير أمره أو من يقوم مقامه.
أقول : يمكن الجواب بأن الضرر انما نشأ من اختياره عدم
الفسخ ، والا فإنه يمكنه إسقاطه بالفسخ ، لتسلطه على ذلك.
وقيل : انه يرجع مع تعذر الاشهاد لا مع إمكانه ، كما في
اذن الحاكم دفعا للحرج والضرر ، وهذا القول لا أعرف له وجها ظاهرا وقيل : انه يرجع
مع الإنفاق بنية الرجوع مطلقا أشهد له أم لم يشهد ، واليه مال في المسالك ، قال : وهو
الأقوى إذ لا مدخل لشهادة الشاهدين في التسلط على مال الغير وإثبات شيء في ذمته ،
ولا ولاية لهما على العامل ، وانما فائدتهما التمكن من إثبات الحق ، وهو أمر آخر
والمقتضى لعدم الرجوع هو نية التبرع أو عدم نية الرجوع ، ولأصالة عدم الاشتراط ،
فعلى هذا يثبت حقه في ذمته في ما بينه وبين الله تعالى ، ويحتمل قويا قبول قوله
بيمينه ، لأن الأصل أن الإنسان لا يتبرع بعمل يحصل به غرامة عن الغير ، انتهى.
وهو جيد بالنسبة إلى تعليلات باقي الأقوال المذكورة هنا
، لكن قد عرفت ما في المسئلة من الاشكال لعدم الدليل الواضح القاطع لمادة القيل
والقال ، مع ما قدمنا ذكره من الاحتمال ، ثم انه على أى من هذه الأقوال متى تحقق
الرجوع على العامل فإنه إن أمكن الأخذ منه ، والا أخذ من الحصة التي له ، فان زادت
على ذلك رد عليه ، وان نقصت كان الباقي دينا عليه يتبع به ، والله العالم.
السادسة :قيل : إذا
ادعى المالك أن العامل خان أو سرق أو أتلف أو فرط فتلف وأنكر فالقول قوله مع يمينه
، وبتقدير ثبوت الخيانة هل يرفع يده أو يستأجر من يكون معه من أصل الثمرة ، الوجه
أن يده لا ترفع عن حصته من الربح ، وللمالك رفع يده عما عداه ، ولو ضم المالك إليه
أمينا كانت أجرته على المالك خاصة.
أقول : الكلام هنا يقع في مواضع ثلاثة : أحدها ـ أن ما
ذكره من أن القول
قول العامل بيمينه هو مقتضى القواعد
الشرعية ، لأنه في الحقيقة بالنسبة إلى حصة المالك أمين ، كعامل القراض ، والأصل
عدم ما ادعاه المالك ، فيكون القول قول المنكر بيمينه.
قال العلامة في التذكرة انما تسمع دعوى المالك في ذلك
كله إذا حرر الدعوى وبين قدر ما خان فحينئذ يقبل قول العامل بيمينه ان لم يكن بينة
، واعترضه في المسالك بأن هذا الكلام منه بناء على أن الدعوى المجهولة لا تسمع ،
مع أن مذهبه في باب القضاء سماع الدعوى المجهولة.
ثم قال : فلو قلنا بسماعها كما هو الأقوى كفى في توجه
الدعوى مجرد دعوى أحد هذه الأمور من غير احتياج الى بيان القدر ، وهذه قاعدة
ببابها أليق ، فلا وجه لتخصيص البحث فيها بهذه الدعوى ، انتهى.
