ج5 - أحكام النجاسات

المقصد الثاني

في الأحكام

وفيه بحوث (الأول) ـ في بيان ما به يتحقق التنجيس وما يلحق ذلك ويتعلق به وفيه مسائل :

(الأولى) ـ الظاهر ان كل نجاسة عينية فهي مؤثرة في تنجيس ما تلاقيه برطوبة إلا الماء على تفصيل تقدم فيه في باب المياه بين ما ينفعل بمجرد الملاقاة وما لا ينفعل واما مع اليبوسة فلا ، وكل ما حكم بنجاسته شرعا فهو مؤثر للتنجيس في غيره مع الرطوبة أيضا ، وقد وقع الخلاف في كل من الكليتين فهنا مقامان :

(الأول) ـ في بيان الخلاف في الكلية الاولى وهي عدم تعدى النجاسة مع اليبوسة فإنه قد وقع الخلاف في تعدي نجاسة الميتة مع اليبوسة ، فظاهر جملة من الأصحاب التعدي فإن لهم في ذلك أقوالا متعددة ، فقيل بتأثيرها مطلقا قال في المعالم وهو صريح كلام العلامة في النهاية وظاهره في مواضع أخر من كتبه وفي بعض عبارات المحقق اشعار به. أقول : وهو صريح والده في الروض بالنسبة إلى نجاسة الميت من الإنسان حيث قال ـ بعد ذكر خبري الحلبي وإبراهيم الآتيين وكلام في البين ـ ما لفظه : ودلا ايضا على ان نجاسة الميت تتعدى مع رطوبته ويبوسته للحكم بها من غير استفصال ، وقد تقرر في الأصول ان ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يدل على العموم في المقال وإلا لزم الإغراء بالجهل. انتهى. وقيل بعدم تأثيرها بدون الرطوبة مطلقا كغيرها من النجاسات ، قال في المعالم صرح به بعض المتأخرين. أقول : الظاهر انه المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) فإنه صرح بذلك. وقيل بالتفصيل بموافقة الأول في ميتة الآدمي والثاني في ميتة غيره ، اختاره جماعة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في التذكرة والشهيد في الذكرى ، وقيل بموافقة القول الأول في الآدمي مطلقا وموافقة الثاني في إيجاب غسل ما تلاقيه ميتة غير الآدمي لا في نجاسته ، ويظهر ذلك من المنتهى.

وقد تلخص من ذلك بالنسبة إلى ميتة الآدمي ان في نجاسته قولين : (أحدهما) كون نجاسته عينية محضة مطلقا مع الرطوبة أو اليبوسة فعلى هذا ينجس ما يلاقي الميت برطوبة كان أو يبوسة ، وهذا هو المشهور كما عرفت من ذهاب جماعة من فضلاء الأصحاب إليه كالعلامة في النهاية والتذكرة والمنتهى والشهيدين في الروض والذكرى والمحقق كما تقدم نقله عن المعالم وغيرهم. و (ثانيهما) كونها عينية محضة مع الرطوبة خاصة كغيرها من النجاسات واما مع اليبوسة فلا تتعدى نجاستها ، وهو اختيار المحقق الشيخ علي كما عرفت. ثم انه على القول الأول فهل تكون نجاسة الملاقي عينية محضة كسائر النجاسات التي لا تتعدى إلا مع الرطوبة خاصة دون اليبوسة أو انها حكمية لا تتعدى إلى الملاقي لها مطلقا وانما توجب غسل ذلك الذي لاقى بدن الميت خاصة؟ والأول ظاهر الأكثر.


وهو اختيار المحقق الشيخ علي بناء على القول المذكور حيث قال في شرح القواعد بعد البحث في المسألة : «والتحقيق ان نجاسة الميت ان قلنا انها تتعدى ولو مع اليبوسة فنجاسة الماس عينية بالنسبة إلى العضو الذي وقع به المس حكمية بالنسبة الى جميع البدن فلا بد من غسل العضو ثم الغسل ان قلنا انها انما تتعدى مع الرطوبة وهو الأصح فمعها تثبت النجاستان وبدونها تثبت نجاسة واحدة وهي الشاملة لجميع البدن». انتهى. والثاني ظاهر العلامة في المنتهى حيث قال في أحكام ميت الآدمي : «لو مسه رطبا ينجس بنجاسة عينية لما يأتي من ان الميت نجس ولو مسه يابسا فالوجه ان النجاسة حكمية فلو لاقى ببدنه بعد ملاقاته الميت رطبا لم يؤثر في تنجيسه لعدم دليل التنجيس وثبوت الأصل الدال على الطهارة» انتهى. وهو ظاهر ابن إدريس أيضا كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى.

واما بالنسبة الى غير الآدمي من ذوات النفس فقولان أيضا (أحدهما) الاقتصار في تعدي نجاستها على حال الرطوبة فلا تتعدى مع اليبوسة. وهو قول المحقق الشيخ علي والشهيد في الذكرى والعلامة في التذكرة. و (الثاني) التعدي مع اليبوسة أيضا وبه صرح العلامة في المنتهى. ثم انه على تقدير هذا القول فهل تكون نجاسة الملاقي عينية أو حكمية ظاهره في المنتهى الثاني على اشكال ، قال في الكتاب المذكور بعد ذكر ميتة غير الآدمي : لا فرق بين ان يمس الميتة برطوبة أم لا في إيجاب غسل اليد خاصة. ثم قال بعد ذلك بأسطر يسيرة : هل تنجس اليد لو كانت الميتة يابسة؟ فيه نظر ينشأ من كون النجاسات العينية يابسة غير مؤثرة في الملاقي ومن عموم وجوب الغسل وانما يكون مع التنجيس ، وحينئذ تكون نجاستها عينية أو حكمية؟ الأقرب الثاني فلو لامس رطبا قبل غسل يده لم يحكم بنجاسته على اشكال. انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان حجة الأول القول وهو تعدي نجاسة ميت الآدمي مطلقا ما قدمناه من الأخبار في الفصل الخامس في نجاسة الميتة فإنها دالة بإطلاقها على تعدي نجاسته مع الرطوبة كان أو اليبوسة بالتقريب الذي تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني في الروض


وحجة القول الثاني وهو عدم تعديها مع اليبوسة مع الأصل قوله (عليه‌السلام) في موثقة عبد الله بن بكير (1) : «كل شي‌ء يابس ذكي». المؤيد بجملة من الاخبار الدالة على عدم تعدي النجاسة مع اليبوسة والظاهر ان تقييد المطلق أقرب من تخصيص العام وحينئذ فالظاهر حمل إطلاق تلك الاخبار على الملاقاة بالرطوبة من أحدهما ، ومما يستأنس به لذلك قوله (عليه‌السلام) في رواية إبراهيم بن ميمون المتقدمة (2) «ما أصاب ثوبك منه». في الموضعين فان فيه إشارة إلى تعدى رطوبة أو قذر من الميت ، والى هذا القول يميل كلام المفاتيح ، وظاهر المدارك التوقف في الحكم ، وظاهر المعالم ترجيح القول المشهور لحسنة الحلبي (3) وعدم نهوض موثقة ابن بكير بالمعارضة لقصورها من حيث السند ، والمسألة لا تخلو من اشكال والاحتياط فيها مطلوب على كل حال وان كان القول بالطهارة لا يخلو من قوة. واما حجة القول في ميتة غير الآدمي باختصاص التعدي بالرطوبة فلنجاسة الميتة ودلالة الأخبار الكثيرة في مواضع متفرقة على ان ملاقاة النجاسة بالرطوبة موجب لتعديها والحكم مجمع عليه كما تقدم نقله ، وتوقف التعدي مع اليبوسة على الدليل والذي ثبت على تقدير تسليمه مخصوص بميت الإنسان واما غيره فالحكم فيه كسائر النجاسات العينية لا تتعدى نجاستها إلا مع الرطوبة ، ويدل على ذلك أيضا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن الرجل يقع ثوبه على حمار ميت هل تصلح الصلاة فيه قبل ان يغسله. قال ليس عليه غسله وليصل فيه ولا بأس». وحجة القول بالتعدي في نجاسة غير الآدمي مع اليبوسة كما ذكره العلامة في المنتهى على ما نقله بعض الأصحاب مرسلة يونس المتقدمة قريبا في مسألة الخلاف في نجاسة الأرنب والثعلب (5) قيل وتقريب الدلالة في الأمرين واحد وهو ترك الاستفصال عن كون الإصابة والمس برطوبة أو غيرها وهو دليل على تعميم الحكم

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 31 من أحكام الخلوة.

(2 و 3) ص 65.

(4) المروية في الوسائل في الباب 26 من النجاسات.

(5) ص 228.


وانتفاء الفرق. والحق ان الرواية المذكورة بناء على ما حققناه سابقا في الموضع المشار اليه وبينا معارضتها بالأخبار المستفيضة لا تصلح مستندا في المقام.

(تذنيب) ـ يشتمل على فائدتين (الأولى) ـ اعلم ان النجاسة العينية تطلق في كلام الفقهاء على معان وتقابلها الحكمية في كل منها (فأحدها) ان يراد بها ما تتعدى نجاسته مع الرطوبة وهو مطلق الخبث وهو الأكثر دورانا في كلامهم. وتقابلها الحكمية بمعنى ما لا تتعدى بان يكون المحل الذي قامت به معها طاهرا لا ينجس الملاقي له ولو مع الرطوبة ويحتاج زوال حكمها إلى مقارنة النية كنجاسة بدن الجنب والحائض ونحوها المتوقف على الغسل. و (ثانيها) ما إذا كانت عين النجاسة محسوسة مع قبول الطهارة كالدم والغائط والبول قبل جفافه ونحوها ، وتقابلها الحكمية بهذا الاعتبار وهو ما لا يكون له جرم ولا عين يشار إليها كالبول اليابس في الثوب. و (ثالثها) ما يكون عينا غير قابل للتطهير كالكلب والخنزير وتقابلها الحكمية بهذا الاعتبار وهو ما يقبل التطهير كالميت بعد برده وقبل تطهيره بالغسل ، وعلى هذا فتكون نجاسة الميت عينية بالمعنى الأول والثاني حكمية بالمعنى الثالث فهي عينية من جهة وحكمية من جهة ، واما نجاسة الماس له فإنها حكمية بالمعنى الأول برطوبة كان المس أو يبوسة وعينية بالنسبة إلى العضو الذي وقع المس به برطوبة إجماعا ومع اليبوسة يبنى على الخلاف المتقدم.

(الثانية) ـ قد صرح جمع من الأصحاب بأن المعتبر من الرطوبة التي يتوقف تأثير النجاسة عليها ما يتعدى منها شي‌ء إلى الملاقي فاما القليلة البالغة في القلة إلى حد لا يتعدى منها شي‌ء فهي في حكم اليبوسة. وهو جيد ويدل عليه اخبار موت الفأرة في الدهن الجامد ونحوه (1) وانه يؤخذ ما حولها خاصة والباقي طاهر ، والتقريب فيها ان الجمود في الدهن لا يبلغ الى حد اليبس بل الرطوبة فيه في الجملة موجودة كما لا يخفى.

(المقام الثاني) ـ في بيان الخلاف في الكلية الثانية وهي ان كل ما حكم

__________________

(1) رواها في الوسائل في الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرمة ، وقد تقدمت ص 56.


بنجاسته شرعا فهو مؤثر في تنجيس ما يلاقيه برطوبة ، والخلاف هنا وقع من العلامة وابن إدريس والمحدث الكاشاني :

أما العلامة فلما صرح به في المنتهى في نجاسة ميت الآدمي كما قدمنا نقله من انه لو مسه يابسا ولاقى ببدنه بعد ملاقاته للميت رطبا لم يؤثر في تنجيسه لعدم دليل التنجيس وثبوت الأصل الدال على الطهارة. وأنت خبير بما فيه فان النصوص المشار إليها آنفا قد دلت على وجوب غسل الملاقي لبدن الميت مطلقا وما ذاك إلا لنجاسته لأن أكثر النجاسات انما استفيد الحكم بنجاستها من الأمر بغسلها وإزالتها ونحوه مما تقدم ذكره في غير مقام ، ومن حكم النجس تعدي نجاسته لما يلاقيه برطوبة كما هو المستفاد من الاخبار في غير مقام ، ولعله بنى على ان الأمر بالغسل لا يستلزم حصول التنجيس إذ هو أعم من ذلك ، وفيه ما عرفت. ثم العجب من العلامة فيما قدمنا من كلاميه في ميتة الآدمي وميتة غيره في المنتهى حيث جزم بكون النجاسة في الأول في صورة الملاقاة باليبوسة حكمية واستشكل في الثاني في الصورة المذكورة في كونها حكمية أو عينية ، مع انه في ميتة الآدمي لم يتوقف في حصول التنجيس بها بين كون الملاقاة برطوبة أو يبوسة وفي ميتة غير الآدمي توقف في النجاسة مع اليبوسة كما عرفت.

واما ابن إدريس فإنه قال في السرائر بعد الكلام في التغسيل : «ثم ينشفه بثوب نظيف ويغتسل الغاسل فرضا واجبا في الحال أو فيما بعد فان مس مائعا قبل اغتساله وخالطه لا يفسده ولا ينجسه ، وكذلك إذا لاقى جسد الميت من قبل غسله إناء ثم أفرغ في ذلك الإناء قبل غسله مائع فإنه لا ينجس ذلك المائع وان كان الإناء يجب غسله لانه لاقى جسد الميت وليس كذلك المائع الذي حصل فيه لانه لم يلاق جسد الميت ، وحمله على ذلك قياس وتجاوز في الأحكام بغير دليل ، والأصل في الأشياء الطهارة الى ان يقوم دليل قاطع للعذر وان كنا متعبدين يغسل ما لاقى جسد الميت لان هذه نجاسات حكميات وليست عينيات والأحكام الشرعية نثبتها بحسب الأدلة الشرعية ، ولا خلاف ايضا بين الأمة كافة ان المساجد يجب ان تنزه وتجنب النجاسات


العينيات ، وقد أجمعنا بلا خلاف في ذلك بيننا على ان من غسل ميتا له ان يدخل المسجد ويجلس فيه فضلا عن مروره وجوازه ودخوله اليه فلو كان نجس العين لما جاز ذلك وادى الى تناقض الأدلة. وأيضا فإن الماء المستعمل في الطهارة على ضربين ما استعمل في الصغرى والأخر في الكبرى ، فالماء المستعمل في الصغرى لا خلاف بيننا انه طاهر مطهر والماء المستعمل في الطهارة الكبرى الصحيح عند محققي أصحابنا انه ايضا طاهر مطهر ، وخالف فيه من أصحابنا من قال انه طاهر تزال به النجاسات العينيات ولا ترفع به الحكميات ، فقد اتفقوا جميعا على انه طاهر. ومن جملة الأغسال والطهارات الكبرى غسل من غسل ميتا فلو نجس ما يلاقيه من المائعات لما كان الماء الذي قد استعمله في غسله وازالة حدثه طاهرا بالاتفاق والإجماع الذين أشرنا إليهما» انتهى.

واعترضه المحقق في هذا المقام واستوفى الكلام في الرد عليه بما هذا لفظه : فرع ـ إذا وقعت يد الميت بعد برده وقبل تطهيره في مائع فإن ذلك المائع ينجس ولو وقع ذلك المائع في آخر وجب الحكم بنجاسة الثاني ، وخبط بعض المتأخرين فقال إذا لاقى جسد الميت ، ثم ساق كلامه ملخصا ثم قال : والجواب عما ذكره ان نقول لا نسلم أن الإناء ينجس بملاقاة الميت أو اليد الملامسة للميت بعد برده ولو لاقت مائعا لم ينجس. قوله لان الحكم بنجاسة المائع قياس على نجاسة ما لاقى الميت ، قلنا هذا الكلام ركيك لا يصلح دليلا على دعواه بل يصلح جوابا لمن يستدل على نجاسة المائع الملاقي اليد بالقياس على نجاسة اليد الملاقية للمائع ، لكن أحدا لم يستدل بذلك بل نقول لما أجمع الأصحاب على نجاسة اليد الملاقية للميت وأجمعوا على نجاسة المائع إذا وقعت فيه نجاسة لزم من مجموع القولين نجاسة ذلك المائع لا بالقياس على نجاسة اليد ، فاذن ما ذكره لا يصلح دليلا ولا جوابا. قوله لا خلاف ان المساجد يجب ان تجنب النجاسات ولا خلاف ان لمن مس ميتا ان يجلس في المسجد ويستوطنه ، قلنا هذه دعوى عرية عن البرهان ونحن نطالبك بتحقيق الإجماع على هذه الدعوى ونطالبك اين وجدتها؟ فانا لا نوافقك على ذلك بل نمنع


الاستيطان كما نمنع من على جسده نجاسة ويقبح إثبات الدعوى بالمجازفات. قوله الماء المستعمل في الطهارة الكبرى طاهر ، قلنا هذا حق. قوله فيكون ماء المغتسل من ملامسة الميت طاهرا ، قلنا هذا الإطلاق ممنوع وتحقيق هذا ان الملامس للميت تنجس يده نجاسة عينية ويجب عليه الغسل وهو طهارة حكمية فإن اغتسل قبل غسل يده نجس ذلك الماء بملاقاة يده التي لامس بها الميت اما لو غسل يده ثم اغتسل لم يحكم بنجاسة ذلك الماء ، وكذا نقول في جميع الأغسال الحكمية لأن ماء الغسل من الجنابة طاهر وان كان الغسل يجب لخروج المني وينجس موضع خروجه ولو اغتسل قبل غسل موضع الجنابة كان ماء الغسل نجسا بالملاقاة لمخرج النجاسة إجماعا ، وكذلك غسل الحيض يجب عند انقطاع دم الحيض ويكون المخرج نجسا فلو اغتسلت ولما تغسل المخرج كان ماء الغسل نجسا ولو إزالته ثم اغتسلت كان ماء الغسل طاهرا ، وكذا جميع الأغسال ، فقد بان ضعف ما ذكره المتأخر. اللهم إلا ان يقول ان الميت ليس بنجس وانما يجب الغسل تعبدا كما هو مذهب الشافعي (1). لكن هذا مخالف لما ذكره الشيخ أبو جعفر فإنه ذكر انه نجس بإجماع الفرقة وقد سلم هذا المتأخر نجاسته ونجاسة ما يلاقي بدنه. ولو قال انا أوجب غسل ما لاقى بدنه ولا أحكم بنجاسة ذلك الملاقي ، قلنا فحينئذ يجوز استصحابه في الصلاة والطهارة به لو كان ماء ، ثم يلزم ان يكون الماء الذي يغسل به الميت طاهرا ومطهرا ، ويلزمك حينئذ ان تكون ملاقاته مؤثرة في الثوب منعا وغسلا وغير مؤثرة في الماء القليل وهو باطل. انتهى.

قال في المعالم بعد نقله هنا كلام المحقق (قدس‌سره) : «وكأنه أراد من النجاسة التي ادعى الإجماع على تنجيس المائع بوقوعها فيه ما يشمل المتنجس لينتظم الدليل مع الدعوى وإلا فالإجماع على تأثير عين النجاسة لا يدل على تأثير المتنجس كما هو واضح ، وإذا ثبت انعقاد الإجماع على تأثير المتنجس مع الرطوبة كالنجاسة واندفع به قول ابن

__________________

(1) راجع التعليقة 1 ص 68.


إدريس فكذا يندفع به قول العلامة ، وربما نازعا في تحقق هذا الإجماع» انتهى. وظاهره انه لا دليل على تعدي النجاسة من المتنجس مع ملاقاته بالرطوبة غير الإجماع مع انه قد ورد في كثير من الأخبار الأمر بغسل الثوب والبدن واعادة الصلاة من ملاقاة الماء المتنجس كما في أحاديث البئر وغيرها وهي كثيرة متفرقة في الأحكام.

واما المحدث الكاشاني فإنه قد تفرد بالقول بان المتنجس بعد ازالة عين النجاسة عنه بالتمسح لا تتعدى نجاسته الى ما يلاقيه برطوبة ، وقد تقدم البحث معه في ذلك في صدر الباب الثاني في الوضوء إلا انا لم نعط المسألة فيه حقها من التحقيق ، وحيث كان الأنسب بها هو هذا المقام فلا بد من ذكرها واعادة البحث فيها بما يحيط بأطراف الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام ، وسيأتي البحث فيها هنا في مسألة على حدة قريبا ان شاء الله تعالى.

(المسألة الثانية) ـ لا ريب في الحكم بالتنجيس متى حصل العلم بملاقاة النجاسة على الوجه الذي بينا كونه مؤثرا في التنجيس ، اما لو استند ذلك الى الظن فقد اختلف في ذلك كلام الأصحاب على أقوال : (الأول) ـ القول بعدم تأثير الظن مطلقا وان استند الى سبب شرعي بل لا بد من القطع واليقين ، وهو المنقول عن ابن البراج الشيخ عبد العزيز الطرابلسي. (الثاني) ـ الاكتفاء بالظن وقيامه مقام العلم مطلقا استند الى سبب شرعي كشهادة العدلين واخبار المالك أم لا ، وهو المنقول عن الشيخ ابي الصلاح تقي بن نجم الحلبي. (الثالث) ـ انه ان استند الى سبب شرعي من شهادة العدلين واخبار ذي اليد وان لم يكن عدلا قبل وإلا فلا ، وهو قول جماعة من الأصحاب :منهم ـ العلامة في المنتهى وموضع من التذكرة ، قال في المنتهى : لو أخبر عدل بنجاسة الماء لم يجب القبول اما لو شهد عدلان فالأولى القبول. وقال في موضع آخر : لو أخبر العدل بنجاسة إنائه فالوجه القبول ولو أخبر الفاسق بنجاسة إنائه فالأقرب القبول ايضا. واحتج لقبول العدلين بان شهادتهما معتبرة في نظر الشارع قطعا ولهذا لو كان الماء مبيعا


فادعى المشتري فيه العيب بكونه نجسا وشهد له عدلان ثبت جواز الرد. وقال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : وما فصله في المنتهى هو المشهور بين المتأخرين وقد ذكر نحوه في موضع من التذكرة. (الرابع) ـ انه ان استند الى سبب كقول العدل فهو كما لو علم وان لم يستند الى سبب كما في ثياب مدمني الخمر والقصابين والصبيان وطين الشوارع والمقابر المنبوشة لم يحكم بالتنجيس ، اختاره العلامة في موضع من التذكرة ، وجزم المحقق في المعتبر بعدم القبول مع اخبار العدل الواحد ، ونقل عن ابن البراج القول بعدم القبول أيضا في العدلين ، ثم قال والأظهر القبول لثبوت الأحكام بشهادتهما عند التنازع كما لو اشتراه وادعى المشترى نجاسته قبل العقد فلو شهد شاهدان لساغ الرد وهو مبني على ثبوت العيب. ونفى عنه البأس في المعالم بعد نقله ، ونسبه العلامة في المختلف الى ابن إدريس أيضا. وربما قيد بعضهم قبول خبر العدلين في ذلك بذكر السبب. قال لاختلاف العلماء في المقتضى للتنجيس إلا ان يعلم الوفاق فيكتفى بالإطلاق ، ونقله في المعالم عن بعض الأصحاب واستحسنه قال وهذا الاشتراط حسن ووجهه ظاهر ، ثم نقل فيه انه قيد جماعة الحكم بقبول اخبار الواحد بنجاسة مائه بما إذا وقع الاخبار قبل الاستعمال فلو كان بعده لم يقبل بالنظر الى نجاسة المستعمل له فان ذلك في الحقيقة إخبار بنجاسة الغير فلا يكفي فيه الواحد وان كان عدلا ، ولأن الماء يخرج بالاستعمال عن ملكه إذ هو في معنى الإتلاف أو نفسه ، قال وبهذا التقييد صرح في التذكرة.

أقول : هذا ملخص ما حضرني من الأقوال في المسألة ، وقد روى المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) بأسانيدهم المعتبرة عن الصادق (عليه‌السلام) (1) انه قال : «الماء كله طاهر حتى يعلم انه قذر». وروى الشيخ عن حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (2) قال : «ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم».

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من الماء المطلق.

(2) رواه في الوسائل في الباب 37 من النجاسات.


والظاهر ان من اعتبر القطع واليقين كما تقدم نقله عن ابن البراج حمل العلم هنا على ذلك كما هو اصطلاح أهل المعقول ، ولهذا نقل عنه الاحتجاج على ما ذهب إليه بأن الطهارة معلومة بالأصل وشهادة الشاهدين لا تفيد إلا الظن فلا يترك لأجله المعلوم. ومن اعتبر الظن الشرعي مطلقا كأبي الصلاح حمل العلم هنا على ما هو أعم من اليقين والظن مطلقا ولهذا نقل عنه الاحتجاج على ما ذهب إليه بأن الشرعيات كلها ظنية وان العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل. ومن اعتبر الظن المستند الى سبب شرعي حمل العلم على ما هو أعم من اليقين أو العلم الشرعي ، ويقرب منه القول الرابع كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد أجاب في المعالم عن حجة ابن البراج بأن شهادة العدلين في معنى العلم شرعا ، وبان معلومية الطهارة بالأصل ان أراد بها تيقن عدم عروض منجس فهو ممنوع وان أراد حكم الشارع بالطهارة قطعا استنادا الى الأصل فكذلك شهادة الشاهدين. انتهى.

أقول : وتحقيق ذلك بوجه أوضح وبيان أفصح هو ان يقال : (أولا) ـ ان اشتراطه اليقين والعلم في الحكم بالنجاسة ان كان مخصوصا بالنجاسة دون ما عداها من الطهارة والحلية والحرمة فهو تحكم محض ، وان كان الحكم في الجميع واحدا فيقين الطهارة الذي اعتمده ليس إلا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة وهو أعم من العلم بالعدم ومثله يقين الحلية. و (ثانيا) ـ انه قد روى الشيخان الكليني والطوسي في الكافي والتهذيب بسنديهما عن الصادق (عليه‌السلام) في الجبن (1) قال : «كل شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك ان فيه ميتة». ورؤيا ايضا بسنديهما عنه (عليه‌السلام) (2) «كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، الى ان قال والأشياء

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة.

(2) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب ما يكتسب به.


كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة». والحكم في المسألتين من باب واحد بل الخبران وان كان موردهما الحل والحرمة إلا ان التحريم في الخبر الأول انما نشأ من حيث النجاسة والخبران صريحان في الاكتفاء بالشاهدين في ثبوت كل من النجاسة والحرمة.

ومما يؤيد الاكتفاء بشهادة العدلين في الحكم بالنجاسة ان الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في انه لو كان الماء مبيعا فادعى المشتري فيه العيب بكونه نجسا واقام شاهدين عدلين بذلك فإنه يتسلط على الفسخ وما ذاك إلا لثبوت النجاسة والحكم بها كما قد تقدم ذكره في عبارتي المحقق والعلامة. وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ من إمكان المناقشة في ذلك بان اعتبار شهادتهما في نظر الشارع مطلقا بحيث يشمل ما نحن فيه ممنوع وقبول شهادتهما في الصورة المفروضة لا يدل على أزيد من ترتب جواز الرد أو أخذ الأرش عليه واما ان يكون حكمه حكم النجس في سائر الأحكام فلا بل لا بد له من دليل. انتهى ـ مما لا ينبغي ان يصغى اليه ، كيف واستحقاق جواز الرد أو أخذ الأرش انما هو فرع ثبوت النجاسة وحكم الشارع بها ليتحقق العيب الذي هو سبب لذلك ومتى ثبتت النجاسة شرعا ترتبت عليها أحكامها التي من جملتها هنا العيب الموجب للرد أو الأرش.

واما ما احتج به أبو الصلاح فإنه قد أجاب عنه في المعالم بالمنع من العمل بمطلق الظن شرعا ، قال وثبوته في مواضع مخصوصة لدليل خاص لا يقتضي التعدية إلا بالقياس. انتهى. وهو جيد ، ويؤكده ان المستفاد من الأخبار ان يقين الطهارة ويقين الحلية لا يخرج عنه إلا بيقين مثله كالأخبار الواردة في من تيقن الطهارة من الحدث والطهارة من الخبث في ثوبه أو بدنه فإنه لا يخرج عن ذلك إلا بيقين مثله ، ومن تلك الأخبار صحيحة عبد الله بن سنان (1) في الثوب إذا أعير الذمي وهو يعلم انه يشرب الخمر

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات.


ويأكل لحم الخنزير حيث قال (عليه‌السلام): «صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس ان تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه». وما ورد في الجبن من قوله (عليه‌السلام) (1) : «ما علمت أنه ميتة فلا تأكله وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، الى ان قال والله اني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان». وما ورد في موثقة عمار (2) «في الرجل يجد في إنائه فأرة وكانت متفسخة وقد توضأ من ذلك الإناء مرارا واغتسل وغسل ثيابه ، حيث قال (عليه‌السلام) ليس عليه شي‌ء لأنه لا يعلم متى سقطت ، ثم قال لعله انما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها». ولا يخفى انه لو جاز العمل بالظن مطلقا لكان الوجه هو النجاسة والحرمة في جميع ما دلت عليه هذه الاخبار وأمثالها على طهارته وحليته ولا سيما موثقة عمار لظهورها في سبق موت الفأرة لمكان التفسخ مع انه (عليه‌السلام) عملا بسعة الشريعة لم يلتفت الى ذلك وقال : «لعلها انما سقطت تلك الساعة» ومنها ما ورد في صحيحة زرارة (3) في اصابة المني للثوب من انه «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي اصابه وان ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء. الحديث». وهو صريح في المطلوب والنضح فيه محمول على الاستحباب كما في نظائره.

والتحقيق عندي في هذا المقام بما لا يحوم للناظر حوله نقض ولا إبرام هو ان كلا من الطهارة والنجاسة والحل والحرمة ليست أمورا عقلية بل هي أمور شرعية مبنية على التوقيف من صاحب الشرع ولها أسباب معينة معلومة منه تدور مدارها ، والمعلوم

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 61 من الأطعمة المباحة.

(2) المروية في الوسائل في الباب 4 من الماء المطلق.

(3) لم نعثر في كتب الحديث على رواية لزرارة بهذا اللفظ وأيما الوارد بهذا اللفظ حسنة الحلبي المروية في الوسائل في الباب 16 من النجاسات وقد تقدمت ج 1 ص 138.


منه ان حصول الطهارة والحلية هي عبارة عن عدم علم المكلف بالنجس والمحرم لا عبارة عن عدم ملاقاة النجاسة وحصول السبب المحرم واقعا ، وحصول النجاسة عبارة عن مشاهدة المكلف لذلك أو اخبار المالك بنجاسة مائه وثوبه مثلا أو شهادة الشاهدين وهكذا في ثبوت الحرمة ، وليس ثبوت النجاسة لشي‌ء واتصافه بها عبارة عن مجرد ملاقاة عين أحد النجاسات في الواقع ونفس الأمر خاصة وان كان هو المشهور حتى انه يقال بالنسبة الى غير العالم بالملاقاة ان هذا نجس في الواقع وطاهر بحسب الظاهر بل هو نجس بالنسبة إلى العالم بالملاقاة أو أحد الأسباب المتقدمة طاهر بالنسبة الى غير العالم ، والشارع لم يجعل شيئا من الأحكام الشرعية منوطا بالواقع ونفس الأمر. وحينئذ فلا يقال ان اخبار المالك وشهادة العدلين انما يفيدان ظن النجاسة لاحتمال ان لا يكون كذلك في الواقع كيف وهما من جملة الأسباب التي رتب الشارع الحكم بالنجاسة عليها ، وبالجملة فحيث حكم الشارع بقبول شهادة العدلين واخبار المالك في ذلك فقد حكم بثبوت الأحكام بهما فيصير الحكم حينئذ معلوما من الشارع ولا معنى للنجس شرعا كما عرفت إلا ذلك وان فرض عدم ملاقاة النجاسة في الواقع ، ألا ترى انه وردت الأخبار وعليه اتفاق كلمة الأصحاب ان الأشياء كلها على يقين الطهارة ويقين الحلية حتى يعلم النجس والحرام بعينه مع ان هذا اليقين كما عرفت ليس إلا عبارة عن عدم العلم بالنجاسة والحرمة وعدم العلم لا يدل على العدم ، فيجوز ان تكون تلك الأشياء كلا أو بعضا بحسب الواقع ونفس الأمر على النجاسة والحرمة لو كان كل من النجاسة والحرمة من الأمور النفس الأمرية الواقعية بدون علم المكلف بذلك ، وكذا القول في حكم الشارع بقبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه وطهارة ما في أسواق المسلمين وحليته لعين ما ذكرنا ، وبالجملة فالعلم واليقين المتعلق بهذه الأحكام ليس عبارة عما توهموه من الإناطة بالواقع ونفس الأمر وان لم يظهر للمكلف وان متيقن النجاسة ليس إلا عبارة عما وجد فيه النجاسة حتى انه يصير ما عدا هذا الفرد مما أخبر به المالك أو شهد به العدلان مظنون النجاسة ، إذ لو كان كذلك للزم مثله في جانب الطهارة إذ الجميع من


باب واحد فإنها أحكام متلقاة من الشارع فيختص الحكم بالطهارة يقينا حينئذ بما باشر المكلف تطهيره ولم يغب عنه بعد ذلك وإلا لكان مظنون الطهارة أو مرجوحها ، مع ان المعلوم من الشرع كما عرفت خلافه فإنه قد حكم بأن الأشياء كلها على يقين الطهارة حتى يعلم المزيل عنها.

ويؤكد ما صرنا إليه في هذا المقام وان غفل عنه جملة من علمائنا الأعلام ما نقله في المعالم عن السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) وارتضاه جملة ممن تأخر عنه من ان وجوب الحكم على القاضي بعد شهادة العدلين ليس من حيث انها توجب حصول الظن بل من حيث ان الشارع جعلها سببا لوجوب الحكم على القاضي كما جعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة. وأيده بعض من تأخر عنه بأنه كثيرا ما لا يحصل الظن بشهادتهما لمعارضة قرينة حالية مع وجوب الحكم على القاضي. انتهى. ومثله يأتي فيما ذكرنا من الأسباب كما لا يخفى على ذوي الألباب.

ومما ذكرناه من هذا التحقيق الرشيق يظهر لك ان أظهر الأقوال هو القول المشهور وان الخبر المتقدم اعني قوله (عليه‌السلام): «الماء كله طاهر حتى تعلم انه قذر». ظاهر الانطباق عليه ، والتقريب فيه ان المراد بالعلم فيه ما هو المتبادر من اللفظ وهو اليقين والقطع لكن لا بالنظر الى الواقع ونفس الأمر من حيث هو إذ لا مدخل له كما عرفت في الأحكام الشرعية بل بالنظر الى الأسباب التي جعلها الشارع مناطا للنجاسة وعلم المكلف بها ، فيقين الطهارة والنجاسة إنما يدور على ذلك وجودا وعدما فالطاهر شرعا هو ما لم يعلم المكلف بملاقاة النجاسة له لا ما لم تلاقه النجاسة مطلقا والنجس هو ما علم المكلف بنجاسته بأحد الأسباب لا ما لاقته النجاسة مطلقا.

