ج21 - كتاب الضمان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين

كتاب الضمان

اعلم أن الضمان عند الفقهاء لفظ مشترك يطلق على معنيين أحدهما أخص من الأخر والمعنى الأعم عبارة عن عقد شرع للتعهد بمال أو نفس ، والتعهد بالنفس هو الكفالة والتعهد بالمال ان كان ممن في ذمته مال فهو الحوالة والا فهو الضمان بالمعنى الأخص الا ان في هذا المقام اشكالا من حيث الخلاف في الحوالة ، وأنه هل يشترط فيها شغل الذمة أم لا قولان : والأقسام الثلاثة انما تتم بناء على الأول وأما على الثاني فهي داخلة في الضمان بالمعنى الأخص. والمحقق في الشرائع مع قوله بعدم اعتبار شغل لذمة المحال عليه للمحيل قائل بالتقسيم إلى الأقسام الثلاثة ، وهو جعل الحوالة قسيما للضمان بالمعنى الأخير وهو مشكل لما عرفت ولا مخرج من هذا الإشكال إلا بجعل التقسيم مخصوصا بمحل الوفاق ، أو باعتبار القسم الأخر للحوالة ، وهو ـ تعهد مشغول الذمة للمحيل ، فيكون هو أحدا للأقسام الثلاثة خاصة ، ويكون القسم المشترك ذا جهتين من حيث تسميته هنا ضمانا خاصا وحوالة ، فيسهل الخطب بذلك.



وكيف كان فالمراد هنا عندنا بالضمان هو المعنى الأخص وهو التعهد بالمال من البري‌ء والمتبادر من إطلاق لفظ الضمان في كلامهم هو المعنى الأخص ولذا ان جملة منهم أفراد لكل من الثلاثة كتابا على حده وبعض لاحظ المعنى الأعم ، وجعل الثلاثة في كتاب واحد ، وقسمه الى الأقسام الثلاثة كالمحقق في الشرائع ، والعلامة في الإرشاد وغيرهما في غيرهما ، وعلى هذا النهج جرينا في هذا الكتاب ، وحينئذ فالبحث في هذا الكتاب يقع في مقاصد ثلاثة

الأول في الضمان بالمعنى الأخص وهو التعهد بالمال من البري‌ء وفيه بحوث ثلاثة : الأول ـ في الضامن : والكلام فيه يقع في مواضع ، أحدها ـ لا خلاف في أنه يشترط في الضامن جواز التصرف المالي ، فلا يصح ضمان الصبي ولا المجنون ، بل الغافل والساهي أيضا ، والظاهر أنه لا خلاف فيه كما ذكره بعضهم ، والظاهر أن السفيه المحجور عليه لسفهه كذلك ، وبه صرح في التذكرة وغيرها.

وأما المملوك فان ضمن بغير اذن سيده ففي صحته قولان : أحدهما ـ وبه قطع المحقق في الشرائع من غير نقل خلاف ـ العدم ، وهو قول الشيخ وابن الجنيد ، واستدلوا عليه بأن العبد لا يقدر على شي‌ء ـ كما وصفه الله تعالى (1) وذمته مملوكة للمولى ، فلا يملك إثبات شي‌ء فيها إلا باذنه.

وقيل : بالصحة ، واختاره العلامة في المختلف ، وقربه في التذكرة ، وعلل بانتفاء الضرر على المولى ، لان استحقاق المطالبة له بما يستقر في ذمته بعد العتق لا ضرر فيه ، كما لو استدان بغير اذن سيده ، وأجاب في المختلف عن الآية بأن المراد بالشي‌ء المال ، لقوله في مقابلته : ـ «وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً» والمسألة محل توقف واشكال ، وان كان ضمانه باذن سيده ، فإنه يصح إجماعا كما ذكره العلامة في المختلف.

__________________

(1) سورة النحل الآية 75.


لكن بقي الكلام في أنه لو أطلق له الاذن ولم يشترط له الأداء من كسبه ، ولا الصبر الى أن يعتق ، فهل يتعلق بذمته أم بكسبه ، قولان : قال في المبسوط : قيل : انه يتعلق بكسبه ، وقيل : انه يتعلق بذمته ، وان عينه في ذمته أو كسبه أو غيرهما من أمواله تعين ، ووجب قضاؤه ، ولم يرجح الشيخ هنا شيئا من القولين المذكورين ، وعلل القول الأول بأن إطلاق الضمان أعم من كل منهما ، والعام لا يدل على الخاص ، فلم يقع من المولى ما يدل على التزامه في ملكه ، وكسبه ملكه ، ولأن الاذن في الكلي ليس إذنا في الجزئي المعين ، وان كان لا يوجد إلا في ضمنه كما حقق في الأصول ، وعلل القول الثاني بأنه انما يتعلق بكسبه ، لأن إطلاق الضمان انما يحمل على الضمان الذي يستعقب الأداء ، فإنه المعهود ، والأداء من غير مال السيد يمتنع ، وكذا في مال غير الكسب ، والا لكان هو الضامن لا العبد ، وهو خلاف التقدير فيكون في كسبه ، قال في المسالك : والبحث في ذلك قريب مما لو أذن له في الاستدانة فينبغي ترتب قول ثالث ، وهو ان الضمان يتعلق بالمولى ولا يختص بكسب العبد ، ولعله أقوى. انتهى.

أقول : هذا القول الثالث مستقر على حمله هذه المسألة على مسألة الاذن في الاستدانة ، فإنه لا إشكال في كون ذلك على السيد ، سواء كان الاستدانة للعبد أو السيد كما تقدم تحقيقه في كتاب الديون ، وحينئذ فيتجه هنا هذا القول الثالث بناء على ذلك ، وهو قريب من حيث الاعتبار ، لأن الاذن في الضمان في معنى الاذن في الاستدانة ، الا أن المسألة لخلوها من النص بجميع شقوقها محل اشكال. والله العالم.

الثاني ـ هل يشترط علم الضامن بالمضمون له ، والمضمون عنه ، ومعرفتهما بنسبهما أو وصفهما ، قيل : نعم ، وقيل : لا يشترط ، وقيل : يشترط معرفة المضمون عنه دون معرفة المضمون له ، والقول الأول ـ للشيخ في المبسوط ، والثاني له أيضا في الخلاف ، وهو اختيار المحقق في الشرائع ، والشهيد ، والعلامة في غير المختلف ، والشهيد الثاني في المسالك وجماعة ، والثالث للعلامة في المختلف ، وعلى القول


الثاني فإنه وان لم يشترط المعرفة على الوجه المتقدم ، لكن يشترط عندهم ان يمتاز المضمون عنه عند الضمان بما يصح معه القصد الى الضمان عنه.

استدل العلامة في المختلف على اشتراط معرفة المضمون عنه قال : لنا ان المضمون عنه لا بد وأن يتميز عند الضامن ، ويتخصص عن غيره ليقع الضمان عنه ، وذلك يستدعي العلم به.

وما رواه أبو سعيد الخدري (1) «قال كنا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في جنازة فلما وضعت قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : هل على صاحبكم من دين؟ قالوا : نعم ، درهمان ، فقال : صلوا على صاحبكم ، فقال على (عليه‌السلام) : هما على يا رسول الله وأنا لهما ضامن ، فقام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فصلى عليه ، ثم أقبل على على فقال : جزاك الله عن الإسلام خيرا ، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك».

وروى جابر بن عبد الله (2) «أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان لا يصلى على رجل عليه دين فأتي بجنازة فقال : هل على صاحبكم دين؟ فقالوا : نعم ديناران ، فقال صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة هما على يا رسول الله قال : فصلى عليه فلما فتح الله على رسوله ، قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن ترك مالا فلورثته ، ومن ترك دينا فعلى».

وهما يدلان على صحة الضمان مع عدم العلم بالمضمون له ، ثم قال : احتج الشيخ في الخلاف بالحديثين ، «فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يسأل عليا (عليه‌السلام) ولا أبا قتادة عن صاحب الدين ولا الميت ، فلا يشترط علمهما وعلى قوله في المبسوط بأنه يشترط معرفة المضمون له ليعرف هل هو سهل المعاملة أم لا ، ومع انتفاء ذلك يتطرق الغرر ، ومعرفة المضمون عنه لينظر هل يستحق بذلك عليه أم لا.

__________________

(1) الوسائل ج 13 ص 151 الباب 3 من أبواب أحكام الضمان الرقم 2.

(2) الوسائل ج 13 ص 151 الباب 3 من أبواب أحكام الضمان الرقم 3.


ثم قال : والجواب عن الأول القول بالموجب في المضمون له ، وأما المضمون عنه فإنه متعين لتشخصه ، وحضوره عنده ، ولا يشترط علمه بنسبه ولا حاله ، والغرر ليس بمعتبر ، إذ لا يشترط علمه حال الضمان بحسن معاملة المضمون له وعدمه ، وان علمه بعينه إجماعا فلو كان الغرر معتبرا كان العلم بهذه الوصف شرطا ، وليس كذلك بالإجماع انتهى.

أقول : وبذلك علم حجج هذه الأقوال المذكورة في المقام ، وهي عند التحقيق لا اعتماد عليها في تأسيس الأحكام ، أما قوله لنا : ان المضمون عنه الى آخره ، ففيه أولا أنه مصادرة محضة ، لأن هذا عين المدعى ، ومع تسليمه فإنه يكفي التميز بوجه ما ، كما اعترف به القائلون بعدم الاشتراط بالنسبة إلى المضمون عنه ، وبه يظهر ضعف قوله وذلك يستدعي العلم به.

وأما الخبران المذكوران فإنهما وان ذكرهما الشيخ في الخلاف ، الا أن الظاهر أنهما من روايات العامة ، فإنهم كثيرا ما يستسلفون رواياتهم ، ولا سيما الشيخ في الكتاب المذكور ، فلا تقوم بهما حجة ، ومع تسليم صحتهما فهما بالدلالة على العدم ـ في كل من المضمون له ، وعنه ـ أقرب ، كما ذكره الشيخ في الخلاف ، حيث استدل بهما على ذلك بالتقريب الذي تقدم نقله عنه. (1)

وأما ما استدل به الشيخ في المبسوط فهو أظهر ضعفا من أن يتعرض لبيانه ،

__________________

(1) أقول : هذان الخبران وان لم ينقلا في كتب أخبارنا ، لكن في بعض الاخبار ، ما يشير الى ذلك ، كصحيحة معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أنه ذكر لنا أن رجلا من الأنصار مات وعليه ديناران دينا فلم يصل عليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقال : صلوا على صاحبكم حتى ضمنهما عنه بعض قرابته فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ذلك الحق ، ثم قال ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انما فعل ذلك ليتعظوا وليرد بعضهم على بعض ، ولئلا يستخفوا بالدين. الحديث. الوسائل ج 13 ص 79 الباب 2 من أبواب الدين والقرض الرقم ـ 1. وقد تقدم في صدر كتاب الدين ـ منه رحمه‌الله.


ولو صح بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات الواهية لاتسع المجال والكلام في تشريع الأحكام مع استفاضة النصوص عن ذوي الخصوص بالمنع من القول فيها الا بما ورد عنهم (عليهم‌السلام) والا فالسكوت ، وما أجاب به في المختلف عن حجة المبسوط ـ بالنسبة إلى المضمون عنه بأنه متعين لتشخصه وحضوره عنده ـ انما يتم بالنسبة إلى مورد الخبرين ، والمدعى أعم من ذلك.

وبالجملة فإن الاعتماد في تأسيس الأحكام على مثل هذا الكلام مجازفة محضة في أحكام الملك العلام ، والعجب منهم (رضوان الله عليهم) أنهم يطعنون في الاخبار المتفق على روايتها في الأصول المشتهرة المتعمدة ، بناء على الاصطلاح المحدث ، ويعولون هنا على نقل هذه الروايات الواهية التي هي كبيت العنكبوت ، وأنه لأوهن البيوت مضاهية.

وبذلك يظهر لك أن الأصح من هذه الأقوال هو القول بعدم الاشتراط مطلقا ، ومما يدل صريحا على عدم معرفة المضمون له ما رواه في الكافي عن فضيل وعبيد (1) عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لما حضر محمد بن أسامة الموت دخل عليه بنو هاشم فقال لهم : لقد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم ، وعلى دين فأحب أن تقضوه عنى ، فقال على بن الحسين (عليهما‌السلام) ثلث دينك على ، ثم سكت وسكتوا ، فقال على بن الحسين (عليهما‌السلام) على دينك كله ، ثم قال على بن الحسين (عليهما‌السلام) أما انه لم يمنعني أن أضمنه أولا إلا كراهة أن يقولوا : سبقنا».

وهذا الخبر كما أنه يدل على عدم اشتراط معرفة المضمون له ، كذلك يدل على عدم اشتراط معرفة قدر الدين ، وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى ، والأصحاب القائلون بعدم الاشتراط مطلقا عللوا عدم اعتبار العلم بالمضمون عنه بأن الضمان وفاء دين عنه ، وهو جائز عن كل مديون.

وأما المضمون له فان اعتبر فيه القبول لفظا كما هو مقتضى العقد اللازم ،

__________________

(1) الكافي ج 8 ص 332 ح 514 ، الوسائل ج 13 ص 151.


اقتضى ذلك تميزه وان لم يعتبر ، فإنه لا يعتبر العلم به.

أقول : الأظهر في الاستدلال على ذلك هو التمسك بأصالة العدم حتى يقوم دليل على الاشتراط في المضمون عنه ، أو المضمون له.