وثانيها ما ذكره من الوجه الجامع بين عدم رفع يده
بالكلية ، وبين تصرفه في الجميع ، كالحال الأولى فإنه جيد ، ومرجعه الى تصرفه في
حصته خاصة ، ولكن لما كانت الحصة شائعة ومشتركة والتصرف فيها مستلزم للتصرف في مال
المالك ، فإنه يضم إليها المالك أمينا من جهته ، وكان الوجه في رفع يده بالكلية ،
هو ما ذكرنا من أن إثبات يده على حصة يستدعي إثباتها على حصة المالك من حيث
الاشتراك ، وعدم التمييز ، وإثبات يده على حصة المالك غير جائز ، بل الواجب رفع
يده عنها ، ولا يتم ذلك الا برفع يده عن حصته ، وما لا يتم الواجب الا به فهو واجب
، فيجب عليه رفع يده عن حصته من باب مقدمة الواجب.
ورد مع ـ ظهور مخالفته للقواعد الشرعية و «أن الناس مسلطون على أموالهم» (1) ـ بأن اللازم
منه ترجيح أحد الحقين بلا مرجح ، وأنه يمكن دفع ذلك بضم المالك للعامل أمينا من
جهته.
وثالثها ما ذكره من أن أجرة النائب على المالك خاصة ،
والوجه فيه ظاهر ،
__________________
(1) البحار ج 2 ص 272.
لأنه قائم مقامه في حفظ ماله ، وعمله
لمصلحته.
وخالف فيه بعض العامة فجعلها على العامل ، لأن مؤنة
الحفظ عليه ، وفيه أن العامل انما يجب عليه العمل ، وهو باذل له ، وخيانته لا ترفع
ذلك ، ولا يجوز أن يجعل الأجرة من الأصل ، لأن في ذلك حق العامل ، فلا يصح بدون
اذنه ، والله العالم.
السابعة ـ لا خلاف في
أنه لو ظهرت الأصول المساقى عليها مستحقة للغير ، بطلت المساقاة كما صرحوا به ،
الا أنه يجب تقييده بناء على قولهم بصحة العقد الفضولي بعدم اجازة المالك ، لان
الغاصب عندهم ـ داخل في الفضولي كما قدمنا نقله عنهم في كتاب البيع ، (1) بل صرح به في
المسالك هنا أيضا (فقال : ان المساقى الغاصب ـ لا يقصر عن كونه فضوليا ، فينبغي
تقييده بما إذا لم يجز المالك المساقاة ، ثم اعترض على نفسه ، فقال : لا يقال : ان
مثل ذلك لا يتصور فيه إجازة المساقاة مع وقوع العمل له بغير عوض ، فكيف ترضى بدفع
العوض ، وهو الحصة مع ثبوتها له مجانا ، ثم أجاب بأن هذا الاستبعاد انما يتم لو
كان الظهور بعد تمام العمل ، والمسئلة مفروضة في ما هو أعم ، فيمكن أن يبقى من
العمل ما يؤثر المستحق منه دفع الحصة في مقابلة الباقي ، لأن الأغراض لا تنضبط ،
انتهى وهو جيد لو قلنا بصحة الفضولي.
ثم انه مع الحكم ببطلان المساقاة فإن الثمرة تكون لمستحق
الأصل ، لأنها نماء ملكه ، ولم يحصل الانتقال منه لا في الكل ولا في البعض ،
وللعامل الأجرة على من ساقاه ، لانه استعمله بعوض لم يسلم له ، فيجب عليه دفع أجرة
المثل ، كما تقدم ذكره من أن كل موضع تبطل المساقاة فالواجب أجرة المثل ، ويجيء
على القول الأخر أقل الأمرين كما تقدم أيضا.
هذا كله مع جهل العامل كما هو مقتضى عنوان المسئلة وسياق
الكلام ،
__________________
(1) ج 18 ص 381.
والا فلو كان عالما بالغصب لم يرجع
على المساقي بشيء ، ولو هلكت الثمرة كملا أو سرقت فلا شيء للعامل والفرق بين
هلاكها وسرقها وبين استحقاق الغير لها الموجب لاجرة المثل أن ظهور استحقاقها موجب
لبطلان العقد وبطلان العقد موجب لاجرة المثل كما عرفت ، وأما في صورة هلاكها
وسرقها فان العقد صحيح ، والعامل شريك المالك بالحصة المقررة له ، فإذا تلف ذلك
كان على الجميع.
ولو كان ظهور استحقاق الأصول بعد ظهور الثمرة فهيهنا
صورتان : الاولى ـ أن يكون الثمرة باقية ، ولا إشكال في وجوب ردها على المالك كما
تقدم ، الثانية : ـ أن يتلف الثمرة بعد اقتسامها بين المساقى والعامل ، فقيل :
بأنه يرجع المالك على كل منهما بما قبضه وأتلفه ، وهو المنقول عن الشيخ في المبسوط
، وقيل : بأن له مع ذلك الرجوع بالجميع على الغاصب ، فيتخير بين الأمرين ، وهو
اختيار المحقق في الشرائع ، وقيل : له مع ذلك الرجوع على العامل بالجميع ، فيتخير
بين الأمور الثلاثة ، وهو اختياره في المسالك ، وهذا هو الموافق لقواعدهم في الغصب
، من أن كل من وقع يده على المغصوب وتصرف فيه فللمالك الرجوع عليه.
قال في الشرائع : ولو اقتسما الثمرة ، وتلف كان للمالك
الرجوع على الغاصب بدرك الجميع ، ويرجع الغاصب على العامل بما حصل له ، وللعامل
على الغاصب أجرة عمله ، أو يرجع على كل واحد منهما بما حصل له ، وقيل : له الرجوع
على العامل بالجميع ان شاء ، لان يده عارية والأول أشبه ، الا أن يكون العامل
عالما به.
وقال في المختلف : إذا ظهر النخل مستحقا بعد أن اقتسما
الثمرة وأتلفاها رجع المالك على العامل بنصف الثمرة ، لا جميعها ، قاله الشيخ في
المبسوط ، لانه ما قبض الثمرة كلها ، وانما كان مراعيا لها حافظا نائبا عن الغاصب
، فعلى هذا لو تلفت كلها بغير تفريط فلا ضمان عليه ، والأقرب أن عليه الضمان في
الموضعين للجميع ويرجع على الغاصب ، لانه غار ، انتهى وهو ظاهر في اختياره جواز
الرجوع على
العامل بالجميع كما اختاره في
المسالك.
إذا عرفت ذلك فحجة القول الأول اشتغال ذمة كل منهما بمال
المالك ، فيرجع على كل منهما بما أتلفه ، وعدم رجوعه بالجميع على العامل لما علله
به في المختلف ، وأما حجة القول الثاني فبالنسبة إلى الرجوع عليهما ما عرفت ، وأما
الرجوع على الغاصب بالجميع ، فلانه الأصل في تلف الجميع من حيث تصرفه بالأخذ منه ،
وإعطاء العامل منه ، وأما عدم رجوعه بالجميع على العامل فلما عرفت من التعليل
المذكور في المختلف.
وحجة القول الثالث ما تقدمت الإشارة اليه ، وسيأتي بيانه
ـ ان شاء الله تعالى ـ في كتاب الغصب وملخصه تخير المالك في الرجوع على كل منهما
بالجميع وبالبعض ، لان كلا منهما ضامن لجميع الثمرة ، بوضع يده عليها ، وقوله في
تعليل نفى ضمان الجميع عن العامل أنه انما كان راعيا حافظا نائبا عن الغاصب لا
يمنع كون يده على الثمرة ، وان كان بطريق النيابة ، والسبب الموجب للضمان هو ذلك.
وعلى هذا فان رجع المالك على الغاصب بالجميع رجع الغاصب
على العامل بالحصة التي قبضها وأتلفها ، لعدم استحقاقه لها بعد ظهور فساد العقد ،
ورجع العامل على الغاصب بأجرة المثل مع جهله ، وان رجع بالجميع على العامل رجع العامل
على الغاصب بما استهلكه من الثمرة ، وبأجرة مثله مع جهله ، ومع علمه لا يرجع
بالأجرة ، وانما يرجع بحصة الغاصب خاصة ، ولو رجع على كل منهما بما قبضه ، فليس
لأحدهما الرجوع على الأخر بشيء من الثمرة ، نعم يرجع العامل على الغاصب بأجرة
المثل مع الجهل كما عرفت.
بقي هنا صورتان آخران أيضا : وهو أن يتلف الجميع في يد
العامل ، أو يتلف الجميع في يد الغاصب ، قالوا في الاولى : انه لا ريب في رجوعه
على العامل بحصة ، وكذا يرجع عليه بحصة الغاصب ، لانه وان كان يده عليها يد أمانة
بالنظر الى ظاهر الأمر أو لا حيث أنه أمين من جهة المساقى ، الا أنه بعد ظهور
الغصب فإنه يرجع على الغاصب بما أخذه
من المالك ، لانه غيره ، فيرجع عليه ، لغروره له ، وفي الثانية يترتب على كون يد
الغاصب يد أمانة أو يد ضمان؟ فيترتب على كل منهما مقتضاه كما سيأتي ـ إنشاء الله ـ
تحقيقه في كتاب الغصب.
الثامنة ـ الخراج في
الأرض الخراجية ، وهي المفتوحة عنوة على المالك لأنه بمنزلة الأجرة ، بل هو أجرة
الأرض مع خلوها عن الشجر ، وقد يوضع على الشجر المغروس فيها بواسطة الأرض ، لأن حق
المسلمين انما هو في الأرض لا في الشجر ، حيث انه مال المالك الذي غرسه ، الا أن
يكون فيها وقت الفتح ، فإنه للمسلمين أيضا ، وبالجملة فإن الأرض والأشجار لما كانت
ملكا للمالك فجميع ما عليها وما يحتاجان اليه يلحق بالمالك ، ومنه الخراج ، الا أن
يشترط على العامل ، أو يشترط كونه بينهما معا ، وحينئذ فلا بد من علمهما بقدره ،
ليصح اشتراطه في العقد اللازم ، ولا يتجهل لجهل العوض ، ولو زاد السلطان بعد ذلك
فهو على المالك ، ولا يدخل في الشرط كما تقدم نظيره في المزارعة.
التاسعة ـ قالوا : ليس
للعامل أن يساقى غيره ، أما إذا شرط في متن العقد العمل على العامل بنفسه فظاهر ،
لوجوب الوفاء بالشرط ، وبطلان المشروط بالإخلال بالشرط ، وأما مع الإطلاق بأن يكون
العمل في الذمة فإنهم عللوا المنع بأن المساقاة انما تصح على أصل مملوك للمساقي
والعامل لا يملك الأصول وانما يملك الحصة من الثمرة بعد ظهورها ، كما تقدم في
تعريفها ، وظهر من أحكامها.
وتوضيحه أن في المساقاة تسليطا على أصول الغير ، وعملها
والناس يختلفون في ذلك اختلافا زائدا ، فليس لمن رضى المالك بعمله وأمانته أن يولى
من لم يرضه المالك لذلك ، وهذا بخلاف المزارعة كما تقدم ذكره في المطلب الأول من
أنها لما كانت من العقود اللازمة الموجبة لنقل المنفعة إلى العامل بالحصة المعينة
كان للعامل نقلها الى غيره ، لعموم «الناس مسلطون على أموالهم» (1). ولا يتوقف
ذلك
__________________
(1) البحار ج 2 ص 272.
على اذن المالك ، إذ لا حق له في
المنفعة.
نعم تسليم الأرض يتوقف على اذنه الا أن هذا انما يتم
فيما إذا كان البذر من العامل ، أما لو كان من صاحب الأرض فالأصل أن لا يتسلط عليه
الا مالكه ، أو من أذن له وهو الزارع.
وظاهر المحقق الأردبيلي جواز مساقاة الغير هنا ، لعموم
الأدلة ، وعدم المانع إذا فهم الاذن من المالك ، فإنه لا فرق بينها وبين المزارعة.
ويظهر من المسالك الجواز فيما لو ظهرت الثمرة ، وبقي بسببها
عمل يحصل بسببه الزيادة فيها ، فان المساقات حينئذ جائزة ، والعامل يصير شريكا ،
الى آخر كلامه.
وكيف كان فالمسئلة عندي محل توقف واشكال ، لخلوها من
النص القاطع لمادة القيل والقال ، وقد تقدم في مسئلة جواز مزارعة الزارع لغيره ما
هو من هذا القبيل والله الهادي إلى سواء السبيل.
العاشرة ـ لا خلاف
بينهم في أن الفائدة تملك بالظهور ، وأسنده في التذكرة إلى علمائنا ، مؤذنا بدعوى
الإجماع عليه ، وفي المسالك لا نعلم فيه خلافا ، والخلاف فيه من بعض العامة ، حيث
جعل ملك العامل موقوفا على القسمة.
والوجه في القول المشهور ـ زيادة على الإجماع المذكور ـ أن
العقد قد اقتضى كون الثمرة بينهما ، لاشتراط ذلك فيه ، وصحة العقد والشرط تقتضي
ثبوت مقتضاهما ، كغيره من الشروط الصحيحة ، فمتى تحققت وظهرت دخلت في ملكها ،
ويتفرع على ذلك وجوب الزكاة على من بلغ نصيبه منها نصاب الزكاة ، لتحقق شرط وجوب
الزكاة ، وهو ملك الثمرة قبل تحقق الوجوب ونموها في ملكه.
ونقل الخلاف هنا عن السيد بن زهرة ، فإنه أوجب الزكاة
على من كان منه البذر ، مستندا الى أن الحصة كالأجرة ، قال ـ على ما نقله عنه في
المختلف ـ : لا زكاة على العامل ، لأنه أخذ حصته أجرة.
أقول : وبذلك قال أيضا في المزارعة ، حيث قال : كل من
كان البذر منه وجبت الزكاة عليه دون الأخر ، لأن ما يأخذه كالأجرة.
وقال ابن إدريس في كتاب المزارعة من كتاب السرائر : فأما
الزكاة فإن بلغ نصيب كل واحد منهم ما يجب فيه الزكاة وجب عليه ، لانه شريك مالك ،
سواء كان البذر منه أو لم يكن ، وليس ما يأخذه المزارع الذي منه العمل دون البذر
أجرة ، ولا كالأجرة.
وقال بعض أصحابنا المتأخرين في تصنيف له : كل من كان
البذر منه وجب عليه الزكاة ، ولا تجب الزكاة على من لا يكون البذر منه ، قال : لان
ما يأخذه كالأجرة ، والقائل بهذا القول العلوي أبو المكارم بن زهرة الحلبي ،
شاهدته ورأيته وكاتبته وكاتبني ، وعرفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ ، فاعتذره
بأعذار غير واضحة ، وأبان بها أنه ثقل الرد عليه ، ولعمري ان الحق ثقيل كله ، ومن
جملة معاذيره ومعارضاته لي في جوابه أن المزارع مثل الغاصب للحب ، إذا زرعه ، فإن
الزكاة تجب على رب الحب ، دون الغاصب ، وهذا من أقبح المعارضات وأعجب الشبهات ،
وانما كانت مشورتي عليه أن يطالع تصنيفه وينظر في المسئلة ويغيرها قبل موته ، لئلا
يستدرك عليه مستدرك بعد موته ، فيكون هو المستدرك على نفسه ، فعلت ذلك في علم الله
شفقة وسترة عليه ونصيحة له ، لان هذا خلاف مذهب أهل البيت (عليهمالسلام) ، وشيخنا (رحمة
الله عليه) قد حقق المسئلة في مواضع عدة (عديدة) من كتبه ، وقال : الثمرة والزرع
نماء على ملكهما ، فيجب على كل واحد منهما الزكاة إذا بلغ نصيبه مقدار ما يجب فيه
ذلك ، وانما السيد أبو المكارم نظر الى ما ذكره شيخنا من مذهب أبي حنيفة في مبسوطه
، فظن أنه مذهبنا ، فنقله في كتابه على غير بصيرة ولا تحقيق ، وعرفته أن ذلك مذهب
أبي حنيفة ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطه ، لما شرح أحكام المزارعة ، ثم عقب
بمذهبنا
وأومأت إلى المواضع التي حققها شيخنا
في كتاب القراض وغيره فما رجع وما غيرها في كتبه ، ومات (رحمهالله) وهو على ما
قاله نسئل الله له بالغفران وحشره مع آبائه في الجنان ، انتهى. كلامه.
وقال العلامة في المختلف بعد نقل ملخص هذا الكلام عن ابن
إدريس : وقول ابن إدريس وان كان جيدا مستفادا من الشيخ أبى جعفر الا أن قول ابن
زهرة ليس بذلك البعد من الصواب.
أقول : الظاهر أن الحامل لشيخنا العلامة (رحمهالله عليه) لنفى
البعد عن هذا القول انما هو التحامل على ابن إدريس ، والا فهو في البعد من الصواب
أظهر من أن يخفى على سائر ذوي الألباب.
قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ـ بعد نقل القول
المذكور ونعم ما قال ـ : وضعفه ظاهر ، لأن الحصة قد ملكت هنا بعقد المعاوضة ، في
وقت يصلح لتعلق الزكاة بها ، لا بطريق الأجرة ، ثم لو سلم كونها كالأجرة فمطلق
الأجرة لا تمنع من وجوب الزكاة ، بل إذا تعلق الملك بها بعد الوجوب ، إذ لو استأجره
بزرع قبل بدو صلاحه ، أو آجره المالك الأرض بالزرع كذلك ، لوجبت الزكاة على مالك
الأجرة ، كما لو اشترى الزرع كذلك.
نعم لو كان يذهب الى أن الحصة لا يملكها من لا بذر له
بالظهور ، بل بعد بدو صلاحها ونحوه أمكن ترتب الحكم عليه ، لكنه خلاف إجماع
الأصحاب ، ومع ذلك لا يتم تعليله بالأجرة ، بل بتأخر ملكه عن الوجوب ، ثم نقل كلام
ابن إدريس ، وأنه كاتبه الى حلب ، ونبهه على فساد قوله ولم يقبل ، وأنه مات على ما
قاله ، ثم نقل كلام العلامة في المختلف ، وأن هذا القول ليس بذلك البعد من الصواب
، ثم قال : وهو خلاف الظاهر ، والظاهر أن الحامل له على ذلك كثرة تشنيع ابن إدريس
عليه ، انتهى.
تذنيب :
أجمع أصحابنا على بطلان المغارسة ، وبه قال أكثر العامة
أيضا وهي عبارة عن أن يدفع أحد أرضا إلى غيره ليغرسها على أن يكون الغرس بينهما
معا ، ومستند الأصحاب في البطلان هو عدم ورود نص بجوازها ، لان المعاوضات موقوفة
على اذن الشارع ، وحيث لم يرد فيها كغيرها من العقود المشهورة اذن ، لا جرم وجب
الحكم ببطلانها.
وتنظر فيه المحقق الأردبيلي (رحمهالله عليه) وتبعه
الفاضل الخراساني في الكفاية ، بأنه يمكن استفادة ذلك من بعض العمومات ، فإنه لو
لا الإجماع المدعى لأمكن القول بصحة ذلك ، قالوا : ولا فرق بين أن يكون المغروس من
مالك الأرض ، أو من العامل ، ولا بين أن يشترط العامل جزء من الأرض مع حصة من
الغرس ، وعدمه ، وحيث ثبت بطلان المعاملة المذكورة ، فالغرس لصاحبه ، الا أنه ان
كان صاحبه هو صاحب الأرض ، فعليه للعامل أجرة مثل عمله ، لانه لم يعمل مجانا بل
بحصة لم تسلم له ، وان كان صاحبه هو العامل ، فعليه لصاحب الأرض أجرة المثل ، عوضا
عن مدة شغله لها ، ولصاحب الأرض قلعه ، لبطلان المعاملة ، وأنه غير مستحق للبقاء
فيها ، لكن بالأرش حيث أنه صدر عن اذنه ، فليس بعرق ظالم ، وظاهر كلامهم أنه لا
فرق في ذلك بين العالم بالبطلان ، والجاهل به.
وأنت خبير بأنه لا يبعد الفرق بين الحالين وتخصيص الحكم
المذكور بحال الجهل ، وأما مع العلم فإنه لا أجرة للعامل فيما إذا كان الغرس لصاحب
الأرض ، ولا لصاحب الأرض فيما إذا كان الغرس للعامل ، ولا أرش لصاحب الغرس مع علمه
، لأن الأول مع علمه ببطلان العقد وأنه لا يستحق الحصة في مقابلة عمله يكون متبرعا
بالعمل حينئذ ، ومقتضى تعليل وجوب الأجرة بأنه انما عمل لأجل الحصة ولم
تسلم له فوجب له الأجرة لا يجري إلا
في صورة الجهل ، كما هو ظاهر.
والثاني قد أذن للعامل في التصرف في أرضه بالحصة مع علمه
بعدم استحقاقها ، فيكون في معنى الاذن بغير عوض ، فكيف يستحق عليه أجرة والحال
هذه.
والثالث فمن حيث ظلمه بالغرس مع علمه بعدم استحقاقه ،
وفي هذا نظر ، فإنه إنما غرس بالاذن كما هو المفروض أولا فعرقه ليس بظالم ، فيكون
مستحقا للأرش.
بقي الكلام في المعنى المراد من الأرش هنا ، قال في
المسالك : والمراد بالأرش هنا تفاوت ما بين قيمته في حالتيه ، على الوضع الذي هو
عليه ، وهو كونه حال غرسه باقيا بأجرة ، أو مستحقا للقلع بالأرش ، وكونه مقلوعا
لان ذلك هو المعقول من أرش النقصان ، لا تفاوت ما بين قيمته قائما مطلقا ، أو
مقلوعا ، إذ لا حق له في القيام كذلك ليقوم بتلك الحالة ، ولا تفاوت ما بين كونه
قائما بأجرة ومقلوعا لما ذكرنا ، فان استحقاقه للقلع بالأرش من جملة أوصافه ، ولا
تفاوت ما بين كونه قائما مستحقا للقلع ، ومقلوعا لتخلف بعض أوصافه أيضا كما بيناه
، ولا بين كونه قائما مستحقا للقلع بالأرش ومقلوعا لتخلف وصف القيام بأجرة.
وهذه الوجوه المنفية ذهب الى كل منها بعض ، واختار
الثاني منها الشيخ على (رحمة الله عليه) والأخير فخر الدين فيما ينسب اليه ،
والآخران ذكر هما من لا يعتد بقوله ، ثم قال : ويجب على العامل مع ذلك أرش الأرض
لو نقصت به ، وطم الحفر ، خصوصا لو قلعه بغير أمر المالك ، وقلع العروق المتخلفة
عن المقلوع.
تنبيهان :
الأول : قال في المسالك : لو كان الغرس من مالك الأرض لكن الغارس ركب فيه نوعا آخر كما في شجر التوت ونحوه ، فالمركب للغارس ان كان أصله ملكه ، وكذا نماؤه مدة بقائه ، وعليه مع أجرة الأرش أجرة أصول الغرس أيضا ، وللمالك ازالة المركب مع الأرش كما مر ، انتهى.