ولم أقف على من تنبه لما ذكرنا من هذا التحقيق في المقام من علمائنا الاعلام إلا الفاضل المحقق السيد نعمة الله الجزائري في رسالة التحفة ، حيث قال بعد ان نقل عن بعض معاصريه من علماء العراق وجوب عزل السؤر عن الناس ، ونقل عنهم ان من أعظم


أدلتهم قولهم انا قاطعون بان في الدنيا نجاسات وقاطعون أيضا بان في الناس من لا يتجنبها والبعض الآخر لا يتجنب ذلك البعض فإذا باشرنا أحدا من الناس فقد باشرنا مظنون النجاسة أو مقطوعها ، الى ان قال فقلنا لهم يا معشر الاخوان ان الذي يظهر من اخبار الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) التسامح في أمر الطهارات وان الطاهر والنجس هو ما حكم الشارع بطهارته ونجاسته لا ما باشرته النجاسة والطهارة فالطاهر ليس هو الواقع في نفس الأمر بل ما حكم الشارع بطهارته وكذا النجس وليس له واقع سوى حكم الشارع بطهارة المسلمين فصاروا طاهرين ، الى ان قال وبهذا التحقيق. الى آخر ما سيأتي نقله في المقام ان شاء الله تعالى.

واما ما ذكره العلامة في التذكرة من ثبوت النجاسة بالعدل الواحد فقد تقدم رد المحقق له في المعتبر وإنكار العلامة في المنتهى له ايضا ، قال في المعالم واما ما ذهب إليه في التذكرة فلم يتعرض للاحتجاج عليه فيها ولكنه في النهاية احتمل قبول اخبار العدل الواحد بنجاسة إناء معين ان وجد غيره ، ووجهه بأن الشهادة في الأمور المتعلقة بالعبارة كالرواية والواحد فيها مقبول فيقبل فيما يشبهها من الشهادة. وربما كان التفاته في كلام التذكرة إلى نحو هذا التوجيه ، وحاله لا يخفى. انتهى.

أقول : الحق عندي ان قبول قول العدل الواحد في هذا المقام لا يخلو من قوة لا لما ذكر من هذا التعليل السخيف بل لدلالة جملة من الاخبار على افادة قوله العلم ، ومنها ما رواه الشيخ عن إسحاق بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا فقال لي ان حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا وأعط أخي بقية الدنانير فمات ولم اشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي انه أمرني أن أقول لك انظر الدنانير التي أمرتك ان تدفعها الى أخي فتصدق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين ولم يعلم أخوه ان عندي شيئا؟ فقال ارى ان

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 97 من كتاب الوصايا.


تتصدق منها بعشرة دنانير كما قال». وفيه دلالة على ثبوت الوصية بقول الثقة. وما رواه الشيخ في التهذيب والصدوق عن ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه‌السلام) (1) في حديث قال فيه : «ان الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض ابدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة». والأصحاب قد صرحوا في هذه المسألة بأنه لا ينعزل الوكيل إلا مع العلم ، ومنه يعلم ان نظم اخبار الثقة في سلك المشافهة الموجبة للعلم ظاهر في انه مثله في إفادة العلم المشترط في المسألة ونحو ذلك من الأخبار الدالة على جواز وطء الأمة بغير استبراء إذا كان البائع عدلا قد أخبر بالاستبراء ، والأخبار الدالة على الاعتماد في دخول الوقت المشروط فيه العلم على أذان الثقة ، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع ، وبذلك يظهر قوة القول المذكور كما قدمنا الإشارة اليه وان لم تخطر هذه الأدلة ببال صاحبه.

تنبيهات

(الأول) ـ ظاهر الأصحاب الاتفاق على قبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه ونحوهما ونجاستهما ، وناقش فيه المحقق الخوانساري في شرح الدروس حيث قال : واما قبول قول المالك عدلا كان أو فاسقا فلم نظفر له على حجة وقد يؤيد بما رواه في التهذيب عن إسماعيل بن عيسى (2) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه». وجه التأييد ان ظاهره ان قول المشركين يقبل في أموالهم انها ذكية وإلا فلا فائدة في السؤال عنهم وإذا قبل قول المشركين فقول المسلمين بطريق اولى. لكن

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من كتاب الوكالة.

(2) رواه في الوسائل في الباب 50 من أبواب النجاسات.


سند الرواية غير نقي مع ان في الظهور المذكور تأملا. انتهى.

أقول : ما ذكره من الرواية المذكورة وزعم دلالتها على قبول قول المشرك فالظاهر ان المعنى فيها ليس على ما فهمه وان كان قد سبقه فيه الى ذلك المحدث الكاشاني في الوافي أيضا حيث قال بعد نقل الخبر المذكور : وانما يجب السؤال إذا كان البائع مشركا لغلبة الظن حينئذ بأنه غير ذكي إلا ان يخبر هو بأنه من ذبيحة المسلمين فيصير بالسؤال مشكوكا فيه فجاز لبسه حينئذ حتى يعلم كونه ميتة. انتهى. ولا يخفى انه يرد على هذا التفسير (أولا) انه لا مناسبة في ارتباط الجواب بالسؤال إذ السائل إنما سأل عن الاشتراء من المسلم فكيف يجاب على تقدير الاشتراء من المشرك؟ و (ثانيا) انه لا معنى لقوله في آخر الخبر : «وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» والأظهر عندي في معنى الخبر المذكور هو انه لما سأل السائل عن حكم الشراء من السوق المذكورة إذا كان البائع مسلما وانه هل يسأل عن ذكاته أم لا؟ أجاب (عليه‌السلام) بالتفصيل بأنه ان كان في تلك السوق من يبيع من المشركين فعليكم السؤال من ذلك المسلم إذ لعله أخذه من المشركين وإذا رأيتم المسلم يصلى فيه فلا تسألوا لأن صلاته فيه دليل على طهارته عنده ، ويفهم من الخبر بمفهوم الشرط انه مع عدم من يبيع من المشركين فليس عليهم السؤال.

ومما يدل على عدم السؤال إطلاق صحيحة البزنطي (1) قال : «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال نعم ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر (عليه‌السلام) كان يقول ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، ان الدين أوسع من ذلك». وأنت خبير بان الظاهر من الصحيحة المذكورة ـ حيث تضمنت نفي المسألة المؤكد بالرد على الخوارج ونسبتهم الى تضييق الدين بالمسألة أو ما هو نحوها ـ ان مع السؤال يقبل قول المسؤول وإلا لما حصل الضيق في الدين بالسؤال كما لا يخفى ، إذ الظاهر ان المراد من الخبران جميع الأشياء بمقتضى سعة الدين المحمدي

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات و 55 من لباس المصلى.


على ظاهر الحل والطهارة ، والسؤال والفحص عن كل فرد فرد بأنه حلال أو حرام أو طاهر أو نجس تضييق لها ورفع لسهولتها التي قد من الشارع بها على عباده ، ومعلوم ان حصول الضيق انما يتم بقبول قول المالك بالنجاسة والحرمة. ومما يدل على المنع من السؤال أيضا بعض الاخبار الواردة في الجبن حيث انه (عليه‌السلام) اعطى الخادم درهما وامره أن يبتاع به من مسلم جبنا ونهاه عن السؤال (1) وحينئذ ففي هذه الاخبار ونحوها دلالة على قبول قول المالك عدلا كان أو غيره.

ومما يدل على ذلك ايضا ما رواه الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله بن بكير (2) قبل : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه وهو لا يصلي فيه؟ قال لا يعلمه. قلت فإن أعلمه؟ قال يعيد». وهي ـ كما ترى ـ صريحة في قبول قول المالك في طهارة ثوبه ونجاسته لحكمه (عليه‌السلام) بإعادة الصلاة على المستعير لو صلى بعد الاعلام ، ويدل على ذلك أيضا موثقة معاوية بن عمار (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول قد طبخ على الثلث وانا اعلم انه يشربه على النصف أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال لا تشربه. قلت فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف يخبرنا ان عنده بختجا قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه نشرب منه؟ قال نعم». ورواية علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن الرجل يصلي الى القبلة لا يوثق به اتى بشراب زعم انه على الثلث أيحل شربه؟ قال لا يصدق إلا ان يكون مسلما عارفا». وموثقة عمار بن موسى عن الصادق (عليه‌السلام) (5) «انه سأل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول هذا مطبوخ على الثلث؟ فقال ان كان

__________________

(1) وهو خبر بكر بن حبيب المروي في الوسائل في الباب 61 من الأطعمة المباحة.

(2) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب النجاسات.

(3 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 7 من الأشربة المحرمة.


مسلما ورعا مأمونا فلا بأس ان يشرب». وقد دلت هذه الاخبار على قبول قول المالك إلا في مقام الريبة وحصول الظن بكذبه وهو أمر خارج عن موضع البحث.

(الثاني) قد عرفت مما تقدم ان الأصل الطهارة في كل شي‌ء حتى يقوم الدليل الشرعي على النجاسة ولا يكفي مجرد الظن ، وهذا الأصل وان لم يرد بقاعدة كلية فيما سوى الماء الا ما يتناقله الفقهاء في كتب الاستدلال من قوله (عليه‌السلام): «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر». مع عدم وجوده في كتب الأخبار فيما اعلم إلا ان هذه مستفادة من جملة من الأخبار بضم بعضها الى بعض بل ظاهرة من بعضها ايضا.

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (1) في حديث قال : «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك». وهذا الخبر في معنى الخبر المشهور المشار إليه إذ المراد بالنظافة انما هو الطهارة.

وعن حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه‌السلام) (2) قال قال : «ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم».

ومنها ـ صحيحة عبد الله بن سنان (3) قال : «سأل أبي أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا حاضر اني أعير الذمي ثوبي وانا اعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده علي فاغسله قبل ان أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس ان تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه».

وفي الصحيح عن معاوية بن عمار (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات.

(3) المروية في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات.

(4) رواه في الوسائل في الباب 73 من النجاسات.


عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث وهم يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال ألبسها ولا اغسلها وأصلي فيها؟ قال نعم. قال معاوية فقطعت له قميصا وخطته وفتلت له أزرارا ورداء من السابري ثم بعثت بها اليه (عليه‌السلام) في يوم الجمعة حين ارتفع النهار فكأنه عرف ما أريد فخرج فيها إلى الجمعة».

ورواية أبي جميلة عن الصادق (عليه‌السلام) (1) : «انه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه وأصلي فيه؟ قال نعم قال قلت يشربون الخمر؟ قال نعم نحن نشتري الثياب السابرية فتلبسها ولا نغسلها».

وروى عبد الله بن جعفر في قرب الاسناد عن الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما‌السلام) (2) «ان عليا (عليه‌السلام) كان لا يرى بالصلاة بأسا في الثوب الذي يشترى من النصارى واليهود والمجوس قبل ان يغسل يعني الثياب التي تكون في أيديهم فينجسونها وليست ثيابهم التي يلبسونها». قوله «يعني الثياب. إلخ» من كلام الراوي تفسيرا لما ذكره من الخبر ، والظاهر ان مراده أنها مظنة للنجاسة وانها لا تخلو منها غالبا.

وفي الصحيح عن زرارة (3) قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره ، ثم ساق الخبر الى ان قال قلت : فان ظننت أنه اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد الصلاة. فقلت لم ذاك؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا». وهذا الخبر وان كان مضمرا في التهذيب الا انه مروي عن ابي جعفر (عليه‌السلام)

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 73 من أبواب النجاسات.

(2) رواه في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات.

(3) رواه في الوسائل في الباب 7 و 37 و 41 و 42 و 44 من النجاسات بنحو التقطيع.


كما صرح به في كتاب العلل (1) وهو صريح في الدلالة على كلية الحكم المذكور وانه لا ينصرف عن يقين الطهارة بالظن بل لا بد من اليقين الشرعي.

وفي الصحيح عن ضريس الكناسي (2) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ فقال اما ما علمت أنه خلطه الحرام فلا تأكله واما ما لم تعلم فكله حتى تعلم انه حرام». والمراد بالحرام هنا النجس فإنه كثيرا ما يطلق على ذلك كما قدمنا ذكره في الكتاب.

وصحيحة الحلبي المروية في الكافي (3) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الخفاف عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال صل فيها حتى يقال لك انها ميتة بعينها».

وصحيحته الأخرى المروية في التهذيب (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه».

ورواية الحسن بن الجهم (5) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) اعترض السوق فاشتري خفا لا ادري أذكي هو أم لا؟ قال صل فيه. قلت فالنعل؟ قال مثل ذلك. قلت اني أضيق من هذا ، قال أترغب عن ما كان أبو الحسن (عليه‌السلام) يفعله؟».

وصحيحة البزنطي المتقدمة في سابق هذا التنبيه ومثلها رواية سليمان بن جعفر الجعفري (6) «انه سأل العبد الصالح موسى بن جعفر (عليه‌السلام) عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال نعم ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر (عليه‌السلام) كان يقول ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان الدين أوسع من ذلك».

__________________

(1) ص 127.

(2) رواه في الوسائل في الباب 64 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(3 و 4 و 5 و 6) المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات.


ورواية المعلى بن خنيس (1) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول لا بأس بالصلاة في الثياب التي يعملها المجوس والنصارى واليهود».

وروى في قرب الاسناد عن احمد بن محمد بن عيسى عن البزنطي عن الرضا (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الخفاف يأتي الرجل السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو أم لا ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري؟ قال نعم انا اشتري الخف من السوق وأصلي فيه وليس عليكم المسألة».

وبهذا الاسناد (3) قال : «سألته عن الجبة الفراء يأتي الرجل السوق من أسواق المسلمين فيشتري الجبة لا يدري أذكية هي أم لا يصلي فيها؟ قال نعم ان أبا جعفر (عليه‌السلام) كان يقول ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان الدين أوسع من ذلك ان علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) كان يقول ان شيعتنا في أوسع ما بين السماء إلى الأرض أنتم المغفور لكم».

إلا انه قد ورد بإزاء هذه الأخبار ما ظاهره المنافاة والبناء على الظن ولعله مستند ابي الصلاح فيما تقدم نقله عنه من الاكتفاء في ثبوت النجاسة بمجرد الظن :

ومنها ـ صحيحة عبد الله بن سنان (4) قال : «سأل أبي أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري ويشرب الخمر فيرده عليه أيصلي فيه قبل ان يغسله؟ قال لا يصل فيه حتى يغسله».

ورواية أبي بصير (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في الفراء؟ فقال كان علي بن الحسين (عليه‌السلام) رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز لأن

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 73 من النجاسات.

(2) رواه في الوسائل في الباب 50 من النجاسات.

(3) قرب الاسناد ص 171.

(4) المروية في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات.

(5) المروية في الوسائل في الباب 61 من لباس المصلى.


دباغها بالقرظ وكان يبعث الى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة ألقاه والقى القميص الذي يليه وكان يسأل عن ذلك فيقول ان أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون ان دباغه ذكاته».

وروى في مستطرفات السرائر من كتاب البزنطي (1) قال : «وسألته عن رجل يشتري ثوبا من السوق للبس لا يدري لمن كان يصلح له الصلاة فيه؟ قال ان كان اشتراه من مسلم فليصل فيه وان كان اشتراه من نصراني فلا يلبسه ولا يصل فيه حتى يغسله».

ومثلها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق اللبس لا يدري لمن كان هل يصلح الصلاة فيه؟ قال ان اشتراه من مسلم صلى فيه وان اشتراه من نصراني فلا يصل فيه حتى يغسله».

ورواية محمد بن الحسين الأشعري (3) قال : «كتب بعض أصحابنا الى ابي جعفر الثاني (عليه‌السلام) ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال ان كان مضمونا فلا بأس». أقول : يعني إذا ضمن البائع ذكاته وأخبر بها عن علم.

ومن ذلك رواية عبد الرحمن بن الحجاج (4) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) اني ادخل سوق المسلمين اعني هذا الخلق الذين يدعون الإسلام فاشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها أليس هي ذكية؟ فيقول بلى ، فهل يصلح لي ان أبيعها على انها ذكية؟ فقال لا ولكن لا بأس ان تبيعها وتقول قد شرط الذي اشتريتها منه انها ذكية. قلت وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق للميتة وزعموا ان دباغ جلود الميتة ذكاته ثم لم يرضوا ان يكذبوا في ذلك إلا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)».

والشيخ (قدس‌سره) لم يذكر في الاستبصار سوى خبري عبد الله بن سنان وقال بعدهما : هذان الخبران راويهما جميعا عبد الله بن سنان والحكاية فيهما عن مسألة أبيه

__________________

(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات.

(4) المروية في الوسائل في الباب 61 من النجاسات.


أبا عبد الله (عليه‌السلام) ولا يجوز ان يتناقض بان يقول تارة «صل فيه» وتارة «لا تصل فيه» إلا ان يكون قوله (عليه‌السلام) «لا تصل فيه» على وجه الكراهية دون الحظر. انتهى وبالجملة فإن كل من ذكر خبرا من هذه الاخبار فإنما يحمله على الاستحباب لإجماعهم على العمل بالأخبار الأول التي هي مستند القاعدة المتفق عليها بينهم قديما وحديثا ولا بأس به ، ويدل عليه رواية ابي علي البزاز عن أبيه (1) قال : «سألت جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) عن الثوب يعمله أهل الكتاب أصلي فيه قبل ان اغسله؟ قال لا بأس وان يغسل أحب الي». وصحيحة الحلبي (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ قال يرش بالماء». والتقريب في الأولى ظاهر واما الثانية فلما علم من الاخبار المتكاثرة كما سيأتي ان شاء الله تعالى ان الأمر بالرش الذي هو النضح انما هو في مقام زوال النفرة في الأشياء الطاهرة كملاقاة الكلب باليبوسة ونحوه وإلا فالنجس بنجاسة عينية إنما يؤمر فيه بالغسل كما لا يخفى. والله العالم.

(الثالث) ـ قال في المعالم : قال بعض الأصحاب لو وجد عدلان في ثوب الغير أو مائة نجاسة أمكن وجوب الاخبار لوجوب تجنب النجاسة وهو يتوقف على الاخبار المذكور فيجب ، والعدم لان وجوب التجنب مع العلم لا بدونه لاستحالة تكليف الغافل ، قال وأبعد منه ما لو كان عدلا وأبعد منهما ما لو كان فاسقا ثم قال ولا ريب ان الاخبار أولى. ثم قال في المعالم وما ذكره في توجيه احتمال الوجوب ظاهر الضعف ولا ريب ان العدم هو مقتضى الأصل فيجب التمسك به الى ان يدل دليل واضح على الوجوب وقد روى الشيخان في الكافي والتهذيب بسند يعد في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (3) قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي؟ قال لا يؤذنه حتى ينصرف». وهذا الحديث ربما أشعر بعدم الوجوب. انتهى.

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 73 من النجاسات.

(3) رواه في الوسائل في الباب 47 من النجاسات.


أقول : وجدت منسوبا الى بعض الفضلاء مسألة مذيلة بالجواب بما هذه صورته مسألة : لو رأى المأموم في أثناء الصلاة في ثوب الإمام نجاسة غير معفو عنها فهل يجوز له الاقتداء في تلك الحال أم لا؟ وهل يجب عليه إعلامه أم لا؟ ولو لم يجز له الاقتداء فهل يبني بعد نية الانفراد على ما مضى أم يعيد من رأس؟ الجواب : الاولى عدم الائتمام ويجب الاعلام ويجب الانفراد في الأثناء ويبنى على قراءة الإمام. انتهى.

أقول : ما ذكره هذا الفاضل المجيب من وجوب الاعلام قد صرح به العلامة في أجوبة مسائل السيد السعيد مهنا بن سنان المدني محتجا على ذلك بكونه من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وأنت خبير بما فيه (اما أولا) فلان الأصل عدمه كما تقدم في كلام المحقق الشيخ حسن ، وأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تشمله لعدم توجه الخطاب للجاهل والناسي كما ذكروه فلا منكر بالنسبة إليهما ولا معروف. و (اما ثانيا) فلان المفهوم من تتبع الاخبار انه لا يجب الاعلام بمثل ذلك ، فمن ذلك صحيحة محمد بن مسلم المذكورة ، ومن ذلك صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (1) : «ان أبا جعفر (عليه‌السلام) اغتسل وبقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء فقيل له فقال ما كان عليك لو سكت؟». ومن ذلك رواية عبد الله بن بكير المروية في كتاب قرب الاسناد (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه وهو لا يصلي فيه؟ قال لا يعلمه. قلت فإن أعلمه؟ قال يعيد». والمستفاد من هذه الأخبار كراهة الأخبار فضلا عن الجواز فكيف بالوجوب الذي ذكروه؟ والظاهر ان الوجه في ذلك هو انه لما كان بناء الأحكام الشرعية انما هو على الظاهر في نظر المكلف دون الواقع ونفس الأمر تحقيقا لبناء الشريعة على السهولة والسعة فإن الفحص والسؤال عن أمثال ذلك تضييق لها كما استفاضت به الأخبار الدالة على النهي عن السؤال ، نهى عن الاخبار بذلك والاعلام لعين ما ذكرناه في المقام.

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 47 من النجاسات.


وما ذكره من عدم الائتمام ووجوب الانفراد على المأموم فقد نقل شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان البحراني في رسالته في الصلاة عن المحقق الشيخ علي نحوه ثم نقل عن بعض المتأخرين الجواز ثم تنظر في الجواز أولا ثم قال بعد نقل القول به : ولا يخلو من قوة. ولم ينقل دليلا في المقام نفيا ولا إثباتا.

أقول : وتحقيق القول في ذلك مبني على مسألة أخرى وهي ان من صلى في النجاسة جاهلا بها هل صلاته والحال هذه صحيحة واقعا وظاهرا أو تكون صحيحة ظاهرا باطلة واقعا إلا انه غير مؤاخذ لمكان الجهل بالنجاسة؟ ظاهر الأصحاب ـ كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية ـ هو الثاني حيث قال ـ في مسألة ما لو تطهر بالماء النجس جاهلا وان ذلك مبطل لصلاته ـ ما صورته : حتى لو استمر الجهل به حتى مات فان صلاته باطلة غايته عدم المؤاخذة عليها لامتناع تكليف الغافل ، هذا هو الذي يقتضيه إطلاق العبارة وكلام الجماعة ، ولا يخفى ما فيه من البلوى فان ذلك يكاد يوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة لكثرة النجاسات في نفس الأمر وان لم يحكم الشارع ظاهرا بفسادها ، فعلى هذا لا يستحق عليها ثواب الصلاة وان استحق أجر الذاكر المطيع بحركاته وسكناته ان لم يتفضل الله تعالى بجوده عليه. انتهى. وحينئذ فإن قلنا بما ذكره شيخنا المذكور ونقله عن الأصحاب فإنه يتجه كلام هؤلاء القائلين بتعين الانفراد ومنع الاقتداء ، والظاهر ان ما ذكروه في المسألة مبني على ذلك لظهور بطلان صلاة الإمام عند المأموم العالم بالنجاسة فلا يجوز له الاقتداء بصلاة باطلة وان كانت صحيحة في نظر الامام لجهله بالنجاسة ، وربما احتمل على هذا وجوب الاعلام واندرج تحت الأمر بالمعروف كما ذكره العلامة أيضا.

إلا أن الأظهر عندي هو الأول لوجوه : (أحدها) ـ ما قدمنا تحقيقه من ان الشارع لم يجعل الحكم بالطهارة والنجاسة منوطا بالواقع ونفس الأمر وانما رتبه على الظاهر في نظر المكلف فأوجب عليه الصلاة في الثوب الطاهر اي ما لم يعلم بملاقاة


النجاسة له وان لاقته واقعا لا ما لم تلاقه النجاسة لأنه تكليف بما لا يطاق وهو مردود عقلا ونقلا ، وحينئذ فإذا صلى المصلي في الثوب المذكور فقد امتثل أمر الشارع وصارت صلاته صحيحة شرعية إذا خلت من سائر المبطلات.

و (ثانيها) ـ ما أسلفناه من الأخبار الدالة على المنع من الاخبار بالنجاسة وان كان في أثناء الصلاة ، ولو كان الأمر كما يدعونه من كون النجاسة والطهارة ونحوهما انما هو باعتبار الواقع ونفس الأمر وان تلبس المصلي بالنجاسة جاهلا موجب لبطلان صلاته واقعا فكيف يحسن من الامام (عليه‌السلام) المنع من الإيذان بها في الصلاة كما في صحيح محمد بن مسلم أو قبلها كما هو أحد الوجهين في رواية ابن بكير وهل هو بناء على ما ذكروه إلا من قبيل التقرير على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل؟ ولا ريب في بطلانه.

و (ثالثها) ـ انه يلزم على ما ذكروه عدم الجزم بصحة شي‌ء من العبادات إلا نادرا كما اعترف به شيخنا الشهيد الثاني فيما قدمنا من عبارته في شرح الرسالة ، وبنحوه صرح المحدث السيد نعمة الله الجزائري على اثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه في أصل المسألة حيث قال : وبهذا التحقيق يظهر لك بطلان ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب من ان من تطهر بماء نجس فاستمر الجهل به حتى مات فصلاته باطلة غايته عدم المؤاخذة عليها لامتناع تكليف الغافل ، ولو صح هذا الكلام لوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة لكثرة النجاسة في نفس الأمر. انتهى. وبذلك يظهر لك ان الأصح هو صحة صلاة المصلي بالنجاسة جهلا ظاهرا وواقعا واستحقاق الثواب عليها ، وبه يتضح انه لا وجه للانفراد في أثناء الصلاة بسبب رؤية النجاسة كما ذكره المجيب والمحقق الشيخ علي.

(فان قيل) : ما ذكرتموه متجه على تقدير حمل الامام على كونه جاهلا بالنجاسة اما مع احتمال العلم بها ونسيانها وقت الصلاة فالمشهور بين الأصحاب وجوب الإعادة في الوقت وقيل في خارجه ايضا ، وعليه فلا يتم ما ذكرتم لان وجوب الإعادة كاشف عن البطلان


(قلنا) فيه (أولا) انه قد تقرر في كلامهم وعليه دلت الأخبار ايضا حمل أفعال المسلمين على الصحة وان الفعل متى احتمل الصحة والبطلان فإنه يحمل على الوجه المصحح حتى يظهر دليل البطلان ، وهذا أصل عندهم قد بنوا عليه أحكاما عديدة في العبادات والمعاملات كما لا يخفى على المتدرب ، وحينئذ فنقول لما ثبت صحة الصلاة في النجاسة جهلا فعلى تقدير القول ببطلان الصلاة نسيانا فمقتضى القاعدة المذكورة في هذه النجاسة المرئية المحتملة لكونها مجهولة أو منسية الحمل على الوجه الصحيح إذ الأصل هو الصحة ، والناس في سعة مما لم يعلموا (1) فلا يكون مجرد الرؤية موجبا للحكم ببطلان الصلاة.

و (ثانيا) ـ ان مقتضى إطلاق صحيحة محمد بن مسلم الدالة على المنع من الاعلام بالنجاسة شمول الجهل والنسيان ولعل وجهه ان الناسي في حال نسيانه كالجاهل في حال جهله غير مخاطب بما أخل به فتكون صلاته صحيحة على التقديرين. والله العالم.

(الرابع) ـ ربما دلت الروايات المتقدمة من حيث الدلالة على كراهة الاخبار بالنجاسة على انه يجوز للإنسان إذا كان عنده طعام نجس ان يبيعه ممن لا يعلم بالنجاسة أو يطعمه إياه وانه لا اثم عليه ولا حرج سيما رواية عبد الله بن بكير الدالة على جواز اعارة الثوب الذي لا يصلى فيه من حيث النجاسة لمن يصلي فيه من غير ان يعلمه (2) والتقريب فيها انه ان لم يكن أمر الصلاة أشد والمنع فيها آكد فلا يكون أقل من الأكل أو البيع ، ويؤيد ذلك ما قدمنا من انه طاهر في نظر المشتري والأكل والطهارة والنجاسة ليست منوطة بالواقع وانما هي منوطة بعلم المكلف وعدمه وهذا المفروض وان كان نجسا بالنسبة إلى المالك إلا انه طاهر بالنسبة إلى الآخر.

والقول بذلك لا يخلو من قوة إلا ان ظواهر جملة من الاخبار تدفعه مثل صحيحة

__________________

(1) لم نجد في كتب الحديث خبرا بهذا اللفظ وقد ورد في حديث السفرة (هم في سعة حتى يعلموا» وقد رواه في الوسائل في الباب 50 من النجاسات و 38 من الذبائح و 23 من اللقطة ، وقد تقدم الحديث في التعليقة 2 ص 43 ج 1.

(2) ص 261.


ابن ابي عمير عن بعض أصحابه (1) قال وما أحسبه إلا حفص بن البختري قال : «قيل لأبي عبد الله (عليه‌السلام) في العجين يعجن بالماء النجس كيف يصنع به؟ قال يباع ممن يستحل أكل الميتة». وفي الصحيح عن ابن ابي عمير ايضا عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «يدفن ولا يباع». وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (3) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول إذا اختلط الذكي بالميتة باعه ممن يستحل الميتة وأكل ثمنه». ومثلها حسنته ايضا (4) وقد تقدم أيضا في صدر الفصل الخامس (5) في رواية معاوية بن عمار (6) المتضمنة للسؤال عن جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل انه قال : «تبيعه وتبينه لمن اشتراه ليستصبح به».

والمسألة لذلك غير خالية من الاشكال ، والتأويل في الأخبار الأولة بالحمل على اخبار الغير بنجاسة ثوبه أو بدنه أو نحوهما وان أمكن في صحيحة محمد بن مسلم كما هو مورد الرواية المذكورة فلا منافاة بينها وبين هذه الاخبار إلا ان رواية عبد الله بن بكير لا تقبل ذلك لكون النهي فيها بالنسبة إلى المالك وانه يجوز ان يعير ثوبه النجس ولا يخبر بنجاسته وهو ظاهر المنافاة لهذه الأخبار ومؤيد بما ذكرناه من القاعدة في الباب ، وفي معنى رواية ابن بكير المذكورة صحيحة العيص بن القاسم (7) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل صلى في ثوب رجل أياما ثم ان صاحب الثوب أخبره انه لا يصلي فيه؟ قال لا يعيد شيئا من صلاته». والتقريب فيها تقريره (عليه‌السلام) السائل على إعارته ثوبه النجس لمن يصلي فيه إذ من المعلوم ان صلاة ذلك الرجل فيه انما تكون باذن صاحبه وإعارته إياه ، وتقريره (عليه‌السلام) حجة كما تقرر في موضعه.

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب الأسآر.

(3 و 4) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(5) ص 56.

(6) هكذا فيما وقفنا عليه من النسخ والصحيح (معاوية بن وهب) كما في كتب الحديث.

(7) المروية في الوسائل في الباب 47 من النجاسات.


(فان قيل) ان الخبرين المذكورين لا دلالة فيهما على نجاسة الثوب المعار فلعل عدم الصلاة فيه كما في رواية ابن بكير والاخبار بأنه لا يصلي فيه كما في الصحيحة المذكورة انما هو لأمر آخر كالغصب ونحوه من الموانع.

(قلنا أولا) انه قد تقرر عندهم ان عدم الاستفصال في مقام الاحتمال دليل على العموم في المقال فيكفي دلالة الخبرين على ما ذكرنا بعمومهما. و (ثانيا) ان الأصحاب انما فهموا من الروايتين النجاسة ولهذا نظموا صحيحة العيص المذكورة في روايات من صلى في النجاسة جاهلا ومن ذكر منهم رواية ابن بكير فإنما ذكرها في مقام الصلاة في النجاسة أيضا.

(المسألة الثالثة) ـ قد تفرد المحدث الكاشاني بالقول بان المتنجس إذا أزيلت عنه عين النجاسة بالتمسح ونحوه فإنه لا تتعدى نجاسته الى ما يلاقيه في موضعها ولو مع الرطوبة وبالغ في نصرته وشنع على من خالفه ، قال في المفاتيح : انما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة واما ما لاقى الملاقي لها بعد ما أزيل عنه بالتمسح ونحوه بحيث لا يبقى فيه شي‌ء منها فلا يجب غسله كما يستفاد من المعتبرة (1) على انا لا نحتاج الى دليل على ذلك فان عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا حكم إلا بعد البرهان ، إلا ان هذا الحكم مما يكبر في صدور الذين غلب عليهم التقليد من أهل الوسواس الذين يكفرون بنعمة الله تعالى ولا يشكرون سعة رحمة الله سبحانه وفي الحديث (2) «ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم وان الدين أوسع من ذلك». انتهى.

أقول : ان عبارته وكلامه لا يخلو من إجمال واختلال (اما الأول) فإن مقتضى قوله : «انما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة» هو ان تعدي النجاسة يدور مدار الملاقاة لعين النجاسة وجودا وعدما دون الملاقاة للمتنجس أعم من ان تكون عين النجاسة

__________________

(1) سيأتي التعرض لها في الصفحة 268 وما بعدها.

(2) وهو صحيح البزنطي المتقدم ص 253 ورواية الجعفري ص 257 ورواية قرب الاسناد ص 258.


مصاحبة له أم لا إذا لم يستلزم ملاقاة العين ، وعلى هذا يستفاد منه الحكم بطهارة كل ما لم يلاق عين النجاسة سواء لاقى المحل بعد زوال عين النجاسة عنه كما ذكره أو لاقاه والعين باقية فيه لكن على وجه لا تصل إلى الملاقي ، ومقتضى قوله : «واما ما لاقى الملاقي لها بعد ما أزيل عنه العين. إلخ» ان تعدى النجاسة لا يدور مدار ملاقاة العين بخصوصها بل هو أعم من الملاقاة لها أو للمحل الذي هي فيه بشرط كونه مائعا مصاحبا للنجاسة ، وعلى هذا فيستفاد منه تخصيص الطهارة بما لاقى محل النجاسة بعد ما أزيل عنه العين أعم من ان يكون محل النجاسة مائعا كالدهن المائع ونحوه أو غير مائع كالبدن والخشب والثوب ونحوها.

و (اما الثاني) ـ فإن كلامه على كلا الاحتمالين مردود ، اما على تقدير الاحتمال الأول ـ من دوران الطهارة والنجاسة مدار الملاقاة للعين وجودا وعدما ـ ففيه انه معلوم البطلان لاستفاضة الروايات بما ينافيه كروايات نجاسة الدهن والدبس المائعين بوقوع الفأرة وموتها فيه ونجاسة الأواني لنجاسة مياهها. وأما على تقدير الاحتمال الثاني ـ ولعل مراده ذلك ولعل في تصريحه بذلك الفرد الخاص اشعارا به ـ ففيه ان المفهوم من كلامه كما أشرنا إليه آنفا هو عدم تعدي نجاسة ذلك المحل الذي فيه النجاسة بعد زوال العين منه أعم من ان يكون مائعا أو جامدا ، مثلا ـ لو وضعت إصبعا في دهن نجس بعد رفع عين النجاسة فإنه لا يقتضي نجاسة الإصبع ، وهذا في البطلان أظهر من ان يحتاج الى بيان لدلالة الأخبار على نجاسة الدهن ونجاسة ما تعدى اليه ولهذا حرم اكله والانتفاع به إلا في الإسراج ونحوه ، اللهم إلا ان يخص الدعوى بغير المائع كالخشب والثوب والبدن ونحوها كما هو مورد المعتبرة التي استند إليها. وفيه (أولا) ان الظاهر من كلامه في مفاتيح النجاسات انما هو ما ذكرنا من المعنى الأعم الشامل للمائع والجامد حيث انه بعد ذكر النجاسات العشرة في مفاتيح متعددة قال ما صورته : مفتاح ـ كل شي‌ء غير ما ذكر


فهو طاهر ما لم يلاق شيئا من النجاسات برطوبة للأصل السالم عن المعارض ، وللموثق (1) «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر». فان تخصيصه الاستثناء بما يلاقي شيئا من النجاسات خاصة دون المتنجس ظاهر في طهارة ما لاقى المتنجس صلبا كان أو مائعا بعد ازالة عين النجاسة أو قبلها ما لم يلاقها. و (ثانيا) ـ انه مع تسليم ما ذكر فإنه معارض باستفاضة الأخبار بغسل الأواني والفرش والبسط ونحوها متى تنجس شي‌ء منها إذ من المعلوم ان الأمر بغسلها ليس إلا لمنع تعدى نجاستها الى ما يلاقيها برطوبة مما يشترط فيه الطهارة ، ولو كان مجرد زوال العين كافيا في جواز استعمال تلك الأشياء لما كان للأمر بغسلها فائدة بل كان عبثا محضا لان تلك الأشياء أنفسها لا تستعمل فيها يشترط فيه الطهارة كالصلاة ونحوها حتى يقال ان الأمر بغسلها لذلك ، وبالجملة لا يظهر وجه حسن لهذا التكليف لو كان ما ادعاه حقا سيما مع بناء الدين على السهولة والتخفيف في التكاليف ونفى العسر والحرج ، هذا.

واما المعتبرة التي أشار إليها واعتمد في المقام عليها ـ وهي موثقة حنان بن سدير (2) قال : «سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) فقال اني ربما بلت فلا اقدر على الماء ويشتد ذلك علي؟ فقال إذا بلت وتمسحت فامسح ذكرك بريقك فان وجدت شيئا فقل هذا من ذاك». ـ فهي غير صريحة لو لا ظاهرة فيما ادعاه بل هي بالدلالة على خلافه أقرب وبما ندعيه انسب ، وتوضيح ذلك انه بعد ان نقل هذه الرواية في الوافي نبه على احتمالها لمعنيين (أحدهما) وهو الذي يظهر عندنا من لفظ الرواية وسياقها هو ان السائل شكا إليه انه ربما بال وليس معه ماء ويشتد ذلك عليه بسبب عرق ذكره بعد ذلك أو بلل يخرج من ذكره فيلاقي مخرج البول فيتنجس به ثوبه وبدنه ، فأمره (عليه‌السلام) لذلك بحيلة شرعية يتخلص بها من ذلك وهو ان يمسح غير المخرج من الذكر اعني المواضع

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات.

(2) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء.


الطاهرة منه بعد ما ينشف المخرج بشي‌ء حتى لو وجد بللا بعد ذلك لقدر في نفسه انه يجوز ان يكون من بلل ريقه الذي وضعه وليس من العرق ولا من المخرج فلم يتيقن النجاسة من ذلك البلل حينئذ (الثاني) ـ وهو الذي بنى عليه ان تكون شكاية ذلك السائل انما هي من انتقاض وضوئه بالبلل الذي يجده بعد المسح لاحتمال كونه بولا ، وقوله : «انه لا يقدر على الماء» يعني لازالة ذلك البلل المحتمل كونه بولا فإنه قد تعدى من المخرج الى ثوبه وبدنه ، فأمره (عليه‌السلام) ان يمسح ذكره يعني مخرج البول بعد ما مسح البول عنه بريقه حتى لو خرج بعد ذلك بلل صار مشكوكا فيه من حيث الريق الموضوع على طرف الذكر لاحتمال كونه منه ، هذا حاصل كلامه ، ثم قال وهذا المعنى أوفق بالأخبار الأخر.

ثم قال : وهذان الأمر ان أعني عدم الحكم بالنجاسة إلا بعد التيقن وعدم تعدي النجاسة من المتنجس بابان من رحمة الله الواسعة فتحهما الله لعباده رأفة بهم ونعمة لهم ولكن أكثرهم لا يشكرون فينتقم الله منهم بابتلائهم بالوسواس واتباعهم الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس. انتهى.

أقول : لا يخفى عليك ما في قوله : «وعدم تعدي النجاسة من المتنجس» من الدلالة على العموم للمائع والجامد كما قدمنا ذكره.

ثم أقول لا يخفى ان ما ذكره من هذا الاحتمال الذي بنى عليه الاستدلال مردود من وجوه : (أولها) ـ انه قد ذكر الاحتمالين في معنى الرواية كما قدمنا نقله عنه وهو لم يذكر مرجحا لهذا الاحتمال الذي استند اليه وقد عرفت ان الاحتمال الآخر لا يجري فيما ذهب اليه ، وقد تقرر بينهم انه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال.

و (ثانيها) ـ انه لا دلالة في الخبر على هذا الوضوء الذي بنى عليه هذه المباني المتعسفة وارتكب لأجله هذه التمحلات المتكلفة وان كان قد سبقه الى هذا الاحتمال السيد السند في المدارك ايضا حيث قال بعد نقل خبر حنان : لأنا نجيب عنه أولا بالتقية أو على ان


المراد نفى كون البلل الذي يظهر على المحل ناقضا. انتهى.

و (ثالثها) ـ ان الوضوء الذي ذكره لا يكون إلا بعد البول فلم لا غسل مخرج البول أولا لدفع هذه الحيرة التي شكاها لانه واجد للماء بزعمه وازالة البول التي يكفي فيها مثلا ما على الحشفة لا يحتاج الى كثير ماء حتى ربما يقال انه لا زيادة فيه على الوضوء ، فالواجب حينئذ هو ازالة البول أولا ولا سيما على مذهب الصدوق القائل بإبطال الوضوء ووجوب إعادته مع نسيان غسل مخرج البول كما دلت عليه إخباره التي استند إليها.

و (رابعها) ـ انه لو كانت شكاية السائل اليه انما هو من حيث خوف انتقاض وضوئه بالبلل الخارج من جهة احتمال كونه بولا لكان الاولى جوابه بالأمر بالاستبراء بعد البول ، فإن قضية الاستبراء البناء على طهارة ما يخرج بعده وعدم نقضه للوضوء.

و (خامسها) ـ انه لو كانت الحكمة في الأمر بوضع الريق على مخرج البول انما هو عدم انتقاض الطهارة بأن ينسب ذلك البلل الذي يجده الى الريق ليكون غير ناقض ولا ينسبه الى الخروج من الذكر فيكون ناقضا فأي فرق في ذلك بين الحكم بتعدي النجاسة من المخرج بعد مسحها وعدم تعديها؟ فان وجه الحكمة يحصل على كلا التقديرين فلو قلنا بالتعدي ومسح المخرج بريقه لقصد هذه الحكمة وكون الخارج غير ناقض أمكن وان كان نجسا ، وبالجملة فإنه لا منافاة بين حصول هذه الحكمة وبين القول بتعدي النجاسة.

وبذلك يظهر ان الوجه الصحيح في معنى الخبر انما هو المعنى الأول المشتمل على حكمة ربانية لدفع الوساوس الشيطانية ، ويظهر ايضا بطلان ما ذهب اليه ويكون الخبر بناء على ما اخترنا ظاهرا في الرد عليه ، وذلك فإنه لو كان الملاقي للمتنجس بعد ازالة العين بالتمسح ونحوه لا ينجس لما حسن امره بوضع الريق لان المفروض ان المخرج قد أزيلت عنه عين النجاسة ولم يبق إلا محلها ومحلها لا تتعدى نجاسته كما يدعيه ، فأي وجه لهذه الحكمة بوضع الريق؟ وهو (عليه‌السلام) إنما أمر بوضعه لدفع احتمال تعدي النجاسة


من المحل بالعرق أو خروج شي‌ء من الذكر فينجس بملاقاة المحل بان ينسب ذلك الى الريق الذي وضعه ، ولو صح ما ذكره لم يكن لهذا الاحتمال مجال بالكلية مع انه قد اعترف به وعلى تقديره يبطل به أصل قاعدته.

وبما ذكرناه من هذا التحقيق وأوضحناه من البيان الواضح الرشيق يظهر لك ايضا ما في كلام شيخنا الشهيد في الذكرى حيث قال : وخبر حنان «يمسحه بريقه فإذا وجد بللا فمنه» متروك. انتهى إذ لا وجه لتركه مع وجود معنى صحيح يحمل عليه كما أوضحناه ، والظاهر انه فهم من الخبر كون مسحه بالريق مطهرا من البول عند فقد الماء ولا ريب انه بهذا المعنى متروك إجماعا ، ولو كان صريح الدلالة في ذلك لأمكن حمله على التقية كما احتمله في المدارك لموافقته لمذهب أبي حنيفة من جواز إزالة النجاسة بكل مائع ، هذا.

واما الاخبار التي ادعى أوفقية هذا التأويل بها فهي غير ظاهرة فيما ادعاه ، فمنها صحيح العيص بن القاسم (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه؟ قال يغسل ذكره وفخذيه». وهي بالدلالة على ما ندعيه أقرب وبالرد عليه فيما ذهب إليه أنسب ، وذلك فان الظاهر ان جملة «وقد عرق ذكره» معطوفة على ما تقدمها دون ان تكون حالا كما سيأتي توضيحه ، وحينئذ فتدل الرواية على ان العرق انما وقع بعد البول ومسح الذكر فأمر (عليه‌السلام) بغسل الذكر والفخذين لذلك العرق المتعدي من مخرج البول بعد مسحه.

وبذلك يظهر ما في كلام شيخنا المحقق صاحب رياض المسائل حيث قال في الكتاب ـ بعد نقل خبر حنان المذكور ثم موثقة سماعة الآتية وتأويلهما ـ ما هذا لفظه : ولبعض المعاصرين هنا كلام غريب هو ان المحل النجس إذا أزيل عنه عين النجاسة بغير المطهر الشرعي فلا

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 21 من أحكام الخلوة و 26 من أبواب النجاسات.


تتعدى نجاسته إلى الملاقي ولو مع الرطوبة لأن النجس انما هو عين النجاسة لا المتنجس وجعل هذين الخبرين شاهدا على ذلك ، وهو كلام متين ان لم يقم الإجماع على خلافه ولم يكن ما دل عليه موافقا للعامة وقابلا للتأويل بما ذكرناه ، وأيضا ففي دلالة الخبر الأول على ما ادعاه تأمل ، ويمكن ان يستدل له بما هو أوضح سندا ومتنا وهو صحيح العيص بن القاسم (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه؟ قال يغسل ذكره وفخذيه. وسألته عن من مسح ذكره بيده ثم عرقت يده فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟ قال لا». بان يقال الفرق بين الذكر والفخذ عند عرقهما قبل التطهير الشرعي وبين الثوب عند اصابته لعرق اليد الماسحة للذكر قبله بالأمر بغسلهما دونه لا وجه له ظاهرا سوى الفرق بين ما يلاقي المتنجس وما يلاقي عين النجاسة ، فإن غسلهما انما هو لملاقاتهما بالرطوبة للمحل النجس قبل زوال عين النجاسة بالمسح بالحجر كما يرشد اليه وأو الحال ، وذلك يقتضي تعديها من المحل الى ما يجاوره ويلاصقه من بقية اجزاء الذكر والفخذ بخلاف الثوب فان ملاقاته انما وقعت بالمتنجس وهي اليد الماسحة بعد زوال عين النجاسة عن الماسح والممسوح. انتهى كلامه زيد مقامه.

وفيه (أولا) انه لا يخفى ان مفاد عطف مسح الذكر على البول بالفاء التي مقتضاها الترتيب بلا مهلة هو كون المسح وقع عقيب البول بلا مهلة ، ويؤيده ايضا انه هو المتعارف فإن الإنسان متى بال ولم يكن معه ماء مسح ما بقي على طرف ذكره من البول لئلا يتعدى الى ثوبه أو بدنه فينجسه ولا يعقل انه يتركه بغير مسح حتى يتردد في المغدى والمجي‌ء على وجه يعرق ذكره وفخذاه وعين البول باقية ضمن تلك المدة حتى انه بسبب العرق تتعدى نجاسة البول الى فخذيه مثلا ثم بعد ذلك يمسح ذكره ، بل من المعلوم انه بمجرد المغدى والمجي‌ء تتعدى نجاسة البول من غير حصول عرق إلى سائر

__________________

(1) رواه في الوسائل مقطعا في الباب 6 و 26 من أبواب النجاسات.


بدنه وثيابه ، أو يعقل انه يعرق في محله ذلك من غير تردد على وجه يسيل العرق من مخرج البول إلى سائر اجزاء الذكر والفخذين؟ وبالجملة فمعنى الرواية المتبادر منها انما هو ما ذكرناه أولا وهو انه سأله عن رجل بال فمسح مخرج بوله في وقته ذلك وعرق ذكره وفخذاه بعد ذلك فأمره (عليه‌السلام) بغسل ذكره وفخذيه لملاقاة ذلك المحل المتنجس برطوبة ، وحينئذ فجملة «وقد عرق» معطوفة لا حالية كما أشرنا إليه آنفا ، وحينئذ فتكون هذه الرواية مع رواية حنان دليلا على ما ندعيه من تعدي نجاسة المتنجس بعد ازالة عين النجاسة ومسحها.

و (اما ثانيا) ـ فلان آخر صحيح العيص المذكور غير صريح ولا ظاهر في كون المسح المذكور وقع بمجموع اليد ولا في كون الجزء الماسح منها بعينه هو الذي أصاب الثوب بالعرق بل هو محتمل لذلك ومحتمل لان تكون الملاقاة بجزء من اليد غير الجزء المتنجس منها كما سيأتي تحقيقه.

ومنها ـ رواية سماعة (1) قال : «قلت لأبي الحسن موسى (عليه‌السلام) اني أبول ثم أتمسح بالأحجار فيجي‌ء مني البلل ما يفسد سراويلي؟ قال ليس به بأس». قال شيخنا صاحب رياض المسائل بعد ذكر خبر حنان ورواية سماعة المذكورة انه لا يدل ذلك على طهر المحل بالمسح بوجه من الوجوه وانما يدل على ان وجدان شي‌ء من البلل وان أفسد السراويل من كثرته مع عدم القطع بخروجه من مخرج البول الباقي على النجاسة أو ملاقاته له لا بأس به خصوصا مع مسح ما سوى المخرج من الذكر بالريق فإنه ينسبه الى الريق ، ثم ذكر الكلام الذي قدمنا نقله عنه بقوله : ولبعض المعاصرين. الى الآخر.

ومنها ـ رواية حكم بن حكيم (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أبول فلا أصيب الماء وقد أصاب يدي شي‌ء من البول فأمسحه بالحائط أو التراب ثم تعرق

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 13 من نواقض الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب النجاسات.


يدي فامسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ قال لا بأس به». فإنه لا دلالة فيها على كون اصابة الثوب ومسح الوجه أو بعض الجسد بذلك الموضع النجس ولا على كون النجاسة شاملة لليد كملا حتى تستلزم الإصابة ببعض منها ذلك بل هي أعم من ذلك ، ونفى البأس انما هو لأجل ذلك لانه ما لم يعلم وصول عين النجاسة أو المتنجس إلى شي‌ء ومباشرته له بالرطوبة فلا يحكم بالنجاسة عملا بأصالة الطهارة وتمسكا بها الى ان يعلم الرافع لها ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.

قال المحقق الشيخ حسن في المنتقى بعد ما أورد هذين الخبرين ما نصه «والخبران كما ترى مخالفان لما هو معروف من مذهب الأصحاب ويمكن تأويلهما بالحمل على عدم تيقن اصابة الموضع المتنجس من الكف للثوب والوجه والجسد أو على توهم سريان النجاسة إلى سائر الكف بتواصل رطوبة العرق» انتهى.

أقول : وقد اعترف بذلك في الوافي أيضا فقال بعد ذكر الرواية : الوجه في ذلك أمران (أحدهما) ان بالمسح بالحائط والتراب زال العين ولم يبق من البول شي‌ء فما يلاقيه برطوبة انما يلاقي اليد المتنجسة لا النجاسة العينية والتطهير لا يجب إلا من ملاقاة عين النجاسة. و (الثاني) انه لم يتيقن اصابة البول جميع اجزاء اليد ولا وصول جميع اجزاء اليد الى الوجه أو الجسد أو الثوب ولا شمول العرق كل اليد فلا يخرج شي‌ء من الثلاثة عما كان عليه من الطهارة باحتمال ملاقاة البول فان اليقين لا ينقض بالشك ابدا وانما ينقض بيقين مثله كما يأتي في باب التطهير من المني النص عليه. انتهى.

أقول : ولا استبعاد في حمل الخبرين المذكورين على ما ذكرناه وان لهما نظائر في الاخبار توهم بظاهرها المخالفة وتحتاج في تطبيقها الى نوع تأويل قريب أو بعيد ، مثل صحيحة زرارة (1) قال : «سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟ فقال : نعم لا بأس به إلا ان تكون النطفة فيه رطبة فإن كانت جافة فلا بأس». فإنه يوهم

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.


طهارة المني وقد تقدم القول فيه في الفصل الثالث في نجاسة المني ومثلها صحيحة أبي أسامة (1) وقد تقدم الكلام فيها في الموضع المشار إليه أيضا ، ومثل ذلك في الاخبار كثير كما لا يخفى على من تتبع الاخبار ، والغرض هنا انما هو التنبيه على قبول ما يستدل به على ما ذهب إليه للتأويل كما في نظائره التي من هذا القبيل فلا يحتج بها إذا على خلاف النهج الواضح السبيل الذي عليه عامة العلماء جيلا بعد جيل.

وقد وافقنا في هذا المقام بعض الفضلاء من تلامذته الناسجين على منواله في جل مذاهبه وأقواله حيث قال في حواشيه على الوافي في هذا المقام : ما استدل به الحبر العلامة (طاب ثراه) من الاخبار على ان المتنجس لا ينجس الظاهر انه لا يتم لان ليس فيها ان لهم ان يصلوا على تلك الحال بل سألوا عن كراهة ما فعلوا فأجابهم (عليه‌السلام) بعدم البأس فإذا أرادوا الصلاة تطهروا وطهروا وصلوا ، وان سلمنا هذا فخبر ابن حكيم وعجز خبر العيص الأول لا يدل إلا على ان ما لم يعلم وصول المتنجس إلى شي‌ء رطبا متعديا رطوبته اليه لم يحكم بالنجاسة ، ثم ذكر تأويل خبر حنان بن سدير بنحو آخر غير ما ذكرناه ، الى ان قال وخبر سماعة ان كان المراد بعدم البأس ان يصلي في السعة والحال هذه فهو باطل بالاتفاق بل لا بد من تطهير مخرج البول ولا يبعد وجوب تطهير ثوبه ايضا ، فالمراد اما عدم البأس من فعله واما ان يكون في موضع ليس فيه ماء فبال وتمسح وتيمم ثم وجد البلل فسأل عن انتقاض التيمم به فأجابه (عليه‌السلام) بعدم الانتقاض والحال هذه. انتهى.

قال في الوافي ذيل هذه الاخبار التي نقلنا استناده إليها وتعويله عليها ما نصه : لا يخفى على من فك رقبته عن ربقة التقليد ان هذه الاخبار وما يجري مجراها صريحة في عدم تعدي النجاسة من المتنجس إلى شي‌ء قبل تطهيره وان كان رطبا إذا أزيل عنه عين النجاسة بالتمسح ونحوه وانما المنجس للشي‌ء عين النجاسة لا غير ، على انا لا نحتاج الى

__________________

(1) ص 35.


دليل في ذلك فان عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب إذ لا تكليف إلا بعد البيان. انتهى.

أقول : لا يخفى عليك ما فيه بعد ما عرفت من التحقيق الكاشف عن ضعف باطنه وخافية. اما قوله ان هذه الاخبار صريحة فيما ادعاه فهو ظاهر البطلان ، كيف وهو قد ذكر كما قدمنا نقله في معنى موثقة حنان بن سدير معنيين وكلامه انما يتم على تقدير أحدهما وكذا في رواية حكم بن حكيم ، فكيف تكونان صريحتين فيما ادعاه مع اعترافه بالاحتمالين الآخرين الموجبين لخروج الرواية من قالب الاستدلال؟ ما هذا إلا سهو ظاهر من هذا المحدث الماهر ، واما باقي الأخبار فيما أوضحناه وذكره الأصحاب من وجوه المعاني المحتملة فيها فكيف يدعى صراحتها؟

واما قوله : «ان عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب» ففيه انا قد أوضحنا بحمد الله سبحانه وتوفيقه دلالة موثقة حنان وصدر صحيحة العيص على ما ندعيه من وجوب الغسل في الصورة المذكورة ، مضافا الى ما أشرنا إليه من اخبار تطهير الأواني والفرش والبسط والجلود ونحوها ، هذا ان خصصنا محل النزاع بالأجسام الصلبة وان عممنا الحكم في المائع كما عرفت من انه ظاهر كلامه كان ما ذكره في الضعف والبطلان أظهر من ان يخفى على الصبيان فضلا عن العلماء الأعيان ، والله الهادي لمن يشاء

(المسألة الرابعة) ـ لا خلاف بين الأصحاب فيما اعلم في انه متى علمت الملاقاة الموجبة للتنجيس واشتبه محلها فان كان موضع الاشتباه محصورا وجب اجتناب ما حصل فيه الاشتباه وهكذا في الاشتباه بالمحرم ، وان كان موضع الاشتباه غير محصور لم يظهر للنجاسة أثر وبقي كل واحد من الافراد والاجزاء التي وقع فيها الاشتباه على أصل الطهارة والحلية في الاختلاط بالنجس والحرام ، وحينئذ فالكلام هنا يقع في مقامين :

(الأول) ـ بالنسبة إلى المحصور فان الحكم فيه ما ذكرناه كما عليه كافة الأصحاب الى ان انتهت النوبة إلى السيد السند السيد محمد والمحقق الشيخ حسن وقبلهما


شيخهما المحقق الأردبيلي فنازعوا في الحكم المذكور وتبعهم جمع ممن تأخر عنهم ، وقد سبق البحث معهم في مسألة الإناءين لكنا نورد كلامي السيد والشيخ حسن في ذلك في هذا المقام ونبين ما يتعلق به من النقض والإبرام :

فنقول قال في المدارك ـ بعد قول المصنف : وإذا كانت النجاسة في موضع محصور كالبيت وشبهه وجهل موضع النجاسة لم يسجد على شي‌ء منه ـ ما هذا نصه : هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) واحتجوا عليه بان المشتبه بالنجس قد امتنع فيه التمسك بأصالة الطهارة للقطع بحصول النجاسة فيما وقع فيه الاشتباه فيكون حكمه حكم النجس في انه لا يجوز السجود عليه ولا الانتفاع به في شي‌ء مما يشترط فيه الطهارة. وفيه نظر من وجوه : (اما أولا) فلان أصالة الطهارة إنما امتنع التمسك بها بالنسبة إلى مجموع ما وقع فيه الاشتباه لا في كل جزء من اجزائه فإن أي جزء فرض من الاجزاء التي وقع فيها الاشتباه مشكوك في نجاسته بعد ان كان متيقن الطهارة واليقين انما يخرج عنه بيقين مثله ، وقد روى زرارة في الصحيح عن الباقر (عليه‌السلام) انه قال : «ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا» (1). و (اما ثانيا) فلان ذلك آت بعينه في غير المحصور فلو تم لاقتضى عدم جواز الانتفاع به فيما يفتقر إلى الطهارة وهو معلوم البطلان ، الى ان قال وبالجملة فالمتجه جواز السجود على ما لا يعلم نجاسته بعينه وعدم نجاسة الملاقي له تمسكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض. انتهى.

وفيه (أولا) انه متى جاز التمسك بأصالة الطهارة في كل جزء جزء فإنه ينتج من ذلك الحكم بالطهارة في الجميع البتة ، مثلا ـ في مسألة الإناءين التي هي أحد جزئيات هذه المسألة متى لوحظ هذا الإناء على حدة فإن الأصل فيه الطهارة فيجب الحكم بطهارته وترتب أحكام الطاهر عليه من شربه والوضوء به ونحو ذلك ومتى لوحظ الآخر على حدة كان كذلك ، فاللازم من ذلك هو طهارتهما وجواز استعمالهما وهذا عين السفسطة للزوم سقوط

__________________

(1) تقدمت هذه الجملة من الرواية ص 256.


حكم النجاسة المحققة بالكلية ، والسيد (قدس‌سره) إنما التجأ في دفع ذلك كما تقدم في مسألة الإناءين إلى انه مجرد استبعاد لا يلتفت اليه وانه قد وجد نظيره في حكم واجدي المني في الثوب المشترك ، ونحن قد أوضحنا ثمة بطلانه وهدمنا أركانه.

و (ثانيا) ـ ان النصوص الواردة في جملة من جزئيات هذه المسألة صريحة في إبطال هذا الكلام المزيف ، ومنها ـ مسألة الثوب الذي قد تنجس بعض منه غير معلوم وقد اشتبه موضعه في الثوب كملا ، فان النصوص أوجبت تطهير الثوب كملا ويأتي بمقتضى كلامه هنا انه يكفي تطهير جزء من الثوب بقدر الموضع النجس والنصوص تأباه ، وقد اعترف هو نفسه بذلك في المسألة المشار إليها. ومنها ـ مسألة الثوب النجس المشتبه بثوب آخر طاهر فان الشارع أوجب الصلاة في كل منهما ومقتضى كلامه انه يكفي الصلاة في واحد منهما والنص يدفعه ، ومنها ـ مسألة قطع اللحم المشتبه ذكية بميتة فإن النصوص دلت على حرمة الجميع ومقتضى كلامه هنا حل كل قطعة قطعة منه ، ومنها ـ مسألة الإناءين ، وهذه المسائل كلها متفق عليها بين الأصحاب سلفا وخلفا والنصوص أيضا متفقة فيها على ما ذكرناه والسيد ومن حذا حذوه انما نازعوا في مسألة الإناءين من حيث ضعف السند باصطلاحه وان كان موثقا لعده عنده في قسم الضعيف متى اعرض عنه ، وجملة أصحاب هذا الاصطلاح عملوا به وجبروا ضعفه باتفاق الأصحاب على العمل بمضمونه مع اعترافهم في تلك المسائل الباقية بما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة وان خالف مقتضى قاعدتهم ، والجميع كما ترى أظهر شي‌ء في رد كلامهم واختلال نظامهم فإنه لو كان ما ذكروه حكما كليا بناء على ما توهموه من صحيحة زرارة المذكورة في كلامه لما خرجت الأخبار المعتضدة باتفاق الأصحاب في تلك الجزئيات المذكورة بخلافه ، والمعنى في صحيحة زرارة ليس كما توهموه كما سيظهر لك في المقام ان شاء الله تعالى.

و (ثالثا) ـ انه يلزم بما ذكره هنا ايضا انه لو اشتبهت امه أو أخته أو إحدى محارمه بامرأة أخرى أو اثنتين مثلا فإنه يجوز له نكاح اي تلك النساء شاء لأصالة الحل


في كل واحدة واحدة ولا يحكم بتحريم الام والأخت ونحوهما إلا إذا كانت متشخصة ولا أظنه يتفوه به.

وبالجملة فالقول الفصل والتحقيق الجزل في المقام هو ان يقال لا ريب انه قبل وقوع النجاسة فإن الطهارة متيقنة في كل جزء جزء من اجزاء الأرض مثلا وكل فرد من افراد الأواني المحصورة وبعد وقوع النجاسة ومعلوميتها في موضع مخصوص أو فرد مخصوص فإنه يحكم بنجاسته يقينا ، واما مع وقوعها في جزء من تلك الاجزاء أو فرد من تلك الافراد واشتباهه بالباقي فإنه قد حصل لهذه الاجزاء وهذه الافراد حالة ثالثة بين يقين الطهارة ويقين النجاسة فكل منها ليس بمتيقن الطهارة ولا متيقن النجاسة ، والمعلوم من الشارع انه الحق هذا القسم بالقسم الأول وهو المتيقن النجاسة كما عرفت من الجزئيات التي ذكرناها وكذا بالنسبة إلى اختلاط الحلال بالحرام ، ووجه الفرق بين هذا القسم وما دلت عليه صحيحة زرارة المذكورة ونحوها ان في هذا القسم الذي ذكرناه قد علم وجود النجاسة قطعا ولكن اشتبه علينا موضعها من تلك الافراد والاجزاء ومورد الصحيحة المشار إليها وأمثالها انما هو حصول الظن والشك بالنجاسة ، فالمقابل ليقين الطهارة انما هو الظن أو الشك فمن أجل ذلك أمر (عليه‌السلام) باستصحاب يقين الطهارة وانه لا يخرج عنه بمجرد الظن والشك ، وفرض الشارح هذا بالنسبة الى كل جزء جزء من الاجزاء المحصورة ليس في محله لما يلزم منه من رفع حكم النجاسة المعلومة يقينا بالكلية ومن أجل ذلك دلت النصوص على إعطاء حكم المشتبه بالنجس أو المحرم في المحصور حكم ما اشتبه به ، فان قوله تعالى : «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ...» (1) و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ... الآية» (2) شامل لما لو كان ذلك المحرم متعينا متشخصا أو مشتبها بأفراد مخصوصة متعينة ، فإنه كما يقطع بوجود النجس والحرام مع التشخص بقطع ايضا بوجوده في صورة الاشتباه في الافراد المعينة فتشمله الأوامر المذكورة ، غاية الأمر انه لما لم

__________________

(1) سورة المائدة ، الآية 4.

(2) سورة النساء ، الآية 23.


يمكن الوصول الى الاجتناب عن ذلك النجس أو المحرم إلا بالاجتناب عن الجميع وجب اجتناب الجميع من باب ان ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ونظيره في الأحكام غير عزيز فان من فاتته صلاة فريضة واشتبهت بباقي الخمس وجب عليه الإتيان بالجميع نصا وفتوى بالتقريب المذكور ، واما لو لم يكن محصورا كالموجود بأيدي الناس وفي الأسواق فإنه لا يقطع بوجود المحرم ولا النجس فيما يراد استعماله منه وان علم وجوده في الواقع ونفس الأمر ، ومن هنا حكم الشارع بحل ما في أيدي المسلمين وأسواقهم وطهارته وجواز شرائه وان علم وجود الحرام والنجس في أيدي بعض الناس الغير المعلومين ، وهذا هو الذي وردت فيه صحيحة زرارة المذكورة في كلامه ونحوها وورد فيه «ان كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» (1). وورد «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر» (2). فهذه الاخبار انما وردت في غير المحصور دون المحصور بمعنى ان كل شي‌ء له افراد بعضها طاهر وبعضها نجس أو بعضها حلال وبعضها حرام فان الحكم فيها الطهارة والحلية حتى يعلم كونه من الافراد المحرمة أو النجسة ، ومن هنا دخلت الشبهة على جملة من أفاضل متأخري المتأخرين حيث أجروا هذه الاخبار في قسم المحصور ومنهم السيد المذكور ونحوه ممن حذا حذوه في مسألة الطهارة والنجاسة والمحدث الكاشاني والفاضل الخراساني في مسألة اختلاط الحلال بالحرام فحكموا بحل الجميع في المحصور ، وهذا غلط نشأ من عدم التأمل في الاخبار ، وقد أشبعنا الكلام معهما في الدرر النجفية.

ومما يوضح ما قلناه موثقة مسعدة بن صدقة عن الصادق (عليه‌السلام) (3) قال : «سمعته يقول كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك وهو حر

__________________

(1 و 3) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب ما يكتسب به.

(2) رواه في الوسائل في الباب 37 من النجاسات.


ولعله قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة». ورواية أبي الجارود المروية في المحاسن (1) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الجبن فقلت له أخبرني من رأى انه يجعل فيه الميتة؟ فقال أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ ما علمت أنه ميتة فلا تأكل وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله اني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان». الى غير ذلك من الاخبار ، ومورد الخبرين وان كان الحل والحرمة إلا ان المسألتين من باب واحد فبعين ما قيل هنا يقال في «كل شي‌ء طاهر حتى يعلم انه قذر». بمعنى انا نحكم على كل شي‌ء نراه في أيدي الناس وأسواقهم بالطهارة وان كان نجسا في الواقع ونستصحب هذا الحكم الى ان يعلم الرافع له لا ان مورده المحصور كما في مسألة الإناءين ونحوها لمعلومية النجاسة الموجبة للخروج عن ذلك الأصل. والله العالم.

وقال المحقق الشيخ حسن في المعالم : وإذا علمت الملاقاة على الوجه المؤثر واشتبه محلها فان كان موضع الاشتباه غير محصور لم يظهر للنجاسة أثر وبقي كل واحد من الاجزاء التي وقع فيها الاشتباه على أصل الطهارة لا نعرف في ذلك خلافا ، وان كان محصورا فظاهر جماعة من الأصحاب انه لا خلاف حينئذ في وجوب اجتناب ما حصل فيه الاشتباه كما مر في اشتباه الإناء من الماء الطاهر بالنجس ، ولم يذكروا على الحكم هنا حجة وقد بينا في مسألة الإناءين ان العمدة في الحكم بوجوب اجتنابهما على الإجماع المدعى هناك وان ما عداه من الوجوه التي احتجوا بها ضعيفة مدخولة ولعل اعتمادهم في الحكم هنا ايضا على الإجماع لا على تلك الوجوه. انتهى.

أقول : اما ما ذكره بالنسبة إلى المحصور من انه ظاهر جماعة من الأصحاب المؤذن بعدم الاتفاق على ذلك فهو مردود بأنه لم يوجد المخالف في هذه المسألة بكل من طرفيها اعني

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 61 من الأطعمة المباحة.