وأما اعتبار القبول وأنه لا بد من عقد يشتمل عليه فقد عرفت من الخبر المذكور ما يدفعه ، فإنه (عليه‌السلام) بمجرد اخبار محمد المذكور أن عليه دينا ضمنه من غير فحص ، ولا علم بصاحب الدين بالكلية ، ولا علم بقدر الدين ، وكذلك يؤيده الخبران المتقدمان هذا.

وأما ما ذكره القائلون بهذا القول ـ من اشتراط امتياز المضمون عنه عند الضامن ليصح معه القصد الى الضمان عنه كما قدمنا نقله عنهم.

فقيل : ان وجهه أن الضمان يتوقف على القصد ، وهو متعلق بالمضمون عنه والحق ، فلا بد من تميزه بوجه تزول عنه الجهالة ليمكن القصد اليه.

وأورد عليه بأنه يشكل بمنع توقف القصد على ذلك ، فان المعتبر القصد الى الضمان ، وهو التزام المال الذي يذكره المضمون له في الذمة ، وهو غير متوقف على معرفة من عليه الدين ، والدليل انما دل على اعتبار القصد في العقد ، لا في من كان عليه الدين ، فلو قال شخص مثلا : انى استحق في ذمة شخص مأة درهم ، فقال له آخر : ضمنتها لك ، كان قاصدا الى عقد الضمان ، على أى من كان الدين عليه ، ولا دليل على اعتبار ما زاد عن ذلك.

والى ذلك مال في التذكرة حيث قال : «وهل يشترط معرفة ما يميزه عن غيره؟ الأقرب العدم ، بل لو قال : ضمنت الدين الذي لك على من كان من الناس جاز. نعم لا بد من معرفة المضمون عنه بوصف يميزه عند الضامن ، بما يمكن القصد معه الى الضمان عنه ، لو لم يقصد الضمان عن أى من كان. انتهى.

أقول : ما حكموا به من صحة الضمان وثبوته في هذه الصورة بمعنى على أى من كان من الناس لم أقف فيه على نص يدل عليه ، أو يشير اليه ، والمفهوم من الروايات


الواردة في هذا الباب انما هو اعتبار معرفة المضمون عنه ولو بوجه ما ، والحكم بالصحة فيما ذكروه يتوقف على الدليل ، لأن الأصل براءة الذمة ، والحكم باشتغالها يحتاج الى دليل واضح ، والركون الى هذه التعليلات العليلة مجازفة محضة كما عرفت ، ودعوى العموم في بعض روايات الضمان ـ على وجه يشمل هذه الصورة ـ ممنوعة ، وبذلك يظهر أن الأظهر في الاحتجاج على اعتبار ذلك انما هو كونه هو الوارد في النصوص ، لا ما عللوا به من القصد الذي تطرقت اليه هذه المناقشة. والله العالم.

الثالث ـ المشهور عند الأصحاب اشتراط رضا المضمون له في صحة الضمان ، وعللوه بأن حقه يتحول من ذمة غريمه إلى ذمة الضامن ، والناس يختلفون في حسن المعاملة وسهولة القضاء ، فلو لم يعتبر رضاه لزم الضرر والغرر ، ونقل عن الشيخ قول بعدم اشتراط رضاه ، محتجا بأن عليا (عليه‌السلام) وأبا قتادة ضمنا الدين عن الميت ، ولم يسأل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن رضا المضمون له ، وأجيب بأنها واقعة لا عموم لها ، وأن ذلك انما يدل على عدم بطلان الضمان قبل علمه ورده ، ونحن نقول بموجبه ، لانه صحيح ، ولكن لا يلزم الا برضا المضمون له.

أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه ثقة الإسلام والشيخ نور الله تعالى مرقديهما عن عبد الله بن سنان (1) في الصحيح «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يموت وعليه دين فيضمنه ضامن للغرماء ، فقال : إذا رضى به الغرماء فقد برئت ذمة الميت».

ورواه في الفقيه (2) عن الحسن بن محبوب عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) مثله ، والحسن بن صالح زيدي ضعيف ، والخبر المذكور ظاهر في الدلالة على القول المشهور ، وبه استدل جملة من أصحابنا المتأخرين من غير أن ينقلوا له معارضا في ذلك ، مع وجود المعارض في الاخبار ، بل تعدده كما

__________________

(1) التهذيب ج 6 ص 187 ح 17 وفروع الكافي ج 5 ص 99 ح 2.

(2) الفقيه ج 3 ص 116 ح 33.


ستقف عليه.

ومثل هذا الخبر قول الرضا (عليه‌السلام) في كتاب فقه الرضوي (1) حيث قال (عليه‌السلام): «وان كان لك على رجل مال ، وضمنه رجل عند موته وقبلت ضمانه فالميت قد برء وقد لزم الضامن رده عليك».

ومنها ما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن إسحاق بن عمار (2) عن أبى ـ عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يكون عليه دين فحضره الموت فيقول وليه : على دينك قال : يبرئه ذلك ، وان لم يوفه وليه من بعده ، وقال : أرجو أن لا يأثم ، وانما إثمه على الذي يحبسه ،.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحسين بن الجهم في الموثق قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل مات وله على دين ، وخلف ولدا رجالا ونساءا وصبيانا ، فجاء رجل منهم فقال : أنت في حل مما لأبي عليك من حصتي وأنت في حل مما لإخوتى وأخواتي ، وأنا ضامن لرضاهم عنك ، قال : تكون في سعة من ذلك وحل ، قلت فان لم يعطهم؟ قال : كان ذلك في عنقه ، قلت : فان رجع الورثة على فقالوا : أعطنا حقنا ، فقال : لهم ذلك في الحكم الظاهر ، فأما بينك وبين الله عزوجل فأنت منها في حل إذا كان الرجل الذي أحل لك يضمن لك عنهم رضاهم فيحتمل الضامن لك» الحديث (3).

والخبران المذكوران ظاهرا الدلالة ، صريحا المقالة ، ولا سيما الثاني في صحة الضمان ولزومه ، من غير توقف على رضا المضمون له ، فإن الثاني صريح في أنه مع عدم الرضا ، فان الضمان لازم ، وقد ذكرنا في هذا الخبر جملة من الفوائد

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 491.

(2) التهذيب ج 6 ص 188 ح 22.

(3) فروع الكافي ج 7 ص 25 كتاب الوصايا ح 7 ، وفي التهذيب ج 9 ص 167 كتاب الوصايا ح 28 ـ إذا كان الرجل الذي حللك يضمن عنهم رضاهم فيحتمل لما ضمن لك ، وفي الوسائل ج 13 ص 152 الباب ـ 4 ـ من أبواب أحكام الضمان ـ إذا كان الرجل الذي حللك يضمن عنهم رضاهم فيحمل لما ضمن لك.


الزائدة على محل الاستدلال في كتاب الديون.

ويدل على ذلك أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن حبيب الخثعمي والصدوق في الفقيه عن ابن ابى عمير عن حبيب الخثعمي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قلت له : الرجل يكون عنده المال وديعة يأخذ منه بغير اذن صاحبه قال : لا يأخذ الا أن يكون له وفاء قال : قلت أرأيت ان وجدت من يضمنه ولم يكن له وفاء وأشهد على نفسه الذي يضمنه يأخذ منه؟ قال : نعم». (1).

وهو كما ترى أيضا ظاهر في صحة الضمان من غير اشتراط رضا المضمون له ، والمراد من الخبر أن الضامن أشهد على نفسه بأنه ضامن ، وينبغي تقييده بملائة الضامن أيضا ، وحمله على ذلك.

ولم أقف على من تعرض لنقل هذه الاخبار في المقام ، فضلا عن الجواب عنها سوى صاحب الكفاية ، فإنه نقل موثقة إسحاق بن عمار ، وأجاب عنها بأنها تضعف عن مقاومة الخبر الصحيح المعتضد بالشهرة بين الأصحاب ، وهو كما ترى ، مع أن المخالفة غير منحصرة في الموثقة المذكورة كما عرفت ، والمسألة عندي محل توقف واشكال ، لعدم معلومية ما يجمع به بين هذه الاخبار. (2)

__________________

(1) (في الوسائل ج 13 ص 232 كتاب الوديعة الباب ـ 8 ـ قال : قلت. بغير اذن فقال. أرأيت ان وجد من. إلخ) ـ (وفي من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 194 ح 4) ـ (وفي التهذيب ج 7 ص 180 ح 5 كتاب الوديعة).

(2) والعجب من المحدث الكاشاني في المحجة حيث أنه ممن اختار القول المشهور فقال : ـ بعد ذكر المسألة خلافا للشيخ في أحد قوليه للخبر ـ وهو قاصر الدلالة ، والظاهر أنه أشار بالخبر إلى موثقة إسحاق بن عمار ولا أدرى بما أراد من قصور الدلالة مع أنها واضحة الدلالة على القول المذكور فان ظاهرها أنه بمجرد قول وليه على دينك ، تبرأ ذمة المضمون عنه من الدين ، وتنتقل إلى ذمة الولي المذكور ، من غير توقف على العلم بالمضمون له ، فضلا عن رضاه بذلك ، وأخرج منها رواية الحسين بن الجهم كما عرفت. منه رحمه‌الله.


ثم انه بناء على القول المشهور من اشتراط رضا المضمون له فهل المعتبر مجرد رضاه كيف اتفق ولو مع التراخي؟ أم لا بد من كونه بصيغة القبول ، قولان : استجود في المسالك الثاني ، قال : لانه عقد فلا بد فيه من القبول ، ولأصالة بقاء ما كان من شغل ذمة المضمون عنه وسلامة ذمة الضامن ، وانتفاء حق المضمون له الى أن يتحقق المزيل ، وحينئذ فيعتبر فيه ما يعتبر في سائر العقود من التواصل المعهود بين الإيجاب والقبول ، وكونه بلفظ الماضي واللفظ العربي ، لأنه من العقود اللازمة.

ثم قال : ووجه العدم قصة على (عليه‌السلام) وأصالة عدم الاشتراط ، ومخالفته لغيره من العقود المملكة ، لأن الضمان لا يثبت ملكا جديدا وانما يتوثق به الدين الذي كان مملوكا ، وفيه ان استحقاق المضمون له عند الضامن حقا ضرب من التملك ثم ينتقض بالرهن ، فإنه فائدته التوثق مع اشتراطه فيه انتهى.

أقول جميع ما ذكره وأطال به لا يخرج عن مجرد الدعوى ، ولم أره استند الى دليل يدل عليه ولا برهان يلجأ اليه الا التمسك بأصالة بقاء شغل ذمة المضمون عنه ، وعدم شغل ذمة الضامن ، وفيه أنه وان كان الأمر كذلك لكن يجب النظر في الدليل المخرج عن ذلك من الاخبار الواردة في هذا المضمار ، لا مجرد الدعاوي العارية عن الاعتبار.

وأنت خبير بأنه لم يرد في الاخبار مما يدل على اشتراط رضا المضمون له الا صحيحة عبد الله بن سنان ، وقوله «فيها إذا رضى به الغرماء فقد برئت ذمة الميت» وظاهرها بل صريحها هو توقف ذلك على ما يدل على الرضا بأي لفظ كان ، بل بغير لفظ أيضا ، وفي معناها عبارة كتاب الفقه الرضوي ، ومن أين يفهم من ذلك اشتراط كونه عقدا مشتملا على الإيجاب والقبول بهذه الاعتبارات التي أطال بها ، مضافا إلى ما عرفته في كتاب البيع من عدم دليل على هذه الأمور المذكورة ، بل قيام الدليل على خلافها ، وهو ممن وافق على ذلك ثمة ، على أنك قد عرفت من الروايات الثلاث التي أوردناها أنه يكفى في حصول الضمان ـ وانتقال المال إلى ذمة الضامن ـ قوله


«على دينك أو أنا ضامن لرضاهم عنك» ، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على ذلك ، وبالجملة فإن كلامه هنا بمحل من الضعف الذي لا يخفى على المصنف والله العالم.

الرابع : ظاهر جملة من الأصحاب أن رضى المضمون عنه غير شرط في صحة الضمان ، بل يظهر من المسالك أن ذلك موضع وفاق ، حيث قال بعد قول المصنف : ـ ولا عبرة برضا المضمون عنه ، لان الضمان كالقضاء ، هذا موضع وفاق ، ولأن أداء الدين كما يجوز بغير اذنه فالتزامه في الذمة أولى ، ولصحة الضمان عن الميت كما مر في واقعة المصلى عليه ولا يتصور رضاه. انتهى.

وأشار بالواقعة المذكورة إلى حديثي على (عليه‌السلام) وأبى قتادة المتقدمين.

أقول : ما نقله هنا من الاتفاق على الحكم المذكور ينافيه ما نقله في المختلف عن الشيخ أنه قال في النهاية : متى تبرع الضامن من غير مسألة المضمون عنه ، وقبل المضمون له ضمانه ، فقد برء عهدة المضمون عنه ، الا أن ينكر ذلك ويأباه ، فيبطل ضمان المتبرع ، ويكون الحق على أصله لم ينتقل عنه بالضمان ، ثم نقل عن ابن البراج أنه قال : إذا تبرع انسان بضمان حق ثم أنكر المضمون عنه ذلك كان الحق باقيا في جهته ، لم ينتقل الى المتبرع بضمان ذلك ، قال : وهذا يوافق قول الشيخ من اعتبار رضى المضمون عنه في الضمان ، وبه قال ابن حمزة ، وهو قول شيخنا المفيد رحمه‌الله في المقنعة ، ثم نقل عن ابن إدريس أنه لا يعتبر رضى المضمون عنه ، بل يلزم الضمان مع رضى الضامن والمضمون له ، قال : وهو مذهب والدي رحمه‌الله ، ثم استدل على ذلك فقال : لنا قوله (عليه‌السلام) (1) «الزعيم غارم». وما رواه داود الرقي (2) في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) قال : مكتوب في التوراة «كفالة ندامة غرامة». ولانه كالقضاء فلا خيار له كما لو قضى عنه. انتهى

ومنه يظهر ما في دعوى الاتفاق مع ظهور خلاف هؤلاء الأجلاء والقائلون

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 497.

(2) الوسائل ج 13 الباب 7 من أبواب الضمان ص 155 ح 5.


بعدم اشتراط رضى المضمون عنه ، قالوا : تفريعا على ذلك : بأنه لو أنكر المضمون عنه بعد الضمان لم يبطل الضمان ، وعللوه بأنه لا أثر له ، فإنه إذا لم يعتبر رضاه ابتداء فلا عبرة بإنكاره بعده ، ثم نقلوا هنا خلاف الشيخ وجماعة حيث حكموا ببطلانه بعد إنكاره ، وردوه بأنه ضعيف جدا.

أقول : ان الشيخ انما حكم هنا ببطلان الضمان بالإنكار تفريعا على قوله باشتراط رضى المضمون عنه في صحة الضمان ، مع أنهم لم ينقلوا خلافه هناك ، بل ادعوا الاتفاق ، وهو يشعر بموافقة الشيخ لهم في تلك المسألة ، وتخصيص مخالفته بهذه ، ومن ثم نسبوه الى كونه ضعيفا جدا.

وأنت خبير بأنا لم نجد لهم دليلا شافيا على ما ادعوه من عدم اشتراط رضى المضمون عنه في صحة الضمان ، الا ما يذكرونه من جواز أداء الدين عنه بغير رضاه ، وغاية ما يستند اليه هنا في أداء الدين حديث الضمان عن الميت ، حيث أنه لا يتصور الرضا أو عدمه من الميت.

وما ادعوه من جواز أداء الدين عن الحي وبراءة ذمته مع عدم رضاه بذلك لم نقف له على دليل ومع وجود الدليل عليه فحمل الضمان على ذلك قياس ، وان كان مما يرجع اليه بنوع من الاعتبار والاستناد الى الضمان عن الميت أو الأداء عنه غير دال على ما نحن فيه ، لظهور الفرق بين الحي والميت ، فهو قياس مع الفارق ، وما ذكره العلامة من الدليل عليل لا يهدى الى سبيل وبالجملة فالمسألة لما عرفت محل اشكال.

الخامس : الظاهر أنه لا خلاف في أنه متى تحقق الضمان على الوجه المعتبر شرعا انتقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن ، وبرء المضمون عنه من حق المضمون له ، وانما يبقى الحق في ذمة الضامن إذا كان الضمان باذنه دون ما إذا كان تبرعا وخالف كافة العامة في ذلك حيث قالوا : بان الضمان غير ناقل ، وانما هو ضم ذمة إلى ذمة ، فللمضمون له مطالبة من شاء من الضامن والمضمون عنه.


ويدل على القول المذكور مضافا الى اتفاق الأصحاب (رضوان الله عليهم) ، صحيحة عبد الله بن سنان ، وموثقة إسحاق بن عمار ، وموثقة الحسين بن الجهم المتقدمات ، فإنها صريحة في خلو ذمة المضمون عنه ، وانتقال المال إلى ذمة الضامن ، فعلى هذا لو أبرأ المضمون له ذمة المضمون عنه لم يفد شيئا ، بل كان لغوا وذلك لأنك قد عرفت أنه بالضمان انتقل المال إلى ذمة الضامن ، وبرئت ذمة المضمون عنه من حق المضمون له ، فهذا الإبراء لم يصادف محلا لانه غير مشغول الذمة له.

نعم لو أبرأ ذمة الضامن برئا جميعا ، أما الضامن فلانه مشغول الذمة له ، فإذا أبرئه برئت ذمته ، وأما المضمون عنه فلان الضامن لا يرجع عليه الا بما أداه عنه ، وهو هنا لم يؤد عنه شيئا ، فلا يرجع إليه بشي‌ء ، وخالف الجمهور في ذلك ، فقالوا : ان كل واحد من الضامن والمضمون عنه ذمته مشغولة ، فإذا أبرأ المضمون له المضمون عنه فقد أبرأ الضامن ، لسقوط الحق كما لو أدى المال ، ولو أبرأ الضامن لم يبرء المضمون عنه ، لان الضامن عندهم كالوثيقة فلا يلزم من سقوطها سقوط الدين كفك الرهن.

والحكم المذكور اتفاقي بين أصحابنا كما ذكره في التذكرة : حيث ادعى إجماع علمائنا على ذلك ، والمحقق في الشرائع نسبه إلى قول مشهور ، وربما كان فيه اشعار بوجود مخالف منا ، أو إشارة الى عدم تحقق الإجماع المدعى.

السادس : قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يشترط في الضامن الملاءة أو العلم بإعساره والمراد انه شرط في اللزوم لا في الصحة فلو ضمن ثم بان إعساره كان للمضمون له الفسخ ، قالوا : لان عقد الضمان مبنى على الارتفاق ، والقصد منه استيفاء الدين من الضامن ، وانما يكون ذلك إذا أمكن الأداء بإيساره ، فإذا فات هذا المقصود ثبت للمضمون له الخيار بين الصبر على الضامن ، وبين فسخ العقد والرجوع على المضمون عنه.

وهل الخيار هنا على الفور أم لا لم أقف فيه على كلام لهم ، والأصل يقتضي


امتداده الى ان يثبت المزيل ، والمراد بالملاءة المشترطة في الضامن أن يكون مالكا لما يؤدى به الدين فاضلا عن المستثنيات في البيع ، وانما تعتبر الملاءة ابتداء لا استدامة فلو كان مليا وقت الضمان ثم تجدد عدمها قبل الأداء لم يبطل الضمان ، ولم يجز له الفسخ ، لحصول الشرط حين الضمان.

ولم يحضرني الان خبر في المقام الا ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب عن عيسى بن عبد الله قال احتضر عبد الله بن الحسن ورواه في الفقيه مرسلا قال : «وروى أنه احتضر عبد الله بن الحسن فاجتمع إليه غرماؤه فطالبوه بدين لهم فقال لهم : ما عندي ما أعطيكم ولكن ارضوا بمن شئتم من أخي وبنى عمى على بن الحسين أو عبد الله بن جعفر فقال الغرماء : اما عبد الله بن جعفر فملي مطول ، واما على بن الحسين ، فرجل لا مال له صدوق وهو أحبهما إلينا ، فأرسل إليه فأخبره الخبر فقال عليه‌السلام : أضمن لكم المال إلى غلة ولم تكن له غلة فقال القوم : قد رضينا وضمنه فلما أتت الغلة أتاح الله عزوجل له المال فأداه». (1).

والخبر مع ضعف سنده وعدم إسناده الى الامام (عليه‌السلام) لا دلالة فيه على محل البحث ، وظني أن الأصحاب لو جعلوا الشرط هنا رضا المضمون له بالضامن ، وقبوله له مليا كان أو غير ملي لكان أظهر ، فإن مجرد الملاءة مع حصول المطل كما تضمنه هذا الخبر لا تفيد فائدة في ترتب الأثر عليها.

وبالجملة فإن اشتراطهم رضا المضمون له كما هو المشهور بينهم بالضمان والضامن كاف عن هذا الشرط هنا ، مع أنه لا دليل عليه الا ما ذكروه من التعليل الذي يحصل بالرضا بالضامن ، إلا أنك قد عرفت اختلاف الاخبار في ذلك ، وأن أكثر الأخبار ظاهر في العدم. والله العالم.

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 97 باب قضاء الدين ح 7 وفي التهذيب ج 6 ص 211 ح 12 وفي من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 55 باب الحوالة حديث 2 ـ (ولا يخفى ان في النسخ اختلافا جزئيا) وفي الوسائل ج 13 ص 152 ح 1.


السابع ـ الحق المضمون اما أن يكون حالا أو مؤجلا ، ثم انه اما أن يضمنه الضامن حالا أو مؤجلا ، وعلى تقدير ضمان المؤجل مؤجلا ، اما أن يكون الأجل الثاني مساويا للأول ، أو أنقص أو أزيد ، وعلى التقادير اما ان يكون الضمان تبرعا ، أو بسؤال المضمون عنه ، فالصور اثني عشرة ، وقد صرح جملة من محققي المتأخرين ومتأخريهم بأنها كلها جائزة ، للأصل ، وعموم دلائل مشروعية الضمان ، وتحقق الغرض المطلوب منه في الجميع ، ولانه كالقضاء عن المدين ، وبعض هذه الصور إجماعي ، وبعضها محل خلاف ، الا أن محل الخلاف في كلامهم غير محرر.

وظاهر كلام المحقق في الشرائع أن الضمان المؤجل جائز إجماعا ، وفي الحال تردد أظهره الجواز ، والمراد من الثاني الذي هو محل التردد عنده ما لو كان الدين مؤجلا فضمنه الضامن حالا.

والمنقول عن الشيخ وجماعة منع الضمان هنا ، لان مبنى عقد الضمان على الإرفاق ، وتسهيل الأمر على المضمون عنه ، والضمان في هذه الصورة ينافي الغرض المذكور ، لان الدين مؤجل والضامن يريد أن يضمنه حالا ، ويرجع به على المضمون عنه ، ووجه آخر وهو أن ثبوت المال في ذمة الضامن فرع ثبوته في ذمة المضمون عنه ، والفرع لا يكون أقوى من الأصل ، (1) والقائلون بالصحة أجابوا عن ذلك بأن المنتقل بالضمان هو الدين ، وأما الأجل فإذا أسقطه المديون وأدى المال حالا جاز ، فكذا إذا سأل الضمان كذلك ، لان الضمان انما ضمن كذلك باذنه وسؤاله ، فهو في معنى الاسقاط له ، لكنه لا يرجع على المضمون عنه الا بعد تمام

__________________

(1) قال في المبسوط : إذا ضمن المؤجل حالا الأقوى أنه لا يصح ، لانه لا يجوز ان يكون الفرع أقوى من الأصل ، قال في المختلف : بعد نقل ذلك عنه : الوجه عندي الصحة ، ولا نسلم تحقق القوة هنا ، فإنه يجوز للمضمون عنه دفع المال معجلا كذا يجوز الضمان معجلا ، فان الضمان كالقضاء إذا ثبت هذا ، فإذا ضمن حالا لم يكن له الرجوع على المضمون عنه ، الا بعد الأجل وان أخذ منه المال حالا انتهى. منه رحمه‌الله.


الأجل ، وان أداه حالا بمقتضى الضمان ، ولو كان الضامن متبرعا بالضمان فأولى بعدم الاشتراط ، إذ لا رجوع له على المضمون عنه فيكون في معنى ما لو أدى عنه ـ دينه المؤجل قبل الأجل ، وهو جائز.

ومن ذلك يظهر أن الجواز هو الأقوى وفي هذه الصورة أعني صورة الضمان حالا صورة أخرى ، وهي ما إذا كان الدين حالا ، وسيأتي الكلام فيها في المقام. ان شاء الله تعالى.

وأما الصورة الأولى مما نقلناه من كلام المحقق وهي قوله ان الضمان المؤجل جائز إجماعا فهي شاملة لجملة من الصور ، منها ما لو كان الدين حالا فضمنه مؤجلا ، وهذه الصورة مجمع عليها ، ودعواه الإجماع هنا في محله ، والتعليل بالارتفاق وتسهيل الأمر على المضمون عنه هنا متجه ، لان الدين حال وبالضمان صار مؤجلا ، قالوا : وليس هذا تعليقا للضمان على الأجل ، بل تأجيل للدين الحال في عقد لازم ، (1) ومن حكم هذه الصورة أن المضمون عنه لا يطالب قبل حلول الأجل.

أما من المضمون له ، فلانه لا طلب له عليه ، لانتقال حقه الى ذمة الضامن ، وأما من الضامن فلانه ليس له المطالبة حتى يؤدى ولو كان حالا فمع الأجل أولى وليس للمضمون له أيضا مطالبة الضامن قبل حلول الأجل عملا بمقتضى الشرط.

ومن صور تلك الصورة المشار إليها ما لو كان الحق مؤجلا مع قصور أجل الضمان أو مساواته وتعليل الشيخ والجماعة المانعين من ضمان المؤجل حالا يقتضي المنع من هاتين الصورتين ، لما عرفت من أنهم عللوا ذلك وبه صرح في المختلف وغيره أيضا بأن الضمان إرفاق ، (2) فالإخلال به يقتضي تسويغ المطالبة للضامن ،

__________________

(1) بمعنى أنه ليس له مطالبة المضمون عنه حتى يؤدى ما ضمنه في صورة حلول الدين ، فكيف في صورة الأجل ، فهو بطريق أولى. منه رحمه‌الله.

(2) أما لو كان أجل الضمان أزيد من أجل الحق ، فإنه داخل في الإجماع ، لأن الأجل الزائد يحصل فيه الارتفاق المطلوب من الضمان. منه رحمه‌الله.


فيتسلط على مطالبة المضمون عنه في الحال ، فينتفى فائدة الضمان ، وهذا التعليل بعينه آت في الأجل المساوي والقاصر ، ويقتضي أن الضامن لو كان متبرعا لم يضر ، لانتفاء المانع من التسلط على المضمون عنه.

والشيخ فخر الدين منع من ضمان الحال كما ذهب اليه الشيخ ، الا أنه علله بعلة أخرى قال : لانه ضمان ما لم يجب ، وهذا التعليل يجري في الأجل القاصر عن أجل الدين ، كما هو شامل للحال ، ومخرج للمساوي (1) وبالجملة فإطلاق كلام الشيخ ومن تبعه حيث خصوا المنع بصورة ضمان المؤجل حالا يقتضي ثبوت الإجماع المدعى في صورة الضمان مؤجلا لما كان حالا أو مؤجلا بجميع أقسامه ، وبالنظر الى التعليلات يدل على اختصاصه بغير الصورتين المذكورتين ، وأما الضمان حالا فان كان الدين مؤجلا فقد اتفق المانعون على منعه نصا وتعليلا كذا قيل.

وفيه أن الشيخ فخر الدين من القائلين بهذا القول ، وقد تقدم تعليله بغير ما علل به الشيخ وان كان حالا ، فالشيخ فخر الدين وأتباعه جوزوه لوجوب الحق ، والشيخ وأتباعه منعوه لعدم الارتفاق. والله العالم.

الثامن : لو ضمن مؤجلا مع كون الدين حالا ثم مات قبل حلول الأجل حل الدين المذكور ، وأخذ من تركته ، لما تقدم من أن الميت تحل ديونه المؤجلة بموته ، وهذا من جملة أفرادها ، وللورثة حينئذ مطالبة المضمون عنه ، لان الدين عليه حال كما هو المفروض ، ولم يحصل ما يقتضي تأجيله ، والمؤجل انما هو الدين الذي في ذمة الضامن ، لا الذي في ذمته ، والضامن انما امتنع رجوعه عليه في حياته

__________________

(1) قال العلامة في المختلف : بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه في الحاشية المقدمة من نقل كلام الشيخ في المبسوط ورده له : ما صورته وقد استخرج ولدي العزيز محمد جعلت فداه وجها هنا يقوى قول الشيخ رحمه‌الله ، وهو أن الحلول زيادة في الحق ، ولهذا يختلف الأثمان به ، وهذه الزيادة غير واجبة على المديون ، ولا ثانية في ذمته ، فيكون ضمان ما لم يجب فلا يصح عندنا انتهى. منه رحمه‌الله.


من حيث أنه لا يرجع الا بعد دفع ما ضمنه ، وحيث أنه قد مات وحل عليه الدين وأخذ من تركته زال المانع من مطالبة المضمون عنه ، ويأتي مثله أيضا في ما لو دفع الضامن المال في حياته قبل حلول الأجل باختياره ، فان له الرجوع على المضمون عنه ، لعين ما ذكر.

وهذا بخلاف ما لو كان الدين مؤجلا على المضمون عنه فضمنه الضامن كذلك ، فإنه بحلوله عليه بعد الموت وأخذه من تركته لا يحل على المضمون عنه ، لان الحلول عليه لا يستلزم الحلول على الأخر كما لا يحل عليه المؤجل لو ضمنه الضامن حالا على القول بذلك.

التاسع : قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه متى حصل الضمان على الوجه المعتبر شرعا ، فإنه يرجع الضامن على المضمون عنه بما دفعه الى المضمون له ان ضمن باذنه ولو أدى بغير اذنه ، ولو ضمن بغير اذنه لم يرجع عليه ، وان أدى باذنه ، ولو ضمن باذنه وأدى بإذنه فأولى بالضمان ، ولو ضمن بغير اذنه وأدى بغير إذنه فأولى بعدم الضمان.

وظاهر المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) المناقشة في هذا المقام ، حيث قال :

بعد ذكر عدم الرجوع مع عدم الاذن في الضمان ما صورته : وأما الرجوع مع الاذن في الضمان مع الاذن في الأداء وعدمه ففيه تأمل ، إذ الاذن في الضمان والأداء لا يدل على قبول أداء العوض ، بشي‌ء من الدلالات ، والأصل عدمه ، الا أن تدل قرينة حال أو مقال على ذلك ، كما في لزوم الأجرة على من أمر شخصا بفعل له أجرة عادة ، ولهذا قال في التذكرة : لو قال : أعط فلانا ألفا ففعل لم يرجع ، وكذا لو قال : أعتق عبدك أو الق متاعك في البحر عند خوف الغرق وعدمه ، الا أن ينضم اليه ما يدل على قبول العوض ، مثل قوله عنى في الأولين ، وعلى ضمانه وعوضه في الثالث ، وبهذا المقدار يلزم ، وهذا دليل على عدم اشتراط الصيغة الخاصة ، والمقارنة وغيرهما فافهم ، ولي في اللزوم مع انضمام قوله عني أيضا تأمل ، وان قالوه الا أن ينضم إليه قرينة ، و


يعلم من التذكرة الإجماع على الرجوع مع الاذن في مجرد الضمان فتأمل. انتهى

أقول : ويدل على ما ذكره الأصحاب مضافا الى الإجماع المنقول عن التذكرة ما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسين بن خالد قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك قول الناس الضامن غارم ، قال : فقال : ليس على الضامن غرم ، الغرم على من أكل المال». (1).

وهو ظاهر كما ترى في رجوع الضامن على المضمون عنه بما اغترمه للمضمون له ، وأنه لا غرم عليه ، بمعنى عدم رجوعه على المضمون عنه ، ولو صح ما ذكره من عدم الرجوع للزم حصول الغرم عليه ، مع أنه (عليه‌السلام) قد نفاه عنه ، وجعل الغرم على من أكل المال وهو المضمون عنه ، وبالخبر المذكور يجب الخروج عن الأصل الذي استند اليه ، والخبر وان كان مطلقا الا أنه محمول على ما إذا كان الضمان باذن المضمون عنه.

وما رواه الشيخ بإسناده عن عمر بن يزيد (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن ضمانا ثم صالح على بعض ما صالح عليه قال : ليس له ، الا الذي صالح عليه». ورواه الكليني عن عمر بن يزيد في الموثق (3) ورواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب عبد الله بن بكير عنه (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن عن رجل ضمانا ثم صالح على بعض ما ضمنه فقال قال : ليس له الا الذي صالح عليه». وهو أيضا ظاهر في الرجوع ، ومحمول على الاذن في الضمان ، ولو كان ما توهمه من عدم الرجوع حقا لنفاه (عليه‌السلام) ولم يثبت له الرجوع بشي‌ء بالكلية.

وبالجملة فإن كلامه هنا ناش عن عدم الوقوف على شي‌ء من الاخبار المذكورة ، وأما

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 6 ص 209 ح 485 وص 206 ح 4 ..

(3) الكافي ج 5 ص 259 ح 7.

(4) التهذيب ج 6 ص 210 الباب 84 باب الكفالات والضمانات. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 149 الباب 1 وص 153 الباب 6 من كتاب الضمان.


قياسه على لزوم الأجرة فهو ـ مع كونه قياسا لا يجوز التعويل عليه في الأحكام الشرعية ـ قياس مع الفارق ، لأنه ان كان ذلك الفعل المأمور به يرجع الى الأمر بمعنى أنه أمره أن يفعله له ـ فان دعوى عدم استحقاق الأجرة ممنوعة ، وان كان لا كذلك كالأمر برمي ماله في البحر ونحوه فهو ليس من محل البحث في شي‌ء والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر ، والقياس عليه قياس مع الفارق كما ذكرناه. والله العالم.

العاشر : لو دفع الضامن للمضمون له عما في ذمته عروضا برء الضامن مما عليه ، وكان له الرجوع مع الاذن في الضمان بأقل الأمرين من قيمة العروض وما تباع به في السوق ، ومما كان في ذمة المضمون عنه ، لان الضامن لا يستحق أكثر مما أدى ، والمضمون عنه لا يؤدى أكثر مما في ذمته ومما أداه الضامن ، فلو فرضنا أن الذي في ذمته كان مأة درهم ، والعروض التي دفعها الضامن كانت تساوى خمسين درهما فليس عليه الا الخمسين ، وكذا لو فرضنا أن العروض كانت تساوى مأة وعشرين فليس عليه الا المأة.

أما الأول فلان الضامن لا يستحق الرجوع بأزيد مما دفعه ، ولهذا لو أبرء المضمون له لم يرجع بشي‌ء ولو ابرء عن البعض لم يرجع إلا بالباقي.

وأما الثاني فلان المضمون عنه لا يجب عليه أداء أكثر مما في ذمته اتفاقا ، وقال ابن الجنيد على ما نقل عنه في المختلف : لو ضمن زيد لعبد الله دينا على عمرو ، فصالح زيد عبد الله عن جملة ضمانه عن عمرو ، على ما يجوز التتابع به بينهما ، فان كان ذلك قبل وجوب الحكم على زيد بالمال الذي ضمنه (1) لم يكن له الا قيمته ، أو قدر ما أعطاه عبد الله يرجع به على عمرو ، وان كان بعد وجوب الحكم كان له الرجوع بأصل الحق على عمرو.

وأجاب عنه العلامة فقال لنا : انه وضع للإرفاق ، والرجوع بأكثر مما دفع

__________________

(1) أقول : الظاهر أن مراده بوجوب الحكم على زيد كناية عن وقت المطالبة ووجوب الدفع عليه. منه رحمه‌الله.


مناف له ، فلا يصح ثم قال : احتج بأن الثابت في ذمة الضامن قدر المال ، ودفع الأقل بعد الحكم عليه ، بالأكثر ابتداء عطية من المضمون له للضامن فلا يسقط.

والجواب ما تقدم من منافاة الضمان لذلك ، فالحكمة يقتضي عدم الصحة. انتهى أقول : والأظهر في الجواب هو ما قدمناه سابق هذا الموضع من روايتي عمر بن يزيد وعبد الله بن بكير الواردتين في الصلح ، وانه ليس له الا الذي صالح عليه ، وهي مبنية على أنه أقل الأمرين كما هو الغالب ، فان الظاهر من المصالحة هو دفع ما هو أقل من الحق وتراضى الطرفين عليه ، والا فلو كان ذلك قدر الحق كان أداء للدين ، ولا يحتاج الى صلح ولا تراض عليه ، والرواية دالة بإطلاقها على ذلك ، سواء كان قبل الحكم الذي هو كناية عن المطالبة ، والحكم بوجوب الدفع أو بعده ، وما ذكره العلامة طاب ثراه يكون مؤيدا لذلك. والله العالم.

الحادي عشر : قال الشيخ في المبسوط : إذا ضمن باذنه كان له مطالبة المضمون عنه بتخليصه وان لم يطالبه المضمون له ، وقال أيضا في الكتاب المذكور : إذا ادعى الضامن الجنون حالة الضمان ولم يعرف له حالة الجنون كان القول قوله ، لأن الأصل براءة الذمة ، وكلا الحكمين محل بحث وإشكال.

أما الأول فإن ظاهر الأصحاب هو المنع من المطالبة في الصورة المذكورة ، لأنه انما يرجع عليه بعد الأداء بما يؤديه ، والحال أنه هنا لم يؤد شيئا ، ولعل المضمون له يبرؤه من الدين كلا أو بعضا فكيف يتسلط الان على المطالبة ، وأما الثاني فإن ما استند اليه من أصالة البراءة معارض أيضا بأن الأصل عدم الجنون ، والأصل صحة الضمان فيعارض ما ذكره من الأصل بأحد هذين الأصلين ، ويبقى الأصل الثاني سالما عن المعارض.

الثاني عشر : ـ قال الشيخ في المبسوط : إذا ضمن رجل عن رجل ألف درهم وضمن المضمون عنه عن الضامن لم يجز ، لان المضمون عنه أصل للضامن ، وهو فرع للمضمون عنه ، فلا يجوز أن يصير الأصل فرعا والفرع أصلا ، وأيضا فلا فائدة فيه.


قال في المختلف بعد نقل ذلك : والوجه عندي صحة ذلك لوجود المقتضى ، وانتفاء المانع ، أما وجود المقتضى فلان عقد الضمان صدر من أهله في محله ، وأما انتفاء المانع فليس إلا الأصالة والفرعية ، وذلك لا يصح للمانعية ، لتحقق المال في ذمة الضامن ، وبراءة ذمة المضمون عنه ، فيكون كالأجنبي ، قوله «لا فائدة فيه» قلنا : ممنوع لجواز أن يضمن الحال مؤجلا وبالعكس انتهى.

أقول : ظاهر كلام جملة من الأصحاب جواز التسلسل في الضمان ، بأن يضمن ضامن ، ثم يضمن عنه آخر ، وهكذا ، ويصح دوره ، كما صرح به العلامة فيسقط بذلك الضمان ، ويرجع الحق كما كان ، ولم يخالف في ذلك الا الشيخ كما عرفت.

ومن فروعه المترتبة عليه أنه لو وجد المضمون له الأصل الذي صار ضامنا معسرا جاز له الفسخ والرجوع الى الضامن السابق ، ومنها الاختلاف ، بأن يضمن الحال مؤجلا وبالعكس ، كما ذكره العلامة ، وبه يندفع كلام الشيخ أنه لا فائدة فيه.

وبالجملة فإنه لا مخالف في الحكم المذكور الا ما تقدم حكايته عن الشيخ ، والعجب هنا من المحقق الأردبيلي حيث ادعى الاتفاق على الحكم المذكور ، مع اشتهار خلاف الشيخ ، وتصريح الأصحاب به (1) والله العالم.

__________________

(1) حيث انه (قدس‌سره) قال بعد قول المصنف وترامى الضمان ما صورته أى يصح أن يضمن ضامن شخصا ثم يضمنه آخر وهكذا ويسمى التسلسل ويكون حكم كل لا حق مع سابقه حكم الأولين والظاهر عدم الخلاف عند الأصحاب في ذلك ووجهه ظاهر مما تقدم وكأنهم يريدون الرد على بعض العامة والظاهر تجويز دوره أيضا عندهم بخلاف العامة. انتهى ومما ذكرنا يعلم ان الأصحاب انما أرادوا بما ذكروه الرد على الشيخ كما عرفت ، لكنه لما غفل عن خلاف الشيخ ، وظن الاتفاق في الحكم حمل كلامهم على الرد في هذا المقام على العامة. منه رحمه‌الله.


البحث الثاني في الحق المضمون

وفيه مسائل ـ الأولى يشترط في المال المضمون أن يكون ثابتا في الذمة وان لم يكن مستقرا ، كالثمن في مدة الخيار فيصح ضمانه ، وهذا الضمان قد يكون للبائع القابض الثمن ، فيضمن له عن المشترى على تقدير ظهور كونه مستحقا للغير ، أو على تقدير ظهور عيب فيه ، ليرجع بأرشه ، وقد يكون ضمانه للمشتري على تقدير ظهور كون البيع مستحقا للغير ليرجع به ، وعلى التقديرين فإنما هو ضمان لعهدته ، لا له نفسه ، والفرق بين الضمانين ظاهر من جهة اللفظ والمعنى.

أما الفرق اللفظي فإنه في ضمانه نفسه ، يقول ضمنت لك الثمن الذي في ذمة زيد مثلا ، وفي ضمان العهدة يقول ضمنت لك عهدته أو دركه.

وأما المعنوي فإنه بالنسبة إلى ضمانه نفسه يفيد انتقاله إلى ذمة الضامن ، كما عرفت فيما تقدم ، وبرأيه المضمون عنه ، وضمان العهدة ليس كذلك ، بل انما يفيد ضمان دركه على بعض التقديرات ، وفي ضمان المال ليس بلازم ، ولكن يؤل الى اللزوم كمال الجعالة قبل فعل ما شرط ، ومال السبق والرماية على خلاف.

ووجه الصحة ـ على ما ذكروه ـ هو أن الجعالة وان كانت من العقود الجائزة والمال فيها لا يلزم الا بتمام العمل ، فإن بقي منه شي‌ء وان قل فليس له شي‌ء الا انه يؤل الى اللزوم بتمام العمل ، وقد وجد سبب اللزوم ، وهو العقد فيكون كالثمن في مدة الخيار ،

وأجيب عن ذلك بمنع وجود السبب ، فإنه العقد والعمل معا لا العقد وحده ، وانما هو جزء السبب ، ولم يحصل به ثبوت ولا لزوم ، حتى أنه لو لم يتم العمل وبقي منه شي‌ء ، فإنه لا يستحق شيئا بما مضى ، فيكون الباقي بمنزلة الشرط في استحقاق الجميع ، فكيف إذا كان قبل الشروع في العمل ، والفرق بينه وبين الثمن في مدة الخيار ظاهر ، لان الثمن ثابت في ذمة المشترى ـ مملوك للبائع ، غاية الأمر أنه


متزلزل بخلاف الجعالة ، فإنها لا ثبوت لها أصلا حتى يكمل الفعل كما عرفت.

نعم يمكن أن يستدل على هذا القول بظاهر قوله عزوجل (1) «وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» فان فيها دلالة على جواز ضمان مال الجعالة قبل العمل ، لانه ضمنه قبل العمل ، وقد استدل الفقهاء بهذه الآية على جملة من مسائل الجعالة والضمان ، والظاهر أن ما نحن فيه من قبيل ذلك.

وقطع العلامة في التذكرة بعدم الجواز قبل الشروع في العمل ، لانه ضمان ما لم يجب ، واستقرب الجواز بعد الشروع ، هذا بالنسبة إلى الجعالة ، وأما مال السبق والرماية فلا إشكال في جواز ضمانه بعد العمل كما تقدم ، وأما قبله ، فإنه يبنى على كونه جعالة أو إجارة ، وفيه خلاف سيأتي ذكره إنشاء الله تعالى في موضعه ، قال في المسالك : والأقوى أنه عقد لازم كيف كان فيلزم المال فيه بالعقد فيصح ضمانه.

الثانية : اختلف الأصحاب في مال الكتابة المشروطة هل يصح ضمانه أم لا؟ فقيل : بالثاني ، لأنه ليس بلازم ولا يؤل الى اللزوم ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط ، قال : لانه ليس بلازم في الحال ، ولا يؤل الى اللزوم لان للمكاتب إسقاطه بفسخ الكتابة للعجز فلا يلزم العبد في الحال ولا يؤول إلى اللزوم ، لأنه إذا أداه عتق ، وإذا عتق خرج عن أن يكون مكاتبا ، فلا يتصور أن يلزمه في ذمته مال الكتابة بحيث لا يكون له الامتناع ، ولان الضمان إثبات مال في الذمة ، والتزام لأدائه ، وهو فرع للمضمون عنه ، فلا يجوز أن يكون المال في الأصل غير لازم ويكون في الفرع لازما ، فلهذا منعنا من صحة ضمانه.

والمشهور الجواز ، وبه صرح المحقق والعلامة ، والخلاف هنا مبنى على الخلاف في مال الكتابة المشروطة هل هو لازم أم لا؟ وحيث أن مذهب الشيخ عدم لزومه من قبل العبد ، لانه لو عجز نفسه رجع ، وقد بنى عليه مسئلة الضمان.

ومذهب الأصحاب لما كان هو القول باللزوم ثمة ، قالوا : باللزوم هنا.

__________________

(1) سورة يوسف الآية 72.


قال في المسالك : ولو تنزلنا الى الجواز فالصحة متجهة أيضا ، لأن المال ثابت في ذمة المكاتب بالعقد ، غايته أنه غير مستقر كالثمن في مدة الخيار ، فعلى هذا متى ضمنه ضامن انعتق لأنه في حكم الأداء بناء على انه ناقل ، وامتنع التعجيز كما ادى المال بنفسه. انتهى.

وبالجملة فالظاهر هو المشهور لما عرفت ، وموضع الخلاف كما عرفت هو الكتابة المشروطة.

أما المطلقة ، فالظاهر أنه لا خلاف في لزومها وصحة ضمانها. والله العالم.

الثالثة : لا خلاف في أنه يصح ضمان نفقة الزوجة الماضية والحاضرة ، لاستقرارها في ذمة الزوج.

أما المستقبلة كنفقة الشهر المستقبل فلا ، ووجه الفرق بين الحالين أن النفقة عوض التمكين ، وهو بالنسبة إلى الزمان المستقبل غير حاصل ، لجواز النشوز ، فالنفقة فيه غير متعلقة بالذمة ، فلا يصح ضمانها ، ثم ان ما علل به الضمان في الموضعين الأولين من استقرار النفقة في الذمة إنما يتجه في النفقة الماضية ، وأما الحاضرة فإنه لا اشكال عندهم في وجوبها وثبوتها في الذمة مع التمكين.

لما صرحوا به من أنها تجب في كل يوم حاضر بطلوع فجره مع التمكين.

واما استقرارها ففيه اشكال ، مبنى على انها لو نشزت في أثناء النهار هل يسترد منها نفقة ذلك اليوم أم لا؟ وفيه خلاف يأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى في محله.

قالوا : أما لو ماتت أو طلقها استقرت ، وفي تخصيص نفقة الزوجة بالذكر في هذا المقام مع وجوب الإنفاق على غيرها من العمودين إشارة الى عدم الضمان في نفقة غيرها ، لأن الفائت منها لا يثبت في الذمة ، كما تثبت نفقة الزوجة ، بل غاية ما يلزم من الإخلال بها الإثم والمؤاخذة ، لأن الغرض المقصود من الأمر بها البر والصلة ، فتفوت بفوات وقتها ، بخلاف نفقة الزوجة فإنها معاوضة ، وقعت في مقابلة التمكين فسبيلها سبيل الدين.


وقد وقع الخلاف هنا في موضعين :

الأول ـ قال الشيخ في المبسوط : يصح ضمان النفقة الماضية والحاضرة للزوجة دون المستقبلة ، لأنها تجب بالتمكين ، ومتى ضمن النفقة فإنما يصح مقدار نفقة المعسر ، لأنها ثابتة لكل حال ، وأما الزيادة عليها الى تمام نفقة الموسر ، فهي غير ثابتة لأنها تسقط بإعساره ، وتبعه ابن البراج على ذلك.

وهذا الكلام غير خال من الأشكال بل الاختلال ، لأنه متى كان الذي يجب قضاؤه انما هو النفقة الماضية والحاضرة ، والزوج يضمن بنسبة حاله ، فأن كان موسرا ضمن نفقة الموسر ، وان كان معسرا ضمن نفقة المعسر ، ولا يسقط الزائد على نفقة المعسر بإعسار الموسر بعد وجوبه.

ولا يتم هذا الكلام الا على مذهب من يقول بضمان النفقة المستقبلة ، كما صرح به في المختلف حيث قال : وانما يتم ذلك على مذهب القائلين بصحة ضمان النفقة المستقبلة ، وقول الشيخ في المبسوط كأنه مذهب المخالف ، وتفريع على تسويغ ضمان النفقة المستقبلة ، وتبعه ابن البراج توهما أن ذلك فتواه. انتهى وما ذكره (قدس‌سره) جيد في حد ذاته ، الا أن تطبيق عبارة الشيخ عليه مشكل ، والحق أن كلامه (قدس‌سره) هنا في المبسوط لا يخلو عن سهو وغفلة ، لعدم ارتباط العبارة وانتظامها.

الثاني : قال ابن إدريس : في الموضع الذي يصح ضمانها فلا تصح الا أن تكون معلومة ، لأن ضمان المجهول على الصحيح من المذهب وعند المحصلين من أصحابنا لا يصح ، وهو ظاهر في عدم صحة ضمان النفقة مع مجهوليتها ، وعدم معلومية قدرها وكميتها ، وفيه ما يأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في هذه المسألة.

الرابعة : اختلف الأصحاب في ضمان المجهول ، والمراد به ما يمكن استعلامه بعد ذلك كما لو ضمن ما في ذمته ، أما لو لم يكن الاستعلام لم يصح الضمان قولا واحدا كما لو قال : ضمنت لك شيئا مما لك على فلان ، لصدق الشي‌ء على القليل والكثير ، واحتمال لزوم أقل ما يتناوله الشي‌ء كالإقرار ، يندفع بأنه ليس هو المضمون ، وان كان بعض أفراده.


وممن قال بصحة الضمان في المسألة ، الشيخ في النهاية ، وشيخنا المفيد في المقنعة ، وابن الجنيد وسلار وأبو الصلاح وابن زهرة وابن البراج في الكامل ، والمحقق والعلامة وهو القول المشهور على ما نقله في المسالك.

وممن ذهب الى العدم ، الشيخ في المبسوط والخلاف ، وبه قال ابن البراج في المهذب وابن إدريس.

احتج في المختلف على القول الأول قال : لنا الأصل الصحة ، وعموم قوله تعالى (1) «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» وأشار الى حمل البعير ، والأصل عدم تعينه ، وقوله (عليه‌السلام) (2) «الزعيم غارم». وما رواه عطاء عن الباقر (3) (عليه‌السلام) قال : قلت له : جعلت فداك ان على دينا إذا ذكرته فسد على ما أنا فيه : فقال (ع) : سبحان الله أو ما بلغك أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقول في خطبته : من ترك ضياعا فعلى ضياعه ، ومن ترك دينا فعلى دينه ، ومن ترك مالا فأكله (4) فكفالة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ميتا ككفالته حيا وكفالته حيا ككفالته ميتا ، فقال الرجل : نفست عني جعلني الله فداك». ولو لم يكن ضمان المجهول صحيحا لم يكن لهذا الضمان حكم ولا اعتبار ، إذ الباطل لا اعتبار به فامتنع من الامام (عليه‌السلام) الحكم بأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كافل.

ثم نقل عن الشيخ : أنه احتج بأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «نهى عن الغرر» وضمان المجهول غرر ، لانه لا يدرى كم قدرا من المال عليه ، ولعدم الدليل على صحته ، ثم أجاب عنه (قدس‌سره) بأن الغرر انما هو في المعاوضات التي تفضي إلى التنازع ، أما مثل الإقرار والضمان وشبههما ، فلان الحكم فيها معين ، وهو الرجوع الى قول المقر في الإقرار ، والى البينة في الضمان ، فلا غرر هنا ، والدليل قد بيناه انتهى.

__________________

(1) سورة يوسف الآية 72.

(2) المستدرك ج 2 ص 497.

(3) التهذيب ج 6 ص 211 ح 11 ـ والوسائل ح 13 ص 92 ح 5.

(4) قيل قوله فأكله أى إرثه ، لأنه (ص) والأئمة من بعده وارث من لا وارث له. منه رحمه‌الله.


أقول : ويدل على القول المشهور زيادة على المذكور ما تقدم من حديث ضمان على بن الحسين (1) عليهما‌السلام ، لدين عبد الله بن الحسن ، وحديث ضمانه عليه‌السلام لدين محمد بن أسامة (2) فإنهما ظاهران بل صريحان في عدم معلومية الدين قدره وكميته وقت الضمان ، الا أن لقائل أن يقول : ان الظاهر من كلام المانعين من ذلك من حيث الغرر أن محل البحث والخلاف في المسألة انما هو بالنسبة إلى الضمان الذي يرجع به صاحبه على المضمون عنه ، وظاهر هذه الاخبار أعني خبر ضمان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وضمان على بن الحسين (عليهما‌السلام) أنه ليس كذلك فلا تكون هذه الاخبار من محل البحث في شي‌ء ، وهكذا الكلام في الاية فإنه متى خص محل البحث بما ذكرناه ، فان الآية ليست من ذلك في شي‌ء أيضا ، لأن الظاهر منها انما هو ضمان الجعالة كما تقدمت الإشارة اليه.

وبالجملة فإنه ان جعل موضع البحث الضمان بقول مطلق ، فالحق في جانب القول المشهور للاية والاخبار المذكورة ، وان خص بما ذكرناه فباب المناقشة غير مسدود لما عرفت. والله العالم.

الخامسة : قد عرفت في سابق هذه المسئلة أن المشهور صحة ضمان المجهول ، الا أن القائلين بذلك اختلفوا فيما يرجع إليه في بيان ذلك المجهول وتعيين قدره ، فقيل بالرجوع في ذلك الى البينة ، بأنه كان ثابتا في ذمته وقت الضمان ، لا ما يوجد في كتاب ، ولا ما يقربه المضمون عنه ولا ما يحلف عليه المضمون له برد اليمين عليه من المضمون عنه ، فلو لم يكن ثابتا وقت الضمان بأن تجدد بعده ، فإنه لا يصح لانه ضمان ما لم يجب ، والشهادة به لا تفيد فائدة ـ ولا عبرة أيضا بما يوجد في دفتر أو كتاب لعدم الثبوت في ذمته بذلك ، وانما يلزم ضمان الثابت ، ولا ما يقر به المضمون عنه ، لأن إقراره انما ينعقد على نفسه لا على غيره ولا يحلف عليه المضمون له برد اليمين عليه من المضمون عنه ، لأن الخصومة الان بين الضامن والمضمون عنه ، فلا يلزم ما ثبت

__________________

(1) الوسائل ج 13 ص 151 وص 153 الباب 3 و 5 من أبواب الضمان.

(2) وقد تقدم حديث محمد بن أسامة في الموضع الثاني من البحث الأول ، واما حديث عبد الله بن الحسن فقد تقدم في الموضع السادس من البحث المذكور منه رحمه‌الله.


بمنازعة غيره ، كما لا يثبت بما يقربه.

نعم لو كان حلف المضمون له برد اليمين عليه من الضامن ، فان كان النزاع بينه وبين الضامن ثبت على الضامن ما حلف عليه المضمون له وقيل : بلزوم ما يقربه الغريم أيضا ، ونقل عن أبى الصلاح وابن حمزة ، وفيه ما عرفت آنفا من ان إقرار المقر انما ينعقد على نفسه لا على غيره (1).

نعم لو كان الإقرار سابقا على الضمان فإنه يلزم الضامن ما أوجبه الإقرار ، كما صرح في المختلف ، وقيل : بلزوم ما يحلف عليه المضمون له مطلقا (2) وهو منقول عن الشيخ المفيد ، قال (قدس‌سره) ـ على ما نقله عنه في المختلف : ضمان المجهول لازم ، كضمان المعلوم حتى يخرج منه بحسب ما تقوم به البينة للمضمون عنه ، أو يحلف عليه ، وتفسير هذا أن يقول : لإنسان قد لازم عليه على حق له عنده خل سبيله ، وأنا ضامن لحقك عليه كائنا ما كان ، فإن أقام المضمون له البينة على مقدار الحق خرج له الضامن ، ولا يقبل دعواه بغير بينة ، الا أن يحلف على ما يدعيه ، ولا يجوز أن يضمن انسان عن غيره ما يدعيه كائنا ما كان ، ولا ما يقترحه من الحقوق ، ولا ما يخرج حساب في كتاب لا حجة فيه الا أن يتعين المضمون ، أو يقوم به حجة على ما ذكر انتهى.

وهو ظاهر في إلزام الضامن ما يحلف عليه المضمون له وهو قول الشيخ أيضا الا أنه قيده برضا الضامن بالحلف ، وحينئذ فيكون هذا قولا رابعا في المسألة ،

وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك احتمل أن المراد بالرضا هنا الرد من الضامن بأن حلف المضمون له برد اليمين عليه من الضامن كما هو أحد فردي الإطلاق في عبارة الشيخ المفيد ، وقد عرفت آنفا أنه في هذه الصورة يلزم الضمان ويجب عليه الأداء.

__________________

(1) واما إذا كان حلفه انما هو لدفع المضمون عنه وإثباته الدعوى عليه باليمين المردودة من قبل المضمون عنه فلا يلزم منهما ثبوت ذلك على الضامن والدعوى الان انما هو معه كما لا يخفى. منه رحمه‌الله.

(2) اى أعم من ان يكون رد اليمين عليه من الضامن أو المضمون عنه منه رحمه‌الله.


وانما الإشكال في صورة رد المضمون عنه ، وحينئذ بناء على هذا الاحتمال يرجع الى قول المفيد ، ويكون تخصيصا له بهذه الصورة ، وهو جيد ، الا انه باعتبار حمل الرضا على الرد لا يخلو من بعد ، لان الرد أعم من ذلك كما عرفت.

والعلامة في المختلف فرع ذلك على أن يمين المدعى هل هي كالبينة ، أو كالإقرار؟ قال : والتحقيق أن يقول : ان جعلنا يمين المدعى كالبينة كان له الرجوع على الضامن ، سواء رضى بيمينه أم لا ، وان جعلناها كالإقرار افتقر الى رضا الضامن إذا ضمن المجهول.

وبالجملة فالقدر المتيقن من ذلك هو القول الأول وهو الحكم بالبينة وكذا مع رد اليمين من الضامن وحلف المضمون عليه وما عدا ذلك محل توقف واشكال

والعجب هنا من المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) حيث قال : ولا يلزمه ما يقربه المضمون عنه ولا ما يثبت عليه برد اليمين ، لأن الإقرار والحلف لا يؤثر في ثبوت حق على الغير وهو ظاهر ، وكأنه مجمع عليه انتهى.

وتوهم الإجماع على الانحصار في البينة مع وجود الخلاف كما عرفت ، وانتشاره في كتب الأصحاب كالمسالك والمختلف وغيرهما عجيب منه (قدس‌سره) ولو ضمن ما يشهد به عليه لم يصح الا ان يكون ثابتا في ذمته وقت الضمان فإنه لا مانع من صحة ضمانه ، وأما ما تجدد بعد ذلك فلا ، لانه ضمان ما لم يجب ، ومن شرط صحة الضمان تعلقه بالدين الثابت في الذمة وقت الضمان ، وحينئذ فضمانه لما يشهد به عليه شامل لما كان ثابتا في ذمته وقت الضمان وما كان متجددا ، والأول صحيح دون الثاني وبذلك يظهر ان إطلاق بعض العبارات بأنه لا يصح أن يضمن ما يشهد به عليه لانه لا يعلم بثبوته في الذمة وقت الضمان ـ ليس في محله.

السادسة قد صرح أكثر الأصحاب بجواز ضمان الأعيان المضمونة التي يجب على من هي في يده ردها ، ولو تلفت رد قيمتها كالمغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد ، والعارية المضمونة كأحد النقدين المشروط قال في التذكرة : يجوز ضمان أعيانها فإنه مال مضمون على المضمون عنه فجاز الضمان عنه ، ولو ضمن قيمتها لو تلفت فالأقوى عندي الصحة ، لأن ذلك ثابت في ذمة القابض انتهى.


وتردد المحقق في الشرائع ثم قال : الا شبه الجواز.

أقول : ضمان هذه الأعيان اما أن يكون بمعنى تكليف الضامن برد أعيانها على مالكها ، أو بمعنى ضمان قيمتها لو تلفت عند الغاصب ، والمستام ونحوهما ، أو الأعم منهما ، وفي صحة الكل اشكال ، لعدم الدليل على ما ذكروه من الجواز ، والأصل عدمه.

وما استدلوا به ـ من أن منشأه وجود سبب الضمان للعين ، والقيمة وهو القبض على الكيفية المخصوصة ، فيصح ، أما الأول فلأنه ضمان مال مضمون على المضمون عنه ، وأما الثاني فلثبوت القيمة في ذمة الغاصب ونحو لو تلفت ـ منظور فيه بأن الثابت في الأول انما هو وجوب الرد ، وهو ليس بمال ، والثاني ليس بواقع ، فهو ضمان ما لم يجب وان وجد سببه ، لأن القيمة لا تجب الا بالتلف ولم يحصل.

ومنه يظهر أن الأظهر عدم الجواز وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك لما ذكرناه وزاد أيضا في القسم الأول فسادا من وجه آخر ، وهو ان من خواص الضمان كما قد عرفت انتقال الحق إلى ذمة الضامن ، وبراءة المضمون عنه ، وهنا ليس كذلك ، لان الغاصب مخاطب بالرد ومكلف به إجماعا ، وانما يفيد هذا الضمان ضم ذمة إلى ذمة ، وليس من أصولنا.

ومرجعه الى ما قدمناه من أن الحق الواجب على من بيده المال انما هو الرد الى صاحبه ، وهو لا ينتقل ، كما هو الحكم الجاري في الضمان ، بل يجب على من هو في يده رده ، ولا يخاطب به غيره.

وأما ما ذكره المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) حيث قال : ويحتمل الثبوت لصدق الضمان عرفا مع ثبوت شرعيته مطلقا ، وليس بمعلوم كون ما ذكر من لوازمه أو شرائطه. نعم غالبا انما يكون كذلك ، ولهذا قال في التذكرة : ضمان المال عندنا ناقل ، وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة اشكال ، أقربه عندي جواز مطالبة كل من الضامن والمضمون عنه الى آخره ، بعد ان اختار جواز ضمان الأعيان المضمونة والعهدة ، وكأنه لذلك تردد البعض واستشكل فتأمل. انتهى.

ففيه نظر لان الرجوع الى صدق الضمان عرفا ممنوع ، إذ لا مدخل للعرف


هنا مع وجود النهي الشرعي وثبوته نصا وفتوى ، ودعوى ثبوت شرعيته مطلقا ممنوع أيضا فإنه محل البحث ومطرح النزاع ، فان الخصم يمنع من ثبوت شرعيته على الوجه المذكور.

وقوله ـ انه ليس بمعلوم كون ما ذكر من لوازمه أو شرائطه ، مشيرا بذلك الى ما احتج به الخصم من أن مقتضى الضمان الانتقال إلى ذمة الضامن ، وبراءة المضمون عنه ـ فيه أنه قد تقدم في الموضع الخامس من البحث الأول ما يدل على أن الحكم اتفاقي نصا وفتوى ، ودعوى كونه غالبا دون أن يكون كليا ممنوعة. نعم هذا الحكم انما ورد في المواضع التي قام الدليل على صحة الضمان فيها ، وأما ما ذكر هنا من ضمان الأعيان فإنا لم نقف في الاخبار ما يدل عليه ، وانما جوزه من جوزه بما عرفت من ذلك الوجه الاعتباري الذي تقدم ذكره مع انتقاضه بما عرفت أيضا ، وكلامه في التذكرة الذي استند اليه هنا لا يسمن ولا يغني من جوع فإنه يرد عليه جميع ما ذكرنا.

وبالجملة فإنه لما لم يقم هنا على الضمان كما ادعوه دليل واضح ، فالمانع مستظهر ، والأصل العدم ، ودعوى عموم أدلة الضمان لذلك ممنوع لما عرفت ، ثم انه بناء على المشهور من الحكم بجواز ضمان الأعيان المضمونة نفوا الجواز عن الأعيان الغير المضمونة كالوديعة والعارية الغير المضمونة ومال المضاربة وما في يد الوكيل وأمين الحاكم والوصي فإنه لا يصح ضمانها ، وقد ادعى في التذكرة الإجماع على ذلك ، وجعلوا الفرق بينها وبين ما سبق باعتبار الضمان ، وعدمه ، فحيث كانت تلك الأعيان مضمونة على من هي في يده ، لان يده يد عارية صح جواز الضمان فيها ، بخلاف هذه حيث أنه لا ضمان عليه ، وان فرض ضمانه لها على تقدير التعدي والتفريط ، الا أن السبب الان ليس بواقع.

نعم لو كان قد تعدى فيها وصارت مضمونة عليه جاز الضمان ، وصارت من جملة أفراد تلك المسألة ، لوجود السبب وهو كونها مضمونة ، والبحث فيها عن جواز ضمان الأعيان المضمونة أعم من أن يكون ضمانها بالأصل أو العارض ، وأنت خبير بما في هذا الفرق الذي بنوا عليه ، لما عرفت من أن مجرد كونها مضمونة على من


هي بيده لا تصلح سببا لجواز ضمانها ، لاختلال شروط الضمان كما عرفت ، والعمدة في ثبوت الأحكام على النصوص الشرعية وحيث لم يرد فيها نص فإثبات الحكم والاعتماد على مثل هذه التعليلات مجازفة سيما مع ما عرفت من انتقاضها وعدم تمامها ، والله العالم.

البحث الثالث في اللواحق

وفيه أيضا مسائل ، الاولى ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب «رضوان الله عليهم» في جواز ضمان العهدة ، وهو أن يضمن عهدة الثمن للمشتري عن البائع إذا كان قد قبضه البائع في كل موضع يثبت فيه بطلان البيع من أصله ، بأن يكون مستحقا لغير البائع ، ولم يجز المالك البيع على تقدير صحة بيع الفضولي أو أجازه ولم يرض بقبض الثمن ومثله ما لو تبين خلل في البيع اقتضى فساده كتخلف شرط فيه أو اقترانه بشرط فاسد على القول بكون ذلك مبطلا لأصل العقد ، وملخصه اشتغال الذمة بالمضمون على أحد هذه الوجوه وقت الضمان ، فان ضمان الثمن للمشتري يصح في جميع ذلك وكما يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري ، يصح للبائع أيضا عن المشتري ، بأن يخرج الثمن مستحقا لغيره ونحوه ، وأن يكون معيبا يستحق الأرش به وظاهر جملة منهم أن دليل هذا النوع من الضمان انما هو الإجماع أو الضرورة فإنه لو لم يجز مثله للزم تعطيل بعض المعاملات ، فان كثيرا ما يحتاج الإنسان إلى المعاملات مع من لا يوثق به في تلف الثمن ، على تقدير بطلان البيع وعمل المسلمين والى ذلك أشار في التذكرة فقال : وهذا الضمان عندنا صحيح ان كان البائع قد قبض الثمن ، الى أن قال : لإطباق الناس عليه في جميع الأعصار ، ولأن الحاجة تمس إلى معاملة من لا يعرف ولا يوثق بيده وملكه ويخاف عدم الظفر به لو خرج مستحقا للغير.

أقول : وكأنه لذلك : قال به من قال : بعدم جواز ضمان الأعيان ، قال في المسالك : وفي الحقيقة هذا فرد من أفراد الأعيان المضمونة على تقدير كونه موجودا حالة الضمان ، وقد تقدم ما في ضمان الأعيان والمصنف هنا انما رتب الحكم على مذهبه هناك ، أو أن هذا الفرد خارج من البين ، لمكان الضرورة : فإن ظاهرهم


الإطباق على جوازه انتهى.

وأنت خبير بما في تعليلاتهم في هذا المقام من عدم الصلوح لتأسيس الأحكام ، ولو تم الرجوع الى مثل هذه التعليلات العليلة في تأسيس الأحكام الشرعية لا تسع المجال ، وكثر الخبط في شريعة ذي الجلال ، مع استفاضة الاخبار عن الآل بالمنع عن الفتوى الا بما يعلم عنهم (صلوات الله عليهم) والأمر بالرد إليهم فيما لم يرد فيه نص عنهم ، والأمر بالسكوت عما سكت الله عنه ونحو ذلك كما لا يخفى على من تتبع الاخبار ، وجاس خلال تلك الديار.

نعم لا يبعد فيما ذكروه في ضمان الثمن بعد التصرف فيه ورجوعه إلى الذمة ، فإنه يصير حينئذ من قبيل ضمان ما في الذمة لا ضمان الأعيان ، وهو مما لا خلاف فيه ، فإنه متى كان ثابتا في ذمة المضمون عنه وضمنه الضامن والحال هذه فإنه لا إشكال في صحته.

وقال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) ولا استبعاد في ضمان الأعيان بمعنى جواز طلب العين ممن في يده والضامن مخير في وجوب رد العين عليهما ، وعوضها بعد التلف بعد الضمان ، بل لا يبعد كونه ناقلا أيضا بمعنى وجوب الرد ، فيطلب العين عن الضامن فيأخذها من المضمون عنه ويردها إلى أهلها ان ثبت النقل بالدليل مطلقا والا يكون النقل مخصوصا فيما يمكن من الأموال التي في الذمة.

قال في التذكرة ضمان المال عندنا ناقل للمال من ذمة المديون إلى ذمة الضامن على ما يأتي ، وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة اشكال ، أقربه عندي جواز مطالبة كل من الضامن والمضمون عنه ، أما الضامن فللضمان ، وأما المضمون عنه فلوجود العين في يده أو تلفها فيه ، وفي العهدة ان شاء المشترى طالب البائع وان شاء طالب الضامن ، لان القصد هنا بالضمان التوثق لا غير انتهى.

ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام فإنه مجرد دعوى وعارية عن الدليل ، والبحث

في صحة الضمان في هذا المقام وإثباته بالدليل الظاهر ليمكن بناء ما ذكروه من هذه الأحكام عليه ، وان كان بنوع من التجوز في بعض الموارد ، ومتى كان ذلك غير ثابت ولا صحيح.


فجميع هذا الكلام نفخ في غير ضرام ، وتفسير الضمان بمعنى طلب العين ممن في يده كما ذكره في صدر كلامه مجاز بعيد ، لا يصار اليه الا بدليل ، والا فمعنى الضمان شرعا هو انتقال الحق إلى ذمة الضامن ، وتفسير النقل بما ذكره من وجوب الرد أبعد ، وقوله والا يكون النقل مخصوصا بما في الذمة فيه ما تقدمت الإشارة إليه من أنه انما اختص بما في الذمة ، لكونه هو مورد الضمان شرعا.

وأما غيره مما ذكروه في ضمان العين المضمونة والعهدة الراجع إليه أيضا فليس من الضمان في شي‌ء لعدم الدليل عليه ، فلم يترتب عليه الحكم المذكور وتكلف ترتيبه عليه بهذه التجوزات السخيفة فرع ثبوته أولا ، وليس فليس.

وبما ذكرنا يظهر لك ان ضمان العهدة ان تعلق بالعين الموجودة فهو داخل تحت ضمان الأعيان المضمونة وان كان ظاهرهم هنا الاتفاق عليه للضرورة كما ادعوه بخلافه ثمة لما تقدم من الخلاف في تلك المسئلة وان تعلق بالثمن بعد تلفه واستقراره في الذمة فهو داخل في ضمان الديون التي في الذمة ، ولا إشكال في الصحة.

تنبيهات الأول

قال في التذكرة المناط في ضمان العهدة أن يقول الضامن للمشتري : ضمنت لك عهدته أو ثمنه أو دركه أو خلصتك ، والظاهر أن مراده من ذكر هذه الألفاظ مجرد التمثيل ، بمعنى أن كل لفظ يفهم منه ذلك كهذه الألفاظ ونحوها ، فإنه ، يقع به الضمان ، ويصح ذلك للبائع أو المشترى ، ومحل الضمان المذكور كل موضع يظهر فيه بطلان العقد ، كما تقدم.

الثاني ـ قد عرفت مما تقدم أن من شروط صحة ضمان العهدة اشتغال الذمة بالمضمون على أحد الوجوه السابقة ، وحينئذ فالمعتبر في ضمان العهدة وجود الضمان حالته ، فلا عبرة بالتجدد بعد ذلك كالفسخ بالتقابل ، وتلف المبيع قبل القبض ، والفسخ بخيار الحيوان ، وخيار المجلس ونحوها فإنه حالة الضمان ليس بفاسد ، ولم يحصل الاستقرار في الذمة الذي هو شرط في الضمان ، فلم يكن مضمونا فضمانه على هذا التقدير يكون من قبيل ضمان ما لم يجب وحينئذ فلا يدخل هذا في ضمان العهدة ، ومثله أيضا لو فسخ المشترى بعيب سابق فإنه لا يدخل ذلك في ضمان العهدة


فلا يلزم الضامن الثمن على تقدير الفسخ بالعيب بل يرجع به المشترى على البائع ، ويطالبه به ، لان الفسخ بالعيب إنما أبطل العقد من حينه ، لا من أصله كما في ضمان العهدة الذي تقدم تحقيقه فلم يكن حالة الضمان وهو وقت البيع مضمونا.

حتى أنه لو صرح بضمانه في ذلك الوقت فسد (1) لانه ضمان ما لم يجب ، والذمة إنما اشتغلت به بعد الفسخ ، والشرط الذي يبنى عليه الضمان كما تقدم هو ضمانه حال اشتغال الذمة به ، فوقت الضمان الذمة غير مشغولة ، ووقت الاشتغال متأخر لم يقع فيه ضمان ، فلم يصادف الضمان محله ، ولا يؤثر هنا تقدم سبب الفسخ ، وهو العيب الموجود حال البيع ، لأنك قد عرفت أن المدار على اشتغال الذمة وقت الضمان ، وهو غير حاصل ، ومجرد تقدم السبب مع أنه قد يرضى به المشترى ولا يفسخ العقد غير موجب لصحة الضمان لما عرفت.

الثالث ـ قد اشتهر في كلام الفقهاء تسمية هذا الضمان بضمان العهدة ، وضمان الدرك ، وقد صرح العلامة في التحرير وغيره في غيره بأن العهدة ، في الأصل اسم للوثيقة ، أو الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع ، ويذكر فيه مقدار الثمن وأحواله من وصف وحلول وتأجيل ، ثم نقل الى نفس الثمن ، وغلب فيه.

وقال في التذكرة : سمي ضمان العهدة لالتزام الضامن ما في عهدة البائع رده ، لما ذكره في الصحاح ، فقال : يقال في الأمر : عهدة بالضم : أى لم يحكم بعد وفي عقله عهدة أي ضعف ، فكان الضامن ضمن ضعف العقد ، والتزم ما يحتاج اليه فيه من عزم ، أو أن الضامن من التزم رجعة المشترى عليه عند الحاجة. انتهى.

وأما تسمية ضمان الدرك فقال في التذكرة أيضا : وأما الدرك فقال في الصحاح الدرك التبعة ، وقيل : سمى ضمان الدرك لالتزامه الغرامة عند ادراك المستحق عين ماله.

وقال في المسالك : وقيل : يسمى ضمان الدرك لالتزامه الغرامة عند ادراك الشخص عين ماله.

أقول : قال في القاموس الدرك ويسكن : التبعة ، وفي الصحاح ، الدرك :

__________________

(1) فيه إشارة إلى الرد على من قال بدخول هذا الفرد في الإطلاق وصحة ضمانه وأنه من جملة ضمان العهدة لتقدم سبب الفسخ وفيه ما عرفت في الأصل. منه رحمه‌الله.


التبعة ، وقال في كتاب المصباح المنير بعد أن قال : أدركته إذا طلبته فلحقته ، والدرك بفتحتين وسكون الراء لغة من أدركت الشي‌ء ، ومنه ضمان الدرك انتهى.

الرابع ـ قد عرفت أنه لو فسخ المشترى بعيب سابق فإنه لا يدخل ذلك في ضمان العهدة ، ولا يلزم الضامن الثمن لعدم اشتغال ذمة المضمون عنه وقت العقد بالثمن ، وانما حصل ذلك بعد الفسخ.

وانما يبقى الاشكال (1) (فيما لو طالب المشتري بالأرش ، فهل يرجع به على الضامن متى ضمنه لان استحقاقه ثابت وقت العقد ، وهو مناط الفرق بين الثمن والأرش ، فيدخل الأرش في ضمان العهدة ، دون الثمن على تقدير الفسخ بالعيب ، فان الثمن انما يجب بالفسخ اللاحق المتأخر عن الضمان.

وأما الأرش فإنه جزء من الثمن ثابت به وقت الضمان ، فيندرج في ضمان العهدة غاية الأمر انه مجهول القدر ، وقد تقدم صحة ضمان المجهول على التفصيل المتقدم ، والحكم هنا مبنى على ما ثبت هناك ، أم لا يرجع نظرا الى أن الاستحقاق للأرش انما جعل بعد العلم بالعيب ، واختيار أخذ الأرش ، والموجود حالة العقد من العيب ما كان يلزمه بغير الأرش ، بل اللازم التخيير بينه وبين الرد ، فلم يتعين الرد الا بالاختيار.

وملخص الاشكال المذكور يرجع الى أن الأرش هل هو ثابت بالعقد ، وانما يزول بالفسخ ، والرجوع الى الثمن أو أن سببه وان كان حاصلا ، فإنه لا يثبت الا باختياره ، ولعل الأول أقرب ، بناء على هذه التعليلات ، نظرا الى أن الأرش كان واجبا بالأصل ، لأنه عوض جزء فائت من مال المعاوضة ، ويكفي في ثبوته بقاء المشترى على الشراء وانما ينتقل الى الثمن بارتفاق آخر حيث لم يسلم له المبيع تاما ، والله العالم.

المسألة الثانية ـ قالوا : إذا خرج المبيع مستحقا رجع على الضامن ، أما

__________________

(1) وفيه إشارة إلى أنه لو كان الضمان انما هو بعهدة الثمن فإنه لا يشمل الأرش ، الا أن يكون ذلك معلوما ومقصودا منهما ، ويمكن أن يكون هذا وجه الرد والاشكال ، وأما إذا ضمن الأرش وخرج به ، فإنه لا إشكال في صحة الضمان لما ذكرناه في الأصل ، وظاهرهم أن محل الخلاف انما هو إذا ضمن الثمن خاصة ، وكلام الأكثر خال من التخصيص بالثمن. منه رحمه‌الله.


لو خرج بعضه فإنه يرجع على الضامن بما قابل المستحق ، وكان في الباقي بالخيار ، فان فسخ رجع بما قابله على البائع خاصة.

أقول : أما الكلام فيما إذا خرج الجميع مستحقا فظاهر ، وأما فيما لو خرج بعضه مستحقا فإنه يطالب الضامن بحصته من الثمن ، وذلك فان ثمن ذلك البعض حيث أن البائع باعه ، وهو لا يستحقه بقي في ذمة البائع وقت البيع ، فصح ضمانه.

ولو قلنا بصحة بيع الفضولي توقف على اجازة المالك لذلك البعض ، فان أجازه صح ، وان لم يجز فالحكم كما ذكر ، ثم ان المشترى يتخير بين الفسخ لتبعيض الصفقة ، وبين الرضا على الوجه المذكور ، فان فسخ في الباقي رجع بثمنه على البائع خاصة على المشهور ، لعدم تناول الضمان له ، فان ثبوت ثمن هذا الباقي انما حصل بعد الفسخ ، لا حال الضمان ، ومن شرط الضمان كما تقدم اشتغال الذمة بالمضمون حال الضمان.

ونقل عن الشيخ الخلاف هنا ، والقول بجواز الرجوع على الضامن للجميع قال في المختلف : إذا خرج بعض المبيع مستحقا رجع المشترى على الضامن للعهدة بما قابل المستحق من الثمن ، فان فسخ البيع لتبعيض الصفقة ، قال الشيخ : رجع بما قابل الباقي أيضا على الضامن ان شاء ، وليس بجيد ، لنا انه حصل بسبب متأخر وهو الفسخ المتجدد بعد البيع ، فلا يرجع به على الضامن لعدم دخوله في ضمانه ، لانه لم يجب وقت الضمان ، احتج الشيخ : بأن السبب فيه الاستحقاق الذي حصل في بعضه ، والجواب المنع ، بل السبب الفسخ ، انتهى.

أقول : قد تقدم في مسألة الرجوع بالأرش بسبب العيب ان الأشهر الأظهر الرجوع به على الضامن ، لوجود سبب الاستحقاق وقت الضمان ، فإنه ضمنه ، والمبيع معيب يستحق للمشتري فيه الأرش ، لأنه عوض من ذلك الجزء الفائت من المبيع وما نحن فيه كذلك كما ذكره الشيخ ، فان تبعيض الصفقة الذي هو سبب الفسخ الناشئ من استحقاق بعض المبيع كان متحققا وقت المبيع ، والقائل ـ بعدم جواز الضمان هنا ـ عليه بيان الفرق بين الموضعين ، فإنهما من باب واحد لا يعرف بينهما فرق ، وبذلك يظهر أن المسألة لا تخلو من الاشكال ، والله العالم.


المسألة الثالثة ـ قالوا لو ضمن ضامن للمشتري درك ما يحدث من بناء أو غرس لم يصح ، لانه ضمان ما لم يجب ، والمراد أنه حيث كان للمشتري التصرف فيما يشتريه بالبناء والغرس ونحو ذلك ، فلو خاف ظهور كون المبيع مستحقا ويذهب ما يغرسه فيه ويبنيه مجانا فضمن له ضامن أنه ان ظهر كونه مستحقا وقلع المالك الغرس وهدم البناء فهو ضامن لدرك ذلك ، هل يصح هذا الضمان أم لا؟ الوجه أنه لا يصح ، لانه ضمان ما لم يجب ، لانه حين الضمان لم يكن مستحقا للأرش على البائع ، وانما استحقه بعد القلع ، وخراب البناء ، المتأخرين عن وقت الضمان.

والمراد بالدرك الذي ضمنه الضامن هو الأرش الذي يلزم للمشتري في مثل هذه الصورة ، وهو تفاوت ما بين قيمة تلك الأشجار ، والبناء مثبتة ومقلوعة ، ويأتي على ما تقدم من صحة الضمان مع تقدم سبب الاستحقاق صحة الضمان هنا ، لانه وان كان الأرش غير مستحق الا بعد القلع وهو الذي بنى عليه عدم الضمان كما عرفت ، الا أن سببه كان موجودا وقت الضمان ، وهو كون الأرض مستحقة للغير ، فينبغي جريان الاحتمال السابق فيما نحن فيه ، وحيث انه قد تقرر وعلم أنه إذا ظهرت الأرض مستحقة وقد بنى المشتري فيها أو غرس ، فأزال المالك ما أحدثه فإن له الرجوع على البائع بالأرش كما تقدم ، فلو ضمن البائع والحال هذه درك ذلك.

فهل يصح الضمان ، قيل : نعم ، لانه لازم بنفس العقد ، وكأنه أريد انه لازم بالعقد ضمن أم لم يضمن ، فضمانه يصير مؤكدا.

وأورد عليه بأنه لا يلزم من ضمانه لكونه بايعا مسلطا له على الانتفاع مجانا ضمانه ، لعقد الضمان ، مع عدم شرائطه التي من جملتها كونه ثابتا حال الضمان ، فعدم الصحة أولى.

وبذلك يظهر أنه ليس الخلاف في ثبوته على البائع أم لا فإنه ثابت عليه بغير اشكال كما تقدم ، بل الخلاف انما هو في ثبوته بسبب الضمان ـ وان كان ثابتا بدونه ، بمعنى أن كلا منهما سبب على حده ، ويظهر الفائدة فيما لو أسقط المشتري عن البائع حق الرجوع بسبب البيع ، فإنه يبقى له الرجوع بسبب الضمان لو قلنا بصحته كما لو كان له خياران فأسقط أحدهما فإن له الفسخ بالاخر ان شاء ، والله العالم.


المسألة الرابعة ـ إذا اختلف الضامن والمضمون له في قبض مال الضمان وادعى الضامن دفعه مع كون ضمانه باذن المضمون عنه ، وأنكر المضمون له ذلك فان مقتضى القاعدة أن القول قول المضمون له بيمينه ، لانه منكر ، والأصل عدم الدفع فها هنا أحوال :

الأولى ـ هذه الحال ومقتضاها أنه ليس للضامن رجوع على المضمون عنه بشي‌ء لأنه انما يرجع عليه بما غرمه ، وهنا لم يتحقق غرمه ، واستحقاق الرجوع مشروط به وعلى هذا فلا فرق بين أن يكون ضمانه بالاذن وعدمه ، وانما قيدنا بالاذن أولا ليترتب الأحكام الاتية عليه ، إذ لا تهمة مع التبرع ـ ولا رجوع.

الثانية ـ أن يشهد المضمون عنه للضامن بأنه دفعه ، بشرط عدالته وعدم تطرق التهمة إليه ، فإنه تثبت شهادته على القول بدفعه ، والوجه فيه أن شهادته بذلك متضمنة للشهادة على نفسه ، حيث انه لما كان الضمان باذنه موجبا لرجوع الضامن عليه فشهادته بالأداء شهادة على نفسه ، وشهادة لغيره فتسمع ، الا أن يتطرق إليها التهمة.

وقد فرضوا للتهمة صورا ، منها ـ أن يكون الضامن قد صالح على أقل من الحق ، فيكون رجوعه انما هو بذلك الأقل ، فشهادة المضمون عنه له بذلك تجر الى نفسه نفعا ، فان ذلك إذا لم تثبت يبقى مجموع الحق في ذمته للضامن.

ورد ذلك بأنه يكفي في سقوط الزائد عن المضمون عنه اعتراف الضامن بذلك ولا حاجة الى الثبوت بالبينة كما سيأتي ، وعلى هذا تندفع التهمة فتقبل الشهادة.

قالوا : ومنها أيضا أن يكون الضامن معسرا ثم يعلم المضمون له بإعساره ، فإن له الفسخ حيث لا تثبت الأداء ، ويرجع المضمون له على المضمون عنه ، فيدفع بشهادته عود الحق إلى ذمته.

ومنها أن يكون الضامن قد تجدد عليه الحجر بالفلس ، والمضمون عنه عليه دين ، فإنه يوفر بشهادته مال الضمان ، فيزداد ما يضرب به.

الثالثة ـ أن لا يكون شهادة المضمون عنه مقبولة لأحد الوجهين المتقدمين ، فيحلف المضمون له ، فإنه متى حلف كان له مطالبة الضامن ، ويرجع الضامن على المضمون عنه بما ادعى أنه أداه أولا ، لاعترافه بأنه لا يستحق سواه ، وأن ما أخذ


منه بعد اليمين انما هو ظلم وعدوان ، مع موافقة المضمون عنه له على ذلك ، وينبغي أن يعلم أن رجوعه بما دفعه أولا مقيد بأن يكون مساويا للحق أو أقل منه ، وإلا رجع بأقل الأمرين لأنه لا يستحق الرجوع بأزيد من الحق.

الرابعة ـ لو لم يشهد المضمون عنه قالوا : يرجع الضامن بما أداه أخيرا ، لأنه لم يثبت ظاهرا أداء سواه ، هذا إذا لم يزد على ما ادعاه أولا ولا على الحق ، وإلا رجع بالأقل من الثلاثة ، لأن الأقل ان كان هو ما غرمه أولا فلزعمه أنه لا يستحق سواه ، فإن الثاني ظلم ، وان كان الأقل ما غرمه ثانيا ، فلانه لم يثبت ظاهرا سواه ، وان كان الأقل هو الحق ، فلأنه انما يرجع بالأقل من المدفوع والحق ، هذا.

أقول : وعندي في الفرق بين هذه الصورة وسابقتها تأمل. حيث حكم في هذه بالرجوع بما أداه أخيرا لما ذكروا في سابقتها بما أداه أولا لما تقدم ، مع إمكان إجراء كل من العلتين بل في كل من الموضعين.

وبالجملة فالغرض من التطويل بهذه الأحكام مع عدم النصوص فيها من أهل الذكر (عليهم‌السلام) تشحيذ الأذهان والافهام ، والاطلاع على تفريعاتهم في كل مقام ، مع أن جملة منها لا يمكن استنباطه من القواعد الشرعية ، والضوابط المرعية ، والعمل على الاحتياط ، في كل حكم خلا من النصوص. والله العالم.

المسألة الخامسة : إذا كان له على رجلين مال ، فضمن كل منهما صاحبه ، فإنه لا إشكال في صحة هذا الضمان من استكمال شرائطه المتقدمة ، وعلى هذا يتحول ما كان على كل واحد منهما الى صاحبه ، وحينئذ فإن تساوى المالان وكان ضمان كل واحد بسؤال الأخر ولم يتغير وصف الدين بالحلول والتأجيل ، ففائدة هذا الضمان تعاكسهما في الأصالة والفرعية.

ومما يترتب على ذلك ، ما لو أبرء المضمون له أحدهما ، فإنه يبرء الأخر ، وهذا الإبراء انما ينصرف الى ما ضمنه عن صاحبه ، لانه هو الباقي في ذمته للمضمون له ، والا فأصل المال الذي دفعه قد انتقل بالضمان إلى ذمة صاحبه ، فلا معنى للإبراء منه كما تقدم ، وحينئذ فإذا أبرأه من مال الضمان لم يكن له الرجوع على صاحبه ، لانه لا يرجع عليه الا بما اغترمه عنه ، والحال أنه لم يغرم شيئا بسبب الإبراء ، فمن


أجل ذلك برئت ذمة الأخر من ذلك.

وأما ما اشتغلت به ذمة الأخر من مال الضمان الذي ضمنه عن ذلك الذي أبرأه المضمون له ، فهو باق في ذمته فبراءة ذمة الأخر انما هو مما كان عليه لا مما ضمنه ، وانما يتحول ما كان على كل واحد الى صاحبه مع ضمانهما دفعة ، ورضى المضمون له بهما فلو رد أحدهما واجتمع الحقان على الأخر ، وكذا لو ضمنا على التعاقب اجتمعا على الأخير الا أن يحصل التخصيص. (1)

المسألة السادسة ـ إذا رضي المضمون له من الضامن ببعض المال ، أو أبرأه من بعضه لم يرجع على المضمون عنه الا بما اداه ولو أبرأ من بعضه لم يرجع على المضمون عنه الا بما أداه ولو أبرأه منه كملا لم يرجع بشي‌ء ، وكذا لو دفع الضامن عرضا عما في ذمته للمضمون له ، فإنه يرجع على المضمون عنه بأقل الأمرين من قيمته السوقية ومن أصل الدين.

قال في المسالك : ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد رضى المضمون له بالعرض عن دينه بغير عقد ، وبين ان يصالحه الضامن به عن ماله ، فلو كان ثوبا يساوى مأة وصالحه عن الدين وهو مائتان لم يرجع إلا بقيمة الثوب هذا إذا أجرى البيع على العرض بنفس المال المضمون له.

أما لو صالحه عليه في المثال بمأتين مطلقا ثم تقاصا فالمتجه رجوعه بالمأتين لأنها تثبت له في ذمته بغير الاستيفاء ، وانما وقع الأداء بالجميع ، ويحتمل الرجوع بقيمته خاصة ، لأن الضمان وضع للإرفاق ، وتوقف في التذكرة في ذلك. انتهى.

أقول : وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في الموضع الخامس والموضع العاشر من البحث الأول.

المسألة السابعة ـ قد صرح الأصحاب بجواز ترامى الضمان ودوره ، بان يضمن ضامن ثم يضمن عنه آخر وهكذا الى عدة ضمناء ، ولا مانع منه لتحقق شرطه ، وهو ثبوت المال في ذمة المضمون عنه ، وهو هنا كذلك ، وحينئذ فيرجع كل ضامن على من ضمن عنه إذا كان الضمان باذنه بما أداه عنه ، ويصح دوره ، بأن يضمن الأصل ضامنه ، أو ضامن ضامنه وان تعدد ، فيسقط بذلك الضمان ، ويرجع الحق كما كان ، ويترتب عليه أحكامه ، كما لو وجد المضمون له الأصل. الذي صار ضامنا معسرا مثلا.

فان له الفسخ والرجوع الى الضامن السابق ، وقد يختلفان بأن يضمن الحال مؤجلا ، وبالعكس كما تقدم في الموضع السابع من البحث الأول ، وقد تقدم نقل خلاف الشيخ في ذلك. والله العالم.

__________________

(1) ووجهه أنه إذا ضمن زيد ما في ذمة عمرو انتقل ما في ذمة عمرو إلى ذمة زيد مع ما كان في ذمة زيد أولا ، وحينئذ فإذا ضمن عمرو ما في ذمة زيد انتقل جميع ما في ذمة زيد من الدين الذي عليه أولا ومال الضمان الذي ضمنه عن عمرو كله إلى ذمة عمرو ، أما لو خصص الضمان فان قال : ضمنت ما في ذمتك من المال الذي استدنته من فلان اختص الضمان به ، وهذا فائدة القيد الذي رووناه في الأصل منه رحمه‌الله.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *