ج1 - المقدمة التاسعة في المشتق
المقدمة التاسعة
اختلف كلام الأصوليين من أصحابنا (رضوان الله عليهم)
وغيرهم في ان صدق المشتق على ذات حقيقة ، هل يشترط فيه بقاء مأخذ الاشتقاق فبعد
قيام المبدأ بالذات وانقضائه يكون مجازا ، أم لا يشترط فيكون حقيقة مطلقا؟ على
أقوال متعددة وآراء متبددة بعد الاتفاق على انه حين القيام حقيقة وقبله مجاز ،
فالضارب ـ لمن هو
__________________
(1) في الصحيفة 82 السطر 4.
(2) سيأتي ـ في قاعدة نفى الحرج وهي القاعدة السابعة مما
تضمنته المقدمة الحادية عشرة من القواعد ـ بيان ما يدل من الآيات والروايات على
نفى العسر والحرج.
مشتغل به الآن ـ حقيقة بلا خلاف ،
ولمن يريد إيقاعه ـ ولما يقع منه ـ مجاز كذلك ، واما من ضرب وهو الآن غير ضارب فهل
هو حقيقة أو مجاز؟ قولان ، إلا انه بسبب الإشكال في تعين محل الخلاف انتشرت
الأقوال واتسع المجال.
فقيل بعدم اشتراط بقاء المأخذ مطلقا فيكون حقيقة. وعليه
كثير من المعتزلة وأكثر الإمامية بل قيل كلهم.
وقيل بالاشتراط مطلقا فيكون مجازا. ونقل عن أكثر
الأشاعرة والفخري في المحصول والبيضاوي في المنهاج ، واليه مال من أصحابنا المحدث
الأمين الأسترآبادي في تعليقاته على شرح المدارك.
وقيل بالتفصيل بأنه ان كان المبدأ مما يمكن بقاؤه
كالقيام والقعود فالمشتق مجاز ، وان كان مما لا يمكن بقاؤه كالمصادر السيالة الغير
القارة نحو التكلم والاخبار فالمشتق حقيقة وان لم يبق المبدأ.
وقيل بالتوقف في المسألة ، لتصادم الأدلة من الطرفين
وتعارض الاحتمالات من الجانبين ، ونقل عن الآمدي والحاجبي.
وقيل بتخصيص محل النزاع بما إذا كان المشتق محكوما به ،
كقولك : زيد مشرك أو قاتل أو متكلم. واما إذا كان محكوما عليه كقوله تعالى : «الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا ... الآية» (1) «وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ...» (2) «فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ.» (3) ونحوه ، فإنه
حقيقة مطلقا سواء كان للحال أم لم يكن. وهو المنقول عن شيخنا الشهيد الثاني في
تمهيد القواعد.
وقيل : انه إذا كان اتصاف الذات بالمبدإ أكثريا بحيث
يكون عدم الاتصاف
__________________
(1) سورة النور. آية 3.
(2) سورة المائدة. آية 38.
(3) سورة التوبة. آية 5.
بالمبدإ في جنب الاتصاف مضمحلا ولم
يكن الذات معرضا عن المبدأ وراغبا عنه سواء كان المشتق محكوما عليه أو محكوما به
وسواء طرأ الضد أم لا ، فالإطلاق حقيقة ، لأنهم يطلقون المشتقات على المعنى
المذكور من دون نصب قرينة ، كالكاتب والخياط والمعلم والمتعلم ونحوها ولو كان
المحل متصفا بالضد الوجودي كالنوم ونحوه. صرح به بعض أصحابنا المحققين من متأخري
المتأخرين.
وقيل بتخصيص محل النزاع بما إذا لم يطرأ على المحل وصف
وجودي ينافي الأول ، إذ لو طرأ من الموجودات ما ينافيه أو يضاده فإنه يكون مجازا
اتفاقا. وهو منقول عن الفخري في المحصول ، نقله عنه في كتاب القواعد ، وأنكر شيخنا
البهائي (رحمهالله) في حواشي
الزبدة نسبة هذا القول الى المحصول ، قال : فانا لم نجده فيه» وشيخنا أبو الحسن (رحمهالله) نقله في
حواشي المدارك عن التبريزي في التنقيح اختصار المحصول ، قال : «وربما كان في
المحصول إشعار به ومن ثم نسبه الاستوى في التمهيد والشهيد الثاني في تمهيده اليه».
انتهى.
وقيل بتخصيص محل النزاع بما قصد به الحدوث من المشتقات
لا الدوام. ونقل ذلك عن المحقق التفتازاني في مقام الجواب عن الاستدلال على عدم
الاشتراط بصدق المؤمن على النائم والغافل ، والمفهوم من كلامه ـ على ما نقله عنه
بعض الأفاضل ـ تقييد محل النزاع بكل من قصد الحدوث وعدم طرو الضد الوجودي ، حيث
قال : «والتحقيق ان النزاع في اسم الفاعل الذي بمعنى الحدوث لا في المؤمن والكافر
والنائم واليقظان والحلو والحامض والحر والعبد ونحو ذلك مما يعتبر في بعضه الاتصاف
به مع عدم طريان المنافي وفي بعضه الاتصاف البتة». انتهى.
والظاهر ان السبب ـ في انتشار هذا الخلاف واتساع دائرة
هذا الاختلاف ـ هو وجود بعض الموارد مما يقطع بتوقف الصدق فيها حقيقة على وجود
المبدأ وما يحذو
حذوه ، كالبارد والحار والهابط
والصاعد والساكن والمتحرك والحلو والحامض والأبيض والأسود والمملوك والموجود
والنائم واليقظان ، وبعض مما يقطع فيها بالصدق حقيقة مع عدمه ، كالمخبر والمتكلم
ونحوهما من المصادر السيالة ، وبعض مما يشكل فيه ذلك مثل المؤمن والكافر ، فإنه لو
اعتبر في صدقهما حقيقة وجود المبدأ لم يصدقا على من كان نائما أو غافلا ، للخلو عن
التصديق والإنكار الذين هما مناط الايمان والكفر مع ان الاتفاق قائم على الصدق في
الحالين المذكورين ، ولو اعتبر العدم ، صدق المؤمن على من كان كافرا الآن لو كان
مؤمنا سابقا ، والكافر على من كان بالعكس ، ونحو ذلك من الأمثلة المندرجة تحت تلك
الأقسام. ومن أجل ذلك اختلفت أفهامهم وتصادمت أوهامهم وطال نقضهم وإبرامهم ، وزيف
كل ما اختاره بأدلة لا تسلم من المناقشة والإيراد ، وأجاب كل منهم عن أدلة الآخر
بما لا يكاد يفي بالمراد ، ومن ثم توقف من توقف من أولئك الأقوام وأحجم عن الدخول
والاقدام.
والحق ان البناء لما كان على غير أساس كثر الشك فيه
والالتباس ، والأدلة العقلية لا تكاد تقف في مقام ، بل لا تزال قابلة للنقض
والإبرام ، لاختلاف العقول في الاستعداد قوة وضعفا وصفاء الأذهان والافهام ، كما
لا يخفى على من خاض لجج بحور علم المعقول ورأى ثمة تصادم الافهام والعقول.
والأظهر عندي ان بناء الأحكام الشرعية ـ على مثل هذه
القواعد الغير المنضبطة والأصول الغير المرتبطة ـ مما لم يقم عليه دليل. بل الدليل
على خلافه واضح النهج والسبيل.
(اما أولا) ـ فلدلالة اخبار أهل الذكر (سلام الله عليهم)
على وجوب البناء في الأحكام الشرعية على العلم واليقين ومع عدمه فالوقوف على جادة
الاحتياط. وقد مر بك شطر منها (1) وقد عرفت ـ من تعدد أقوالهم واختلاف
آرائهم في أصل القاعدة
__________________
(1) كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة في الصحيفة 73 السطر
2 وحسنة بريد الكناسي المتقدمة في الصحيفة 82 السطر 12 ، وغيرهما مما تعرض له في
المقدمة الخامسة.
لاختلاف أفرادها ـ ما يبلغ إلى ثمانية
أقوال.
و (أما ثانيا) ـ فلأن من لاحظ ـ اخبار الخلاء تحت
الأشجار المثمرة والأخبار الواردة في أحكام الحائض ونحوها ـ لا يخفى عليه مدافعتها
لهذه القاعدة.
ومن أراد تحقيق المقام حسبما يرام وظهور ما أجملناه هنا من الكلام فليرجع الى كتابنا الدرر النجفية ، فإنه قد اشتمل على ذلك وأحاط بما هنالك.