المحصور وغير المحصور سواه ومن في طبقته ومن تأخر عنه ، ولهذا انه في المدارك كما قدمنا في عبارته قال هذا الحكم ـ إشارة إلى المحصور ـ مقطوع به في كلام الأصحاب واما ما ذكره من انه ليس عليه دليل ولا حجة سوى الإجماع فهو مردود بما عرفت من الجزئيات الداخلة تحت هذه القاعدة الثابتة بالنصوص ، ولا يخفى ان القواعد الكلية في الأحكام الشرعية كما تثبت بورود النص في الحكم مسورا بسور الكلية كذلك تثبت بتتبع الجزئيات المتفقة على ذلك الوجه ، ونحن قد تتبعنا الأخبار بالنسبة إلى المحصور فوجدناها قد وردت في جملة من الأحكام متفقة النظام ملتئمة تمام الالتئام على الدخول تحت هذه القاعدة التي ذكرها الأصحاب وهو إعطاء المشتبه بالنجس والحرام حكمهما في المحصور كما مرت إليه الإشارة ، والقواعد الكلية كما تثبت بورودها مسورة بسور الكلية تثبت ايضا بتتبع الجزئيات واتفاقها على نهج واحد في الحكم كالقواعد النحوية المبنية على تتبع جزئيات كلام العرب ، وأكثر القواعد في الأحكام الشرعية انما هو من هذا القبيل كما لا يخفى على المتتبع من ذوي التحصيل ، ويعضد ذلك الإجماع المدعى في المسألة والوجوه التي ذكروها وقد بينا وجه صحتها في مسألة الإناءين. والله العالم.

(المقام الثاني) ـ بالنسبة الى غير المحصور وقد عرفت إجماع الأصحاب هنا ايضا على ارتفاع حكم النجاسة ، بقي الإشكال في انه لم يرد في الاخبار في هذا المقام التعبير بالمحصور وغير المحصور وترتب كل من حكمي المحصور وغير المحصور على وجود هذا العنوان وانما المستفاد من تتبعها كما قدمنا بيانه انه متى وقع الاشتباه في افراد معلومة مشاهدة كمسألة الإناءين واللحم المختلط ذكية بميتة والثياب المختلط نجسها بطاهرها ونحو ذلك فإنه يجب عليه اجتناب الجميع وان الشارع قد اعطى المشتبه هنا حكم ما اشتبه به في النجاسة والحرمة ، واما ما يوجد في أيدي المسلمين وأسواقهم فالحكم فيه هو الطهارة والحلية وان علم النجس والحرام في الجملة لا في تلك العين بخصوصها متحدة أو متعددة ، والأصحاب هنا قد عبروا عن الحكمين المذكورين بالمحصور وغير المحصور وكلامهم في بيان المراد من ذلك


لا يخلو من اضطراب. فجملة من الأصحاب جعلوا المرجع في الحصر الى ما يصدق عليه العرف إذ لم يثبت له حقيقة في غيره ومثلوا له في الأرض بالبيت والبيتين ولغير المحصور فيها بالصحراء.

وقال المحقق الشيخ علي في حاشية الشرائع : المراد بالمحصور وغير المحصور ما كان كذلك في العادة لأن الحقيقة العرفية مقدمة على اللغوية عند فقد الشرعية ، ولانه لولا ارادة العرفية هنا لامتنع تحقق الحكم فان كل ما يوجد من المعدودات فهو قابل للعد والحصر والمراد به ما يعسر حصره وعده عرفا باعتبار كثرة آحاده ، وطريق ضبطه وضبط أمثاله انك إذا أخذت مرتبة من مراتب العدد عليا تقطع بأنها مما لا يحصر ولا يعد عادة لعسر ذلك في الزمان القصير كالألف مثلا تجعلها طرفا ثم تأخذ مرتبة اخرى دنيا كالثلاثة مما يقطع بكونها محصورة ومعدودة لسهولة عدها في الزمان القصير فتجعلها طرفا مقابلا للأول ثم تنظر فيما بينهما من الوسائط فكل ما جرى مجرى الطرف الأول تلحقه به وما جرى مجرى الطرف الثاني تلحقه به وما وقع فيه الشك يعرض على القوانين والنظائر ويراجع فيه القلب فان غلب على الظن إلحاقه بأحد الطرفين فذاك وإلا عمل فيه بالاستصحاب الى ان يعلم الناقل ، وهذا ضابط لما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطهارة والنكاح وغيرهما ، فمتى اشتبه الذكي بغيره والطاهر بالنجس في الثياب والمكان والأواني والمياه وغير ذلك والمحرمة بالأجنبية وكان غير محصور لم يجب الاجتناب وإلا وجب ، إذا عرفت ذلك فاعلم أن المشتبه بالنجس من الأمكنة كالبيت والبيتين له حكمه على معنى وجوب اجتناب الجميع فلا يجوز ان يجعل شي‌ء منه مسجد الجبهة لما تقرر من ان مسجد الجبهة يشترط فيه الطهارة وقد تكافأ في المشتبه بالنجس كل من طرفي الطهارة والنجاسة ، وكذا استعماله في كل ما يشترط فيه الطهارة كالتعفير في إناء الولوغ والتيمم ، اما لو باشر بعضه برطوبة فإن المحل الملاقي لا ينجس إذا كان مملوكا لطهارته قبل ذلك لعدم القطع بملاقاة النجاسة فيستصحب حكم الطهارة


والثابت قبل الملاقاة ، وما وقع في كلامهم من ان المشتبه بالنجس له حكم النجس لا يريدون به من جميع الوجوه للقطع بأنه في الأصل طاهر قطعا ولم يعرض له تنجيس وما كان كذلك فهو في نفسه على طهارته فقد خالف حكم النجس من هذا الوجه ، وغاية ما هناك ان الاشتباه صيره بحيث يمتنع استعماله فيما يشترط فيه الطهارة فصار كالنجس من هذه الجهة ، على ان تشبيه شي‌ء بآخر لا يقتضي المساواة من كل وجه كما تقرر بين الأصوليين. انتهى كلامه علا مقامه.

أقول : ومما يمكن ان يؤيد ما ذكره في غير المحصور بأنه ما يعسر حصره عرفا باعتبار كثرة آحاده موثقة حنان بن سدير عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «في جدي رضع من خنزيرة حتى شب واشتد عظمه استفحله رجل في غنم له فخرج له نسل ما تقول في نسله؟ فقال اما ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه واما ما لم تعرفه فإنه بمنزلة الجبن». والتقريب فيه انه لكثرة تلك الغنم على وجه يعسر عدها فالحكم فيه الحلية لكل فرد فرد منها ، ويمكن ـ ولعله الأقرب ـ ان الوجه فيه انما هو عدم معلومية بقاء ما خرج من نسله في تلك الغنم لكثرتها فلعله قد ذهب منها بأحد وجوه الذهاب كما يشير اليه التنظير بالجبن من حيث عدم معلومية الحرام منه بعينه. واما ما ذكره بالنسبة إلى ملاقي ذلك المشتبه برطوبة وانه لا يتعدى اليه حكم ما لاقاه فهو أحد القولين في المسألة وقد تقدم تحقيق القول فيه في مسألة الإناءين.

وجمع من المتأخرين جعلوا المرجع في صدق الحصر وعدمه الى حصول الحرج والضرر بالاجتناب وعدمه ، قال في المعالم : وهذا الكلام ناظر الى ما يوجد في عبارات كثير من تعليل عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور بلزوم المشقة والعسر. وليس بشي‌ء فإن الغرض من هذا التعليل كما يظهر تقريب الحكم لا الاستدلال له إذ لا يعقل الاعتماد في مثل هذه التفرقة والبناء في تأسيس هذا الحكم على نحو هذه القاعدة كما هو

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة.


واضح ، ولو قدر بناء الحكم على ذلك لانهار من أصله إذ المشقة قد تنتفي في كثير مما ليس بمحصور وربما وجدت في بعض افراد المحصور فأي معنى حينئذ لجعل الحصر مناطا للحكم وقد كان الواجب على هذا ان يناط بعدم المشقة ووجودها. وبالجملة فالإشكال في التفرقة هنا بين ما يجب فيه الاجتناب وما لا يجب قوى جدا إذ ليس لها شاهد من جهة النص يعول في حكمها عليه وانما هي من عبارات الفقهاء ، والرجوع الى القاعدة المقررة في الألفاظ التي لم يثبت لها حقيقة من جهة الشرع يتوقف على وجدان غيرها ، ولا يكاد يظهر من اللغة ولا من العرف معنى مشخص لهذا اللفظ يطابق ما هو غرضهم منه ، مع ان في كلامهم اختلافا في التمثيل للمحصور فالمحقق والفاضل مثلا له بالبيت وقد حكينا عن جماعة التمثيل بالبيت والبيتين ومثل بعض بالبيتين والثلاثة ، وربما فسر غير المحصور بما يعسر حصره وعده لكثرة آحاده ، والظلام يلوح على الكل. انتهى. وهو جيد

وانما أطلنا الكلام بنقل كلماتهم في المقام لتطلع على ان النفخ في غير ضرام. وبالجملة فالمستفاد من الاخبار هو ما قدمنا ذكره فكل ما دخل في افراد القسم الأول الحق به وما دخل في افراد الثاني الحق به وما اشتبه الأمر فيه فالاحتياط طريق السلامة. والله العالم.

(المسألة الخامسة) ـ قال في المعالم ان حكم بنجاسة شي‌ء لعروض أحد الأسباب المقتضية لذلك توقف في عوده إلى الطهارة على العلم بحصول أحد الوجوه التي ثبت كونها مفيدة للتطهير أو ما يقوم مقام العلم وهو شهادة العدلين ، ويحتمل الاكتفاء باخبار العدل الواحد لعموم مفهوم قوله تعالى : «... إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ... الآية» (1) ولا اعتبار باخبار غير العدل إلا ان ينضم إليه القرائن المفيدة معه للعلم ، ولو افادته منفردة كفت في الحكم بالطهارة أيضا. انتهى.

أقول : لم أقف على من تعرض لهذا الحكم غيره بنفي أو إثبات إلا الفاضلان

__________________

(1) سورة الحجرات ، الآية 6.


الأمين الأسترآبادي والمحقق السيد نعمة الله الجزائري فإنهما نقلا عن جملة من علماء عصريهما انهم كانوا لأجل هذه الشبهة يهبون ثيابهم للقصارين أو يبيعونها عليهم ثم يشترونها منهم مستندين الى ما قدمنا نقله عن المحقق المذكور ، ثم ردا ذلك بان المستفاد من الاخبار ان كل ذي عمل فهو مؤتمن على عمله ما لم يظهر منه خلافه ، قال الأمين الأسترآبادي في الفوائد المدنية في عد جملة من أغلاط الفقهاء : ومن جملتها ان جمعا من أرباب التدقيق منهم زعموا انه إذا علمنا نجاسة ثوب مثلا لا نحكم بطهارته إلا إذا قطعنا بإزالتها أو شهد عندنا شاهدان عدلان لان اليقين لا ينقض إلا بيقين أو بما جعله الشارع في حكم اليقين وهو شهادة العدلين في الوقائع الجزئية. وانا أقول : لنا على بطلان دقتهم دليلان : (الأول) ان اللبيب الذي تتبع أحاديثنا بعين الاعتبار والاختبار يقطع بأنه يستفاد منها ان كل ذي عمل مؤتمن على عمله ما لم يظهر خلافه ، وان شئت ان تعلم كل ما علمنا فانظر إلى الأحاديث الواردة في القصارين والجزارين وحديث تطهير الجارية ثوب سيدها (1) والحديث الصريح في ان الحجام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة (2) لكن لا بد من قريحة قويمة وفطنة مستقيمة وإلا لا تعبت نفسك وغيرك فان كلا ميسر لما خلق له. و (الدليل الثاني) ان هذه المسألة مما يعم به البلوى فلو كان مضيقا كما زعموا لظهر عندنا منه اثر واضح بين ، ولم يظهر منهم (عليهم‌السلام) إلا ما يدل على التوسعة وقد بلغني أن جمعا من فحول علمائهم المتورعين يهبون الثياب النجسة للقصارين ثم يسترجعونها ومن المعلوم عند الفقيه الحاذق ان هذه الحيلة غير نافعة. انتهى كلامه.

أقول : ومن الاخبار التي أشار إليها ما ورد في صحيحة الفضلاء (3) «أنهم سألوا أبا جعفر (عليه‌السلام) عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون؟

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب 18 من أبواب النجاسات وسيأتي ص 287.

(2) المروي في الوسائل في الباب 56 من النجاسات وسيأتي ص 287.

(3) المروية في الوسائل في الباب 29 من الذبائح.


فقال كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه». وفي رواية سماعة (1) قال : «سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت والغراء؟ فقال لا بأس به ما لم تعلم أنه ميتة». وفي صحيحة إبراهيم بن ابي محمود (2) «انه قال للرضا (عليه‌السلام) الخياط والقصار يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم انه يبول ولا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال لا بأس». وفي صحيحة معاوية بن عمار (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث.». وقد تقدمت قريبا ، وفي رواية عبد الأعلى عن الصادق (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن الحجامة أفيها وضوء؟ قال لا ولا يغسل مكانها لان الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه ولم يكن صبيا صغيرا». الى غير ذلك من الاخبار الواردة من هذا القبيل ، والتقريب فيها ان أصالة الطهارة والحلية التي قد صارت قاعدة انما بنيت على ائتمانهم على أعمالهم المذكورة ، ويؤيد ذلك ما ورد في كثير من اخبار الصناع والمستأجرين على الأعمال إذا أفسدوا من انه لا يضمنه إلا ان يتهمه فمتى كان مأمونا لا يتهمه فلا يضمنه ولا يغرمه ما أفسد ، وليس الوجه فيه إلا انه مؤتمن وموثوق بعمله وانه لا يخالف صاحب العمل إلا ان يكون بغير اختياره وهو ظاهر في التأييد.

واما الرواية التي أشار إليها المحدث المذكور بحديث تطهير الجارية ثوب سيدها فهي رواية ميسر (5) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غسله فأصلي فيه فإذا هو يابس؟ فقال أعد صلاتك اما انك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء». وهذا الخبر ربما استند اليه من ذهب الى

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 38 من الذبائح.

(2) المروية في الوافي في باب (التطهير من مس الحيوانات) من أبواب الطهارة من الخبث.

(3) المروية في الوسائل في الباب 73 من النجاسات وتقدمت ص 255.

(4) المروية في الوسائل في الباب 56 من النجاسات.

(5) المروية في الوسائل في الباب 18 من أبواب النجاسات.


التمسك بأصالة النجاسة حتى يظهر الرافع حيث امره (عليه‌السلام) بإعادة الصلاة لما لم يكن هو الغاسل بنفسه لقوله (عليه‌السلام) : «اما لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء» وهو غلط فان ظاهر الخبر ان الأمر بإعادة الصلاة انما هو لبقاء المني لا لكون الجارية قد غسلته وغسلها غير معتبر ولا مطهر حتى لو فرض أنه إزالته عن الثوب ولم يجده فيه كان عليه إعادة الصلاة وغسل الثوب لعدم الاعتداد بغسلها فإنه توهم محض ، بل الأمر في الإعادة والغسل انما ابتنى على وجود المني ، وبهذا التقريب يكون الخبر من أدلة المسألة كما ذكره المحدث المذكور فان مفهوم الخبر انه لو لم يجد المني لم يأمره (عليه‌السلام) بإعادة الصلاة ، وفيه حينئذ دلالة على الاكتفاء بغسل الجارية كما هو المدعى (فان قيل) انه لو كان غسل الجارية معتبرا شرعا وموجبا لطهارة الثوب لم تجب الإعادة وان وجد المني بعد ذلك لانه وان علم بالمني فيه سابقا إلا انه قد بنى على طهارة الثوب طهارة شرعية موجبة لجواز الصلاة كجاهل النجاسة فلا تتعقبه الإعادة (لأنا نقول) ان غسل الجارية انما يكون غسلا شرعيا معتدا به لو لم يظهر فساده واما بعد ظهور فساده فلا مجال للحكم بكونه شرعيا وقوله (عليه‌السلام) : «اما لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء» يعني انك لو غسلت أنت لبالغت في إزالة النجاسة ولم يبق منها اثر فلم يكن عليك اعادة.

ومما يؤيد ما ذكرناه ايضا ان الظاهر من الأخبار ان الناس في الصدر الأول كانوا يدفعون ثيابهم للغسال لأجل غسلها من الأوساخ والنجاسات ويسترجعونها ويلبسونها ويصلون فيها من غير تناكر ولو كان ما ذكروه حقا من انه لا يتم الحكم بالطهارة إلا بتمليكه إياها لنقل ذلك. وايضا فمن المعلوم وجود الأطفال في بيوت الأئمة (عليهم‌السلام) وبيوت أصحابهم ولا ريب في حصول النجاسات أيضا في ثيابهم منهم أو من غيرهم ولو كان ما ذكروه حقا لورد في خبر من الاخبار أو نقله ناقل في عصر من الأعصار وليس فليس.


والى هذا الوجه أشار المحدث المتقدم ذكره بالدليل الثاني وهو عموم البلوى بذلك ومرجعه الى العمل بالبراء فالأصلية في مثل هذا الموضع كما تقدم ذكره في مقدمات الكتاب ، وقد وجهه في موضع آخر من كتابه المتقدم ذكره قال : فان جمعا غفيرا من أصحابهم (عليهم‌السلام) منهم الأربعة آلاف رجل الذين هم أصحاب الصادق (عليه‌السلام) وتلامذته كانوا ملازمين لهم في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة وكان همهم وهم الأئمة (عليهم‌السلام) إظهار الدين وترويج الشريعة وكانوا لحرصهم على ذلك يكتبون كل ما يسمعونه خوفا من عروض النسيان لهم وكان الأئمة (عليهم‌السلام) يحثونهم على ذلك وليس الغرض منه إلا العمل بذلك بعدهم ، ففي مثل ذلك يجوز التمسك بالبراءة الأصلية إذ لو كان ثمة دليل والحال كذلك لظهر.

على ان ما اعتمده هذا القائل ـ من ان يقين النجاسة لا يرتفع إلا بيقين الطهارة على إطلاقه ـ ممنوع :

(أما أولا) ـ فلعدم الدليل عليه والنصوص انما وردت بذلك بالنسبة إلى أصالة الطهارة والحلية لبناء الأحكام الشرعية على السهولة والسماحة ، وقياس النجاسة على ذلك قياس مع الفارق.

و (اما ثانيا) ـ فإنه منقوض بما ذهب اليه جمع من المحققين : منهم ـ المحدث المذكور من الحكم بطهارة الإنسان بمجرد الغيبة لأن معلومية الحدث من المكلف في اليوم والليلة بالبول والغائط مما لا سبيل إلى إنكاره فالحكم بنجاسته يقيني البتة فلو توقف الحكم بطهارته على يقين وجود ذلك لم يمكن الحكم بطهارة أحد من الناس بالكلية ولو اكتفى باخباره بالطهارة. فإنه لا يجوز الصلاة خلف الامام حتى يسأله عن ذلك ، وكذا لو رأى في ثوب أحد نجاسة مثلا ثم رآه بعد ذلك خاليا من تلك النجاسة فإنه لا يجوز له استعماله والصلاة فيه وان يقتدي بإمام يصلي فيه حتى يسأله عن ذلك ، واللوازم كلها باطلة إذ لا قائل بها ولا دليل عليها بل الأدلة على خلافها ظاهرة.


و (اما ثالثا) ـ فلانه قد ورد في جملة من المواضع الخروج عن اليقين بمجرد الظن كما في صورة إخبار المرأة بموت الزوج واخبارها بالطلاق واخبارها بالخروج من العدة والنقاء من الحيض ، فان الشارع قد جوز قبول خبرها في هذه المواضع كلها وغاية ما يفيده هو الظن مع ان الأمور التي أخبرت بالخروج عنها متيقنة معلومة تترتب عليها أحكام شرعية وتنتفي تلك الأحكام بقبول خبرها ، وحينئذ فقول ذلك القائل ان يقين النجاسة لا يخرج عنه إلا بيقين الطهارة ان أراد من حيث خصوص النجاسة فقد عرفت انه لا دليل عليه ، وان أراد أنه حيثما كان اليقين وفي أي موضع كان فإنه لا يجوز الخروج عنه إلا بما يوجب اليقين فهذه جملة من المواضع قد جوز الشارع فيها الخروج عن اليقين بمجرد الظن ، ونحو ذلك ما ورد في حسنة زرارة والفضيل (1) من انه متى شك في الصلاة وانه اتى بها أو لم يأت بها بعد خروج الوقت فإنه لا يلتفت ، مع ان اشتغال الذمة متيقن ومجرد خروج الوقت لا يوجب يقين البراءة ، بل ورد في القاعدة المتفق عليها من ان يقين الطهارة لا يجوز الخروج عنه إلا بيقين النجاسة ما أوجب الخروج في بعض الجزئيات بمجرد الشك كمن تطهر بعد ان بال ولم يستبرئ أو اغتسل ولم يبل ثم خرج منه بلل مشتبه فإنه ينقض وضوءه وغسله مع انه غير متيقن كونه بولا أو منيا ، الى غير ذلك من المواضع التي من هذا القبيل. ولا يخفى انه ولو أمكن تطرق المناقشة الى بعض ما ذكرناه من الأدلة إلا انها باجتماعها مما تفيد دلالة قوية على ما ذكرناه والله العالم.

البحث الثاني

فيما تجب إزالته من النجاسات وما يعفى عنه وفيه مسائل (الأولى) ـ اتفق الأصحاب عدا ابن الجنيد على انه تجب ازالة النجاسات عن الثوب والبدن للصلاة والطوافين الواجبين عدا الدم على التفصيل الآتي فيه ان شاء الله تعالى ، وكذا ما تتم

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 60 من أبواب مواقيت الصلاة.


الصلاة فيه من الثياب إذا لم يمكن إبداله بطاهر. وقال ابن الجنيد في مختصره : كل نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها فيه مجتمعة أو متفشية دون سعة الدرهم الذي تكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك إلا ان تكون النجاسة دم حيض أو منيا فان قليلهما وكثيرهما سواء. انتهى. وظاهر هذا الكلام انه قصر الحكم بوجوب ازالة النجاسات كلها عدا دم الحيض والمني على ما بلغ منها مقدار سعة الدرهم فصاعدا وسوى في دم الحيض والمني بين القليل والكثير ، وظاهره طهارة الناقص عن الدرهم من النجاسات التي ذكرها ، والمشهور في كلام الأصحاب ان خلافه انما هو في العفو فلعل الكلام في عبارته خرج مخرج التجوز والتوسع ، ومن العجب انه في المعتبر عزى اليه القول بالعفو هنا كما هو المعروف في كلام غيره وفي حكم الدم نسب اليه القول بطهارة القليل منه ، ولا يخلو من تدافع فان عبارته المحكية عنه هنا ظاهرة في تساوي الدم وغيره في عدم نجاسة ما دون سعة الدرهم أو العفو عنه اللهم إلا ان يكون ما نقله في مسألة الدم من كتاب آخر أو قول آخر نسب اليه.

ويدل على القول المشهور الأخبار الكثيرة المتضمنة للغسل من النجاسات ، إذ من الظاهر ان الغسل ليس واجبا لنفسه وانما هو لأجل العبادة ونحوها ، وقد وقع التصريح في جملة من الاخبار الصحيحة بإعادة الصلاة بنجاسة الثوب بالبول والمني والمسكر وقدر الدرهم من الدم وعذرة الإنسان والسنور والكلب ورطوبة الخنزير ، وهي مطلقة في القليل من النجاسات المذكورة والكثير ، وجملة من الأخبار الدالة على ما ذكرنا قد تقدمت في أصناف النجاسات ، وسيأتي طرف منها في المباحث الآتية وطرف في الخلل الواقع في الصلاة ان شاء الله تعالى.

فرع

قد صرح جماعة من الأصحاب بأن اعتبار الطهارة في ملبوس المصلي ومحموله


الذين تتم فيهما الصلاة انما هو فيما يقله منهما ولو في بعض أحوال الصلاة فلو تنجس طرف الثوب الذي لا يقله على حال منها كالعمامة لم يضر لانتفاء الحمل واللبس عن موضع النجاسة. واستحسنه المحقق الشيخ حسن في المعالم معللا له بأن أصالة البراءة تقتضيه والأدلة الدالة على اشتراط الطهارة وإيجاب الإزالة لا تصلح لتناول مثله ، قال وممن تعرض لهذه المسألة الشيخ في الخلاف فقال : إذا ترك على رأسه طرف عمامة وهو طاهر وطرفها الآخر على الأرض وعليه نجاسة لم تبطل صلاته ، وحكى عن بعض العامة القول بالبطلان به ، وقال بعد ذلك دليلنا ان الأصل براءة الذمة فمن حكم ببطلان هذه الصلاة فعليه الدلالة. انتهى. وهو جيد

واما ما ذهب اليه ابن الجنيد فلم نقف له على مستند وقد اعترف بذلك جملة من الأصحاب أيضا ، والعلامة في المختلف احتج له بالقياس على الدم وأجاب عنه بأن نجاسة المذكورات أغلظ من نجاسة الدم فقياس حكمها على المني أولى. انتهى. وكل من الاحتجاج والجواب بمكان من الضعف.

ثم انه قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تعداد المواضع التي تجب فيها الإزالة بعد الثوب والبدن مسجد الجبهة ، وعلله الشهيد في الذكرى بالنص فقال : وتجب ازالة النجاسات عن مسجد الجبهة أيضا للنص. ولم أقف على هذا النص ولا نقله ناقل فيما اعلم بل ربما ظهر من النصوص خلافه كما سيأتي في بحث المكان من كتاب الصلاة.

وعن مكان المصلي بأسره عند المرتضى والمساجد السبعة عند ابي الصلاح ، وسيأتي الكلام فيها في الموضع المشار اليه.

وعن المأكول والمشروب وأوانيهما مع الملاقاة برطوبة لتحريم النجس ، وهو جيد وعليه تدل الأخبار الآتية الدالة على الأمر بتطهير الأواني فإنه ليس ذلك إلا لأجل الأكل والشرب.

وعن ما أمر الشارع بتعظيمه كالمصحف والضرائح المقدسة ، وهو حسن للأمر بتعظيم شعائر الله.


وعن المساجد وقد نقل الإجماع عليه جمع من الأصحاب : منهم ـ الشيخ في الخلاف فإنه قال : لا خلاف في ان المساجد يجب ان تجنب النجاسة. وعن ابن إدريس انه نقل إجماع الأمة ، وظاهر جمع : منهم ـ الفاضلان انه لا فرق في ذلك بين النجاسة المتعدية وغيرها حتى قال في التذكرة : لو كان معه خاتم نجس وصلى في المسجد لم تصح صلاته

واستدلوا على ذلك بقوله عزوجل : «... إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ...» (1) حيث رتب النهي على النجاسة فيكون تقريبها حراما ومتى ثبت التحريم في المسجد الحرام ثبت في غيره إذ لا قائل بالفصل. وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «جنبوا مساجدكم النجاسة» (2).

واعترض عليه بأنه يتوجه على الأول ان النجاسة لغة المستقذر والواجب الحمل عليه الى ان تثبت الحقيقة الشرعية ولم يثبت كون المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء حقيقة شرعية. سلمنا الثبوت لكن النهي انما ترتب على نجاسة المشرك خاصة فإلحاق غيرها بها يحتاج الى دليل وهو منتف هنا. سلمنا ذلك لكن النهى انما تعلق بقرب المسجد الحرام خاصة وعدم الظفر بالقائل بالفرق بينه وبين غيره لا يدل على العدم فيحتمل الفرق. وعلى الثاني الطعن في الرواية بعدم الوقوف على المستند والمراسيل لا تنهض حجة في إثبات حكم مخالف للأصل ، وأيضا فإن مجانبة النجاسة المساجد تتحقق بعدم تعديها إليها فيحصل به الامتثال ولا يلزم من ذلك تحريم إدخالها مع عدم التعدي ، ومن ثم ذهب جمع من المتأخرين الى عدم تحريم إدخال النجاسة الغير المتعدية الى المسجد أو فرشه وآلته. انتهى وهو جيد.

ويؤيد ما ذكره أخيرا من عدم تحريم إدخال النجاسة الغير المتعدية ما نقله الشيخ في الخلاف من الإجماع على جواز عبور الحيض من النساء في المساجد مع عدم انفكاكهن من

__________________

(1) سورة التوبة ، الآية 28.

(2) رواه في الوسائل في الباب 24 من أحكام المساجد.


النجاسة غالبا ، وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة معاوية بن عمار الواردة في المستحاضة (1) «. وان كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء.». وربما لاح منه تحريم إدخال النجاسة المتعدية حيث خص دخولها المسجد بصورة ما إذا لم يثقب الكرسف ، وظاهرهم الاتفاق على تحريم إدخال النجاسة المتعدية ولا اعرف لهم دليلا سواه الا ما لاح من الرواية المشار إليها ، الا انه قد روى عمار في الموثق ايضا عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الدمل يكون في الرجل ، فينفجر وهو في الصلاة ، قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة». فإن إطلاقها شامل لما لو كانت الصلاة في المسجد بل هو الغالب ، والعفو عن هذا الدم انما ثبت بالنسبة الى المصلي خاصة كما يأتي ان شاء الله ذكره ، وبالجملة فأصالة الجواز أقوى دليل في المقام الى ان يثبت المخرج عنها.

بقي الكلام في ان المفهوم من كلامهم القطع بوجوب الإزالة على الفور كفاية بناء على التحريم فلو أخل بالإزالة اثم ، ولو صلى والحال هذه فان كان في ضيق الوقت فلا خلاف في الصحة واما في السعة فقولان مبنيان على ان الأمر بالشي‌ء هل يستلزم النهي عن ضده الخاص أم لا؟ ولهم في هذه المسألة أبحاث طويلة الذيل نقضا وإبراما في الأصول وفي مواضع من كتب الفروع ، والذي أقوله في ذلك واعتمد عليه في أمثال هذه المسالك هو الثاني ، وتوضيحه ان يقال : التحقيق عندي وان أباه من الف بالقواعد الأصولية انا متى رجعنا إلى الأدلة العقلية في الأحكام الشرعية فهي لا تقف على حد ولا ساحل ولهذا كثرت في هذه المسألة الأبحاث وتصادمت من الطرفين الدلائل وصنفت فيها الرسائل واضطربت فيها أفهام الأفاضل.

والجواب الحق عما ذكروه ان يقال (أولا) ـ ان الأحكام الشرعية توقيفية

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.

(2) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب النجاسات.


من الشارع فلو كان لهذه المسألة أصل مع عموم البلوى بها لخرج عنهم (عليهم‌السلام) ما يدل عليها أو يشير إليها وحيث لم يخرج عنهم فيها شي‌ء سقط التكليف بها إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد اقامة البرهان ، وهذا يرجع في التحقيق الى ما قدمنا ذكره في غير موضع وبه صرح المحدث الأمين الأسترآبادي من الاستدلال بالبراءة الأصلية والعمل بها فيما يعم به البلوى من الأحكام.

و (ثانيا) ـ ان القول بذلك موجب للحرج والضيق المنفيين بالآية والرواية والإجماع (1) إذ لا يخفى انه لا يكاد أحد من المكلفين فارغ الذمة من واجب من الواجبات البدنية أو المالية ويأتي بناء على هذا القول بطلان عباداته وصلواته في غير ضيق الوقت وعدم ترخصه في أسفاره وتأثيمه في جملة أفعاله من اكله وشربه ومغداه ومجيئه ونومه ونكاحه ونحو ذلك لان الفرض انه منهي عن هذه الأضداد الخاصة والنهي حقيقة في التحريم ، واي ضيق وحرج أعظم من ذلك؟

و (ثالثا) الأخبار الدالة على عدم التكليف بأمثال هذه الأمور التي لم يرد فيها شي‌ء بنفي ولا إثبات مثل قول الصادق (عليه‌السلام) في رواية إسحاق بن عمار (2) «ان عليا (عليه‌السلام) كان يقول أبهموا ما أبهمه الله». وما رواه الشيخ المفيد عن أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام) (3) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان الله حد لكم حدودا فلا تعتدوها وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها وسن لكم سننا فاتبعوها وحرم عليكم حرمات فلا تنتهكوها وعفا لكم عن أشياء رحمة منه من غير نسيان فلا تتكلفوها». وما رواه في الفقيه (4) في خطبة لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال فيها : «ان الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تنقضوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها

__________________

(1) تقدم ما يدل على ذلك ج 1 ص 151.

(2) رواه في البحار في الباب 33 من كتاب العلم رقم 5.

(3) رواه في البحار في الباب 32 من كتاب العلم رقم 11.

(4) باب (نوادر الحدود).


نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها». ولا ريب ان هذه المسألة داخلة فيما سكت الله عنه فتكلف البحث فيها كما ذكره أصحابنا (رضوان الله عليهم) تبعا للمخالفين في كتبهم الأصولية ناشى‌ء من عدم ملاحظة هذه الاخبار ، وكم لهم مثل ذلك كما لا يخفى على من جاس خلال الديار. والله العالم.

فروع

(الأول) ـ قد صرح المحقق والعلامة في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى بأنه إذا تعذر غسل مخرج البول وجب مسحه بحجر ونحوه ، واحتج له المحقق ومثله العلامة بأن الواجب ازالة العين والأثر فإذا تعذرت إزالة الأثر بقيت ازالة العين ، وفهم من هذا الحكم جملة من المتأخرين بأنهم يرون وجوب تخفيف مطلق النجاسة عند تعذر إزالتها وان ذلك بدل اضطراري للطهارة من النجاسات كبدلية التيمم للطهارة من الأحداث ، ونحن قد قدمنا ما في هذا الكلام من تطرق المناقشة إليه في الفصل الأول في آداب الخلوة في التنبيه الخامس من التنبيهات الملحقة بذلك البحث ، ونزيده تأييدا هنا بما ذكره بعض المحققين من متأخري المتأخرين حيث قال بعد نقل ما ذكرناه : وعندي في هذا الكلام من أصله نظر لان وجوب ازالة العين والأثر حكم واحد مستفاد من دليل واحد ومن البين ان الأمر بالمركب انما يقتضي الأمر بأجزائه على الاجتماع لا مطلقا ، وحينئذ فلا بد في إثبات التكليف بجزء منها على الانفراد من دليل غير الأمر بالمركب وهو مفقود في المتنازع ، بل ظاهر الاخبار المسوغة للصلاة مع النجاسة عند تعذر الإزالة نفي التكليف بأمر آخر سوى الإزالة باعتبار إطلاق الاذن من غير تعرض للتخفيف بوجه ، وما ورد في بعض الأخبار من ذكر المسح للبول عن المخرج عند تعذر غسله لا يصلح شاهدا على العموم لان الوجه فيه منع النجاسة عن التعدي الى غير محلها من الثوب أو البدن وهو أمر آخر غير التخفيف. انتهى. وهو جيد.

(الثاني) ـ المستفاد من النصوص ـ وعليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب ـ ان


زوال حكم النجاسة متوقف على زوال عينها أو استحالتها كما سيأتي تفصيل ذلك في مواضع مخصوصة ولا عبرة بما يبقى من اللون والرائحة وحكى المحقق في المعتبر على ذلك إجماع العلماء ، ومن الاخبار في ذلك ما رواه الشيخ في الحسن عن ابن المغيرة عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (1) قال : «قلت له للاستنجاء حد؟ قال لا حتى ينقى ما ثمة؟ قلت فإنه ينقى ما ثمة ويبقى الريح؟ قال الريح لا ينظر إليها». والخبر وان كان مورده الاستنجاء إلا انه لا خلاف ولا إشكال في تعدية الحكم إلى جملة النجاسات بطريق تنقيح المناط القطعي المتقدم ذكره في مقدمات الكتاب ، وما رواه على بن أبي حمزة عن العبد الصالح (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته أم ولد لأبيه فقالت جعلت فداك اني أريد أن أسألك عن شي‌ء وانا أستحيي قال سليني ولا تستحي قالت أصاب ثوبي دم الحيض فغسلته فلم يذهب أثره؟ قال اصبغيه بمشق حتى يختلط ويذهب أثره». وعن عيسى بن ابي منصور (3) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) امرأة أصاب ثوبها من دم الحيض فغسلته فبقي أثر الدم في ثوبها؟ قال : قل لها تصبغه بمشق حتى يختلط». والمشق بالكسر المغرة ، قاله في الصحاح والقاموس.

(الثالث) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في الاكتفاء في ظهر البواطن بزوال العين ، وعلى ذلك تدل جملة من الاخبار : منها ـ ما رواه الشيخ عن عمار الساباطي (4) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل يسيل من انفه الدم هل عليه ان يغسل باطنه يعني جوف الأنف؟ فقال انما عليه ان يغسل ما ظهر منه». وما رواه في الكافي في الصحيح عن إبراهيم بن ابي محمود (5) قال : «سمعت الرضا (عليه‌السلام) يقول يستنجي

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 و 35 من أحكام الخلوة و 25 من النجاسات.

(2) الفروع ج 1 ص 18 وفي الوسائل في الباب 52 من أبواب الحيض.

(3) رواه في الوسائل في الباب 25 من النجاسات.

(4 و 5) رواه في الوسائل في الباب 24 من النجاسات.


ويغسل ما ظهر منه على الشرج ولا يدخل فيه الا نملة». وعن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (1) «في الرجل يمس أنفه في الصلاة فيرى دما كيف يصنع أينصرف؟ قال ان كان يابسا فليرم به ولا بأس». وبالإسناد المتقدم في الحديث الأول عن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (2) في حديث قال : «انما عليه ان يغسل ما ظهر منها ـ يعني المقعدة ـ وليس عليه ان يغسل باطنها». وما رواه الشيخ عن عبد الحميد بن ابي الديلم (3) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل يشرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي من بصاقه؟ فقال ليس بشي‌ء». ويؤيده أيضا ما رواه زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (4) قال : «ليس المضمضة والاستنشاق فريضة ولا سنة إنما عليك ان تغسل ما ظهر».

وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المعالم في هذا المقام حيث انه بعد ذكر الحكم المذكور انما استدل برواية عمار الاولى ثم ردها بضعف السند وقال انها لا تصلح بمجردها دليل على الحكم ، ثم قال : وضم إليها بعض الأصحاب التعليل برفع الحرج والاشكال بحاله والحق انه يكفي في الاستدلال له التمسك بأصالة البراءة فإنها ملزومة للطهارة ولا ، وجه لعدم الاعتداد بها في نحو هذا الموضع إلا توهم كون أنواع النجاسات أسباب مؤثرة فيما تلاقيه برطوبة مطلقا ، وقد أسلفنا في مسألة تطهير الشمس ان ذلك بعيد عن التحقيق. انتهى.

ولا يخفى ما فيه من النظر الظاهر فان الاعتماد على أصالة البراءة بعد استفاضة الروايات التي تقدمت في فصول النجاسات بتعديها الى ما لاقته بالرطوبة أمر من الشمس أظهر ومن البدر أنور كما تقدم تحقيقه ، هذا بناء على ما ذكر من تلك الرواية خاصة وإلا فالناظر في جميع ما أوردنا من الاخبار التي فيها الصحيح باصطلاحه فلا مجال للتوقف في الحكم المذكور. واما ما أشار اليه وأحال عليه من التحقيق الذي زعمه في مسألة تطهير الشمس فسيأتي نقله ان شاء الله تعالى في مسألة تطهير الشمس وبيان ما فيه.

__________________

(1 و 2 و 4) رواه في الوسائل في الباب 24 من النجاسات.

(3) رواه في الوسائل في الباب 39 من أبواب النجاسات.


تذنيب

قد نقل جملة من الأصحاب عن المرتضى (رضي‌الله‌عنه) الحكم بطهارة الصيقل بمجرد زوال عين النجاسة وظاهرهم انحصار القول بذلك في المرتضى ، وظاهر الشيخ في الخلاف تقدم القول بذلك عليه حيث ذكر ان في أصحابنا من قال بان الجسم الصيقل كالسيف والمرآة والقوارير إذا أصابته نجاسة كفى في طهارته مسح النجاسة ، وعزى الى المرتضى اختياره ثم قال ولست اعرف به أثرا ، وذكر ان عدم طهارته بدون غسله بالماء هو الظاهر ، واحتج له بان حصول النجاسة في هذا الجسم معلوم والحكم بزوالها يحتاج الى شرع وليس في الشرع ما يدل على زوال هذا الحكم بما قالوه. وظاهره كما ترى عدم انحصار القول بالطهارة في المرتضى (رضى الله عنه) ثم ان الفاضلين وغيرهما اقتفوا اثر الشيخ في هذا الاحتجاج على بقائه النجاسة واستصحابها وزاد الفاضلان الاستدلال بأن النجاسة الرطبة يتعدى حكمها إلى الملاقي فلا يزول بزوال عين النجاسة. وعلى هذا كلام من تأخر عنهما في هذا المقام وغيره مما لاقته النجاسة برطوبة فإنه يجب استصحاب حكم النجاسة حتى يقوم الدليل على الطهارة ، الى ان انتهت النوبة الى صاحب المعالم فخالف الأصحاب في ذلك بقول انفرد به وهو ان هذا الحكم اعني توقف الطهارة بعد زوال عين النجاسة على مطهر مخصوص بالثوب والبدن والآنية واما غير هذه الثلاثة فإنه يطهر بزوال العين. وسيجي‌ء نقل كلامه في مسألة تطهير الشمس ، ومن ثم قال في هذا المقام بعد ان نقل عن الأصحاب ما قدمنا ما صورته : وقد تكرر القول في أمر الاستصحاب وذكرنا في المباحث الأصولية ان السيد لا يعول عليه في مثل هذا المقام والعجب من غفلة الجماعة عن رأى السيد فيه وان كلامه مبني على أصله فلا يحسن ان يحتج عليه بما لا يقبله. انتهى. أقول : لا يخفى ان الاستصحاب في هذا المقام عند الأصحاب وهو التحقيق ليس من قبيل الاستصحاب الذي هو محل النزاع ومطرح البحث بين السيد وغيره ، فان هذا الاستصحاب انما هو من قبيل العمل بعموم الدليل


وإطلاقه حتى يحصل الرافع ، ونظائره في أحكام الفقه أكثر من ان تحصى كما تقدم ذكره في مقدمات الكتاب ، ولا خلاف في العمل به في الأحكام الشرعية فإن النجاسة قد ثبتت بملاقاة عين النجاسة برطوبة فالحكم بطهارة ما لاقته يحتاج الى دليل سواء كانت باقية أو زالت بغير مطهر شرعي وهو مما لا خلاف فيه نصا وفتوى ، وسيأتي مزيد تحقيق للمقام في مسألة تطهير الشمس ان شاء الله تعالى.

ثم ان ممن اختار القول بالطهارة أيضا بمجرد زوال العين عن الصيقل المحدث الكاشاني في المفاتيح وقد سلف البحث معه في ذلك في الباب الأول في آخر مسألة جواز رفع الخبث بالمضاف وعدمه فليراجع. والله العالم.

(المسألة الثانية) ـ لا خلاف بين الأصحاب فيما اعلم في أصل العفو عن دم الجروح والقروح قليلا كان أو كثيرا والاخبار به متظافرة ، وانما الخلاف بينهم في حد العفو فمنهم من جعل الحد في ذلك البرء ومنهم من جعله الانقطاع ، وأصحاب هذا القول بين مطلق لذلك ومقيد بكونه في زمان يتسع لأداء الصلاة ، فالإطلاق للعلامة في بعض كتبه والشهيد فيما سوى الذكرى والتقيد للمحقق في المعتبر والشهيد في الذكرى ، وناط العلامة في القواعد العفو بحصول المشقة بالإزالة وهو ظاهره في النهاية ومثله المحقق في الشرائع ، وجمع في المنتهى والتحرير بينه وبين عدم وقوف جريانها فجعلهما المناط في العفو ، واستشكل في النهاية وجوب ازالة البعض إذا لم يشق وأوجب فيها وفي المنتهى ابدال الثوب مع الإمكان معللا بانتفاء المشقة فينتفي الترخص لانتفاء المعلول عند انتفاء علته. واعترضه في المعالم فقال بعد نقل ذلك : وأنت خبير بأنه مع وجوب ازالة البعض حيث لا يشق ووجوب ابدال الثوب ان أمكن لا يبقى لهذا الدم خصوصية فإن إيجاب إزالة البعض مع عدم المشقة يقتضي وجوب التحفظ من كثرة التعدي أيضا مع الإمكان كما لا يخفى ، واغتفار ما دون ذلك ثابت في مطلق الدم بل في مطلق النجاسات. وظاهر جماعة من الأصحاب ان الخصوصية هنا ثابتة عند الكل وان اختلفوا في مقدارها


وذكر الفاضل الشيخ علي في بعض مصنفاته ان الشيخ نقل الإجماع على عدم وجوب عصب الجرح وتقليل الدم بل يصلي كيف كان وان سال وتفاحش الى ان يبرأ ، قال وهذا بخلاف المستحاضة والسلس والمبطون إذ يجب عليهم الاحتياط في منع النجاسة وتقليلها بحسب الإمكان ، وأطلق الشيخ في النهاية وغيرها من كتبه التي رأيناها الحكم بعدم وجوب ازالة دم القروح الدامية والجروح اللازمة قل أو كثر ، وهو ظاهر في موافقة القول الأول أعني التحديد بالبرء. واعلم انه قد اتفق للعلامة في الإرشاد التعبير هنا بعبارة الشيخ فقال فيه : وعفي في الثوب والبدن عن دم القروح والجروح اللازمة. وحيث انه لم يظهر من العلامة في شي‌ء من كتبه إطلاق العفو بل اشترطه تارة بعدم انقطاع سيلان الدم وتارة بحصول المشقة وثالثة بهما حمل الشهيد الثاني في الروض كلامه هنا علي ان المراد بالوصف باللازمة استمرار الخروج ، والمحقق الشيخ علي فسرها بالتي لم تبرأ ، واعترضه في الروض بأنه ليس مذهبا للمصنف حتى يفسر كلامه به. وفيه ما ذكر ابنه في المعالم وان لم يصرح بنسبة التفسير الأول إلى أبيه بل عبر عنه ببعض الأصحاب فقال والحق مع الثاني فإن الظاهر من هذا الوصف ارادة كون الجرح باقيا غير مندمل ، ومجرد كون العلامة لم يصرح بهذا القول في غير ذلك الكتاب لا يسوغ حمل اللفظ على خلاف ظاهره والمصير الى المعنى الأول سيما مع ما هو معلوم من حال العلامة من عدم الالتزام بالقول الواحد في الكتاب الواحد فضلا عن الكتب المختلفة وبعد ظهور انتشار رأيه في هذه المسألة ، وحينئذ تكون أقواله في هذه المسألة أربعة.

أقول : وكيف كان فأظهر الأقوال وأصحها هو القول الأول ويدل عليه الأخبار الكثيرة :

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (1) قال : «سألته عن الرجل تخرج به القروح فلا تزال تدمي كيف يصلي؟

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب النجاسات.


فقال يصلي وان كانت الدماء تسيل».

وفي الصحيح عن ليث المرادي (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الرجل تكون به الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوة دما وقيحا وثيابه بمنزلة جلده؟ قال يصلي في ثيابه ولا شي‌ء عليه ولا يغسلها». وفي الحسن عن ليث المرادي عن الصادق (عليه‌السلام) نحوه (2) إلا انه لم يذكر في متنه «وثيابه بمنزلة جلده».

وما رواه في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله (3) قال «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه فيسيل منه الدم والقيح فيصيب ثوبي؟ فقال دعه فلا يضرك ان لا تغسله».

وعن سماعة بن مهران في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (4) قال : «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم».

ورواية أبي بصير (5) قال : «دخلت على ابي جعفر (عليه‌السلام) وهو يصلي فقال لي قائدي ان في ثوبه دما فلما انصرف قلت له ان قائدي أخبرني أن بثوبك دما؟ قال (عليه‌السلام) ان بي دماميل ولست اغسل ثوبي حتى تبرأ».

وموثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (6) قال : «سألته عن الدمل يكون في الرجل فينفجر وهو في الصلاة؟ قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة».

وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب البزنطي عن عبد الله ابن عجلان عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (7) قال : «سألته عن الرجل به القرح لا يزال يدمي كيف يصنع؟ قال يصلي وان كانت الدماء تسيل».

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6) رواه في الوسائل في الباب 12 من النجاسات.

(7) السرائر نوادر البزنطي الحديث 12.


ومن الكتاب المذكور عن البزنطي عن العلاء عن محمد بن مسلم (1) قال : «قال ان صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها ولا حبس دمها يصلي ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرة».

ورواية سماعة (2) قال : «سألته عن الرجل به القرح أو الجرح فلا يستطيع ان يربطه ولا يغسل دمه؟ قال يصلي ولا يغسل ثوبه إلا كل يوم مرة فإنه لا يستطيع ان يغسل ثوبه كل ساعة».

هذا ما وقفت عليه من روايات المسألة وهي ظاهرة الدلالة على امتداد العفو الى البرء وبه صرح في موثقة سماعة ورواية أبي بصير ويقرب منه قوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم : «يصلي وان كانت الدماء تسيل». ونحوها رواية عبد الله بن عجلان ، فان الظاهر من هذه العبارة ان المفهوم اولى بالحكم من المنطوق فيكون حالة عدم السيلان اولى بالعفو ، وربما يسبق الى الفهم من قوله في الصحيحة المشار إليها : «فلا تزال تدمي» ان الحكم مفروض في استمرار الجريان والعفو معلق عليه ، وهو باطل (أما أولا) فإن هذا الكلام انما وقع في كلام السائل ومقتضى جوابه انما هو ما ذكرناه والعبرة لا بكلام السائل. و (اما ثانيا) فان الظاهر انه ليس معنى «لا تزال تدمي» أن جريانها متصل لا ينقطع بل معناه تكرر الخروج وان كان دفعة بعد دفعة وحينا بعد حين ، ومن الظاهر ان ذلك هو مقتضى العرف من هذه العبارة فإنه إذا قيل فلان لا يزال يتكلم بكذا وكذا ولا يزال يتردد الى كذا وكذا ونحو ذلك فإنه يراد منه انه يفعله حينا بعد حين لا انه مستمر على فعله علي وجه لا انقطاع ولا انفصال فيه ، وبذلك يظهر ان ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ من اعتبار المشقة وابدال الثوب مع الإمكان واعتبار التقييد بعدم الانقطاع مطلقا أو مقيدا كما تقدم ـ لا دليل عليه بل

__________________

(1) السرائر نوادر البزنطي الحديث 13.

(2) المروية في الوسائل في الباب 22 من أبواب النجاسات.


الأدلة واضحة ظاهرة في رده ، فان المستفاد منها هو العفو عن هذا الدم شقت إزالته أم لا وسواء كانت له فترة ينقطع فيها بقدر الصلاة أو مطلقا أم لا ، وانه لا يجب ابدال الثوب ولا تخفيف النجاسة ولا تعصيب موضع الجرح أو القرح بحيث يمنعه من الخروج ، قال إطلاق الأمر بالصلاة وان كانت الدماء تسيل والنهي عن الغسل والحال هذه أظهر ظاهر في ذلك.

فروع

(الأول) ـ قد صرح العلامة في جملة من كتبه كالنهاية والمنتهى والتحرير انه يستحب لصاحب القروح والجروح غسل ثوبه في كل يوم مرة ، واحتج له في المنتهى والنهاية بأن فيه تطهيرا غير مشق فكان مطلوبا وبرواية سماعة المتقدمة ، أقول : ومثلها صحيحة محمد بن مسلم المنقولة من مستطرفات السرائر عن نوادر البزنطي. والسيد في المدارك بعد ان نقل عن العلامة الاستدلال برواية سماعة اعترضه بان في السند ضعفا. والعجب منه انه في غير موضع من شرحه المذكور بعد الطعن في الخبر بضعف السند وعدم نهوضه بالدلالة على الوجوب أو التحريم يحمله على الاستحباب أو الكراهة تفاديا من طرحه وهكذا قاعدة غيره من أصحاب هذا الاصطلاح ، فكيف خالف قاعدته هنا مع ان صحيحة محمد بن مسلم كما عرفت صريحة في ذلك؟ فلا يتوجه الطعن المذكور.

ثم ان ما ذكره العلامة ومن تبعه من حمل الرواية على الاستحباب انما نشأ من حيث ضعف سندها عندهم كما أشرنا إليه من ان قاعدتهم حمل الأخبار على ذلك متى ضعف سندها تفاديا من طرحها ، وأنت قد عرفت وجود الرواية الصحيحة بذلك وبموجب ذلك يجب العمل بالخبرين المذكورين في وجوب الغسل مرة واحدة في اليوم كما دلا عليه وتقييد تلك الاخبار بهما وان لم يوجد به قائل منهم ، ولا ريب انه الأحوط مع الإمكان واما ما ذكره العلامة من التعليل الأول فإنه عليل لا يعول عليه ولا يصح اسناد حكم


شرعي إليه ، نعم يصلح توجيها للنص المذكور.

(الثاني) لو تعدى الدم عن محل الضرورة من الجروح والقروح في الثوب والبدن فهل يسري العفو أم لا؟ وجهان صرح بثانيهما في المنتهى فقال : لو تعدى الدم عن محل الضرورة في الثوب أو البدن بان لمس بالسليم من بدنه دم الجرح أو بالطاهر من ثوبه فالأقرب عدم الترخيص فيه. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : وما استقربه حسن. وقال في المدارك : لو تعدى الدم عن محل الضرورة في الثوب احتمل بقاء العفو تمسكا بالإطلاق وعدمه لانتفاء المشقة بإزالته ، وهو خيرة المنتهى.

أقول : لا يبعد التفصيل هنا بين ما إذا تعدى الدم بنفسه إلى سائر أجزاء البدن أو الثوب الطاهر وبين ما إذا عداه المكلف بنفسه بان وضع يده الطاهرة على دم الجرح أو طرف ثوبه الطاهر عليه ، والقول بالعفو في الأول دون الثاني ، والظاهر من عبارة المنتهى انما هو الثاني إلا ان موثقة عمار المتقدمة ظاهرة في العفو في الثاني أيضا وبه يظهر ضعف ما قربه في المنتهى واستحسنه في المعالم ، ولو لم يرد هذا الخبر في اخبار المسألة لكان ما ذكرناه من التفصيل جيدا فان المتبادر منها انما هو القسم الأول خاصة إلا انه يمكن ان يقال بحمل الموثقة المذكورة على خروج القيح من الدمل دون الدم فإنه بعد نضجه متى انفجر فإنما يخرج منه القيح الأبيض خاصة وربما خالطه لون الدم ، وبالجملة فإن حمل الخبر على ذلك غير بعيد وبه يظهر قوة ما ذكرناه من التفصيل.

(الثالث) ـ قال في المدارك : لو لاقى هذا الدم نجاسة أخرى فلا عفو ، وان اصابه مائع طاهر كالعرق ونحوه فالأظهر سريان العفو إليه لإطلاق النص ومس الحاجة واستقرب في المنتهى العدم قصرا للترخيص على موضع النص وهو الدم ولا ريب انه أحوط. انتهى. وهو جيد.

(الرابع) ـ إذا لاقى هذا الدم جسم برطوبة ثم لاقى الجسم بدن صاحب الدم وثوبه فهل يثبت فيه العفو كأصله أو لا؟ احتمالان استقرب ثانيهما العلامة في النهاية والمنتهى ،


ولم نقف لغيره على كلام في هذا الفرع إلا انهم ذكروا نظيره في الملاقي للدم القليل المعفو عنه كالاقل من درهم ، واختار جمع منهم ثبوت العفو في الملاقي ايضا مستندين الى ان المتنجس بشي‌ء لا يزيد حكمه عنه وغايته ان يساويه فإذا ثبت العفو عن عين النجاسة فما هو أضعف منه حكما اولى بالعفو ، وهذا التوجيه جار فيما نحن فيه ، وبهذا التقريب رجح في المعالم هنا الاحتمال الأول. والمسألة عندي محل توقف.

(المسألة الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في ان ما نقص عن سعة الدرهم من الدم المسفوح الذي ليس من أحد الدماء الثلاثة ولا دم الجروح والقروح معفو عنه وان ما زاد منه على الدرهم فلا يعفى عنه. ويدل على الأول ـ بعد الإجماع المدعى من جمع من الأصحاب كالمحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والنهاية والتذكرة والمختلف ـ الأخبار الآتية ، وعلى الثاني مضافا الى الإجماع المدعى ايضا الأخبار الدالة على نجاسة الدم كما تقدم والأخبار الآتية الدالة على العفو عن الناقص ، وانما الخلاف والاشكال في قدر سعة الدرهم ، فذهب الأكثر ومنهم الصدوقان والشيخان والفاضلان والشهيدان وغيرهم إلى إيجاب إزالته ، وعن المرتضى وسلار عدم الوجوب.

وها انا ابسط ما وقفت عليه من اخبار المسألة واذيلها بما رزقني الله تعالى فهمه منها في الجمع بين مختلفاتها وتأليف متفرقاتها :

ومنها ـ صحيحة عبد الله بن ابي يعفور (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ما تقول في دم البراغيث؟ قال ليس به بأس. قال قلت انه يكثر ويتفاحش؟ قال وان كثر. قال قلت فالرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال يغسله ولا يعيد صلاته إلا ان يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة».

__________________

(1) المروية في الوسائل بالتقطيع في الباب 20 و 23 من النجاسات.


وحسنة محمد بن مسلم (1) قال : «قلت له الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟ قال ان رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل وان لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم وما كان أقل من ذلك فليس بشي‌ء رأيته قبل أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه». هكذا في رواية الكافي ، وفي التهذيب هكذا : «وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي‌ء» بزيادة الواو وحذف «وما كان أقل» وفي الاستبصار حذفه ايضا ولم يزد الواو ، وفي الفقيه رواه عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) كما في الكافي وزاد في آخره «وليس ذلك بمنزلة المني والبول ثم ذكر المني فشدد فيه. الحديث» كما تقدم في الفصل الثالث في نجاسة المني.

ورواية إسماعيل الجعفي عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (2) قال : «في الدم يكون في الثوب ان كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة وان كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد صلاته وان لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة».

ورواية جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) (3) انهما قالا : «لا بأس بان يصلى الرجل في الثوب وفيه الدم متفرقا شبه النضح وان كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم».

وقال الرضا (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (4) «إن أصاب ثوبك دم فلا بأس بالصلاة فيه ما لم يكن مقدار درهم واف ، والوافي ما يكون وزنه درهما وثلثا ، وما كان دون الدرهم الوافي فلا يجب عليك غسله ولا بأس بالصلاة فيه ، وان كان الدم حمصة فلا بأس بان لا تغسله إلا ان يكون دم الحيض فاغسل ثوبك منه ومن البول والمني قل أم

__________________

(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات.

(4) ص 6.


كثر وأعد منه صلاتك علمت به أو لم تعلم». انتهى كلامه وبهذه العبارة عبر الصدوق في الفقيه بأدنى تغيير إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام هنا يقع في مواضع

(الأول) ـ لا يخفى ان مورد الأخبار المذكورة انما هو الثوب خاصة وظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على ضم البدن إليه أيضا ، قال في المنتهى : حكم البدن حكم الثوب في هذا الباب ذكره أصحابنا ويؤيده رواية مثنى بن عبد السلام (1) ولأن المشقة موجودة في البدن كالثوب بل أبلغ لكثرة وقوعها إذ لا تتعدى غالبا الى الثوب إلا منه. انتهى. وقال في المعالم بعد ذكر ملخصه : ولا بأس به. وقال في المدارك : مورد الروايات المتضمنة للعفو تعلق النجاسة بالثوب ، وقال في المنتهى انه لا فرق في ذلك بين الثوب والبدن وأسنده إلى الأصحاب لاشتراكهما في المشقة اللازمة من وجوب الإزالة ، وهو جيد لمطابقته لمقتضى الأصل السالم عما يصلح للمعارضة ، ويشهد له رواية مثنى بن عبد السلام عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «قلت له اني حككت جلدي فخرج منه دم؟ فقال إذا اجتمع منه قدر حمصة فاغسله وإلا فلا». والظاهر ان المراد بقدر الحمصة قدرها وزنا لا سعة وهي تقرب من سعة الدرهم. انتهى.

أقول : لا يخفى ما في كلامهم هنا من المجازفة الظاهرة (اما أولا) ـ فلان التعليل في إلحاق البدن بالثوب بالمشقة انما يتم على تقدير تسليمه لو كان وجوب الإزالة عن الثوب معللا بالمشقة ، مع ان هذه العلة غير موجودة في شي‌ء من الاخبار المتقدمة وانما هي علة مستنبطة والعلة الحقيقية في وجوب الإزالة عن الثوب انما هي الأخبار الدالة على ذلك ولا اشعار لها بشي‌ء من هذه العلة ، ثم أي مشقة في إزالة الدم وحده مع وجوب الإزالة فيما عداه من النجاسات قل أو كثر بل في غيره من الدماء؟ وبالجملة فإن هذا التعليل عليل لا يصلح لبناء حكم شرعي.

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات.


و (اما ثانيا) ـ فان ما ذكره في المدارك من الاستناد إلى مطابقة الأصل غير متأصل إذ الظاهر ان مراده من هذا الأصل هنا هو أصالة براءة الذمة من وجوب الإزالة ، وهو مردود بما عرفت من استفاضة النصوص بنجاسة الدم ووجوب إزالته في الصلاة قليلا كان أو كثيرا خرج ما خرج بدليل وبقي ما بقي وهو ما يوجب الخروج عن هذا الأصل.

و (اما ثالثا) ـ فان ما ذكره من خبر الحمصة وتأوله به من ان المراد بالحمصة قدرها وزنا لا سعة مدخول بأنه يمكن ان يلطخ بقدر الحمصة وزنا من الدم تمام الثوب ، وحينئذ لا معنى لقوله «وهو يقرب من سعة الدرهم» فانا لا ندري أي شي‌ء أراد بهذا القرب والحال كما ذكرنا ، والظاهر من الرواية المذكورة انما هو قدرها في السعة وانه لا يعفى عنه وانما يعفى عما دونه ، فالرواية بالدلالة على خلاف ما يدعونه أشبه.

وربما أشعرت الرواية بعدم نجاسة هذا المقدار اليسير من الدم كما هو ظاهر عبارة الصدوق في الفقيه حيث قال : «وان كان الدم دون حمصة فلا يغسل» ويؤيده أيضا ما في رواية الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (1) حيث «سأله عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال لا وان كثر ولا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله». والتقريب ان المتفرق من الرعاف غالبا انما يكون أقل من الحمصة فلو كان نجسا لكان النضح انما يزيده نجاسة ، ولكن لا أعلم قائلا بذلك إلا ما يظهر من إطلاق عبارة ابن الجنيد المتقدمة في صدر المسألة الأولى.

هذا ما اقتضاه البحث بحسب النظر الى الدليل وان كان الاحتياط فيما ذهبوا اليه سيما مع ظاهر اتفاقهم على ذلك ولا اعرف لهم دليلا سواه.

واما ما تضمنه كتاب الفقه كما قدمنا في عبارته من نفي البأس عن قدر الحمصة من الدم فمشكل والصدوق (قدس‌سره) مع أخذ عبارته في الفقيه من عبارة الكتاب

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من النجاسات.


المذكور قد عدل في هذا المقام عن ذلك كما قدمنا من عبارته ، ويمكن حمل عبارة كتاب الفقه ـ كما هو ظاهر سياقها ـ على ان مقدار الحمصة الذي نفى عنه البأس انما هو في الثوب وحينئذ فنفى البأس من حيث السعة فتدخل تحت عموم قوله : «وما كان دون الدرهم» فإنها من حيث السعة دون الدرهم المذكور وانما محل الإشكال في البدن باعتبار احتمال الوزن كما ذهب إليه في المدارك.

(الموضع الثاني) ـ قد اتفقت هذه الروايات على ما قدمنا ذكره في العفو عما نقص من قدر الدرهم وعدم العفو عما زاد وانما اختلفت في العفو عن قدر الدرهم وعدمه وبذلك اختلفت كلمة الأصحاب ، والمشهور الثاني كما قدمنا ذكره.

واستدل عليه بوجوه : (أولها) ـ ان مقتضى الدليل وجوب ازالة قليل النجاسة وكثيرها لقوله (عليه‌السلام) «انما يغسل الثوب من البول والمني والدم» (1). ونحو ذلك من الأخبار التي قدمناها في الفصل الرابع في نجاسة الدم مما دل على وجوب تطهير الثوب من الدم واعادة الصلاة بالصلاة فيه ناسيا ونحو ذلك ، فإن إطلاقها يقتضي وجوب ازالة الدم كيف كان خرج منه ما وقع الاتفاق على العفو عنه وهو الأقل من درهم وبقي الباقي وعلى هذا الوجه اقتصر المحقق في المعتبر وان كان كلامه فيه بوجه مختصر ، وهو جيد وجيه كما لا يخفى على العارف النبيه.

و (ثانيها) ـ قوله تعالى : «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» (2) قال العلامة في المختلف وهو عام تركناه فيما نقص عن الدرهم للمشقة وعدم الانفكاك منه فيبقى ما زاد على عموم الأمر بإزالته. أقول : وفيه عندي نظر تقدم ذكره قريبا وهو ان الاخبار الواردة بتفسير الآية قد

__________________

(1) الظاهر ان هذا مضمون الأخبار الواردة في نجاسة هذه الأمور وليس لفظا واردا في حديث خاص وقد أورده كذلك المحقق في المعتبر وصاحبا المدارك والمعالم ومرجعه الى التمسك بالإطلاقات.

(2) سورة المدثر ، الآية 4.


اتفقت على تفسير التطهير هنا بتشمير الثياب فلا وجه للاستدلال بها هنا بعد ورود التفسير لها بنوع خاص.

و (ثالثها) ـ صحيح ابن ابي يعفور المتقدم ورواية جميل بن دراج ودلالتهما على ذلك ظاهرة بل صريحة ، ومثلهما عبارة كتاب الفقه ، وهذا القول هو المعتمد عندي لما عرفت.

واما أدلة القول الآخر فوجهان : (أحدهما) ما حكاه في المختلف عن المرتضى فقال : قال المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ان الله أباح الصلاة في قوله تعالى : «... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ...» (1) عند تطهير الأعضاء الأربعة فلو تعلقت الإباحة بغسل نجاسة لكان ذلك زيادة لا يدل عليها الظاهر لانه بخلافها ، ولا يلزم على ذلك ما زاد على الدرهم وما عدا الدم من سائر النجاسات لان الظاهر وان لم يوجب ذلك فقد عرفناه بدليل أوجب الزيادة على الظاهر وليس ذلك في يسير الدم. ثم أجاب في المختلف عن هذه الحجة بأن الآية لا تدل على الإباحة عند تطهير الأعضاء الأربعة بل على اشتراط تطهيرها في الصلاة. أقول : ومع تسليم ما ذكره فإنه كما خصص الآية بالأدلة الدالة على وجوب ازالة ما زاد على الدرهم وما دل على إزالة سائر النجاسات فليكن مثلها صحيحة ابن ابي يعفور ورواية جميل وكلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه لدلالتها على وجوب ازالة قدر الدرهم وعدم العفو عنه.

و (ثانيهما) ـ حسنة محمد بن مسلم بطريق الشيخ المتقدم ذكره ورواية إسماعيل الجعفي المتقدمتان. وأجاب في المختلف عن الحسنة المذكورة بأن محمد بن مسلم لم يسنده الى الامام (عليه‌السلام) قال وعدالته وان كانت تقتضي الاخبار عن الإمام إلا ان ما ذكرناه لا لبس فيه يعني حديث ابن ابي يعفور.

ولله در المحقق الشيخ حسن في المعالم حيث رد ذلك فقال : واما جوابه عن الثاني

__________________

(1) سورة المائدة ، الآية 6.


فمنظور فيه وذلك لان الممارسة تنبه على ان المقتضى لنحو هذا الإضمار في الاخبار ارتباط بعضها ببعض في كتب روايتها عن الأئمة (عليهم‌السلام) فكان يتفق وقوع أخبار متعددة في أحكام مختلفة مروية عن امام واحد ولا فصل بينها يوجب اعادة ذكر الامام (عليه‌السلام) بالاسم الظاهر فيقتصرون على الإشارة إليه بالمضمر. ثم انه لما عرض لتلك الاخبار الاقتطاع والتحويل الى كتاب آخر تطرق هذا اللبس ومنشأه غفلة المقتطع لها وإلا فقد كان المناسب رعاية حال المتأخرين لأنهم لا عهد لهم بما في الأصول ، واستعمال ذلك الإجمال انما ساغ لقرب البيان وقد صار بعد الاقتطاع في أقصى غاية البعد ولكن عند الممارسة والتأمل يظهر انه لا يليق بمن له أدنى مسكة أن يحدث بحديث في حكم شرعي ويسنده الى شخص مجهول بضمير ظاهر في الإشارة إلى معلوم فكيف بأجلاء أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) كمحمد بن مسلم وزرارة وغيرهما ، ولقد تكثر في كلام المتأخرين رد الاخبار بمثل هذه الوجوه التي لا يقبلها ذو سليقة مستقيمة ، هذا وقد كان الاولى للعلامة (قدس‌سره) في الجواب عن الاحتجاج بهذا الحديث بعد حكمه بصحة حديث ابن ابي يعفور ورجوع كلامه في جوابه الى ان حديث ابن ابي يعفور أرجح في الاعتبار من خبر ابن مسلم ان يجعل وجه الرجحان كون ذلك من الصحيح وهذا من الحسن. انتهى.

أقول : ومن العجب هنا كلامهم في الرواية المذكورة فيما اشتملت عليه من الإرسال اعتراضا وجوابا مع ان الصدوق رواها في الفقيه عن محمد بن مسلم انه قال للباقر (عليه‌السلام) كما قدمنا ذكره في عد الروايات فكيف غفل الجميع عن ملاحظة ذلك واحتاجوا الى هذا التكلف سؤالا وجوابا؟

إذا عرفت ذلك فاعلم ان في المدارك بعد ان استدل للمرتضى بحسنة محمد بن مسلم المروية في التهذيب ورواية الجعفي قال : وجه الدلالة انه (عليه‌السلام) رتب الإعادة على كون الدم أكثر من مقدار الدرهم فينتفي بانتفائه عملا بالشرط وهو منتف مع المساواة ، ولا يعارض بالمفهوم الأول لاعتضاد الثاني بأصالة البراءة. انتهى.


أقول : لا يخفى ان هذين المفهومين الحاصلين من الشرطيتين انما هما في رواية الجعفي حيث قال : «ان كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة وان كان أكثر فليعد صلاته». واما حسنة محمد بن مسلم بناء على نقله لها من التهذيب فليس فيها إلا ان «وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي‌ء». وهو يرجع الى الشرطية الثانية من رواية الجعفي ، واما على روايتي الكافي والفقيه فهي مشتملة على الشرطيتين معا.

بقي الكلام معه في ترجيح أحد المفهومين على الآخر فان مفهوم الشرطية الاولى انه لو لم يكن أقل من درهم بل كان درهما فصاعدا فإنه يعيد ، وعلى هذا المفهوم بنى الاستدلال للقول المشهور ، ومفهوم الشرطية الثانية انه لو لم يكن أكثر من الدرهم فلا يعيد ، وعليه بنى استدلال المرتضى (رضي‌الله‌عنه) واختاره في المدارك ورجحه باعتضاده بأصالة البراءة. ولا يخفى ما فيه فان أصالة البراءة لا معنى لها بعد استفاضة الأخبار بنجاسة الدم بقول مطلق ووجوب الطهارة منه في الصلاة ووجوب إعادتها بالصلاة فيه ناسيا خرج ما خرج بدليل وبقي ما بقي ، ومع تسليم ما ذكره فهذا الأصل هنا مخصوص بصحيحة ابن ابي يعفور وما شابهها مما دل على القول المشهور وبه يظهر وجه رجحان مفهوم الشرطية الاولى ، وبذلك يظهر ان حمله لروايات القول المشهور على الاستحباب غير جيد لظهورها في وجوب الإعادة وصحة بعضها وكثرتها واعتضادها بالأخبار المطلقة التي أشرنا إليها وقبول ما قابلها للتأويل ، مع ما عرفت في غير موضع من انه لا دليل على الجمع بين الاخبار بالاستحباب والكراهة وان كان مشهورا بينهم.

قال في المعالم بعد البحث في المقام : وبالجملة فحديث ابن ابي يعفور أقرب الى القبول من خبر ابن مسلم فمع التعارض يكون الترجيح للأول ، وبتقدير المساواة فخبر ابن مسلم أقرب الى التأويل إذ يمكن حمل الزيادة عن مقدار الدرهم فيه على كونها إشارة الى ان اتفاق كون الدم بمقدار الدرهم فحسب بعيد جدا فان الغالب فيه الزيادة أو النقصان ومما يرشد الى هذا قوله في رواية إسماعيل الجعفي : «ان كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد


الصلاة وان كان أكثر فليعد صلاته». ولم يتعرض لحال مساواته للدرهم ، والظاهر انه لا وجه لتركه إلا بعد وقوعه ، وحينئذ فيكون مفهوم الشرط الأول في هذه الرواية مخصصا لعموم مفهوم الشرط الثاني بمعونة ملاحظة الجمع بينه وبين حديث ابن ابي يعفور. انتهى. وهو جيد إلا ان استشهاده برواية إسماعيل الجعفي على ما ذكره مبني على نقله حسنة محمد بن مسلم من التهذيب وإلا فهي في الكافي والفقيه قد اشتملت على ما اشتملت عليه رواية الجعفي من الشرطيتين المذكورتين فيها كما قدمنا نقله لانه قال : «ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم وما كان أقل من ذلك ـ يعني من الدرهم ـ فليس بشي‌ء» إلا ان للتأويل فيها مدخلا بإرجاع اسم الإشارة إلى الأزيد وهو غلط كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، والظاهر انه وكذا قبله صاحب المدارك لم يلاحظوا الكافي والفقيه في تحقيق هذه الرواية.

أقول : والذي يقرب عندي ويدور في خلدي في معنى حسنة محمد بن مسلم هو انه لما كان فرض الدرهم نادر الوقوع بل الغالب اما الزيادة عليه أو النقيصة عنه عبر عن الدرهم فصاعدا بما زاد على الدرهم كأنه قيل ما لم يكن درهما فزائدا كما قالوه في قوله عزوجل : «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» (1) اي اثنتين فما فوق ، والتعبير بمثل ذلك عن ارادة المعنى الذي ذكرناه شائع في الاخبار ، ويؤيده ترك التعرض لمقدار الدرهم في الخبر والاقتصار على ذكر الأكثر والأقل والظاهر انه مطوي في جانب الأكثر ، وقد تتبعت في الاخبار ما جرى هذا المجرى إلا انه لا يحضرني الآن منه إلا رواية واحدة وهي رواية يونس عن بعض رجاله عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن حد المكاري الذي يصوم ويتم؟ قال أيما مكار أقام في منزله أو البلد الذي يدخله أقل من عشرة أيام وجب عليه الصيام والتمام ، وان كان له مقام في منزله أو البلد الذي يدخله أكثر من عشرة

__________________

(1) سورة النساء ، الآية 12.

(2) المروية في الوسائل في الباب 12 من صلاة المسافر.


أيام فعليه التقصير والإفطار». فإن حكم العشرة التي هي الحد الشرعي في وجوب القصر غير مذكور وما ذاك إلا انه من حيث ندرة الاقتصار على العشرة من غير زيادة ولا نقصان فادرجها في جانب الأكثر ، فالمعنى في قوله (عليه‌السلام) «أكثر من عشرة أيام» أي عشرة فأكثر ، وبالجملة رمي هذه العبارة بهذا المعنى في هذا المقام كثير يعرفه المتتبع المتأمل في الاخبار ، وحينئذ فقوله في الحسنة المذكورة بناء على روايتي الكافي والفقيه «وما كان أقل من ذلك» لا دلالة فيه فان الإشارة فيه انما هي إلى الدرهم يعني أقل من درهم حسبما وقع في رواية الجعفي. والله العالم.

(الموضع الثالث) ـ اختلف الأصحاب في الدم المتفرق في الثوب أو البدن الذي لو جمع لبلغ قدر الدرهم هل تجب إزالته أم لا؟ على أقوال ، فقيل ان حكمه حكم المجتمع ان بلغ درهما وجبت إزالته وإلا فلا وبه قال سلار من المتقدمين وأكثر المتأخرين ، وظاهر الشيخ في النهاية انه لا تجب إزالته مطلقا إلا ان يتفاحش ، ويحكى عنه في المبسوط انه قال ما نقص عن الدرهم لا تجب إزالته سواء كان في موضع واحد من الثوب أو في مواضع كثيرة بعد ان يكون كل موضع أقل من مقدار الدرهم ، وان قلنا إذا كان جميعه لو جمع لكان مقدار الدرهم وجب إزالته كان أحوط للعبادة. ونقل عن ابن إدريس إطلاق القول بعدم وجوب الإزالة واختاره المحقق في النافع ، وظاهره في المعتبر وفاق الشيخ في النهاية.

وقد ظهر من ذلك ان الأقوال في المسألة ثلاثة : (أحدها) ـ التفصيل بين بلوغ الدرهم وعدمه فتجب الإزالة على الأول دون الثاني ، وهو المشهور بين المتأخرين.

(الثاني) ـ عدم وجوب الإزالة مطلقا إلا ان يتفاحش وهو قول الشيخ في النهاية والمحقق في المعتبر.

(الثالث) ـ عدم وجوب الإزالة مطلقا وهو مذهب ابن إدريس والمحقق في النافع والشرائع أيضا والشيخ في المبسوط واختاره السيد في المدارك.


وهو الأقرب وتدل عليه صحيحة ابن ابي يعفور المتقدمة وقوله فيها «إلا ان يكون مقدار الدرهم مجتمعا».

وأجاب عنها في المختلف بان «مجتمعا» كما يحتمل ان يكون خبرا ل «يكون» يحتمل ان يكون حالا مقدرة واسمها ضمير يعود الى «نقط الدم» و «مقدار» خبرها والمعنى إلا ان تكون نقط الدم مقدار الدرهم إذا قدر اجتماعها.

ورد (أولا) بأن تقدير الاجتماع مما لا يدل عليه اللفظ. وفيه ان صدر الحديث مفروض في نقط الدم والفرض ان الضمير عائد إلى نقط الدم.

و (ثانيا) ـ بأنه لو كانت الحال مقدرة وكان الحديث المذكور مخصوصا بما قدر فيه الاجتماع لا ما حقق لما صلح دليلا للمجتمع حقيقة مع استدلال الأصحاب به قديما وحديثا على ذلك.

و (ثالثا) ـ انه مع كونه حالا لا خبرا فالظاهر انه حال محققة وهو الظاهر من الخبر ، ويصير المعنى إلا ان يكون الدم بمقدار الدرهم حال كونه مجتمعا.

و (رابعا) ـ ان الحال المقدرة كما ذكروه هي التي زمانها غير زمان عاملها ولها مثال مشهور وهو قولهم «مررت برجل معه صقر صائدا به غدا» اي مقدرا فيه الصيد ، وما نحن فيه ليس كذلك إذ كون الدم قدر الدرهم انما هو حال اجتماعه فزمانهما واحد ، وكيف كان فالظاهر من الخبر المذكور انما هو كون «مجتمعا» خبرا أو حالا محققة وعلى كل منهما فالاستدلال بالرواية على المدعى ظاهر.

وأظهر منها في الدلالة على اعتبار الاجتماع في الدم المتفرق مرسلة جميل المتقدمة لتصريحه (عليه‌السلام) بنفي البأس عن الصلاة في الدم المتفرق ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم

احتج القائلون بالقول المشهور بوجوه : (منها) ـ ان الحكم معلق على مقدار الدرهم في حسنة محمد بن مسلم وقريب منها رواية إسماعيل الجعفي ، وهو أعم من المجتمع والمتفرق.


و (منها) ـ رواية عبد الله بن ابي يعفور المتقدمة فإن الحكم فيها مفروض في نقط الدم الذي هو عبارة عن الدم المتفرق.

و (منها) ـ ان الأصل وجوب الإزالة بقوله تعالى : «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» (1) خرج ما نقص عن الدرهم فيبقى الباقي مندرجا تحت الإطلاق.

و (منها) ـ ان النجاسة البالغة قدرا معينا لا يتفاوت الحال باجتماعها وتفرقها في المحل.

والجواب عن الأول بأن مقدار الدرهم في الخبر مخصوص بالمجتمع لقيام المخصص كما هو ظاهر روايتي ابن ابي يعفور ومرسلة جميل كما تقدم تحقيقه.

وعن الثاني بأن الرواية المذكورة وان كانت مفروضة في نقط الدم كما ذكر إلا ان الظاهر كون السؤال عن النقط باعتبار مجموعها أو باعتبار كل نقطة منه مكانها ، فعلى تقدير كون «مجتمعا» خبرا ل «يكون» و «مقدار» اسمها فكأنه (عليه‌السلام) قال في الجواب : لا يعيد صلاته باعتبار شي‌ء من ذلك إلا ان يكون مقدار الدرهم مجتمعا بان يكون شي‌ء من تلك النقط بمقدار الدرهم. وعلى تقدير كون «مجتمعا» حالا محققة يكون المعنى لا يعيد صلاته إلا ان تكون تلك النقط المتفرقة مقدار الدرهم حال كونها مجتمعة ، فافادة اشتراط الاجتماع حاصل على كل من التقديرين.

وعن الثالث بما تقدم ذكره من ان مورد الآية كما دلت عليه الأخبار الواردة بتفسيرها انما هو التشمير لا الطهارة بمعنى إزالة النجاسة ، وقد تقدم في مقدمات الكتاب ان اللفظ المتشابه في القرآن لا يجوز الاستدلال به إلا بعد ورود تفسيره عن أهل البيت (عليهم‌السلام) بمعنى من المعاني والوارد عنهم في تفسير هذا اللفظ هو ما ذكرناه.

واما ما أجاب به عنه في المدارك ـ من ان الخطاب في الآية مخصوص بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فتناوله للأمة يتوقف على الدلالة ولا دلالة ـ فهو ضعيف لا يلتفت

__________________

(1) سورة المدثر ، الآية 4.


إليه فإن الظاهر ان كلامه هذا مبني على ما حقق عندهم في الأصول من ان خطابات القرآن انما هي متوجهة إلى الحاضرين زمن الخطاب وانسحاب الحكم الى من سيوجد بعد ذلك مستند إلى الإجماع ، وحيث ان المسألة محل خلاف والإجماع غير محقق منع عموم الخطاب في الآية المذكورة. وفيه انه لا حاجة بنا في إثبات العموم إلى الإجماع بل الاخبار بحمد الله سبحانه بذلك مكشوفة القناع وهي الأحرى والأحق في ذلك بالاتباع ، ومنها ما رواه في الكافي عن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) في حديث قال : «لو كانت إذا نزلت آية في رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب والسنة ولكنه حي يجري في من بقي كما جرى في من مضى». وهو صريح الدلالة واضح المقالة في المراد. وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابي عمرو الزبيري عن الصادق (عليه‌السلام) (1) حين سأله عن أحكام الجهاد ، وساق الخبر الى ان قال (عليه‌السلام): «فمن كان قد تمت فيه شرائط الله الذي وصف بها أهلها من أصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو مظلوم فهو مأذون له في الجهاد كما اذن لهم لان حكم الله في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلا من علة أو حادث يكون والأولون والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء والفرائض عليهم واحدة يسأل الآخرون عن أداء الفرائض كما يسأل الأولون ويحاسبون كما يحاسبون». وما رواه الصدوق في العلل (2) عن الرضا عن أبيه (عليهما‌السلام) «ان رجلا سأل الصادق (عليه‌السلام) ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال ان الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض الى يوم القيامة». الى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع ، وبذلك يظهر لك ان المرجع في عموم تلك الخطابات انما هو الى هذه الاخبار ونحوها ، على ان الأخبار الواردة بتفسير هذه

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 9 من كتاب الجهاد وأصول الكافي ج 1 ص 192.

(2) عيون اخبار الرضا ص 239.


الآية ظاهرة في العموم إلا انها مخصوصة بما قدمنا ذكره. ولو أجيب بضعف هذه الاخبار بهذا الاصطلاح الجديد ، قلنا ان هذه الأصول بل الفضول التي مهدوا فيها هذه القاعدة أضعف إذ هي مجرد اصطلاحات اتفاقية أو خلافية وعن الأدلة النبوية خالية عرية.

وعن الرابع بأنه مجرد مصادرة فإنه محل البحث. وكيف كان فإنه وان كان مقتضى البحث وتحقيق الحال في المسألة هو ما ذكرناه من عدم وجوب الإزالة إلا ان الاحتياط بالعمل بالقول المشهور مما ينبغي المحافظة عليه فان احتمال ذلك من الأدلة المذكورة أيضا غير بعيد. والله العالم.

فروع

(الأول) ـ اعلم ان التفاحش الذي قدمنا ذكره عن الشيخ في النهاية والمحقق في المعتبر وعلقوا وجوب الإزالة عليه لم نقف له على مستند ولم يبينوا ايضا مقداره ، وقد ذكر المحقق في المعتبر انه ليس له تقدير شرعي وان قول الفقهاء فيه مختلف فبعض قدره بالشبر وبعض بما يفحش في القلب قال وقدره أبو حنيفة بربع الثوب ، ثم قال والمرجع فيه الى العادة لأنها كالأمارة الدالة على المراد باللفظ إذا لم يكن له تقدير شرعا ولا وضعا. انتهى. أقول : والظاهر انهم أخذوا هذا الفرع من كتب العامة واختلفوا فيه كاختلافهم وأخبارنا خالية منه كما عرفت. وقال في المدارك بعد نقل كلام المعتبر كما ذكرناه : وهو جيد لو كان لفظ التفاحش واردا في النصوص. انتهى. وفيه ما عرفت في غير موضع من ان الحوالة على العرف والعادة في الأحكام الشرعية غير جيد لعدم انضباطها في جميع الأعصار والأمصار وتعذر الإحاطة بها والاطلاع عليها لو سلمنا انضباطها ولم يعهد من الشارع إناطة الأحكام الشرعية بذلك ، وقد تقدم في مباحث الكتاب ما ينبغي العمل عليه في مثل ذلك.

(الثاني) ـ قال الشهيد الثاني في الروض بعد الكلام في هذه المسألة : هذا حكم الدم


المتفرق في الثوب الواحد اما المتفرق في الثياب المتعددة أو فيها وفي البدن فهل الحكم فيها كذلك بمعنى تقدير جمع ما فيها أو لكل واحد من الثوب والبدن حكم بانفراده فلا يضم أحدهما إلى الآخر أو لكل ثوب حكم كذلك فلا يضم بعضها الى بعض ولا الى البدن؟ أوجه واعتبار الأول أوجه وأحوط. انتهى. أقول : اما الدم المتفرق في البدن فقد عرفت فيما قدمنا بيانه ان النصوص خالية منه ، واما المتفرق في الثياب فيمكن ترجيح ما ذكره واستوجهه (قدس‌سره) بحمل الثوب في النصوص المتقدمة على ما هو أعم من الثوب الواحد بإرادة الجنس فيه وقوته ظاهرة.

(الثالث) ـ قال السيد في المدارك : لو أصاب الدم المعفو عنه مائع طاهر ولم يبلغ المجموع الدرهم ففي بقائه على العفو قولان أظهرهما ذلك ، لأصالة البراءة من وجوب إزالته ، ولان المتنجس بشي‌ء لا يزيد حكمه عنه بل غايته ان يساويه إذ الفرع لا يزيد على أصله واستقرب العلامة في المنتهى وجوب إزالته لأنه ليس بدم فوجب إزالته بالأصل السالم عن المعارض ، ولان الاعتبار بالمشقة المستندة إلى كثرة الوقوع وذلك غير موجود في صورة النزاع لندوره. وضعف الوجهين ظاهر. ولو أزال عين الدم بما لا يطهرها فلا ريب في بقاء العفو لخفة النجاسة حينئذ. انتهى. أقول : والى ما رجحه هنا من البقاء على العفو ذهب الشهيد في الذكرى قال : لان المتنجس بشي‌ء لا يزيد عليه. واستظهره في المعالم ايضا ، والى ما استقربه العلامة من وجوب الإزالة وعدم العفو صار في البيان.

أقول : كما يمكن ان يعلل العفو وعدم وجوب الإزالة بما ذكروه فلقائل أن يقول أيضا بأنه إذا كان مورد الاخبار في هذه المسألة على خلاف الأصل المستفاد من الاخبار المستفيضة المجمع على القول بمضمونها من نجاسة الدم ووجوب إزالته عن الثوب والبدن للصلاة وكذا نجاسة ما يتعدى إليه نجاسة أحد أعيان النجاسات برطوبة ووجوب الإزالة للعبادة فالواجب الاقتصار في ذلك على مورد النص كما قرروه في غير موضع أخذا بالمتيقن المتفق عليه وهو العفو عن ذلك الدم خاصة فتعديته الى ذلك المائع المتصل به خروج


عن موضع النص ، وأصالة البراءة التي استند إليها ممنوعة لما عرفت من قيام الأدلة على النجاسة واشتراط إزالتها في صحة الصلاة خرج ما خرج بدليل واضح وبقي الباقي. وقولهم ان المتنجس بشي‌ء لا يزيد حكمه عنه مجرد تعليل عفلي لا يصلح لان يكون مستندا لتأسيس حكم شرعي فإن بناء الأحكام الشرعية طهارة ونجاسة وصحة وفسادا على ما علم من الشرع وثبت لا على الأدلة العقلية ، والى ما ذكرنا في المقام يميل كلام صاحب الذخيرة مع اقتفائه أثر صاحب المدارك غالبا كما لا يخفى على من تتبعه.

(الرابع) ـ أطلق جماعة من الأصحاب انه إذا أصاب الدم وجهي الثوب فان كان من التفشي من جانب الى آخر فهو دم واحد وإلا فدمان ، وفصل الشهيد في البيان فقال : لو تفشي الدم في الرقيق فواحد وفي الصفيق اثنان ، ونحو ذلك في الذكرى واستحسنه في المدارك ، ونص العلامة في المنتهى والتحرير على ان التفشي موجب للاتحاد في الصفيق ، وقال في المعالم بعد نقل الأقوال المذكورة : والتحقيق تحكيم العرف في ذلك إذ ليس له ضابط شرعي ولا سبيل إلى استفادة حكم اللغة في مثله فالمرجع حينئذ الى ما يقتضيه العرف. أقول : قد عرفت ما في حوالة الأحكام الشرعية على العرف من الإشكال في غير مقام مما تقدم بل الحق كما نطقت به اخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) هو الوقوف ـ في كل قضية لم يعلم حكمها من الاخبار بعد التتبع والفحص ـ عن الفتوى فيها والأخذ بالاحتياط ان احتيج الى العمل بها.

(الخامس) ـ قال العلامة في النهاية : لو كان الدم اليسير في ثوب غير ملبوس أو في متاع أو آنية أو آلة فأخذ ذلك بيده وصلى وهو حامل له احتمل الجواز لعموم الترخيص والمنع لانتفاء المشقة. وذكر نحوه في المنتهى ، قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : وفي كلا الوجهين نظر ، اما الأول فلان أدلة الترخص ليس فيها ما يتناول مثل هذا واما الثاني فلان اعتبار المشقة لو أخذ دليلا على الحكم لانتفت الرخصة في كثير من الصور لعدم المشقة فيها ، قال والحق ان الحكم بالعفو في موضع النزاع غير محتاج الى


تكلف تناول دليل العفو في أصل المسألة له بل يكفي فيه كونه مقتضى الأصل فإن إيجاب الإزالة والاجتناب تكليف والأصل براءة الذمة منه وانما احتاجوا في حكم الثوب الملبوس والبدن الى التمسك بغير هذا الوجه لقيام الدليل على منافاة النجاسة فيهما لصحة الصلاة كما مرت الإشارة إليه فيتوقف استثناء بعض النجاسات على الحجة ، ولولا ذلك لكان الأصل دليلا قويا في الجميع. انتهى. وهو جيد ، ويؤيده ان المتبادر من قولهم (عليهم‌السلام) (1) «لا يجوز الصلاة في النجاسة». و «لا تصح الصلاة في الذهب» (2). انما هو ما كان ملبوسا من هذه الأشياء تحقيقا للظرفية فلا يدخل فيه المحمول ومرجع كلامه (قدس‌سره) الى ما ذكرناه ، وعلى هذا فلا وجه لتخصيص الكلام بالدم اليسير بل ولو كان أكثر من درهم والحال انه محمول غير ملبوس ، وإلا فلو لم يلحظ ما ذكرناه لكان للمناقشة فيه مجال فإنه ان سلم صدق الصلاة فيه في تلك الحال دخل تحت عموم الأدلة المانعة من الصلاة في النجاسة كالثوب الملبوس والبدن النجسين فيحتاج الاستثناء الى دليل ولا يمكنه التمسك هنا بالأصل ، وان منع ذلك كما ذكرنا تم ما ذكره من الاستناد الى الأصل لعدم دخوله تحت عموم الأدلة المانعة فيبقى على الإطلاق ويصح التمسك فيه بالأصل وتوقف الاجتناب على الدليل ، وبه يظهر لك انه لا فرق في المقام بين كون النجاسة المحمولة أقل من الدرهم وأكثر وكذا سائر ما دلت الاخبار على عدم صحة الصلاة فيه من الذهب والحرير ونحوهما إذا كان محمولا فإنه تصح الصلاة معه بالتقريب المذكور ، إلا ان كلامهم بالنسبة إلى المحمول وصحة الصلاة معه إذا كان مما لا تصح الصلاة فيه لا يخلو من اضطراب كما سيمر بك ان شاء الله تعالى.

__________________

(1) هذا مضمون الأخبار الدالة على عدم جواز الصلاة مع النجاسة وليس حديثا خاصا واردا بهذا اللفظ.

(2) هذا مضمون ما دل على مانعية الذهب من صحة الصلاة ولم نقف على حديث بهذا اللفظ.


(السادس) ـ قال الشهيد في الدروس : لو اشتبه الدم المعفو عنه بغيره كدم الفصد بدم الحيض فالأقرب العفو ، ولو اشتبه الدم الطاهر بغيره فالأصل الطهارة. ولم يتعرض لبيان الوجه في الحكمين المذكورين ، وقد وجهه بعض بأنه مبني على القاعدة المقررة في اشتباه الشي‌ء بين المحصور وغيره وهي الإلحاق بغير المحصور من حيث ان الحصر على خلاف الأصل وفي موضع البحث لا حصر في الدم المعفو عما نقص عن الدرهم منه ولا في الدم الطاهر.

قال في المعالم : وهذا الكلام متجه بالنظر الى الحكم الأول حيث ان ما لا يعفى عن قليله من الدماء منحصر وما يعفى عنه غير منحصر كما ذكره ، واما في الحكم الثاني فواضح الفساد لان كلا من الدم الطاهر والنجس غير منحصر ، ثم نقل عن بعض من عاصره من مشايخه بأنه وجهه بأن أصالة الطهارة لم ترد في نفس الدم بل فيما لاقاه على معنى ان طهارته إذا علمت قبل ملاقاة هذا الدم المشتبه فالأصل بقاؤها الى ان يعلم المقتضى لنجاسته ومع الاشتباه لا علم ، ثم قال وله وجه غير ان لنا في المقام توجيها أحسن منه وهو انه لا معنى للنجس إلا ما أمر الشارع بإزالته واجتنابه ولا للطاهر إلا ما لا تكليف فيه بأحد الأمرين فإذا حصل الاشتباه كان مقتضى الأصل هو الطهارة بمعنى براءة الذمة من التكليف بواحد من الأمرين. انتهى.

وأنت خبير بأنه يمكن تطرق المناقشة إلى مواضع من هذا الكلام : (منها) ـ الاستناد في الطهارة والعفو في التوجيه الأول إلى القاعدة المذكورة المثمرة للظن بناء على ان إلحاق الفرد المذكور بالأغلب مظنون كما قيل ، وبناء الأحكام الشرعية الموقوفة على التوقيف من الشارع التي قد استفاضت الآيات والروايات بالمنع فيها عن القول بغير علم على مثل هذه القواعد التي لم يثبت لها مستند من الشرع مجازفة محضة وقول على الله عزوجل بلا حجة ولا بينة ، والبناء على مثل هذا الظن الغير المستند إلى آية أو رواية مشكل.


و (منها) ـ التوجيه الثالث فان ما ذكره معارض بأنه قد قام الدليل على اشتراط صحة الصلاة بطهارة الثوب والبدن إلا ما استثنى فلا بد من العلم بالطهارة ويقين البراءة موقوف على ذلك ، والمشتبه المحتمل لكل من الأمرين لا يحصل فيه ذلك.

واما ما ذكره في المعالم من معنى النجس والطاهر فهو غير معلوم ولا ظاهر وانما معنى الطاهر هو ما لم يعلم نجاسته اي كونه من أحد الأعيان النجسة ولا ملاقاة النجاسة له على الوجه الموجب لذلك والنجس هو ما علم فيه أحد الأمرين ، وما ذكره من اللوازم لا انه معنى النجس والطاهر.

والتحقيق عندي في المقام اما بالنسبة إلى الدم فهو يرجع الى ما قدمنا من معنى المحصور وغير المحصور ، وذلك فإنه ان وقع الاشتباه في دمين أو ثلاثة مثلا بعضها طاهر وبعضها نجس كما لو افتصد مثلا وباشر دم السمك فرأى في ثوبه دما لا يدري هو من دم أيهما مع عدم احتمال غيرهما فان هذا يكون من قبيل المحصور يلحق حكم الطاهر منهما حكم ما اشتبه به من النجس ، وهكذا لو كان أحدهما معفوا عنه والآخر غير معفو عنه فإنه يلحق حكم المعفو عنه هنا حكم غير المعفو عنه ، ولو وقع اشتباه في الدماء مطلقا كأن وجد ثوبا أو شيئا عليه دم مع احتمال تطرق الدماء الطاهرة والنجسة إليه فهذا يكون من قبيل غير المحصور ويكون الأصل فيه الطهارة عملا بالقاعدة المنصوصة الكلية «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر» (1). و «لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم» (2). وقول ذلك القائل في الوجه الثاني ان أصالة الطهارة لم ترد في نفس الدم ليس في محله فان كل شي‌ء له افراد بعضها طاهر وبعضها نجس ووجد منه فرد لا يعلم انه من اي القسمين هو يجب فيه الحكم بأصالة الطهارة دما كان أو غيره ، هذا بالنسبة إلى الدم واما بالنسبة الى الثوب أو البدن الذي لاقى ذلك الدم فان كان ذلك الدم من قسم غير المحصور فلا إشكال في طهارة الملاقي للحكم بطهارة الدم كما عرفت ، وان كان من القسم الأول بني على الخلاف المتقدم في مسألة الإناءين بان

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 37 من النجاسات.


ما لاقى المشتبه في المحصور هل يحكم فيه بحكمه أم يكون باقيا على أصل الطهارة؟ قولان قد تقدم البحث فيهما ثمة. والله العالم.

(الموضع الرابع) ـ إطلاق النصوص المتقدمة بالعفو عن الأقل من الدرهم أو العفو عن الدرهم على القول الآخر شامل لدم الحيض وغيره من الدماء إلا ان المشهور بين الأصحاب من غير خلاف يعرف استثناء دم الحيض حيث قطعوا بعدم العفو عنه وأوجبوا إزالة قليله وكثيره عن الثوب والبدن للصلاة لرواية أبي سعيد عن ابي بصير (1) قال : «لا تعاد الصلاة من دم لم يبصره إلا دم الحيض فإن قليله وكثيره في الثوب ان رآه وان لم يره سواء».

قال المحقق في المعتبر بعد الاستدلال بالرواية المذكورة : لا يقال الراوي له عن ابي بصير أبو سعيد وهو ضعيف والفتوى موقوفة على ابي بصير وليس قوله حجة ، لأنا نقول الحجة عمل الأصحاب بمضمونه وقبولهم له فإن أبا جعفر بن بابويه قاله والمرتضى والشيخان وأتباعهما ، ويؤيد ذلك ان مقتضى الدليل وجوب ازالة قليل الدم وكثيره عملا بالأحاديث الدالة على ازالة الدم لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا سماء (2) «حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء». وما رواه سورة بن كليب عن الصادق (عليه‌السلام) (3) «عن الحائض قال تغسل ما أصاب ثيابها من الدم». لكن ترك العمل بذلك في بعض

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 21 من أبواب النجاسات.

(2) في سنن ابن ماجة ج 1 ص 217 عن أسماء بنت ابى بكر قالت : «سئل رسول الله (ص) عن دم الحيض يكون في الثوب ، قال اقرصيه واغسليه وصلى فيه». وفي سنن البيهقي ج 1 ص 13 عنها ايضا انه «ص» قال : «لتحته ثم لتقرصه بالماء ثم لتنضحه ثم لتصل فيه». وفي سنن ابى داود ج 1 ص 99 عنها ايضا انه «ص» قال : «حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه».

(3) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب النجاسات.


الدماء لوجود المعارض فلا يجب العمل به في الباقي. انتهى.

وفيه ان ما ذكره في هذه الرواية من ان الفتوى موقوفة على ابي بصير وان تبعه فيه جملة ممن تأخر عنه كصاحبي المدارك والمعالم حيث انهم لم يقفوا في الرواية إلا على هذا الطريق إلا ان الشيخ قد رواها في موضع آخر وكذا صاحب الكافي عن ابي بصير عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) واما ما ذكره من جبر ضعفها بعمل الأصحاب فهو جيد إلا انه لم يقف عليه في غير موضع من كتابه كما قدمنا ذكره في غير مقام. واما ما ذكره من حديث أسماء فالظاهر انه من طريق العامة حيث انه لم يذكر في كتب أخبارنا فيما اعلم وبذلك صرح في المعالم ايضا ، واما قوله : ان مقتضى الدليل وجوب ازالة الدم قليله وكثيره. إلخ فجيد.

واما مناقشة صاحب المعالم هنا ـ بأنه ليس فيما وصل إلينا ونقله الأصحاب في كتبهم من الاخبار المعتمدة حديث مطلق في إيجاب إزالة الدم بحيث يصلح لتناول القليل من دم الحيض بل هي اما ظاهرة في الكثير أو مفروضة في غير دم الحيض ـ فهو مردود بما قدمناه في الفصل الرابع في نجاسة الدم من الاخبار الدالة بإطلاقها على نجاسة الدم قليلا كان أو كثيرا دم حيض كان أو غيره فارجع لها وتدبر ، على انه يكفي في المقام ان يقال ـ وبه اعترف أيضا في آخر كلامه ـ انه قد وردت الأخبار المعتبرة المعتضدة باتفاق الأصحاب بأنه يشترط في صحة الصلاة الطهارة من الدم في ثوب المصلي وبدنه وانه بالصلاة فيه عالما أو ناسيا تجب عليه الإعادة ، ومن البين ان دم الحيض وان قل موجب للنجاسة

وبالجملة فالحكم باستثناء دم الحيض من البين مما لا اشكال فيه وانما الإشكال فيما الحق به حيث عزى الى الشيخ إلحاق دم الاستحاضة والنفاس بدم الحيض في وجوب إزالة قليله وكثيره ، قال المحقق في المعتبر بعد نقل ذلك عن الشيخ : ولعله نظر الى تغليظ نجاسته لانه يوجب الغسل واختصاصه بهذه المزية يدل على قوة نجاسته على باقي الدماء فغلظ حكمه في الإزالة ، ثم قال وألحق بعض فقهاء قم دم الكلب والخنزير ولم يعطنا العلة ، ولعله


نظر الى ملاقاته جسدهما ونجاسة جسدهما غير معفو عنها. انتهى.

وقد حكى العلامة في المختلف إلحاق دم الكلب والخنزير والكافر بالدماء الثلاثة عن القطب الراوندي وابن حمزة وحكى عن ابن إدريس المنع من ذلك مدعيا انه خلاف إجماع الإمامية ، ثم اختار العلامة الإلحاق ووجهه بان المعفو عنه انما هو نجاسة الدم والدم الخارج من الكلب والخنزير والكافر يلاقي أجسامها فتتضاعف نجاسته ويكتسب بملاقاة الأجسام النجسة نجاسة أخرى غير نجاسة الدم وتلك لم يعف عنها ، كما لو أصاب الدم المعفو عنه نجاسة غير الدم فإنه يجب إزالته مطلقا ، قال وابن إدريس لم يتفطن لذلك فشنع على قطب الدين بغير الحق. انتهى.

وظاهره في المعالم الميل الى ما ذكره العلامة في هذا المقام حيث قال بعد نقل كلام العلامة المذكور : قلت العجب من غفلة ابن إدريس عن ملاحظة هذا الاعتبار الذي حرره العلامة ونبه عليه المحقق مع تنبهه لمثله في ظاهر كلامه السابق في البحث عما ينزح لموت الإنسان في البئر حيث فرق في ذلك بين المسلم والكافر وأنكر عليه الجماعة فيه أشد الإنكار ونحن صوبنا رأيه هناك وأوضحنا المقام بما لا مزيد عليه ، فكيف انعكست القضية هنا فصار هو الى الإنكار ورجعوا هم الى الاعتراف والمدرك في المقامين واحد؟ وربما كان مراد ابن إدريس هنا خلاف ما أفهمه ظاهر كلامه الذي حكوه عنه ، وعلى كل حال فالحق أن الحيثية مرعية في جميع هذه المواضع والحكم منوط بها فان العفو الثابت في مسألتنا هذه على ما سيأتي بيانه متعلق بنجاسة الدم من حيث هي فإذا انضم إليها حيثية أخرى كملاقاة جسم نجس كان لتلك الحيثية المنضمة إليها حكم نفسها لو انفردت. انتهى.

أقول : لا يخفى ان صحة ما ذكره مبني على أمرين (أحدهما) اعتبار الحيثية التي ادعاها في المقام ولا دليل عليه ظاهرا فإن إطلاق الدم أعم من ذلك والحكم مترتب عليه. و (ثانيهما) ـ استفادة النجاسة بملاقاة نجاسة أخرى زيادة نجاسة على ما كانت عليه


وهو محل غموض لا مدرك له من الاخبار وان كان جاريا في كلامهم ، وبذلك يظهر الاشكال فيما ذكره ووجه به كلام العلامة.

والذي يقرب عندي في هذا المقام اما بالنسبة إلى دم الاستحاضة والنفاس فالظاهر دخولهما في عموم اخبار العفو ، وما ذكروه ـ من استثنائهما إلحاقا بدم الحيض نظرا الى تساويهما في إيجاب الغسل فان النفاس حيض في المعنى والاستحاضة مشتقة منه ـ لا يخرج عن القياس ، وبناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة مجازفة محضة كما أشرنا إليه في غير مقام. واما دم الكافر وأخويه فالظاهر انه لا عموم في الاخبار المتقدمة على وجه يشمله إذ لا يخفى ان المتبادر من الدم فيها انما هو الأفراد الشائعة المتكاثرة المعتادة المتكررة الوقوع كما صرحوا به في غير مقام من ان إطلاق الأخبار انما ينصرف الى الافراد المتكثرة الوقوع دون الفروض النادرة التي ربما لا تقع مدة العمر ولو مرة واحدة. فالواجب هو الحمل على الافراد المتعارفة من دم الإنسان أو الحيوانات التي يتعارف ذبحها أو نحو ذلك ، وحينئذ يبقى على وجوب الإزالة وعدم الدخول تحت عموم اخبار العفو ولا ريب ان الاحتياط يقتضيه.

ويلحق بدم الحيض هنا في وجوب إزالة قليله وكثيره دم الغير لمرفوعة البرقي عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «دمك أنظف من دم غيرك إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا بأس ، وان كان دم غيرك قليلا أو كثيرا فاغسله». ولم أقف على من تنبه ونبه على هذا الكلام إلا الأمين الأسترآبادي فإنه ذكره واختاره ، والى هذه الرواية أشار أيضا في كتاب الفقه الرضوي (2) فقال : «واروي أن دمك ليس مثل دم غيرك». والله العالم.

(الموضع الخامس) ـ قد اشتملت الأخبار المتقدمة على تحديد القدر المعفو عنه من الدم وغير المعفو عنه بالدرهم ، وهي مجملة في ذلك تفسيرا وتقديرا إلا ان ظاهر

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 21 من النجاسات.

(2) البحار ج 18 ص 21.


الأصحاب الاتفاق على انه البغلي وهو المشار اليه بالدرهم الوافي في كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي الذي وزنه درهم وثلث.

قال المحقق في المعتبر : الدرهم هو الوافي الذي وزنه درهم وثلث وسمي البغلي نسبة الى قرية بالجامعين. وفي كلام جماعة من الأصحاب انه على هذا التفسير مفتوح الغين مشدد اللام.

وقال ابن إدريس في السرائر : فهذا الدم نجس إلا ان الشارع عفى عن ثوب وبدن اصابه منه دون سعة الدرهم الوافي وهو المضروب من درهم وثلث ، وبعضهم يقولون دون قدر الدرهم البغلي وهو منسوب إلى مدينة قديمة يقال لها بغل قريبة من بابل بينها وبينها قريب من فرسخ متصلة ببلدة الجامعين يجد فيها الحفرة والغسالون دراهم واسعة شاهدت درهما من تلك الدراهم ، وهذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام المعتاد تقرب سعته من سعة أخمص الراحة ، وقال بعض من عاصرته ممن له علم باخبار الناس والأنساب ان المدينة والدراهم منسوبة الى ابن ابي البغل رجل من كبار أهل الكوفة اتخذ هذا الموضع قديما وضرب هذا الدرهم الواسع فنسب اليه الدرهم البغلي. وهذا غير صحيح لان الدراهم البغلية كانت في زمن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قبل الكوفة. انتهى كلامه.

وقال الشهيد في الذكرى : عفى عن الدم في الثوب والبدن عما نقص عن سعة الدرهم الوافي وهو البغلي بإسكان الغين وهو منسوب الى رأس البغل ضربه الثاني في ولايته بسكة كسروية وزنته ثمانية دوانيق ، والبغلية كانت تسمى قبل الإسلام الكسروية فحدث لها هذا الاسم في الإسلام والوزن بحاله وجرت في المعاملة مع الطبرية وهي أربعة دوانيق فلما كان زمن عبد الملك جمع بينهما واتخذ الدرهم منهما واستقر أمر الإسلام على ستة دوانيق ، وهذه التسمية ذكرها ابن دريد ، وقيل منسوب الى بغل قرية بالجامعين كان يوجد فيها دراهم تقرب سعتها من أخمص الراحة لتقدم الدراهم على الإسلام ، قلنا لا ريب في


تقدمها وانما التسمية حادثة والرجوع الى المنقول اولى. انتهى. ومراده بالمنقول ما نقله عن ابن دريد.

ونقل في مجمع البحرين عن بعضهم انه كانت الدراهم في الجاهلية مختلفة فكان بعضها خفافا وهي الطبرية وبعضها ثقالا كل درهم ثمانية دوانيق وكانت تسمى العبدية وقيل البغلية نسبت الى ملك يقال له رأس البغل فجمع الخفيف والثقيل وجعلا درهمين متساويين فجاء كل درهم ستة دوانيق ، ويقال ان عمر هو الذي فعل ذلك لانه لما أراد جباية الخراج طلب بالوزن الثقيل فصعب على الرعية فجمع بين الوزنين واستخرجوا هذا الوزن. هذا ما ذكروه بالنسبة إلى تفسيره.

واما بيان سعته فقد تقدم في كلام ابن الجنيد ان سعته كعقد الإبهام الأعلى ، وفي كلام ابن إدريس المذكور هنا ما يقرب سعته من أخمص الراحة ، ونقل في المعتبر عن ابن ابي عقيل انه ما كان بسعة الدينار ، قال في المعتبر بعد تفسيره له بالوافي الذي وزنه درهم وثلث كما قدمنا نقله عنه ونقل قولي ابن ابي عقيل وابن الجنيد : والكل متقارب والتفسير الأول أشهر. هذه عبارته.

قال في المعالم : وقال بعض الأصحاب انه لا تناقض بين هذه التقديرات لجواز اختلاف افراد الدرهم من الضارب الواحد كما هو الواقع واخبار كل واحد عن فرد رآه ، ثم قال بعد نقل ذلك : وهذا الكلام انما يتم لو لم يكن في التفسير خلاف وإلا فمن الجائز استناد الاختلاف في التقدير الى الاختلاف في التفسير ولم يعلم من حال الذين حكى كلامهم في التقدير انهم متفقون على أحد التفسيرين ، فان ابن الجنيد لم يتعرض في كلامه الذي رأيناه لذكر البغلي فضلا عن تفسيره ولم ينقل عنه أحد من الأصحاب في ذلك شيئا ، والكلام الذي حكاه المحقق عن ابن ابي عقيل خال من التعرض للفظ البغلي أيضا ، واما ابن إدريس فقد عزى اليه المصير الى التفسير الثاني وبناء التقدير عليه ، والعجب من جماعة من الأصحاب انهم بعد اعترافهم بوقوع الاختلاف هنا قالوا ان


شهادة ابن إدريس في قدره مسموعة مريدين بذلك الاعتماد على التقدير الذي ذكره ، وكيف يستقيم ذلك وفرض كون كلامه شهادة مقتض لتوقف الحكم بمضمونها على التعدد كما هو شأن الشهادة ، ومع التنزل فهو مبني على تفسيره كما قلناه فلا بد من ثبوت التفسير أولا ولم يظهر من حال الجماعة الذين ذكروا هذا الكلام انهم معتمدون على هذا التفسير ، وبالجملة فالمصير إلى شي‌ء من التفسيرين والبناء على واحد من التقديرين مع عدم ظهور الحجة وانما هي دعا ومجردة عن الدليل دخول في ربقة التقليد ، والوقوف مع القدر الأقل هو الاولى ولعل القرائن الحالية تشهد بنفي ما دونه. انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى ان هذا البعض الذي أشار إليه بقوله : وقال بعض الأصحاب انه لا تناقض. إلخ انما هو والده في الروض حيث قال بعد ذكر المصنف التقدير بسعة الدرهم البغلي ما صورته : بإسكان الغين وتخفيف اللام منسوب الى رأس البغل ضربه الثاني في ولايته بسكة كسروية فاشتهر به وقيل بفتحها وتشديد اللام منسوب الى بغل قرية بالجامعين كان يوجد فيها دراهم تقرب سعتها من أخمص الراحة وهو ما انخفض من باطن الكف ذكر ابن إدريس انه شاهده كذلك وشهادته في قدره مسموعة ، وقدر ايضا بعقد الإبهام العليا وهو قريب من أخمص الكف وقدر بعقدة الوسطى ، والظاهر انه لا تناقض بين هذه التقديرات لجواز اختلاف افراد الدراهم من الضارب الواحد كما هو الواقع واخبار كل واحد عن فرده رآه. انتهى.

ثم أقول : لا يخفى ان ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على ان المراد بالدرهم في الاخبار المذكورة هو الدرهم الوافي الذي وزنه درهم وثلث كما اشتملت عليه عبارة ابن إدريس والمحقق والشهيد في الذكرى وبه صرح الصدوق في الفقيه والمفيد في المقنعة حيث قال : فإن أصاب ثوبه دم وكان مقداره في سعة الدرهم الوافي الذي كان مضروبا من درهم وثلث وجب عليه غسله بالماء ولم يجز له الصلاة فيه. الى آخره ، والعلامة في جملة من كتبه والشهيد الثاني في الروض وغيرهم


لان ظاهر جملة من علماء الخاصة والعامة ان غالب الدراهم التي في صدر الإسلام هي الدرهم البغلي الذي وزنه ثمانية دوانيق والطبري الذي وزنه أربعة دوانيق ، والأصحاب احترزوا هنا بقيد الوافي وان وزنه درهم وثلث عن الدرهم الآخر وهو الطبري ، وكلام ابن الجنيد وابن ابي عقيل ليس فيه ظهور في مخالفة ذلك وانما غاية ما فيه انه مطلق بالنسبة إلى تعيين الدرهم فيحمل على كلام الأصحاب المذكور جمعا وان المراد به الدرهم الوافي الذي هو البغلي ، والاخبار التي قدمناها وان كانت مطلقة أيضا إلا ان كلام الرضا (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي صريح في إرادة الدرهم الذي ذكره الأصحاب ، وحينئذ فالواجب حمل مطلق الأخبار عليه ، وبما ذكرنا يحصل اتفاق الأخبار وكلمة الأصحاب على ان المراد بالدرهم هو الدرهم الوافي الذي وزنه درهم وثلث دون الدرهم الطبري الذي هو الدرهم الآخر ودون الدرهم الذي استقر عليه أمر الإسلام أخيرا وهو الذي وزنه ستة دوانيق ، وعلى هذا فلا اشكال ولا خلل فيما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في الروض من انه لا تناقض بين هذه التقديرات. الى آخر ما تقدم نقله عنه ، فإنه متى ثبت ان المراد بالدرهم في الاخبار هو الدرهم الذي بهذا الوزن المخصوص فسعته الحاصلة من ضربه ربما اختلفت كما هو المشاهد من الدراهم والدنانير المضروبة في هذه الأزمنة ، واما ما يظهر من بعض عباراتهم من ان التفسير بكونه عبارة عن الوافي الذي هو درهم وثلث مناف للتقدير بأخمص الراحة وسعة عقد الإبهام الأعلى فهو غلط محض لان التقدير الأول انما هو تقدير للوزن والتقديرين الأخيرين انما هو تقدير للمساحة والسعة فأي منافاة هنا كما توهموه؟

نعم يبقى الاشكال هنا في مقامين : (الأول) ـ ان ظاهر الاخبار وكلام الأصحاب كما عرفت هو ان المراد بهذا الدرهم هو الدرهم الوافي الذي كان في زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) دون الدرهم الآخر الناقص وانه ـ كما ذكره في الذكرى ونقله عن ابن دريد ـ يسمى بالبغلي للعلة التي ذكرها ، ومن المتفق عليه بين الخاصة والعامة ان الدرهم المذكور قد غير مع الدرهم الآخر واستقر أمر الإسلام على الدرهم الذي وزنه ستة


دوانيق في زمن عبد الملك كما في الذكرى أو زمن عمر كما في النقل الآخر ، وحينئذ فما ذكره المحقق في المعتبر وابن إدريس من ان الدرهم البغلي هو المنسوب الى هذه القرية المذكورة وان ابن إدريس شاهد بعضا منها ربما أوهم المنافاة لما تقدم من حيث كون الدرهم المذكور ضرب أخيرا وجرى في المعاملة كذلك مع ما علم من اختصاص ذلك بعصره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وما قبله وما قرب منه أخيرا. ويمكن ان يقال في الجواب عن ذلك ان النسبة الى هذه القرية وضربه بها يمكن ان يكون في زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقبله لأن بابل وما قرب منها من البلدان القديمة وبقاء بعض منها الى ذلك الوقت لا يدل على المعاملة وانما يدل على انها بعد نسخها وهجرها وبطلان المعاملة بها بقيت في تلك القرية الخربة حتى انهم كانوا يلتقطونها منها ، وانما تبقى المنافاة في سبب التسمية والنسبة بين ما ذكره في الذكرى من ان السبب في تسميتها بغلية هو ضرب ذلك الرجل المسمى برأس البغل لها وبين ما ذكروه هنا من النسبة الى هذه القرية ، والأمر في ذلك سهل لا يترتب على اختلافه حكم شرعي بعد الاتفاق على الدرهم المعلوم.

و (الثاني) ـ ان أكثر هذه الأخبار المتقدمة قد وردت عن الباقر والصادق ومن بعدهما (عليهم‌السلام) والدرهم الذي استقر عليه أمر الإسلام في زمانهم (عليهم‌السلام) انما هو الذي وزنه ستة دوانيق فإطلاق الاخبار انما ينصرف اليه وهذا الاشكال قد تنبه له في المدارك فقال بعد نقل ملخص كلام الذكرى : ومقتضاه ان الدرهم كان يطلق على البغلي وغيره وان البغلي ترك في جميع العالم زمان عبد الملك وهو متقدم على زمان الصادق (عليه‌السلام) قطعا فيشكل حمل النصوص الواردة عنه (عليه‌السلام) عليه والمسألة قوية الإشكال. انتهى. والجواب عن ذلك ما قدمنا ذكره من ان الأخبار وان كانت مطلقة بذكر الدرهم إلا ان عبارة الفقه الرضوي قد اشتملت على تقييده بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيجب حمل إطلاق الاخبار الباقية عليها ، ويؤيده ان الظاهر ان التحديد بهذا الدرهم انما ذكره الأئمة (عليهم‌السلام)


بيانا عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فالواجب حمله على زمانه لأنهم نقلة لاحكامه وحفظة لشريعته وبيان معالم حلاله وحرامه ، ولكن العذر للسيد المزبور واضح حيث لم يقف على الكتاب المذكور ، وكم كشف الله تعالى بهذا الكتاب الميمون من اشكال في أمثال هذا المجال كما عرفت فيما مضى وستعرف ان شاء الله تعالى فيما يأتي بتوفيق الملك المتعال. والله العالم.

(المسألة الرابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في ان كل ما لا تتم فيه الصلاة وحده كالتكة والقلنسوة والخف والنعل يعفى عن نجاسته كائنة ما كانت ولو كدم الحيض ونجس العين ، وانما الخلاف هنا في تعميم الحكم فيما تعلقت به وعدمه كما سيأتي تفصيله في المقام ان شاء الله تعالى.

ويدل على أصل الحكم مضافا الى الاتفاق المشار إليه جملة من الاخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في الموثق عن زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (1) قال : «كل ما كان لا يجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس ان يكون عليه الشي‌ء مثل القلنسوة والتكة والجورب». وعن عبد الله بن سنان عن من أخبره عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) انه قال : «كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس ان يصلي فيه وان كان فيه قذر مثل القلنسوة والتكة والكمرة والنعل والخفين وما أشبه ذلك». وعن حماد بن عثمان في الصحيح عن من رواه عن الصادق (عليه‌السلام) (3) «في الرجل يصلي في الخف الذي قد اصابه قذر؟ قال : إذا كان مما لا تتم الصلاة فيه فلا بأس». وعن إبراهيم بن ابي البلاد عن من حدثهم عن الصادق (عليه‌السلام) (4) قال : «لا بأس بالصلاة في الشي‌ء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيبه القذر مثل القلنسوة والتكة والجورب». وعن زرارة (5) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ان قلنسوتي وقعت في بول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم صليت؟

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5) رواه في الوسائل في الباب 31 من النجاسات.


فقال لا بأس». وعن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «كل ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخف والزنار يكون في السراويل ويصلى فيه».

وطعن جمع من أصحاب هذا الاصطلاح في هذه الاخبار بضعف الاسناد : منهم ـ السيد السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن في المعالم وانما اعتمدوا في الحكم على الأصل مضافا الى اتفاق الأصحاب وأيدوا ذلك بهذه الاخبار ، ولا يخفى ما فيه من الضعف عند النظر بعين التحقيق والتأمل بالفكر الصائب الدقيق ولكن ضيق الخناق في هذا الاصطلاح الذي هو الى الفساد أقرب منه الى الصلاح أوجب لهم التشبث بهذه العلل العليلة والوجوه الضئيلة.

وقال في الفقه الرضوي (2) : «إن أصاب قلنسوتك أو عمامتك أو التكة أو الجورب أو الخف مني أو بول أو دم أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه وذلك ان الصلاة لا تتم في شي‌ء من هذه وحده».

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الأصحاب مع اتفاقهم على أصل الحكم المذكور كما تقدمت الإشارة إليه اختلفوا فيه من جهة المتعلق فذهب جمع من متأخري الأصحاب :

منهم ـ المحقق والشهيد في أكثر كتبه والشهيد الثاني وغيرهم الى تعميم الحكم في كل ما لا تتم الصلاة فيه من ملبوس ومحمول في محلها كانت تلك الملابس أم لا ، وخصه ابن إدريس بالملابس وتبعه العلامة في ذلك ، فقال في النهاية والمنتهى لو كان معه دراهم نجسة أو غيرها لم تصح صلاته ، وتبعه الشهيد في البيان ، وزاد العلامة في أكثر كتبه ايضا اعتبار كون الملابس في محالها فصرح في المنتهى بأنه لو وضع التكة على رأسه والخف في يده وكانا نجسين لم تصح صلاته. ووافقه على ذلك في البيان ايضا ، ونقل عن القطب الراوندي

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 14 من لباس المصلى.

(2) ص 6.


قصر الحكم ايضا على الملابس وزاد تخصيصها بخمسة أشياء : القلنسوة والتكة والجورب والخف والنعل. والظاهر هو القول الأول لإطلاق الأخبار المتقدمة فإنها شاملة بعمومها للملبوس بنوعيه في محله وغير محله وكذا المحمول ، ورواية عبد الله بن سنان قد صرحت بالعفو عن المحمول بالخصوص من الملابس كان أو من غيرها. ولم نقف لشي‌ء من هذه الأقوال المخصصة على دليل إلا ان العلامة في المختلف نقل عن الراوندي الاحتجاج على ما قدمنا نقله عنه بالإجماع على هذه الخمسة وما عداه لم يثبت فيه النص فيبقى على المنع ثم أجاب بأنا قد بينا الثبوت والمشاركة في الجواز ، وأشار بذلك الى ما استدل به على العموم حيث اختاره في الكتاب المذكور فقال لنا على التعميم الاشتراك في العلة المبيحة للصلاة وهي كونه ملبوسا لا تتم الصلاة فيه منفردا ، وما رواه حماد ثم نقل مرسلة حماد المتقدمة ، ورواية عبد الله بن سنان. وهو جيد.

وما ذكره في المنتهى والنهاية وكذا في البيان ـ من عدم صحة الصلاة لو كان معه دراهم نجسة أو غيرها ـ لا اعرف له وجها ولا عليه دليلا فإن غاية ما يفهم من الأدلة اشتراط صحة الصلاة بطهارة ثوب المصلي يعني ملبوسه شاملا كان للبدن أو غير شامل واما محموله سيما مثل الدراهم ونحوها فأي دليل دل على اشتراط صحة الصلاة بطهارته؟ وبما ذكرنا صرح السيد في المدارك ونقله عن المعتبر حيث قال : وغاية ما يستفاد من النص والإجماع اشتراط طهارة الثوب والبدن اما المنع من حمل النجاسة في الصلاة إذا لم تتصل بشي‌ء من ذلك فلا دليل عليه كما اعترف به المصنف في المعتبر. انتهى.

فروع

(الأول) ـ قد صرح الصدوق في الفقيه والمقنع بعد العمامة في جملة ما يعفى عنه ونقله عن أبيه في الرسالة أيضا ، قال في الفقيه «ومن أصاب قلنسوته أو عمامته أو تكته أو جوربه أو خفه مني أو دم أو بول أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه. وذلك


لان الصلاة لا تتم في شي‌ء من هذا وحده» انتهى.

والأصحاب قد استشكلوا في عده العمامة في جملة هذه المذكورات ونحوها ، قال شيخنا المجلسي في حواشيه على الكتاب : ظاهر الصدوق جواز الصلاة في العمامة وان كانت نجسة ، والظاهر انه وجد فيها نصا وإلا فيشكل الجزم بجواز الصلاة باعتبار انها بهذه الهيئة لا يتمكن من ستر العورتين بها فيلزم جواز الصلاة في كل ثوب مطوي مع نجاسته والظاهر ان التزامه سفسطة ، وعلى اي حال فالعمل على خلافه. انتهى.

أقول : العجب من شيخنا المذكور ان كتاب الفقه الرضوي عنده وهذه العبارة عين كلامه (عليه‌السلام) في الكتاب المذكور بتغيير يسير فكيف لم يطلع على ذلك مع تنبيهه في غير موضع على أمثال ذلك؟

ونقل المحقق في المعتبر عن القطب الراوندي حمل العمامة في كلام الصدوق على عمامة صغيرة كالعصابة ، قال لأنها لا يمكن ستر العورة بها وربما حملت على اعتبار كونها على تلك الكيفية.

قال في المدارك : ولعل المراد ان الصلاة لا تتم فيها وحدها مع بقائها على تلك الكيفية المخصوصة ، ثم نقل تأويل الراوندي وقال وهذا اولى وان كان الإطلاق محتملا لما أشرنا إليه سابقا من انتفاء ما يدل على اعتبار طهارة ما عدا الثوب والجسد والعمامة لا يصدق عليها اسم الثوب عرفا مع كونها على تلك الكيفية المخصوصة. انتهى.

واقتفاه في ذلك الفاضل الخراساني في الذخيرة فقال : والمسألة محل اشكال للشك في صدق اسم الثوب على العمامة عرفا وإذا لم يصدق عليها الثوب كان القول بالإلحاق متجها لان الدليل الدال على وجوب تطهير لباس المصلي مختص بالثوب فيبقى غيره على الأصل ، لكن في عدم التمثيل بالعمامة في الاخبار والتمثيل بالقلنسوة وغيرها إشعار بأن الحكم فيها ليس ذلك وإلا لكانت العمامة أحق بالتمثيل كما لا يخفى على المتأمل. انتهى.

وأنت خبير بان دعوى عدم صدق الثوب عليها عرفا مع كونها على تلك الكيفية


لا اعرف له وجها إذ الثوب عرفا كما يطلق على المنشور يطلق على المطوي أيضا ، وبالجملة فإن الخبر المذكور وان دل على استثناء العمامة أيضا وقال بمضمونه الشيخان المشار إليهما إلا انه غير خال من شوب الإشكال إلا مع الحمل على ما ذكره الراوندي ، وهو لا يخلو من البعد ايضا والله العالم.

(الثاني) ـ قال المحقق في المعتبر : لو حمل حيوانا طاهرا غير مأكول اللحم أو صبيا لم تبطل صلاته لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حمل امامة وهو يصلي (1) وركب الحسين (عليه‌السلام) على ظهره وهو ساجد (2) وفي المنتهى ذكر نحوه ايضا

__________________

(1) ذكر العلامة المقرم في تعليقه على محاضرات الفقه الجعفري لفقيه العصر آية الله السيد أبو القاسم الخوئي أدام الله ظله ص 51 ان قصة حمل النبي (ص) امامة في الصلاة لم ترد من طرقنا وانها مروية في جوامع أهل السنة كصحيح مسلم ج 1 ص 205 وموطإ مالك ج 1 ص 183 وسنن البيهقي ج 2 ص 263 وغيرها وان الأحاديث تنتهي إلى واحد وهو أبو قتادة والمروي عنه واحد وهو عمرو بن سليم الزرقي ، وقد قرب ان القصة من الموضوعات وحقق الموضوع تحقيقا وافيا راجع التعليقة 4 ص 51 تقف على المسألة مفصلا.

(2) قصة ركوب الحسن والحسين (ع) على ظهر النبي (ص) من مرويات العامة رواها ابن حجر في الإصابة ج 1 ص 329 ترجمة الحسن (ع) عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب الزبيري وفيه ص 330 عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود ورواها ابن عساكر في تأريخه ج 4 ص 202 عن مصعب بن عمير عن عبد الله بن الزبير والذهبي في ميزان الاعتدال ج 2 ص 352 عن أبي هريرة وابن حجر في الصواعق المحرقة ص 82 عن أبي بكرة وفي كنز العمال ج 6 ص 109 عن أبي بكرة. وقد يترجح في نظر بعض ان هذه القصة من موضوعاتهم وان الله قد اعطى الامام العلم وأوقفه على اسرار التكوين منذ كان حملا في بطن امه ، فقد ورد في أحاديث كثيرة رواها الصفار في بصائر الدرجات والكليني في أصول الكافي عن أهل البيت (ع) «إذا ولد المولود منا رفع له عمود نور يرى به اعمال العباد وما يحدث في البلدان». إشارة إلى القوة القدسية المودعة في نفوس الأئمة (ع) فالإمام يعرف ماهية الصلاة ومن الذي يسجد له نبي الإسلام (ص) ولم يفته ان هذا الحال هو


وزاد في حكاية ركوب الحسين (عليه‌السلام) ظهر جده ان الجمهور كافة نقلوه ، وأضاف الى هذه الرواية وجها آخر وهو ان النجاسة في المحمول في معدته كالحامل. ونقل عن بعض الأصحاب انه احتج لجواز ذلك بالأصل السالم عن معارضة ما يقتضي المنافاة. وهو كذلك. أقول : ومفهوم هذا الكلام انه لو كان المحمول حيوانا نجسا نجاسة ذاتية أو عارضية بطلت صلاته ، وهو مبني على اشتراط الطهارة في المحمول ايضا وقد عرفت ما فيه.

(الثالث) ـ قال الشيخ في الخلاف : إذا حمل قارورة مسدودة الرأس بالرصاص وفيها بول أو نجاسة ليس لأصحابنا فيه نص والذي يقتضيه المذهب انه لا ينقض الصلاة ، وبه قال ابن أبي هريرة من أصحاب الشافعي غير انه قاسه على حيوان طاهر في جوفه نجاسة ثم عزى الى غيره من العامة القول بالبطلان (1) وقال بعد ذلك : دليلنا ان قواطع

__________________

أقرب أحوال النبي (ص) مع مولاه عن شأنه فكيف يشغله الإمامان على الأمة ان قاما وان قعدا بنص الرسول (ص) عن مخاطبة حبيبه سبحانه؟ والامام لا يلهو ولا يلعب كما في الحديث راجع (وفاة الامام الجواد) للعلامة المقرم ص 73 ، على ان رواة هذه القصة لا يعتمد على نقلهم فان آل الزبير أكثروا فيما يحط بكرامة أهل البيت (ع) وقد أخرجهم علماء الرجال عن صف من يوثق به من الرواة راجع كتاب (السيدة سكينة بنت الحسين) للعلامة المقرم ص 38 الطبعة الثالثة. واما عاصم فهو ابن بهدلة بن ابى النجود أحد القراء وفي تهذيب التهذيب لابن حجر ج 5 ص 38 كان عثمانيا سيئ الحفظ كثير الخطأ مضطرب الحديث وفيه نكرة. واما أبو بكرة فهو أخو زياد لامه كان منحرفا عن أمير المؤمنين (ع) ويخذل الناس عن نصرته يوم الجمل وهو الذي رد الأحنف بن قيس عن نصرته يوم الجمل بافتعاله الحديث «ستكون بعدي فتنة القاتل والمقتول في النار قلت يا رسول الله (ص) هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال لأنه أراد قتل صاحبه». واما أبو هريرة فان أحاديثه كلها لا تساوي فلسا لان دنيا معاوية أعمته عن أبصار الحق فلم يبال بالكذب.

(1) في المغني ج 2 ص 67 «لو حمل قارورة فيها نجاسة مسدودة لم تصح صلاته وقال بعض أصحاب الشافعي لا تفسد صلاته» وفي المهذب ج 1 ص 61 «إذا حمل قارورة فيها نجاسة وقد شد رأسها فيه وجهان أحدهما يجوز لأن النجاسة لا تخرج منها والمذهب انه لا يجوز لانه حمل نجاسة غير معفو عنها في غير معدنها فأشبه ما إذا حمل النجاسة في كمه».


الصلاة طريقها الشرع ولا دليل في الشرع على ان ذلك يبطل الصلاة ثم قال : ولو قلنا انه يبطل الصلاة لدليل الاحتياط كان قويا ، ولان على المسألة الإجماع وخلاف ابن أبي هريرة لا يعتد به. انتهى.

وقال المحقق في المعتبر ـ بعد نقل مجمل هذا الكلام ثم نقل عن الشيخ في المبسوط انه جزم بالبطلان ـ ما صورته : والوجه عندي الجواز وما استدل به الشيخ ضعيف لانه سلم ان ليس على المسألة نص لأصحابنا وعلى هذا التقدير يكون ما استدل به من الإجماع هو قول جماعة من فقهاء الجمهور وليس في ذلك حجة عندنا ولا عندهم ايضا ، والدليل على الجواز انه محمول لا تتم الصلاة به منفردا فيجوز استصحابه في الصلاة بما قدمناه من الخبر ، ثم نقول الجمهور عولوا على انه حامل نجاسة فتبطل صلاته كما لو كانت على ثوبه ونحن نقول النجاسة على الثوب منجسة له فتبطل لنجاسة الثوب لا لكونه حاملا نجاسة ونطالبهم بالدلالة على ان حمل النجاسة مبطل للصلاة إذا لم تتصل بالثوب والبدن. انتهى وهو جيد متين.

وقال في المعالم بعد نقل كلام المحقق المذكور : وهذه المناقشة متوجهة وما اختاره المحقق هو الحق واحتجاجه له مع جوابه عما عول الجمهور عليه في غاية الجودة ، وقد ذكر الشهيد في الذكرى بعد حكايته لكلام المحقق هنا انه لا حاجة على قوله الى سد رأس القارورة إذا أمن تعدي النجاسة منها ، قال ومن اشترطه من العامة لم يقل بالعفو عما لا تتم الصلاة فيه وحده بل مأخذه القياس على حمل الحيوان.

أقول : ما ذكره (قدس‌سره) من الاستدراك على المحقق الظاهر انه لا وجه له ، فان المحقق قد أشار في آخر كلامه الى ما ذكره الشهيد هنا من قوله ونطالبهم بالدلالة على ان حمل النجاسة مبطل إذا لم تتصل بالثوب والبدن ، وسد الرأس انما ذكره


أولا مشيا في كلامه على اثر الشيخ (قدس‌سره) في فرض المسألة والشيخ قد اقتفى أثر العامة في الفرض المذكور.

إذا عرفت هذا فاعلم ان ابن إدريس والعلامة في أكثر كتبه قد اختارا ما ذهب اليه الشيخ في المبسوط من عدم الجواز ، واحتج له في المختلف بأنه حامل نجاسة فتبطل صلاته كما لو كانت النجاسة على ثوبه وبدنه ، وبان إيجاب تطهير الثوب والبدن لأجل الصلاة ووجوب تحريز المساجد التي هي مواطن الصلاة عن النجاسة يناسب البطلان هنا ، وبان الاحتياط يقتضي ذلك.

وأنت خبير بما في هذه الوجوه من التعسف : اما الأول فمع كونه مصادرة على المطلوب قد عرفت جوابه من كلام المحقق. واما استشهاده بوجوب التحرز من إدخال النجاسة إلى المساجد فهو مبني على رأيه من عدم جواز إدخال النجاسة إلى المساجد مع عدم التعدي وقد تقدم ما فيه. واما الاحتياط فهو ليس بدليل شرعي عنده.

وقال في المدارك بعد رد كلامه بنحو ما ذكرناه : ونحن نطالبه بالدليل على ان حمل النجاسة مبطل للصلاة إذا لم تتصل بالثوب والبدن ، وعلى ما ذكرناه فلا حاجة الى سد رأس القارورة بل يكفي الأمن من التعدي كما نبه عليه في الذكرى ، ثم نقل عبارته المتقدمة أقول : في كلام هؤلاء الاعلام في هذا المقام تأييد لما قدمناه من صحة الصلاة في المحمول مما لا يجوز الصلاة فيه ملبوسا كالنجاسة في الثوب والحرير والذهب ونحو ذلك.

(الرابع) ـ ذكر الشيخ في النهاية بعد نفي البأس عن الصلاة فيما إصابة نجاسة مما لا تتم الصلاة فيه ان ازالة النجاسة عنه أفضل ، وبنحو ذلك صرح السيد أبو المكارم ابن زهرة ، وقال المفيد في المقنعة : لا بأس بالصلاة في الخف وان كانت فيه نجاسة وكذلك النعل والتنزه عن ذلك أفضل. ولم أقف على من صرح بذلك غير هؤلاء (رضوان الله عليهم) والذي وقفت عليه من الاخبار في ذلك انما يدل على ما ذهب اليه الشيخ المفيد ، وهو ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق


(عليه‌السلام) (1) قال : «إذا صليت فصل في نعليك إذا كانت طاهرة فإنه يقال ذلك من السنة». وعن عبد الله بن المغيرة في الحسن (2) قال : «إذا صليت فصل في نعليك إذا كانت طاهرة فإن ذلك من السنة». وربما كان التفات الشيخ وابن زهرة إلى الخبرين المذكورين وانه متى ثبت ذلك في النعل فغيره بطريق اولى وإلا فلم أقف على ما يدل على ما ذكراه من العموم.

(الخامس) ـ ذكر جماعة من الأصحاب انه إذا جبر عظمه بعظم نجس كعظم الكلب والخنزير والكافر وجب قلعه ما لم يخف التلف أو المشقة وادعى في الدروس عليه الإجماع ، واحتمل في الذكرى عدم الوجوب إذا اكتسى اللحم لا لتحاقه بالباطن واستوجهه في المدارك ، وجزم الشيخ في المبسوط ببطلان الصلاة لو أحل بالقلع مع الإمكان لأنه حامل لنجاسة غير معفو عنها ، واستشكله في المدارك بخروجها عن حد الظاهر ولأنها نجاسة متصلة كاتصال دمه فتكون معفوا عنها.

أقول : الظاهر هو ما صرح به الأكثر من وجوب القلع مع الإمكان وعدم المشقة ، وما اختاره في المدارك وفاقا لما في الذكرى ـ من التحاقه بالباطن وكذا ما ذكره في رد كلام الشيخ من خروجه عن الظاهر وانها نجاسة متصلة كاتصال دمه ـ لا يخفى ما فيه وان تبعه عليه صاحب الذخيرة ، فإن غاية ما يستفاد من الأدلة هو عدم تعلق التكليف بما في باطن البدن من النجاسات الخلقية كدمه الذي تحت جلده والغائط في البطن ونحو ذلك ما لم يظهر الى فضاء البدن لما في التكليف بذلك من العسر والحرج وتكليف ما لا يطاق ، وحمل ما ذكروه على ذلك قياس مع الفارق من حيث تعذر الإزالة في الأول وإمكانها في الثاني كما هو المفروض في كلام الأصحاب لأنهم إنما يوجبون الإزالة مع الإمكان وعدم المشقة ، وبالجملة فمجرد الصيرورة في الباطن كيف اتفق لا دليل على إسقاطه وجوب الإزالة. ويؤيده ما صرحوا به في غير موضع من ان

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب لباس المصلى.


الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الشائعة المتكثرة الوقوع دون الفروض النادرة ومثل هذه الفروض النادرة الشاذة لا تدخل تحت إطلاق البواطن التي رتب عليها العفو عن الإزالة إذ المتبادر منها ما كان من أصل الجسد واجزائه الخلقية.

ومثل ما ذكرناه يأتي أيضا في المسألة الآتية ان شاء الله تعالى من إدخال الدم النجس تحت جلده فإن الأظهر فيها ايضا وجوب الإزالة مع عدم الضرر ، ومما يؤكد ما ذكرناه ويؤيد ما أردناه أنه الأحوط في الدين والموجب للبراءة بيقين.

(فان قيل) ان الاحتياط ليس بدليل شرعي (قلنا) هذا الكلام على إطلاقه ممنوع وان زعموا صحته بناء على العمل بالبراءة الأصلية إلا ان المستفاد من الاخبار خلافه وهو ان الاحتياط في موضع اشتباه الحكم واجب كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب ، ولا ريب ان المسألة عارية عن النصوص بالعموم والخصوص والحكم فيها لذلك محل اشتباه والحكم عندنا في الشبهات كما تقدم تحقيقه هو الوقوف فيها عن الفتوى والعمل بالاحتياط. والله العالم.

(السادس) ـ قال العلامة في التذكرة : لو ادخل دما نجسا تحت جلده وجب عليه إخراجه مع عدم الضرر واعادة كل صلاة صلاها مع ذلك الدم. قال في المدارك : ويشكل بخروجه عن حد الظاهر وبصيرورته كجزء من دمه واولى بالعفو ما لو احتقن دمه بنفسه تحت الجلد قال في الذخيرة بعد ذكره هذا الاستشكال : وبالجملة لقدر الثابت وجوب تطهير ظواهر البدن واما البواطن فليس في الأدلة ما يقتضي وجوب تطهيرها بل فيها ما يدل على العفو عنها فيكون أصالة البراءة على حاله ، وإطلاق الصلاة غير مقيد بشرط لا يدل عليه الدليل فيحصل الامتثال ، فظهر ضعف القول بوجوب إعادة الصلاة. انتهى.

أقول : فيه زيادة على ما عرفت في سابقه ان الأدلة الدالة على نجاسة البدن بما لاقاه من الدم والمني ونحوهما من النجاسات لا تخصيص فيها بباطن ولا ظاهر وان كان الغالب انما يقع بالظاهر خاصة والمتبادر كما عرفت من الباطن انما هو بالنسبة الى ما كان


من أصل الجسد وخلقته لا الى ما يطرح فيه من غيره ، وكيف كان فالمسألة لما كانت عارية عن النصوص فهي داخلة تحت الشبهات التي يجب فيها الاحتياط كما سلف تحقيقه في مقدمات الكتاب.

بقي هنا شي‌ء وهو ان الدم لو خرج من الجسد لكن لم يبرز الى فضاء البدن بل احتقن تحت الجلد فالظاهر العفو عنه لان الخطاب بوجوب غسله مرتب على خروجه على الجلد ، ونقل عن الشهيد في البيان انه جزم بوجوب إخراجه وجعل حكمه حكم الدم الذي هو محل البحث وهو غير جيد ، إلا ان عندي في حمل عبارته على ما ذكروه نوع تأمل بل الظاهر انه انما أراد احتقان دم أجنبي تحت جلده وقد صرح بذلك في الدروس ايضا ، وعبارته في الدروس أظهر فيما قلناه فإنه قال في البيان : ولو شرب نجسا فالأقوى وجوب استفراغه إن أمكن ، وكذا لو احتقن في جلده دم أو جبر عظمه بعظم نجس أو خاط جرحه بخيط نجس ، ولو خيف الضرر سقط. وقال في الدروس : ولو شرب خمرا أو منجسا أو أكل ميتة أو احتقن تحت جلده دم نجس احتمل وجوب الإزالة مع إمكانها ولو عللت القارورة بأنها من باب العفو احتمل ضعيفا اطراده هنا ولأنه التحق بالباطن. انتهى. ولا يخفى ان تقييده الدم في هذه العبارة بالنجس ظاهر في كونه غير دم البدن ، والظاهر ان عبارته في البيان ايضا من هذا القبيل وان حصل الاشتباه فيها من ترك هذا القيد ، ويؤيده انه لم يتعرض لذكر دم الغير تحت جلده كما هو الدائر في كلام الأصحاب في هذا المقام.

(السابع) ـ قال العلامة في المنتهى : لو شرب خمرا أو أكل ميتة ففي وجوب قيئه نظر الأقرب الوجوب لان شربه محرم فاستدامته كذلك. قال في المدارك بعد نقل ذلك : وهو أحوط وان كان في تعينه نظر ، وقال : ولو أخل بذلك لم تبطل صلاته وربما قيل بالبطلان كما في القارورة المشتملة على النجاسة وهو ضعيف. انتهى.

أقول : يمكن الاستدلال هنا على وجوب القي‌ء بما رواه في الكافي في الموثق


عن عبد الحميد بن سعيد (1) قال : «بعث أبو الحسن (عليه‌السلام) غلاما يشتري له بيضا فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بهما فلما اتى به اكله فقال مولى له ان فيه من القمار قال فدعا بطشت فتقيأ فقاءه». بقي الكلام في بطلان الصلاة لو أخل بقيئه وعدمه والأظهر الثاني لعدم الدليل عليه.

(المسألة الخامسة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف العفو عن نجاسة ثوب المربية للصبي ذات الثوب الواحد إذا غسلته في اليوم مرة ، واستدل الفاضلان في المعتبر والمنتهى على ذلك بما رواه الشيخ عن ابي حفص عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «سئل عن امرأة ليس لها إلا قميص ولها مولود فيبول عليها كيف تصنع؟ قال تغسل القميص في اليوم مرة». وان تكرار بول الصبي يمنع التمكن من إزالته فجرى مجرى دم القرح الذي لا يمنع من استصحاب الثوب في الصلاة ، قال المحقق فكما يجب اتباع الرواية هناك دفعا للحرج فكذا هنا لتحقق الحرج في الإزالة. وقال في المعالم بعد نقل ذلك : وهذه الحجة بينة الوهن فإن الرواية ضعيفة السند فلا تصلح لتأسيس حكم شرعي ، واعتبار الحرج يقتضي إناطة الحكم بما يندفع معه لا بالزمان المعين والإلحاق بدم القرح قياس ، ووجوب اتباع الرواية هناك ليس باعتبار الحرج وانما هو لصلاحيتها لإثبات الحكم وجهة الحرج مؤيدة لها ، وحيث ان الصلاحية هنا منتفية فلا معنى لكون وجوب الاتباع هناك موجبا لوجوبه هنا. انتهى. وهو جيد وجيه بالنسبة إلى تعليل المحقق المذكور بعد الرواية فإن الأولى يجعله وجها للنص لا علة مستقلة لما ذكره في المعالم. واما رد النص فهو مبني على تصلب هذا القائل في هذا الاصطلاح ومثله صاحب المدارك حيث قال بعد الطعن في سند الرواية : والاولى وجوب الإزالة مع الإمكان وسقوطها مع المشقة الشديدة دفعا للحرج. والعجب منهما

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب ما يكتسب به.

(2) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب النجاسات.


(قدس‌سرهما) انهما في غير موضع قد وافقا الأصحاب في العمل بالخبر الضعيف متى كان اتفاق الأصحاب على العمل به ويتعللان بان المعتمد انما هو على اتفاق الأصحاب ، والحكم هنا كذلك فإنه لا مخالف فيه ولا راد له ، وكيف كان فالأظهر ما عليه الأصحاب من قبول الخبر المذكور والعمل بما دل عليه.

نعم يبقى الكلام هنا في مواضع (الأول) ـ ظاهر الخبر المذكور شمول الحكم للصبي والصبية حيث عبر فيه بلفظ المولود الشامل لهما ، وبذلك ايضا صرح جملة من الأصحاب ، ونقله في المعالم عن الشهيدين وأكثر المتأخرين. أقول : وبه جزم في المدارك وهو الظاهر ، والذي صرح به المحقق في المعتبر والشرائع والنافع هو الصبي خاصة وكذا العلامة في المنتهى والإرشاد والشهيد في البيان ، وفي الدروس بعد ذكر الصبي ذكر الصبية إلحاقا كما ذكر المربي إلحاقا بالمربية ، نعم ظاهر كلامه في الذكرى العموم من حيث التعبير بلفظ المولود الوارد في النص ، ونقل في المعالم عن بعض الأصحاب انه قال المتبادر من المولود هو الصبي ، ثم قال ولا يخلو من قرب. وكلام العلامة في النهاية مشعر بذلك ايضا حيث قال بعد ذكر الرواية : ان الحكم مخصوص بالذكر اقتصارا في الرخصة على المنصوص ، وللفرق فان بول الصبي كالماء وبول الصبية اصفر ثخين وطبعها أحر فبولها ألصق بالمحل. انتهى.

(الثاني) ـ مورد النص المذكور البول فلا يتعدى الى غيره اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد النص ، وهو اختيار الشهيد الثاني في الروض وسبطه السيد السند في المدارك وابنه المحقق في المعالم ، واستشكل ذلك العلامة في النهاية والتذكرة ، والظاهر من كلام شيخنا الشهيد عدم الفرق وقربه بأنه ربما كني عن الغائط بالبول كما هو قاعدة لسان العرب في ارتكاب الكناية فيما يستهجن التصريح به. وفيه ان مجرد هذا الاحتمال لا يكفي في إخراج اللفظ عن معناه المتبادر منه وإثبات التسوية بينه وبين الغائط ، والتجربة شاهدة بعسر التحرز من اصابة البول لتكرره فإلحاق الغائط به بعيد.


وأبعد منه غيره من النجاسات كالدم كما يفهم من إطلاق بعض العبارات.

(الثالث) ـ مورد الرواية المذكورة المربية والحق بعض الأصحاب بها المربي أيضا للاشتراك في العلة وهو وجود المشقة فيهما ، وأنكره آخرون وقوفا على مورد النص والتعليل المذكور في كلامهم ليس منصوصا وانما هو علة مستنبطة وعلى هذا يكون الإلحاق قياسا ، وهذا هو الأظهر ، وبالأول صرح العلامة في التذكرة والنهاية وتبعه الشهيد في كتبه الثلاثة ، وبالثاني جزم في المدارك وهو الذي عليه اقتصر المحقق في كتبه.

(الرابع) ـ الحق بعض الأصحاب بالمولود الواحد المتعدد للاشتراك في العلة وهي المشقة وزيادة فلا معنى لزواله. وفيه انه يمكن ان يكون التعدد لكونه مقتضيا لكثرة النجاسة وقوتها فمن الجائز اختصاص العفو بالقليل الضعيف منها دون الكثير القوى فلا وجه للإلحاق المذكور ، وبالأول جزم الشهيد في الذكرى والدروس ، ونقله في المعالم عن والده أيضا في بعض كتبه ثم قال وله وجه. أقول : ما نقله عن والده من إلحاق المتعدد قد صرح به في المسالك واما في الروض فظاهره التوقف للوجهين المذكورين.

(الخامس) ـ لو كان لها أكثر من ثوب واحد فان احتاجت الى لبس الجميع لبرد ونحوه فالظاهر كما صرح به في الروض ان الجميع في حكم الثوب الواحد وإلا فلا تلحقها الرخصة لزوال المشقة بإبدال الثياب ووقوفا مع ظاهر النص ، ولو أمكن ذات الثوب الواحد تحصيل غيره بشراء أو استئجار أو استعارة ففي وجوب ذلك عليها تردد ينشأ من إطلاق النص المتقدم فان ظاهره ان الحكم فيها مع وحدة الثوب ما ذكر وان أمكنها ذلك ، ومن انتفاء المشقة بتكرير الغسل. وظاهر الروض التوقف في ذلك ، ونقل في المعالم عن جماعة من المتأخرين أنهم استقربوا الثاني وكتب في الحاشية في تفسير الجماعة المشار إليهم : السيد حسن بن جعفر وشيخنا السيد علي ابن الصائغ ، ثم قال هو (قدس‌سره) وكأن الأول أقرب. وهو جيد وقوفا على ظاهر النص ونظرا الى ان هذه العلة التي يكررون الإشارة إليها ليست منصوصة كما قدمنا ذكره بل هي مستنبطة.


(السادس) ـ قد صرح جماعة من الأصحاب بأن الحكم المذكور مختص بالثوب اما البدن فيجب غسله مع المكنة لعدم النص والمشقة الحاصلة في الثوب الواحد بسبب توقف لبسه على يبسه. قال في المعالم وربما صار بعض من تأخر إلى تعدية الرخصة إليه نظرا الى عسر الاحتراز عن الثوب النجس ومشقة غسل البدن في كل وقت. ثم قال وليس بشي‌ء وكتب في الحاشية في بيان ذلك البعض : السيد حسن. أقول : وهذا السيد أحد مشايخ شيخنا الشهيد الثاني وله (قدس‌سره) أقوال غريبة مثل قوله في هذه المسألة وقوله في تطهير المطر ولو بالقطرة الواحدة ونحو ذلك.

(السابع) ـ قد دل الخبر المذكور على تعين الغسل مع انه كما سيأتي ان شاء الله تعالى قريبا ان الحكم في بول الصبي الذي لم ينفطم انما هو الصب والمغايرة بينهما ظاهرة ، وبه يظهر المنافاة بين الحكمين مع اتفاق الأصحاب على كل منهما وبه يعظم الاشكال ، قال العلامة في النهاية : الأقرب وجوب عين الغسل فلا يكفي الصب مرة واحدة وان كفى في بوله قبل ان يطعم الطعام عند كل نجاسة. ومرجعه الى وجه جمع بين الأمرين بأن يقال ان الاكتفاء بالصب في بول الرضيع على ما سيأتي انما هو مع تكرير الإزالة كلما حصل منه البول بحسب الحاجة الى الدخول في العبادة واما مع الاقتصار على المرة في اليوم في هذه الصورة فلا بد من الغسل عملا بالخبر. ومرجعه الى تخصيص تلك الأخبار الدالة على الصب بهذا الخبر في هذه المادة المخصوصة وهي اتحاد الثوب ، ويؤيده الاعتبار وان كان العمل انما هو على النص من حيث ان تكرر حصول النجاسة من دون تخلل الإزالة بينهما يقتضي قوتها وتزايدها فيجوز اختلاف الحكم مع تحقق هذا المعنى وبدونه.

(الثامن) ـ قد ذكر كثير من الأصحاب ان المراد باليوم في الخبر ما يشمل الليل ايضا اما لإطلاقه لغة على ما يشمل الليل أو لإلحاق الليل به. والحكم موضع توقف لاحتمال ما ذكروه واحتمال اختصاص اليوم بالنهار خاصة والخروج عنه يحتاج الى دليل.


(التاسع) ـ قد صرح جمع من الأصحاب بأن الأفضل ان تجعل غسل الثوب آخر النهار لتوقع الصلوات الأربع على طهارة ، ولا بأس به ، والعلامة في التذكرة بعد ان ذكر أفضلية التأخير لذلك قال : وفي وجوبه إشكال ينشأ من الإطلاق ومن أولوية طهارات اربع على طهارة واحدة. وفي دلالة هذا التوجيه على الوجوب تأمل ، والأظهر الاستحباب. وهل يجب إيقاع الصلاة عقيب غسل الثوب والتمكن من لبسه متى اقتضت العادة نجاسته بالتأخير؟ فيه توقف. قيل ولو أخلت بالغسل فالظاهر وجوب قضاء آخر الصلوات لجواز تأخير الغسل الى وقته. والله العالم.

(المسألة السادسة) ـ الظاهر انه لا اشكال ولا خلاف في العفو عما يتعذر إزالته من النجاسة التي في البدن من اي نوع كانت ، وكأنه لما علم من اباحة الضرورات المحظورات لم يتعرض الأصحاب هنا للاستدلال على ذلك. ويمكن ان يستدل على ذلك بالأخبار الواردة في السلس والمبطون وقد تقدمت في المسائل الملحقة بالوضوء فإنها صريحة في الصلاة بالنجاسة لمكان الضرورة ، وفي حسنة منصور (1) «إذا لم يقدر على حبسه فالله تعالى اولى بالعذر». وفي موثقة سماعة (2) «فليتوضأ وليصل فإنما ذلك بلاء ابتلى به». ونحو ذلك. وأيد ذلك بعضهم بأن الأدلة الدالة على شرطية الطهارة من الخبث في الصلاة غير متناولة لحال الضرورة فيبقى عموم الأوامر سالما عن معارضة ما يقتضي الاشتراط والتخصيص. وهو جيد.

وانما الخلاف في نجاسة الثوب فذهب جمع من الأصحاب : منهم ـ الشيخ وابن البراج وابن إدريس والعلامة في أكثر كتبه وغيرهم ـ والظاهر انه المشهور كما في المدارك ـ الى عدم العفو ووجوب الصلاة عاريا إلا ان يضطر الى لبسه فيجوز للضرورة ويصير مناط العفو انما هو الضرورة. وانفرد الشيخ من بينهم بإيجاب إعادة الصلاة فيه

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 19 من نواقض الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب 7 من نواقض الوضوء.


حال الضرورة ، وذهب الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيدان وجماعة من المتأخرين الى ان العفو ثابت اضطر الى لبسه أم لم يضطر وان المصلي مخير بين الصلاة فيه والصلاة عاريا ، وزاد الشهيدان وجماعة ان الصلاة فيه أفضل ، وبهذا القول صرح ابن الجنيد من المتقدمين في كتابه المختصر فقال : ولو كان مع الرجل ثوب فيه نجاسة لا يقدر على غسلها كانت صلاته فيه أحب الي من صلاته عريانا. وأوجب مع ذلك إعادة الصلاة إذا وجد ثوبا طاهرا فقال في موضع آخر من الكتاب : والذي ليس معه إلا ثوب واحد نجس يصلي فيه ويعيد في الوقت إذا وجد غيره ولو أعاد إذا خرج الوقت كان أحب الي. أقول : والأصل في هذا الخلاف اختلاف الأخبار الواردة في المسألة كما ستقف عليه

احتج الشيخ على ما ذهب اليه من عدم العفو ووجوب الصلاة عاريا مع عدم الضرورة بإجماع الفرقة ذكره في الخلاف ، وبان النجاسة ممنوع من الصلاة فيها ومن يجيزها فيها فعليه الدلالة ، وبما رواه سماعة (1) قال : «سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض ليس عليه إلا ثوب واحد وأجنب فيه وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال يتيمم ويصلي عريانا قاعدا ويومئ». هكذا في الكافي والتهذيب وفي الاستبصار «ويصلي عريانا قائما ويومئ إيماء» وما رواه محمد بن علي الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (2) : «في رجل أصابته جنابة وهو بالفلاة وليس عليه إلا ثوب واحد فأصاب ثوبه مني؟ قال يتيمم ويطرح ثوبه ويجلس مجتمعا ويصلي ويومئ إيماء».

واحتج على ما ذهب اليه من جواز الصلاة فيه بالنجاسة مع الضرورة ووجوب الإعادة حينئذ بما رواه عن عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (3) «انه سئل عن رجل ليس معه إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه وليس يجد ماء يغسله كيف يصنع؟ قال يتيمم ويصلي فإذا أصاب ماء غسله وأعاد الصلاة».

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 46 من النجاسات.

(3) رواه في الوسائل في الباب 45 من أبواب النجاسات.


وأنت خبير بان هذه الرواية وان دلت على الإعادة إلا انها لا دلالة لها على الضرورة ، إلا ان يكون الحمل على ذلك لأجل الجمع بينها وبين الروايتين المتقدمتين وهو خلاف الظاهر من مدعاه ، ومع هذا فهي انما تدل على الإعادة في صورة التيمم دون الوضوء والمدعى أعم من ذلك.

ومما يدل على العفو مطلقا كما هو القول الآخر صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله أيصلي فيه أو يصلي عريانا؟ فقال ان وجد ماء غسله وان لم يجد ماء صلى فيه ولم يصل عريانا».

وصحيحة محمد بن علي الحلبي برواية الصدوق (2) «انه سأل الصادق (عليه‌السلام) عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله؟ قال يصلي فيه».

وفي الصحيح عن محمد الحلبي عنه (عليه‌السلام) (3) «انه سأل عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال يصلي فيه فإذا وجد الماء غسله» قال في الفقيه بعد ذكر الخبر : وفي خبر آخر «وأعاد الصلاة».

وفي الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن الرجل يجنب في ثوب ليس معه غيره ولا يقدر على غسله؟ قال يصلي فيه».

قال في الفقيه بعد ذكر هذا الخبر ايضا : وفي خبر آخر «يصلي فيه فإذا وجد الماء غسله وأعاد الصلاة».

أقول : ان كان مراد الصدوق بالرواية الدالة على الإعادة هي رواية عمار المتقدمة فقد عرفت ما فيها واما غيرها فلم نقف عليه.

هذا ما وصل إلينا من اخبار المسألة المذكورة ، والشيخ قد جمع بينها بحمل هذه الاخبار الأخيرة على الضرورة من برد أو نحوه أو على صلاة الجنازة ، والثاني منهما بعيد لا ينبغي النظر اليه ، اما الأول فقد عرفت انه استدل عليه بموثقة عمار وقد عرفت

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 45 من أبواب النجاسات.


ما فيه. نعم ربما يمكن الاستدلال له برواية الحلبي (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول وليس معه ثوب غيره؟ قال يصلي فيه إذا اضطر اليه». إلا ان الخبر غير صريح ولا ظاهر في المدعى إذ يمكن حمل الاضطرار اليه على معنى عدم وجود غيره كما هو محل السؤال ، وحاصل الجواب حينئذ انه يجوز له في الصورة المفروضة لمكان الضرورة بعدم وجود غيره ، وحينئذ فلا يمكن تخصيص إطلاق تلك الاخبار به ، والآخرون قد جمعوا بين الأخبار بالتخيير ، وبعضهم كما عرفت صرح بأفضلية الصلاة في الثوب النجس على الصلاة عاريا ، ويؤيده ـ زيادة على صحة الاخبار الدالة على الجواز ـ انه مع الصلاة في الثوب لا يلزم إلا فوات شرط واحد وهو طهارة الساتر ومع الصلاة عاريا يلزم فقد شروط وهو الساتر وترك القيام والركوع والسجود لانه يصلي قاعدا بإيماء كما صرحت به روايتا الصلاة عريانا إلا على رواية الاستبصار لحديث سماعة حيث صرح فيه بالقيام فإنه يبقى الاشكال بترك الركوع والسجود ، وبالجملة فرجحان هذا القول أظهر من ان يخفى.

وظاهر السيد السند في المدارك النظر في الجمع بين الاخبار بالتخيير مستندا إلى انه فرع حصول التعارض وهو خلاف الواقع لان روايات الصلاة في الثوب متعددة صحيحة الاسناد وتلك بالعكس من ذلك ، وهو جيد بناء على أصله المعتمد عليه عنده من العمل بهذا الاصطلاح الجديد ، إلا ان جملة أصحاب هذا الاصطلاح لم يعملوا على ذلك لاعتضاد تلك الأخبار بالشهرة بين الأصحاب حتى ادعى الشيخ في الخلاف الإجماع على ما دلت عليه ، ويؤيده ظاهر كلام العلامة في المنتهى فان ظاهره الإجماع على جواز الصلاة عاريا حيث قال فيه : لو صلى عاريا لم يعد الصلاة قولا واحدا. واقتصر البعض على التمسك بهذا الوجه في الخروج عن ظاهر هذه الاخبار قائلا انه لولاه لم يكن عن القول بتعين الصلاة في الثوب معدل واعترضه في المعالم بعدم صحة شي‌ء من الاخبار الأولة

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 45 من النجاسات.


وعدم ثبوت الإجماع وان ادعاه الشيخ والعلامة قال واحتجاج الشيخ بالمنع من الصلاة في النجاسة وطلبه للدلالة ممن يجيزها فيها واضح الجواب ، فإن الأخبار التي ذكرناها صالحة للدلالة متنا وإسنادا فالمتجه العمل بما دلت عليه. انتهى.

أقول : وهو ظاهر الصدوق في الفقيه حيث اقتصر في الكتاب على نقل الروايات الدالة على الصلاة في الثوب ولم يتعرض لنقل شي‌ء من روايات الصلاة عاريا وهو بناء على قاعدته التي ينسبون بها المذاهب إليه في هذا الكتاب ظاهر في اختياره تعين الصلاة في الثوب كما جنح إليه في المعالم.

وكيف كان فان ملخص الكلام في المقام ان مقتضى العمل بهذا الاصطلاح الجديد هو ما ذكره في المعالم وقبله السيد في المدارك إلا ان ظاهره في المدارك التوقف ولم يجزم بذلك كما في عبارة المعالم حيث قال بعد رد تأويلات الشيخ بالبعد : ويمكن الجمع بينها بالتخيير بين الأمرين وأفضلية الصلاة في الثوب كما اختاره ابن الجنيد إلا ان ذلك موقوف على تكافؤ السند وهو خلاف الواقع ، وكيف كان فلا ريب ان الصلاة في الثوب اولى. انتهى. وهو ظاهر في التوقف حيث لم يجزم بشي‌ء وانما جعل الصلاة في الثوب اولى ، ومقتضى العمل بجملة الأخبار هو القول بالتخيير جمعا بينها دون ما ذكره الشيخ (قدس‌سره) واما ما ذكره الشيخ من الإعادة وكذا ما ذكره ابن الجنيد ففيه ما تقدم في غير موضع من ان وجوب الأداء والقضاء مما لا يجتمعان بمقتضى الأصول الشرعية والقواعد المرعية كما تقدم تحقيقه في باب التيمم والله العالم.

فروع

(الأول) ـ نقل في المعالم انه ذكر بعض أصحابنا المتأخرين ان لكل من البدن والثوب بالنظر الى تعذر الإزالة حكما برأسه فإذا تعددت النجاسة فيهما واختص التعذر بأحدهما وجبت الإزالة عن الآخر ، قال ولو اختصت بأحدهما وكانت متفرقة


وأمكن إزالة بعضها وجبت ، وبتقدير اجتماعها فان كانت دما وأمكن تقليله بحيث ينقص عن مقدار الدرهم وجب ايضا وإلا ففي الوجوب نظر ، ثم قال وهذا التفصيل حسن ولا بأس به. أقول : ظاهر هذا الكلام التفرقة في صورة اختصاص النجاسة بأحدهما بين المتفرقة التي يمكن ازالة بعضها فإنه تجب الإزالة وبين المجتمعة التي إذا كانت غير الدم وأمكن تقليلها وازالة بعضها فإنه لا تجب بل هو محل نظر عنده ، ولا اعرف لهذه التفرقة وجها.

(الثاني) ـ قد عرفت ان الظاهر من الصدوق هو اختيار القول بالصلاة في الثوب إلا انه قد أشار كما عرفت في ذيل صحيحتي الحلبي وعبد الرحمن إلى رواية عمار الدالة على الإعادة ، ومنافاتها للأخبار المذكورة ظاهرة والأصحاب قد حملوها على الاستحباب جمعا ، وهو لم يتعرض للجواب عنها ولا الجمع بينها وبين تلك الأخبار ، وربما أشعر ذلك بقوله بمضمونها وتقييد إطلاق تلك الاخبار بها والظاهر بعده ، وربما احتمل التوقف حيث اقتصر على نقل الجميع ولم يتعرض لوجه الجمع ولعله الأقرب ، وقد وقع له أمثال ذلك في غير موضع : منها ـ خروج البلل المشتبه بعد الوضوء.

(الثالث) ـ انه على تقدير القول المشهور من وجوب الصلاة عاريا فهل يصلي جالسا مومئا برأسه للركوع والسجود مطلقا أو قائما مطلقا مومئا كذلك أو يفرق بين أمن المطلع وعدمه فيصلي على الأول قائما وعلى الثاني جالسا؟ أقوال أشهرها الثالث ، وسيجي‌ء تحقيق المسألة المذكورة في محلها ونقل اخبارها ان شاء الله تعالى وبيان المختار منها.

(الرابع) ـ لا خلاف في انه لو اضطر إلى الصلاة فيه لبرد ونحوه فان صلاته صحيحة وانما وقع الخلاف في وجوب الإعادة ، والظاهر ان مستنده موثقة عمار المذكورة وقد عرفت ما فيها من الاشتمال على التيمم أولا فيجوز ان تكون الإعادة مستندة الى ذلك كما تقدم في باب التيمم ، واما مع ظهور كون ذلك من حيث الصلاة في النجاسة فقد عرفت ما فيه من المخالفة لمقتضى الأصول الشرعية فيجب تأويلها البتة والله العالم.


(المسألة السابعة) ـ قد ذهب جمع من الأصحاب : منهم ـ الشهيد في الذكرى والدروس الى العفو عن نجاسة ثوب الخصي الذي يتواتر بوله إذا غسله في النهار مرة ، واحتجوا لذلك بالحرج والمشقة مع ما رواه الشيخ في الصحيح الى سعد ان بن مسلم عن عبد الرحيم القصير (1) قال : «كتبت الى ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) اسأله عن خصي يبول فيلقى من ذلك شدة ويرى البلل بعد البلل؟ فقال يتوضأ وينضح ثوبه في النهار مرة واحدة». واعترضهم بعض المحققين من متأخري المتأخرين بان في طريقها ضعفا لجهالة سعدان وعبد الرحيم ، وقال المحقق في المعتبر بعد نقل الخبر المذكور : والراوي المذكور ضعيف فلا اعمل على روايته وربما صير إليها دفعا للحرج. وظاهر قوله «صير» بالبناء للمجهول وجود قائل بمضمونها إلا ان العلة في ذلك هو الحرج دون الخبر ، ويحتمل ان يكون كناية عن ميله هو الى ذلك وتعليل الحكم بالحرج. واعترض عليه بان الاستناد في الحكم الى الحرج يقتضي جعل المناط في العفو ما تندفع معه المشقة والحرج ككثير من الأحكام التي يستندون فيها الى دفع الحرج دون الخصوصية المذكورة فإنها موقوفة على نهوض الرواية بها ، مع ان الرواية إنما تضمنت الصب لا الغسل كما ذكروه فالفرق بينهما ظاهر. والعلامة في المنتهى قد اقتصر على العمل بمضمون الرواية من غير تعرض للغسل فقال بعد ذكرها : وفي الطريق كلام لكن العمل بمضمونها اولى لما فيه من الرخصة عند المشقة. واستوجه في التذكرة بعد بيان ضعف الرواية وجوب تكرار الغسل فان تعسر عمل بمضمون الرواية دفعا للمشقة ، وهو كما ترى. والصدوق في الفقيه قد ذكر هذه الرواية مرسلة وظاهره العمل بها.

أقول : وتحقيق الكلام في المقام ان يقال ان هذه الرواية لا تخلو من الإجمال فالاستناد إليها فيما ذكروه لا يخلو من الاشكال ، وذلك فإنه يحتمل ان يكون ذلك البلل بولا فأمره بالوضوء يعني غسل البول الذي

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من نواقض الوضوء.


يخرج معتدلا والنضح مرة واحدة في نهاره لأجل هذا البلل ، وعلى هذا فيكون من قبيل المرأة المربية للمولود ذات الثوب الواحد ، وحينئذ فيجب حمل الصب على الغسل ويجب تقييده بأنه ليس له إلا ثوب واحد. والظاهر بعده فإنه على هذا التقدير يكون من قبيل صاحب السلس وحكمه شرعا كما تقدم في محله انه يضع ذكره في خريطة محشوة بالقطن ويصلي بعد التطهير من النجاسة. ويحتمل ان يكون هذا البلل غير معلوم كونه بولا بل يكون مظنونا أو موهوما فيكون النضح على ظاهر معناه الشرعي ونظيره في الأخبار غير عزيز ، فان من جملة مواضع النضح كما سيأتي ان شاء الله ما شك في نجاسته. ويحتمل انه أمر بالنضح وجعل الثوب رطبا ليمكن استناد البلل اليه ولا يتيقن كونه خارجا من الذكر ولا نجسا ويكون من قبيل الحيل الشرعية كما تقدم نظيره. ولا يخفى ان كلام الجماعة مبني على الاحتمال الأول وقد عرفت ما فيه ، فالأظهر هو طرح هذه الرواية لاشتباهها وعدم ظهور المعنى المراد منها والرجوع الى الأصول المقررة والقواعد المعتبرة في النجاسات وإزالتها. والله العالم.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *